الجمعة، 31 يناير 2020

يا جبار اجبر كسري


الجمعة 31 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٤
(يا جبار اجبر كسري)

تقول إحدى الأخوات: تزوجتُ ثم شاء الله أن أتطلق من زوجي؛ فعشتُ مع أمي وأبي، وكانا وحيدين بعد زواج إخوتي وأخواتي، واحتسبتُ الأجر وصبرتُ وكنتُ أقوم على خدمتهما فأشعر بلذةِ الطاعة.
في يومٍ من الأيام ذهب والداي إلى منطقةٍ أخرى لزيارة أحد أقاربنا، وشاء الله -سبحانه وتعالى- أن يُتوفيا في حادث مرور؛ فكانت فاجعة فقدان الوالدين هي أكبر الآلام التي عشتُها في حياتي. ثم انتقلتُ للعيش مع إخوتي، وكنتُ أتنقل بينهم؛ بين كل فترةٍ وفترةٍ أذهب إلى منزل أحدهم، ولكن زوجات إخوتي لم يكنّ يرغبن بوجودي معهن ويَرين أن وجودي يُقلل من راحتهن ويُقيد من حريتهن. ذهبتُ في مرةٍ إلى منزل أحد إخوتي، وكلما عاد من عمله نقلت له زوجته كلاماً عني وأنني أضايقها وأتدخل في شؤونها هي وأبنائها؛ فيقتنع أخي بكلامها ويغضب مني، وكم كنتُ أسمع من إهانةٍ وتجريحٍ بسبب ما يُنقل عني زوراً وبهتاناً. ويتكرر الأمر مع جميع زوجات إخوتي؛ أتنقل من منزلٍ إلى آخر لا أملك إلا دمعتي أمامهم. كنتُ أعاني من ظلم إخوتي وظلم زوجاتهم، ولم يكن لي إلا الدعاء وتفويض أمري إلى الله سبحانه وتعالى؛ فما كنتُ أجلس ولا أقوم ولا أعمل إلا وأنا أدعي بهذا الدعاء موقنةً به مفوضةً أمري إلى الله جلَّ شأنه: (يا جبار اجبر كسري).
انتقلتُ للعيش الدائم عند أحد إخوتي، فجعل لي غرفةً مخصصةً وحدوداً بمنزله لا أتعداها؛ فلا أرى أبناءه ولا أخالطهم! وكلما تذكرتُ مصيبتي أردد: (يا جبار اجبر كسري).
في أحد الأيام طرق باب أخي رجلٌ يكبرني بعشرين عاماً -وكان متزوجاً وعنده سبعةٌ من الأبناء- طالباً يدي للزواج، وافق أخي على الفور دون أن يستشيرني؛ فقد أراد أن يتخلص مني لأني أصبحتُ ثقيلةً عليه، ولا أنسى ما قاله لي أخي يومها: "كفانا اللهُ شَرَّك"! كنتُ أبلع الكلام وأتحمل التجريح منه لأنني لو تكلمتُ فسيتم طردي من بيته ولا يهمه أين أذهب! كنتُ صابرةً محتسبةً، ودمعتي على خدي؛ فلا سندٌ لي سوى الله سبحانه، وكنتُ أردد دائماً: (يا جبار اجبر كسري).
تم عقد الزواج، ولم أرَ زوجي إلا مرةً واحدةً عندما ذهبنا إلى المحكمة الشرعية لإتمام العقد، واتفقنا على أن يتم الزواج بعد أسبوعين، لم يتكلف إخوتي عناء السؤال عن زوجي، فقد كان همهم الوحيد -هم وزوجاتهم كذلك- أن أتزوج، فقد كانوا كلهم يريدون فقط الخلاص مني. ذهب الرجل، ولم نكن نعرف عنه شيئاً سوى ذاك اليوم الذي أتى فيه، ومرَّت أيامٌ وأسابيع، ومرَّت شهورٌ دون أن نعلم عنه شيئاً. ازداد ظلم إخوتي لي، وكنتُ أسمع منهم كلماتٍ جارحةً؛ يقولون إن وجهي شؤمٌ، وعتبتي فقر. وظننتُ أن هذا الرجل الكبير قد غيَّر رأيه وتركني معلقةً، فلم أجد سوى الدعاء: (يا جبار اجبر كسري).
في أحد الأيام -بعد مرور أربعة أشهر- إذا بطارقٍ يطرق باب بيت أخي يسأل عني! كان شاباً في الثلاثين من عمره، عرَّف نفسه بأنه ابن زوجي الغائب، أدخله أخي إلى غرفة استقبال الضيوف، ثم ناداني وطلب مني أن أقابل ابن زوجي، ولما دخلتُ عليه بالغرفة أنا وأخي قام وسلم عليّ، وكان مظهره يدل على أنه شابٌ خلوقٌ ووقورٌ، تبدو عليه سمات الصالحين، ثم جلسنا، قال الشاب: "أنا ابن فلانٌ -وذكر اسم والده- وقد صار لوالدي حادثٌ تُوفي على إثره، ووجدنا بسيارته وثيقة عقد زواجٍ تثبت أنه قد تزوج منكِ، ولم أستطع القدوم إليك إلا بعد انتهاء واجب العزاء لوالدي"، سكت للحظات وكأنما يترحم على والده ثم قال: "كان والدي ثرياً، وبعد وفاته تم تقسيم أملاكه بعد أن حصرناها جميعها، وأنتِ من ضمن ورثة والدي، وقد ورثتِ عنه منزلاً فخماً ورصيداً في البنك بالملايين، وقد أتيتُ إليكِ اليوم كي أسلمك هذه الأمانة، وأسألك عمن سيكون وكيلاً لك على أملاكك"، أُصبنا بالذهول أنا وأخي، نظر أخي إليّ وكأنه يقول: "اجعليني وكيلك"، أعاد الشاب عليّ السؤال: "مَن ستوكلين حتى تستلمي نصيبك من الميراث؟"، قلتُ له دون تردد: "أنت، نعم أنت مَن سأوكله"، قلتُ ذلك وأنا مازلتُ في حالة صدمةٍ وذهول. انصرف الشاب بعد أن قال بأنه سيأتي اليوم التالي لأذهب معه إلى منزلي الجديد. تركنا الشاب وأنا وأخي مازلنا في ذهولٍ مما سمعنا منه. لمّا سمع باقي إخوتي وزوجاتهم بما جرى صاروا يتسابقون كلهم في الاتصال بي وتقديم التهاني لي؛ لقد تغيروا تماماً، سبحان الله؛ غيَّر المال نفوسهم!
حزمتُ أمتعتي وانتظرتُ في اليوم التالي، وعندما أتى الشاب ذهبتُ معه أنا وإخوتي، دخلتُ منزلي الجديد، واللهِ لم أصدق ما رأته عيناي، كان المنزل فخماً جداً، وكان مجاوراً لمنزل زوجته الأولى وأبنائه.
مرت عدة أيامٍ وإذا بزوجته تأتي لزيارتي وتقول: "أنا مريضةٌ، وأنا مَن طلبتُ منه أن يتزوج؛ فما عدتُ أستطيع أن ألبي احتياجاته، وقلتُ له تزوج امرأةً تصغرك سناً"، وقالت لي أيضاً: "سنكون أنا وأنتِ أخواتٍ من الآن، وأولادي هم أولادك، وابني الكبير اعتبريه أخاً لكِ".
فواللهِ ثم واللهِ إني أعيش في سعادةٍ معهم؛ أبدلني الله خيراً من منازل إخوتي، وعشتُ مع أسرتي الجديدة في سعادةٍ، وكان أبناؤه وبناته يغمرونني بحنانهم وبِرهم بي، بِراً بوالدهم المتوفى، وكانت زوجته نِعم الأخت لي، وتذكرتُ دعائي لربي: (يا جبار اجبر كسري). أراد الله أن يجبر كسري، فجبره بدعائي هذا، وهو يعلم مدى إخلاصي ويقيني.

أحبتي في الله .. إن اسم الله “الجبار” من أسماء التعظيم والتنزيه، يدل على معاني العظمة والكبرياء، وهو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار؛ فهو سبحانه جبارٌ يقهر الجبابرة؛ فكل جبارٍ هو تحت قهر الله عزَّ وجلَّ وجبروته وفي يده وقبضته. ومن بين معاني اسم الله "الجبار" أنه هو الذي يَجبُرُ الضعيف وكل قلبٍ منكسرٍ؛ فيَجبُر الكسير، ويُغني الفقير، ويُيسر على المعسر كل عسيرٍ، ويُجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر، ويعوضه عن مصابه أعظم الأجر، وإذا دعا الداعي فقال: (يا جبار اجبر كسري) فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته دفع المكاره عنه.
وقد ورد اسم "الجبار" في القرآن الكريم في موضعٍ واحدٍ، هو قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده مسبحاً: [سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ]، وكان يدعو بين السجدتين يقول: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي].
و"الجبر" يكون مداواةً للكسر، وتأتي منه الجبيرة التي تداوي كسر العظام. إن كلمة "الجبر" من الجبيرة التي نضعها على العظم المكسور حتى يلتئم. و"الخاطر" هو القلب أو النفس؛ فيُقال "أخذ على خاطره" بمعنى حزن وتأثر قلبه.

يقول العلماء: لمن يذهب المكسور إلا لربه الجبار؟ ولمن يشتكي المظلوم إلا للجبار الرحيم؟ ولمن يلجأ اليتيم الضعيف إلا للجبار؟ ولمن يعود المريض الذي ضاقت به الحيل إلا إلى الجبار سبحانه؟! الحياة كلها آلامٌ وانكساراتٌ وابتلاءاتٌ وصراعاتٌ لكن "الجبار" سبحانه يرحم عباده، فيرأب الصدع ويلم الشمل ويُغني الفقير ويجبر الكسير ويُعطي المحروم، لذلك كلما جئناه من باب الخضوع والتذلل والانكسار جبر كسرنا ولمَّ شعثنا ورأب صدعنا وأعزنا؛ فهو المصلح إنْ جبَر الفقير أغناه، وإنْ جبَر المريض شفاه، وإنْ جبَر الذليل أعزه، وإنْ جبَر الضعيف قواه، وإنْ جبَر الخائف أمّنه، فالجابر هو المصلح و"الجبار" كثير الإصلاح. إذا انكسرتَ ولجأتَ إلى الله مخلصاً متذللاً فلن يُرجعك خائباً، قد يؤخر الجبر لحكمةٍ يعلمها، لكنه لن يُضيعك أبداً، لابد وأنْ يُجبرك، قد يكون ذلك تدريجياً، لكنه -سبحانه وتعالى- سيجبر خاطرك ويأخذ لك حقك ممن ظلمك ولو بعد حين؛ فهو جبارٌ للمظلومين والمنكسرين، جبارٌ على الظالمين.

وإذا كان الله -بقوته وقدرته- يُجبر كسر الضعيف منا، ألا يجدر بنا أن نجبر -نحن الضعفاء- كسر أنفسنا؟
يقول أحد العارفين: “ما رأيتُ عبادةً يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.
ويقول آخر: ‏جبر الخواطر خلقٌ إسلاميٌ عظيمٌ يدل على سمو نفسٍ وعظمة قلبٍ وسلامة صدرٍ ورجاحة عقلٍ، يُجبر المسلم فيه نفوساً كُسرت وقلوباً فُطرت وأجساماً أُرهقت، فما أجمل هذه العبادة وما أعظم أثرها؛ فجبر الخواطر يجعل القلوب تشرق من جديدٍ على بستان الحياة.
وليكن من جبرك للخواطر كلمةٌ طيبةٌ أو همسةٌ في أذنٍ؛ فكما قال الشاعر:
لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ
فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ

يقول عالمٌ فاضلٌ: قد تكون العبادات قليلةً، قد تكون الطاعات غير كثيرةٍ، قد لا يكون هذا المسلم ممن يقوم الليل أو ممن يتهجد أو يصلي النوافل، قد لا يكون متحلياً بشيءٍ من ذلك، لكنه ممن وفقه الله عزَّ وجلَّ إلى أن يكون جباراً للخواطر الكثيرة، وماسحاً عن الأفئدة المكلومة قتام الحزن، يجلو عنها الشعور بالآلام والمصائب، مع قصده بذلك رضا الله، إذا كان كذلك فليعلم أنه محبوبٌ من قبل الله -سبحانه وتعالى- وأنه ذو حظٍ عظيم.

أحبتي .. إذا كنتم مظلومين فلا تنسوا هذا الدعاء (يا جبار اجبر كسري) ولن يُخيب الله سبحانه وتعالى ظنكم؛ فهو مَن يجبر كسر المظلومين. وإذا كنتم ظالمين -ولو ظلماً بسيطاً هيناً من وجهة نظركم- فلا تنسوا أن الجبار سبحانه وتعالى يتوعد كل ظالمٍ، يُمهل ولا يُهمل، وإن أخذه للظالمين ﴿أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾، فبادروا إلى رفع الظلم بالرجوع إلى جادة الصواب ورد المظالم إلى أهلها أو طلب إبرائكم منها. وإذا لم تكونوا مظلومين ولا ظالمين فاحمدوا الله أن عافاكم مما ابتلى به غيركم، واحرصوا على كسب المزيد من الأجر بعبادةٍ سهلةٍ ميسرةٍ ألا وهي جبر الخاطر لكل شخصٍ مكسورٍ ولو بكلمةٍ طيبة.
اللهم يا جبار السماوات والأرض اجبرنا جبراً يليق بك، جبراً أنت أهله ووليه. يا ناصر المستضعفين انصرنا، يا جابر المنكسرين اجبر كسرنا، الله أعنا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا.


الجمعة، 24 يناير 2020

البر بالأب


الجمعة 24 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٣
(البر بالأب)

كتب أحدهم مقالاً تأثرتُ به حين قرأته، كتب عن الأب فقال: في صغرك، تلبس حذاءه فتتعثر من كبر حذائه وصغر قدمك، تلبس نظاراته فتشعر بالعظمة، تلبس قميصه فتشعر بالوقار والهيبة، يخطر ببالك شيءٌ تافهٌ فتطلبه منه فيتقبل منك ذلك بكل سرورٍ ويحضره لك دون مِنَةٍ، يعود إلى المنزل فيضمك إلى صدره ضاحكاً وأنت ﻻ تدري كيف قضى يومه وكم عانى في ذلك اليوم في عمله.
واليوم في كبرك، أنت ﻻ تلبس حذاءه فذوقه قديمٌ ﻻ يعجبك، تحتقر ملابسه العتيقة وأغراضه القديمة ﻷنها ﻻ تناسب ذوقك، أصبح كلامه ﻻ يلائمك، وسؤاله عنك هو تدخلٌ في شؤونك، وذلك ﻻ يروق لك، حركاته تصيبك بالحرج وكلامه يشعرك بالاشمئزاز، إذا تأخرتَ وقلِق عليك وعاتبك على التأخير حين عودتك تشعر أنه يضايقك، وتتمنى لو لم يكن موجوداً لتكون أكثر حريةً، رغم أنه يريد الاطمئنان عليك ليس إﻻ، ترفع صوتك عليه وتضايقه بردودك وكلامك فيسكت ليس خوفاً منك بل حباً فيك وتسامحاً معك، إن مشيَ بقربك محني الظهر ﻻ تمسك يده فلقد أصبحت أنت أطول منه. كنتَ باﻷمس القريب تتلعثم بالكلام وتخطئ في الحروف؛ فيضحك مبتسماً ويتقبل ذلك برحابة صدر، وأنت اليوم تتضايق من كثرة تساؤﻻته واستفساراته بعد أن ضعف سمعه ووهن نظره، لم يتمنَ أبوك لك الموت أبداً؛ ﻻ في صغرك وﻻ في كبرك، وأنت تتمنى له الموت فهو يضايقك في شيخوخته! تحملك أبوك في طفولتك، في جهلك، في سفهك، في رعونتك، في عوزك، في شدتك؛ تحملك في كل شيء، فهل فكرت يوماً أن تتحمله في شيخوخته ومرضه؟ وذلك هو (البر بالأب). أحسن إليه؛ فغيرك يتمنى رؤيته من جديد.

أحبتي في الله .. يذكرني هذا بما كتب أحد الآباء فقال: الغريب أن الأبناء لا يكتشفون حبّهم الجارف لآبائهم إلا متأخراً، إما بعد الرحيل، وإما بعد المرض وفقدان الشهية للحياة، وهذا حبٌ متأخرٌ كثيراً حسب توقيت الأبوة.
الآن كلما تهتُ في قرارٍ، أو ضاقت عليّ الحياة، أو ترددتُ في حسم مسألةٍ تنهّدتُ وقلتُ: أين أنت يا أبي؟ لو كنتُ أعرف أن العمر قصيرٌ إلى هذا الحد لكنتُ أكثر قرباً من أبي. نحن نعرف قيمة الملح عندما نفقده في الطعام، وقيمة الأب عندما يموت ويشغر مكان جلوسه في البيت؛ إذ عندما يموت يفتقد الأبناء وجود ذلك البطل في حياتهم، فهو الذي كان يقودهم بثباتٍ إلى بر الأمان؛ فالأسرة كلها مع الأب في رحلة الحياة كراكبي قطارٍ في سفرٍ طويلٍ لا يعرفون قيمة قائد القطار إلا عندما يتعطل بهم، ويبدأ قائده في التفاني لإصلاحه وإعادة تشغيله رغم ضخامته. الأب وحده هو الذي لا يحسد ابنه على موهبته وتفوقه بل يتباهى به ويفرح ويفاخر، والأب وحده هو الذي يُخفي أخطاء ابنه ويتسامح معه وينساها، والأب وحده الذي يريد لنفسه أن يكون أفضل الناس يتمنى أن يكون ابنه أفضل منه، تأنيب الأب لابنه مؤلمٌ في حينه لكنه دواءٌ ناجعٌ حلو المذاق بعد التعلم منه، تأنيب الأب يصدر من جوار قلبه لا من جدار قلبه إذ يتألم وهو يؤنب ابنه؛ فقلب الأب هبة الله الرائعة لأبنائه.

أمرنا الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين وبرهما؛ يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾، ويقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾، ويقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.

فلا حق على الإنسان أعظم ولا أكبر -بعد حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم- من حقوق الوالدين وبرهما، والحديث عن بر الوالدين ارتبط لدى البعض ببر الأم حتى كاد يُنسيهم أن للأب حقاً هو الآخر من البر، وإن كان حق الأم مقدماً على حقه، فلا ننسى أبداً (البر بالأب)، ولا ننسى أن نقدمه للأم مضاعفاً.
ومن أعظم صور بر الابن بأبيه ما ورد مفصلاً في القرآن الكريم عن: بر إبراهيم عليه السلام بأبيه رغم كفره، وعن بر إسماعيل عليه السلام بأبيه إبراهيم.

ولقد خصَّ نبينا صلى الله عليه وسلم، (البر بالأب) بأحاديث منها:
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: [لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ‏]، كما قال: [ثلاثُ دعَواتٍ مُستَجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ دَعوةُ الوالِدِ، ودَعوَةُ المسافِرِ، ودعوَةُ المَظلومِ]، وقال كذلك: [الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ].
يقول أهل العلم إن للأب عليك حقاً في البر لأنه هو سبب وجودك في الحياة، وما أنت إلا بَضْعةٌ منه، وهو مبعث الاستقرار، وهو ملاذك بعد الله. به تقوى قلوب الأبناء، وتزهو نفوسهم، وتحل الطمأنينة في حياتهم، وهو الذي يكد ويكدح من أجل تحقيق حياةٍ آمنةٍ حافلةٍ بالاطمئنان والاستقرار المادي والمعنوي لأولاده، وهو خبرة الحياة التي يحتاجها الأبناء لحل ما يواجهونه، وما يقابلونه من مشكلاتٍ وصعوباتٍ. وللأب حق البر والتكريم مهما بلغ سنه، ويتحتم ذلك ويزداد عند كبر سنه وشيخوخته؛ اخفض له جناح الذل من الرحمة، فللأب حق الإحسان والطاعة، وله حُسن الصحبة والعِشرة، والأدب في الحديث، وطيب المعاملة، إن تحدث فلا تقاطعه، وإن دعاك فأجبه، ولا تمشِ بين يديه ولا أمامه، حيّه بأحسن تحية، وقبّل رأسه ويديه، وتلزمك النفقة عليه إذا احتاج إلى ذلك؛ تذكر حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ].

يقول أحدهم: أزعم أني كنتُ باراً وطائعاً لأبي، ولا أتذكَّر أني عصيتُه أو أحزنتُه، لكني اليوم -وبعد أن فارقَنا والدي- أشعر بالندم عندما كنتُ أعرِضُ عليه خدمةً أو منفعةً أو هديةً فيعتذر ويقول: "شكراً" فأُصدِّقُهُ، وكنتُ أعتقد أنه لو أراد شيئاً لأخبرني بذلك. اليوم عندما كبرتُ، وأصبحتُ أباً عرفتُ كذِبَ الآباء عندما يقولون "شكراً"! وتنبَّهتُ لغباء الأبناء عندما يصدقون آباءهم حين يقولون "شكراً"؛ فيعتبر الأبناء أن آباءهم لا يريدون حقاً. أيها الأبناء والبنات؛ لا تصدِّقوا آباءكم حين يقولون لكم إذا عرضتم عليهم أو قدمتم لهم شيئاً "شكراً" إنما يقولونها ذوقاً وتَعفُّفاً ومراعاةً لظروفكم، وخجلاً من إتعابكم وإرهاقكم. أيها الأبناء أسعدوا آباءكم دون إذنٍ، ولا تكونوا بخلاء ولا أغبياء، ولا تحرموا أنفسكم الخير الكثير الذي يأتيكم نتيجة (البر بالأب). سامحني يا أبي فكم كنتُ غبياً!

وصدق من قال: الأب هو الرجل الوحيد في العالم الذي يأخذ من نفسه ووقته وعمره وسعادته ليعطيك كل ما تريد، قد لا يكون أعطاك كل ما تتمناه، لكن تأكد أنه أعطاك كل ما يستطيع وكل ما يملك، ولو أنّ الأماني تُعيد لنا ميتاً رحل، لقبلتُ أقدام الأماني حتىٰ يعود أبي؛ فجازوا آباءكم بالإحسان إحساناً، وكونوا بارين بهم أحياءً، وأشد براً بهم أمواتاً.

ومن مظاهر (البر بالأب) في حياته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ]، ومن مظاهر ذلك بعد موته؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ].

أحبتي .. هذا هو مقام الأب ومكانته في الإسلام. وكلمتي أوجهها لكل أب: كُن صالحاً يُصلح الله لك أبناءك؛ يقول تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ صلاحك لنفسك ولأبنائك، فلا تكن معاملتك لهم سبباً في عقوقهم لك وعدم برهم بك. وكلمتي أوجهها لكل ابنٍ وبنت: عليكم ببر آبائكم واحترامهم -وإن جفوا أو قصروا- تقصيرهم لأنفسهم أما بركم فهو لكم، بروهم وأقسطوا إليهم، وأكرموهم قبل أن يأتي يومٌ تندمون فيه وتقولون يا ليت. وورد في الأثر: "برُّوا آباءَكم، تبرُّكم أبناؤكم".
اللهم سامحنا إن قصَّرنا فيما مضى، ووفقنا لبر آبائنا فيما بقي من أعمارنا وأعمارهم. اللهم احفظ الأحياء من آبائنا، وارحم الموتى منهم واجمعنا بهم في الفردوس الأعلى من الجنة يا رب العالمين.


الجمعة، 17 يناير 2020

دعاةٌ مجهولون


الجمعة 17 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٢
(دعاةٌ مجهولون)

قبل عدة سنواتٍ، كان صاحبنا السعودي في رحلةٍ إلى قرقيزيا "إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً، تقع على الحدود مع الصين"، كتب يقول: دُعيت إلى زيارة شيخٍ كبيرٍ تجاوز السبعين من عمره، كان داعيةً من الجيل الأول، وكان يتكلم العربية الفصحى بلكنةٍ أعجميةٍ، إلا أنه ضليعٌ في علوم الشريعة، ذو باعٍ طويلٍ في الدعوة والإصلاح. كانت ضيافته كريمةً، حاول تدريبنا فيها على أكل الأرز بالأعواد الصينية، فكان لا يعلق بأعوادنا إلا الحبة والحبتين بعد عناءٍ، ثم تسقط في الطريق فلا تصل إلى أفواهنا إلا الأعواد الخالية، حتى اضطررنا لاستخدام الأيدي النجدية المحترفة في التعامل مع الأرز. انساب الحديث عذباً شيقاً مع هذا الشيخ الكريم عن جهودهم الدعوية، وجهادهم الإصلاحي الطويل، وتحت ضغط الفضول العارم سألتُه: "يا شيخ! كيف درَستَ كل هذه العلوم، وكوّنتَ كل هذه الحصيلة العلمية، وقد كنتم إلى عهدٍ قريبٍ في قرقيزستان تحت الحكم الشيوعي الغاشم الذي كان يقتل من ينطق العربية، أو يتسمى باسمٍ إسلامي، فضلاً عمّن يمارس شعائر الإسلام الظاهرة، وأنت يا شيخ وُلدتَ ونشأتَ تحت هذا الحكم، عشتَ صدر حياتك تحت هذا الحكم الشرس الذي انتهز فرصة سقوط الخلافة فطمس كل مظاهر الإسلام، وأعدم من المسلمين ما يزيد عن عشرين مليون مسلمٍ، وفرض الإلحاد، فلم يترك للمسلمين أية فرصةٍ لممارسة شعائر دينهم، فضلاً عن العمل في ميدان الدعوة والإصلاح"؟! تبسّم الشيخ الكبير، ورفع صدره إلى الأعلى، وكأنه يستنشق رائحة الظفر بعد الصبر، والانتصار بعد الانكسار، والفرج بعد الشدة والكرب، وقال: "نعم، كنّا تحت حكمهم، لكن لم نستسلم لهم!! كنّا أقوى منهم بإيماننا، وإصرارنا، وقدرتنا على التكيّف. كان آباؤنا يحفرون أنفاقاً تحت الأرض على عمقٍ بعيدٍ، وهذه الأنفاق تُفضي إلى أقبيةٍ وإلى فصولٍ ومدارس تستوعب عشراتِ وربما مئاتِ الأطفال، كلها تحت الأرض. وكان الوالدان المسلمان إذا تجاوز طفلهما الخامسة من عمره تسللوا به في جُنح الظلام، وساروا بحذرٍ خلف مرشد المدرسة حتى يبلغ الطفل فوهة النفق -وعادةً ما تكون هذه الفوهة في حجرةٍ من بيتٍ مهدوم، أو خرابةٍ مهجورةٍ- وهنا تستلمه المدرسة وتُدخله النفق لينضم مع رفاقه تحت طباق الأرض، ليغيب لمدة سنتين أو ثلاثٍ لا يظهر، ولا يتصل ولا حتى بوالديه، لكنه يخرج وقد حفظ القرآن أو أكثره، ومن الحديث ما قُدِّر له، ومن علوم العقيدة والفقه واللغة العربية"، سألتُ الشيخ عما درَسوه في العربية فقال: "حفظتُ ألفية ابن مالك"! ثم تحامل على نفسه ونهض متثاقلاً إلى كوّةٍ في الجدار ومد يده النحيلة إلى كتابٍ متهالكٍ، فجاء به وفتحه أمامي؛ فإذا هو نسخته الخاصة من شرح ابن عقيل، وكنتُ مأخوذاً بالدهشة والعَجب البالغ من شيءٍ أراه بعينيّ، وأسمعه بأذنيّ، لو حكاه لي الثقاة لشككت فيه!
كانت الشيوعية جاثمةً بكل جبروتها وعسفها وقسوتها على الناس حتى ظنت أنها قد قدرت عليهم، وقطعت صلتهم بالإسلام؛ لكنّ جيلاً كان يترعرع تحت الأرض، ويتشرب الإسلام من مصادره؛ الكتاب والسنة، ويتضلع من أعمق وأجمع مراجع الشريعة واللغة، كان تحت الأرض دعاةٌ ومصلحون نذروا حياتهم لله، فغابوا في جوف الأرض حيث لا شمس ولا هواء، ولا لهو، ولا لعب، وإنما عملٌ شاقٌ مضنٍ خطيرٌ ثمنه حياة أحدهم ومن معه لو افتضح أمره!
كانوا يبنون جيلاً جديداً في أقسى ظرفٍ يمكن أن يمر به مجتمع، ما يئسوا، وما ضعفوا، ولا استكانوا، ولا ألقوا السلاح، وما خضعوا لواقعهم المتوحش ولا استرهبتهم سطوته؛ فلما سقطت الشيوعية، وطوتها سُنة الله في الأشجار الخبيثة، خرجت طلائع ذلك الرعيل إلى الشمس لتعيد البلاد إلى هويتها، والعباد إلى دينهم، فما هي إلا بضع سنواتٍ حتى كانت حواضر تلك الولايات الشيوعية تضج بالأذان والصلاة من مساجدها التي لا تُحصى، وبأئمتها ودعاتها الذين نبتوا في تلك السنوات العجاف، وفِي أعماق الأرض!

أحبتي في الله .. يقول راوي القصة: هذا الدين مكينٌ، راسخٌ، أنزله الله ليبقى، ولينتصر، ولن تطمسه أية قوةٍ مهما بلغت قدرتها وشراستها؛ لكن قد يُبتلى الدعاة بأيامٍ شدادٍ، ليمتحن الله صدقهم وصبرهم، ليميز الله اليائسين الضعاف المهازيل من الأقوياء ذوي الصدق واليقين، فإذا ألقى الدعاة السلاح وأسلموا الثغور تحجّجاً بالظروف القاسية، وتذرعاً بالتغيرات الجارفة، إذا جلسوا يبكون على أبواب الدعوة التي أُقفلت، وتركوا خلفهم ألف بابٍ مفتوحٍ، وألف حيلةٍ ممكنةٍ، وألف وسيلةٍ متاحةٍ؛ فاعلم أنهم وقعوا في حبائل اليأس التي نصبها لهم الشيطان، وأنهم ما امتثلوا أمر ربهم بالتحرّف للدعوة، والانحياز إلى الممكن من برامجها، ومشروعاتها المتاحة، وإنما استكانوا للعذر المصنوع، والحجة المزيفة، وخسروا شرف الصمود وأجر الصبر، ويوشك الله أن يستبدلهم بغيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.

هؤلاء الدعاة في هذه القصة (دعاةٌ مجهولون) ليسوا عرباً، مارسوا عملهم في الكهوف بإخلاصٍ تامٍ، ولسنواتٍ طويلةٍ، واثقين في وعد الله ثقةً كاملةً، أحسنوا الظن به، وتحملوا من أجل الدعوة إلى دينه كل المشاق والصعوبات التي نتصورها والتي لا نتصورها. هؤلاء (دعاةٌ مجهولون) لا يعلم أحدٌ منا أسماءهم، ولا يعرف صورهم، وهبوا أنفسهم بغير حدودٍ لقضية العمر، يعيشون من أجلها، ويموتون دونها؛ فحفظوا دين الله ونقلوه إلى أبنائهم بكل إخلاصٍ وتفانٍ وصدق؛ امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾.
إنها الدعوة إلى الله أُمِرَ بها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام؛ بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾. وشرَّفه الله بأن وصفه بأنه داعٍ إليه ينير طريق الهداية للبشرية جمعاء كما لو كان سراجاً منيراً؛ يقول تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾.
وهي الدعوة إلى الحق؛ يقول تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْئٍ﴾، ويقول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾، وهي الدعوة إلى الصراط المستقيم؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾. كما أنها دعوة جميع الرسل؛ يقول تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾. وهي دعوةٌ إلى النجاة من النار وغفران الذنوب؛ قالها مؤمن آل فرعون لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾، وقالها الجن: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.

يقول العلماء إن الدعوة إلى الله واجبةٌ على كل مسلمٍ ومسلمةٍ، كلٌ حسب قدرته وعلمه؛ يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، وهذا النص عامٌ، مطلقٌ في الزمان: ليلاً ونهاراً، ومطلقٌ في المكان: شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ومطلقٌ في الجنس: العرب والعجم، ومطلقٌ في النوع: الرجال والنساء، ومطلقٌ في السن: الكبار والصغار، ومطلقٌ في اللون: الأبيض والأسود، ومطلقٌ في الطبقات: السادة والعبيد والأغنياء والفقراء. فالدعوة لهؤلاء جميعاً واجبةٌ لأن هذا الدين لكل الناس؛ قال الله تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: [لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ]، كما قال: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً]، وقال أيضاً: [نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ، غيرُ فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ].
إن مقام الدعوة إلى الله من أشرف مقامات التعبد؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
ومن ثمرات الدعوة إلى الله مضاعفة الأجور؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، ومن ثمارها الهداية واعتبار الداعي إلى الله من المحسنين؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

والدعوة إلى الله واجبٌ على مجموع الأمة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فكل واحدٍ منا يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، فما قام به غيره سقط عنه، وما عجَز عنه لم يُطالب به.
ويحدد لنا الله سبحانه وتعالى منهج الدعوة وآدابها؛ يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، فكل مسلمٍ مطالبٌ بأن يكون داعيةً إلى الإسلام قدر ما يستطيع؛ فيبدأ بنفسه يصلح من نفسه ليكون قدوةً ونموذجاً ومثالاً طيباً للمسلم الصالح. ثم يكون مصلحاً لأسرته وعائلته وجيرانه وأصدقائه وزملائه، بالنصح والإرشاد والحكمة والموعظة الحسنة والصبر. ثم يكون سفيراً لدينه لغير هؤلاء من الناس؛ بسلوكه القويم ومعاملاته الراقية المتميزة التي تتسم بالصدق والأمانة والدقة والتواضع والبشاشة وعدم التحيز وسرعة الإنجاز.
ليست الدعوة إلى الله وظيفةً رسميةً، وليست قاصرةً على مؤسساتٍ بعينها ورجالٍ يعملون بها، وإنما هي واجبٌ علينا جميعاً.

أحبتي .. أولئك (دعاةٌ مجهولون) ضحوا بكل نفيسٍ وغالٍ من أجل الدعوة إلى الله الحق، وإلى الدين الذي أكمله لنا وأتمم به علينا نعمته؛ فماذا عنا نحن؟ ماذا قدمنا للدعوة؟ ليسأل كلٌ منا نفسه: "ماذا قدمتُ لديني؟" ثم يتصور للحظةٍ أنه يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى يسأله: "ماذا قدمتَ لدينك؟".
أحبتي .. إن كان منا مَن يجيد الكلام أو الكتابة، أو استخدام التقنيات الحديثة، أو التعامل مع شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، أو كان متميزاً في أي مجالٍ آخر، فليبادر إلى توظيف مواهبه وقدراته -وكلها من نعم الله عليه- في الدعوة إلى الله.
ما تزال الفرصة متاحةً أمامنا ونحن على قيد الحياة؛ أن يكون كلٌ منا داعياً إلى الإسلام قدر ما يستطيع؛ حَدِّد ما يمكن لك فعله، وابدأ بسرعةٍ في التنفيذ دون إبطاءٍ أو تسويفٍ، وحاسب نفسك بشدةٍ لا تراخيَ فيها، وبقسوةٍ لا لين معها، حتى تكون من المفلحين الفائزين.


الجمعة، 10 يناير 2020

الغافلون


الجمعة 10 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢١
(الغافلون)

كنت أتصفح بعض المجلات والدوريات الإسلامية فلفت انتباهي قصةٌ غريبةٌ وردت في إحدى المجلات الدينية التي تصدر في مونتريال بكندا. يقول كاتب القصة: صدف أن زرتُ إحدى العوائل المسلمة الميسورة هنا في كندا، وأصابتني الدهشة عندما وجدتُهم في سُباتٍ عميقٍ بعيدين عن الخالق عزّ وجلّ؛ حيث لا صلاة ولا دعاء ولا يعون شيئاً من الإسلام ولا السيرة، وكأنهم لم يسمعوا شيئاً عن الدين في حياتهم. وعندما طلبتُ منهم إحضار مصحفٍ فوجئتُ بأنّه لا يوجد لديهم أية نسخةٍ من القرآن الكريم! وبما أن زيارتي لهم كانت من أجل حل مشكلةٍ اعترضتهم، فقد انتهزتُ الفرصة لنصحهم وإرشادهم، وقلتُ بأنّ الله -سبحانه وتعالى– عندما يحب عبداً يبتليه ليعود إليه، وأنتم فإنّ الله ابتلاكم لتنتبهوا وتستيقظوا من سُباتكم وغفلتكم عنه سبحانه وتعالى. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، فلابدّ أن تبدءوا بالصلاة وتحاولوا أن تقرءوا بعض الأدعية وتقرءوا القرآن الكريم لتكون حياتكم سعيدةً مع الله، ولا سعادة من دونه. فهل توجد غفلةٌ أكثر من هذه؟ مسلمون خلا بيتهم من القرآن الكريم! وإن وُجد فهو للحفظ والزينة لا للتعلم والتدبر والقراءة! ولا صلاة يؤدونها! وإن أُديت فهي لإسقاط الواجب لا أكثر! وقد صدق سبحانه وتعالى حين قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.

أحبتي في الله .. نعم إنهم (الغافلون)، رأيتُ كثيراً منهم لكن ليس إلى هذه الدرجة من الغفلة؛ رأيتُ مِنَ الغافلين مَنْ يسعون بهمةٍ ونشاطٍ لمكاسب ومغانم الدنيا الفانية، وعندما يأتي وقت العمل للدار الباقية دار الخلود يكون الكسل وفتور الهمة، إن لم يكن النأي والإعراض! وجدتُهم مهتمين بأمر الرزق غافلين عن الرزاق ذي القوة المتين! الأولوية للعمل يخصصون له معظم وقتهم، أما الصلاة فلا وقت لها! يؤجلونها قليلاً ثم يؤجلونها كثيراً ثم يكتفون بصلاة الجمعة ثم يهملونها تماماً، وإن نصحتَ أحدَهم طلب منك أن تدعو له بالهداية! ورأيتُ مِن الغافلين مَن يجد كل الوقت للهو وتوافه الأمور؛ ولا وقت لديه لتحصيل ثواب صلاة الجماعة بالمسجد، ولا لحفظ أو تلاوة ولو القليل من القرآن الكريم، ولا لقيام الليل وإنْ بركعتين، يترك ذلك ليشاهد فيلماً أو حلقةً من مسلسلٍ أو مباراةً للكرة، تراه مشغولاً بمواقع الإنترنت وواتس آب وفيس بوك وغيرها! ورأيتُ مِن الغافلين مَن يجد سعةً من المال لرحلةٍ سياحيةٍ أو امتلاكِ منزلٍ أوسع أو شراءِ سيارةٍ أحدث، ولا يفكر في أداء فريضة الحج ويتعلل بقوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾؟! ورأيتُ مِن الغافلين مَن ينفق المال على تغيير هاتفه المحمول كلما ظهرت نسخةٌ حديثةٌ منه، أو ينفق المال على تربية قططٍ أو كلابٍ أو أسماكٍ أو طيورِ زينةٍ لمجرد المتعة، وكان الأولى إنفاق المال في إطعام الفقراء والمساكين ومساعدتهم أو كفالة الأيتام! أما أعجب حالات الغفلة التي رأيتُها فهم (الغافلون) عن ذِكر الله؛ فما أسهلها وما أيسرها من عبادةٍ عظيمةِ الثواب لا تُكلف شيئاً، لا تتطلب مالاً ولا تحتاج جهداً ولا تستهلك وقتاً، والكثير منا عنها غافلون!
أما تلك الأسرة المسلمة في كندا فلم أرَ في حياتي أكثر غفلةٍ منها!

كيف يغفل المسلم، وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾، لقد ظلم (الغافلون) أنفسهم بغفلتهم التي كانوا فيها؛ فيقولون يوم القيامة: ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾، فهل من مردٍ يومئذٍ أو عودةٍ أو سبيلٍ إلى توبةٍ؟ لا، فيومئذٍ يكون الأمر قد قُضي، فلا ينفعهم الندم ولا تفيدهم الحسرة؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾، فمن هم (الغافلون)؟
وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾.
و(الغافلون) أشار إليهم رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم حين قال: [لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ]، وحين قال عليه الصلاة والسلام للمهاجرات: [عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْؤُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفَلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ].

يقول أهل العلم إن من أعظم أسباب الغفلة؛ الجهل بالله عزَّ وجلَّ وأسمائه وصفاته، والاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها، وصحبة السوء، وحضور مجالس اللغو واللهو. وإن السبيل إلى وقاية النفس من الغفلة ومخاطرها يكون بذِكر الله تعالى؛ يقول سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾. وبقراءة القرآن؛ فبه تزكو النفوس، وتزول الغفلة والغشاوة عن القلوب، وتكون الذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، فيه هدىً ونورٌ، وموعظةٌ وشفاءٌ لما في الصدور. وبحضور مجالس العلم والذكر ومجالسة من يذكّرك بالله؛ فيَحُثك على ذِكره ويُسْمِعك كلامه، ويُحدثك عن رسول الله. وبالدعاء والتضرع إلى الله تعالى؛ فما أحوجنا إلى أن ندعوَ الله أن يُذَكِّرنا إذا نسينا، وأن يُنبهنا إذا غفلنا، وأن يرزقنا قلوباً طاهرةً وألسُناً ذاكرة. وبالمحافظة على الصلوات الخمس في جماعةٍ؛ فالغفلة تكون بترك الصلاة وتضييعها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن حافظَ على هؤلاءِ الصَّلَواتِ المَكتوباتِ لَم يكُن مِن الغافلينَ]. وبالحرص على قيام الليل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ]. وبالإكثار من ذكر الموت؛ فكفى بالموت واعظاً، وكفى به مُنبّهاً ومُذكراً.
يقول أحدهم: إن المرء لو نظر لأحوال الناس لوجدهم في غفلةٍ عظيمةٍ وجرأةٍ عجيبةٍ على الله، يسيرون في طريق المعاصي والشهوات، ويتهاونون بالفرائض والواجبات، فيتساءل: هل يُصدِّق هؤلاء بالجنة والنار؟ أم تراهم وُعدوا بالنجاة من النار وكأنها خُلقت لغيرهم؟
يقول الشاعر:
يا مَنْ بدنياهُ اشتغلْ
وَغَرَّهُ طولُ الأَمَلْ
الموتُ يأتي بَغْتَةً
والقبرُ صُندوقُ العَمَلْ
ويقول آخر:
أما واللهِ لو عَلِمَ الأنامُ
لِمَ خُلقوا لَما غَفلوا وناموا
لقد خُلقوا لِما لو أبصرتْهُ
عيونُ قلوبِهم تاهوا وهاموا
مَماتٌ ثم قَبرٌ ثم حَشرٌ
وتوبيخٌ وأهوالٌ عِظامُ
ويقول ثالث:
إنَّ للهِ عِباداً فُطُنا
طَلَّقوا الدُنيا وخافوا الفِتَنا
نَظَروا فيها فَلَمَّا علِموا
أنها ليستْ لِحيٍ وَطَنا
جَعَلوها لُجَّةً واتخَذوا
صالحَ الأعمالِ فيها سُفُنا

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن بيَّن لنا سبيل الهدى والرجوع عن حالة الغفلة؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، كما فتح لنا النبي صلى اللهُ عليه وسلم باب الأمل بقوله: [مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ].

ليست هذه دعوةً إلى ترك الدنيا وعدم الانشغال بالرزق والتفرغ للعبادة، فهذا أمرٌ نهى عنه رسولنا الكريم، لكنها دعوةٌ للموازنة في الاهتمام ما بين: الدنيا مع الزهد فيها، والآخرة مع الاستعداد لها؛ ورد في الأثر قولهم: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، يقول العارفون إن في ذلك دعوةٌ إلى الأخذ بالأسباب، وبذل الوسع في تحصيل الرزق، والاهتمام بعمارة الأرض فيما يُرضي الله عزَّ وجلَّ، مع الحث على العمل للآخرة، ودوام الاستعداد لها، وللقاء الله بالعمل الصالح الخالص لوجهه الكريم، وحُضُور النّيَّة والقَلْب في العباداتِ والطاعات، والإكْثار منها، فإِنّ من يَعْلم أنه يموت غَداً يُكْثر من عبَادَته، ويُخْلِص في طاعتِه.

أحبتي .. كلنا غافلون بدرجةٍ أو أخرى، مقصرون في حق الله وفي حق أنفسنا. لذلك أقول لنفسي ولكم: أفيقوا يرحمكم الله، أنقذوا أنفسكم، تداركوا ما فاتكم من خيرٍ، وسارعوا إلى حجز أماكنكم في الجنة، التي يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: [أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ؛ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]، وينقل لنا وصف المولى عزَّ وجلَّ لها بقوله: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾]. فلا تُضَيِّعوا أوقاتكم فيما لا يفيد. الدنيا مزرعةٌ للآخرة؛ اتعبوا الآن في الزراعة لتهنأوا وقت الحصاد، وأبشروا بما وعدكم الله به، ليس فقط بالعفو عن السيئات، بل وبتبديلها حسنات؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، فلا تُفَوِّتوا على أنفسكم هذه الفرصة!
اللهم لا تجعلنا من الغافلين.

http://bit.ly/2NdlkRU

الجمعة، 3 يناير 2020

الصبر وقت الشدة/1


الجمعة 3 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٠
(الصبر وقت الشدة)

هل كنت معزيةً اليوم؟! تحت هذا العنوان كتبتْ أختٌ فاضلةٌ عن موقفٍ أثر فيها كثيراً، كتبتْ تقول:
ذهبتُ اليوم معزيةً أم الطالب الذي توفاه الله قبل يومين في حادث سيارة، دخلتُ عليها -وهي صديقةٌ قديمةٌ- معزيةً؛ فاستقبلتني استقبالها الذي لم تُطفئ حرارته عشر سنواتٍ فرقتنا، ولم تخبته لوعتها على ابنها الأوسط، درة عِقْد حياتها، الذي فارق الحياة في الأمس القريب! احتضنتني مبتسمةً ابتسامة الرضى التي ما فارقت مُحياها أبداً، ورددتْ بصوتٍ عالٍ سمعَته كل مَن كنّ في مجلس العزاء، وكأنها تُسمعنا جميعاً: "لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيءٍ عنده بمقدار، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها"! ثم رافقتني أنا وزميلتي إلى صدر المجلس، وأجلستنا في وسطه! لم تُفقدها المصيبة التي حلّت بها أن تقوم بواجب استقبالنا على أكمل وجه، ولم تُنسها الفاجعة أن تحافظ على ابتسامة الرضى التي عرفتُها بها دوماً يوم كنا زميلاتٍ في العمل! ثم ابتدأت فصلا آخر من فصول صبرها واحتسابها! جلستْ لتعطينا درساً واقعياً في الصبر عند الابتلاء! وأي ابتلاءٍ؟! ابتلاء فقد الابن! بدأتْ بذِكر الله، بنفسٍ راضيةٍ محبةٍ، ثم قامت تصف لنا مشهد تلقيها خبر الوفاة عن طريق الهاتف، فكانت كلمتها التي صدحت بها: "إنا لله وإنا إليه راجعون"! كلنا يقولها ويرددها، لكنها كانت تقولها بقلبٍ راضٍ مستسلمٍ لقضاء الله وقدره! وأخذتْ تصف مناقب الابن البار الذي لم يكن من أهل الدنيا -على حد تعبيرها- فقد كان من أهل الآخرة! وبذلك شهد كل من عرفه من أصدقائه وأساتذته! ثم أخذتْ تصف اللحظات الأخيرة، قبل خروجه من المنزل، وكيف كان يرد الأمانات التي أخذها، وقبل أن يودعها بَشَّرها بأنه سينجح بامتيازٍ في مادتين! تقولها الأم وهي فخورةٌ بابنها الذي لم يُمهله الأجل أن يرى نتائج اختباراته لهذا الفصل! ثم انتقلتْ لتصف لنا لحظة وداعها له في المستشفى وصفاً أبكى كل من كُن في المجلس إلا هي! ظلت مبتسمةً راضيةً وكأن الله أنزل سكينته على قلبها، وربط عليه! وبعدها أردفتْ تصف السماء يوم خروجها من المسجد بعد الصلاة عليه، تقول: "كانت السماء مليئةً بالغيوم، ونسمات الهواء تهب باردةً عليلةً، فرفعتُ يديَّ للسماء وقلتُ ما أجمل يومك يا بني! ثم أمطرتْ في تلك الليلة فابتسمتُ وقلتُ ما أجمل ليلتك الأولى في قبرك يا بني"! تقولها بإحساس المؤمن الذي يعلم أنَّ له رباً رحيماً! تقولها بقلب المؤمن ويقينه بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأننا وإنْ فرقتنا الدروب إلا أنَّ إيماننا يقينٌ بأن لقاءنا الأبدي سيكون هناك عند رب العزة! ثم ختمتْ قولها البليغ بعبارة: "أحتسبه عند الله شهيداً"! وقبل أن نقوم من مجلسنا ذكرتْ أن رفاقه أخبروها بأنه وصديقه الذي تُوفيَ معه -رحمة الله عليهما- كان آخر عملٍ لهما قبل الحادث أنهما حجزا للعمرة يوم الخميس! تقول: "اشتاق ابني حبيبي لزيارة بيت الله فأكرمه الله بالجنة"!
لا أخفيكم أنني شعرتُ بضآلتي أمام إيمانها بالله! وشعرتُ بتقصيري تجاه ربي أمام صبرها، وسألتُ الله أن يُسبغ على قلبي الراحة التي يجدها أولياؤه وأصفياؤه! الإيمان ليس ادعاءً ندعيه، ثم نرتدّ عند أول ابتلاء! الإيمان ليس هيئةً نرتديها، ثم نجحد على محكّ الأزمات! إنما الإيمان ثباتٌ في المحن، ويقينٌ بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى!
لم تنتهِ قصتي مع أم الفقيد، فقد أصرتْ أن ترافقنا مودعةً حتى باب الخيمة، وكأنها أم العريس الذي زُفّ بالأمس إلى السماء! ودَّعَتْنا بابتسامتها المعهودة وهي تقول: "زورونا دايماً"! ودَّعْتُها - بعينيَّ اللتين لم يجف دمعهما - على وعدٍ بدخول بيتها مهنئةً في المرة القادمة!! وهل كنت معزيةً اليوم؟!

أحبتي في الله .. هذه الأم نموذجٌ للصبر عند الابتلاء، و(الصبر وقت الشدة) وأي صبرٍ؟ إنه الصبر عند فقدان الابن، ويا له من صبر، لربما كان من أعلى درجات الصبر؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ "قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي" فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ "قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ" فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ "مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟" فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ "ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ"]، ويقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسيّ: {ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ}. وكأني بأم الفقيد تسترشد بقول نبينا الكريم: [إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى].
فالصبر من عزم الأمور؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. وهو من صفات الصادقين المتقين؛ يقول تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾. والصبر سبيل الفلاح؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. والصابرون لهم أجرٌ عظيم؛ يقول تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. ويبشر الله تعالى الصابرين بقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ويعدهم عُقبى الدار؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾، ويقول: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾، وهم الفائزون بالجنة؛ يقول تعالى: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾، ويقول: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾، ويقول: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾، ويقول: ﴿ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾، ويقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، ويقول: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. والصابرون والصابرات يشملهم قوله تعالى: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾
لكل ما سبق يأمرنا الله بالاستعانة بالصبر؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾، ويقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
يكفي الصابرين أنهم في معية الله؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وأنه يحبهم؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾.

إن للصبر على البلاء جزاءٌ عظيم؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَا يَزَال الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمؤمِنَةِ في نَفْسِهِ وَولَدِهِ ومَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّه تَعَالَى وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]، ويقول: [إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلاَهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ]. والصبر- خاصةً (الصبر وقت الشدة) - دليلٌ على قوة وصدق الإيمان؛ يقول النبي صلّى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له]، ويقول: [وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ].

يقول أهل العلم إنّ الصبر على المصائب والشدائد من أبرز الصّفات التي دعا الإسلام للالتزام بها، وبيّن النبي عليه الصلاة والسلام أنّ الصبر إنما يكون في ابتداء المصيبة، ويكون (الصبر وقت الشدة)، فهو ابتلاءٌ، والابتلاء سُنَّة الله في خلقه، وهي سُنةٌ لا تتغيّر ولا تتبدل، فالعاقل من يَصبر وينتظر الفرج من الله ولا يطلبه من غيره، وهو يعي أن أصل البلاء إنّما أراده الله سبحانه وتعالى له ليختبر صبره وشكره من جحوده وكفره.

أحبتي .. الدنيا دار ابتلاء؛ لا يوجد منا من لا يُبتلى، والفائزون هم الصابرون. فلنصبر على كل ابتلاءٍ صبراً جميلاً؛ وهو الصبر بغير شكوى ولا جَزع. اللهم ألهمنا (الصبر وقت الشدة) وثبتنا عند الصدمة الأولى، واجعلنا من المحتسبين الذين يقولون عند نزول المصائب: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. اللهم ﴿تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ وأدخلنا الفردوس الأعلى من الجنة من باب الصبر، بغير حسابٍ ولا سابقة عذاب. واحفظ اللهم أبناءنا واكلأهم بعنايتك، وابعد عنا وعنهم وعن كل مسلمٍ السوء والأذى.

http://bit.ly/36jqQKA

الجمعة، 27 ديسمبر 2019

زهوة الانتصار


الجمعة 27 ديسمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٩
(زهوة الانتصار)

تحكي إحدى السيدات قصتها فتقول: منذ ثلاثين عاماً كنتُ فتاةً غريرةً وزوجةً حديثةً أرفع شعارات تحرير المرأة، وأرى الزواج مجرد إجراءٍ اجتماعيٍ لا يترتب عليه أية واجبات، وشاء الله أن أقيم مع حماتي حتى يوفر لي زوجي سكناً مستقلاً بالمواصفات التي أريدها، وكانت السنوات التي عشتها مع حماتي هي أسوأ سنواتٍ عاشتها تلك السيدة الصابرة، وكنتُ أنا للأسف سر هذا السوء؛ فقد أعطيتُ أذني لنصائح الصديقات بأن أُظهر لها العين الحمراء منذ البداية، ولذلك قررتُ أن أحدد إقامة حماتي داخل حجرتها، وأتسيد بيتها وأعاملها كضيفةٍ ثقيلة! كنت أضع ملابسها في آخر الغسيل، فتخرج أقذر مما كانت، وأُنظف حجرتها كل شهرٍ مرة، ولا أهتم بأن أُعد لها الطعام الخاص الذي يناسب مرضها، وكانت كجبلٍ شامخٍ تبتسم لي برثاءٍ، وتقضي اليوم داخل حجرتها تُصلي وتقرأ القرآن، ولا تغادرها إلا للوضوء، أو أخذ صينية الطعام التي أضعها لها على منضدةٍ بالصالة وأطرق بابها بحدةٍ لتخرج وتأخذها! وكان زوجي مشغولاً في عمله؛ لذلك لم يلاحظ شيئاً، ولم تشتكِ هي له، بل كانت تجيبه حين يسألها عن أحوالها معي بالحمد، وهي ترفع يديها إلى السماء داعيةً لي بالهداية والسعادة. ولم أُجهد نفسي كثيراً في تفسير صبرها وعدم شكايتها مني لزوجي، بل أعمتني ( زهوة الانتصار) عن رؤية الحقيقة حتى اشتد عليها المرض، وأحست هي بقرب الأجل فنادتني وقالت لي وأنا أقف أمامها متململةً: "لم أشأ أن أرد لك الإساءة بمثلها حفاظاً على استقرار بيت ابني، وأملاً في أن ينصلح حالك، وكنت أتعمد أن أُسمعكِ دعائي لكِ بالهداية لعلك تراجعين نفسك، دون جدوى، ولذلك أنصحك – كأم – بأن تكفي عن قسوتك، على الأقل في أيامي الأخيرة لعلي أستطيع أن أسامحك". قالت كلماتها وراحت في غيبوبة الموت، فلم تر الدموع التي أغرقت وجهي، ولم تحس بقبلاتي التي انهالت على وجهها الطيب، ماتت قبل أن أريها الوجه الآخر، وأكفر عن خطاياي نحوها، ماتت وزوجي يظن أنني خدمتها بعيني.
وكبر ابني وتزوج ولم يستطع توفير سكنٍ خاصٍ فدعوته للعيش معي في بيتي الفسيح الذي أعيش فيه وحدي بعد وفاة أبيه فاستجاب؛ ودارت عجلة الزمن فعاملتني زوجته بمثل ما كنت أعامل حماتي من قبل، فلم أتضجر، لأن هذا هو القصاص العادل والعقاب المعجل، بل ادخرتُ الصبر ليعينني على الإلحاح في الدعاء بأن يغفر الله لي، ويكفيني شر جحيم الآخرة لقاء جحيم الدنيا الذي أعيش فيه مع زوجة ابني، ويجعلني أتحمل غليان صدري بسؤالٍ لا أملك له إجابةً: هل سامحتني حماتي الراحلة؟ أم أنها علقت هذا السماح على تغيير معاملتي لها، هذا التغيير الذي لم يمهلني الله لأفعله؟

أحبتي في الله .. ليست هذه السيدة هي وحدها التي أعمت (زهوة الانتصار) بصيرتها .. فكم من قويٍ غرته قوته فاعتدى على ضعيف، وكم من غنيٍ أكل مال فقير، وكم من صاحب سطوةٍ ونفوذٍ استولى على حق مسكين، وكم من رجلٍ حرم امرأةً من إرثها، وكم من زوجٍ تلذذ بقهر زوجته، وكم من مديرٍ تمادى في ظلم مرؤوسيه، وكم من مسئولٍ شقَّ على مراجعيه، هؤلاء جميعهم وأمثالهم غرتهم (زهوة الانتصار) وأدارت نشوة النصر - كما الخمر - رؤوسهم، وأعمت بصائرهم فظنوا أن الحياة دانت لهم، وأنهم الأعلى والأعلم والأقوى والأذكى والأغنى والأفضل، وأن لا رقيب عليهم، ولا حسيب يرصد أعمالهم ليحاسبهم عليها؛ لقد ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾، فنسوا ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، ونسوا الحكمة المأثورة "إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك".
كم من ظالمٍ أعمته (زهوة الانتصار) فظلم وطغى وبطش ونكَّل وخاصم وفجر واستعلى وعاث في الأرض فساداً، وتمادى في ظلمه، وهو يظن أنه على الحق المبين! وأن ما يفعله هو عين العدل! لم يدرِ بأن الأيام دُوَلٌ، ولم يدرِ أن الله سبحانه وتعالى يُمهل ولا يُهمل، ولم يدرِ أن دعوة المظلوم تشق عنان السماء وليس بينها وبين الله حجاب، وأن ما يرزقه الله به من مزيد قوةٍ وسلطةٍ ما هو إلا استدراجٌ يأتي من بعده الأخذ ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. ولم يدرِ مَن أعان الظالم على ظلمه ولو بكلمةٍ، ومَن ركن إليه فمال له بقلبه، أنهم مشمولون بوعيد الله لهم بأن تمسهم النار؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾.
أين هؤلاء جميعاً من فرعون حينما غرته قوته فقال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾! بل وحث قومه على ألا يتبعوا دين الإسلام الحق الذي كان يدعو إليه موسى عليه السلام؛ فقال عنه: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾! ووصلت (زهوة الانتصار) به إلى ذروتها حين قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾!. تعامل فرعون مع قومه باستعلاءٍ واستخفاف ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ لماذا أطاعوه؟ لأنهم ﴿كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾، فماذا كانت النتيجة؟ ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾. أين هؤلاء من فرعون وجنوده وهم يطاردون موسى ومن آمن معه من المسلمين يدفعونهم دفعاً نحو البحر، ألم تتملكهم (زهوة الانتصار) حتى من قبل أن يحققوه ظانين أنهم هم الغالبون لا محالة؟ فماذا كان مصيرهم؟ يقول تعالى: ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾. هل نفعت فرعون قوته وكثرة عتاده وجنوده؟ هل نفعه الملأ المنافقون من حوله؟ هل نفعه القوم الفاسقون الذين استخف بهم فاتبعوه؟ لا واللهِ لم ينفعه من ذلك شيءٌ حينما جاء أمر الله.
إن انتصار القوي على الضعيف بالقهر والإذلال والطغيان بغير حقٍ، هو انتصارٌ زائفٌ، أبعد ما يكون عن النبل، وأقرب ما يكون من الخسة والدناءة.

ولعل من أكثر حالات الظلم إيلاماً ظلم ذوي القربى؛ حينما يظلم الأب أبناءه، أو يظلم الابن أباه أو أمه، أو يظلم الأخ إخوانه وأخواته؛ يقول الشاعر:
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً
عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ

ألا يخشى الظالمون عذاب الله؟ ألا يخشون توعده لهم بالعذاب الأليم؟ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ويقول سبحانه واصفاً لحظات احتضارهم بعذاب الهون: ﴿وَلَو تَرى إِذِ الظّالِمونَ في غَمَراتِ المَوتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطو أَيديهِم أَخرِجوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذابَ الهونِ﴾.
ويقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم محذراً من عقاب الظالمين في الآخرة: [اتقوا الظلمَ، فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامةِ]، ويقول صلّى الله عليه وسلّم عن عقابهم في الدنيا: [بابانِ مُعجَّلانِ عُقوبتُهما في الدنيا: البَغْيُ، والعقُوقُ].

أحبتي .. سيأتي - لا محالة - يومٌ يتجرع فيه الظالم من ذات الكأس التي كان يُجبر مَن ظَلمهم على الشرب منها. فإلى متى الغفلة؟! كم من مثالٍ من أمثلة الظلم والظالمين ضربه الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن الكريم، وكم من مرةٍ دعانا فيها للاتعاظ مما آل إليه مصيرهم، وكم من دعوةٍ لنا للاعتبار ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى﴾، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
إن الذين غرتهم الحياة الدنيا، وتملكتهم (زهوة الانتصار) فذهبت بعقولهم، يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، فهل من متعظ؟
اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يعينونهم ويؤيدونهم، ولا ممن يرضون بأفعالهم ويتغاضون عن الظلم فقط لأنه وقع بغيرهم! وأعنا اللهم على رد المظالم إلى أصحابها كلما استطعنا ذلك.
اللهم لا تجعل الدنيا في قلوبنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعلها كل همنا، واجعلها اللهم مزرعةً لنا لآخرتنا، التي فيها معادنا، وإليها إيابنا، وبها خلودنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

http://bit.ly/35ZFoyQ