الجمعة، 17 أغسطس 2018

قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد


الجمعة 17 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٨
)قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد(

كتب أحد الإخوة السعوديين يقول: ركبنا أنا وخالي سيارتنا وأخذنا طريق العودة بعد أن صلينا الجمعة في مكة، وبعد قليلٍ، ظهر لنا مسجدٌ مهجورٌ كنا قد مررنا به سابقاً أثناء قدومنا إلى مكة، وكل من يمر بالخط السريع يستطيع أن يراه. مررت بجانب المسجد وأمعنت النظر فيه، ولفت انتباهي شيءٌ ما؛ سيارةٌ زرقاء اللون تقف بجانبه، مرت ثوانٍ وأنا أفكر ما الذي أوقف هذه السيارة هنا؟ ثم اتخذت قراري سريعاً؛ خففت السرعة ودخلت على الخط الترابي ناحية المسجد وسط ذهول خالي وهو يسألني: ما الأمر؟ ماذا حدث؟. أوقفنا السيارة ودخلنا المسجد، وإذا بصوتٍ عالٍ يرتل القرآن باكياً ويقرأ من سورة الرحمن، فخطر لي أن ننتظر في الخارج وأن نستمع لهذه القراءة، لكن الفضول قد بلغ بي مبلغه لأرى ماذا يحدث داخل هذا المسجد المهدوم ثلثه، والذي حتى الطير لا يمر به. دخلنا المسجد وإذا بشابٍ وضع سجادة صلاةٍ على الأرض وفي يده مصحفٌ صغيرٌ يقرأ فيه، ولم يكن هناك أحدٌ غيره. قلت: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"؛ فنظر إلينا وكأننا أفزعناه، مستغرباً حضورنا، ثم قال: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"، سألته: "هل صليتَ العصر؟"، قال: "لا"، قلت: "لقد دخل وقت صلاة العصر؛ هيا نصلي جماعة". ولما هممت بإقامة الصلاة وجدت الشاب ينظر ناحية القبلة ويبتسم، لمن؟ ولماذا؟ لا أدري، فجأةً سمعت الشاب يقول جملةً أفقدتني صوابي؛ قال: "أبشر، وصلاة جماعة أيضاً". نظر إليّ خالي متعجباً؛ فتجاهلت نظرته ثم أقمت الصلاة وعقلي مشغولٌ بهذه الجملة: "أبشر، وصلاة جماعة أيضاً!". من يكلم هذا الشاب وليس معنا أحد؟ المسجد كان فارغاً مهجوراً، هل هو مجنون؟  بعد أن صلينا أنا وخالي وصلى الشاب معنا أدرت وجهي ونظرت إليه وكان مستغرقاً في التسبيح، ثم سألته: "كيف حالك يا أخي؟"، فقال: "بخيرٍ ولله الحمد"، قلت له: "سامحك الله؛ شغلتني عن الصلاة؟"، سألني: "لماذا؟"، قلت: "وأنا أقيم الصلاة سمعتك تقول أبشر، وصلاة جماعة أيضاً"، ضحك ورد قائلاً: "وماذا في ذلك؟"، قلت: "لا شيء، ولكن مع من كنت تتكلم؟"، ابتسم ثم نظر للأرض وسكت لحظاتٍ وكأنه يفكر هل يخبرني أم لا؟، تابعت قائلاً: "ما أعتقد أنك مجنون؛ شكلك هادئٌ جداً، وصليت معنا ما شاء الله"، نظر إليّ ثم قال: "كنت أكلم المسجد!". نزلت كلماته عليّ كالقنبلة؛ جعلتني أفكر فعلاً؛ هل هذا الشخص مجنون؟  قلت له: "نعم؟ كنتَ تكلم المسجد؟ وهل رد المسجد عليك؟"، تبسم ثم قال: "وهل تتكلم الحجارة؟ هذه مجرد حجارة"، قلت: "كلامك صحيح؛ وطالما أنها لا ترد ولا تتكلم لِمَ تكلمها؟"، نظر إلى الأرض فترةً وكأنه مازال يفكر، ثم قال دون أن يرفع عينيه: "أنا إنسانٌ أحب المساجد؛ كلما عثرت على مسجدٍ قديمٍ أو مهدمٍ أو مهجورٍ أفكر فيه، أفكر عندما كان الناس يُصلون فيه، وأقول لنفسي يا الله كم هذا المسجد مشتاقٌ لأن يصلي فيه أحد؟ كم يحن لذكر الله؟ ..أحس به .. أحس إنه مشتاقٌ للتسبيح والتهليل .. يتمنى أن يسمع آيةً واحدةً تهز جدرانه .. أحس أن المسجد يشعر أنه غريبٌ بين غيره من المساجد .. يتمنى ركعةً .. سجدةً .. يتمنى لو عابر سبيلٍ يقول الله أكبر .. فأقول لنفسي: {واللهِ لأطفئن شوقك .. واللهِ لأعيدن لك بعض أيامك} ..أدخل فيه وأصلي ركعتين لله ثم اقرأ فيه جزءاً كاملاً من القرآن الكريم، لا تقل أن هذا فعلٌ غريبٌ .. لكني والله أحب المساجد". دمعت عيناي .. نظرتُ إلى الأرض مثله لكي لا يلحظ دموعي .. تأثرت بكلامه، بإحساسه، بأسلوبه، وبفعله العجيب .. إنه شابٌ تعلق قلبه بالمساجد.

أحبتي في الله .. إن تعلق القلب بالمساجد يظهر في شدة حب المسلم الجلوس فيها، كلما خرج منها لا يرتاح حتى يعود إليها، يلازم الجماعة فيها، يتردد عليها دائماً؛ فلا يصلي صلاةً إلا في المسجد، ولا يخرج منه إلا وهو ينتظر صلاةً أخرى ليعود فيصليها فيه، قلبه معلقٌ بكل مسجد.
مثل هؤلاء ذكرهم الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ﴾، حقاً إنهم رجالٌ قد تعلقت قلوبهم ببيوت الله.
عن هؤلاء الذين لهم (قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [سَبْعةٌ يُظلُّهم اللَّهُ في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّه، ...] وذكر منهم "رجلٌ قلبُه مُعلّقٌ بالمساجدِ".
يقول العلماء أن هذا الحديث يحدد الأصناف السبعة من الناس الذين يظفرون باستظلالهم بظل الرحمن، تبارك وتعالى، يوم القيامة، حين يكون جميع الخلق أحوج إلى الظل من أي يومٍ آخر؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ، ...]؛ فبينما الناس يتلظون بعرقهم من شدة حرارة اللهيب فوق رؤوسهم في ذلك اليوم العصيب؛ يُنعِم الله برحمته على أولئك الأصناف من الناس بأن يظلهم بظله، ومن هؤلاء: الذين لهم (قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد)، يصفهم أهل العلم بأن لهم مع المسجد علاقةٌ فريدةٌ، لا يتأخرون عن الصلاة؛ بل تراهم أول من يقدم للمساجد، وربما آخر من يخرج منها. تراهم لا يفوّتون التكبيرة الأولى للصلاة، هَمُّ أحدهم أن يدنو من الإمام، وأن يدرك الصف الأول. يأتون للمساجد ولو نأت وبعُدت، ويتحرون أن يأتوا على أقدامهم؛ لأنهم يعلمون أن الله يكتب لمن مشى للمسجد وقد توضأ بكل خطوةٍ حسنةً، ويكفر عنه سيئةً. يؤدون الصلاة في المساجد لا في البيوت، ولا يتخلفون عنها إلا لظرفٍ لا يقدرون معه على الحضور. يخرجون للمساجد ولو في الظُلَم لصلاة الفجر ونُصبَ أيديهم بشرى الحبيب عليه السلام: [بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. لا يضجرون من طول مُكثهم في المسجد، بل ربما سعوْا إلى ذلك، وهم يعلمون أن الملائكة تصلي على المرء ما دام في المسجد، تقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ". هم في ضمان الله حتى يرجعوا، وهم وفد الله أعد لهم نُزلهم حتى يخرجوا، وهم في ذمة الله حتى يمسوا. لهؤلاء مع المسجد علاقة أنسٍ قلبيٍ، وانشراحٍ وسرورٍ يجدونه في بيت الله، ولا يجدون مثيله في غيره من الأماكن، شعورهم وإحساسهم بأنهم وهُم في المسجد إنما هُم في بيت محبوبهم الأعظم تبارك وتعالى، ومن خرج من بيت محبوبه تاق إلى العودة إليه، منذ اللحظة التي يخرج فيها منه، فلا تكاد قلوبهم تهدأ وتطمئن وتسكن حتى يعودون إلى ذلك البيت مرةً أخرى.
ومن الناس من يجد سروره في الأسواق، فقلبه معلقٌ بها حتى يعود إليها، ومن الناس من قلبه معلقٌ بالمسارح أو الملاعب أو دور اللهو؛ فقلوب العباد تتعلق بالأماكن بحسب ما في تلك القلوب من خيرٍ وشرٍ، إيمانٍ وكفرٍ، وقربٍ من الله وبعدٍ عنه. فتعلق القلب بالمسجد يعني تعلق القلب بالله سبحانه وتعالى، وهذا التعلق هو الباقي للعبد دون غيره، فتعلق القلب بالمنكرات وأماكنها، وبالفساد وأهله تعلقٌ مشئومٌ، ما لم يلطف الله بصاحبه، فيعود إلى ربه، وإلا فسوف يصحو من سكرته على الندم والحسرات.
وصاحب القلب المعلق بالمسجد لا يُستلزم منه دوام المُكث فيه؛ ليس ذلك بالضرورة؛ لأن المعلق بالمسجد إنما هو القلب لا الجسد، فهذا العبد كغيره من الناس، يسعى في طلب رزقه، ويشتغل ليسد حاجته، وحاجة عياله، ويغدو ويروح، لكن قلبه دائم الشوق للمسجد، ينتظر الأذان بحرارة المتلهف، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ]، أي أنه إذا صلى مع الجماعة صلاةً جلس في المسجد ينتظر الصلاة التالية، أو يكون في بيته، أو يشتغل بكسبه، وقلبه متعلقٌ بها ينتظر حضورها؛ فقلب من تعلق بالمسجد، يتوق إلى الرجوع إليه، وسبيله في ذلك سبيل نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم عندما كان يقول لبلالٍ رضي الله عنه: [أرحنا بها يا بلال]، لا كسبيل غيره ممن يكون بالمسجد أشبه بالطير الحبيس في القفص، لسان حاله يقول: "أرحنا منها يا إمام!"، يتململ، ويتأفف وينتظر لحظة إقامة الصلاة على أحر من الجمر، فإذا قُضيت الصلاة فر من مكانه بسرعةٍ، وكان أول الناس خروجاً من بيت الله.

أحبتي .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا ، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا]. ويقول العارفون بالله أن تعلق القلب بالمسجد تابعٌ لمحبة العبد لله سبحانه وتعالى، ولو أخلص العبد المحبة لله لتعلق قلبه بالمسجد؛ فما كان هذا التعلُّق أن يأتِيَ من فراغ، ولكنه ثمرة التعلق بالله، محبةً وإنابةً ورغبةً ورهبةً وخوفاً ورجاءً وإخلاصاً وتوكُّلاً وذلاً وتعبُّداً.
كلنا يرجو أن يظله الله تعالى بظله يوم لا ظل إلا ظله، لكن الأماني لا تصنع شيئاً، ولن يرتقي القلب إلى تلك العلاقة الحميمة بينه وبين المسجد، حتى يحرص صاحبه على تزكيته وتطهيره من أدران الذنوب، وحينها سيكون قلبه دائم الشوق لبيوت الله، ولا يحصل هذا إلا لمن ملكوا أنفسهم، وقادوها إلى طاعة الله، وصبروا عليها فانقادت لهم: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.

علينا أحبتي، حتى نحظى بهذا الشرف العظيم، ألا وهو أن يظلنا الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، أن تكون لنا (قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد) بالحرص على: صلاة الجماعة على وقتها في المسجد، كثرة الخطى للمساجد، التبكير للذهاب إلى المسجد، اللحاق بالصف الأول وتكبيرة الإحرام، انتظار الصلاة بعد الصلاة، وعمارة المساجد وصيانتها والإنفاق عليها.

اللهم اجعل قلوبنا معلقةً بالمساجد التي هي أطهر الأماكن في الأرض، وخَلِّص أعمالنا من الرياء والنفاق والعجب والكبر والخيلاء، وتقبل اللهم صلاتنا وسائر أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/brQHcD

الجمعة، 10 أغسطس 2018

إلى الله أقرب


الجمعة 10 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٧
(إلى الله أقرب)

كتب لي يعاتبني لأنني لم أهنئه بعيد ميلاده، قال متألماً أنه لم يتوقع ذلك من أعز أصدقائه وأقربهم إلى قلبه. سألته: "ماذا يعني لك الاحتفال بعيد ميلادك؟"، قال مندهشاً: "هو مناسبةٌ سعيدةٌ أحتفل فيها كل سنةٍ مع أهلي وأصدقائي بأنني كبرت سنة"، قلت له: "هل فكرت في الأمر بطريقةٍ مختلفةٍ؟"، سألني: "ماذا تقصد؟"، قلت: "الاحتفال بعيد الميلاد يعني الاحتفال بأن عمر الإنسان قد نقص سنة، أليس كذلك؟"، لم أنتظر إجابته وسألته سؤالاً آخر: "هل يحتفل عاقلٌ بقرب انتهاء أجله واقترابه من نهاية عمره؟"، رد باقتضاب: "لا بالتأكيد"، قلت له: " إنها مناسبةٌ للتأمل والتدبر ومحاسبة النفس، مناسبةٌ لأن يقول الإنسان في الدنيا قبل الآخرة: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ﴾، ويجدد العهد على أن يستثمر كل لحظةٍ في حياته في عملٍ يجعله (إلى الله أقرب)؛ عملٍ ينفع به نفسه وينتفع به غيره".

أحبتي في الله .. عيد الميلاد فرصةٌ للانفراد بالنفس ومحاسبتها ومراجعتها، ووقفةٌ لإجراء حسابٍ ختاميٍ يبين ما حققناه من أرباح، ويحصر خسائرنا، أو الأرباح التي لم نحققها، خلال عامٍ مضى، حين يسأل كلٌ منا نفسه: هل، مع انقضاء سنةٍ من عمري، واقترابي بمقدار عامٍ كاملٍ من انتهاء أجلي المسمى وعمري المقدر، قد اقتربتُ من الله أكثر؟
عيد الميلاد فرصةٌ لا بد من اقتناصها لحساب النفس؛ فإن ترك المسلم محاسبة النفس، كما يقول العلماء، يُمَكِّن الشيطان من أن يدعوه إلى المعصية ويحذّره من الطاعة، ويزين له الباطل ويثبطّه عن العَملِ الصالح. ترك محاسبة النفس يجعل الناس في غفلةٍ؛ فتصبحَ ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وكيف نترك محاسبة النفس والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون﴾. وعن محاسبة النفس يقول جَلّ وعَلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، يقولُ المفسرون في معنى الآية: "حاسبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِكم على ربِكم، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم، ﴿لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾".
كل يومٍ يمر من عمر الإنسان يجعلنا (إلى الله أقرب) حقيقةً لا مجازاً؛ فما تبقى لنا من عمرٍ يصبح أقل وأقصر، فنحن نقترب بالفعل من لقاء الله عز وجل كلما مر الوقت، سواءً حسبناه بالسَنة أو بالثانية؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، فنحن والموت كلانا يمشى في اتجاه الآخر، نسير نحن جبراً وليس اختياراً نحو أجلنا المسمى المقدر لنا من قبل الله سبحانه وتعالى، وكل وقتٍ ينقضي من عمرنا يكون الموت قد اقترب منا بمقدار ذات الوقت الذي مضى وانقضى؛ فالعمر إذن يتناقص حتى إذا وصل إلى نقطة الصفر كانت النهاية، نهاية وجودنا في الدنيا، أما حياتنا فما تزال مستمرةً بشكلٍ آخر في البرزخ ثم تكون حياتنا الخالدة التي لا موت فيها في الدار الآخرة: إما نعيمٌ دائمٌ في جنة الخلد، اللهم اجعلنا من أصحابها، أو جحيمٌ مقيمٌ في نار جهنم، نستعيذ بك اللهم منها.

ومِنَ الناس مَنْ لا يعلمون أننا جميعاً نكون في حالة وفاةٍ كل ليلةٍ عند نومنا؛ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، يقول المفسرون: التوفِّي: الإماتة، وسميت توفّياً لأن الله إذا أَمات أحداً فقد توفّاه أجلَه؛ فالله المتوفِّي، ومَلك الموت متوفًّ أيضاً لأنه مباشر التوفّي، والميت: متوفَىٰ بصيغة المفعول؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ﴾، وقال سبحانه: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾. والمعنى: يتوفّى الناس الذين يموتون، ويتوفى أنفساً لم تمت؛ يَتوفاها في منامها كل يومٍ، فإن حالة النوم حالة انقطاع أَهم فوائد الحياة عن الجسد وهي الإِدراك، سوى أن أعضاءه الرئيسيّة لم تفقد صلاحيتها للعودة إلى أعمالها حينَ تستيقظ من النوم كل يومٍ، ولذلك قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى﴾.
فبدلاً من الاحتفال بعيد الميلاد مرةً واحدةً في العام، يكون من الأولى احتفال الإنسان بعودته إلى الحياة كل يومٍ؛ فيحمد الله فور استيقاظه من النوم ويقول، كما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم: [الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي في جَسَدِي، وَرَدَّ عَليَّ رُوحِي، وَأَذِنَ لِي بذِكْرِهِ]، ويقول: [الحَمْدُ لله الذِي أحْيَانا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وإلَيْهِ النَشُور]، ثم يبادر للاستفادة من هذا اليوم الجديد بأن يزيد فيه من حسناته بالعبادات والنوافل وأعمال الخير، ويقلل من سيئاته بالتوبة النصوح والاستغفار. هذا هو الاحتفال اليومي بالميلاد الجديد، احتفالٌ بمنحة الحياة المتجددة، وبفرصة استمرار العمر وامتداد الأجل؛ كل يومٍ وليس كل سنةٍ، نكون في كل وقتٍ (إلى الله أقرب) فنحن لا ندري متى يحين الأجل؛ يقول الإمام الشافعي:
تزولُ عن الدنيا فإنّكَ لا تدري
إذا جُنَ عليك الليلُ هل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من صحيحٍ ماتَ من غيرِ علّةٍ
وكم من سقيمٍ عاشَ حيناً من الدهرِ
وكم من فتىً أمسى وأصبحَ ضاحكاً
وأكفانُهُ في الغيبِ تُنسجُ وهو لا يدري

ومن الأقوال الحكيمة ما يُنسب للحسن البصري إذ يقول: "ليس من يومٍ يأتي على ابن آدم إلا يُنادىَ فيه: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد، وأنا فيما تعمل عليك غداً شهيد، فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً؛ فإني لو قد مضيتُ لم ترني أبداً"، ما يدل على أن اليوم الحالي ينبغي التزود منه وأن نكون فيه (إلى الله أقرب) فإنه إنْ ذهب لن يعود. أما آن لنا إذن أن نُحَوِّل احتفالنا بعيد الميلاد من مرةٍ واحدةٍ في السنة إلى مرةٍ كل يوم فتتضاعف سعادتنا حين نكسب، بأعمالنا الصالحة، كل يومٍ شاهداً جديداً يشهد لنا يوم أن نقف للحساب بين يدي رب العالمين؟ وأيهما أحسن وأفضل: فرحةٌ واحدةٌ في العام أم فرحةٌ متكررةٌ يوماً بعد يوم؟
يقول الشاعر:
إنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعُها
وكلّ يومٍ يُدني من الأجلِ
فاعمل لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهداً
فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ

أحبتي .. إذا سألتَ نفسك: هل ردَّ الله عليّ اليوم روحي؟ هل أمدَّ لي في عمرك؟ فلن تستطيع الإجابة إلا بنعم! فإذا كان الأمر كذلك، فقد تفضل الله عليك ومنحك نعمةً غاليةً لا تُقدر بثمنٍ هي نعمة استمرار الحياة، فماذا أنت فاعلٌ بهذه النعمة؟ أَتُضَيِّعُها حتى إذا انتهت هذه المنحة تصل إلى يومٍ كلنا واصلٌ إليه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا﴾، تقول يومئذٍ: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾، أو تقول: ﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾؟ أم تكون من الأذكياء الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بأولي النهى ووصفهم بأولي الألباب، فلا يضيعون هذه المنحة بنومٍ طويلٍ أو كسلٍ أو تهاونٍ أو تأجيلٍ أو تسويفٍ أو فيما لا فائدة ولا خير يُرجى منه؟ المؤمن الحق من علم أن حياته مزرعةٌ للآخرة فاجتهد ما وسعه الاجتهاد في الزرع ليحصد في الآخرة ما كان قد قدم من عمل. والمؤمن الحق من يحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب. المؤمن الحق يحتفل كل يومٍ وليس كل سنةٍ بكونه (إلى الله أقرب). المؤمن الحق يقول لنفسه كما قال الشاعر:
أنا العبد الذي كسب الذنوبا
وصدته المنايا أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزيناً
على زلاته قلقا كئيبا
أنا المضطر أرجو منك عفواً
ومن يرجو رضاك لن يخيبا
فيا من مد في كسب الخطايا
خطاه أما آن الأوان أن تتوبا؟

فلنشمر عن سواعد الجد ولا نتقاعس ولا نُضَيِّع ثانيةً واحدةً من أعمارنا، التي لا ندري متى تنتهي، إلا وأضفنا إلى رصيدنا في الآخرة ما ينفعنا ويوجب لنا، الأجر الذي وعدنا الله سبحانه به؛ حين نقول بإذنه تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.

اللهم اهدنا، واهدِ بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، وتقبل الله منا صالح أعمالنا وتجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا، ويَسِّر لنا أن نكون في كل وقتٍ إليك سبحانك أقرب.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/EJBJTb


الجمعة، 3 أغسطس 2018

ليس كل ما يلمع ذهباً


الجمعة 3 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٦
(ليس كل ما يلمع ذهباً)

بعد الانتهاء من دفن جارنا، رحمه الله، وقفت مع ابنه الشاب نقرأ الفاتحة قبل مغادرتنا المقبرة .. وكانت المفاجأة ...
إذ سمعنا صوت أذانٍ يأتينا من جوف القبر!
نظرت إلى ابن جارنا متعجباً، ونظر إليّ وحاجباه مرفوعان من شدة دهشته ..
لم يصدق كلانا ما يسمع ..
وضعت أذني على الأرض لأتأكد من مصدر الصوت ..
تأكدت بالفعل أنه أذانٌ صادرٌ من داخل القبر .. شيءٌ أغرب من الخيال!
نادينا الناس القريبين منا ..
استمعوا معنا إلى صوت الأذان؛ وتعالت صيحاتهم بالشهادة: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" ..
زاد عدد الناس وامتلأت المقبرة بأصوات التكبير: "الله أكبر" .. "الله أكبر" ..
لا بد أن للمرحوم جارنا مكانةً عاليةً في السماء؛ حتى تستقبله الملائكة بالأذان .. ولولا أن كان معنا أكثر من عشرين شخصاً لاعتبرت نفسي أتخيل ما حدث، أو أنه قد أصابني مسٌ من جنونٍ ..
بكى بعض الناس خشوعاً وانكساراً أمام معجزةٍ كانوا عليها شاهدين.. وآخرون بكوا ندماً لأنهم لم يكونوا يعرفون منزلة هذا الرجل ومكانته بين أهل السماء وهو حيٌ ..
رحمك الله يا جارنا .. يبدو أنك كنت ولياً من أولياء الله الصالحين .. حرمتنا من بركاتك يا شيخنا ..
ونحن في هذه اللحظات التي لا تكاد تُصدق، وصل حفار المقبرة راكضاً لاهثاً بعد أن سمع بالخبر ..
لم ينطق الحفار ببنت شفةٍ .. بدأ على الفور يحفر لفتح القبر من جديد ..
تجمع كل الموجودين حول القبر مرةً أخرى؛ ربما يرون النور الذي سيخرج منه! .. أو يشاهدون بأم أعينهم معجزة خروج جارنا حياً من قبره!
ها هو الحفار قد نزل سريعاً إلى القبر ..
أنظارنا متعلقةٌ به لنرى ماذا سيحدث .. وقفنا جميعاً .. أنفاسنا تكاد تتوقف .. ساد صمتٌ مطبقٌ لا نكاد نسمع سوى صوت ضربات قلوبنا تخفق بشدة .. وقفنا كأن على رؤوسنا الطير ..
ماذا سنرى يا تُرى؟ ..
ها نحن جميعاً ننتظر خروج الحفار بفارغ الصبر .. في انتظار معجزةٍ جديدةٍ من المرحوم جارنا الذي استقبلته الملائكة بالأذان!
أما أنا فقد تملكتني فكرةٌ واحدةٌ، استحوذت على تفكيري؛ أخذتني بعيداً بعيداً عن المكان، وغادرت بي حدود الزمان؛ فوجدتني أتصور المرحوم جارنا وقد صار ولياً من أولياء الله الصالحين، له ضريحٌ مدفونٌ فيه، وله احتفالٌ سنويٌ بمولده يواظب الناس على حضوره كل عامٍ، ويحرص التجار على تحويله من احتفالٍ بشخصيةٍ دينيةٍ وقورةٍ إلى فرصةٍ متجددةٍ للبيع والشراء، وكأن الوليّ الذي يحتفلون بمولده شريكٌ لهم في الأرباح والمغانم!
وسيكون منزلنا في قلب الحدث مرةً كل عام .. زحامٌ وضجيجٌ وهرجٌ ومرجٌ وسهرٌ حتى الفجر ومشاحناتٌ ومشاجراتٌ وأطفالٌ يتوهون ونصابون يبيعون الوهم للسذج وبيعٌ وشراءٌ و .. و.. و .. إنه المولد إذن بكل تفاصيله، وعلينا أن نتحمل؛ فهذه ضريبة كوننا جيران الولي صاحب الكرامات!
لم يعيدني من شطط أفكاري إلى عالم الواقع، حيث يتزاحم الناس ويتزايد عددهم، واقفين في انتظار معجزةٍ يخرج بها الحفار، سوى خروجه من القبر .. اشرأبت له الأعناق، وتعلقت به الأبصار، وساد الصمت في انتظار ما يخبرنا به .. لو رميتَ وقتها إبرةً على الأرض لسمعت صوتها يرن في الأذان ..
خرج الحفار، وكانت المفاجأة التي ألجمت الجميع، وجعلتهم يضربون كفاً بكفٍ، ويقولون: "سبحان الله"!
خرج الحفار من القبر، وقف وهو مندهشٌ من كثرة الناس الذين تجمعوا، وإذا به ممسكٌ بيده هاتفه المتنقل الذي كان قد سقط منه داخل القبر أثناء الدفن!
واتضح للجميع أن الأذان الذي سمعناه لم يكن من الملائكة كما ظننا، وإنما كان من برنامج أذانٍ مثبتٍ على هاتف الحفار!!! ....

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ من نسج الخيال استوحيتها من موقفٍ حقيقيٍ حدث بالفعل، قرأته منشوراً على مواقع الإنترنت ..
انتهت القصة لكن تداعيات الموقف لم تتوقف في ذهني؛ تساءلت بيني وبين نفسي: ماذا لو لم يرجع الحفار ويستخرج هاتفه المفقود؟ أيبقى الناس على ظنهم بأن الملائكة هي التي كانت تؤذن لجارنا؟! أيتحول إلى واقعٍ ما كنت أفكر فيه بأن المرحوم جارنا هو وليٌ من أولياء الله الصالحين يُقام له ضريحٌ ويصير له احتفالٌ سنويٌ بمولده؟
وإذا حدث هذا بالفعل، ألا يكون ذلك دليلاً عملياً على أن (ليس كل ما يلمع ذهباً)؟ وكم من شيئٍ كان للمعانه بريقٌ ظنه الناس ذهباً وهو من أرخص المواد؟ وكم من الناس يظهر بوجه ملاكٍ وهو في حقيقته شيطانٌ مريد؟!

(ليس كل ما يلمع ذهباً) هذا مثلٌ إنجليزيٌ يرجع أصله إلى الكاتب الشهير ويليام شكسبير، فهو أول من استخدم هذه العبارة في مسرحيته ”تاجر البندقية” التي نشرها عام 1605م، كانت الجملة الأصلية التي ذكرها شكسبير في مسرحيته تقول: ”كل هذه المعادن ليست ذهباً”، ثم تم تغيير كلمة المعادن واُستخدمت بدلاً منها كلمة لمعان لتصبح المقولة: ‏"All that glitters is not gold"


في حياتنا اليومية، كم نرى من أشخاصٍ يلبسون أحسن الثياب، ويتحدثون بكلمات منمقة، ويقسمون بالله لنصدقهم، يظهرون لنا في صورة أشجع الناس وأقوى الناس وأحن الناس ليكسبوا ثقتنا .. وهم في حقيقة الأمر كذابون جبناء ضعفاء النفوس وأكثر الناس وحشيةً وغدراً، كما أنهم خونةٌ يحنثون بالقسم لا أمان لهم .. هم فقط يجيدون التمثيل .. يلعبون على مشاعر الناس؛ فيُظهرون لهم ما يلمع كالذهب فيصدقهم البسطاء والسذج والغافلون والمغيبون والمغرر بهم .. أما ما تخفيه صدورهم من كبرٍ وحقدٍ وعداوةٍ وبغضٍ لو خالطت قطرةٌ منه ماء البحر لأفسدته.

يقول علماء الشريعة أنه من الخطأ أن ننجرف وراء المظاهر التي غالباً ما تكون خادعةً ومزيفةً، ونكتفي بها عند الحكم على الأشخاص وتقييمهم. ننبهر أحياناً بأناسٍ غير أهلٍ للانبهار أو الإعجاب أو مجرد النظر إليهم أصلاً، حيث يبهرنا بريق حديثهم، وزيف حضورهم، وجمال مظهرهم، ونتصور خطأً أنهم يعانقون الكمال والمثالية، ولا عيوب ولا أخطاء لهم، وكأنهم ملائكةٌ أطهارٌ أخيارٌ، وليسوا بشراً يصيبون ويخطئون، ولهم مثالب ومساوئ، وغير مُنَزهين أو معصومين .. وما إن نقترب من أحدهم نُفاجأ بأن جمال مظهره خلفه قبح جوهرٍ، وأن حلاوة كلماته يكمن بين حروفها سم ثعبانٍ .. وأنه ممن يقولون ما لا يفعلون، وممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم! وأنهم ممن يقابلون الإحسان بالإساءة .. والحب والإخلاص بالغدر والخيانة .. والطيبة والخير بالخبث والشر!
قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَ‌أَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْ‌هُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّـهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾، وقال أيضاً: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْ‌ضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْ‌ثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾.
من الخطأ إذن أن ننجرف وراء المظاهر .. فكم من وجوهٍ بيضاء ناصعةٍ تعلو قلوباً أشد سواداً وظُلمةً من الليل! وكم من ألسُنٍ تجيد هندسة الكلام وحياكة العبارات الساحرة الرائعة التي تسترقّ الآذان وتطرب لها الأسماع، تكمن وراءها نوايا خبيثةٌ وأخلاقٌ فاسدةٌ وضمائر وقلوبٌ وذممٌ خَرِبةٌ إن لم تكن ميتة! ولأننا لا نمتلك نظاراتٍ سحريةً يمكن بها معرفة بواطن البشر ومكنوناتهم الداخلية، علينا أن نحتاط ونتوخى الحذر عند اختيارنا الأصدقاء، وأن نحكم عقولنا قبل مشاعرنا، ونهتم بجوهر ومخبر الإنسان لا مظهره.

يقول أحدهم، وهو محقٌ، أنه أصبح الآن من الصعب التمييز بين الجيد والسيئ؛ وذلك يرجع لانتشار المظاهر الكاذبة، خاصةً في مواقع التواصل الاجتماعي، وخروج الكثيرين بمظهرٍ مصطنعٍ وحضورٍ مزيفٍ ليعطوا انطباعاً للمُتلقي أنهم ملائكةٌ وليسوا بشراً.

أحبتي .. صحيحٌ أن ما حدث يوم دفن جارنا حدث بغير تخطيطٍ أو قصدٍ، لكن علينا الانتباه إلى أن من بيننا، للأسف، من يخطط عن عمدٍ لأن يُظهر للناس ما قد يظنونه ذهباً يخطف لمعانه أبصارهم، فيما هو سادرٌ في غيه سريع الخطى نحو مقصده ليحقق أهدافاً خبيثةً يخفيها؛ لا يدرك ذلك إلا من أنار الله بصيرته. انتبهوا أحبتي إلى أن (ليس كل ما يلمع ذهباً) وليس كل ما يشع بريقه ماساً ننبهر به ويسحرنا بريقه الساطع. علينا أن ندرك جيداً أن حلو الكلام قد يحتوي على الكثير من السُمِ بالعسل، وعلينا أن نؤمن بأن الأفعال أهم بكثيرٍ من الأقوال، كما علينا أن نحذر مَنْ يدَّعون المثالية وهُم من داخلهم يمتلئون بالكذب والخداع والتلون والخيانة والخُبث والشر.

اللهم لا تجعلنا ممن تخدعهم المظاهر؛ مثل من قالوا حينما رأوا قارون وهو خارج على قومه في زينته: ﴿يا لَيتَ لَنا مِثلَ ما أوتِيَ قارونُ إِنَّهُ لَذو حَظٍّ عَظيمٍ﴾، واجعلنا مثل من قالوا لهم: ﴿وَيلَكُم ثَوابُ اللَّهِ خَيرٌ لِمَن آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا وَلا يُلَقّاها إِلَّا الصّابِرونَ﴾.
اللهم نقِ قلوبنا وأنر بصائرنا واجعلنا ممن أوتوا العلم .. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/CRF2jC

الجمعة، 27 يوليو 2018

النفس المطمئنة


الجمعة 27 يوليو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٥
(‏النفس المطمئنة)

كنت أقرأ في كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي، عن الأحاديث الواردة في فضل الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فاستوقفني الحديث التالي:
عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: قرأت عند النبي صلى الله عليه وسلم ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إن هذا لحسنٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ عِنْدَ الْمَوْتِ].
قلت في نفسي: يا لها من بشرى من النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه، الخليفة الأول للمسلمين، وياله من تكريمٍ من المولى عزَّ وجلَّ.
وتساءلت: هل يمكن لأيٍ منا أن يصل بنفسه إلى مرتبة (النفس المطمئنة) وينال مثل هذا التكريم؟

أحبتي في الله .. خلق الله الإنسان وسوى له نفسه ثم ألهمها إما الفجور أو التقوى؛ يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، وبَيَّن لنا أن الفلاح بتزكية النفس، وأن الخيبة والخسران بغير ذلك؛ يقول سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾. إذا علمنا ذلك يكون من الفطنة والحكمة وحُسن التدبير، أن يسعى الإنسان دائماً لتزكية نفسه؛ فشأن تزكية النفس عظيمٌ، فبها تكون النجاة ويتحقق الفلاح، وبضدها يكون الخسران المبين.

فما هي النفس يا تُرى؟ يقول علماء النفس أن النّفس البشريّة هي الجُزء المقابل للجسم، وهي جزءٌ مُحركٌ لنشاطاته بأنواعها، سواءً كانت إدراكيّةً، أو حركيّةً، أو انفعاليّةً، أو أخلاقيّةً.
ويقول علماء الشريعة أن القرآن الكريم قد ذكر مسمّياتٍ عدّةٍ للنفس البشريّة، هي:
النفس الأمارة بالسوء؛ كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾. وهي نفسٌ كثيرة الذنوب، آثمةٌ، ظالمةٌ لصاحبها؛ تجرّه إلى غضب الله عزَّ وجل وعصيانه، لم تخرج من فلك الشهوات والملذات حتى أنها أصبحت أسيرة تلك الشهوات تأمر الإنسان بعمل ما يوافق شهواته، وهي نفسٌ فاسقةٌ شرّيرةٌ، تدعو صاحبها لفعل السوء، وتنتهي به في نار جهنّم.
والنّفس اللوّامة؛ قال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، وهي النفس كثيرة اللوم، تخافُ الله وتخشى عقابه، أثنى الله عليها، وأقسم بها في كتابه الكريم، وهي نفسٌ تحاسب صاحبها وتوبّخه على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، وهذه النّفس متقلّبةٌ، متردّدةٌ، تأتي الذّنب، وتلوم صاحبها عليه، وتردّه إلى الصّواب، تغفل عن الذّكر والطاعة ثمّ تعود. وهي في حالة تجاذبٍ بين الهدى الهوى، تعيش حالةً وسطيةً بين النفس الأمارة بالسوء، والنفس المطمئنة؛ فتارةً تخرج من جاذبية الشهوة والهوى وتنطلق إلى الهدى والفلاح، وتارةً أخرى تضعف مقاومتها فترجع إلى دائرة الشهوات، فتراها ترجع إلى الله عزَّ وجل، وتتذكر وقوعها في أجواء الرذيلة، فتتوب إلى الله، وتندم، وتلوم صاحبها.
و(النّفس المطمئنّة)؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾، وهي نفسٌ خيّرةٌ تأمر بالخير، وهي النّفس التي سَكنت إلى ربّها. والطمأنينة تعني أنّ الله عز وجل يُنزل الاطمئنان والسّكينة على صاحب هذه النفس، فيَغدو قلبه وسمعه وبصره كله بين يديّ الله. وهي آخر مراتب الكمال البشري التي يصل إليها الإنسان من خلال تهذيب الروح، لإخراجها من عالم النفس الأمارة بالسوء. إنها نفسٌ قد لجأت إلى الله تعالى واطمأنت إليه ورضيت عنه، فأثابها الكريم سبحانه أبلغ ثوابٍ وأجزل عطاءٍ بما تُغْبَط عليه في الدنيا والآخرة.

وعن الآية الكريمة: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ يقول المفسرون: إن "النفس" تُطلق على الذات كلها؛ كما في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، وتُطلق على الروح التي بها حياة الجسد كما في قوله: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾. و"المطمئنة" اسم فاعل من اطمأن، وقد فُسر الاطمئنان باليقين بوجود الله ووحدانيته، واليقين بوعد الله، وبالتبشير بدخول الجنة. والرجوع في "ارجعي" يحتمل الحقيقة والمجاز. و"راضية" هي النفس التي رضيت بما أُعطيت من كرامةٍ. و"مرضية" اسم مفعولٍ، أصله: مرضياً عنها، والمقصود من هذا الوصف زيادة الثناء مع الكناية عن الزيادة في إفاضة الإنعام؛ لأن المرضيّ عنه يزيده الراضي عنه من الهبات والعطايا فوق ما رضي به هو. و"ادخلي" بمعنى ادخلي في زمرة عبادي الصالحين. و"جنتي" فيها إضافة جنة إلى ضمير الجلالة إضافة تشريفٍ كقوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾. وتكرار فعل "وادخلي" لبيان الاهتمام بدخولهم ضمن العباد الصالحين ودخولهم الجنة تحقيقاً للمسرة لهم.

أما صفاتك عندما تكون من أصحاب النفوس المطمئنة فقد لخصها أهل العلم في:
الإخلاص؛ بأن تستحضر دائماً معية الله، وأن تبذل كل ما في وسعك في طاعته سبحانه وتعالى، وتعمل على اتقان العمل وإحسانه، وأن تكون حريصاً على إِسرار الأعمال، إلا على ما ينبغي إظهاره، مثل: الصلاة والدعوة والجهاد.
والمتابعة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام؛ فتتبع النبي، حتى تطغى محبته على حبك للمال والولد والنفس؛ ويكون ذلك بشدة حرصك على معرفة سُنَّة النبي وأحواله وسيـرته، والاقتداء به.
والرضا عن الله تعالى؛ فعندما تذوق طعم الإيمان يمر عليك البلاء وأنت صابرٌ مطمئنٌ ساكنٌ هادئ.
وشدة محبة الله تعالى وتعظيمه؛ فقد صُبِغَت حياتك بصبغةٍ جميلةٍ من حسن الظن بالله تعالى، إذا ابتلاك صبرت ورضيت، وإذا أنعَمَ عليك شكرت وحمدت، تأنس بالله تعالى في الخلوة، وتتلذذ بتلاوة كلامه، وتكثر من ذِكره، وتوافقه فيما تُحب وتكره.
والصدق؛ فلن ينفعك في التعامل مع الله سوى الصدق، والصدق هو ما يجعلك تعيش مطمئناً: صدقٌ في الأقوال؛ فلا ينطق لسانك إلا صدقاً. وصدقٌ في الأحوال؛ فلا تراوغ ولا تتلوَّن. وصدقٌ في الأعمال؛ بأن تكون مُخلصاً لله تعالى مُتبعاً لهدي النبي في أعمالك. وصدقٌ مع النفس؛ فتكون بينك وبين نفسك مصالحةٌ بين ما تعتقد وما تفعل فلا تتناقض أفعالك مع معتقداتك، وأن تُحاسب نفسك حتى لا تميل مع الشهوات وتركن إليها. وصدقٌ مع الناس؛ فلا تظهر أمام الناس بوجهٍ مُختلفٍ عن الوجه الذي بينك وبين الله تعالى.
ومن صفاتك كذلك عندما تكون من أصحاب النفوس المطمئنة: التقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإحسان إلى عباد الله، الولاء والبراء، وحُسن الخُلُق.

أما الطريق إلى (‏النفس المطمئنة) فيوضحه أحد الدعاة؛ يقول: اجلس مع نفسك جلسةً هادئةً، تأمّل وفكِّر، اعطِها الوقت الكافي، لا تقل لا وقت لديَّ، راجع شريط ما مضى من حياتك، لتعرف أي نفسٍ هي نفسك، وليكن هدفك هو أن تَرتَقي بها حتى تصبح نفساً مطمئنةً، وأن تَثبت على ذلك باتباع الطرق التالية:
أن تُكثر من ذكر الله؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
أن تُجاهد نفسك؛ في أشياء صعبةٍ عليك: صلِ الفجر مع جماعة المسلمين بالمسجد، توقّف عن التدخين، لا تقرب المال الحرام،... إلخ. ثمّ تذوق بحقٍ حلاوة انتصارك على نفسك وطموح انتقالك إلى (النفس المطمئنة).
أن تُسارع إلى التوبة وعمل الحسنات؛ قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾.
أن تُكثر من السجود؛ فحين طلب رَبِيعَة بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ مرافقة النبي في الجنة قال له عليه الصلاة والسلام: [فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ]. سجودٌ طويلٌ، في الصلاة المكتوبة وفي النوافل وفي قيام الليل، سجود شكرٍ وخشوعٍ ورجاء.
لو عرفت نفسك ونجحت في جعلها نفساً مطمئنةً؛ ستتذوّق سعادةً لم تعرفها من قبل. هيَّا قُم بقوّةٍ وهِمةٍ، وستنجح في حياتك، وستعيش سعيداً؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾، ويقول عزَّ وجل: ﴿إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾، وهو ليس نعيم وجحيم الآخرة فحسب، بل ونعيم وجحيم الدنيا أيضاً.

أحبتي .. إن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة (النفس المطمئنة) لن يكون بمعزلٍ عن الخطايا؛ لأن كل ابن آدم يعتريه النقص والخطأ. فليس معنى أنَّ النفس صارت مطمئنةً أنها لا تخطئ، هي تخطئ، لكنها سرعان ما تعود إلى رشدها؛ فالخطأ واردٌ، لكنه عارضٌ، فقد رسمت خط حياتها إلى الله وإلى الجنة. فليكن سعينا دائماً للتحلي بصفات أصحاب (النفس المطمئنة)، فننال الاطمئنان النفسي في الدنيا، والراحة الأبدية في الآخرة.
نسأل الله تعالى أن يمُنَّ علينا بهذه الصفات وأن يجعلنا من أصحاب النفوس المطمئنة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/ienejP

الجمعة، 20 يوليو 2018

‏مُت فارغاً!


الجمعة 20 يوليو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٤
(‏مُت فارغاً!)

‏اطلعت على عرضٍ مختصرٍ لكتابٍ شدني إليه غرابة عنوانه؛ فعنوان الكتاب (مُت فارغاً!) Die Empty، وهو كتابٌ صدرت طبعته الأولى عام 2013م، للمؤلف الأميركي تود هنري، الذي استلهم فكرة كتابه أثناء حضوره اجتماع عملٍ، عندما سأل مديرٌ أميركيٌ الحضور قائلاً: ما هي أغنى أرضٍ في العالم؟ فأجابه أحدهم قائلاً: بلاد الخليج الغنية بالنفط، وقال آخر: بل مناجم الألماس في إفريقيا. فعقب المدير قائلاً: بل هي المقابر! نعم، المقابر هي أغنى أرضٍ في العالم؛ لأن ملايين البشر دُفنوا فيها وهم يحملون الكثير من الأفكار القيّمة التي لم تخرج للنور، ولم يستفد منها أحدٌ.
ألهمت هذه الإجابة تود هنري لكتابة كتابه الرائع (مُت فارغاً!) والذي بذل فيه قُصارى جهده لتحفيز البشر بأن يفرّغوا ما لديهم من أفكارٍ وطاقاتٍ كامنةٍ في مجتمعاتهم وتحويلها إلى شيء ملموسٍ قبل فوات الأوان. وأجمل ما قاله تود هنري في كتابه: "لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في داخلك أفضل ما لديك، اختر دائماً أن تموت فارغاً"!

أحبتي في الله .. بعد أن اطلعت على عرض الكتاب، انبهرت بعبقرية موضوعه، ثم ساءلت نفسي: هل لدينا في الإسلام ما كان يُغنيني عن الانبهار بهذا الموضوع؟

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾، يقول المفسرون أن قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ﴾ بمعنى التمس فيما آتاك الله من الأموال خيرات الآخرة، بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا، أما قوله: ﴿وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، فمعناه لا تترك نصيبك وحظك من الدنيا، أن تأخذ فيها بنصيبك من الآخرة، فتعمل فيها بما ينجيك غداً من عقاب الله.
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: [إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا]، يقول شُرَّاح الأحاديث أن المراد بقيام الساعة حصول أشراطها الكبرى المؤذنة بقرب قيامها؛ فيكون المعنى لا يمنعكم قرب قيام الساعة من العمل والسعي في الأرض وعمارتها، وكأنه يقول: إذا يئست من ثمرة العمل أن تحصلها؛ فلا تترك العمل، عسى أن تنفع ثمرته غيرك، فلا يقتصر همك في الحياة على مجرد حاجاتك، ولكن اعمل لك ولمن بعدك.

ومن منا لا يحفظ القول المشهور : "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، وهو قولٌ يظن كثيرٌ من الناس أنه حديثٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، لكن المتفق عليه أنه قولٌ لأحد الصحابة، يصح أن نستشهد به فهو قريب الصلة بموضوع كتاب (مُت فارغاً!)؛ يقول أحد العلماء: ليس معنى هذا القول هو ما يتبادر إلى أذهان كثيرٍ من الناس من العناية بأمور الدنيا والتهاون بأمور الآخرة، بل معناه على العكس، هو المبادرة والمسارعة في إنجاز أعمال الآخرة والتباطؤ في إنجاز أمور الدنيا؛ فعبارة "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً" تعني أن الشيء الذي لا ينقضي اليوم ينقضي غداً، والذي لا ينقضي غداً ينقضي بعد غدٍ، فاعمل بتمهلٍ وعدم تسرعٍ لو فات اليوم، فما يفوت اليوم يأتي غداً وهكذا. أما الآخرة فاعمل لها كأنك تموت غداً؛ أي بادر بالعمل ولا تتهاون وقَدِّر كأنك تموت غداً أو قبل غدٍ؛ لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت. فيكون المعنى الصحيح هو المبادرة في أعمال الآخرة وعدم التأخير والتساهل فيها، وأما أعمال الدنيا فالأمر فيها واسعٌ؛ ما لا ينقضي اليوم ينقضي غداً وهكذا.
ويقول أحد الصالحين: "أمَّا في الدنيا فَلِلْحثِّ على عِمارتها، وبقاء الناس فيها حتى يَسْكُن فيها، ويَنْتَفع بها من يَجيء بعدك، كما انْتَفَعْتَ أنت بعَمَل من كان قبلك، وسَكَنْتَ فيما عَمَّرَه، فإنّ الإنسان إذا عَلِم أنه يَطُول عُمْرُه أحْكَم ما يَعمَلُه، وحَرصَ على ما يَكْسِبُه، وأمَّا في جانِب الآخرة فإنه حَثٌّ على إخلاص العمل".
ويقول آخر: "هو شعور المؤمن في حياته يعمل فيها وكأنه سوف يلاقي ربه بين دقيقةٍ وأخرى؛ فيحاول الاستعداد لذلك بتقوى الله سبحانه وعمل الصالحات، ومع ذلك لا ينسى ما أحل الله سبحانه في الدنيا فهو يعمل ليكفي نفسه ومن يعول متوكلاً على الله عز وجل يمشي في مناكب الأرض ليأكل من رزق الله الحلال".
يقول ابن عمر رضى الله عنهما: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ]. وكان ابن عمر رضى الله عنهما يقول: "إذا أمسيـْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المساءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حياتِكَ لِمَوْتِكَ".
ورُوي عن أبي عبد الرّحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: «ما نَدِمتُ على شيءٍ نَدَمِي على يومٍ غَرَبتْ شمسُه: نقَص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي».

بالعودة إلى كتاب (مُت فارغاً)؛ يقول ناشر الموضوع عن الكتاب أنه ظن للوهلة الأولى أن المعنى أن يموت الإنسان فارغاً من هموم الدنيا وآلامها وأحزانها ومن المعاصي والآثام، ولكنه تفاجأ بأن صاحب هذا التعبير الجديد البليغ والفريد يعنى أن يموت الإنسان فارغاً من كل الخير الذي في داخله؛ أي أن يُسَلِّمه قبل أن يرحل! وقال: إذا كنت تملك فكرةً نفذها، علماً بلّغه، هدفاً حققه، حباً انشره ووزّعه. لا تكتم الخير داخلك فتموت ممتلأً متخوماً وتصبح لقمةً سائغةً لذيذةً لدود الأرض. أن نموت فارغين يعني أن نعيش كل يومٍ كأنه آخر يومٍ؛ نعطي كل ما نملك، نبذل من الطاقة أقصاها، ومن العمل أفضله، ومن الإبداع أروعه، نكون ملهِمين فرحين متفائلين، نسعى أن نكون فارغين حتى تسمو أرواحنا وتحلّق عالياً. وأردف قائلاً: أعتقد أننا جميعاً نزن آلاف الأطنان من الخير والإبداع والحب والأمل، لم نعطِ إلا القليل، وما يزال الكثير في جعبتنا. كم أتمنى أن نشمر ونبدأ بالسباق، نستخرج كل ذرة خيرٍ داخلنا، ونبدأ في العطاء.

أحبتي .. كلنا سنموت، لكن متى ذلك؟ بعد خمسين سنة؟ بعد عشرين؟ بعد عشرة؟ أم بعد شهورٍ معدودة؟ أم بعد أسابيع أو أيامٍ؟ أم بعد ساعاتٍ قليلة؟ لا يعلم أيٌ منا متى ينتهي أجله، فلماذا لا نتصدق بعلمنا وخبراتنا في الحياة إلى غيرنا قبل أن يوافينا الأجل المحتوم؟ ولماذا لا نقدم كل ما نستطيع أن نقدمه من أعمال خيرٍ وبِرٍ دون إبطاءٍ قبل أن يأتينا الموت؛ فلا تدري نفسٌ متى تموت؟ عندما نستمع إلى الأخبار، هل الشخص الذي مات في حادثةٍ في طريقه إلى منزله من عمله كان يتوقع أن يموت؟ هل حقق كل ما كان يتمنى تحقيقه في الدنيا؟ هل قدم لآخرته ما كان يتمنى أن يقدمه؟ الشيئ المؤكد هو أنه كان لا يزال في جعبته أشياء كثيرةٌ لم يفعلها بعد. فلنتعظ ولنسارع بعمل ما في وسعنا في أسرع وقت وبأفضل مستوى ممكن، ولنبادر بالعطاء وبتقديم أعمال الخير والبر، ومساعدة الآخرين وتعليمهم ونقل خبراتنا إليهم، بكل طريقةٍ ممكنةٍ: بالعمل، بالقدوة، بالتدريب، بالكتابة، بالتسجيل الصوتي، بإعداد ونشر مقاطع الفيديو، بالتوجيه المباشر وغير المباشر، وبكل ما توفره لنا التقنيات الحديثة من أدواتٍ ووسائل. ولا ننس أننا ميتون، وأن العلم النافع الذي نتركه قبل موتنا سوف ينفعنا؛ يقول الرسول الكريم: [إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ].

هدانا الله وإياكم، وجعلنا ممن لا يبخلون بتقديم علمهم ونقل خبراتهم إلى غيرهم، راجين من الله القبول. اللهم تقبل منا أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم ولا تحرمنا أجرها، فما عملناها إلا ابتغاء مرضاتك؛ تصديقاً لقولك سبحانك: ﴿لا خَيرَ في كَثيرٍ مِن نَجواهُم إِلّا مَن أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعروفٍ أَو إِصلاحٍ بَينَ النّاسِ وَمَن يَفعَل ذلِكَ ابتِغاءَ مَرضاتِ اللَّهِ فَسَوفَ نُؤتيهِ أَجرًا عَظيمًا﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/GEUR1o