الجمعة، 9 فبراير 2018

الرضا والقناعة

الجمعة 9 فبراير 2018م

خاطرة الجمعة /١٢١
(الرضا والقناعة)

يُحكى أن أرملةً فقيرةً عاشت مع طفلها الصغير في حجرةٍ صغيرةٍ فوق سطح أحد المنازل حياةً متواضعةً في ظروفٍ صعبةٍ، وكان أكثر ما كان يزعج الأم هو المطر في فصل الشتاء؛ لكون الغرفة تحيطها أربعة جدرانٍ ولها بابٌ خشبيٌ غير أنه ليس لها سقف. مر على الطفل أربع سنواتٍ منذ ولادته لم تتعرض المدينة خلالها إلا لزخاتٍ متقطعةٍ من المطر، وذات يومٍ تراكمت الغيوم وامتلأت السماء بالسحب الكثيفة الواعدة بمطرٍ غزيرٍ؛ ومع ساعات الليل الأولى هطل المطر بغزارةٍ على المدينة فاختبأ الجميع في منازلهم، أما الأرملة والطفل فكان عليهما مواجهة قدرهما؛ نظر الطفل إلى أمه نظرةً حائرةً واندسّ في حضنها، ولكن جسد الأم والابن وثيابهما طالهم ماء السماء المنهمر، أسرعت الأم إلى باب الغرفة فخلعته ووضعته مائلاً على أحد الجدران، وخبّأت طفلها خلف الباب لتحجب عنه سيل المطر المنهمر؛ فنظر الطفل إلى أمه في سعادةٍ بريئةٍ وقد علت وجهه ابتسامة الرضا وقال لأمه: "تُرى ماذا يفعل الفقراء الذين ليس عندهم بابٌ حين ينزل عليهم المطر؟". لقد أحس الصغير في هذه اللحظة أنه ينتمي إلى طبقة الأثرياء؛ ففي بيتهم باب!
لم يكن الطفل الصغير بحكم سنه مدركاً لقيمة الرضا، ولا كان يفهم قيمة القناعة، لكن سؤاله لأمه كان معبراً عن قيمتي (الرضا والقناعة) معاً كما يدركهما ويفهمهما الكبار.

كما يُحكى أن رجلاً فقيراً يرعى أمه وزوجته وأبناءه، كان يعمل خادماً لدى أحد السادة، مخلصاً في عمله يؤديه على أكمل وجه، تغيب ذات يومٍ عن العمل، فقال سيده في نفسه: "لابد أن أعطيه ديناراً زيادةً حتى لا يتغيب عن العمل؛ فبالتأكيد لم يغب إلا طمعاً في زيادة راتبه لأنه يعلم مدى حاجتي إليه"، وحين حضر الخادم في اليوم التالي أعطاه راتبه وزاد عليه الدينار، لم يتكلم الخادم ولم يسأل سيده عن سبب الزيادة. بعد فترةٍ غاب الخادم مرةً أخرى، فغضب السيد غضباً شديداً وقال: "سأنقص من مرتبه الدينار الذي زدته"، وأنقصه بالفعل، ولم يتكلم الخادم ولم يسأل سيده عن نقصان راتبه؛ فاستغرب السيد مِنْ ردة فعل الخادم، وقال له: "زدتك فلم تسأل، وأنقصتك فلم تتكلم"، قال الخادم: "عندما غبتُ المرة الأولى رزقني الله مولوداً، فحين كافأتني بالزيادة قلتُ هذا رزق مولودي قد جاء معه، وحين غبتُ المرة الثانية ماتت أمي، وعندما أنقصتَ الدينار قلتُ هذا رزقها قد ذهب بذهابها"!
ما أجملها مِنْ أرواحٍ تقنع وترضى بما وهبها إياه الرحمن، وتترفع عن نسب ما يأتيها مِنْ زيادةٍ في الرزق أو نقصان إلى الإنسان أياً كان ولو كان سيداً.

أحبتي في الله .. جُبِلَ الإنسان على حب الخير لنفسه؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾، كما جُبل على الحرص على ما يملك من مالٍ فيبخل به ويمتنع عن صرفه في أوجه الخير والبر والإحسان؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾. يعتقد الإنسان أنه بذلك قد حقق لنفسه السعادة والهناء، لكن فاته أن السعادة الحقيقية هي في (الرضا والقناعة) بما قسم الله له؛ فمن ملكهما عاش في راحة بالٍ، وطمأنينة نفسٍ، وانشراح صدرٍ، وذهاب همٍ ونكدٍ وكدرٍ.
الرضا هو ضد السخط، والسخط كراهية الشيء وعدم الرضا به. والرضا متضمنٌ معنى الحب والإقبال؛ قال سبحانه: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى رضي عن أفعالهم، وهُم قد رضوا عن ربهم لما جازاهم به وخصهم بثوابٍ عظيمٍ. ومعنى الرضا من الله عز وجلّ هو خلاف السخط.

ولقد وردت صفة الرضا في القرآن الكريم على صورٍ مختلفة وفي مواضع متعددة؛ منها على سبيل المثال قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِيـنَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾، وقوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾، وقوله: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾، وقوله: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾. وكذلك قوله تعالى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾، وقوله: ﴿وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَـاهُ﴾، وقوله: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾، وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِيـنَ﴾. وقوله أيضاً: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي﴾، وقوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّـِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّـاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مّـِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.

و(الرضا والقناعة) صنوان متلازمان؛ فلا رضا بغير قناعةٍ ولا قناعة بدون رضا.
ووردت كلٌ من صفة الرضا وصفة القناعة في كثيرٍ من الأحاديث النبوية الشريفة؛ منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله يقول لأهل الجَنَّة: يا أهل الجَنَّة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط ِأحداً من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [عِظَمُ الجزاء مع عِظَمِ البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط]. قال عليه الصلاة والسلام: [إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عزّ وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عزّ وجل عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه].
ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على القناعة، وبيّن أنها طريقٌ إلى السعادة والفلاح؛ قال عليه الصلاة والسلام: ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: ]مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ليس الغِنَى عن كثرة العرَض، ولكن الغِنى غِنى النفس]، كما قال عليه الصلاة والسلام: [من يأخذ عني هؤلاء الكلمات، فيعْمَل بهن، أو يُعَّلِم مَن يعمَل بهن؟] فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدّ خمساً، وقال: [اتقِ المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب].
إذا أردنا أن يرزقنا الله القناعة، علينا أن ننظر إلى من هم أقل منا مالاً وجاهاً وحسباً، فقد علمنا ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين قال: [انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ]. وفي رواية أخرى: [إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَنْ فَوْقَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ].

لقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج والمثل الأعلى في (الرضا والقناعة) بما قسم الله تعالى؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ في جَنْبِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَا لي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا، كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا]. وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه بأن يرزقه القناعة فيقول: [اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبةٍ لي بخيرٍ]، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللهم ارزق آل محمد قوتاً].
وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: ]اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك].وعنها أنها قالت: "لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع من خبزٍ وزيتٍ في يومٍ واحدٍ مرتين". وعنها رضي الله عنها قالت: "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدمٍ وحشوه ليفٌ". وجاء عنها رضي الله عنها أنها قالت لعُروة ابن أختها: "وإن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلةٍ في شهرين، وما أُوقدت في أبيات رسول الله-صلى الله عليه وسلم-نارٌ"، فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: "الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-جيرانٌ من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله-صلى الله عليه وسلم-من أبياتهم فيسقيانه".

وورد في الأثر أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقول في دعائه: {أسألك تمام النعمة في الأشياء كلها، والشكر لك عليها حتى ترضى، وبعد الرضا}. وكتب الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري يقول له: {أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر}. وقال الإمام الشافعي في معنى قول الله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾: {لما حُجب قومٌ بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا}. ويقول ابن القيّم: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنىً وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا، امتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه".

يقول أهل العلم أن ما يقع فيه الناس من خلافٍ وشقاقٍ سببه الدنيا والتنافس عليها، سببه ضعف (الرضا والقناعة) في القلوب، وصدق رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حينما قال: ]واللهِ ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبْسَط الدنيا عليكم؛ كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم]؛ فما فشا الجشع والطمع إلا عندما غابت القناعة.
والقناعة هي الرضا بما قسمه الله وأعطاه، هي استغناءٌ بالحلال عن الحرام، القناعة هي امتلاء القلب بالرضا وعدم التسخط والشكوى. إن السعيد حقاً هو من رضي بما قسم الله له، وصبر على القضاء خيره وشره، وأحس وذاق طعم الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: ]ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً]. وقال صلى الله عليه وسلم: ]مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي: رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُرْضِيَهُ]. والإنسان بدون الرضا يقع فريسةً لليأس، وتتناوشه الهموم والغموم من كل حدبٍ وصوبٍ، ولن يجد ملاذاً ولا راحةً من الطمع والجشع والحسد وأمراض القلوب وسخط علام الغيوب إلا بالرضا بما قسم الله. إن أعظم أبواب الخير والراحة والنعيم أن يرضى عنك ربك في الدنيا والآخرة ولن يصل المرء إلى هذه المكانة إلا بعقيدةٍ صحيحةٍ وعبادةٍ سليمةٍ وعملٍ صالحٍ وطمعٍ فيما عند الله من أجرٍ وثوابٍ، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ
وليتك ترضى والأنامُ غِضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ
وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الود فالكل هينٌ
وكلُ الذي فوق الترابِ ترابُ

إن القناعة لا تعني بالضرورة أن يكون العبد فقيراً، فالغنيُّ محتاجٌ إلى القناعة كحاجة الفقير إليها، فقناعة الغني أن يكون شاكراً راضياً، قناعته أن تكون الدنيا في يده لا في قلبه؛ حتى لا يكون عبداً لها، وتكون الآخرة في قلبه، فكم من صاحب مالٍ وفيرٍ رُزق القناعة، فلا يغش في تجارته، ولا يمنع الأجير حقه، ولا يذل نفسه للناس من أجل مالٍ أو منصبٍ أو جاهٍ، ولا يمنع زكاة ماله، إن ربح شكر، وإن خسر رضي، فهذا هو القنوع ولو ملك قصور كسرى وقيصر، ولو ملك مال قارون.
وقناعة الفقير، أن يكون راضياً بما قسم الله له، مستسلماً لأمر الله، لا ساخطاً ولا شاكياً، ولا جزعاً من حالِه، ولا غاضباً على رازقه، قناعته ألا يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، قناعته أن يكون عفيفاً متعففاً، وألا يرتكب الحرام من أجل الحصول على لقمة العيش.
يقول الشاعر:
فَـلا تَـغُـرَّنَّكَ الـدُّنْيــا وَزِيـنَـتُـهـا
وانْظُرْ إلى فِعْلِها في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها
هَلْ رَاحَ مِنْهـا بِغَيْـرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِهـــا
لَـوْ لـم يَـكُـنْ لَـكَ إِلا رَاحَـــةُ البَـدَنِ

وعن علاقة القناعة بالطموح يقول أحد العارفين: "القناعة والطموح كلمتان قد تبدوان للبعض متضادتين، بينما هما على العكس من ذلك، فالقناعة هي الرضا، وهي حالةٌ نفسيةٌ تدفع إلى رضا الإنسان بواقعه، والطموح عند الإنسان المسلم العاقل يترافق مع القناعة في خطين متلازمين". ويقول آخر: "القناعة ليست هي الخنوع، وإنما هي حالةٌ من التصالح والسلام النفسي الذي يجعلنا نُقَدِّر ما وصلنا إليه نتيجة طموحنا؛ مما يشكل حافزاً إضافياً للانطلاق إلى طموحٍ جديدٍ لا تتوقف عجلة دورانه". ويقول ثالث موضحاً: "يتفاوت الناس في نظرتهم لحياتهم، بين طَموحٍ متحفزٍ متربصٍ بكل فرصةٍ وانفراجةٍ لمحاولة تحسين أحواله، وبين قابعٍ متخاذلٍ متواكلٍ كسولٍ يظن أن الرزق سيأتيه ولو نام على فراشٍ من حرير؛ فجعل من الكسل معنىً يرادف القناعة، رغم أنها في حقيقتها تناقض هذا المعنى، وما ذلك إلا شماعةٌ يعلق عليها فشله وركونه للكسل وعدم أخذه بالأسباب".

أحبتي .. إن السخط والجزع وعدم الرضا على قضاء الله وقدره وبما قسمه للعباد لا يزيد المرء إلا شقاءً وتعاسةً وبعداً عن الله ويحرم صاحبه من راحة البال وطمأنينة النفس. قال الشاعر:
النفس تـجزع أن تكون فـقيـرةً
والفقـر خـيرٌ من غنىً يطغيهــا
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت
فجميع ما في الأرض لا يكفيها

فلا راحة بالٍ ولا طمأنينة نفسٍ بغير (الرضا والقناعة)؛ فلنرضَ ولنقنع بما أنعم به الله علينا، ولنأخذ في ذات الوقت بأسباب توسعة الرزق من كل أبواب الحلال الممكنة.
عافانا الله وإياكم من غضب الله وسخطه، وكتب لنا ولكم رضاه عنا.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك، وارزقنا القناعة يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/vd2TkU

الجمعة، 2 فبراير 2018

السرور والابتسام

الجمعة 2 فبراير 2018م

خاطرة الجمعة /١٢٠
(السرور والابتسام)

"بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورُزقت بره"، كانت هذه تهنئتي لصديقٍ عزيزٍ أنعم الله سبحانه وتعالى عليه ورزقه بأول مولودٍ له، سألته: "ولدٌ أم بنت؟"، أجابني بزهوٍ: "بنت مثل القمر"، سألته: "بما سميتها؟"، رد مُحاكياً السياق القرآني: "سَمَّيْتُهَا {سارة} وَإِنِّي أُعِيذُهَا {بالله} وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، سألته مداعباً: "سارة من الإسرار؟ كما في قول نوحٍ عليه السلام: ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ وكما في الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ بمعنى حدّث به سِرًّا أي أفضى به على أنّه سِرٌّ. أو أسرَّ الحديثَ ولم يعلنه، أي كتَمه وأخفاه كما في الآية الكريمة: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ﴾؟"، تبسم ورد بالقول: "بل من السرور؛ وهو الفرح والبهجة؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾، وكما في قوله سبحانه: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا . وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾. عسى سارة أن تَسُر وتُفْرِح وتُبهج كل من حولها". أعدت تهنئتي له بسلامة المولودة سارة وسلامة الوالدة. قبل أن نفترق طلب مني أن أرسل له بمختصر قصة السيدة سارة زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ ففعلت وأرسلت له ما يلي نقلاً عن كتاب {المرأة في الإسلام ـ حقوقٌ وحريات} بتصرفٍ محدود:

تروى لنا كتب التاريخ والسيرة قصة سارة بأنها كانت ابنة عم النبي إبراهيم عليه السلام، وكانت ذات حُسنٍ وجمالٍ نادرين، وقد رُوي بأنها كانت أجمل نساء العالمين بعد حواء، فتزوجها إبراهيم عليه السلام ورحل بها من فلسطين نحو مصر، وعاش هناك فترةً من الزمن، وكان في مصر ملكٌ ظالمٌ جبارٌ، وصلته الأخبار بقدوم هذه المرأة الجميلة إلى أرضه فأرسل أتباعه يطلبونها له، وقال لهم إن كان يرافقها زوجٌ لها فاقتلوه! ثم إن أعوان الملك ما لبثوا أن وصلوا إلى إبراهيم عليه السلام، فسألوه: مَن تلك التي معك؟ فأدرك قصدهم، وعرف خطرهم فقال لهم: هي أختي! وقصد في الله، فأخذوها إلى الملك الظالم، فلما أراد هذا الملك مد يده نحوها قالت بدعاء الشريفة العفيفة: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبنبيك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فاكفني هذا الفاجر؛ فتجمدت يد الملك التي امتدت إليها في مكانها، ولم يعد يستطيع الحراك، فأصابه خوفٌ وذعرٌ شديدان، وقال لها ماذا فعلت بي؟ اطلقيني ولن أَمَسَكِ بسوء؛ فخافت سارة أن يأمر بقتلها وقد تجمع حرسه وجنوده من حولها، فدعت الله تعالى أن يطلقه فأطلقه. لكنه للمرة الثانية عاد فكرر محاولته الدنيئة ظناً منه أن ذلك كان من عمل الشياطين، ولكنها سارعت فدعت الله تعالى فتجمد مكانه مرةً أخرى، وعاد فطلب منها أن تطلقه ففعلت. ولكن الظالم كررها مرةً ثالثةً، وحصل ما كان في المرتين السابقتين. ولما رأى أنه لا سبيل له عليها وأدرك أنها ذات عفافٍ لا يمكن أن يُمس، وأن الله حافظها ومانعها منه، أمر حراسه أن يخرجوها وأن يعيدوها إلى بيتها محملةً بالهدايا، فقد أصابه الهلع والخوف مما رأى من أمرها، وأراد أن يجتنب دعاءها عليه مرةً أخرى، وأعطاها مع الهدايا جاريةً اسمها هاجر. وهكذا عادت سارة الشريفة بكامل عفافها وكرامتها إلى زوجها إبراهيم عليه السلام، تزف له البشرى بتوفيق الله. ولكن إبراهيم عليه السلام أوجس خيفةً من البقاء بمصر فقرر العودة من جديد إلى فلسطين. وعندما عاد إلى فلسطين كانت نفسه تتوق للولد، ولم يكن الله قد رزقه أي أولادٍ من زوجته سارة، ومن منطلق حرص المرأة على مشاعر زوجها وحسن تفهمها وإدراكها للأمور، وحكمتها البالغة، وإخلاصها لزوجها، رأت أن تختار له زوجةً أخرى ينجب منها ما تحبه نفسه من الولد والذرية، فاختارت له أن يتزوج هاجر فتزوجها، وأنجب منها ابنه إسماعيل عليهما السلام، ثم إن الله تعالى أمره بأن يتركهما في وادي مكة، وذلك وحيٌ ألقاه عليه في المنام؛ فاستجاب الخليل لربه، وسافر بزوجته وفلذة كبده الذي عاش عمره يحلم به، وتركهما في وادٍ جافٍ قاحلٍ لا كلأ فيه ولا ماء، كما وصفه الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾. وترك إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر وابنه إسماعيل في هذا الوادي، وعينه تكاد تدمع من الحزن، وتناديه زوجته: كيف تتركنا في هذا الوادي وحدنا؟ ولكنها تستدرك كلامها لأنها تثق بزوجها ثقةً كبيرةً؛ فسألته: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذاً لا يضيعنا".

وأكملت لصديقي قصة السيدة سارة من مرجعٍ آخر فكتبت له ما يلي:
"ومضت السنوات حتى تخطت السيدة سارة التسعين من العمر وقد ارتضت بنصيبها من الدنيا ونست حلمها بالأمومة، إلا أن الله لم ينس تلك الأمنية التي استقرت طويلاً بقلبها، وبشرت رسلُ الله إبراهيمَ بأن زوجته ستنجب ولداً اسمه إسحاق، ولما سمعت السيدة سارة حديث الرسل اندهشت كيف تنجب وهى عجوزٌ عقيمٌ؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾، وقال سبحانه: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾، وقال: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾. إلا أن الله لم يحقق أمنيتها وحسب وإنما جعلها أم الأنبياء، وجعل أكثر الأنبياء فى ذرية إبراهيم منها، وبعد أن كانت عجوزاً عقيماً يئست من الأمومة والإنجاب أصبحت أماً للأنبياء إسحاق، ويعقوب الذى ينحدر من نسله أنبياء بنى إسرائيل".

أحبتي .. كانت تلك قصة السيدة سارة زوجة خليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه السلام.
أما اسم سارّة، فهو اسم علمٍ مؤنثٍ معناه: الأميرة، أو السيدة النبيلة. وهو مِن الأسماء القديمة الأكثر شُيوعاً في العالم حيْث أنّه موْجودٌ تقريباً في كُلّ اللُّغات. وكُلّ المعاني الّتي يحمِلها معانٍ جميلةٌ وراقيَةٌ تدِلّ عليّ السُّموّ؛ لِذلِك فهو مِن أكثر الأسماء شهرةً. واسم سارة في المعجم العربي هو اسمٌ مشتقٌ من لفظ سُرَّ، وهو فعلٌ، وسارة هي اسم الفاعل من هذا الفعل؛ ومعناه المُبهِجة والمُفرِحة.
إن أصل اسم سارة هو عربيٌ، وأول من تسمت به هي السيدة سارة زوجة نبي الله إبراهيم عليه السلام، ومعناه عند العرب هو السرور والبهجة والفرحة، أو التي تسر الناظرين إليها. واسم سارة في اللغة الهندية يعني الأميرة، وفي اللغة الإسبانية يعني المرأة السعيدة، وفي اللغة الفرنسية معناه المرأة أو الفتاة الجميلة، وفي اللغتين العبرية والألمانية معناه الأميرة، وفي اللغة البرازيلية معناه الشفاء، وفي اللغة الأوردية معناه الملكة، وفي اللغة الآرامية معناه السيدة النبيلة.
والسرور الحقيقي والفرح، كما تبينه آيات القرآن الكريم، هو فرح أهل الإيمان بما بعث الله به رسوله من الهدى والحق؛ فهذا الفرح يُعد من أعمال القلوب، ومن أعظم مقامات الإيمان، يقول ابن تيمية: "أَرفع درجاتِ القلوب فرحها التام بما جاء بِهِ الرَّسولُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وابتِهَاجُهَا وَسُرُورُهَا، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، ففضلُ اللَّهِ ورحمتُهُ: القرآنُ والإِيمانُ، مَن فَرِحَ بِهِ فقد فَرِحَ بأَعظمِ مَفرُوحٍ بِهِ، ومن فَرِحَ بغيرهِ فقد ظلمَ نفسَهُ، ووضعَ الفرحَ في غير موضعهِ".

ومما يدخل في هذا الفرح فرح المؤمن بالطاعة إذا عملها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمنٌ]. والمتأمل في الشريعة يرى أنها ربطت الفرح بالطاعات، فكان عيد الفطر بعد الفراغ من صيام رمضان وقيامه، وكان عيد الأضحى عقب أداء مناسك الحج.
يقول ابن تيمية: هذا السرور وهذا الفرح متى ما رسخت في القلب جذوره فإن عواصف البأساء ورياح الضراء لا تقوَ على اقتلاعه من القلب مهما اشتدت؛ كما في قول ابن تيمية: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة".
وعن الابتسام وأثره في نشر السرور يقول العلماء أن رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الناس قدراً، وأعلاهم شرفاً، وأشرحهم صدراً، كان يملك قلوب أصحابه رضي الله عنهم  بوجهه البسَّام، وابتسامته المشرقة، وكلماته الطيبة، وقد قال الله تعالى عن حاله مع أصحابه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، وتصف السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: "كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحاكاً بسّاماً".
وقال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الْبِشْرِ، سهل الخُلُق، لَيِّنَ الجانب".
ويقول عبد الله بن الحارث رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً أكثر تبسّماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وبالحديث عن (السرور والابتسام) فإن البعض تراه عابساً دائماً، يظن أن التبسم فيه إنزالٌ من مكانته، ونقصٌ من هيبته أمام الآخرين، فهؤلاء واهمون يُنَفِّرون أكثر مما يُقَرِّبون، لأن التبسم في وجه أخيك مع كونه مفتاحاً للقلوب، وتأليفاً للنفوس فهو سنةٌ نبويةٌ؛ فعن جريرٍ بن عبد الله رضي الله عنه قال: "ما حجبني {ما منعني الدخول عليه في وقتٍ من الأوقات} رسول الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسلمتُ، ولا رآني إلا تبسمَ في وجهي".
ولم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون قدوةً عمليةً في الابتسامة، بل إنه دعا إليها وحثَّ عليها بقوله صلى الله عليه وسلم: [تَبَسُّمُك في وَجْه أَخِيك لك صدقة]، يعني: إظهارك له البَشَاشَة، والبِشْر إذا لقيته، تؤجر عليه كما تؤجر على الصَّدقة.
إن إشاعة (السرور والابتسام) عملٌ بسيطٌ ويسيرٌ، غير مكلفٍ ولا مجهدٍ، ولكن له الأثر الكبير في نشر الألفة والمحبة بين الناس؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلُّ معروفٍ صدقةٌ، وإنَّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْق]. وقال صلى الله عليه وسلم: [لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْـمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]، قيل أي بوجهٍ ضاحكٍ مستبشرٍ، وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن، ودفع الإيحاش عنه، وجبر خاطره، وبذلك يحصل التَّأليف المطلوب بين المؤمنين. وقيل أي: متهلِّلٌ بالبِشْر والابتسام، لأنَّ الظَّاهر عنوان الباطن، فلُقْيَاه بذلك يشعره بمحبَّتك له، وفرحك بلُقْيَاه، والمطلوب من المؤمنين التوادُّ والتحابُّ.
ومما ثبت أيضاً في استحباب البشاشة وطلاقة الوجه عند اللقاء قوله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكُمْ لا تَسَعون النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْط الْوَجْه، وَحُسْنُ الْخُلُق]. وعن جابر بن سليم الْهُجَيْمِىُّ رضي الله عنه قال: قلت: "يا رسول الله إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَة، فَعَلِّمْنَا شَيْئاً يَنْفَعُنَا الله تبارك وتعالى بِه"، قال: [لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوف شَيْئاً وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إناء الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاك ووجْهُك إليه مُنْبَسِط] أي: منطلقٌ بالسرور والانشراح.
قال الغزالي عن هذا الحديث: "فيه ردٌ على كل عالمٍ أو عابدٍ عَبَس وجهه، وقَطَّب جبينه كأنه مستقذرٌ للناس، أو غضبانٌ عليهم، أو منزهٌ عنهم، ولا يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تُقطَّب، ولا في الخد حتى يُصَعَّر، ولا في الظهر حتى ينحني، ولا في الرقبة حتى تُطاطأ، ولا في الذيل حتى يُضم، إنما الورع في القلب".
لا شك في أن (السرور والابتسام) من وسائل غرس الألفة والمحبة بين الناس؛ فالتبسم سنةٌ نبويةٌ ووسيلةٌ دعويةٌ، ومفتاحٌ للقلوب، وكنزٌ تنفق منه مع أهلك وإخوانك وجيرانك وكل من تقابله وتدعوه، وصدقةٌ لا تكلف ديناراً ولا درهماً.
يقول الشاعر:
أخو البِشْرِ محبوبٌ على حُسْنِ بِشْرِهِ
ولن يعـدم البـغضـاءَ منْ كان عابسـا

أحبتي .. ما أجمل أن يكون الإنسان سبباً في سعادة غيره، فهكذا تحلو الحياة وتصفو الأيام وتزداد نقاءً وهناءً .. وما أسهل أن نسعد غيرنا بوجهٍ طلقٍ وبتبسمٍ في وجوههم، ببساطةٍ دون تكلفٍ أو افتعالٍ .. وما أكرم الله عز وجل أن جعل على مثل هذه الأمور السهلة الميسورة ثواباً كثواب الصدقة .. فهلا جربنا أحبتي أن نزيد رصيدنا من الصدقات دون أن ندفع أي مقابلٍ ماديٍ لذلك؟ فلنحاول .. فقط تذكروا أن تبتسموا في وجوه الآخرين، ابتسامةً صادقةً بغير مبالغة.
جعلنا الله من السعداء في الدنيا والآخرة، وممن ينشرون السرور والفرح والبهجة بين الناس.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/hLdFeR

الجمعة، 26 يناير 2018

أجل مسمى

الجمعة 26 يناير 2018م

خاطرة الجمعة /١١٩
(أجل مسمى)

تواصل معي خلال الأسبوع الماضي عددٌ كبيرٌ من الأصدقاء؛ فقد تلقيت عشراتٍ من رسائل الاطمئنان، والكثير من الاتصالات الهاتفية، للسؤال عن عدم تسلم المواد والنشرات الدينية التي أقوم بإعدادها ثم إرسالها وتعميمها في مواعيد يوميةٍ محددةٍ يعلمها الجميع وألتزم بها بدقة؛ حتى أن أحدهم أخبرني يوماً أنه يكاد يضبط ساعته على موعد تلقيه هذه المنشورات لولا أن مواعيد إرسالها مرتبطٌ بمواقيت الصلاة وهي متغيرةٌ بطبيعة الحال!
كان سبب الانقطاع المؤقت وعدم الانتظام هو مشكلةٌ فنيةٌ خاصةٌ بهاتفي أدت إلى توقف برنامج واتس آب وغيره عن العمل مراتٍ، وبطءٍ شديدٍ أوإغلاقٍ مفاجئٍ مراتٍ أخرى.
ومع شكري لكل من تواصل معي وسأل عني، وتقديري لكل من لم تسمح ظروفه بالتواصل والسؤال، فإن ما استوقفني حقيقةً هو سؤال أخٍ عزيزٍ: "هل أعطيت نفسك عطلةً تتوقف فيها عن العمل؛ ترتاح قليلاً وتسترد أنفاسك؟".
السؤال جعلني أفكر في علاقة الإنسان المسلم بالوقت، كيف يديره، وكيف يوظفه ويستثمره، وكيف يتعامل معه، وفي مفهوم العطلة، والتوقف عن العمل خلالها. عن نفسي أحاول استثمار كل دقيقةٍ في عملٍ مفيدٍ، ولم أعود نفسي على التوقف عن العمل أيام العطلات، بل أعتبرها فرصةً أُضاعف فيها من نشاطي وإنتاجي!

أحبتي .. صحيحٌ أن الراحة مطلوبةٌ خاصةً بعد فترة عملٍ مرهقٍ، لكن الراحة تكون لدقائق أو ساعاتٍ، أما أن تمتد ليومٍ كاملٍ أو يومين كل أسبوع وأن تُخصص للنوم أو الكسل، فهذا مفهومٌ خاطئٌ يحتاج إلى تعديل.
فالوقت نعمةٌ من نعم الله سبحانه وتعالى؛ فهو عمر الإنسان على هذه الأرض، والعمر مهما طال محدودٌ بما أسماه المولى عز وجل (أجل مسمى)، وهذا الأجل وإن امتد فإن له نهاية، وإن طال فلن يتجاوز ما هو مقدرٌ ومكتوبٌ لكلٍ منا. الوقت هو الحياة، وحياتنا في هذه الدنيا هي في الواقع مجموع أوقاتنا، وهي إجمالي الزمن الذي يمضي بين لحظتين فاصلتين في حياة كل شخصٍ منا: لحظة ميلاده، ولحظة وفاته.
الحياة كالقطار يسير، يقف في محطاتٍ، كلٌ منا يركب من إحداها ثم ينزل في أخرى، وما بين المحطتين من وقتٍ وزمنٍ يمر داخل القطار هو عمر الإنسان، ينتهي بوصوله إلى محطة النزول، هذه الرحلة هي ما عبر عنها السياق القرآني البليغ بعبارة (أجل مسمى).
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، محدداً الأجل المسمى للإنسان وهو ما يزال جنيناً في بطن أمه قبل مولده: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، ثم يُولد وقد تحدد له عمره: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ﴾. ويمتد عمر الإنسان وأجله إلى وقت موته؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾، ويقول: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾، ويقول: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، ويقول: ﴿وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى﴾.
وطوال رحلة الحياة، يُنعم المولى عزَّ وجَلَّ على الإنسان بالعمر وهو أيامٌ ينتهي كلٌ منها بالنوم؛ ينام الإنسان لا يعلم إن كان سيستيقظ وهو ما زال في الدنيا أم قد وافاه الأجل المحتوم أثناء نومه؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. ولأنه سبحانه يعلم أن كل ابن آدم خطاءٌ، فإنه برحمةٍ منه يدعونا إلى المغفرة؛ يقول تعالى: ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، وهو سبحانه يدعونا إلى التوبة؛ فيقول: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾. وتكون النهاية بانتهاء الأجل المسمى لكل مخلوقٍ؛ يقول تعالى: ﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، ويقول في موضعٍ آخر: ﴿مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، ويقول سبحانه: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. وبعد الموت، تكون حسرة من أضاعوا أعمارهم فيما لا يفيد؛ يقول سبحانه: ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾، ويقول على لسان الظالمين: ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾.
والحكمة البالغة لمن أن أراد أن يعتبر تكمن في قوله عز وجل: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾، ولأن أجل الله آتٍ لا محالة فلماذا نضيع أوقاتنا فيما لا نفع فيه؟ لماذا لا نُحْسن استخدام أوقاتنا فيما ينفعنا في الدار الآخرة دار الخلود؟ ولأننا لا نعرف كم سنعيش في هذه الحياة الدنيا فلنعتبر من هذه الآية الكريمة: ﴿وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾.

بلغ اهتمام الإسلام بالوقت حد أن الله سبحانه وتعالى أقسم به في آياتٍ كثيرةٍ؛ منها: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ﴾، و﴿وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، و﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾، و﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾، حيث تبين هذه الآيات وغيرها أهمية الوقت وضرورة اغتنامه في طاعة الله. كما أقسمَ بقوله: ﴿وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، بمعنى أنَّ مُضِيَّ الزمنِ وحدَه يستهلكُ عُمُرَ الإنسان الذي هو رأسُ ماله، ووعاءُ عملِه الصالحِ، الذي هو ثمنُ الجنة التي وَعَدَه الله بها.
كما أن تكليف الإنسان في الإسلام مرتبطٌ بالوقت وهو وقت البلوغ، والعبادات كلها مرتبطةٌ بالوقت: فالنطق بالشهادة وقتٌ للدخول فى الإسلام ووقتٌ للخروج من الدنيا واستقبال الآخرة، والصلاة فريضةٌ تتكرر خمس مراتٍ فى اليوم والليلة ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ وهي موزعةٌ على ساعات اليوم من مَطلَعِ الفجر إلى مَغيبِ الشَّفَق ﴿فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ . وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيَّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾، وأما الليل فلَهُ عبادته الخاصة المميزة ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا . نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا﴾، والزكاة فريضةٌ على من امتلك نصاباً حال عليه الحول مرةً كل عام، والصيام فريضةٌ في وقتٍ محددٍ هو شهر رمضان من كل عام ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ والإفطار والإمساك فيه مؤقتان بوقت ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾ ومن اعتراه عذرٌ من مرضٍ أو سفرٍ فأفطر أياماً قضى مثلها: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، والحج فريضةٌ تُؤدىَ في وقتٍ معلومٍ ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾.
والليل والنهار هما المجالُ الذي يذكُرُ العبدُ فيه ربَّهُ ويشكر نِعَمُهُ؛ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾، وإنّه لَمِن فضل الله سبحانه وتعالى وتوفيقه على العبد أن يُلهِمَهُ استغلال كلّ ساعةٍ من عمره في العمل أو الراحة من جُهدٍ استعداداً لجُهدٍ آخرَ؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

وعن الوقت في السُنة المشرفة يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أحدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُه في بطن أمِّه أربعين يوماً، ثم يكُون علقةً مِثلَ ذلك، ثم يكُون مضغةً مثل ذلك، ثم يُرسَل الملَكُ، فينفخ فيه الرُّوح، ويُؤْمَر بأربع كلماتٍ: بِكَتْبِ رزقه، وأجلِه، وعملِه، وشقيٌّ أو سعيد]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [كَتب الله مقاديرَ الخلائق قبل أن يَخلق السماواتِ والأرضَ بخمسين ألف سَنة].
ويقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ رُوح القدس نفَثَ في رُوعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلَها، وتستوعب رِزقَها، فاتَّقوا الله، وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزق أن يطلبه بمعصية؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته]، كما يقول: [لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ، لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ المَوْتُ]. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّاً مُرَبَّعاً، وَخَطَّ خَطَّاً فِي الْوَسَطِ خَارِجاً مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطاً صِغَاراً إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، وَقَالَ: [هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا].
يقول أهل العلم أن كلَّ مفقودٍ يُمكن استرجاعه إلا الوقت؛ فإنه إن ضاع فلا أمل بعودته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تزولُ قَدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن: عُمِرهِ فيما أفناهُ، وعن جسده فيما أبلاهُ، وعن مالِهِ من أين اكتَسَبَهُ وفيما وضَعَهُ، وعن عِلمِه ماذا عمل فيه؟]. فالوقت أنفسُ ما يملكه إنسانٌ، وعلى العاقل أن يستفيد من وقته كما يستفيد من ثروته، لا يفرِّطُ في قليله وكثيره؛ بل يحرص على أن يستفيد من كلِّ لحظةٍ تمرُّ في حياته. عندما يحسُّ أحدُنا أنه موجودٌ، ويُلقي نظرةً وراءهُ يتبيّن بها اللحظةَ التي بدأَ فيها المسيرَ في هذه الحياة ليُحصي ما مرَّ به من أيامٍ وأعوامٍ؛ لن يطولَ به الفكرُ لأنه ينظرُ إلى تجمّع السنين الطّوال فإذا هي وكأنها يومٌ واحدٌ. وهذا ما يستشعرُهُ الإنسانُ يومَ القيامة عندما يقفُ للحساب؛ قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾، وقال سبحانه: ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا . نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا﴾، وقال عز وجل: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.
والإسلام دينٌ يعرف قيمة الوقت ويُقدِّر خطورة الزمن؛ فهو يؤكِّد الحكمة القائلة: "الوقتُ كالسيفِ إن لم تقطَعْهُ قَطَعَكَ"، ويجعل من دلائل الإيمان أن يعي المسلم قيمة الوقت باختلاف الليل والنهار؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ﴾؛ فالمعرضون عن التفكر في نعمة الوقت وتتابع الزمن، الذين تأخذهم الحياة الدنيا وتشغلهم عن الاستعداد للآخرة هم الغافلون؛ قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

ومع كل ما سبق فإنّ شأن الناس في الدنيا غريبٌ؛ يلهون وينسون، وكلُّ أعمالهم محسوبةٌ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. إنّ المسلم الحقّ يُحافِظُ على الوقت محافظةً شديدةً لأنّ الوقت هو عُمُرهُ. فإذا سمح بضياعه فهو يضيع حياته؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: [نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ]. ويقول الحسن البصري: "يا ابن آدم، إنَّما أنت أيَّامٌ، كلَّما ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك"، ويقول الشاعر:
إِنَّـا لَـنَـفْـرَحُ بِالأَيَّــامِ نَقْـطَـعُـهَـا
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى جُزْءٌ مِنَ العُمُــرِ
ويقول آخر:
وَالوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ
وَأَرَاهُ أَسْــهَـلَ مَا عَـلَيْـكَ يَـضِيـعُ
حَثَّ الإسلامُ المسلم على مداومة العمل وإن كان قليلاً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيّها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإنّ الله لا يملُّ حتى تملّوا. وإن أحبّ الأعمال إلى الله ما دام وإن قَلَّ].
ومن محافظة الإسلام على الوقت حَثّ المسلم على التبكير، ورغَّبَهُ أن يبدأ أعمال يومه باكراً مكتمل النشاط؛ قال صلى الله عليه وسلم: [اللّهمّ بارِكْ لأُمّتي في بكورها].
يقول الشاعر مؤكداً أن الوقت هو العمر وأن العمر هو (أجل مسمى) قد أنعم الله به علينا وسوف يحاسبنا سبحانه وتعالى عليه:
الوقـتُ أغلى مـن اليـاقـوتِ والذهبِ
ونـحن نَـخسـرهُ فـي اللـهـوِ واللعـبِ
وســوف نُسأل عـنـه عـنــد خـالـقِـنـا
يوم الحسابِ بذاك المـوقفِ النّشـِبِ
فاعْـملْ لنفسـك وأْمَلْ في السلامة لا
تركنْ إلى النـومِ أو تشـكو من التـعبِ
فإنـمـا أنــت مَـجــْزِيٌّ بـمــا عـَمـَلَـتْ
يـداك فاعـمـلْ لهـا في رفـعـةِ الـرتبِ
وإنما الفـــوز فيـمـــا كـُنـتَ تـعمــلـهُ
مـخـافةَ الله لا فـي الجـاهِ والنـسـبِ
لـوْ أنـها تنـفــعُ الأنســابُ صــاحـبَها
شـيـئـاً لَـمـَا كـان مـذمـومـاً أبـو لهبِ

أحبتي .. الوقت قصيرٌ مهما طال، والعمر محدودٌ وإن امتد، ولكلٍ منا (أجل مسمى) لن يتجاوزه؛ فلنشمر سواعد العمل، ونشحذ الهمم، ولا نضيع أوقاتنا، بل نشغلها بكل ما هو مفيدٌ لنا لآخرتنا، أما دنيانا فهي كما يقال مزرعة للآخرة؛ فليكن اهتمامنا بها بقدر ما تعيننا به على الاستعداد للحياة الأبدية الخالدة؛ وما نعيشه في الدنيا لا يزيد عن كونه رحلةً قصيرةً نعود بعدها إلى موطننا الأصلي وهو جنة الخُلد بإذن الله. وكل يومٍ جديدٍ هو فرصةٌ جديدةٌ لزيادة رصيدنا من الثواب، كما أنه شاهدٌ علينا؛ ففي الحديث القدسي: {وما مِن يومٍ ينشقُّ فجرُه إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِك شهيدٌ، فتزوَّدْ منِّي، فإني لا أعود إلى يوم القيامة}. وكما قيل على قدر الهدف تكون سرعة الانطلاق؛ ففي طلب الرزق قال: ﴿فَامْشُوا﴾، وللصلاة قال: ﴿فَاسْعَوا﴾، وللجنة قال: ﴿وسَارِعُوا﴾، وأما إليه فقال: ﴿فَفِرُوا إِلَىٰ اللهِ﴾، وهي جميعاً ألفاظٌ وتعبيراتٌ ذات اتصالٍ وثيق بالوقت والزمن. فلنفر أحبتي إلى الله بكل عملٍ صالحٍ نستطيعه من غير أن نضيع أوقاتاً لا يُمكن لنا تعويضها أبداً.
قال ابن مسعود: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غرَبَت فيه شمسُهُ، نقص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي".
ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
دَقَّــاتُ قلــبِ المـرءِ قـائـلـةٌ لـه:
إنَّ الحـيـــــاةَ دقـائِـقٌ وثــوانـي
فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها
فالذكــرُ للإنســــان عُـمـرٌ ثــاني
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/xV1xGK

الجمعة، 19 يناير 2018

خُلُق الوفاء

الجمعة 19 يناير 2018م

خاطرة الجمعة /١١٨
(خُلُق الوفاء)

يُحكى عن أستاذٍ جامعيٍ أُعد حفلٌ لتكريمه عقب عودته من الخارج بعد غيابٍ لأكثر من خمسة عشر عاماً، وهو يشغل الآن منصب كبير استشاري أمراض القلب في مشفىً عالميٍ مرموقٍ. عند دخوله القاعة التي سوف يُكرم فيها استوقفه منظر بائع صحفٍ كبيرٍ في السن يفترش صحفه؛ فتذكر ملامحه المحفورة في ذهنه، واستمر في المشي حتى دخل القاعة وجلس سارحاً مع بائع الجرائد. عندما نُودي على اسمه ليتسلم وسام التكريم قام من مكانه، لكنه لم يتوجه إلى المنصة بل توجه إلى خارج القاعة، والكل ينظر إليه في ذهولٍ والنظرات تتابعه؛ فذهب إلى بائع الصحف ووضع يده على كتفه وأمسك بيده؛ فخاف البائع ووعده بألا يفترش الأرض في هذا المكان مرةً أخرى، قال له الأستاذ الجامعي أنه لن يفترش الأرض مرةً أخرى لا في هذا المكان ولا في غيره!. ظل البائع يقاوم بيدٍ مرتجفةٍ، والدكتور يمسك بيد البائع بكل قوته وهو يقوده إلى القاعة، ولاحظ البائع أن عيون الدكتور تدمع فسأله: "ما بك يا بني؟"، لم يُجب الدكتور وقاد البائع حتى المنصة والكل ينظر إليه في اندهاش، وبكى الدكتور بكاءً شديداً وأخذ يعانق البائع ويقبل رأسه ويده، ثم سأله: "ألم تعرفني يا أستاذ خليل؟"، أجاب البائع: "لا والله، العتب على النظر"، قال الدكتور: "أنا تلميذك ضياء، في المدرسة الابتدائية سنه 1966م"، فنظر البائع إلى الدكتور واحتضنه، وقام الدكتور وأخذ الوسام وقلده لمعلمه القديم، وقال للحاضرين: "هؤلاء هُمْ من يستحقون التكريم، إنهم هُمْ الذين علمونا".
إنها قصة وفاءٍ نادرٍ.

وهذه قصة وفاءٍ أخرى يرويها طبيبٌ فيقول أنه دخل عليه رجلٌ عجوزٌ يناهز الثمانين من العمر حوالي الساعة الثامنة من صباح يومٍ مشحونٍ بالعمل لإزالة بعض الغرز من إبهامه، وذكر أنه في عجلةٍ من أمره لأن لديه موعداً في التاسعة. يقول الطبيب: "تحدثت معه قليلاً وأنا أزيل الغرز وأهتم بجرحه"، سألته لماذا هو في عجلةٍ من أمره؟ أجاب: "إني ذاهبٌ لدار رعاية المسنين لتناول طعام الإفطار مع زوجتي"، فسألته عن سبب دخول زوجته دار الرعاية، فأجاب: "إنها هناك منذ فترةٍ لأنها مصابةٌ بمرض الزهايمر الذي أفقدها الذاكرة"، سألته: "وهل ستقلق زوجتك لو تأخرتَ عن الميعاد قليلاً؟"، أجاب: "أنها لم تعد تعرف من أنا، إنها لا تستطيع التعرف علىّ منذ خمس سنواتٍ مضت"، قلت مندهشاً: "ولازلت تذهب لتناول الإفطار معها كل صباحٍ على الرغم من أنها لا تعرف من أنت ؟!"، ابتسم الرجل وهو يضغط على يدي وقال: "هي لا تعرف من أنا، ولكني أعرف من هي". يقول الطبيب: "اضطررت لإخفاء دموعي حتى رحيله، وقلت لنفسي هذا هو نوع الحب الذي أريده في حياتي".

أحبتي في الله .. الوفاء من أنبل الصِفات والأخلاق الإنسانيّة، هو خُلُقٌ من أخلاق الإسلام الراقية، وصِفَةٌ من صفات النفوس الأبيّة، خُلُقٌ إذا انتشر بين الناس ملأ حياتهم صفاءً ونقاءً، وظللهم بروح المودة والإخاء والمحبة والألفة، هو خُلُقٌ اجتماعيٌ إسلاميٌ من أجمل ما يُوصف به المرء، هو الإخلاص والصدق في المعاملة دون خيانةٍ أو غدرٍ، وهو الخُلُق الكامل الذي يدُل على تمام مكارم الأخلاق عند المرء.

الوفاء لغةً: ضد الغَدْر؛ يُقال وَفَى بعهده وأَوْفَى إذا أتمه ولم ينقض حفظه.
والوفاء اصطلاحاً: حفظٌ للعهود والوعود، وأداءٌ للأمانات، واعترافٌ بالجميل، وصيانةٌ للمودة والمحبة.

الوفاء من صفات الله سبحانه وتعالى؛ قال في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.
والوفاء من صفات الأنبياء والمرسلين؛ قال تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى . أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾، وقال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا . وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾.
والوفاء من سمات المؤمنين المتقين؛ قال سبحانه: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
وأمرنا سبحانه وتعالى بالوفاء؛ فقال: ﴿وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
ووعد الله الذين يوفون بعهده بمحبته؛ يقول سبحانه: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، ووعدهم بالجنة؛ قال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، قال ابن جرير: وعهده إياهم أنهم إذا أوفوا بعهد الله بعبادته بإخلاصٍ وبغير شركٍ أن يدخلهم الجنة. ووعدهم كذلك بمضاعفة الأجر والثواب؛ قال عز وجل: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. كما وعدهم بالفوز بالنعيم المقيم في الجنة؛ قال سبحانه وتعالى عن أولي الألباب ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ أَنَّ ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾. ووصفهم عز وجل بالأبرار؛ فقال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا . عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا . يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾، وأثابهم حسن الثواب؛ قال سبحانه: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا . وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا . مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا . وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا وتَذْلِيلًا﴾.
وقد جعل القرآن الكريم الخروج عن فضيلة الوفاء كالخروج عن فضيلة الإنسانية؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾.
ورغم كل ذلك فإن (خُلُق الوفاء) لا يُقَدِّره للأسف إلّا القليلون؛ قال تعالى: ﴿وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾.
والإسلام ينهى عن الخيانة؛ حتى من يُخشى خيانتهم من الأعداء فلا ينبغي خيانتهم؛ لأن الخيانة خُلُقٌ ذميمٌ والله لا يحب الخائنين؛ قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾، قال ابن كثير: "أي: أَعْلِمْهُم بأنك قد نقضتَ عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حربٌ لهم، وهم حربٌ لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهُمْ في ذلك".

وفي السُنة النبوية وصايا كريمةٌ تحض على الوفاء وتأمر به، وتعيب من اتصف بضده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [..ولا دينَ لمنْ لا عهدَ له]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إن خيار عباد الله الموفون المطيبون]. وعَنِه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ثلاثٌ لَيْسَ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فِيهِنَّ رُخْصَةٌ بِرُّ الوَالِدَيِنِ مُسْلِماً كان أوْ كافِراً، والوَفاءُ بالعَهْدِ لِمُسْلِمٍ كانَ أوْ كافِرٍ، وأداءُ الأَمانَةِ إلى مُسْلِمٍ كانَ أوْ كافِرٍ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما نقَض قومٌ العهدَ قط إلا كان القتل بينهم ...]. وعن ابن عبَّاسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما، أنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جاءت إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قال: [نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ].
ومن وفائه صلى الله عليه وسلم لزوجاته، أنه كان يُكْرم صديقات زوجته خديجة رضي الله عنها بعد موتها، فكان إذا أُتيَ بالشيء يقول: [اذهبوا به إلى فلانةٍ؛ فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانةٍ؛ فإنها كانت تحب خديجة] وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قالت: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: [إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ]، ما هذا الوفاء العجيب؟! يذكرها بعد وفاتها بسنواتٍ، وعائشة رضي الله عنها لم ترها، وهذا أعجب، فقد تغار من ضرَّةٍ معها تقاسمها زوجها، لكنها تغار من ميتةٍ، وذلك يبرز كمّ الوفاء منقطع النظير من سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أجمل عبارة: [إنها كانت.. وكانت]، والحذف يفيد العموم والشمول والمعاني الغزيرة الجميلة غير المحصورة، وهذا من وفائه صلى الله عليه وسلم، إنه (خُلُق الوفاء) في أعلى مراتبه.

ومن نماذج حسن الوفاء على زمن الصحابة رضي الله عنهم؛ أنه أتى شابَّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكان في مجلسه، وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفاه أمامه، قال عمر: من هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلتَه؟ قال: دخل بجمله في أرضي، فزجرته فلم ينزجر، فرميته بحجرٍ وقع على رأسه فمات، قال عمر: النفس بالنفس، لا بد أن تُقتل كما قتلت أباهما، قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي رفع السماء بلا عمدٍ ‏أن تتركني ليلةً؛ لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ثم أعود إليك، واللهِ ليس لهم عائلٌ إلا الله ثم أنا، قال عمر: مَن يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعاً؛ لأنهم لا يعرفون اسمه ولا داره ‏ولا قبيلته، فكيف يكفلونه؟ وعمر مُتأثرٌ؛ لأنه ‏وقع في حيرةٍ، هل يُسرع بقتل الرجل فيموت أطفاله جوعاً هناك؟ أو يتركه فيذهب بلا كفالةٍ فيضيع دم المقتول؟ نكَّس عمر ‏رأسه والتفت إلى الشابَّين وقال: أتعفوان عنه؟ قالا: لا، مَن قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: مَن يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذرٍ الغفاريّ وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قاتلاً! قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين فعلمت أنه لا يكذب، وسَيَفِي بعهده إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذر، أتظن أنه لو تأخَّر بعد ثلاثٍ أني تاركك؟ قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين. فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليالٍ يُهيِّئ فيها نفسه ويُودع ‏أطفاله وأهله وينظر في أمرهم بعده، ثم يأتي ليُقْتَص منه؛ لأنه قتل. لم ينسَ عمر الموعد، وبعد ثلاث ليالٍ، وفي العصر ‏نادى ‏منادٍ في المدينة: الصلاة جامعةٌ، فجاء الشابَّان، واجتمع الناس، وأتى أبو ‏ذرٍ ‏وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين! وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمرُّ سريعةً على غير عادتها. وقبل الغروب بلحظاتٍ، إذا بالرجل يأتي، فكبَّر عمر وكبَّر المسلمون‏ معه، فقال عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك. قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك، ولكن عليَّ مِنَ الذي يعلم السرَّ وأخفى، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ‏ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، وخشيت أن يُقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس، فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر: لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يُقال: لقد ذهب الخير من الناس، فوقف عمر وقال للشابَّين: ماذا تَرَيَان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه ووفائه بالعهد، وقالا: نخشى أن يُقال: لقد ذهب العفو من الناس، قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته.

يقول الشاعر:
إن الوفاءَ على الكريمِ فريضةٌ
واللـؤمُ مقـرونٌ بذي الإخـلافِ
وترى الكريمَ لمن يُعاشرُ مُنصفاً
وترى اللئيمَ مُجانبَ الإنصافِ

أحبتي .. ليعلم كلٌ منا أنه سيُسأل عن وفائه يوم القيامة؛ فقد قال عز وجل: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ فماذا يكون جوابنا إذا سُئلنا عن وعودنا وعهودنا وعقودنا التي أمرنا الله تعالى بالوفاء بها وأدائها؟ قال سبحانه: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾، وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ماذا يكون جوابنا إذا أخلفنا وعودَنا وضيعنا عهودَنا وخُنَّا أماناتِنا؟
فلنحرص أحبتي على الوفاء بعهودِنا:
تجاه المولى سبحانه وتعالى؛ فنشهد له بالوحدانية، ونُسَلِّم بألوهيته وحده لا شريك له، ونؤدي فرائض ديننا، ونُجْبِر نقصها بالنوافل، ونكثر من ذكر الله واستغفاره.
يقول الشاعر:
مـا كان لِله مِنْ وُدٍّ ومِـنْ صِلَـةٍ
يَظـلُّ في زَحْـمَةِ الأَيَّــامِ مَوْصُـولا
يظلُّ ريّانَ مِنْ صِدقِ الوَفـاءِ بِـه
يُغْني الحياةَ هُدىً قد كان مأمولا
ما أَجْملَ العُمـرَ في بِرّ الوفاءِ
وما أَحْلى أَمانيـه تقـديراً وتفعيـلا
وما يكـون لِغَيْـر الله لا عَجَـبٌ
إِذا تَـغَـيَّـرَ تـقـطـيـعــاً وتـبْـديـــلا
ولنحرص على الوفاء بعهودِنا تجاه الناس؛ فنسارع برد المظالم وإرجاع حقوق الآخرين التي في ذممنا وأعناقنا لهم، سواءً كانت حقوقاً ماديةً أو أدبيةً، ثم نُتْبِع ذلك بالاعتراف بالجميل وتقدير الآخرين، والأَوْلى بذلك الوالدان والزوج والأبناء ثم الإخوة والأهل والأقارب وذوي الأرحام ثم الجيران ثم غيرهم من الناس مسلمين وغير مسلمين.
ولنحرص على الوفاء بعهودِنا تجاه أنفسنا؛ فنوفي نذورَنا ونلتزم بوعودِنا وعهودِنا وعقودِنا، فلا نجور ولا نخون ولا نغدر ولا نتجاوز ولا نتحايل ولا نماطل ولا نطفف.

نحن جميعاً في حاجةٍ ماسةٍ إلى هذا الخُلُق العظيم في حياتنا، في حاجةٍ إلى (خُلُق الوفاء) الذي يجمع بين مجامع الخير كلها: التواضع والأمانة والشجاعة والعدل والإنصاف وحفظ الحقوق ورد الجميل وتحمل المسئولية والإيثار والنبل، والذي ينظم حياتنا كلها؛ فيجعلها صافيةً هانئةً مستقرةً خاليةً من المشاكل والضغائن والعداوات والمظالم.
اللهم اجعلنا من الأوفياء الأمناء المخلصين، وباعد بيننا وبين الغدر والخداع والخيانة ونقض العهود.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/V289Zn