الجمعة، 23 مارس 2018

وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ


الجمعة 23 مارس 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٧
(وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)

تروي صاحبة القصة حكايتها فتقول: حكايتي فيها مرارةٌ ما زلت أتجرع كأسها حتى اليوم؛ فأنا سيدةٌ تعديت الخامسة والستين، أنتمي إلى أسرةٍ عاديةٍ من أسر الأرياف حيث يرتبط الجَمِيع بعلاقات نسبٍ ومصاهرةٍ بين بعضهم. تعلمت في مدرسةٍ متوسطةٍ وكُنت أتمتع بقوة الشخصية والحضور والجرأة في التعامل. لاحظت أن شاباً من أسرةٍ ثريةٍ ينظُر إليّ بإعجابٍ ويحاول أن يتقرب مني، ثم جاءتنا والدته وخطبتني له؛ فظللت الفرحة بيتنا وأثنى أهلي على أسرته ووصفوهم بأنهم مثالٌ رائعٌ للطيبة والكرم وحسن الأخلاق، وعرفت أن خطيبي هو الابن الثاني لأبيه، حيث يكبره أخٌ واحدٌ بعامين، وأنه هو الذي يُدير ثروة أبيه من الأراضي الزراعية لِمَا يتمتع به من القوة والحزم، بعكس شقيقه الذي يغلب عليه الهدوء وعدم القدرة على مواجهة الآخرين. أقام والده لنا حفل زفافٍ كبيراً حضره أهل القرية والقرى المجاورة. انتقلت إلى ركنٍ خاصٍ بي في بيتهم الواسع، وتمتعت مع زوجي بكل شيءٍ ووجدت والدته سيدةً رائعةً وأباه رجلاً دمث الخلق وشقيقه شاباً سمحاً لا يتكلم كثيراً ولا يحتك بمن حوله، ولاحظت الرِّضا على الجميع بهذا الوضع، فهُم وحدةٌ واحدةٌ وقرارهُم واحدٌ. بعد مُضِي عامٍ على زواجنا أنجبت طفلاً جميلاً فانطلقت الزغاريد تُجَلجِل في أرجَاء البيت وعلت الابتسامة وجه حماي وحماتي وصار ابني هو شغلهما الشاغل. وذات يومٍ وفي أثناء تناول طعام الغداء فاتح حماي شقيق زوجي في مسألة الزواج الذي كان يؤجله باستمرار، فأطرق برأسه إلى الأرض قائلاً: «ربنا يسهل»؛ فكان رده علامةً على الموافقة، وحدثتني نفسي أن أختار له العروس التي سوف يتزوجها، وصارحت زوجي بما يدور في نفسي؛ وقلت له: «أنت الذي تدير أملاك أبيك؛ ومن حقك أن تنال في النهاية هذا الإرث، ثم يكون لأولادك من بعدك، ولو تزوج أخوك وأنجب سيحصل على نصف الميراث، وما دام أنه لا يُفكر في الإنجاب ووصلت الأمور إلى حد الضغط عليه من أجل الارتباط فسيوافق على من نختارها له»؛ اقتنع زوجي بكلامي وسألني عن الفتاة التي أرشحها له، فقلت له: «أنها ليست فتاةً؛ إنها سيدةٌ مطلقةٌ لم تمكث مع زوجها سوى عامٍ ونصف العام ثم طلقها لعدم الإنجاب، مع أنها جميلةٌ وتتمتع بالأخلاق الحميدة، علاوةً على روحها المرحة، وهي تقترب في صفاتها من صفات شقيقك، وقد اخترتها بالذات حتى لا تنجب وتكون تركة أبيك في النهاية لأولادك»؛ فوافقني على رأيي، وتوليت مسئولية إقناع حماتي بهذه العروس دون أن أفصح لها عن سبب طلاقها. ولم يتوقف شقيق زوجي عند مسألة طلاقها، إذ قال في نهاية جلستنا «توكلت على اللَّه» وخرج إلى المسجد لأداء صلاة العشاء. تم عقد القَرَان والزِّفاف في لقاءٍ عائليٍ بسيطٍ باعتبار العروس مطلقة. أحسست وقتها بنشوة الانتصار، وبأن خطتي للاستئثار بالميراث تمضي كما رسمتها، وعشنا معاً حياةً مستقرةً لم يُعَكِر صفوها شيءٌ، ومرض حماي ثم رحل عن الحياة، والتففنا حول حماتي، وازددنا ترابطاً، وأصبح شقيق زوجي هو رجل البيت باعتباره الأكبر سناً، لكن الأمور كلها ظلت بيد زوجي، ثم فوجئنا بما لم نكن نتوقعه إذ حملت زوجة شقيق زوجي؛ فأخذت أضرب كفاً بكفٍ وأسأل نفسي كيف تحمل وهي عاقِرٌ؛ لقد كان السبب في طلاقها هو عدم الإنجاب؟ ظللت أُطَمْئِن نفسي بأنه «حملٌ كاذبٌ». نعم ظَننتُ ذلك، ولكن شهور الحمل مرت بشكلٍ عاديٍ، وأنجبت ولدين في بطنٍ واحدةٍ، وعنفني زوجي على صنيعي؛ لأنه بإنجاب الولدين أصبح ما خططت له ووافقني عليه زوجي سراباً، كما أنني لم يكُن لديّ وقتها سوى ابني الوحيد الذي لم اُنجِب سِواه. كبر الوَلَدَان ابنا شقيق زوجي وكلما شاهدتهما أمامي يمر برأسي شريط الذكريات وما كنت أرتب له بعد رحيل الكبار حين تصبح الأرض كلها ملكاً لأولادي. ثم توالى إنجاب زوجة شقيق زوجي البنين والبنات، في حين توقف إنجابي تماماً، أدركت وقتها أنني أجني ثمار ما صنعت، وأن من يتخيل أنه قادرٌ على أن يفعل ما يريد واهمٌ؛ فالقادر هو اللَّه وحده، ونحن البشر مهما فعلنا فلن نُغَـير قدره سبحانه وتعالى. دارت السنون وصار الأولاد شباباً، وأصبحت أخاف على ابني من كل خطوةٍ يخطوها فأتتبعه وأسأل عنه، وكان لدينا جرارٌ زراعيٌ، يعمل عليه في أيام الإجازات الدراسية، وذات يومٍ أخذ ابني الجرار وذهب في طريقه إلى الحقل فصدمته سيارة نقلٍ مسرعةٍ، وجاءنا الخبر المُفجِع فأسرعنا به إلى المستشفى المركزي القريب منا، ثم إلى مستشفى شهيرٍ بالقاهرة، وظل في العناية المركزة ثلاثة أيامٍ ثم صعدت روحه إلى بارئها. دارت بي الأرض وغبت عن الوعي، وشخصُوا حالتي بأنها صدمةٌ عصبيةٌ شديدةٌ؛ فتلقيت علاجاً استمر مدةً طويلةً، ولما أفَقت وجدت زوجي قعيداً بعد إصابته بجلطةٍ في المُخ، ورأيت شقِيقه إلى جواره يبكي بمرارةٍ، أما أبناؤه فلم يغادروا حجرتنا، ولازمونا ليلاً ونهاراً، ولم أسمع منهم سوى كلمتي: «أبي» و«أمي» وهم ينادوننا أنا وزوجي. بعد أسابيع قليلةٍ مات زوجي ولم أجد بجواري سوى أبناء شقيقه الذين حاولت أن أمنع وجودهم في الحياة بالحيلة الدنيئة التي دبرتها لوالدهم للزواج من عاقر، فإذا باللَّه عز وجل يُخلف ظني، ويحدث ما حدث وأفقد ابني الوحيد ليؤول كل شيءٍ إلى أولاد شقيق زوجي الذين صاروا أولادي بالفعل بعد كل ما صنعُوه لي. ولقد أرَاد اللَّه أن أعيِش لأرى كل من حولي يرحلون من الدنيا واحداً بعد الآخر لكي أنَال العقاب الذي أستحقه في الدنيا؛ فلقد رحل شقيق زوجي، ثم رحلت زوجته. إنه سبحانه وتعالى علام الغيوب، وقد أراد لي أن أتعلم الدَّرس البليغ؛ بأنه سبحانه يفعل ما يشاء، وأن المَكرَ السَّيئ لا يحِيق إلا بأهلِه.

أحبتي في الله .. ورد ذكر المكر في القرآن الكريم في مواضع عدة، منها:
قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا﴾، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾، وقوله عز وجل: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾. وكذلك قوله: ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾، وقوله عز وجل: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ﴾، وقوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾.
وعن المكر بالرسول عليه الصلاة والسلام؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾، ويقول: ﴿وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾.
ومحذراً من عقابه؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ﴾، ومبيناً مآل المكر وعاقبة الماكرين؛ يقول: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾، ويقول: ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾، ويقول: ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، وموضحاً جزاء الماكرين يوم القيامة؛ يقول: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾.
والمكر السيئ ناتجٌ عن ضعف الإيمان وخبث النفس ودناءة الخلق، ويؤدي إلى انطماس البصيرة، وفساد العمل، وصاحبه عقوبته عاجلةٌ غير آجلةٍ؛ قال تعالى: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ . وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ . فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾، فهذه سنته سبحانه مع الماكرين من البشر: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

يقول أهل العلم أن المكر المضاف إلى الله جل وعلا والمسند إليه ليس كمكر المخلوقين، لأن مكر المخلوقين مذمومٌ، وأما المكر المضاف إلى الله سبحانه وتعالى فإنه محمودٌ، لأن مكر المخلوقين معناه الخداع والتضليل، وإيصال الأذى إلى من لا يستحقه، أما المكر من الله جل وعلا فإنه محمودٌ؛ لأنه إيصالٌ للعقوبة لمن يستحقها فهو عدلٌ ورحمةٌ‏. فلا يوصف الله تعالى بالمكر إلا مقيداً، ولا يوصف الله تعالى به وصفاً مطلقاً.
ومن الآيات التي أسند فيها المولى صفة المكر لنفسه: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، و﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا﴾، و﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا﴾، ففي هذه الآيات، وغيرها، دليلٌ على أن لله مكراً.
ولا يوصف الله بالمكر على الإطلاق، فلا يجوز أن نقول: إن الله ماكرٌ، وإنما نذكر هذه الصفة في مقام المدح، مثل قوله تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾، وقوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾.
وأما الخداع فهو كالمكر يُوصف الله تعالى به حين يكون مدحاً؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾.
أما مكر البشر فقد عرض لنا القرآن الكريم العديد من صوره وأشكاله: مكر قوم إبراهيم عليه السلام، مكر إخوة يوسف، مكر فرعون بقوم موسى، مكر بني إسرائيل بعيسى عليه السلام، مكر الكفار والمشركين بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. كذلك المكر بمؤمن آل فرعون، ومكر أصحاب الجنة الذين أقسموا ألا يدخلها عليهم يوم الحصاد مسكين، ومكر أصحاب السبت، وغيرها من قصص المكر والماكرين.

وكما حذرنا الله سبحانه وتعالى من المكر وبيَّن لنا عاقبة الماكرين، فإن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ينهانا عن المكر؛ فيقول: [لا تَمْكُرْ، وَلا تُعِنْ مَاكِرًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ﴾].
الجزاء من جنس العمل، قاعدةٌ شرعيةٌ وسنةٌ كونيةٌ؛ فالمقابلة بالمثل عدلٌ، وسنةٌ يعامل الله بها خلقه، وشرع نتعامل به؛ مصداقاً لقوله عز وجل: ﴿جَزَاءً وِفَاقاً﴾، وقوله سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾.
يقول الشاعر:
لكل شيءٍ آفةٌ من جنسه
حتى الحديدَ قضىٰ عليهِ المبردُ

أحبتي .. أختم بكلماتٍ طيباتٍ نقلاً عن عالمٍ جليلٍ، كتب يقول: ما أحوجنا إلى مراقبة الله واستشعار عظمته وقوته ومكره وغضبه من أعمال السوء وأخلاق السوء حتى نبتعد عن كل مساوئ الأخلاق ونستغل قدراتنا وطاقاتنا في مواجهة أعداء الأمة ومكرهم وخططهم التي يحيكونها وينفذونها عند ضعفنا وتفرقنا.. وليقف الجميع صفاً واحداً ضد كل من يحاول الإفساد والمكر والخداع؛ ففي ذلك النجاة والحياة الطيبة للجميع.. ذلك أن عاقبة المكر وآثاره لن تستثني أحداً سواءً كانوا أصحاب المكر أو الساكتين عنهم أو الراضين بهم، ولن تُكتب النجاة إلا لأصحاب الحق والخير قال تعالى: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.
إن علينا أن نحذر مكر الله، ومن يأمن مكره وغضبه، وهو قائمٌ على المعاصي والذنوب، يكون قد ارتكب كبيرةً من الكبائر يحتاج إلى توبةٍ نصوحٍ وعليه أن يراجع إيمانه بالله؛ فلا يغتر أحدنا بعمله مهما كان، ولا يغتر بحلم الله عليه وهو مفرطٌ في غفلته ومقصرٌ في واجباته.. فبعض الناس يعطيه الله الكثير من النعم، وهو قائمٌ على المعاصي والذنوب ومقصرٌ في واجباته، فيعتقد أنها دلالةٌ على حب الله له ورضاه عنه.. كلا.. هذا استدراجٌ من الله.. فلا تأمن مكره؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ . أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ . أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ . أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
فلنتأمل سنة الله في خلقه التي لا تتبدل ولا تتحول؛ يقول تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ لنتبين أن هذه القاعدة القرآنية (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) قاعدةٌ مطردةٌ ثابتةٌ مستقرةٌ تتكرر في كل زمانٍ ومكانٍ، فهل من متعظٍ؟

اللهم احفظنا من المكر، واكفنا تدبير الماكرين، وامكر لنا لتقينا شر الطغاة الظالمين، وباعد بيننا وبين ما قد يزينه لنا الشيطان من المكر بالآخرين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/zoKXKF

الجمعة، 16 مارس 2018

المساواة أم العدل؟


الجمعة 16 مارس 2018م

الخاطرة /١٢٦
(المساواة أم العدل؟)

وصفها مقدم البرنامج الحواري في إحدى القنوات الفضائية بأنها ناشطةٌ حقوقيةٌ ورائدةٌ في الدفاع عن حقوق المرأة، كانت تتكلم بحماسةٍ كأنها تقاتل في ميدان معركةٍ، صورتها تملأ شاشة التلفاز، وصوتها أعلى من صوت كلٍ من مقدم البرنامج وضيفه الآخر. كانت تطالب بالمساواة بين المرأة والرجل!
واضحٌ من اسمها أنها مسلمةٌ، أما مظهرها ولبسها وما تنادي به من أفكار فهو أبعد ما يكون عن الإسلام! رددت كثيراً عباراتٍ مثل: نحن الآن في القرن الحادي والعشرين، آن للمرأة أن تسترد حريتها، نرفض أن نعيش في مجتمعٍ رجعيٍ متخلفٍ، نطالب بتجديد الخطاب الديني، انظروا للعالم من حولنا، حركتنا تنويرية تحارب الظلامية والتطرف. وأنهت حديثها بالمطالبة بالمساواة الكاملة للمرأة بالرجل في كل شيء: في الميراث، في الاختلاط، في السفر بغير محرمٍ، في لبس ما ترغب من الثياب، في تقلد الوظائف القيادية، في العمل بالقوات المسلحة. وقالت إن لم يصدر تشريعٌ بتجريم تعدد الزوجات فلن يكون أمامنا إلا المطالبة بتعدد الأزواج! مؤكدةً أن المرأة مخلوقٌ كاملٌ غير ناقصٍ، وأنها إن كانت تطالب بالمساواة فهي لا تطالب سوى بالعدل!
بدا مقدم البرنامج سعيداً ربما لأنه يقدم سبقاً إعلامياً، أو لأن برنامجه سيحقق نسبة مشاهدة أعلى فيزيد دخل قناته التلفزيونية من الإعلانات!
أما ضيف البرنامج، وهو رجلٌ وقورٌ؛ فقد بدأ حديثه من حيث انتهت فسألها بهدوء: "تطالبين بالعدل؛ فأي عدلٍ تريدين؟ عدل الناس أم عدل الله؟"، ردت بسرعة: "عدل الله طبعاً، وهل يختلف عن عدل الناس؟"، قال لها سأروي لك حكايةً قصيرةً تبين لك الفرق بين عدل الناس وعدل الله"، قال: "يُروى أن أحد الصالحين حضر إلى مجلس إمام مسجد كان عنده ضيوفٌ، فأحضر الإمام تمراً، وطلب منه أن يقسمه بين الحضور؛ فقال الرجل الصالح لإمام المسجد: أأقسمه كقسمةِ الناسِ أم كقسمةِ الله؟!، فقال له الإمام: اقسمه كقسمةِ الناس؛ فأخذ طبق التمر، وأعطى كل واحدٍ من الحضور ثلاث تمراتٍ، ووضع بقية الطبق أمام الإمام. فقال الإمام عندها: اقسمه كقسمة الله، فجمع الرجل التمر، وأعطى الأول تمرةً، والثاني حفنةً، والثالث لا شيء، والرابع ملأ حجره، فضحك الحاضرون طويلاً". قال الضيف الوقور: "لقد أراد الرجل الصالح أن يقول لهم إن لله حكمةً في كل شيءٍ، وإن أجمل ما في الحياة التفاوت، لو أُعطي الناس كلهم المال لم يعد له قيمةٌ، ولو أُعطوا كلهم الصحة ما كان للصحة قيمةٌ، ولو أُعطوا كلهم العلم ما كان للعلم قيمةٌ. فسِرُّ الحياة أن يُكمل الناس بعضهم بعضاً، وأن لله حكمةً حين يختص الذكور بأشياء لا يختص بها الإناث، تماماً كما أن له حكمةً في أن يختص الإناث بأشياء لا يختص بها الذكور؛ فقد خلق الله الإناث لوظائف غير تلك التي خلق الرجال لها، وهيأهن لذلك؛ يقول المولى عز وجل: ﴿ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى﴾، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ]، والمرأة العاقلة تفهم ذلك وترضى بقسمة الله لأنها عين العدل، بل وتسعد بها".
لم تكن لديّ الرغبة في الاستمرار في مشاهدة البرنامج حتى نهايته؛ لكني توقفت عند فهم بعض الناس للعدل على أنه هو المساواة المطلقة.

أحبتي .. يُعَرَّف العدل في اللغة بأنه نقيض الجَوْر وضدُّه، وهو ما قام في النفوس أنه مستقيم. أما في الاصطلاح الشرعي فالعدل هو وَضْعُ الشَّيء في موضعه الذي أمَر الله تعالى أن يُوضع فيه. وبعبارةٍ أُخرى: هو موازنة بين الأطراف بحيث يُعطى كلٌّ منهم حقَّه دون بَخْسٍ ولا جَوْرٍ عليه.
والعدل من أسماء الله عز وجل؛ فهو سبحانه الّذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم.
وإذا التفتنا إلى العدل الإلهي في توزيع النعم على البشر لارتحنا من كثيرٍ من أمراض القلوب مثل العين والحسد والحقد التي تؤذي صاحبها قبل أي شخصٍ آخر. إن راحة البال والسعادة هي في التسليم المطلق بعدل الله سبحانه وتعالى، والرضا بما قسمه لنا؛ فلا نمد أعيننا لما عند الآخرين، فنخسر الإحساس بالسعادة لما لدينا، ثم لا ننال ما لديهم لأنه ببساطة ليس مقسوماً لنا، وربما كان ما لدى الآخرين فتنةً لهم جنبنا الله بفضله وكرمه إياها؛ يقول تعالى: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.
ليس علينا أن نشتكي إذا حرمنا الله، لأن الله سبحانه وتعالى إذا أعطانا فقد أعطانا مما هو له، وإذا حرمنا فقد حرمنا مما ليس لنا. ولو نظرنا إلى الحياة لوجدناها غير متساويةٍ، لهذا نعتقد أن فيها إجحافاً، ولكن هناك ما هو أسمى من المساواة، إنه العدل، والله عادلٌ، يوزع بالعدل لا بالمساواة، لأن المساواة تحمل في طياتها ظلماً أحياناً، ونحن كبشرٍ لا نعرف على وجه اليقين ما ينفعنا وما يضرنا، لا نعرف أيهما أفضل لنا (المساواة أم العدل؟) فتلك مشيئته سبحانه؛ يقول تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾.

والعدل هو تقسيم الحقوق مع مراعاة الفروق، وهو ليس مرادفاً للمساواة، بل لم يأتِ في القرآن أبداً‏ أمرٌ‏ من الله بالمساواة، ولكن تكرر الأمر بالعدل؛ قال تعالى‏:‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ‏﴾‏‏، وقال سبحانه: ‏﴿‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً‏﴾.
يقول أهل العلم أن من قال‏‏ إن دين الإسلام دين المساواة‏ فقد أخطأ، بل هو دين العدل، لهذا كان أكثر ما جاء في القرآن نفي المساواة؛ قال تعالى‏:‏ ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ﴾، ‏﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏﴾، وقال سبحانه: ‏﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ‏﴾‏، وقال عز وجل: ‏﴿لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ‏﴾‏، وقال: ‏﴿لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾‏؛ فلم يأتِ حرفٌ واحدٌ في القرآن الكريم يأمر بالمساواة أبداً، إنما يأمر بالعدل‏.‏ فالمساواة لا تعني العدل دائماً، والعدل لا يعني المساواة في كل الحالات؛ فمن الممكن أن تكون المساواة سبباً في تحقيق الظلم، ومن الممكن أن يكون التمييز والتفرقة بين الناس وعدم المساواة بينهم هو العدل في أسمى معانيه؛ فمن العدل أن يُكلف الشخص بما في حدود استطاعته وبما يتناسب وقدراته وإمكاناته، ومن الظلم أن يُحمل فوق ما يحتمل؛ قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾.
فعندما أعطى الإسلام ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ في الميراث فقد حقق العدل مع أنه لا توجد مساواةٌ، وعندما أمر الرجل والمرأة بالصلاة خمس مراتٍ في اليوم فقد حقق العدل بالمساواة بينهما، وعندما سمح الإسلام للمسافر بالجمع في الصلاة وأباح للمصلي أن يصلي جالساً أو على جنبه فقد ساوى في الأجر والثواب بينهم. فالمساواة عدلٌ بين من تتشابه خصائصهم وظروفهم، وهي جوْرٌ وإجحافٌ وظلمٌ حين يكون هناك تفاوت واختلاف وفروق بينهم في القدرات الجسدية أو الحسية أو الظروف الزمانية أو المكانية؛ فعندما يساوي المعلم في الدرجة بين الطالب المجتهد والطالب الكسول المهمل فهذا ظلمٌ، ولو لم يساوِ الأب في المصروف اليومي بين ابنه التلميذ بالمرحلة الابتدائية وابنه الطالب في الجامعة فإنه يكون قد حقق العدل. إنها إذن المفاضلة (المساواة أم العدل؟)، والتي لا تحسمها سوى الخبرة والحكمة؛ وكفى بالله خبيراً وكفى به بصيراً وحكيماً وعليماً ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾.

يقول العلماء أن الإسلام قد كرم المرأة تكريماً عظيماً:
كرمها أُمّاً يجب برها وطاعتها والإحسان إليها، وجعل رضاها من رضا الله تعالى، وأخبر أن الجنة عند قدميها، أي أن أقرب طريق إلى الجنة يكون عن طريقها، وحرم عقوقها وإغضابها ولو بمجرد التأفف، وجعل حقها أعظم من حق الوالد، وأكد العناية بها في حال كبرها وضعفها، وكل ذلك في نصوص عديدةٍ من القرآن والسنة؛ فجعل البر بها في درجةٍ أعلى من درجة الجهاد في سبيل الله؛ فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه قَال: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، قَالَ: [وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟]، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: [ارْجِعْ فَبَرَّهَا]. وقال: [وَيْحَكَ الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ] وفي رواية: [فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا]. كما ميز الإسلام الأم عن الأب في المعاملة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: [أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أَبُوكَ].
وجعل من حق الأم على ولدها أن ينفق عليها إذا احتاجت إلى النفقة، ما دام قادراً مستطيعاً.
وكرم الإسلام المرأة زوجةً، فأوصى بها الأزواج خيراً، وأمر بالإحسان في عشرتها، وأخبر أن لها من الحق مثل ما للزوج إلا أنه يزيد عليها درجة، لمسئوليته في الإنفاق والقيام على شؤون الأسرة، وبيَّن أن خير المسلمين أفضلُهم تعاملاً مع زوجته، وحرم أخذ مالها بغير رضاها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وقوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا].
وقوله صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي].
وكرم المرأة بنتاً، فحث على تربيتها وتعليمها، وجعل لتربية البنات أجراً عظيماً، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ]، وقوله: [مَنْ كَانَ لَهُ ثَلاثُ بَنَاتٍ، فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ، وَأَطْعَمَهُنَّ وَسَقَاهُنَّ وَكَسَاهُنَّ مِنْ جِدَتِهِ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]، وقوله: من جِدَته أي من غناه.
وكرم الإسلام المرأة أختاً وعمةً وخالةً، فأمر بصلة الرحم، وحث على ذلك، وحرم قطيعتها في نصوص كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ].
وعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: [قال اللَّهُ تعالى – عن الرحم-: {مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ}].
وقد تجتمع هذه الأوجه في المرأة الواحدة، فتكون أُماً وزوجةً وبنتاً وأختاً وعمةً وخالةً، فينالها التكريم من هذه الأوجه مجتمعةً.
فالإسلام رفع من شأن المرأة، وساوى بينها وبين الرجل في أكثر الأحكام، فهي مأمورةٌ مثله بالإيمان والطاعة، ومساويةٌ له في جزاء الآخرة، ولها حق التعبير، تنصح وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الله، ولها حق التملك، تبيع وتشتري، وترث، وتتصدق وتهب، ولا يجوز لأحدٍ أن يأخذ مالها بغير رضاها، ولها حق الحياة الكريمة، لا يُعتدى عليها، ولا تُظلم. ولها حق التعليم، بل يجب أن تتعلم ما تحتاجه في دينها.

أحبتي .. هذه حقوق المرأة في الإسلام، واضحةً جليةً لا تترك المسلم حيراناً أمام السؤال: (المساواة أم العدل؟)، بل ربما تجعل من ينادون بالمساواة بين المرأة والرجل يدركون أن الإسلام قد أعطى المرأة بالعدل أكثر بكثيرٍ مما كانت ستحصل عليه بالمساواة.

اللهم اهدنا إلى الطريق القويم والصراط المستقيم، والعمل بكتابك وشرعك العظيم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/S56q8r

الجمعة، 9 مارس 2018

إتقان العمل


الجمعة 9 مارس 2018م

الخاطرة /١٢٥
(إتقان العمل)

هذه قصةٌ حقيقيةٌ حدثت بين عميلٍ لشركة جنرال موتورز الأمريكية وقسم خدمة العملاء بالشركة. تبدأ القصة بشكوى تلقتها شعبة إنتاج السيارة "بونتياك" بالشركة نصها كما يلي:
"هذه هي المرة الثانية التي أكتب فيها إليكم، وأنا لا ألومكم لعدم الرد، ولكن الواقع أن لدينا تقليداً في أسرتنا وهو تناول الأيس كريم للتحلية بعد العشاء كل ليلةٍ. لكن نوع الأيس كريم يختلف كل ليلةٍ حيث يتم تصويتٌ بين أفراد الأسرة يومياً على نوع الأيس كريم الذي سنتناوله، وهنا مكمن المشكلة؛ فقد قمت مؤخراً بشراء سيارة بونتياك جديدة من شركتكم ومنذ ذلك الحين أصبحت رحلاتي اليومية إلى السوبر ماركت لشراء الآيس كريم تمثل مشكلةً. فقد لاحظت أنني عندما أشترى أيس كريم فانيليا وأعود للسيارة لا يعمل محركها ولا تدور السيارة، أما إذا اشتريت أي نوعٍ آخر من الأيس كريم تدور السيارة بصورةٍ عاديةٍ جداً! صدقوني أنا جادٌ فيما أقول".
عندما قرأ رئيس شركة بونتياك هذه الرسالة أرسل أحد مهندسي الصيانة لمنزل صاحب السيارة، فأراد صاحب السيارة أن يثبت للمهندس صدق روايته؛ فأخذه لشراء الأيس كريم واشترى أيس كريم فانيليا وعندما عادا للسيارة لم يدر محركها، تعجب مهندس الصيانة، وقرر تكرار هذه التجربة ثلاث مراتٍ في ثلاث ليالٍ، وفى كل ليلةٍ كان يختار نوع أيس كريم مختلف، وبالفعل كانت السيارة تدور بصورةٍ عاديةٍ بعد شراء أي نوعٍ من الأيس كريم إلا نوع الفانيليا!
تعجب مهندس الصيانة من ذلك ورفض تصديق ما يراه بنفسه لأنه منافٍ للمنطق، وبدأ في تكرار الرحلة للسوبر ماركت يومياً مع تسجيل ملاحظاتٍ دقيقةٍ للمسافة التي يقطعها يومياً والزمن الذي يستغرقه والشوارع التي يمر منها وكمية الوقود بالسيارة والسرعة التي تسير بها وكل معلومةٍ تتعلق بالرحلة إلى السوبر ماركت، وبعد تحليل البيانات التي جمعها وجد أن شراء أيس كريم الفانيليا يستغرق وقتاً أقل من شراء أي نوعٍ آخر من الأيس كريم؛ وذلك لأن قسم بيع أيس كريم الفانيليا في السوبر ماركت يقع في مقدمة السوبر ماركت كما توجد كمياتٌ كبيرةٌ منه لأن الفانيليا هي النوع الشعبي والمفضل للزبائن، أما باقي أنواع الأيس كريم الأخرى فتقع في الجهة الخلفية من السوبر ماركت وبالتالي تستغرق وقتاً أطول في شرائها. اقترب مهندس الصيانة من حل المشكلة؛ حيث استنتج أن السيارة لا تدور مرةً أخرى بعد وقف محركها لفترةٍ قصيرةٍ وهو ما يحدث عند شراء أيس كريم الفانيليا؛ أي أن الموضوع متعلقٌ بالمدة التي يستريح فيها المحرك وليس بنوع الأيس كريم، وتوصل المهندس إلى نتيجةٍ هي أن محرك السيارة يحتاج لوقتٍ ليبرد لكى يستطيع أن يؤدى عمله مرةً أخرى عند إعادة تشغيل السيارة، وهو ما لا يحدث عند شراء أيس كريم الفانيليا نظراً لقصر الوقت، لكن الوقت الإضافي الذى يستغرقه صاحب السيارة للحصول على نكهاتٍ أخرى من الأيس كريم كان يسمح بتبريد المحرك لفترةٍ كافيةٍ لبدء تشغيل السيارة مرةً أخرى!

لو كان أحدنا رئيس الشركة، وجاءته تلك الشكوى؛ ماذا سيكون تصرفه؟ ولو أن واحداً منا كان هو مهندس الصيانة الذي أرسلته الشركة لفحص مشكلة السيارة؛ هل كان سيتعامل بجديةٍ مع شكوى العميل رغم أنها تبدو للوهلة الأولى غير معقولة؟ أم كان سيهزأ من الأمر وينظر إليه نظرةً ريبةٍ وشكٍ لمجرد أنه منافٍ للمنطق؟ 
في الواقع أن كليهما، رئيس الشركة والمهندس، كان عملهما يتسم بالإتقان. نعم الإتقان هو كلمة السر التي لولاها لكان مصير الشكوى أن تُرمى في سلة المهملات، ولكان انتهى الأمر إلى التصديق بأن السيارة البونتياك لا تحب بالفعل الأيس كريم بنكهة الفانيليا!

أحبتي في الله .. (إتقان العمل) هو القيام بالعمل المراد إنجازه، والانتهاء منه بأفضل صورةٍ وعلى أتمّ وجهٍ، ويكون ذلك ببذل الجهد، والبعد عن التراخي في العمل. ولفظ إِتْقَان هو مصدرٌ للفعل أَتْقَنَ، بمعنى أنجز العمل بإحكامٍ وبمُنتهى الدقّة.
إن (اتقان العمل) فضيلةٌ يحث عليها ديننا الحنيف، فقد وصف الله سبحانه وتعالى عمله وصنعه بالإتقان؛ يقول سبحانه: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ...﴾، ويدعونا تعالى للتأمل في خَلقه فلا نرى في عمله وصنعه نقصاً أو خللاً أو اضطراباً؛ يقول عز وجل: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ...﴾. هذا هو قمة الإتقان، فماذا عن عملنا نحن البشر؟ يقول تعالى حاثاً لنا على تجويد العمل وإتقانه:  ﴿وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، والإحسان هو قمة (إتقان العمل)، ثم يبين لنا أن أعمالنا يراها سبحانه ورسوله والمؤمنون، وأننا محاسبون عليها يوم القيامة؛ يقول عز وجل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ولا شك أن المسلم عندما يعلم أن الله سبحانه وتعالى ورسوله يرون عمله فإنه سيتقنه غاية الإتقان ويحاول أن يصل به إلى حد الكمال ما استطاع.
و(إتقان العمل) صفةٌ يحبها الله سبحانه وتعالى؛ يقول رسول الله عليه الصّلاة والسّلام: [إنَّ الله تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملاً أنْ يُتقِنَهُ]، فلا يكفي أن يعمل المسلم العمل بشكلٍ صحيحٍ بل عليه أن يُتقنه ويُحَّسِنَه قدر استطاعته. كما استخدم صلى الله عليه وسلم لفظ الإحسان للدلالة على منتهى الإتقان؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ الله كَتَبَ الإِحْسانَ على كلِّ شَيءٍ، فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، ...]، وهذا يعني أنَّ على المسلم (إتقان العمل) حتى وإن كانَ ذبح الحيوانات، فمن باب أولى الإتقان في باقي الأعمال الأخرى.    
يقول صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهلِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيتِ زَوجِهَا وَمَسؤُولَةٌ عَن رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ]، ويُستفاد من هذا الحديث أنّ (إتقان العمل) واجبٌ شرعيٌّ على كل مُوظفٍ وعاملٍ مهما كانت وظيفتهُ؛ فالحاكمُ أو ولي الأمر عليهِ إتقانُ عملهِ بتطبيق شرع الله والعدل بين الناس، والأب في أسرته مسؤولٌ عن بيتهِ وعليه إتقان رعاية أبنائه، وكذا الزوجةُ راعيةٌ في مالِ زوجها وعليها المُحافظة على الأمانةِ التي كُلّفت بحملها وإتقانُ تربية أبنائها.

يقول أهل العلم أن التنافس في هذه الحياة يشتد بين الأفراد في كل المجالات طلباً للتفوق والرقي، منهم مَن يقصد بذلك وجه الله عز وجل، ومنهم من يقصد الرقي في الدنيا فحسب، كذلك يوجد هذا التنافس بين الجماعات والأمم، وفي عالمنا المعاصر نجد أن دولاً تقدمت وارتقت، مع أن كثيراً منها لا يدين بالإسلام، فما السر إذن في تقدمها وارتقائها؟ السر ببساطة يعود إلى (إتقان العمل)، وهذه قيمةٌ إسلاميةٌ نبيلةٌ أولى بنا نحن المسلمين أن نحرص عليها ونجعلها شعار أعمالنا.
إن (إتقان العمل) في الإسلام فريضةٌ على المسلمِ، ذلك أنَّ أيّ عملٍ يقوم به المسلم في الحياةِ الدنيا مهما صَغُر واستهان به الفرد يُحتسب عبادةً إذا صحّت فيهِ النيةُ وكانت خالصةً لله سبحانه وتعالى.
فعلينا أن نُراقب الله في أعمالنا وفي كل شؤوننا، فإذا التزمنا بعملٍ وجب علينا القيام به على أكمل وجهٍ يُرضي الله. ولا يخفى على الجميع أن العمل بغير إتقانٍ لا ينفع صاحبه ولا يُنتفع به، وهو مردودٌ على صاحبه؛ وحديث النبي للأعرابي الذي أساء في صلاته مثالٌ على ذلك: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه، أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ]، فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ، فَقَالَ: [وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ]، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فعَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: [إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ اَلْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِماً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا].

أحبتي .. هذا هو (إتقان العمل) الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، ويوجهنا إليه رسوله الكريم؛ فليبدأ كلٌ منا بنفسه وبأسرته، ولينظر أي الأعمال تحتاج إلى إتقانٍ، وأيها متقنٌ يُمكنا أن نزيد في إتقانه ليبلغ درجة الإحسان كلما كان ذلك ممكناً: إتقان الذكر وأفضله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والتفكر في معناها والعمل بها، إتقان الصلاة بإسباغ الوضوء لها وإتمام ركوعها وسجودها والخشوع فيها وجبر نقصانها وتعظيم ثوابها بالنوافل كقيام الليل وصلاة الضحى والسنن الرواتب وغيرها، إتقان الزكاة بإخراجها كاملةً غير منقوصةٍ في مواعيدها ولمستحقيها وجبر النقص فيها وتعظيم ثوابها بالصدقات، إتقان الصوم بصوم الجوارح عند صوم رمضان وجبر نقصانه وتعظيم ثوابه بصوم التطوع كالست من شوالٍ وأيام البيض ويومي الإثنين والخميس، إتقان الحج لمن استطاع إليه سبيلاً بأداء شعائره بإخلاصٍ تامٍ وأداء العمرة كلما أمكن ذلك. وكذلك إتقان رعاية الأبناء، وإتقان صلة الرحم، وإتقان علاقاتنا مع الجيران والأصدقاء والزملاء وكل من نتعامل معهم. ثم (إتقان العمل) نفسه ليكون على أكمل وأتم وجهٍ، وفي أسرع وقتٍ، وبأقل كُلفةٍ، وتجويده وتحسينه وتطويره بصفةٍ مستمرةٍ.
و(إتقان العمل) والإحسان فيه مرتبطٌ بقدرات الإنسان وإمكاناته وما يتوفر له من ظروفٍ تساعده على إتمام العمل بأعلى مستوىً ممكنٍ من الجودة، فإذا توفرت له كل هذه الظروف وقَصَّر في عمله انطبق عليه قول أبي تمام:
وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً
كَنَقصِ القـادِرِينَ على التّمَامِ
أما من يتقن العمل ويصل به إلى درجة الإحسان، فله البشرى؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا﴾، ويقول سبحانه: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، كما يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾. فأي بشرى أجمل وأعظم من هذا؟

نفعنا الله وإياكم بما ورد في كتابه الكريم، وجعلنا وإياكم من المتقنين أعمالهم المحسنين فيها.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/SCiGBS

الجمعة، 2 مارس 2018

الهُدى بين يديك


الجمعة 2 مارس 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٤
(الهُدى بين يديك)

سأل صديقٌ لي أحد العلماء الأجلاء، وكنت حاضراً وقت السؤال، فقال: إنه دعا أحد إخوانه في الله إلى الإيمان، وإلى الهداية والالتزام، فقال له: "لم يهدني الله"، واستشهد بهذه الآيات: يقول الله عز وجل: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، فكيف أرد عليه؟

قال العالم الفقيه بأن الجواب عن هذا السؤال جاء في القرآن الكريم، يقول عز وجل: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾. والأمر ﴿وَاتَّبِعُوا﴾ أمرٌ لجميع المكلفين باتباع ﴿أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وأحسن ما أنزل هو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ أي: ليس هناك مجال للتأخير أبداً، إن من يماطل أو يؤجل التوبة، لحظةً واحدةً خاسرٌ؛ لأن التأجيل ليس من صالحه؛ فقد يفاجئه القضاء والقدر بالموت، الذي سماه المولى عز وجل العذاب ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾، فيخسر خسارةً كبيرةً، ويندم ندامةً لا تُعوض. وإذا سَلِمَ الإنسان من الموت ولم يتب؛ فإنه يخسر بالتأجيل وقتاً ذهبياً من عمره كان بإمكانه أن يستغله، وأن يملأه بالعمل الصالح. لقد قال المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾، فرد الله جل وعلا عليهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً﴾؛ فبداية طريق الهداية تكون من الإنسان نفسه. 
أحبتي في الله .. الهداية لغةً: هي مصدرٌ للفعل هَدَى يَهدي، فهو هادٍ والمفعول منه مَهدِيّ، وهي الإرشاد والدلالة إلى ما يُوَصِّل إلى الهدف المطلوب، وهَدَى الحائرَ: أي أرشده، وأوصله، ودلّه على الطريق السليم، وضدُّ الهداية الضّلال، وهدَى هَدْيَ فُلانٍ: أي أنّه سلك طريقه، واسترشد به، وتبِع نهجه. فالهداية في اللغة هي الدلالة والتعريف والإرشاد والبيان.
أما الهداية اصطلاحاً فهي الدلالة بلُطفٍ إلى ما يوصِلُ المرء إلى بُغيته وهدفه. ومن مُسلَّمات الأمور أنّ الهداية والصلاح رزقٌ من الله تعالى يرزقه من يشاء من عباده؛ وذلك وفق حكمةٍ وتقديرٍ وعلمٍ مُسبَقٍ من الله سبحانه وتعالى بأحوال عباده وحقيقة صفاء نيّاتهم.

يقول أهل العلم أنه لا أحد يملك الهداية إلّا الله تعالى، حتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي بعثه الله هُدىً للناس، اقتصرت وظيفته على تبليغ الناس وإرشادهم إلى الطريق القويم، ثمّ يهدي الله من يشاء، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾،  فالرسول صلّى الله عليه وسلّم لمّا أراد الهداية لأقرب الناس إليه عمِّه أبي طالب لم يستطع ذلك، وجاءه من الله تعالى البيان بأنّ الهداية بيد الله وحده، قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.

لقد افترض سبحانه على عباده أن يتضرعوا إليه بطلب الهداية في اليوم مراتٍ ومراتٍ؛ وذلك في كل ركعةٍ من ركعات الصلاة في قراءة الفاتحة حيث نقرأ قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
لقد جعل الله المرء مختاراً للخير أو الشر؛ لقيام الحجة عليه، وإن الله تبارك وتعالى أوضح أنه بين للإنسان طريقين: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾، وعلى كلٍ منا أن يختار لنفسه طريقاً واحداً منهما: طريق النجاة بالإيمان بالله والإخلاص له والالتزام بكل ما أمرنا به والبعد عن كل ما نهانا عنه، أو طريق الهلاك بالبعد عن الصراط المستقيم؛ وكأن المولى سبحانه وتعالى يقول لنا (الهُدى بين يديك) والخيار لك.
خلق الله الإنسان وأودع فيه فطرةً سليمةً لاختيار السلوك الصحيح، وأنزل كتباً، وأرسل رسلاً، لإرشاده لسلوك طريق الخير، وبيان طريق الشر للابتعاد عنه، وترك الاختيار لنا؛ إذا شئنا التزمنا وإذا شئنا ابتعدنا عن طريق الصواب.
فالله تعالى يقول: يا من يدعي أن الله لم يهده: ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي﴾ وقد هديتك، ودللتك عليَّ، ولكن بدلاً من أن تأخذ آياتي هذه وتهتدي وتعمل بها كذبت، فتركت القرآن، وتركت السنة، ومِلْتَ إلى السيئات والمنكرات والمعاصي والآثام، وصرت عبداً للشيطان تطيعه فيما يأمرك به ويزينه لك، وإذا قال لك أحدٌ شيئاً، تقول: "لم يهدني الله بعد"! كيف وقد هداك؛ تأمل قول المولى عز وجل يرد عليك: ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾. يقول سبحانه: ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، هذه الآية الكريمة دعوةٌ لجميع العصاة إلى التوبة والإنابة، وإخبارٌ بأن اللّه تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها، مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر. 

قال تعالى عن عباده المؤمنين العارفين به: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
وقال تعالى عن المؤمنين من أهل الهدى في الدنيا: ﴿وَهُدُوا إلى الطيب من القول﴾، أي: في الدنيا، ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ فالهداية في الدنيا توفيقاً وتثبيتاً من الله تعالى إلى صالح الأقوال والأعمال تكون سبباً للهداية في الآخرة إلى صراط الله تعالى ثم إلى جنته سبحانه، وكل عبدٍ صالحٍ يُهدى إلى منزله فيها.

وفي الحديث، قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: [كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي، فَيَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ... ] ، ثُمَّ تَلا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ سورة الزمر آية 56. 
وكان النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ينقِل التُّراب يوم الخندق، حتَّى اغْمَرَّ بطنُه، أوِ اغبرَّ بطنُه، يقول: [وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا إِنَّ الأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا] ورفع بها صوته: [أَبَيْنَا أَبَيْنَا].

ومن أعظم أسباب الهداية، المجاهدة.. مجاهدة النفس فمن جاهد نفسه وشيطانه ورفقة السوء وصّله الله تعالى وأخذ بيده إلى الهداية قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
ومجاهدة النفس هي اختيار الأذكياء؛ فإن كان (الهدى بين يديك) كيف تتركه إلى طريق الضلال؟
وفي سعينا إلى الهدى علينا أن ننتبه إلى العقبات التي تمنع السير في طريق الهداية: وهي: الكفر؛ قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾، والظلم؛ قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، والفسق؛ قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، والإسراف والكذب؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾، والهوى؛ قال الله تعالى: ﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾، والشيطان؛ قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾، والنفس الأمارة بالسوء؛ قال تعالى ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، والانشغال بالدنيا؛ قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

أحبتي .. يقول سفيان بن عيينة: "اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها"، ويقول فضيل بن عياض: "الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين".

فيا صديقي، يا من تقول "لم يهدني الله"، ابدأ بسم الله، ولتكن نيتك أن تلتزم سبل الحق وطريق الهدى، ولا تقل أبداً: "إذا أراد الله أن يهديني اهتديت"، أخلص النية وفقك الله، وانشط في سعيك أعانك الله، فإذا سعيت فتح الله لك أبواب الخير، أما أن تجلس في البيت وتقول: "لو أراد الله أن يهديني اهتديت"، فهذا خداعٌ للنفس يزينه الشيطان لك، وتَذَكَّر أن سُنة الله في خلقه واضحةٌ في الآية الكريمة: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهدِ بنا واجعلنا هداةً مهديين، واجعلنا سببًا لمن اهتدى، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، اللهم لك الحمد على الهداية إلى الإسلام، ولك الحمد على اتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام.

تبقى كلمةٌ لابد منها؛ عنوان هذه الخاطرة (الهُدى بين يديك) هو عنوان كتابٍ قيمٍ أصدره المرحوم الوالد/ إبراهيم عبد الله الوليلي، قبل أكثر من عشرين عاماً؛ اللهم اجعله عِلماً يُنتفع به بعد وفاته، واجزهِ عنه خير الجزاء، وارحمه ربي واغفر له، واجعل مثواه الفردوس الأعلى من الجنة، واجمعنا به وبكل من نحب، في جنتك، واشملنا اللهم بعفوك ورحمتك وعطفك وكرمك ومَنِّك وفضلك ورضاك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/h7tc7q

الجمعة، 23 فبراير 2018

صفا



الجمعة 23 فبراير 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٣
(صفا)

كثيرٌ هُم من يخطئون في نطق اسمها؛ يعتقدون أن الاسم "صفاء"، رغم أنه (صفا)، بدون الهمزة الأخيرة. حاوَلَت مئات وربما آلاف المرات أن تصحح للغير نطقهم الخاطئ لاسمها، لكنها استسلمت في نهاية المطاف مستلهمةً المقولة المشهورة "خطأٌ شائعٌ خيرٌ من صحيحٍ غريبٍ".

أحبتي في الله .. اسم (صفا) ليس من الأسماء الشائعة، كفاطمة وعائشة مثلاً؛ لذا فهو من أسماء النُخبة، اسمٌ مميزٌ، لا يتكرر كثيراً فهو نادر؛ وقانون الندرة لا يحابي ولا يجامل: كل نادرٍ غالٍ.
يتسمى بهذا الاسم الجميل الإناث والذكور على السواء، وإن كان الغالب أن يكون هذا الاسم للإناث.
تعني كلمة (صفا) الصخر الضخم الصلد الأصم الأملس. وهي في اللغة العربية مشتقةٌ من الفعل صفَا يَصفُو، صَفْواً وصَفاءً، فهو صافٍ. نقول صفا الماءُ ونحوُه: راقَ، فهو نقيٌّ لا يكدره شيء. صفا الجوّ: لم يكن فيه غيمٌ. صفا القلبُ: خلا من الغَمِّ. صفا فلانٌ لفلانٍ: أخلص له.

يقول الشاعر:
يسألونني عن السر
في الهم وقد اختفى
أقول لهم إن القلبَ
قد راقَ وصفا
عرف طريقَ الهدى
بالقرآنِ وأحاديثِ المصطفى
فكان الرضا وكان الهناءُ
من بعدِ همٍ وغمٍ وجفا
صارت أحوالُه سارةً ميسرة
وهو على السعادةِ أشرفا
أصابت روحَه سهامُ فضلٍ
من الله فحمد واكتفى
فللأحبةِ وفاءٌ من قلبٍ
فاض الإيمان به فتشرفا

اسم (صفا) اسمٌ عربيٌ أصيلٌ، ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾. وفي الحديث الشريف قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنما جُعِل الطوافُ بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجِمار لإقامة ذِكر الله].

وصفا اسمٌ لمكانٍ مرتفعٍ معروفٍ قريبٍ من الكعبة كالصخرة الكبيرة إذا وصله الحاج أو المعتمر ارتقى عليه ووقف مستقبلاً القبلة مُكبراً مُهللاً ومُصلياً على النبي صلى الله عليه وسلم وداعياً بما شاء.
فاسم (صفا) مرتبطٌ لدينا كمسلمين بقداسةٍ خاصةٍ لها صلةٌ بشعيرتين وعبادتين هما: الحج والعمرة؛ حيث يعتبر السعي بين الصفا والمروة ركناً من أركان الحج والعمرة، وبين الصفا والمروة أربعمائة وثلاثٌ وتسعون خطوةً، وبين الصفا والمروة مسعىً يتكون من طابقين بطول 294,5 متراً، وعرض 20 متراً، وفي وسط المسعى وفي الطابق السفلي يوجد حاجزٌ يُقَّسِم المسعى إلى طريقين أحدهما مخصصٌ للسعي من الصفا إلى المروة، والثاني من المروة إلى الصفا، وفي الوسط ممرٌ ضيقٌ ذو اتجاهين، مخصصٌ لسعي العاجزين وغير القادرين على الهرولة، وللمسعى ستة عشر باباً في الواجهة الشرقية، وللطابق العلوي مدخلان أحدهما عند الصفا والآخر عند المروة، ولهذا الطابق سُلمان من داخل المسجد أحدهما عند باب الصفا، والآخر عند باب السلام.

كتب أحد العلماء الأفاضل يقول أن للصفا تاريخٌ لا يُنسى مع دين الإسلام؛ فعلى صخرة الصفا كانت بداية الدعوة، وعلى ذات الصخرة كانت نهاية الدعوة بعد أن أكمل الله سبحانه وتعالى للناس دينهم وأتم عليهم نعمته ورضى لهم الإسلام ديناً؛ قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.
كان وقوفه الأول، صلى الله عليه وسلم، على صخرة الصفا، حين صعد في بداية الدعوة وجعل ينادي: [يا بَني فهر .. يا بَني عدي ... ] ينادي على بطون قريش حتى اجتمعوا، وكان الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الخبر، فجاء أبو لهب وقريش. فقال صلى الله عليه وسلم: [أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مُصَدِقيّ؟]، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: [فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٌ شديدٌ]. فقال أبو لهب: تباً لك؛ ألهذا جمعتنا؟
أما وقوفه الأخير فكان في حجته في العام العاشر للهجرة، حين دنا صلى الله عليه وسلم من صخرة الصفا فقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [أبدأ بما بدأ الله به]، فبدأ بالصفا فصعد عليها حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره، وقال: [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده].
كان وقوفه الأخير في حجة الوداع، وحوله أكثر من مائة ألفٍ من الصحابة، كلهم يرقب حركاته وسكناته وأقواله وأوامره صلى الله عليه وسلم، فإذا لبّى لبوا، وإذا كبَّر كبَّروا، وإذا أهل أهلوا، وإذا أبطأ أبطأوا، وإذا أسرع أسرعوا، الجميع رهن إشارته، بل رهن لحْظه وطرْفه.
ما أعظم البَوْن بين الوقفتين، كلتاهما كانتا على ذات الصخرة، صخرة الصفا، لكن خلال ثلاثٍ وعشرين سنةً بين الوقفتين تغيرت كثيرٌ من الأمور؛ دالت الأيام، ورُفع أقوام، وخُفض آخرون، وساد أقوام، وتذيّل آخرون!

في الوقفة الأخيرة على صخرة الصفا كانت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؛ والتي قال فيها: [أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولي، فإنِّي لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا، بِهذا الموقِفِ أبدًا.
أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليْكُم حرامٌ، إلى أن تلقَوا ربَّكم كحُرمةِ يومِكم هذا، وَكحُرمةِ شَهرِكم هذا، وإنكم ستلقونَ ربَّكم، فيسألُكم عن أعمالِكم وقد بلَّغتُ، فمن كانت عندَهُ أمانةٌ فليؤدِّها إلى منِ ائتمنَهُ عليْها وإنَّ كلَّ ربًا موضوعٌ، ولكن لَكم رؤوسُ أموالِكم، لا تظلِمونَ ولا تُظلَمونَ قضى اللَّهُ أنَّهُ لا ربًا وإنَّ ربا العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلبِ موضوعٌ كلُّهُ، وإنَّ كلَّ دمٍ كانَ في الجاهليَّةِ موضوعٌ، وإنَّ أوَّلَ دمائكم أضعُ دمَ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ المطَّلب فَهوَ أوَّلُ ما أبدأُ بِهِ من دماءِ الجاهليَّةِ.
أما بعدُ أيُّها النَّاس، إنَّ الشَّيطانَ قد يئِسَ أن يعبدَ في أرضِكم هذِهِ أبدًا، ولَكنَّهُ أن يطاعَ فيما سوى ذلِكَ فقد رضِيَ بهِ مِمَّا تحقِّرونَ من أعمالِكم، فاحذروهُ على دينِكُم.
أيُّها النَّاسُ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾، ويحرِّموا ما أحلَّ اللَّهُ، وإنَّ الزَّمانَ قدِ استدارَ كَهيئتِهِ يومَ خلقَ اللَّهُ السَّمواتِ والأرضَ، وَ﴿إنَّ عدَّةَ الشُّهورِ عندَ اللَّهِ اثنا عشَرَ شَهراً منْها أربعةٌ حُرُمٌ﴾، ثلاثةٌ متواليةٌ، ورجبُ الَّذي بينَ جُمادى وشعبانُ.
أمَّا بعدُ أيُّها النَّاسُ، فإنَّ لَكم على نسائِكم حقًّا ولَهنَّ عليْكم حقًّا، لَكم عليْهنَّ أن لا يوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهونَه، وعليْهنَّ أن لا يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ، فإن فعلنَ فإنَّ اللَّهَ قد أذنَ لَكم أن تَهجُروهنَّ في المضاجِعِ، وتضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّحٍ، فإنِ انتَهينَ فلَهنَّ رزقُهنَّ وَكسوتُهنَّ بالمعروفِ واستوصوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّهنَّ عندَكم عَوانٍ لا يملِكنَ لأنفسِهنَّ شيئًا، وإنَّكم إنَّما أخذتُموهنَّ بأمانةِ اللَّهِ، واستحللتُم فروجَهنَّ بِكلمةِ اللَّهِ، فاعقلوا أيُّها النَّاسُ قولي، فإنِّي قد بلَّغتُ وقد ترَكتُ فيكم ما إنِ اعتصمتُم بِهِ فلن تضلُّوا أبدًا، أمرًا بيِّنًا كتابَ اللَّهِ وسنَّةَ نبيِّهِ.
أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولي واعقِلوهُ تعلمُنَّ أنَّ كلَّ مسلمٍ أخو للمسلِمِ، وأنَّ المسلمينَ إخوَةٌ، فلا يحلُّ لامرئٍ من أخيهِ إلا ما أعطاهُ عن طيبِ نفسٍ منه فلا تظلِمُنَّ أنفسَكمُ. اللَّهمَّ هل بلَّغتُ؟]، قالوا: اللَّهمَّ نعَم، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: [اللَّهمَّ اشْهَدْ].

أحبتي .. لعلَّ من اللطائف التي يذكرها علماؤنا الأجلاء في كون النبي صلى الله عليه وسلم قد اختارَ موضعَ الصفا ليذكُر فيه نعمةَ النصر وإنجازَ الوعد أنه هو الموضع الذي كانت تقطعُه هاجَر أم إسماعيل عليهما السلام تبحثُ فيه عن الفَرَج وكشف الكُربة، تبحثُ عن الماء لابنِها الرَّضيع، فيكشِفُ الله غُمَّتَها، ويُفرِّجُ كُربتَها. ومن اللطائف أيضاً: أنه صلى الله عليه وسلم حينما ضُيِّق عليه في مكة وأُخرِج منها، وقفَ عند الصفا، فقال صلى الله عليه وسلم: [واللهِ إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ].
فحريٌّ بكل مسلمٍ أن يستلهِمَ هذه العِبَر والعِظات، وأن يستحضِر وهو يقِفُ على الصفا ما كان يقولُه صلى الله عليه وسلم، واثقاً بالفأل الحسن، وتغيُّر الحال من الضعف إلى القوة، ومن الاضطهاد إلى النصر.

ومن لا تمكنه ظروفه من زيارة هذه البقعة المقدسة بجوار الكعبة المشرفة والمسجد الحرام، عسى سماعه اسم (صفا) أو ترديده له أن يكون مذكراً له بهذه المعاني الطيبة، مستلهماً من معنى الاسم ضرورة تصفية قلبه من كل حقدٍ أو حسدٍ أو ضغينةٍ، وتصفية عمله من كل شركٍ أو سمعةٍ أو رياءٍ.

اللهم اجعلنا ممن تصفو قلوبهم وممن يُصَّفُون أعمالهم لتكون خالصةً لوجهك الكريم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/2qmzKg

الجمعة، 16 فبراير 2018

الأخسرين أعمالاً

الجمعة 16 فبراير 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٢
(الأخسرين أعمالاً)

جلسةٌ عائليةٌ طيبةٌ جمعتنا، تبادلنا فيها الأحاديث في موضوعاتٍ شتى، إلى أن وصل بنا المطاف إلى الحديث عن فئةٍ من الناس ضلوا وتجاوز ضلالهم عدم رؤية الحق، رغم أنه ظاهرٌ، إلى اعتقادهم الجازم بأن ما هم فيه من ضلالٍ هو عين الصواب، وهو الحق، بل هو السبيل إلى الخير! فتذكرت الآية الكريمة من سورة الكهف التي تصف حال هؤلاء: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾، فحكيت لمن في تلك الجلسة قصةً تُروى وفيها أن اﻹمام أبا حنيفة رحمه الله مَرَّ يوماً في طريقٍ فرأى رجلاً سرق تفاحةً ثم تصدق بها، فسأله الإمام: "لم سرقتها؟ ظننتك جائعاً!"، قال الرجل: "لا يا هذا {وهو لا يعرف أنه اﻹمام أبو حنيفة} أنا أتاجر مع ربي!"، قال أبو حنيفة: "وكيف ذلك؟!"، قال الرجل: "سرقت التفاحة فكُتبت عليّ سيئةٌ واحدةٌ، وتصدقت بها فكُتبت لي عشر حسناتٍ؛ فبقي لي تسع حسناتٍ كسبتُها؛ فأنا أتاجر مع ربي!"، فقال له الإمام: "أنت سرقت فكُتبت عليك سيئة، ثم تصدقت بما سرقته، فلم يقبلها الله منك؛ لأن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً؛ فبقيت عليك سيئة". قلت لأحبائي في تلك الجلسة كم في زماننا من أمثال هذا الرجل؛ يفتي لنفسه أو لغيره دون بينةٍ، ويجادل بالباطل وهو يظن أنه على الحق، ويبني الحكم على نصٍ قرأه ربما بجهلٍ دون أن يرجع ﻷهل العلم؟
ولأن الشيء بالشيء يُذكر فقد حكى لنا أحد أقاربنا من الذين كانوا معنا في تلك الجلسة العائلية موقفاً حدث له مع أحد أصدقائه القدامى، لم يتواصل معه منذ سنواتٍ طويلةٍ بسبب سفره إلى خارج الدولة، فلما عاد أراد قريبنا أن يعيد الصلة التي انقطعت؛ فإذا بصديقه يدعوه لمصاحبته والسفر معه كل يوم جمعةٍ للصلاة بمسجدٍ به ضريح أحد أولياء الله الصالحين، قال له أنه يتبارك بزيارته، وحكى له عن بركات هذا الولي وكيف أنه كان يشكو من مرضٍ ظل يُعالَج منه لعدة سنوات لكنه ومع أول زيارةٍ لضريح هذا الولي وتوسله له بالشفاء إذا به يُشفى ويتعافى خلال أيامٍ قليلةٍ. يقول قريبنا أنه بيَّن لصديقه أن هذا الأمر حرامٌ لأنه إن لم يكن شركاً بالله سبحانه وتعالى ففيه شبهة الشرك، وأنه قرأ فتوى في هذا الموضوع يتذكر أهم ما فيها أنه أولاً: لا يجوز شد الرحال لزيارة المساجد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: [لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى]، ثانياً: دعاء الأموات أو الاستغاثة بهم أو طلب المدد منهم، والاعتقاد فيهم أنهم يملكون جلب نفعٍ أو دفع ضر ٍأو شفاء مريضٍ أو رد غائبٍ كل ذلك وأشباهه شركٌ أكبر يخرج عن ملة الإسلام، ثالثاً: قد يصادف شفاء بعض المرضى الذين يزورون تلك الأضرحة تقدير الله عز وجل، فيظن الجاهلون أن الشفاء تم بسبب الرجل الصالح الذي في الضريح، بل وقد يقضى الشيطان بعض حوائج الناس ليغريهم بذلك على الثبات على الشرك رغم أن الشفاء لا يتم إلا بأمر الله وقدره.
أضاف قريبنا أنه بيَّن لصديقه واجب التزام المسلم بالنهي عن مثل تلك الزيارات مخافة الوقوع في الشرك والعياذ بالله، لكنه لم يجد من صديقه استجابةً لكل ما قاله، إنما على العكس وجد منه إصراراً على ما يظنه ويعتقده من بركات هؤلاء الأولياء وكراماتهم! ففضَّل ترك الجدال والمِراء عملاً بحديث الرسول الكريم: [أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا]. وتساءل قريبنا أليس هذا واحداً من هؤلاء (الأخسرين أعمالاً)؟

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن  هذه الآية من سورة الكهف: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ نزلت في الكافرين على وجه الخصوص إلاّ أنّ حكمها عامٌ.
قال شيخ المفسّرين الإمام الطبري أنه يدخل في معنى (الأخسرين أعمالاً) "كلّ عاملٍ عملاً يحسبه فيه مصيباً، وأنّه لله بفعله ذلك مطيعٌ مُرْضٍ، وهو بفعله ذلك لله مُسخطٌ”.
وقال ابن كثير أن (الأخسرين أعمالاً) هم أولئك الذين: "عملوا أعمالاً باطلةً على غير شريعةٍ مشروعةٍ مرضيةٍ مقبولةٍ ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ أي يعتقدون أنهم على شيءٍ، وأنهم مقبولون محبوبون".
وقال عالمٌ جليلٌ: "ضلَّ سَعْى هؤلاء؛ لأنهم يفعلون الشر، ويظنون أنه خيرٌ؛ فهم ضالّون من حيث يظنون الهداية. ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار والملحدين حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر، ويُنَادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة، ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صُنْعاً وقدَّموا خَيْراً، لكن هل أعمالهم هذه كانت لله؟ الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ، فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيماً وتكريماً وتخليداً لذكراهم".
ومعنى: ﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾ أي: بَطُل وذهب وكأنه لا شيءَ، مثل السراب كما صَوَّرهم الحق سبحانه في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾.
ويرى أهل العلم أن معنى الآية عامٌ يشمل جميع من ضلّ سعيُهم في العقائد والأديان وهم يحسبون أنّهم على الحقّ، كما يشمل كلّ من كانت هذه صفته في أيّ مجال وفي أيّ مستوى وفي أيّ عمل كان. فالمقصود بعموم معنى الآية الكريمة كل من يعمل عملاً يحسبه طيباً وحسناً، وأنه مثابٌ به مأجورٌ عليه، لكن الصحيح يكون بخلاف ذلك تماماً، فقد وصف الله سبحانه وتعالى عمل مثل هؤلاء بالخسران والضلال.
إن هذه الآية يمكن أن تنطبق ليس فقط على الكافر ولكن أيضاً على المسلم حين يخطئ أو يرتكب معصيةً وهو يظن أنها خيرٌ.
يقول تعالى موضحاً حال مثل هؤلاء، مبيناً أن مفتاح الشر كله أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وهو ما يحدث عندما   يُعجب الإنسان بنفسه وبكل ما يصدر عنها فلا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه، رغم أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المسلمين أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم في كل صلاةٍ بقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾. ويقول سبحانه في الحديث القدسي: [يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ]. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي يقول: [اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ].

إنّ القرآن العظيم يحكم على الّذي يعمل العمل الباطل وهو يظن أنه يفعل الخير بأنّه ليس خاسراً فقط، بل من (الأخسرين أعمالاً)، فالأخسر هو الأكثر خسراناً من الخاسر، إنها صيغة مبالغةٍ تُبين عِظَم الخسارة وفداحة الخُسران؛ ذلك أنّ مَن يفعل الشّر وهو يراه شرّاً، ويفعل الباطل وهو يراه باطلاً، ويقترف الجُرم وهو يراه جُرماً، مَنْ هذه حاله قد يفيق من غفلته، ويرجع عن ضلاله، ويتوب إلى ربّه، لكنّ الّذي يقوم بالظلم، ويستمرئ الضّلال، ويغشى المعاصي، ويقترف المنكر، وهو يرى نفسه من المحسنين، فهذا لا يُرجى منه خيرٌ، ولا تُنتظر منه توبةٌ إلّا من رحم ربي؛ فهو غالباً ما يكون من المكابرين الذين إذا قلت لأحدهم اتقِ الله أخذته العزة بالإثم، هؤلاء لا يستمعون لنصح ناصحٍ ولا لوعظ واعظٍ، مثلهم في ذلك مثل فرعون الذى رأى كفره شيئاً محموداً ومفيداً فقال لقومه: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾.

يرى علماء الاجتماع أنّ كثيراً من مشكلات الأفراد والأسر ونكبات المجتمعات سببها أولئك الّذين يفعلون أشياء يرونها في ظاهرها صلاحاً، وهي عَيْن الفساد؛ وهؤلاء قال الله عزّ وجل عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، ذلك أنّهم لا يعرفون الصّراط المستقيم، ولا يُفرِّقون بين الفساد والصّلاح؛ فأكبر مصيبةٍ ألا تدري وألا تدري أنك لا تدري، أن ترتكب أشنع الخطأ وتظن أنك على صوابٍ، أن تكون أبعد الناس عن الحق وتظن أنك على الحق ومن سواك على الباطل.

وصدق من قال:
من الناس من يدري، ويدري أنه يدري، فهذا عـالمٌ فاتبعوه
ومنهم من لا يدري، ويدري أنه لا يدري، فهذا جاهلٌ فعلِّموه
ومنهم من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فهذا شيطانٌ فاحذروه

أحبتي .. لا بدّ للمرء أن يقف مع نفسه وقفةً للمراجعة اتّعاظاً بهذه الآية الكريمة واعتباراً بهؤلاء القوم، فقد يكون في الطّريق الخطأ، وقد يكون سعيه في ضلالٍ، وقد يكون عمله في باطلٍ، وهو لا يدري، بل وقد يظن أنّه على خيرٍ، وأنه يسير في طريق البرّ والحقّ؛ قال سبحانه وتعالى على لسان فئةٍ من هؤلاء:  ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾.

أحبتي .. كم من أناسٍ أدركوا خطأهم في اختيار الطّريق وبُعدهم عن سواءَ السّبيل ولكن بعد فوات الأوان، فهل نترك أنفسنا لنكون مثلهم؟ ألا يجدر بنا أن نبادر إلى حساب أنفسنا لنتبين الحق من الباطل؟ ألم نقرأ قول الله سبحانه: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾؟  ألا تنخلع قلوبنا رهبةً وخوفاً من الآية الكريمة: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾؟ فلنراجع أحبتي أعمالنا قبل أن نُسأل، ونزنها بميزان الشرع، حتى لا نكون من (الأخسرين أعمالاً)، ولنبتعد بأنفسنا عن الهوى والكبر وغمط الحق، ونقترب ما استطعنا من طريق الحق والصواب وسبيل الرشاد الذي سماه الله عز وجل الصراط المستقيم، والذي نطلب هدايتنا إليه في كل صلاةٍ بل وفي كل ركعة؛ حتى لا نكون من المغضوب عليهم ولا الضالين.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/ZoMz5F