الجمعة، 9 فبراير 2018

الرضا والقناعة

الجمعة 9 فبراير 2018م

خاطرة الجمعة /١٢١
(الرضا والقناعة)

يُحكى أن أرملةً فقيرةً عاشت مع طفلها الصغير في حجرةٍ صغيرةٍ فوق سطح أحد المنازل حياةً متواضعةً في ظروفٍ صعبةٍ، وكان أكثر ما كان يزعج الأم هو المطر في فصل الشتاء؛ لكون الغرفة تحيطها أربعة جدرانٍ ولها بابٌ خشبيٌ غير أنه ليس لها سقف. مر على الطفل أربع سنواتٍ منذ ولادته لم تتعرض المدينة خلالها إلا لزخاتٍ متقطعةٍ من المطر، وذات يومٍ تراكمت الغيوم وامتلأت السماء بالسحب الكثيفة الواعدة بمطرٍ غزيرٍ؛ ومع ساعات الليل الأولى هطل المطر بغزارةٍ على المدينة فاختبأ الجميع في منازلهم، أما الأرملة والطفل فكان عليهما مواجهة قدرهما؛ نظر الطفل إلى أمه نظرةً حائرةً واندسّ في حضنها، ولكن جسد الأم والابن وثيابهما طالهم ماء السماء المنهمر، أسرعت الأم إلى باب الغرفة فخلعته ووضعته مائلاً على أحد الجدران، وخبّأت طفلها خلف الباب لتحجب عنه سيل المطر المنهمر؛ فنظر الطفل إلى أمه في سعادةٍ بريئةٍ وقد علت وجهه ابتسامة الرضا وقال لأمه: "تُرى ماذا يفعل الفقراء الذين ليس عندهم بابٌ حين ينزل عليهم المطر؟". لقد أحس الصغير في هذه اللحظة أنه ينتمي إلى طبقة الأثرياء؛ ففي بيتهم باب!
لم يكن الطفل الصغير بحكم سنه مدركاً لقيمة الرضا، ولا كان يفهم قيمة القناعة، لكن سؤاله لأمه كان معبراً عن قيمتي (الرضا والقناعة) معاً كما يدركهما ويفهمهما الكبار.

كما يُحكى أن رجلاً فقيراً يرعى أمه وزوجته وأبناءه، كان يعمل خادماً لدى أحد السادة، مخلصاً في عمله يؤديه على أكمل وجه، تغيب ذات يومٍ عن العمل، فقال سيده في نفسه: "لابد أن أعطيه ديناراً زيادةً حتى لا يتغيب عن العمل؛ فبالتأكيد لم يغب إلا طمعاً في زيادة راتبه لأنه يعلم مدى حاجتي إليه"، وحين حضر الخادم في اليوم التالي أعطاه راتبه وزاد عليه الدينار، لم يتكلم الخادم ولم يسأل سيده عن سبب الزيادة. بعد فترةٍ غاب الخادم مرةً أخرى، فغضب السيد غضباً شديداً وقال: "سأنقص من مرتبه الدينار الذي زدته"، وأنقصه بالفعل، ولم يتكلم الخادم ولم يسأل سيده عن نقصان راتبه؛ فاستغرب السيد مِنْ ردة فعل الخادم، وقال له: "زدتك فلم تسأل، وأنقصتك فلم تتكلم"، قال الخادم: "عندما غبتُ المرة الأولى رزقني الله مولوداً، فحين كافأتني بالزيادة قلتُ هذا رزق مولودي قد جاء معه، وحين غبتُ المرة الثانية ماتت أمي، وعندما أنقصتَ الدينار قلتُ هذا رزقها قد ذهب بذهابها"!
ما أجملها مِنْ أرواحٍ تقنع وترضى بما وهبها إياه الرحمن، وتترفع عن نسب ما يأتيها مِنْ زيادةٍ في الرزق أو نقصان إلى الإنسان أياً كان ولو كان سيداً.

أحبتي في الله .. جُبِلَ الإنسان على حب الخير لنفسه؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾، كما جُبل على الحرص على ما يملك من مالٍ فيبخل به ويمتنع عن صرفه في أوجه الخير والبر والإحسان؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾. يعتقد الإنسان أنه بذلك قد حقق لنفسه السعادة والهناء، لكن فاته أن السعادة الحقيقية هي في (الرضا والقناعة) بما قسم الله له؛ فمن ملكهما عاش في راحة بالٍ، وطمأنينة نفسٍ، وانشراح صدرٍ، وذهاب همٍ ونكدٍ وكدرٍ.
الرضا هو ضد السخط، والسخط كراهية الشيء وعدم الرضا به. والرضا متضمنٌ معنى الحب والإقبال؛ قال سبحانه: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى رضي عن أفعالهم، وهُم قد رضوا عن ربهم لما جازاهم به وخصهم بثوابٍ عظيمٍ. ومعنى الرضا من الله عز وجلّ هو خلاف السخط.

ولقد وردت صفة الرضا في القرآن الكريم على صورٍ مختلفة وفي مواضع متعددة؛ منها على سبيل المثال قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِيـنَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾، وقوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾، وقوله: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾، وقوله: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾. وكذلك قوله تعالى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾، وقوله: ﴿وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَـاهُ﴾، وقوله: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾، وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِيـنَ﴾. وقوله أيضاً: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي﴾، وقوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّـِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّـاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مّـِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.

و(الرضا والقناعة) صنوان متلازمان؛ فلا رضا بغير قناعةٍ ولا قناعة بدون رضا.
ووردت كلٌ من صفة الرضا وصفة القناعة في كثيرٍ من الأحاديث النبوية الشريفة؛ منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله يقول لأهل الجَنَّة: يا أهل الجَنَّة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط ِأحداً من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [عِظَمُ الجزاء مع عِظَمِ البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط]. قال عليه الصلاة والسلام: [إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عزّ وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عزّ وجل عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه].
ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على القناعة، وبيّن أنها طريقٌ إلى السعادة والفلاح؛ قال عليه الصلاة والسلام: ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: ]مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ليس الغِنَى عن كثرة العرَض، ولكن الغِنى غِنى النفس]، كما قال عليه الصلاة والسلام: [من يأخذ عني هؤلاء الكلمات، فيعْمَل بهن، أو يُعَّلِم مَن يعمَل بهن؟] فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدّ خمساً، وقال: [اتقِ المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب].
إذا أردنا أن يرزقنا الله القناعة، علينا أن ننظر إلى من هم أقل منا مالاً وجاهاً وحسباً، فقد علمنا ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين قال: [انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ]. وفي رواية أخرى: [إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَنْ فَوْقَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ].

لقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج والمثل الأعلى في (الرضا والقناعة) بما قسم الله تعالى؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ في جَنْبِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَا لي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا، كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا]. وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه بأن يرزقه القناعة فيقول: [اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبةٍ لي بخيرٍ]، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللهم ارزق آل محمد قوتاً].
وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: ]اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك].وعنها أنها قالت: "لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع من خبزٍ وزيتٍ في يومٍ واحدٍ مرتين". وعنها رضي الله عنها قالت: "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدمٍ وحشوه ليفٌ". وجاء عنها رضي الله عنها أنها قالت لعُروة ابن أختها: "وإن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلةٍ في شهرين، وما أُوقدت في أبيات رسول الله-صلى الله عليه وسلم-نارٌ"، فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: "الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-جيرانٌ من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله-صلى الله عليه وسلم-من أبياتهم فيسقيانه".

وورد في الأثر أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقول في دعائه: {أسألك تمام النعمة في الأشياء كلها، والشكر لك عليها حتى ترضى، وبعد الرضا}. وكتب الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري يقول له: {أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر}. وقال الإمام الشافعي في معنى قول الله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾: {لما حُجب قومٌ بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا}. ويقول ابن القيّم: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنىً وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا، امتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه".

يقول أهل العلم أن ما يقع فيه الناس من خلافٍ وشقاقٍ سببه الدنيا والتنافس عليها، سببه ضعف (الرضا والقناعة) في القلوب، وصدق رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حينما قال: ]واللهِ ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبْسَط الدنيا عليكم؛ كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم]؛ فما فشا الجشع والطمع إلا عندما غابت القناعة.
والقناعة هي الرضا بما قسمه الله وأعطاه، هي استغناءٌ بالحلال عن الحرام، القناعة هي امتلاء القلب بالرضا وعدم التسخط والشكوى. إن السعيد حقاً هو من رضي بما قسم الله له، وصبر على القضاء خيره وشره، وأحس وذاق طعم الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: ]ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً]. وقال صلى الله عليه وسلم: ]مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي: رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُرْضِيَهُ]. والإنسان بدون الرضا يقع فريسةً لليأس، وتتناوشه الهموم والغموم من كل حدبٍ وصوبٍ، ولن يجد ملاذاً ولا راحةً من الطمع والجشع والحسد وأمراض القلوب وسخط علام الغيوب إلا بالرضا بما قسم الله. إن أعظم أبواب الخير والراحة والنعيم أن يرضى عنك ربك في الدنيا والآخرة ولن يصل المرء إلى هذه المكانة إلا بعقيدةٍ صحيحةٍ وعبادةٍ سليمةٍ وعملٍ صالحٍ وطمعٍ فيما عند الله من أجرٍ وثوابٍ، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ
وليتك ترضى والأنامُ غِضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ
وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الود فالكل هينٌ
وكلُ الذي فوق الترابِ ترابُ

إن القناعة لا تعني بالضرورة أن يكون العبد فقيراً، فالغنيُّ محتاجٌ إلى القناعة كحاجة الفقير إليها، فقناعة الغني أن يكون شاكراً راضياً، قناعته أن تكون الدنيا في يده لا في قلبه؛ حتى لا يكون عبداً لها، وتكون الآخرة في قلبه، فكم من صاحب مالٍ وفيرٍ رُزق القناعة، فلا يغش في تجارته، ولا يمنع الأجير حقه، ولا يذل نفسه للناس من أجل مالٍ أو منصبٍ أو جاهٍ، ولا يمنع زكاة ماله، إن ربح شكر، وإن خسر رضي، فهذا هو القنوع ولو ملك قصور كسرى وقيصر، ولو ملك مال قارون.
وقناعة الفقير، أن يكون راضياً بما قسم الله له، مستسلماً لأمر الله، لا ساخطاً ولا شاكياً، ولا جزعاً من حالِه، ولا غاضباً على رازقه، قناعته ألا يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، قناعته أن يكون عفيفاً متعففاً، وألا يرتكب الحرام من أجل الحصول على لقمة العيش.
يقول الشاعر:
فَـلا تَـغُـرَّنَّكَ الـدُّنْيــا وَزِيـنَـتُـهـا
وانْظُرْ إلى فِعْلِها في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها
هَلْ رَاحَ مِنْهـا بِغَيْـرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِهـــا
لَـوْ لـم يَـكُـنْ لَـكَ إِلا رَاحَـــةُ البَـدَنِ

وعن علاقة القناعة بالطموح يقول أحد العارفين: "القناعة والطموح كلمتان قد تبدوان للبعض متضادتين، بينما هما على العكس من ذلك، فالقناعة هي الرضا، وهي حالةٌ نفسيةٌ تدفع إلى رضا الإنسان بواقعه، والطموح عند الإنسان المسلم العاقل يترافق مع القناعة في خطين متلازمين". ويقول آخر: "القناعة ليست هي الخنوع، وإنما هي حالةٌ من التصالح والسلام النفسي الذي يجعلنا نُقَدِّر ما وصلنا إليه نتيجة طموحنا؛ مما يشكل حافزاً إضافياً للانطلاق إلى طموحٍ جديدٍ لا تتوقف عجلة دورانه". ويقول ثالث موضحاً: "يتفاوت الناس في نظرتهم لحياتهم، بين طَموحٍ متحفزٍ متربصٍ بكل فرصةٍ وانفراجةٍ لمحاولة تحسين أحواله، وبين قابعٍ متخاذلٍ متواكلٍ كسولٍ يظن أن الرزق سيأتيه ولو نام على فراشٍ من حرير؛ فجعل من الكسل معنىً يرادف القناعة، رغم أنها في حقيقتها تناقض هذا المعنى، وما ذلك إلا شماعةٌ يعلق عليها فشله وركونه للكسل وعدم أخذه بالأسباب".

أحبتي .. إن السخط والجزع وعدم الرضا على قضاء الله وقدره وبما قسمه للعباد لا يزيد المرء إلا شقاءً وتعاسةً وبعداً عن الله ويحرم صاحبه من راحة البال وطمأنينة النفس. قال الشاعر:
النفس تـجزع أن تكون فـقيـرةً
والفقـر خـيرٌ من غنىً يطغيهــا
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت
فجميع ما في الأرض لا يكفيها

فلا راحة بالٍ ولا طمأنينة نفسٍ بغير (الرضا والقناعة)؛ فلنرضَ ولنقنع بما أنعم به الله علينا، ولنأخذ في ذات الوقت بأسباب توسعة الرزق من كل أبواب الحلال الممكنة.
عافانا الله وإياكم من غضب الله وسخطه، وكتب لنا ولكم رضاه عنا.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك، وارزقنا القناعة يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/vd2TkU

الجمعة، 2 فبراير 2018

السرور والابتسام

الجمعة 2 فبراير 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٠
(السرور والابتسام)

"بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورُزقت بره"، كانت هذه تهنئتي لصديقٍ عزيزٍ أنعم الله سبحانه وتعالى عليه ورزقه بأول مولودٍ له، سألته: "ولدٌ أم بنت؟"، أجابني بزهوٍ: "بنت مثل القمر"، سألته: "بما سميتها؟"، رد مُحاكياً السياق القرآني: "سَمَّيْتُهَا {سارة} وَإِنِّي أُعِيذُهَا {بالله} وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، سألته مداعباً: "سارة من الإسرار؟ كما في قول نوحٍ عليه السلام: ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ وكما في الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ بمعنى حدّث به سِرًّا أي أفضى به على أنّه سِرٌّ. أو أسرَّ الحديثَ ولم يعلنه، أي كتَمه وأخفاه كما في الآية الكريمة: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ﴾؟"، تبسم ورد بالقول: "بل من السرور؛ وهو الفرح والبهجة؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾، وكما في قوله سبحانه: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا . وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾. عسى سارة أن تَسُر وتُفْرِح وتُبهج كل من حولها". أعدت تهنئتي له بسلامة المولودة سارة وسلامة الوالدة. قبل أن نفترق طلب مني أن أرسل له بمختصر قصة السيدة سارة زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ ففعلت وأرسلت له ما يلي نقلاً عن كتاب {المرأة في الإسلام ـ حقوقٌ وحريات} بتصرفٍ محدود:

تروى لنا كتب التاريخ والسيرة قصة سارة بأنها كانت ابنة عم النبي إبراهيم عليه السلام، وكانت ذات حُسنٍ وجمالٍ نادرين، وقد رُوي بأنها كانت أجمل نساء العالمين بعد حواء، فتزوجها إبراهيم عليه السلام ورحل بها من فلسطين نحو مصر، وعاش هناك فترةً من الزمن، وكان في مصر ملكٌ ظالمٌ جبارٌ، وصلته الأخبار بقدوم هذه المرأة الجميلة إلى أرضه فأرسل أتباعه يطلبونها له، وقال لهم إن كان يرافقها زوجٌ لها فاقتلوه! ثم إن أعوان الملك ما لبثوا أن وصلوا إلى إبراهيم عليه السلام، فسألوه: مَن تلك التي معك؟ فأدرك قصدهم، وعرف خطرهم فقال لهم: هي أختي! وقصد في الله، فأخذوها إلى الملك الظالم، فلما أراد هذا الملك مد يده نحوها قالت بدعاء الشريفة العفيفة: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبنبيك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فاكفني هذا الفاجر؛ فتجمدت يد الملك التي امتدت إليها في مكانها، ولم يعد يستطيع الحراك، فأصابه خوفٌ وذعرٌ شديدان، وقال لها ماذا فعلت بي؟ اطلقيني ولن أَمَسَكِ بسوء؛ فخافت سارة أن يأمر بقتلها وقد تجمع حرسه وجنوده من حولها، فدعت الله تعالى أن يطلقه فأطلقه. لكنه للمرة الثانية عاد فكرر محاولته الدنيئة ظناً منه أن ذلك كان من عمل الشياطين، ولكنها سارعت فدعت الله تعالى فتجمد مكانه مرةً أخرى، وعاد فطلب منها أن تطلقه ففعلت. ولكن الظالم كررها مرةً ثالثةً، وحصل ما كان في المرتين السابقتين. ولما رأى أنه لا سبيل له عليها وأدرك أنها ذات عفافٍ لا يمكن أن يُمس، وأن الله حافظها ومانعها منه، أمر حراسه أن يخرجوها وأن يعيدوها إلى بيتها محملةً بالهدايا، فقد أصابه الهلع والخوف مما رأى من أمرها، وأراد أن يجتنب دعاءها عليه مرةً أخرى، وأعطاها مع الهدايا جاريةً اسمها هاجر. وهكذا عادت سارة الشريفة بكامل عفافها وكرامتها إلى زوجها إبراهيم عليه السلام، تزف له البشرى بتوفيق الله. ولكن إبراهيم عليه السلام أوجس خيفةً من البقاء بمصر فقرر العودة من جديد إلى فلسطين. وعندما عاد إلى فلسطين كانت نفسه تتوق للولد، ولم يكن الله قد رزقه أي أولادٍ من زوجته سارة، ومن منطلق حرص المرأة على مشاعر زوجها وحسن تفهمها وإدراكها للأمور، وحكمتها البالغة، وإخلاصها لزوجها، رأت أن تختار له زوجةً أخرى ينجب منها ما تحبه نفسه من الولد والذرية، فاختارت له أن يتزوج هاجر فتزوجها، وأنجب منها ابنه إسماعيل عليهما السلام، ثم إن الله تعالى أمره بأن يتركهما في وادي مكة، وذلك وحيٌ ألقاه عليه في المنام؛ فاستجاب الخليل لربه، وسافر بزوجته وفلذة كبده الذي عاش عمره يحلم به، وتركهما في وادٍ جافٍ قاحلٍ لا كلأ فيه ولا ماء، كما وصفه الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾. وترك إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر وابنه إسماعيل في هذا الوادي، وعينه تكاد تدمع من الحزن، وتناديه زوجته: كيف تتركنا في هذا الوادي وحدنا؟ ولكنها تستدرك كلامها لأنها تثق بزوجها ثقةً كبيرةً؛ فسألته: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذاً لا يضيعنا".

وأكملت لصديقي قصة السيدة سارة من مرجعٍ آخر فكتبت له ما يلي:
"ومضت السنوات حتى تخطت السيدة سارة التسعين من العمر وقد ارتضت بنصيبها من الدنيا ونست حلمها بالأمومة، إلا أن الله لم ينس تلك الأمنية التي استقرت طويلاً بقلبها، وبشرت رسلُ الله إبراهيمَ بأن زوجته ستنجب ولداً اسمه إسحاق، ولما سمعت السيدة سارة حديث الرسل اندهشت كيف تنجب وهى عجوزٌ عقيمٌ؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾، وقال سبحانه: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾، وقال: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾. إلا أن الله لم يحقق أمنيتها وحسب وإنما جعلها أم الأنبياء، وجعل أكثر الأنبياء فى ذرية إبراهيم منها، وبعد أن كانت عجوزاً عقيماً يئست من الأمومة والإنجاب أصبحت أماً للأنبياء إسحاق، ويعقوب الذى ينحدر من نسله أنبياء بنى إسرائيل".

أحبتي .. كانت تلك قصة السيدة سارة زوجة خليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه السلام.
أما اسم سارّة، فهو اسم علمٍ مؤنثٍ معناه: الأميرة، أو السيدة النبيلة. وهو مِن الأسماء القديمة الأكثر شُيوعاً في العالم حيْث أنّه موْجودٌ تقريباً في كُلّ اللُّغات. وكُلّ المعاني الّتي يحمِلها معانٍ جميلةٌ وراقيَةٌ تدِلّ عليّ السُّموّ؛ لِذلِك فهو مِن أكثر الأسماء شهرةً. واسم سارة في المعجم العربي هو اسمٌ مشتقٌ من لفظ سُرَّ، وهو فعلٌ، وسارة هي اسم الفاعل من هذا الفعل؛ ومعناه المُبهِجة والمُفرِحة.
إن أصل اسم سارة هو عربيٌ، وأول من تسمت به هي السيدة سارة زوجة نبي الله إبراهيم عليه السلام، ومعناه عند العرب هو السرور والبهجة والفرحة، أو التي تسر الناظرين إليها. واسم سارة في اللغة الهندية يعني الأميرة، وفي اللغة الإسبانية يعني المرأة السعيدة، وفي اللغة الفرنسية معناه المرأة أو الفتاة الجميلة، وفي اللغتين العبرية والألمانية معناه الأميرة، وفي اللغة البرازيلية معناه الشفاء، وفي اللغة الأوردية معناه الملكة، وفي اللغة الآرامية معناه السيدة النبيلة.
والسرور الحقيقي والفرح، كما تبينه آيات القرآن الكريم، هو فرح أهل الإيمان بما بعث الله به رسوله من الهدى والحق؛ فهذا الفرح يُعد من أعمال القلوب، ومن أعظم مقامات الإيمان، يقول ابن تيمية: "أَرفع درجاتِ القلوب فرحها التام بما جاء بِهِ الرَّسولُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وابتِهَاجُهَا وَسُرُورُهَا، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، ففضلُ اللَّهِ ورحمتُهُ: القرآنُ والإِيمانُ، مَن فَرِحَ بِهِ فقد فَرِحَ بأَعظمِ مَفرُوحٍ بِهِ، ومن فَرِحَ بغيرهِ فقد ظلمَ نفسَهُ، ووضعَ الفرحَ في غير موضعهِ".

ومما يدخل في هذا الفرح فرح المؤمن بالطاعة إذا عملها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمنٌ]. والمتأمل في الشريعة يرى أنها ربطت الفرح بالطاعات، فكان عيد الفطر بعد الفراغ من صيام رمضان وقيامه، وكان عيد الأضحى عقب أداء مناسك الحج.
يقول ابن تيمية: هذا السرور وهذا الفرح متى ما رسخت في القلب جذوره فإن عواصف البأساء ورياح الضراء لا تقوَ على اقتلاعه من القلب مهما اشتدت؛ كما في قول ابن تيمية: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة".
وعن الابتسام وأثره في نشر السرور يقول العلماء أن رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الناس قدراً، وأعلاهم شرفاً، وأشرحهم صدراً، كان يملك قلوب أصحابه رضي الله عنهم  بوجهه البسَّام، وابتسامته المشرقة، وكلماته الطيبة، وقد قال الله تعالى عن حاله مع أصحابه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، وتصف السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: "كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحاكاً بسّاماً".
وقال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الْبِشْرِ، سهل الخُلُق، لَيِّنَ الجانب".
ويقول عبد الله بن الحارث رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً أكثر تبسّماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وبالحديث عن (السرور والابتسام) فإن البعض تراه عابساً دائماً، يظن أن التبسم فيه إنزالٌ من مكانته، ونقصٌ من هيبته أمام الآخرين، فهؤلاء واهمون يُنَفِّرون أكثر مما يُقَرِّبون، لأن التبسم في وجه أخيك مع كونه مفتاحاً للقلوب، وتأليفاً للنفوس فهو سنةٌ نبويةٌ؛ فعن جريرٍ بن عبد الله رضي الله عنه قال: "ما حجبني {ما منعني الدخول عليه في وقتٍ من الأوقات} رسول الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسلمتُ، ولا رآني إلا تبسمَ في وجهي".
ولم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون قدوةً عمليةً في الابتسامة، بل إنه دعا إليها وحثَّ عليها بقوله صلى الله عليه وسلم: [تَبَسُّمُك في وَجْه أَخِيك لك صدقة]، يعني: إظهارك له البَشَاشَة، والبِشْر إذا لقيته، تؤجر عليه كما تؤجر على الصَّدقة.
إن إشاعة (السرور والابتسام) عملٌ بسيطٌ ويسيرٌ، غير مكلفٍ ولا مجهدٍ، ولكن له الأثر الكبير في نشر الألفة والمحبة بين الناس؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلُّ معروفٍ صدقةٌ، وإنَّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْق]. وقال صلى الله عليه وسلم: [لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْـمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]، قيل أي بوجهٍ ضاحكٍ مستبشرٍ، وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن، ودفع الإيحاش عنه، وجبر خاطره، وبذلك يحصل التَّأليف المطلوب بين المؤمنين. وقيل أي: متهلِّلٌ بالبِشْر والابتسام، لأنَّ الظَّاهر عنوان الباطن، فلُقْيَاه بذلك يشعره بمحبَّتك له، وفرحك بلُقْيَاه، والمطلوب من المؤمنين التوادُّ والتحابُّ.
ومما ثبت أيضاً في استحباب البشاشة وطلاقة الوجه عند اللقاء قوله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكُمْ لا تَسَعون النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْط الْوَجْه، وَحُسْنُ الْخُلُق]. وعن جابر بن سليم الْهُجَيْمِىُّ رضي الله عنه قال: قلت: "يا رسول الله إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَة، فَعَلِّمْنَا شَيْئاً يَنْفَعُنَا الله تبارك وتعالى بِه"، قال: [لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوف شَيْئاً وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إناء الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاك ووجْهُك إليه مُنْبَسِط] أي: منطلقٌ بالسرور والانشراح.
قال الغزالي عن هذا الحديث: "فيه ردٌ على كل عالمٍ أو عابدٍ عَبَس وجهه، وقَطَّب جبينه كأنه مستقذرٌ للناس، أو غضبانٌ عليهم، أو منزهٌ عنهم، ولا يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تُقطَّب، ولا في الخد حتى يُصَعَّر، ولا في الظهر حتى ينحني، ولا في الرقبة حتى تُطاطأ، ولا في الذيل حتى يُضم، إنما الورع في القلب".
لا شك في أن (السرور والابتسام) من وسائل غرس الألفة والمحبة بين الناس؛ فالتبسم سنةٌ نبويةٌ ووسيلةٌ دعويةٌ، ومفتاحٌ للقلوب، وكنزٌ تنفق منه مع أهلك وإخوانك وجيرانك وكل من تقابله وتدعوه، وصدقةٌ لا تكلف ديناراً ولا درهماً.
يقول الشاعر:
أخو البِشْرِ محبوبٌ على حُسْنِ بِشْرِهِ
ولن يعـدم البـغضـاءَ منْ كان عابسـا

أحبتي .. ما أجمل أن يكون الإنسان سبباً في سعادة غيره، فهكذا تحلو الحياة وتصفو الأيام وتزداد نقاءً وهناءً .. وما أسهل أن نسعد غيرنا بوجهٍ طلقٍ وبتبسمٍ في وجوههم، ببساطةٍ دون تكلفٍ أو افتعالٍ .. وما أكرم الله عز وجل أن جعل على مثل هذه الأمور السهلة الميسورة ثواباً كثواب الصدقة .. فهلا جربنا أحبتي أن نزيد رصيدنا من الصدقات دون أن ندفع أي مقابلٍ ماديٍ لذلك؟ فلنحاول .. فقط تذكروا أن تبتسموا في وجوه الآخرين، ابتسامةً صادقةً بغير مبالغة.
جعلنا الله من السعداء في الدنيا والآخرة، وممن ينشرون السرور والفرح والبهجة بين الناس.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/hLdFeR