الجمعة، 4 مايو 2018

إعجاز إلهي، وعجز بشري


الجمعة 4 مايو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٣
(إعجاز إلهي، وعجز بشري)

يبدو أن شهر إبريل الماضي كان مُصِّراً على أن يترك بصماته قبل أن يغادر ويسلم الراية إلى شهر مايو؛ فلم تكد تمضي ساعاتٌ على انتهاء أعنف موجةٍ شهدتها البلاد من الأمطار الرعدية والسيول المصحوبة بقطعٍ من البَرَد جرفت أمامها كل شيءٍ وخلفت وراءها خسائر بشريةً محدودةً وخسائر ماديةً فادحةً، إلا والأرصاد الجوية تحذر من موجةٍ جديدةٍ من عدم استقرار الأجواء حيث من المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة بشكلٍ كبير، ويسود البلاد طقسٌ متقلبٌ نتيجةً لعاصفةٍ ترابيةٍ قادمةٍ من جهة الغرب. لأكثر من ثلاثة أيامٍ لم يكن لأحدٍ في بلدي من حديثٍ إلا عن العاصفة الترابية المتوقعة. انتشرت بكثافةٍ غير مسبوقةٍ أخبار العاصفة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث تناقل الناس منشورات تحذيرٍ تحدد اتجاه الرياح والأماكن التي يُعتقد أنها ستكون الأكثر تضرراً، فضلاً عن التعليمات والإجراءات التي ينبغي اتخاذها لتخفيض الآثار السلبية لتلك العاصفة إلى الحد الأدنى الممكن. كثرت الصور ومقاطع الفيديو التي رصدت بداية العاصفة والتي تبين شدتها وضراوتها، وصار الناس مستعدين للأمر استعدادهم لحربٍ قادمةٍ، حتى أن بعض من أعرف سارع لشراء كمامات أنفٍ له ولجميع أفراد أسرته! وأثَّرَت أنباء العاصفة على جميع مظاهر الحياة؛ حتى كادت العاصمة أن تتحول إلى مدينة أشباح!
ورغم أن العاصفة لم تكن قد بدأت بعد، فقد اُستنفرت جميع أجهزة الدولة: أُلغيت رحلات طيرانٍ، قُفلت موانئ بحرية، أُغلقت طرقٌ صحراويةٌ رئيسيةٌ حيويةٌ. واستعد الناس للأسوأ فظلوا في حالة ترقبٍ، واتخذوا الاحتياطات المناسبة: أجلوا الكثير من المواعيد، ألغوا خطط السفر، أحكموا إغلاق أبواب ونوافذ مساكنهم، ومنعوا أطفالهم من اللعب في الشوارع أو أمام البيوت.
إذن فقد حُبست الأنفاس انتظاراً للعاصفة العاتية القادمة. كنت أنظر لشوارع عاصمة بلدي ذلك اليوم فأحس أن الأشباح تسكنها، فلم يعد يمشي في الشارع إلا صاحب حاجةٍ مضطرٍ أو مغامرٍ أهوج!
لا يكاد ينقطع رنين أجهزة الهاتف من كثرة ما استخدمها الناس للتواصل والسؤال عن أخبار العاصفة والاطمئنان على الأهل والأحباب.
يمر الوقت ولا تصل العاصفة! الناس يتابعون أخبارها من خلال شاشات التلفاز التي تسمرت أعينهم أمامها، ومحطات الإذاعة التي تتابعها آذانهم، ثم عندما لا يجدون ما يُشبع فضولهم ويروي تعطشهم للمعرفة ينتقلون إلى مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، فتسمع صوت لمسات أناملهم على لوحات مفاتيح الحاسوب والهواتف الذكية يكسر حاجز الصمت، حين تتواصل الكتابة لمعرفة آخر الأخبار والاطمئنان على الأحبة.
تمر ساعات الترقب بحذرٍ، تمضي ثقيلةً بطيئةً. الهدوء التام هو سيد الموقف، هدوءٌ ممزوجٌ بإحساس أن هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، ليس كمثلٍ يُقال، وإنما كواقعٍ يعيشه الجميع أو يتعايشون معه، والجميع مستسلمٌ لا يملك من أمر نفسه شيئاً سوى الانتظار والدعاء! إننا حقاً أمام حالة (إعجاز إلهي، وعجز بشري).
انتهى اليوم ولم تصل العاصفة بعد، تُرى هل غيرت اتجاهها؟ أم أجلت موعد وصولها، أم ضعفت قوتها وتحولت إلى ريحٍ عاديةٍ؟
خرج على شاشات التلفاز التي تعلقت عيون الناس بها من يطمئنهم أن الأمر بالنسبة لوصول العاصفة إلى العاصمة قد انتهى، وأن العاصفة في طريقها الآن إلى مواقع ومحافظاتٍ أخرى! تنفس سكان العاصمة الصُعداء، وبدأت مظاهر الحياة العادية للعودة تدريجياً كما في أحوالها العادية! وعاد الناس، كطبيعتهم، بعضهم يشكر الله سبحانه وتعالى أن كشف الضُر عنهم، وبعضهم ساخطٌ لما سببه الاستعداد لاستقبال العاصفة من إهدار الوقت وضياع الفرص وتأجيل المواعيد وتعطل الأعمال!

أحبتي في الله .. تلك كانت ليلة رعبٍ وصفتها بدقةٍ قدر ما استطعت. لكن أهم ما استوقفني حقاً هو حقيقة أن هذه الريح هي جنديٌ من جنود الله، يستبشر الناس بها تارةً، ويتخوفون منها تارةً أخرى! وأن هذه الريح آيةٌ يثبت لنا في كل مرةٍ تهب فيها بشدةٍ أنها (إعجاز إلهي، وعجز بشري).
سبحان الله فيما خلق، والريح خلقٌ مما خلق، مأمورةٌ مجندةٌ، مثلها مثل الملائكة ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.

يقول العلماء عن الريح أنها آيةٌ من آيات الله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. قال المفسرون في قوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾: باردةً وحارةً، وجنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً وبين ذلك، تارةً تثير السحاب، وتارةً تؤلف بينه، وتارةً تلقحه، وتارةً تدره، وتارةً تمزقه وتزيل ضرره، وتارةً تكون رحمةً، وتارةً تُرسَل بالعذاب؛ فتصريفها تقلُّبها بين هذه الأمور. والرياح من الآيات التي تُدخل السرور على النفس، ويُستبشر بها، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا﴾، وقال تعالى: ﴿أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، وقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. يقول ابن الجوزي عند تأويل هذه الآية أنّ هذه الجُمَل كلها تتعلق بالرياح: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ فتفرح النفوس بالرياح، ﴿وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ﴾ بالمطر الذي تحمله الرياح، ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ والفلك تحركها الرياح، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ بتجارة البحار التي تحرك الرياح بواخرها، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ تشكرون الله على نعمة الرياح.
الريح من جند الله، يعز الله بها أولياءه، ويذل بها أعداءه؛ أكرم الله تعالى بها سليمان عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾، وقال: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ِ﴾.
كما نصر الله سبحانه وتعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بالريح؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾.
والريح عذابٌ يسلطه الله على من شاء من أعدائه، توعد بها الكافرين؛ فقال:﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ . أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾. وتوعد بها سبحانه المعرضين، الذين يعرفونه في الشدة دون الرَّخاء، أن يُسلِّط عليهم الريح فيغرقهم بها، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا . أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً . أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾، قاصفاً: الريح الشديدة تقصف ما تأتي عليه. وأهلك الله بها عاداً قوم هودٍ عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾، عقيمٌ أي لا خَير فيها ولا بَرَكة، لا تُلْقِح شجراً ولا تَحْمِل مطراً، وإنما هي للإهلاك. وقال تعالى عنهم: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ﴾، والصرصر: الشديدة العاتية، ويوم نحسٍ: شديد الشقاء. وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾، أي كأن جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته الريح فسقط على الأرض. وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ . تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾. حقاً ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾، وصدقاً ﴿مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾.

أحبتي .. أختم بما قرأته لأحد العلماء كتب يقول إن الله عز وجل أمرنا بالتفكر في آياته الكونية التي يجريها سبحانه وتعالى بقدرته لتحقيق مراده في كونه، ومن آيات الله تعالى في الكون، الريح، وهي من الآيات التي تتجلى فيها طلاقة القدرة الإلهية، ويقف الإنسان مهما أُوتى من علمٍ، أمامها مشدوهاً مذهولاً عاجزاً عن الوصول إلى حقيقة هذه الآيات من حيث طبيعتها وتكوينها وقوتها وآثارها وتوقيت حدوثها ومكان حدوثها، وكلها أمورٌ تترك أسئلةً واستفساراتٍ لدى الإنسان تجعله دائماً في حالة تفكرٍ وتدبرٍ للوصول إلى حقيقة هذه الآيات ومقصودها؛ وهذه هي قمة الإعجاز في الخلق والكون، وقمة العجز العقلي أمام هذا الإعجاز لأنه سيظل إلى أن تقوم الساعة يسمع قول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...﴾. وكلما بحث واجتهد وفكر ووصل إلى بعض الحقائق وظن أنه قد وصل إلى مبتغاه ينتبه على قول الله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾. وهذه الآية الكريمة ستظل تدفع العقل البشري إلى البحث والنظر والاجتهاد للوصول إلى حقيقة ما يحدث في الكون العظيم، كما أنها ستظل واقفةً موقف التحدي الأبدي لتؤكد للإنسان أنه مهما بلغ من العلم وحقق من اكتشافاتٍ، فإنه ما جمع ولا وعى إلا قليلاً من علم الله الذي ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ﴾.

إذا عصفت الريح فلا نقول إلا كما كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ]، فهذه الريح آيةٌ ربانيةٌ وجنديٌ من جنود الله سبحانه وتعالى؛ نُسَلِّم جميعاً بأنها، هي والسيول من قبلها وغيرهما، (إعجاز إلهي، وعجز بشري) يستوجب الحمد والشكر، فاللهم لك الحمد والشكر على جميع نعمك وأفضالك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.  

https://t.co/3H3jVKLAwk

الجمعة، 27 أبريل 2018

الطريق إلى السلام العائلي


الجمعة 27 إبريل 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٢
(الطريق إلى السلام العائلي)

بمناسبة زفاف إحدى بنات العائلة العزيزات، وقرب موعد زفاف أحد شباب العائلة الأعزاء، فكرت في هديةٍ غير تقليديةٍ يمكن أن أقدمها لكلٍ منهما.
هذه هي هديتي؛ كلماتٌ موجزةٌ طيبةٌ ومفيدةٌ، خلاصة حكمةٍ وخبرةٍ بالحياة، وجدتها في ثلاث وصايا؛ الأولى قَدَّمَتْها، منذ زمنٍ بعيدٍ لابنتها ليلة زفافها، امرأةٌ عربيةٌ واعيةٌ حكيمةٌ، هي في واقع الأمر خبرة حياةٍ مصاغةً في أجمل قالبٍ، حتى أن أجيالاً من العرب توارثتها جيلاً بعد جيلٍ. والوصية الثانية كتبتها لابنها ليلة زفافه أمٌ معاصرةٌ أستاذةٌ جامعيةٌ خبيرةٌ ومتخصصةٌ في اللغة العربية. أما الوصية الثالثة فصاغتها شعراً أمٌ مصريةٌ أنعم الله عليها بموهبةٍ في الشعر فَقَدَّمَت به وصيتها لكلٍ من ابنتها وابنها قبيل زفافهما.

أحبتي في الله .. أبدأ بعرض وصية بنت الحارث لابنتها أم إياس بنت عوف بن ملحم الشيباني ليلة زفافها إلى عمرو بن حجر ملك كِندة، أوصتها وصيةً تُبين لها فيها أسس الحياة الزوجية السعيدة، وما يجب عليها لزوجها. نَقَلْتُ لكم الوصية عن كتاب (الطريق إلى السلام العائلي) لوالدي إبراهيم عبد الله الوليلي، رحمه الله وغفر له. قالت الأم في وصيتها:
أي بُنية: إن الوصية لو تُرِكَتْ لفضل أدبٍ لتَرَكْتُ ذلك لك، ولكنها تذكرةٌ للغافل، ومعونةٌ للعاقل، ولو أن امرأةً استغنت عن الزوج لغنىٰ أبويها، وشدة حاجتهما إليها لكنتِ أغنىٰ الناس عنه، ولكن النساء للرجال خُلقن، ولهن خُلق الرجال.
أي بُنية: إنك فارقتِ الجو الذي منه خرجتِ، وخلَّفتِ العُش الذي فيه درجتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيباً ومليكاً، فكوني له أمَةً يكن لك عبداً وشيكاً، واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً:
أما الأولى والثانية: فالخشوع له بالقناعة، وحُسن السمع والطاعة.
أما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على القبيح، ولا يشم منك إلا أطيب الريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن غرائز الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
أما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء {الرعاية} على حَشَمه {خدمه} وعياله، ومِلاك الأمر في المال: حُسن التقدير، وفي العيال: حُسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سراً، فإنكِ إن خالفتِ أمره أوغرتِ صدره، وإن أفشيتِ سره لم تأمني غدره.
ثم بعد ذلك اتقِ الفرح عنده إن كان تَرِحاً {حزيناً}، والحزن بين يديه إن كان فَرِحاً؛ فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير. وأشد ما تكونين له إعظاماً، أشد ما يكون لك إكراماً، وأشد ما تكونين له موافقةً، يكن أطول ما تكونين له مرافقةً. ولن تَصِلي إلى ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاكِ، وهواه على هواكِ، فيما أحببتِ أو كرهتِ .. والله يصنع لك الخير، واستودعتك الله.

ووصية الأم لابنها ليلة زفافه تبين له (الطريق إلى السلام العائلي) كَتَبَتْها أميرة بنت علي الصاعدي الحربي، أنقلها إليكم بتصرفٍ اختصاراً وتعديلاً، قالت الأم:
أولاً: هنيئاً لك الزواج فهو سكنٌ وراحة بالٍ:
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
ثانياً: بالمودة والرحمة تدوم الحياة:
قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، فالله هو الذي جعل بينكما المودة والرحمة، والمودة تنمو بالكلمة الطيبة والخُلُق الحسن والثناء الجميل، وإدخال السرور على الزوجة.
ثالثاً: كُنْ راعياً أميناً ومسؤولاً بحقٍ:
قال صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مسئولٌ عنْ رعِيَّتِهِ، والإِمَامُ رَاعٍ ومسئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ ومسئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، ...].
رابعاً: الأم حقٌ أعظم وخطٌ أحمر:
فعَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَيّ النَّاس أَعْظَم حَقًّا عَلَى الْمَرْأَة؟" قَالَ: [زَوْجهَا]، قُلْت: "فَأَيّ النَّاس أَعْظَم حَقًّا عَلَى الرَّجُل؟" قَالَ: [أُمّه].
خامساً: أحسن عِشرة زوجتك:
قال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾. وسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: [أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، أَوْ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ]. وتذكر يا بُني وصية الرسول صلى الله عليه وسلم: [لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ].
سادساً: كُنْ حكيماً في القوامة، رفيقاً في الولاية:
قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ...﴾.
وقوامة الرجل على زوجته تكون بقيامه بحُسن التدبير لها وحفظها والنفقة عليها، وهذا يوجب عليه التعقّل والرَويّة والأَناة وعدم التسرع في القرار، وهي ليست تعسفاً واستبداداً، بل قيادةٌ ومسؤوليةٌ.
سابعاً: قَوِّم الخطأ، وعالج الأمور برويةٍ:
قال صلى الله عليه وسلم: [مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ]، وقال: [يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ].
ثامناً: احرص على الطاعة تسعد، واترك المعصية تُحمد:
أقم أمر الله في نفسك وأهلك، والتزم بطاعة الله والوقوف عند أوامره ونواهيه، واتقِ الله؛ يحفظ الله أهلك وولدك، فالمعصية شؤمٌ يرى المرء أثرها في زوجه وولده. واستكثر من الحسنات، وكن لأهلك قدوةً في المحافظة على مرضاة الله، واغتنام فضائل الأعمال، وتتبع السنن النبوية، والتزام الأخلاق الحميدة، واختيار أطيب الأقوال، وجميل الفعال.
تاسعاً: عليك بأمر أهلك بالمعروف ونهيهم عن المنكر:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾. وقال مادحاً إسماعيل عليه السلام: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾.
عاشراً: التزم يا ولدي بالمحافظة على الصلاة، والصوم، والزكاة، وحفظ وتلاوة القرآن، والدعاء، والذِكر.

أما الوصية الثالثة؛ فهي التي عَبَّرَت بها الشاعرة لورا الأسيوطي في قصيدة "أخلاقيات الزواج" عن بعض هذه المعاني شعراً؛ ومما قالت لابنتها "أحلام":
كوني لزوجِك مثلما هو يَشتهي
ولْيبقَ بينكُما رضاً ووئامُ
أنتِ الرعيةُ كلُّها في مُلكِهِ
والطاعةُ العمياءُ منكِ لزامُ
وله القيادةُ كلُّها وبكفِّه
لكِ يا رعيَّةُ في الحياةِ زمامُ
كوني له زوجاً تُريه حَنانَها
إنَّ الحنانَ بغيرِها أوهامُ
ومما قالته الشاعرة لابنها "أشرف" في ذات القصيدة:
كنْ زوجَها وصديقَها وشقيقَها
وأباً حنوناً كله إكرامُ
كنْ راعياً للبيتِ يُصلحُ أمرَه
باللِّينِ لا عنَتٌ ولا إرغامُ
كنْ حامياً ومربِّياً ومواسياً
وبه يتمُّ لما تريدُ تَمامُ
ونضيف إلى ذلك تفصيل الوصية العاشرة من وصية الأم لابنها ليلة زفافه، وبتصرفٍ لتكون الوصية موجهةً لكلا الطرفين؛ الزوج والزوجة على سواءٍ:
التزما بأداء الصلاة على وقتها، ففيها نجاتكما، وحافظا على صلاة الفجر؛ جاء في الحديث: [مَن صَلَّى الصُّبحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ ...] ومن كان في ذمة الله كفاه الله همه ويَسَّر له جميع أمره. واستكثرا من السنن والنوافل خاصةً قيام الليل ما استطعتما.
صوما شهركما، واجبُرا ما يشوب صومكما من تقصيرٍ بصيام التطوع كلما كان ذلك ممكناً.
أخرجا زكاة مالكما في وقتها، واجعلا جزءاً من دخلكما للصدقات وأعمال الخير والبر.
ادخرا ما يكفي لأن تؤديا فريضة الحج، ما استطعتما إلى ذلك سبيلاً، وأديا العمرة إن تيسرت لكما.
قرآنكما ربيع قلبكما، وسعادة روحكما، فاحفظا منه ما تيسر، ولا يخلو يومكما من وردٍ تتلواه؛ حتى لا تكونا من هاجري القرآن الكريم.
دعاؤكما هو التجارة الرابحة والغنيمة الباردة، والحبل الممدود إلى السماء لا ينقطع؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.
ذِكْرُكما هو حصنكما، لا تنسَيا أذكار الصباح والمساء، وغيرها من أذكارٍ، فهي درعٌ واقيةٌ وحصنٌ حصينٌ؛ من فوائدها انشراح الصدر وطمأنينة القلب بمعية الله تعالى، وذكره للعبد في الملأ الأعلى، قال صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ].
بالتزامكما هذه الوصية، وتنشئة أبنائكما عليها تكونوا بإذن الله من أسعد الناس، وتعيشوا حياةً هنيئةً طيبةً؛ يقول عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.

أحبتي في الله .. الأسرة أساس المجتمع واللبنة الأولى في بنيانه، إذا صلحت صلح المجتمع كله، وإذا سعدت سعد كل المجتمع. وإن كان الزواج شركةً بين الزوج وزوجته، فإن قائدها والمسؤول الأول عنها هو الزوج، فليكن له في الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي].

أحبتي .. المتأمل في هذه الوصايا الثلاث يجد أنها نبراسٌ يضيء (الطريق إلى السلام العائلي)، وهي تصلح لجميع النساء والرجال؛ سواءً منهم المقبلين على الزواج أو المتزوجين بالفعل؛ فكل عبارةٍ وردت فيها تحمل الكثير من الحكمة وبُعد النظر والفطنة والكياسة يمكن أن نستفيد كلنا منها.
بادروا أحبتي إلى إهدائها لمن تحبون من المقبلين على الزواج، ومن المتزوجين حديثاً، وأرسلوها إلى كل زوجٍ وزوجةٍ حتى لو مرت على زواجهما سنواتٌ طوال. وليقرأها كلٌ منا لنفسه بتدبرٍ عسى أن يتدارك بعضنا ما قد يكون فاته من خيرٍ!

اللهم أصلحنا، وأصلح لنا أزواجنا، واجعلنا وأبناءنا وأحباءنا من الصالحين والسعداء.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/7sC1PR

الجمعة، 20 أبريل 2018

شياطين الإنس


الجمعة 20 إبريل 2018م

خاطرة الجمعة /١٣١
(شياطين الإنس)

يُحكى أنه في حروب أوروبا في القرن الثامن عشر دخل الجنود قريةً واغتصبوا كل نسائها، إلا واحدةً من النساء قاومت الجندي وقتلته وقطعت رأسه! وبعد أن أنهى الجنود مهمتهم ورجعوا لثكناتهم ومعسكراتهم، خرجت كل النساء من بيوتهن يلملمن ملابسهن الممزقة ويبكين بحرقةٍ، إلا هي خرجت من بيتها وجاءت حاملةً رأس الجندي بين يديها وكل نظراتها عزة نفسٍ واحتقارٍ للأخريات، وقالت: هل كنتن تظنون أن أتركه يغتصبني دون أن أقتله أو يقتلني؟! فنظرت نساء القرية لبعضهن البعض وقررن أنه يجب قتلها حتى لا تتعالى عليهن بشرفها ولكي لا يسألهن أزواجهن عندما يعودون لِمَ لم تقاومن مثلها؟! فهجموا عليها على حين غفلةٍ وقتلوها؛ قتلوا الشرف ليحيا العار.
وهكذا هو حال الفاسدين في كل مكانٍ وزمانٍ؛ يحاربون كل شريفٍ إلى حد القتل كي ﻻ يكون شاهداً على فسادهم؛ إنهم (شياطين الإنس).

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه الحكاية بالآية الكريمة التي نزلت في المنافقين: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾. يقول المفسرون أن المنافقين يتمنون أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم، وتصديقَ نبيِّكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما كفروا هم، فتكونون سواءً؛ أي فتكونون كفّاراً مثلهم، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله. يقول الشيخ الشعراوي: ﴿وَدُّوا﴾ من عمل القلب، وعمل القلب تخضع له جميع الجوارح، فما داموا يودون أن يكون المسلمون كافرين، إذن سيقفون في سبيل انتصار المسلمين، وسيضعون العقبات التي تحقق مطلوبات قلوبهم. فأصحاب الباطل إن كانت لهم قوةٌ يجعلون لسانهم مع قلوبهم في الجهر بالباطل، وإن كان عندهم ضعفٌ يجعلون قلوبهم للباطل ولسانهم للحق؛ فهم يتمنون إزالة طائفة الحق حتى لا يكون هناك أحدٌ أفضل من أحدٍ. وقوله سبحانه عن أمنية المنافقين الكافرين بقلوبهم هو أن يكون المؤمنون مثلهم ﴿فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾، فإذا ما حاول أحدٌ من أصحاب الرذيلة (شياطين الإنس) أن يشد صاحب الفضيلة إلى خطأٍ، فهو يسعى إلى إضلاله، إنهم لا يقفون من الإيمان موقف الحياد، ولكنهم يقفون منه موقف العناد والعداوة، وفي هذا تحذيرٌ واضحٌ للمؤمنين هو: إياكم أن تأمنوهم على شيءٍ يتعلق بمصالحكم وإيمانكم. وهذه الآية الكريمة توضحها آيةٌ أخرى في كتاب الله؛ يقول المولى عز وجل: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾.

يقول أهل العلم أن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن من الجن والإنس شياطين يريدون أن يضلونا وأن يبعدونا عن صراط الله المستقيم، ويريدون أن يسببوا لنا الأذى النفسي والبدني، فهم يوسوسون، وينفثون سمومهم بين بني آدم، ويرسلون عليهم أعوانهم ليؤذوهم وليلبسوا عليهم دينهم؛ قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ﴾، فهذه الآية تبين شدة عداوة الشيطان لبني آدم وخصوصاً عباد الله المؤمنين، فهو حريصٌ على كل ما يضرهم من الكفر والبدع والمعاصي وتعليق قلوبهم بغير الله، والشرك به والاستعانة بغيره، وغير ذلك مما ينال من إيمانهم وعقيدتهم، ولكن الله تعالى، رحمةً منه بنا، أنار لنا الطريق بالبرهان الساطع والكلام الواضح المبين، فحذرنا من الشيطان وأعوانه؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، وحذرنا منه أيضاً النبي، صلى الله عليه وسلم، في كثيرٍ من الأحاديث، كي نتجنب وسوسته وأذاه.
فالشياطين من الجن هم المتمردون منهم وأشرارهم، و(شياطين الإنس) هم متمردو الإنس وأشرارهم. فالجن والإنس منهم شياطين؛ وهم متمردوهم وأشرارهم من الكفرة والفسقة. وشيطان الإنس لا يوسوس كما يفعل شيطان الجن، وإنما يأتي عياناً ويدعو إلى المعاصي؛ فشيطان الجن يوسوس بنا لنقتل أو نزني أو نسرق وليس له سطوةٌ وتحكم فينا، أمّا شيطان الإنس، فهو يسرق بيديه ويعلّمنا سبل السرقة، وإذا كان شيطان الجن يزيّن لنا شرب الخمر، فشيطان الإنس يصنعه ويحضره لنا.
قال مالك بن دينار: "إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً".
فكل إنسانٍ مفسدٍ يأمر بالسوء والفحشاء والمنكر وينهى عن الصلاح والاستقامة ويشغل عن ذكر الله وعن الصلاة هو شيطانٌ، لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ﴾.
إن هؤلاء المفسدين ينقمون من كل مؤمنٍ بالله شريفٍ مستقيمٍ؛ يقول عنهم المولى عز وجل: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، لكن سطوتهم تكون أظهر وأقسى وأشد بأساً عندما يتحول الإنسان الطاهر النظيف من شخصٍ صالحٍ يهتم بأمور نفسه فقط إلى شخصٍ مصلحٍ يهتم بأحوال غيره وينبههم ويفضح لهم خطط ومشاريع المفسدين ويبين لهم أهدافهم ومآربهم.
إن أكثر ما يضايق (شياطين الإنس) المفسدين ويقض مضاجعهم هو وجود المصلحين الذين يكشفونهم، ويحاربون فسادهم، ما يعني تجريدهم مما هم فيه، وتنغيص تمتعهم بشهواتهم وملذاتهم التي يغرقون فيها، ما يستفزهم ويدفعهم لمحاربة أولئك المصلحين بشتى الطرق الممكنة، وتظهر شراسة المفسدين بوجهها السافر حينما يستشعرون أن المصلحين باتوا يهددون وجودهم المرتبط بمشروعهم الإفسادي، أو يمنعونهم من ارتكاب المعاصي العلنية الظاهرة، لذا فإنهم يسعون بكل ما أوتوا من قوةٍ لإقصاء أولئك المصلحين عن مواقع الحضور والتأثير.
ويبين الله سبحانه وتعالى لنا علاقة التحالف بين (شياطين الإنس) وشياطين الجن؛ يقول سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾، أي: يُزين بعضهم لبعضٍ الأمر الذي يدعون إليه من الباطل، ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورةٍ، ليغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء، الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة، والعبارات المموهة المنمقة، فينخدعون بقدرة أهل الباطل على التزييف وقلب الحقائق وتمثيل أدوار المصلحين، وينقادون وراءهم يعتقدون الحق باطلاً والباطل حقاً. وفي الآية بيانٌ واضحٌ بأن هناك (شياطين الإنس) وهم غير شياطين الجن، بل هم مقدمون عليهم؛ إنهم أعوانٌ لهم، تكمن خطورتهم في أنهم بشرٌ منا؛ من الأهل أو الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء أو الزملاء أو المعارف أو من الغرباء، تجدهم في الأسرة والجيرة وأماكن العمل وفي مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي وفي شبكة الإنترنت والقنوات التلفزيونية؛ شغلهم الشاغل أن يزينوا للناس الباطل ويوحون بالقول المزخرف المنمق عمل السوء، إنهم يسعون في الأرض فساداً ويتمنون لو أنَّا أطعناهم، منهم من يسعى لتعليم الشباب التدخين أو تناول المخدرات أو الخمر والمسكرات، ومنهم من يحاول أن يجر الناس إلى أماكن لعب القمار أو أماكن الفسق والفجور واللهو المحرم، ومنهم من يزينون للناس كل عمل مشين يعرضون عليهم مشاركتهم فيما هم متورطون فيه من فسادٍ على اختلاف صوره وأشكاله؛ من قتلٍ وزنا وظلمٍ وبغيٍ واعتداءٍ على الغير بغير حقٍ ونصبٍ وأكل أموالٍ بالباطل وكذبٍ وافتراءٍ واجتراءٍ على الله ورسوله، ويسوقون بضاعتهم الرديئة على أنها شطارةٌ أو تجارةٌ أو إثبات نفوذٍ أو فرض هيبةٍ؛ أو صورةٌ من صور التحضر والحداثة ومجاراة الحياة العصرية؛ فهم حقاً قد ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾!

وقد بين الله ما على المسلم أن يعامل به كلاً من (شياطين الإنس) والجن؛ قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ . وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، حيث يتبين من هذه الآية الكريمة ما ينبغي أن يُعامَل به الجهلة من (شياطين الإنس) والجن؛ فشيطان الإنس يُعامل باللين وأخذ العفو والإعراض عن جهله وإساءته. أما شيطان الجن فلا منجى منه إلا بالاستعاذة بالله منه.

أحبتي .. فلنَحْذر من (شياطين الإنس)، ولنُحَذِّر أهلينا وأبناءنا وجميع أحبائنا منهم، ولنعلم أنه من علامات ﴿زُخْرُف الْقَوْلِ﴾ أنه يعجبنا قولهم، ويقسمون بالله وهم كاذبون، حَذَّرنا الله منهم؛ قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ؛ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾.
ولنسأل الله الثبات على الدين وعلى الحق وعلى اتباع سبيل المؤمنين ولو قَلَّ سالكوه؛ حتى نقي أنفسنا الانزلاق إلى طريق الحرام وسبل الفساد ونبتعد عن سبيل الله ونصد عنه فتنطبق علينا، والعياذ بالله، الآية الكريمة: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾.

وقانا الله وإياكم شر أصدقاء السوء (شياطين الإنس) الذين يودون لو كفرنا كما هم كافرون، ويتمنون لو فسدنا كما هم فاسدون، الذين يحاربون أصحاب القلوب الطاهرة والضمائر الحية والأيادي النظيفة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/RohRL6

الجمعة، 13 أبريل 2018

غرور القوة


الجمعة 13 إبريل 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٠
(غرور القوة)

كنت أشاهد برنامجاً حوارياً على إحدى القنوات الفضائية، استضاف مقدم البرنامج ضيفين اثنين من نفس الجنسية، كانا يناقشان قضيةً خاصةً ببلدهما. بدأ البرنامج بمقدمةٍ من المذيع حاول فيها قدر إمكانه أن يُظهر نفسه محايداً لا يميل إلى رأيٍ دون الآخر؛ فعرض لوجهتي نظرٍ مختلفتين إلى حد التضاد، ثم جاءت أسئلته ومداخلاته طوال البرنامج فاضحةً له بأنه ينحاز إلى إحدى وجهتي النظر دون الأخرى! بدأ الحوار هادئاً ثم سرعان ما انقلب من مناظرةٍ فكريةٍ رصينةٍ إلى حربٍ كلاميةٍ شرسةٍ ظهر فيها أحد المتحاورين وهو يحاول إرغام الطرف الآخر برأيه، وبدلاً من أن يشرح وجهة نظره ويناقشها بالعقل والمنطق إذا به يتهم الآخر بالخيانة والعمالة وعدم الولاء للوطن، ولأنه يُمثل وجهة نظر حكومة بلاده والطرف الآخر يُمثل المعارضة فقد تصور أنه في موقف قوةٍ فأسكره (غرور القوة) وبدأ يستأسد ويتنمر، وبعد فترةٍ بدأ يكيل السباب والشتائم، ووصل به الأمر إلى حد محاولة التعدي بالأيدي على محاوره، الذي اضطر للانسحاب من البرنامج، وهو مذاعٌ على الهواء مباشرةً؛ فما كان أمام مقدم البرنامج إلا أن يستمر مع ضيفه الوحيد في حوارٍ مملٍ لا معنى له حيث سار في اتجاهٍ واحدٍ فقط!

أحبتي في الله .. ذكرني هذا الموقف بكثيرٍ من المواقف المشابهة في حياتنا الخاصة والعامة .. اختلاف بين الزوج وزوجته، بين الأب أو الأم وأحد الأبناء، بين الإخوة والأخوات، بين جيران في المسكن، بين زملاء في العمل، بين مشجعين لنادٍ رياضي ومشجعين لنادٍ منافسٍ، باختصار بين أي طرفين مختلفين في رأيٍ أو متعارضين في مصلحةٍ. لا تخلو الحياة من مثل هذا الاختلاف، وهو يُعد ظاهرةً صحيةً حين يُكَمِّل كل رأيٍ الرأي الآخر فيكون في اجتماع كلا الرأيين خيرٌ، أو حين يتفق الطرفان على رأيٍ وسطٍ ويلتقيان في منتصف الطريق، أما إذا تمكن (غرور القوة) من طرفٍٍ تراه يفرض على الطرف الآخر رأيه بالقهر والإجبار، وهنا تحدث المشكلة. كأنه فرعون جديدٌ يقول: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾؛ يظن أنه وحده يملك الحقيقة المطلقة، رأيه دائماً هو الصحيح ورأي غيره، إذا خالفه الرأي، هو الخطأ بعينه، شعاره المعلن "من ليس معي فهو ضدي"، نَسيَّ، أو تناسى، قول الإمام الشافعي: "قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأٌ يحتمل الصواب". لا يُواجِه الرأي بالرأي، ولا الحجة بالحجة، ولا الفكر بالفكر، يريد دائماً أن يفرض رأيه على الآخرين بالقوة؛ يوحي له (غرور القوة) أنه المتغلب بلا منازع، ولا يعلم أن الفكرة التي تُواجَه بالقهر، ويقابَل أصحابها بالتسفيه والاستخفاف، تكتسب، من حيث لا يحتسب، قوةً إلى قوتها، وإذا به، وبمرور الوقت، يكتشف أنه بتعامله بهذا الأسلوب كان سبباً في انتشار الرأي الآخر وتمسك الآخرين به، سواءً لأنه حقٌ، أو من باب العند أو الكيد والمناكفة!
إن القوة حين يستخدمها الناس لمحاربة الحق، بدلاً من نصرته، تتحول إلى طغيانٍ يعمي أبصارهم ويطمس بصائرهم؛ يقول تعالى: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، أي يضلون ويعمَونَ عن الرُّشد، ويقول سبحانه: ﴿بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾ أي استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم، في معاندةٍ واستكبارٍ.
استخدام القوة لغير نصرة الحق ومواجهة الباطل سببٌ للخسران؛ إنها سُنة الله التي لا تتغير في خلقه، مع الأفراد ومع الجماعات ومع المجتمعات، يقول سبحانه وتعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾.
يقول أهل العلم أن الآيات التي تحدثت عن الأمم السابقة في القرآن الكريم كلها تدل على أن قوة هذه الأمم مهما اشتدت عظمتها وكبرت وتميزت عن غيرها ممن يحيط بها، ومهما امتلكت من مقوماتٍ ماديةٍ وجسديةٍ فهي ضعيفةٌ واهنةٌ سريعة الزوال والهلاك ما دامت بعيدةً عن أمر الله وطاعته، وبعيدةً عن احترام حقوق العباد التي شرعها الله، وبعيدةً عن الأخلاق والقيم السليمة الصالحة للمجتمع والقائمة على العدل والقسط، فأعظم وأسرع ما يُهلك المجتمعات والأفراد (غرور القوة) والكِبْر والعُجب الذي يولد الاستبداد والظلم؛ قال تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
إن القوة في الأصل محمودةٌ ومطلوبةٌ؛ فقد طلب الله من المؤمنين إعداد ما استطاعوا من قوةٍ وقُدرةٍ لإرهاب وتخويف أعداء الله، وهُم أولئك الذين يُظهرون عداوةً واضحةً وظاهرةً للدين، وأعداء آخرين لا يعلمهم إلا الله؛ قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾. وتنقلب القوة وبالاً على صاحبها إذا لم يوظفها التوظيف الصحيح الذي يتفق مع مراد الله، فتكون حسراتٍ يعيشها الذين استخدموا القوة في غير محلها؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾؛ فهذا قارون قال عنه الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾؛ فيقول متكبراً: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾، فذكَّره المولى عز وجل بأن هذه القوة العلمية والحسية التي تفتخر بها قد سبقك بها أقوامٌ فانظر ماذا كان مصيرهم: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾. ولما هدد الله قريشاً، ومن هُم على شاكلتها، قال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً﴾، وضرب الله المثل بعادٍ؛ قال تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾، ووصف الله سبحانه وتعالى فرعون بقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾. إنه (غرور القوة) الذي يُودي بصاحبه ويُرديه.

ومن الناس من ينافق أصحاب القوة ولو كانوا على غير الحق؛ ففي صورةٍ كاشفةً لمواقف المنافقين الذين يُبدلون ولاءهم ويُغيرون جلودهم ويتلونون كالحرباء ساعين وراء مصالحهم يبين الله حالهم محذراً من ذلك بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾؛ فهذا بيانٌ لحال من يستخدم الأيْمان والعهود والتأكيد عليها في تعامله مع الناس لأجل مصلحته الذاتية ثم سرعان ما يتبدل عندما يظهر له أن مصلحته مع قومٍ أو أناسٍ آخرين، فتراه يُسارع في نقض عهوده وأيْمانه لموالاة من يجد عندهم المصلحة أو من يمتلكون القوة المادية، ويتمادى في معاداة أصحاب الحق الذين يتصور أنهم هم الضعفاء ولا قوة لهم.

ومن المواضع الشريفة لاستخدام القوة؛ يقول العلماء: القوة في أخذ الدِّين، وعلو الهمّة في تطبيق جميع ما يستطيع من شعائره؛ قال الله لموسى وقومه: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾، وقال لقوم موسى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وقال سبحانه ليحيى عليه السلام: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ].

إن مفهوم القوة سواءً في اللغة أو في القرآن الكريم ليس مرادفاً للعنف، وأن القرآن الكريم قد أكد على أن القوة ينبغي أن تُستخدم للتمسك بالدين والالتزام بشعائره وللدفاع عن الحق. كما أن الجهاد، وهو أعلى أشكال القوة، أعم من القتال؛ لأن الجهاد، إلى جانب محاربة أعداء الدين، يشتمل على جهاد النفس وجهاد الشيطان. وبجهاد النفس والاستغفار والتوبة تزداد القوة؛ قال تعالى على لسان نبيه هود: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾.

أحبتي .. عودةً إلى ما بدأت به فإن الأفكار، كما أنها لا تُحارب بالقوة، فإنها لا تنتشر بالقوة أيضاً؛ فمقولة أنّ الإسلام انتشر بالسيف، من السهل كشف زيفها إذا درسنا تاريخ انتشار الإسلام في جنوب شرق آسيا؛ إن ملايين المسلمين دخلوا في دين الله أفواجاً، من خلال تعاملهم مع التجار المسلمين الذين ذهبوا للمعاملات التجارية في تلك البلاد، حين رأوا أخلاقهم العالية في المعاملات. لكننا في نفس الوقت مُطالَبون بألا نعيش بغير قوةٍ نحمي بها ديننا وندافع بها عن أنفسنا وأرضنا؛ إن قوام الإسلام، كما قال أحد العلماء، هو في كتابٍ الله يَهدينا وبسيفٍ ينصرنا، ﴿وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾، في زمنٍ يتعامل فيه معظم الناس بالقوة ويحترمون القوي ويجورون على الضعيف، لكن قوتنا منضبطةٌ بقواعد وقيمٍ حددها لنا القرآن الكريم.
علينا كأفراد أن يبدأ كل مسلمٍ منا بنفسه؛ فيُقوي إيمانه بالله سبحانه وتعالى أولاً ثم يأخذ بأسباب القوة في جميع المجالات: البدنية والعلمية والاقتصادية والأخلاقية وغيرها من مجالات، ثم علينا أن نتعظ ونعتبر من قصة فرعون كما وردت في القرآن الكريم؛ يقول المولى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾؛ فلا يتحول أيٌ منا إلى فرعون صغيرٍ في بيته مع زوجته وأبنائه، ولا في عائلته مع إخوانه وأخواته، ولا في عمله مع مرؤوسيه، ولا في أي موقفٍ من مواقف الحياة، ولنتذكر أن (غرور القوة) مآله دوماً إلى الخسران.

هدانا الله وإياكم إلى طريق الإيمان، وعمل الصالحات، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/HVd4wD

الجمعة، 6 أبريل 2018

مسلمون جُدد

الجمعة 6 إبريل 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٩
(مسلمون جُدد)

تركت مساحة خاطرة هذا الأسبوع كاملةً لقصة إسلامٍ عجيبةٍ، عسى أن تنفعنا أو نتخذها قدوةً ومثلاً.
أحبتي في الله .. لن أطيل عليكم، يكفيكم طول القصة ذاتها، أبطالها (مسلمون جُدد) حياتهم قبل الإسلام وبعده مليئةٌ بالدروس والعبر.
إليكموها كما وردت في العديد من مواقع الإنترنت؛ يقول راوي القصة:
كنت شاباً أجوب شوارع ميلانو {مدينةٌ إيطاليةٌ صناعيةٌ شهيرةٌ} ألبس قرطاً في أذني اليسرى وأفعل المحرمات بأشكالها وألوانها وأشرب الخمر، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي قلب حياتي رأساً على عقب؛ كنت أعمل في مصنعٍ للملابس وكان اسمي مركباً بالإيطالية يظن السامع به أنني من أصلٍ بوسنيٍ، وفي ذات مرةٍ ناداني رئيسي في العمل وهو مخمورٌ كعادته، إلا أنه في هذه المرة أخذ يسب ويشتم المسلمين وينظر إليّ يعتقد أنني مسلمٌ، وهو لا يدرك بسبب سكرته أنني مثله لا صلة لي بالبوسنيين ولا بالمسلمين ولكن كنت أسمع وأقرأ عنهم للثقافة العامة فقط، ثم قال لي: "أنتم أيها المسلمون كنتم في يومٍ من الأيام أسياد هذا العالم، أما اليوم فأنتم عبيدٌ لنا وتعملون عند أقدامنا". لا أدري ما الذي حصل لي وأنا أستمع إلى ذلك الحاقد عليّ وهو ثملٌ نجسٌ يُفرغ شحناته المريضة، لقد شعرت وكأن الدم يفور في عروقي؛ فقد كنت بطبعي عصبياً ولم أدرِ بماذا أجيب وقتها، لقد فاجأني فأحببت أن أستفزه ولم أدرِ إلا ولساني يقول له لا شعورياً: "هل تعرف محمداً؟"، قال: "ماذا تريد؟ تكلم بسرعة"، قلت: "عندما كان المسلمون متمسكون بكتاب الله ويطبقون أحكامه كانوا يسودون العالم، ولكن بعد أن تركوه ولم يطبقوا ما فيه من تعاليم ساد الفساد والانحراف العالم، والآن أنا سأخرج من مكتبك، تعرف لماذا؟"، نظر إليّ مندهشاً غاضباً وهو يقول: "لماذا؟"، قلت: "سأذهب لأشتري قرآناً مترجماً للغة الإيطالية حتى أقرأه وأطبق ما فيه وأرجع إليك فأدوسك تحت قدمي". خرجت من مكتبه وقد ألجمت المفاجأة لسانه، وطبعاً طردني من العمل، ذهبت إلى غرفة سكني المشتركة مع زملاء لي ودخلت الحمام غسلت وجهي وأنا أبكي بكاءً حارقاً مؤلماً؛ فقد كنت أعاني من قلة المال والحيلة وفقرٍ شديدٍ، خرجت من الحمام ثم سجدت منهاراً على الأرض وأنا أبكي حتى ظن من معي في الغرفة بأنني قد أُصبت بالجنون، ولم أكن أعلم حينها أن تلك كانت بداية هدايتي في رحلتي إلى الإسلام. بعد أن سجدت باكياً سرت في جسدي قشعريرةٌ وأحسست براحةٍ لم أشعر بها في حياتي، وخرجت من البيت متوجهاً إلى المركز الثقافي الإسلامي بمدينة ميلانو حيث اُستقبلت بحفاوةٍ وحبٍ، وأشهرت إسلامي فوراً، واخترت لنفسي اسم عبد الله، ثم خرجت أنا ورجلان من المركز الإسلامي وتوجهنا إلى إحدى الحدائق العامة نتبادل أطراف الحديث عن الإسلام. كان الجو غائماً شديد البرودة، وبينما نحن في الحديقة نمشي إذ دخل وقت صلاة الظهر؛ فذهبنا إلى أحد ينابيع المياه داخل تجويفٍ في أحد الأشجار وقام أحدهم بتعليمي الوضوء، وكان الماء بارداً جداً إلا أنني كنت مستمتعاً بالبرودة، وكان تحت الشجرة ذاتها اثنان من العشاق مسترخيان لما رأوا طريقة اغتسالي بالماء وغسل قدمي في ذلك الجو البارد توقفا عما كانا يفعلانه، وأذكر علامات الذهول على وجهيهما، ثم سألني الرجل بتطفلٍ خجولٍ: "ماذا تفعل؟ إن الجو بارد!"، فقلت: "هكذا يجب أن نتطهر لنتعبد ونقابل خالق الكون ونصلي له"، ثم أذَّن صاحبي المرافق لي أذان الظهر وأقمنا الصلاة في داخل الحديقة وسط ذهول الموجودين، ووالله ما إن انتهينا من الصلاة حتى كان عددنا عشرين رجلاً حيث تصادف وجود مجموعةٍ من المسلمين العرب في الحديقة نفسها، ولكن المفاجأة أنه ما إن انتهينا من الصلاة حتى وقف ضابطٌ إيطاليٌ يبدو أن عمره في الخمسينات، كان واقفاً يراقبنا بكامل زيه العسكري، ثم تقدم واقترب من الإمام الذي صلى بنا بعد انتهائنا من الصلاة، وكنت استمع جالساً للمحادثة، سأل الضابط بتعجبٍ: "ماذا تفعلون؟"، فأجاب صديقي الإمام: "نصلي لله تعالى"، قال الضابط: "وما هذا الدين؟"، قال الإمام: "الإسلام"، قال بتعجبٍ بالغٍ: "الإسلام؟! ولكن الإسلام دين سفك دماءٍ وإرهابٍ وقتلٍ"، رد الإمام بكل هدوءٍ وثباتٍ: "ليس كذلك، بل الإسلام دين محبةٍ ودين سلامٍ"، ثم استأذناه قائمين لننصرف، فقال الضابط بصوتٍ كأنه ينادينا به: "وكيف يمكن لشخصٍ أن يكون مسلماً؟"، قال الإمام ببساطةٍ: "يذهب إلى المركز الإسلامي ويعلن إسلامه"، قال الضابط: "أريد أن أدخل في هذا الدين"، قال الإمام: "لماذا؟"؛ ظنه يستهزئ فأحب أن يختبره، فقال الضابط: "نحن نُعَلِّم الطلاب الملتحقين بالجيش ست سنواتٍ كيف ينضبطون في صفٍ واحدٍ ويتحركون سوياً بإتقان، وأنتم خلال خمس ثوانٍ اصطف عشرون رجلاً لا تعرفون بعضكم، وتتبعتم إمامكم بكل دقةٍ وانضباطٍ؛ أشهد أن الذي علمكم هذا ليس بشراً بل لا بد أن يكون رب هذا الكون المستحق للعبادة". ذلك الضابط الآن اسمه عبدالرحمن أسلم وحَسُن إسلامه، وهو في مترو الأنفاق، لقد تقاعد من الجيش واستلم مستحقاته ومن بينها بطاقةٌ مجانيةٌ للمواصلات؛ يدخل المترو المكتظ بالناس من الصباح إلى المساء وقد أطلق لحيته البيضاء واستدار وجهه كأنه البدر ثم يقول للجالسين بالقطار وباللغة العربية: "أشهد أن الله حقٌ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حقٌ، وأن الجنة حقٌ، وأن النار حقٌ، وأن يوم القيامة حقٌ" ثم يسرد المواعظ باللغة الإيطالية فيخرج معه عند محطة الوصول عشرةٌ إلى خمسة عشر شخصاً يشهرون إسلامهم فيما بعد، وهذا حاله يومياً منذ أن أعلن إسلامه!

يقول عبد الله: في أحد الأيام وبينما أنا في المركز الإسلامي بميلانو إذ تقابلت مع شابٍ إيطاليٍ أعطاه الله من جمال الشكل والوسامة الشيء الكثير، مُلتحٍ يتلألأ وجهه نوراً اسمه أحمد، فسألته عن أحواله؛ فأخذ يسرد لي قصته ويقول عن نفسه: كنت أعيش في مدينة ميلانو وعمري لم يتجاوز الثالثة والعشرين، أعيش في الظلامات، ورثت عن والدي المتوفى مبالغ كبيرةً جداً وقصوراً ومصانع وسياراتٍ فارهةً حتى كنا نُعَد من العائلات ذات الثراء الفاحش في إيطاليا، ولم يكن يعيش في القصر معي سوى أمي وأختي. كنت لا أترك يوماً من عمري بدون عشيقةٍ وخمرٍ ومخدراتٍ منذ اللحظة التي أستيقظ فيها وحتى أنام؛ فأدمنت المخدرات بكل أصنافها وأنواعها، وكنت إذا رجعت القصر على هذه الحالة وأجد أمي أمامي أقوم بضربها ضرباً شديداً وأدخل إلى غرفتي وأنام، كان هذا حالي معها كل يومٍ تقريباً حتى أنها أصبحت تختبئ مني حتى أفيق. وكنت إذا خرجت من باب قصري بسيارتي الفارهة أجد عند باب القصر أكثر من عشرة فتياتٍ من أجمل الجميلات ينتظرنني ليركبن معي وأتسلى بمن يقع عليها الاختيار في ذلك اليوم ثم أستبدلها بأخرى في اليوم التالي، ومع ذلك لم أشعر بطعم السعادة يوماً حتى أنني كنت أشعر بضيقٍ شديدٍ يعتصر صدري، كنت عابس الوجه غليظاً شديد العصبية. خرجت في أحد الأيام إلى مقهىً في فترة الظهيرة ولم أرغب في اصطحاب أيٍ من الفتيات معي، واشتريت جريدةً وطلبت كوباً من القهوة وجلست أقرأ في المقهى على طريق المشاة، فإذا برجلٍ يقف بهدوءٍ خلف كتفي، وأنا لا ألتفت إليه، يسألني مبلغ مئة ليرةٍ ويقول أريدها دَيْناً أرجعه لك بعد شهر {والمئة ليرة إيطالية لا تساوي شيئاً يُذكر}، فأخرجتها من جيبي ورفعت يدي إلى الخلف وأعطيته ما طلب دون أن أنظر إليه وطلبت منه الانصراف؛ لأنني لا أحب المتسولين ولم أكن أطيق النظر إليهم. واستمريت على حالي هذا، وبعد شهرٍ تقريباً كنت في ذات المقهى أحتسي قهوتي كعادتي، وإذ بذلك الرجل يعود إليّ ويضع يده على كتفي مرةً أخرى فالتفتُ إليه؛ كان كبيراً ذا لحيةٍ بيضاء، قلت له: "ماذا تريد؟"، قال: "قد استلفت منك مبلغاً من المال، مئة ليرةٍ، قبل شهرٍ، ألا تذكر؟ وهذا هو المبلغ أرجعه إليك في الموعد"، وأخرج لي مئة ليرةٍ، قلت له بغضبٍ شديدٍ: "هل أنت مجنونٌ؟ أيها الغبي أنت تعلم أن من يأخذ هذا المبلغ الزهيد لا يرجعه ولو كان دَيْناً"، قال بكل ثباتٍ: "ولكن دِيني أمرني إذا أخذت أو استلفت شيئاً أن أرجعه مهما كان صغيراً"، سألته غاضباً: "وما دينك هذا؟"، رد باقتضابٍ: "الإسلام"، قلت له: "الإسلام؟! ولكن الإسلام دين قتلٍ وإراقة دماءٍ وإرهابٍ وتخلفٍ"، قال بهدوءٍ: "بل الإسلام منهج حياةٍ وطريق سعادةٍ لمن أحسن تطبيقه بطريقةٍ صحيحةٍ"، سمعت كلمة "سعادة" من ذلك الرجل الذي شابت لحيته ورَقَّ ثوبه وعلى وجهه ابتسامةٌ تمنيتها أن تكون لي، وقلت في نفسي: "لا بأس سأدفع مالي كله من أجل لحظةٍ أشعر بما يشعر به هذا المسكين من سعادةٍ ورضاً"، ورأيت في يده ورقةً مطويةً فسألته: "ما هذا الذي في يدك؟"، قال: "بعض الكلمات عن الإسلام"، فأخذتها من يده وقلت: "هل تسمح لي بقراءتها؟"، قال الرجل: "بل هي لك"، ثم ذهب ولم يلتفت إلي؛ فناديته ثم قلت له: "هل تسكن قريباً من هنا؟"، قال: "نعم"، قلت: "هذه المطوية صغيرةٌ جداً، أريد أكثر لأقرأ"، قال الرجل: "سأحضر لك كل يومٍ في هذا المكان مطويةً جديدةً عن الإسلام وأنت تشرب قهوتك". حرصت على ارتياد ذلك المقهى يومياً لأقرأ المطويات، وكان ذلك الرجل حريصاً على الحضور للمقهى بالمطوية في الوقت المحدد. بعد أن قرأت عشر مطوياتٍ تقريباً شرح الله صدري للإسلام، وأتيت للمركز الإسلامي، وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وغيرت اسمي إلى أحمد وبدأت أتعلم الدين الإسلامي وأطبق منهجه. لاحظت أمي التغير الذي حصل لي فقد صرت عندما أدخل القصر أذهب إلى غرفتي مباشرةً دون أن أضربها، بل وأصبحت أقبلها إذا رأيتها؛ فاستوقفتني مرةً وهي خائفةٌ حذرةٌ وسألتني: "ما الذي جرى لك يا بُني؟"، وهي ترى آثار لحيتي بدأت تظهر على وجهي، قلت: "ما بك يا أمي لماذا أنتِ خائفةٌ؟"، قالت: "كنتَ يا بني إذا دخلتَ إلى البيت تضربني والآن أنتَ تقبلني على يدي ورأسي، ولك أيامٌ على ذلك، فهل حصل لك شيءٌ؟"، قلت لها: "نعم، لقد دخلت في دين الإسلام"، قالت: "وهل يأمرك هذا الدين بتقبيلي؟"، قلت: "نعم، وأمرني بالإحسان إليك"، قالت أمي مباشرةً: "أريد أن أدخل في هذا الدين"، وأسلمت أمي ورفعت الصليب المعلق على حائط غرفتي ووضعت مكانه لفظ الجلالة. اشتريتُ مصحفاً مترجماً للغة الإيطالية ووضعتُه في غرفتي، وفي أحد الأيام وبينما أَهُم بالدخول إلى غرفتي إذا بي أُفاجأ بأختي قد دخلت وجلست وبين يديها المصحف المترجم تقرأه في ذهولٍ عجيبٍ، تركتُها ولم أُشعرها برؤيتي لها حتى أسلمت بنفسها دون أن أتكلم بكلمةٍ واحدةٍ. ومن العجائب التي حدثت لي أنه بمجرد أن أشهرت إسلامي واغتسلت وبدأت بتطبيق شعائر الإسلام ذهب عني إدماني للمخدرات فوراً بدون مستوصفاتٍ أو مستشفياتٍ أو عياداتٍ نفسيةٍ؛ فعلمت أن الإسلام يغسل ما قبله ويمسح كل ما فات؛ فزاد يقيني وتمسكي بالإيمان بالله. يقول أحمد غاضباً وبنبرة صوتٍ جادةٍ: لقد أضعتُ من عمري سنين في الملذات والشهوات والكفر بالله، وأعداء الدين ينصبون المكائد بأهل الإسلام ويحاربون دين الله ويثيرون الفتن ويفترون على الله الكذب، وإني أُشهد الله الذي لا إله إلا هو، وبما علمت من الحق، لأسلطن أموالي كلها وما بقي لي من عمرٍ لنشر هذا الدين في إيطاليا ولو كره الكافرون. يقول عبد الله أن ذلك كان آخر كلام أحمد معه قبل أن يفترقا، ويقول: أما أنا فقد تزوجت من فتاةٍ شابةٍ إيطاليةٍ من أصلٍ بوسنيٍ ولم يكن صعباً عليّ إقناعها بالالتزام؛ فقد كانت مهيأةً وتعرف بعضاً من اللغة العربية، ودأبنا على خدمة الدين حيث قمنا بإنشاء مركزٍ جديدٍ لتعليم الإسلام للصغار في إيطاليا عبر ما يُسمى دور رعاية الأطفال المسلمين، وكان الإقبال على المركز عظيماً حتى من الجاليات غير المسلمة! ثم أنجبنا ثلاثة أبناء وابنتين كلهم صاروا والحمد لله من حفظة كتاب الله تعالى.

هؤلاء (مسلمون جُدد) جذبهم إلى دين الإسلام، موقفٌ أو فعلٌ أو سلوكٌ أو تصرفٌ أو حتى كلمة. كان من الممكن أن نفتقدهم، هم وأمثالهم، لو لم يجدوا بالقرب منهم مسلمين يمتثلون لأمر الله سبحانه وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين﴾. كنا لنخسرهم لولا وجود مسلمين يسارعون إلى تنفيذ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً]، ويسعون إلى هداية الضالين لقوله صلى الله عليه وسلم: [فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ]. فليكن لنا فيهم أسوةٌ حسنةٌ، وليسعَ كلٌ منا، قدر ما يستطيع، إلى كسب مثل تلك النفوس الضالة ليكونوا مسلمين، وليتحولوا هم أنفسهم إلى دعاةٍ لغيرهم من قومهم وعشيرتهم، ولن يكون ذلك إلا بأن نتخلق كلنا جميعاً بأخلاق القرآن؛ فحين سُئلت السيدة عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآن".

أحبتي .. إنهم (مسلمون جُدد) فتح الله لهم أبواب الهداية فاهتدوا. أترك لكم استخلاص الدروس والعبر مما قرأتم، وأستأذنكم في الانصراف لأكفكف دموعاً ساخنةً انهمرت من عينيّ وأنا أَطَّلِع على أحوال هؤلاء المسلمين "الجدد"، ثم أتطلع إلى أحوالنا نحن المسلمين "القدامى" فأُصاب بالحسرة والأسى لأحوالنا وما وصلنا إليه من التهافت على الدنيا والاهتمام بسفاسف الأمور والبُعد عن شرع الله وكتابه الكريم وسُنة رسوله المصطفى، حتى تحول الكثير منا، إلا من رَحِمَ ربي، من داعين لدين الله بسلوكنا وأخلاقنا إلى مُنَفِّرين منه بأعمالنا وأفعالنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

اللهم أصلح أحوالنا، ورُدَّنا إلى دِينك رداً جميلاً، واجعلنا ممن يدعون إلى الإسلام بكمال أخلاقهم وحُسن سلوكهم وصدق معاملاتهم، اللهم اجعل خُلُقَنا القرآن.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/7mb41H

الجمعة، 30 مارس 2018

الثبات الثبات يا عباد الله


الجمعة 30 مارس 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٨
(الثبات الثبات يا عباد الله)

لم يتمالك الكثير منا نفسه عندما علا صوت الإمام وهو يقرأ في صلاة الفجر الآية رقم 94 من سورة النحل: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، حين ظل الإمام يعيد ويكرر: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾ وصوته قد أُجهش بالبكاء، إذ بكثيرٍ من المصلين خلفه يبكون أو يتباكون استشعاراً منهم لمعاني هذه الكلمات من الآية الكريمة.
انتهت الصلاة، وكعادتنا نُتبع صلاة الفجر بممشى علمٍ يدور حديثنا فيه عن الآيات الكريمة التي يكون الإمام قد قرأها. وقفنا كثيراً عند معنى التعبير القرآني أن تزل قدمٌ بعد أن كانت ثابتةً، يا له من معنىً؛ فيه وصفٌ للإنسان المسلم الصالح مستقيم الحال عندما يقع في شرٍ عظيمٍ ويسقط فيه؛ لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حالِ خيرٍ إلى حالِ شرٍ والعياذ بالله.

أحبتي في الله .. تقول العرب لكل مبتلىً بعد عافيةٍ أو ساقطٍ في ورطةٍ: زلت قدمه؛ كقول الشاعر:   
سيمنع منك السبق إن كنت سابقاً
وتُقتل إن زلت بك القدمان
ويقول العلماء في معنى هذه العبارة القرآنية: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ أي: تضلوا بعد أن كنتم على الهدى، وجاء التعبير عن هذا المعنى بهذه الصورة الحسية المعلومة للقاصي والداني، والعالم والجاهل؛ تعميقاً لقبح عاقبة الخداع بالعهود، حيث أن ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ﴾ تفيد صورة انزلاق القدم وسقوط صاحبها أرضاً، وهي صورةٌ مرئيةٌ محسوسةٌ، فكم رأينا ممن زلت أقدامهم فسقطوا أرضاً؟! كذلك هي صورةٌ واقعةٌ بنا نعرف طعم ألمها، فمن منا لم تنزلق قدمه في يومٍ من الأيام، ومن منا لم يذق ألم السقوط؟! ولأنها صورةٌ مُستحضَرةٌ في الذهن، ومستحضرةٌ في الشعور، فهي أدعى للتذكير والتحذير.

﴿بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ الزلل لا يكون إلا بعد الثبوت، فلماذا ذكر الثبوت؟ إن في ذكر الثبوت زيادةٌ في بيان قبح العاقبة، وبيانٌ للخسران الذي وقع لمن خدع في عهده، فإنه اختار الزلل على الثبات والأمان، وإشارةٌ إلى أن الوفاء بالعهود هو الثبات والحق.
﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾، كلمة ﴿تَذُوقُوا﴾ أي: تحسوا به إحساساً عظيماً، و﴿السُّوء﴾ هو ما يسوء الإنسان ويؤلمه وينغص عليه صفو حياته، والمقصود به في هذه الآية ما يصيب العاصي في الدنيا، وذلك بدلالة الآية ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾ أي: في الدنيا ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي: في الآخرة.

ولأن العبرة في آيات القرآن الكريم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فإن هذه الآية الكريمة مثلٌ وعبرةٌ لنا للثبات إذا حاول الشيطان أن يغوينا ويضلنا بعد إذ هدانا الله.

ولنا في الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ في ثباته على الدين وثباته على المبدأ؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم في مسيرة دعوته وجهاده مثالاً ونموذجاً في الثّبات، فحفلت سيرته الطّاهرة بكثيرٍ من المواقف والأحداث التي دلّت على ذلك؛ ومن ذلك:
حصار كفّار قريش لبني هاشم، فاجتمعت قريش وبنو كنانة على حرب المسلمين من خلال مقاطعة بني هاشم في شعاب مكّة اقتصاديّاً واجتماعيّاً، حيث منعت النّاس من أن يبتاعوا أو يشتروا منهم، كما منعتهم من الزّواج منهم أو الاختلاط بهم، واستمرت تلك المقاطعة ما يقارب ثلاث سنوات، لكنّها لم تُلن من عزيمة النّبي عليه الصّلاة والسّلام وثباته، حيث استمر بالدّعوة إلى دين الله تعالى، وتبليغ الرّسالة لقبائل العرب في مواسم الحجّ.
كذلك رفضه عليه الصّلاة والسّلام لكلّ الإغراءات التي عرضها الكفّار عليه؛ كأن يصبح ملكاً سيّداً عليهم، أو أن يجمعوا له الأموال حتّى يكون أغنى رجلٍ منهم، وغير ذلك من الإغراءات.
وثباته عليه الصلاة والسلام في غزوة حُنين، ففيها تعرّض المسلمون إلى محنةٍ شديدةٍ وبلاءٍ عظيمٍ حينما تكالبت عليهم جموع الكفّار، وفي تلك المعركة أبدى النّبي عليه الصّلاة والسّلام ثباتاً مشهوداً حينما وقف يدعو المسلمين الفارّين من أرض المعركة إليه، ثمّ رفع صوته يستنفر المسلمين للالتفاف حوله قائلاً: [أنَا النَبيُّ لا كَذِبَ، أنا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب]، وكأنه يقول لهم: (الثبات الثبات يا عباد الله)، فاجتمع حوله المسلمون من جديدٍ ليعودوا إلى المعركة، وتميل الكفّة لصالحهم فيتحقّق لهم النّصر من عند الله تعالى.
وأيضاً ثباته صلى الله عليه وسلم أمام ما كان يتعرّض له من المكر والأذى، فحاول الكفّار أكثر من مرّةٍ أن يقتلوه، ومن ذلك محاولة أبي جهل الآثمة التي ارتدّ بعدها خائباً على عقبيه مرتعداً.

ومن قصص الثبات التي كلما تذكرتها نزلت عبراتٌ ساخنةٌ من عيني؛ ثبات ماشطة ابنة فرعون:
عَنِ ‏‏ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ‏‏قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي ‏‏أُسْرِيَ ‏‏بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا ‏جِبْرِيلُ‏،‏ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ ‏‏مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ ‏‏وَأَوْلادِهَا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ ‏‏فِرْعَوْنَ ‏‏ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتْ ‏‏الْمِدْرَى {هي حديدةٌ يُسوَّى بها شعر الرَّأس} مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ ‏ ‏فِرْعَوْنَ:‏ ‏أَبِي؟ قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ، قَالَتْ: أُخْبِرُهُ ‏‏بِذَلِكَ! قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلانَةُ؛ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ؛ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ {بقرة من نحاس ربَّمَا كانت قِدراً كبيرةً واسعةً، فسماها بقرة، مأخوذاً من التَّبقُّر: التوسع، أو كان شيئاً يَسع بقَرةً تامَّةً بِتَوابِلِها فسمِّيت بذلك}، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ‏ ‏تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا ‏‏أُمَّهْ؛‏ ‏اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ]. ‏‏قَالَ ‏‏ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ‏"تَكَلَّمَ أَرْبَعَةُ صِغَارٍ: ‏‏عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ‏‏عَلَيْهِ السَّلام،‏ ‏وَصَاحِبُ ‏جُرَيْجٍ،‏ ‏وَشَاهِدُ ‏‏يُوسُفَ‏، ‏وَابْنُ ‏مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ".

وكذلك قصة أصحاب الأخدود وما فيها من شق المؤمن نصفين بالمنشار وهو ثابتٌ لا يتراجع عن دينه، وحرق المؤمنين أحياء في أخدودٍ أضرم الكفار فيه النار، وهم ثابتون على دينهم.
وثبات أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم خليل الرحمن أمام العديد من الابتلاءات حين أوقد قومه ناراً وألقوه فيها، وحينما ابتلاه الله سبحانه وتعالى برؤيا ذبحه لابنه إسماعيل.
وغير ذلك من مواقف الثبات على الحق لكل الأنبياء والرسل.

وللثبات على الحق عوامل كثيرةٌ من أهمها:
الدعاء؛ فإهمال الدعاء من أسباب الزيغ بعد الهدى، لأن الدعاء من عوامل الثبات على دين الله جل وعلا، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾. وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكْثِرُ من قول: [يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ]، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: [نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ].
ومن عوامل الثبات على دين الله قراءة القرآن العظيم؛ فالقرآن العظيم، من أعظم وسائل الثبات على دين الله، ولذا جعله الله سبحانه وتعالى مثبتاً لقلب النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نـزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا﴾ فقراءة القرآن بتأملٍ، وتدبرٍ، عاملٌ مهمٌ من عوامل الثبات على دين الله، وكلما ارتبط المؤمن بالقرآن، كان أكثر يقيناً وثباتاً.
ومن عوامل الثبات على دين الله أصدقاء الخير؛ لقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.
ومن عوامل الثبات على دين الله، البعد عن محقـرات الذنوب؛ فإن من أهم أسباب الضلالة بعد الهدى، الاستهانة بالذنوب والمعاصي فاستهانة كثيرٍ من الناس بمحقرات الذنوب وصغارها يضعف الإيمان في القلب شيئاً فشيئاً، لذا قال صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ]. وعَنْ السيدة عَائِشَة رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: [يَا عَائِشَة إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوب فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّه طَالِبًا].

أحبتي .. لولا ثبات الرسول عليه الصلاة والسلام وثبات أصحابه رضوان الله عليهم والتابعين ما وصلنا هذا الدين القيم كاملاً تاماً على الوجه الذي ارتضاه ربنا لنا؛ فعلى كلٍ منا أن يتأسى بهم ويسعى للثبات على دين الله؛ لأنه لا يأمن أحدٌ الفتنة خاصةً مع تتابع الفتن، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: [بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ. يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيْهَا مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً. أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً. يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا].

اللهم اجعلنا من أهل الثبات، واجعل صيحتنا (الثبات الثبات يا عباد الله) تصل إلى كل مسلمٍ فتزيده ثباتاً إلى ثباتٍ خوفاً من زلل الأقدام، وقانا اللهم وإياكم أن تزل أقدامنا بعد ثبوتها. اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/ZL1mbY