الجمعة، 26 يناير 2018

أجل مسمى

الجمعة 26 يناير 2018م

خاطرة الجمعة /١١٩
(أجل مسمى)

تواصل معي خلال الأسبوع الماضي عددٌ كبيرٌ من الأصدقاء؛ فقد تلقيت عشراتٍ من رسائل الاطمئنان، والكثير من الاتصالات الهاتفية، للسؤال عن عدم تسلم المواد والنشرات الدينية التي أقوم بإعدادها ثم إرسالها وتعميمها في مواعيد يوميةٍ محددةٍ يعلمها الجميع وألتزم بها بدقة؛ حتى أن أحدهم أخبرني يوماً أنه يكاد يضبط ساعته على موعد تلقيه هذه المنشورات لولا أن مواعيد إرسالها مرتبطٌ بمواقيت الصلاة وهي متغيرةٌ بطبيعة الحال!
كان سبب الانقطاع المؤقت وعدم الانتظام هو مشكلةٌ فنيةٌ خاصةٌ بهاتفي أدت إلى توقف برنامج واتس آب وغيره عن العمل مراتٍ، وبطءٍ شديدٍ أوإغلاقٍ مفاجئٍ مراتٍ أخرى.
ومع شكري لكل من تواصل معي وسأل عني، وتقديري لكل من لم تسمح ظروفه بالتواصل والسؤال، فإن ما استوقفني حقيقةً هو سؤال أخٍ عزيزٍ: "هل أعطيت نفسك عطلةً تتوقف فيها عن العمل؛ ترتاح قليلاً وتسترد أنفاسك؟".
السؤال جعلني أفكر في علاقة الإنسان المسلم بالوقت، كيف يديره، وكيف يوظفه ويستثمره، وكيف يتعامل معه، وفي مفهوم العطلة، والتوقف عن العمل خلالها. عن نفسي أحاول استثمار كل دقيقةٍ في عملٍ مفيدٍ، ولم أعود نفسي على التوقف عن العمل أيام العطلات، بل أعتبرها فرصةً أُضاعف فيها من نشاطي وإنتاجي!

أحبتي .. صحيحٌ أن الراحة مطلوبةٌ خاصةً بعد فترة عملٍ مرهقٍ، لكن الراحة تكون لدقائق أو ساعاتٍ، أما أن تمتد ليومٍ كاملٍ أو يومين كل أسبوع وأن تُخصص للنوم أو الكسل، فهذا مفهومٌ خاطئٌ يحتاج إلى تعديل.
فالوقت نعمةٌ من نعم الله سبحانه وتعالى؛ فهو عمر الإنسان على هذه الأرض، والعمر مهما طال محدودٌ بما أسماه المولى عز وجل (أجل مسمى)، وهذا الأجل وإن امتد فإن له نهاية، وإن طال فلن يتجاوز ما هو مقدرٌ ومكتوبٌ لكلٍ منا. الوقت هو الحياة، وحياتنا في هذه الدنيا هي في الواقع مجموع أوقاتنا، وهي إجمالي الزمن الذي يمضي بين لحظتين فاصلتين في حياة كل شخصٍ منا: لحظة ميلاده، ولحظة وفاته.
الحياة كالقطار يسير، يقف في محطاتٍ، كلٌ منا يركب من إحداها ثم ينزل في أخرى، وما بين المحطتين من وقتٍ وزمنٍ يمر داخل القطار هو عمر الإنسان، ينتهي بوصوله إلى محطة النزول، هذه الرحلة هي ما عبر عنها السياق القرآني البليغ بعبارة (أجل مسمى).
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، محدداً الأجل المسمى للإنسان وهو ما يزال جنيناً في بطن أمه قبل مولده: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، ثم يُولد وقد تحدد له عمره: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ﴾. ويمتد عمر الإنسان وأجله إلى وقت موته؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾، ويقول: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾، ويقول: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، ويقول: ﴿وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى﴾.
وطوال رحلة الحياة، يُنعم المولى عزَّ وجَلَّ على الإنسان بالعمر وهو أيامٌ ينتهي كلٌ منها بالنوم؛ ينام الإنسان لا يعلم إن كان سيستيقظ وهو ما زال في الدنيا أم قد وافاه الأجل المحتوم أثناء نومه؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. ولأنه سبحانه يعلم أن كل ابن آدم خطاءٌ، فإنه برحمةٍ منه يدعونا إلى المغفرة؛ يقول تعالى: ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، وهو سبحانه يدعونا إلى التوبة؛ فيقول: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾. وتكون النهاية بانتهاء الأجل المسمى لكل مخلوقٍ؛ يقول تعالى: ﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، ويقول في موضعٍ آخر: ﴿مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، ويقول سبحانه: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. وبعد الموت، تكون حسرة من أضاعوا أعمارهم فيما لا يفيد؛ يقول سبحانه: ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾، ويقول على لسان الظالمين: ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾.
والحكمة البالغة لمن أن أراد أن يعتبر تكمن في قوله عز وجل: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾، ولأن أجل الله آتٍ لا محالة فلماذا نضيع أوقاتنا فيما لا نفع فيه؟ لماذا لا نُحْسن استخدام أوقاتنا فيما ينفعنا في الدار الآخرة دار الخلود؟ ولأننا لا نعرف كم سنعيش في هذه الحياة الدنيا فلنعتبر من هذه الآية الكريمة: ﴿وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾.

بلغ اهتمام الإسلام بالوقت حد أن الله سبحانه وتعالى أقسم به في آياتٍ كثيرةٍ؛ منها: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ﴾، و﴿وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، و﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾، و﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾، حيث تبين هذه الآيات وغيرها أهمية الوقت وضرورة اغتنامه في طاعة الله. كما أقسمَ بقوله: ﴿وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، بمعنى أنَّ مُضِيَّ الزمنِ وحدَه يستهلكُ عُمُرَ الإنسان الذي هو رأسُ ماله، ووعاءُ عملِه الصالحِ، الذي هو ثمنُ الجنة التي وَعَدَه الله بها.
كما أن تكليف الإنسان في الإسلام مرتبطٌ بالوقت وهو وقت البلوغ، والعبادات كلها مرتبطةٌ بالوقت: فالنطق بالشهادة وقتٌ للدخول فى الإسلام ووقتٌ للخروج من الدنيا واستقبال الآخرة، والصلاة فريضةٌ تتكرر خمس مراتٍ فى اليوم والليلة ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ وهي موزعةٌ على ساعات اليوم من مَطلَعِ الفجر إلى مَغيبِ الشَّفَق ﴿فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ . وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيَّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾، وأما الليل فلَهُ عبادته الخاصة المميزة ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا . نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا﴾، والزكاة فريضةٌ على من امتلك نصاباً حال عليه الحول مرةً كل عام، والصيام فريضةٌ في وقتٍ محددٍ هو شهر رمضان من كل عام ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ والإفطار والإمساك فيه مؤقتان بوقت ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾ ومن اعتراه عذرٌ من مرضٍ أو سفرٍ فأفطر أياماً قضى مثلها: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، والحج فريضةٌ تُؤدىَ في وقتٍ معلومٍ ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾.
والليل والنهار هما المجالُ الذي يذكُرُ العبدُ فيه ربَّهُ ويشكر نِعَمُهُ؛ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾، وإنّه لَمِن فضل الله سبحانه وتعالى وتوفيقه على العبد أن يُلهِمَهُ استغلال كلّ ساعةٍ من عمره في العمل أو الراحة من جُهدٍ استعداداً لجُهدٍ آخرَ؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

وعن الوقت في السُنة المشرفة يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أحدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُه في بطن أمِّه أربعين يوماً، ثم يكُون علقةً مِثلَ ذلك، ثم يكُون مضغةً مثل ذلك، ثم يُرسَل الملَكُ، فينفخ فيه الرُّوح، ويُؤْمَر بأربع كلماتٍ: بِكَتْبِ رزقه، وأجلِه، وعملِه، وشقيٌّ أو سعيد]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [كَتب الله مقاديرَ الخلائق قبل أن يَخلق السماواتِ والأرضَ بخمسين ألف سَنة].
ويقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ رُوح القدس نفَثَ في رُوعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلَها، وتستوعب رِزقَها، فاتَّقوا الله، وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزق أن يطلبه بمعصية؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته]، كما يقول: [لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ، لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ المَوْتُ]. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّاً مُرَبَّعاً، وَخَطَّ خَطَّاً فِي الْوَسَطِ خَارِجاً مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطاً صِغَاراً إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، وَقَالَ: [هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا].
يقول أهل العلم أن كلَّ مفقودٍ يُمكن استرجاعه إلا الوقت؛ فإنه إن ضاع فلا أمل بعودته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تزولُ قَدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن: عُمِرهِ فيما أفناهُ، وعن جسده فيما أبلاهُ، وعن مالِهِ من أين اكتَسَبَهُ وفيما وضَعَهُ، وعن عِلمِه ماذا عمل فيه؟]. فالوقت أنفسُ ما يملكه إنسانٌ، وعلى العاقل أن يستفيد من وقته كما يستفيد من ثروته، لا يفرِّطُ في قليله وكثيره؛ بل يحرص على أن يستفيد من كلِّ لحظةٍ تمرُّ في حياته. عندما يحسُّ أحدُنا أنه موجودٌ، ويُلقي نظرةً وراءهُ يتبيّن بها اللحظةَ التي بدأَ فيها المسيرَ في هذه الحياة ليُحصي ما مرَّ به من أيامٍ وأعوامٍ؛ لن يطولَ به الفكرُ لأنه ينظرُ إلى تجمّع السنين الطّوال فإذا هي وكأنها يومٌ واحدٌ. وهذا ما يستشعرُهُ الإنسانُ يومَ القيامة عندما يقفُ للحساب؛ قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾، وقال سبحانه: ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا . نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا﴾، وقال عز وجل: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.
والإسلام دينٌ يعرف قيمة الوقت ويُقدِّر خطورة الزمن؛ فهو يؤكِّد الحكمة القائلة: "الوقتُ كالسيفِ إن لم تقطَعْهُ قَطَعَكَ"، ويجعل من دلائل الإيمان أن يعي المسلم قيمة الوقت باختلاف الليل والنهار؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ﴾؛ فالمعرضون عن التفكر في نعمة الوقت وتتابع الزمن، الذين تأخذهم الحياة الدنيا وتشغلهم عن الاستعداد للآخرة هم الغافلون؛ قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

ومع كل ما سبق فإنّ شأن الناس في الدنيا غريبٌ؛ يلهون وينسون، وكلُّ أعمالهم محسوبةٌ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. إنّ المسلم الحقّ يُحافِظُ على الوقت محافظةً شديدةً لأنّ الوقت هو عُمُرهُ. فإذا سمح بضياعه فهو يضيع حياته؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: [نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ]. ويقول الحسن البصري: "يا ابن آدم، إنَّما أنت أيَّامٌ، كلَّما ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك"، ويقول الشاعر:
إِنَّـا لَـنَـفْـرَحُ بِالأَيَّــامِ نَقْـطَـعُـهَـا
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى جُزْءٌ مِنَ العُمُــرِ
ويقول آخر:
وَالوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ
وَأَرَاهُ أَسْــهَـلَ مَا عَـلَيْـكَ يَـضِيـعُ
حَثَّ الإسلامُ المسلم على مداومة العمل وإن كان قليلاً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيّها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإنّ الله لا يملُّ حتى تملّوا. وإن أحبّ الأعمال إلى الله ما دام وإن قَلَّ].
ومن محافظة الإسلام على الوقت حَثّ المسلم على التبكير، ورغَّبَهُ أن يبدأ أعمال يومه باكراً مكتمل النشاط؛ قال صلى الله عليه وسلم: [اللّهمّ بارِكْ لأُمّتي في بكورها].
يقول الشاعر مؤكداً أن الوقت هو العمر وأن العمر هو (أجل مسمى) قد أنعم الله به علينا وسوف يحاسبنا سبحانه وتعالى عليه:
الوقـتُ أغلى مـن اليـاقـوتِ والذهبِ
ونـحن نَـخسـرهُ فـي اللـهـوِ واللعـبِ
وســوف نُسأل عـنـه عـنــد خـالـقِـنـا
يوم الحسابِ بذاك المـوقفِ النّشـِبِ
فاعْـملْ لنفسـك وأْمَلْ في السلامة لا
تركنْ إلى النـومِ أو تشـكو من التـعبِ
فإنـمـا أنــت مَـجــْزِيٌّ بـمــا عـَمـَلَـتْ
يـداك فاعـمـلْ لهـا في رفـعـةِ الـرتبِ
وإنما الفـــوز فيـمـــا كـُنـتَ تـعمــلـهُ
مـخـافةَ الله لا فـي الجـاهِ والنـسـبِ
لـوْ أنـها تنـفــعُ الأنســابُ صــاحـبَها
شـيـئـاً لَـمـَا كـان مـذمـومـاً أبـو لهبِ

أحبتي .. الوقت قصيرٌ مهما طال، والعمر محدودٌ وإن امتد، ولكلٍ منا (أجل مسمى) لن يتجاوزه؛ فلنشمر سواعد العمل، ونشحذ الهمم، ولا نضيع أوقاتنا، بل نشغلها بكل ما هو مفيدٌ لنا لآخرتنا، أما دنيانا فهي كما يقال مزرعة للآخرة؛ فليكن اهتمامنا بها بقدر ما تعيننا به على الاستعداد للحياة الأبدية الخالدة؛ وما نعيشه في الدنيا لا يزيد عن كونه رحلةً قصيرةً نعود بعدها إلى موطننا الأصلي وهو جنة الخُلد بإذن الله. وكل يومٍ جديدٍ هو فرصةٌ جديدةٌ لزيادة رصيدنا من الثواب، كما أنه شاهدٌ علينا؛ ففي الحديث القدسي: {وما مِن يومٍ ينشقُّ فجرُه إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِك شهيدٌ، فتزوَّدْ منِّي، فإني لا أعود إلى يوم القيامة}. وكما قيل على قدر الهدف تكون سرعة الانطلاق؛ ففي طلب الرزق قال: ﴿فَامْشُوا﴾، وللصلاة قال: ﴿فَاسْعَوا﴾، وللجنة قال: ﴿وسَارِعُوا﴾، وأما إليه فقال: ﴿فَفِرُوا إِلَىٰ اللهِ﴾، وهي جميعاً ألفاظٌ وتعبيراتٌ ذات اتصالٍ وثيق بالوقت والزمن. فلنفر أحبتي إلى الله بكل عملٍ صالحٍ نستطيعه من غير أن نضيع أوقاتاً لا يُمكن لنا تعويضها أبداً.
قال ابن مسعود: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غرَبَت فيه شمسُهُ، نقص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي".
ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
دَقَّــاتُ قلــبِ المـرءِ قـائـلـةٌ لـه:
إنَّ الحـيـــــاةَ دقـائِـقٌ وثــوانـي
فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها
فالذكــرُ للإنســــان عُـمـرٌ ثــاني
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/xV1xGK

الجمعة، 19 يناير 2018

خُلُق الوفاء

الجمعة 19 يناير 2018م

خاطرة الجمعة /١١٨
(خُلُق الوفاء)

يُحكى عن أستاذٍ جامعيٍ أُعد حفلٌ لتكريمه عقب عودته من الخارج بعد غيابٍ لأكثر من خمسة عشر عاماً، وهو يشغل الآن منصب كبير استشاري أمراض القلب في مشفىً عالميٍ مرموقٍ. عند دخوله القاعة التي سوف يُكرم فيها استوقفه منظر بائع صحفٍ كبيرٍ في السن يفترش صحفه؛ فتذكر ملامحه المحفورة في ذهنه، واستمر في المشي حتى دخل القاعة وجلس سارحاً مع بائع الجرائد. عندما نُودي على اسمه ليتسلم وسام التكريم قام من مكانه، لكنه لم يتوجه إلى المنصة بل توجه إلى خارج القاعة، والكل ينظر إليه في ذهولٍ والنظرات تتابعه؛ فذهب إلى بائع الصحف ووضع يده على كتفه وأمسك بيده؛ فخاف البائع ووعده بألا يفترش الأرض في هذا المكان مرةً أخرى، قال له الأستاذ الجامعي أنه لن يفترش الأرض مرةً أخرى لا في هذا المكان ولا في غيره!. ظل البائع يقاوم بيدٍ مرتجفةٍ، والدكتور يمسك بيد البائع بكل قوته وهو يقوده إلى القاعة، ولاحظ البائع أن عيون الدكتور تدمع فسأله: "ما بك يا بني؟"، لم يُجب الدكتور وقاد البائع حتى المنصة والكل ينظر إليه في اندهاش، وبكى الدكتور بكاءً شديداً وأخذ يعانق البائع ويقبل رأسه ويده، ثم سأله: "ألم تعرفني يا أستاذ خليل؟"، أجاب البائع: "لا والله، العتب على النظر"، قال الدكتور: "أنا تلميذك ضياء، في المدرسة الابتدائية سنه 1966م"، فنظر البائع إلى الدكتور واحتضنه، وقام الدكتور وأخذ الوسام وقلده لمعلمه القديم، وقال للحاضرين: "هؤلاء هُمْ من يستحقون التكريم، إنهم هُمْ الذين علمونا".
إنها قصة وفاءٍ نادرٍ.

وهذه قصة وفاءٍ أخرى يرويها طبيبٌ فيقول أنه دخل عليه رجلٌ عجوزٌ يناهز الثمانين من العمر حوالي الساعة الثامنة من صباح يومٍ مشحونٍ بالعمل لإزالة بعض الغرز من إبهامه، وذكر أنه في عجلةٍ من أمره لأن لديه موعداً في التاسعة. يقول الطبيب: "تحدثت معه قليلاً وأنا أزيل الغرز وأهتم بجرحه"، سألته لماذا هو في عجلةٍ من أمره؟ أجاب: "إني ذاهبٌ لدار رعاية المسنين لتناول طعام الإفطار مع زوجتي"، فسألته عن سبب دخول زوجته دار الرعاية، فأجاب: "إنها هناك منذ فترةٍ لأنها مصابةٌ بمرض الزهايمر الذي أفقدها الذاكرة"، سألته: "وهل ستقلق زوجتك لو تأخرتَ عن الميعاد قليلاً؟"، أجاب: "أنها لم تعد تعرف من أنا، إنها لا تستطيع التعرف علىّ منذ خمس سنواتٍ مضت"، قلت مندهشاً: "ولازلت تذهب لتناول الإفطار معها كل صباحٍ على الرغم من أنها لا تعرف من أنت ؟!"، ابتسم الرجل وهو يضغط على يدي وقال: "هي لا تعرف من أنا، ولكني أعرف من هي". يقول الطبيب: "اضطررت لإخفاء دموعي حتى رحيله، وقلت لنفسي هذا هو نوع الحب الذي أريده في حياتي".

أحبتي في الله .. الوفاء من أنبل الصِفات والأخلاق الإنسانيّة، هو خُلُقٌ من أخلاق الإسلام الراقية، وصِفَةٌ من صفات النفوس الأبيّة، خُلُقٌ إذا انتشر بين الناس ملأ حياتهم صفاءً ونقاءً، وظللهم بروح المودة والإخاء والمحبة والألفة، هو خُلُقٌ اجتماعيٌ إسلاميٌ من أجمل ما يُوصف به المرء، هو الإخلاص والصدق في المعاملة دون خيانةٍ أو غدرٍ، وهو الخُلُق الكامل الذي يدُل على تمام مكارم الأخلاق عند المرء.

الوفاء لغةً: ضد الغَدْر؛ يُقال وَفَى بعهده وأَوْفَى إذا أتمه ولم ينقض حفظه.
والوفاء اصطلاحاً: حفظٌ للعهود والوعود، وأداءٌ للأمانات، واعترافٌ بالجميل، وصيانةٌ للمودة والمحبة.

الوفاء من صفات الله سبحانه وتعالى؛ قال في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.
والوفاء من صفات الأنبياء والمرسلين؛ قال تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى . أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾، وقال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا . وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾.
والوفاء من سمات المؤمنين المتقين؛ قال سبحانه: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
وأمرنا سبحانه وتعالى بالوفاء؛ فقال: ﴿وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
ووعد الله الذين يوفون بعهده بمحبته؛ يقول سبحانه: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، ووعدهم بالجنة؛ قال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، قال ابن جرير: وعهده إياهم أنهم إذا أوفوا بعهد الله بعبادته بإخلاصٍ وبغير شركٍ أن يدخلهم الجنة. ووعدهم كذلك بمضاعفة الأجر والثواب؛ قال عز وجل: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. كما وعدهم بالفوز بالنعيم المقيم في الجنة؛ قال سبحانه وتعالى عن أولي الألباب ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ أَنَّ ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾. ووصفهم عز وجل بالأبرار؛ فقال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا . عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا . يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾، وأثابهم حسن الثواب؛ قال سبحانه: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا . وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا . مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا . وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا وتَذْلِيلًا﴾.
وقد جعل القرآن الكريم الخروج عن فضيلة الوفاء كالخروج عن فضيلة الإنسانية؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾.
ورغم كل ذلك فإن (خُلُق الوفاء) لا يُقَدِّره للأسف إلّا القليلون؛ قال تعالى: ﴿وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾.
والإسلام ينهى عن الخيانة؛ حتى من يُخشى خيانتهم من الأعداء فلا ينبغي خيانتهم؛ لأن الخيانة خُلُقٌ ذميمٌ والله لا يحب الخائنين؛ قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾، قال ابن كثير: "أي: أَعْلِمْهُم بأنك قد نقضتَ عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حربٌ لهم، وهم حربٌ لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهُمْ في ذلك".

وفي السُنة النبوية وصايا كريمةٌ تحض على الوفاء وتأمر به، وتعيب من اتصف بضده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [..ولا دينَ لمنْ لا عهدَ له]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إن خيار عباد الله الموفون المطيبون]. وعَنِه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ثلاثٌ لَيْسَ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فِيهِنَّ رُخْصَةٌ بِرُّ الوَالِدَيِنِ مُسْلِماً كان أوْ كافِراً، والوَفاءُ بالعَهْدِ لِمُسْلِمٍ كانَ أوْ كافِرٍ، وأداءُ الأَمانَةِ إلى مُسْلِمٍ كانَ أوْ كافِرٍ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما نقَض قومٌ العهدَ قط إلا كان القتل بينهم ...]. وعن ابن عبَّاسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما، أنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جاءت إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قال: [نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ].
ومن وفائه صلى الله عليه وسلم لزوجاته، أنه كان يُكْرم صديقات زوجته خديجة رضي الله عنها بعد موتها، فكان إذا أُتيَ بالشيء يقول: [اذهبوا به إلى فلانةٍ؛ فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانةٍ؛ فإنها كانت تحب خديجة] وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قالت: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: [إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ]، ما هذا الوفاء العجيب؟! يذكرها بعد وفاتها بسنواتٍ، وعائشة رضي الله عنها لم ترها، وهذا أعجب، فقد تغار من ضرَّةٍ معها تقاسمها زوجها، لكنها تغار من ميتةٍ، وذلك يبرز كمّ الوفاء منقطع النظير من سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أجمل عبارة: [إنها كانت.. وكانت]، والحذف يفيد العموم والشمول والمعاني الغزيرة الجميلة غير المحصورة، وهذا من وفائه صلى الله عليه وسلم، إنه (خُلُق الوفاء) في أعلى مراتبه.

ومن نماذج حسن الوفاء على زمن الصحابة رضي الله عنهم؛ أنه أتى شابَّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكان في مجلسه، وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفاه أمامه، قال عمر: من هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلتَه؟ قال: دخل بجمله في أرضي، فزجرته فلم ينزجر، فرميته بحجرٍ وقع على رأسه فمات، قال عمر: النفس بالنفس، لا بد أن تُقتل كما قتلت أباهما، قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي رفع السماء بلا عمدٍ ‏أن تتركني ليلةً؛ لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ثم أعود إليك، واللهِ ليس لهم عائلٌ إلا الله ثم أنا، قال عمر: مَن يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعاً؛ لأنهم لا يعرفون اسمه ولا داره ‏ولا قبيلته، فكيف يكفلونه؟ وعمر مُتأثرٌ؛ لأنه ‏وقع في حيرةٍ، هل يُسرع بقتل الرجل فيموت أطفاله جوعاً هناك؟ أو يتركه فيذهب بلا كفالةٍ فيضيع دم المقتول؟ نكَّس عمر ‏رأسه والتفت إلى الشابَّين وقال: أتعفوان عنه؟ قالا: لا، مَن قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: مَن يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذرٍ الغفاريّ وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قاتلاً! قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين فعلمت أنه لا يكذب، وسَيَفِي بعهده إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذر، أتظن أنه لو تأخَّر بعد ثلاثٍ أني تاركك؟ قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين. فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليالٍ يُهيِّئ فيها نفسه ويُودع ‏أطفاله وأهله وينظر في أمرهم بعده، ثم يأتي ليُقْتَص منه؛ لأنه قتل. لم ينسَ عمر الموعد، وبعد ثلاث ليالٍ، وفي العصر ‏نادى ‏منادٍ في المدينة: الصلاة جامعةٌ، فجاء الشابَّان، واجتمع الناس، وأتى أبو ‏ذرٍ ‏وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين! وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمرُّ سريعةً على غير عادتها. وقبل الغروب بلحظاتٍ، إذا بالرجل يأتي، فكبَّر عمر وكبَّر المسلمون‏ معه، فقال عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك. قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك، ولكن عليَّ مِنَ الذي يعلم السرَّ وأخفى، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ‏ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، وخشيت أن يُقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس، فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر: لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يُقال: لقد ذهب الخير من الناس، فوقف عمر وقال للشابَّين: ماذا تَرَيَان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه ووفائه بالعهد، وقالا: نخشى أن يُقال: لقد ذهب العفو من الناس، قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته.

يقول الشاعر:
إن الوفاءَ على الكريمِ فريضةٌ
واللـؤمُ مقـرونٌ بذي الإخـلافِ
وترى الكريمَ لمن يُعاشرُ مُنصفاً
وترى اللئيمَ مُجانبَ الإنصافِ

أحبتي .. ليعلم كلٌ منا أنه سيُسأل عن وفائه يوم القيامة؛ فقد قال عز وجل: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ فماذا يكون جوابنا إذا سُئلنا عن وعودنا وعهودنا وعقودنا التي أمرنا الله تعالى بالوفاء بها وأدائها؟ قال سبحانه: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾، وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ماذا يكون جوابنا إذا أخلفنا وعودَنا وضيعنا عهودَنا وخُنَّا أماناتِنا؟
فلنحرص أحبتي على الوفاء بعهودِنا:
تجاه المولى سبحانه وتعالى؛ فنشهد له بالوحدانية، ونُسَلِّم بألوهيته وحده لا شريك له، ونؤدي فرائض ديننا، ونُجْبِر نقصها بالنوافل، ونكثر من ذكر الله واستغفاره.
يقول الشاعر:
مـا كان لِله مِنْ وُدٍّ ومِـنْ صِلَـةٍ
يَظـلُّ في زَحْـمَةِ الأَيَّــامِ مَوْصُـولا
يظلُّ ريّانَ مِنْ صِدقِ الوَفـاءِ بِـه
يُغْني الحياةَ هُدىً قد كان مأمولا
ما أَجْملَ العُمـرَ في بِرّ الوفاءِ
وما أَحْلى أَمانيـه تقـديراً وتفعيـلا
وما يكـون لِغَيْـر الله لا عَجَـبٌ
إِذا تَـغَـيَّـرَ تـقـطـيـعــاً وتـبْـديـــلا
ولنحرص على الوفاء بعهودِنا تجاه الناس؛ فنسارع برد المظالم وإرجاع حقوق الآخرين التي في ذممنا وأعناقنا لهم، سواءً كانت حقوقاً ماديةً أو أدبيةً، ثم نُتْبِع ذلك بالاعتراف بالجميل وتقدير الآخرين، والأَوْلى بذلك الوالدان والزوج والأبناء ثم الإخوة والأهل والأقارب وذوي الأرحام ثم الجيران ثم غيرهم من الناس مسلمين وغير مسلمين.
ولنحرص على الوفاء بعهودِنا تجاه أنفسنا؛ فنوفي نذورَنا ونلتزم بوعودِنا وعهودِنا وعقودِنا، فلا نجور ولا نخون ولا نغدر ولا نتجاوز ولا نتحايل ولا نماطل ولا نطفف.

نحن جميعاً في حاجةٍ ماسةٍ إلى هذا الخُلُق العظيم في حياتنا، في حاجةٍ إلى (خُلُق الوفاء) الذي يجمع بين مجامع الخير كلها: التواضع والأمانة والشجاعة والعدل والإنصاف وحفظ الحقوق ورد الجميل وتحمل المسئولية والإيثار والنبل، والذي ينظم حياتنا كلها؛ فيجعلها صافيةً هانئةً مستقرةً خاليةً من المشاكل والضغائن والعداوات والمظالم.
اللهم اجعلنا من الأوفياء الأمناء المخلصين، وباعد بيننا وبين الغدر والخداع والخيانة ونقض العهود.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/V289Zn

الجمعة، 12 يناير 2018

وصفة للسعادة

الجمعة 12 يناير 2018م

خاطرة الجمعة /١١٧
(وصفة للسعادة)

صديقٌ عزيزٌ انقطع لفترةٍ طويلةٍ عن التواصل معي، ظننته قد سافر إلى بلد طالما حلم أن يهاجر إليه ويعيش فيه، ثم فوجئت رسالةٍ منه يخبرني فيها أنه على مدى عدة أشهر وما زال حتى الآن يعاني من حالة اكتئابٍ لا تريد أن تفارقه، ولا يعرف طريقاً للخروج من هذه الحالة.  كتبت له: " إذا كانت حالة الاكتئاب لا تريد أن تفارقك، ففارقها أنت!"
وامتد الحوار بيننا حول هذا الموضوع، قال لي في نهايته: "ما قلته لي ليس طريقاً للخروج من حالة الاكتئاب كما طلبت منك، وإنما هي (وصفة للسعادة)!

أحبتي في الله .. يقول المختصون أن الدنيا مجبولةٌ على الكدر ، هكذا خلقها بارئها، وجعلها دار محنٍ وابتلاءات وجسر عبورٍ للآخرة، لم تصفُ حتى للأنبياء خيرة الخلق، ولم تعطِ عهدها لصغيرٍ ولا لكبير، تفرحك يوماً لتحزنك أياماً؛ ولا يزال ذلك دأبها أبداً، ودأب الناس فيها:
طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنْتَ تُريدُها ...
صَفْواً مِنَ الأقْذاءِ والأكْدارِ
ومُكَلّفُ الأيّامِ ضِدَّ طِباعِها ...
مُتطَلّبٌ في الماءِ جُذْوةَ نارِ
فمن منا لم تحدث عنده حالة من الحزن إثر ما نراه من البلايا، يوماً بعد يومٍ؟ ومن منا لم تعزف نفسه عن الدنيا بما فيها، لما نسمعه أو نراه؟
لكن حينما يستمر هذا الشعور بالحزن والوحدة، أو اعتلال المزاج فيمنعنا من استمرار الحياة بشكل طبيعي، أو القيام بما يجب علينا من الواجبات، أو أداء الحقوق لأصحاب الحقوق، أو الغفلة عن نعم الله علينا، وما يجب علينا من شكره عليها، حينها ينتقل الحزن من الحال الطبيعي إلى حال الضعف، والمرض الذي يحتاج إلى علاج.
يشعر الكثير منا بحالات اكتئابٍ أو إحباطٍ من وقتٍ لآخر؛ لحدوث حالة وفاةٍ في العائلة، أو فشلٍ في الحب، أو فقدان وظيفة، أو خسارة مال، أو حالة مرضٍ خطيرٍ.  أزمات الحياة المختلفة قد تسبب الشعور بالحزن أو الوحدة أو الإحباط لمعظم الناس لفترةٍ من الوقت؛ فحدوث حالةٍ من الحزن ردُ فعلٍ طبيعيٍ في مثل هذه الأحداث. وقد نشعر بحالةٍ من الوجوم لبعض الوقت بدون سببٍ محددٍ ثم نستعيد قوتنا مرةً أخرى ونشعر بتحسنٍ ونعود إلي حالتنا الطبيعية بعد فترة. لكن عندما يستمر هذا الشعور بالحزن أو الوحدة أو الإحباط مع اعتلال المزاج، ويمنعنا هذا الشعور من استمرار الحياة بشكلٍ طبيعيٍ فنحن إذن نعاني من اضطراب في الحالة المزاجية، وهذا هو الذي يُسمىَ اكتئاباً.
يقول المتخصصون في علم النفس أن الاكتئاب هو اضطراب في الحالة المزاجية للشخص، وهو حالةٌ متواصلةٌ من الخلل الذي يحدث في المشاعر الطبيعية لأي شخص، كما قد يزيد ليصبح حالة اعتلالٍ جسديٍ كاملٍ يؤثر على الصحة العامة للشخص وسلوكه تجاه الآخرين؛ فيعاني المكتئب مشاكل في النوم والأكل والعمل والتعامل مع الآخرين.
ويُعرّف الاكتئاب بأنه اعتلالٌ نفسيٌ يعاني فيه الشخص من الحزن والمشاعر السلبية لفتراتٍ طويلةٍ، وفقدان الحماس وعدم الاكتراث، تصاحبه مشاعر القلق والحزن والتشاؤم والإحساس بالذنب مع انعدام وجود هدف للحياة، مما يجعل الفرد يفتقد الحماس الطبيعي لمعايشة الواقع.
والاكتئاب أمرٌ شائعٌ؛ فهو يصيب واحداً من كل عشرةٍ منا في مرحلةٍ ما من مراحل العمر، وهو يؤثر على الرجال والنساء، وعلى الصغار والكبار، إنه أكثر من مجرد الشعور بالحزن أو السأم لبضعة أيام. يؤثر الاكتئاب على الأشخاص بطرقٍ مختلفة، ويمكن أن يسبب مجموعةً متنوعةً من الأعراض تتراوح بين مشاعر دائمةٍ من الحزن واليأس، إلى فقدان الاهتمام بالأشياء التي كنا نستمتع بها، والشعور بالرغبة في البكاء.
ومن بين أهم علاجات الاكتئاب العلاج الديني الروحي الذي يلعب دوراً مهماً وحاسماً في نقل الإنسان من حالة المرض والتدهور في متاهات التفكير والمشكلات النفسية إلى طريق الهداية والعودة بالعقل إلى الاستغفار والتوبة من خلال ذكر عظمة الخالق وتمتين الصلة بالله عن طريق الصلاة والدعاء.

يرى الإمام الشيرازي أن الإيمان بالله هو العامل الوحيد الذي يمكن به تعديل الصفات والعواطف والأعمال، وهو يُعد العامل المعنوي القوي المحرك للمسلم المؤمن. والإرادة هي المحرك الأساسي للإيمان تتخلق من خلال سلوك المسلم المؤمن في مجاهدة الحياة وملذاتها في حالتي السواء والمرض؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام سمى هذا النوع بالجهاد الأكبر، أي معالجة النفس وانتزاع صفاتها الذميمة وغرائزها المستحكمة فيها والمطبوعة عليها.
إن مجاهدة النفس وإيقافها عن غِيها من أولى مسلمات قوة الإيمان لدى المسلم المؤمن، لا تجعله ينحدر بتدهورها إلى أسفل السافلين. فعندما تتراكم الهموم وتزدحم المشاكل ولا يجد لها الإنسان حلاً فإنها تسبب ضغوطاً نفسيةً تزداد يوماً بعد يوم حتى تؤدي إلى مرضٍ مزمنٍ هو الاكتئاب.
لكن المؤمن لديه لكل مشكلةٍ حلٌ، ولكل مرضٍ علاجٌ، وعلاج الاكتئاب يكون من خلال الوصفة القرآنية النبوية التالية، وهي في الحقيقة (وصفة للسعادة)، استخلصناها من آراء أهل العلم:
الاعتصام بالله تعالى؛ فالاعتصام بالله تعالى واللجوء إليه، والتحصن بحصنه الحصين، والأمل في فضله، والرجاء في رحمته، هو مفتاح العلاج، فلا يأس أبداً مع الاعتصام بالله؛ قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وقال سبحانه: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾. لقد كشف سبحانه غُمة يعقوب عليه السلام حين قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾، وحين قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾. كما كشف الضُر عن أيوب عليه السلام حين قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. والاعتصام بالله سبيله الأول المداومة على قراءة القرآن الكريم، ومدارسته تلاوةً وحفظاً وتحفيظاً؛ قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: [خيركم من تعلم القرآن وعلمه].
والصلاة زادٌ روحيٌ من أهم ما يلجأ إليه المسلم في شدته وكربه واكتئابه، فهي عدة الإنسان المؤمن في معركة الحياة، تمده بروح القوة، وتمنحه طاقةً نفسيةً متجددةً تعينه على مواجهة الشدائد؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ، أي اشتد عليه، فزع إلى الصلاة. وعندما يحرص المسلم على أن يتم ركوعها وسجودها وخشوعها، ويستحضر فيها جلال الله تعالى ومعيته له وهو يقول في كل ركعة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فهو يستعين برب العالمين، الذي يجيب دعاء المضطرين، ويكشف حزن المحزونين، وينبغي له أن ينتهز فرصة السجود ليدعوه تعالى بما يحب، ففي الحديث: [أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء].
والصلاة فيها السجود الذي هو راحة قلب المؤمن؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.
وعَنْ حُذَيفَةَ قَالَ: "كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى".
ومساعدة الضعفاء كالفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والمعوقين وأصحاب الحاجات، وإغاثة الملهوفين من أعمال الخير التي تساعد المسلم على الخروج من حالة الاكتئاب، فإلى جانب ما تكسبه من ثوابٍ، فإنها تخرجه من سجن الوحدة الذي فرضه على نفسه.
والنظر فيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجات، إذا أصابته غموم الدنيا وهمومها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ]. فليعلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجة للهمِّ لا يذهب سدى بل هو مفيدٌ في تكثير حسناته وتكفير سيئاته.
ومعرفة حقيقة الدنيا؛ فإذا علم المؤمن أن الدنيا فانيةٌ، ومتاعها قليلٌ، وما فيها من لذةٍ فهي مكدَّرة ولا تصفو لأحد، وإن أضحكت قليلاً أبكت طويلاً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، والمؤمن فيها محبوسٌ كما قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: [الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ]. فإن هذه الدنيا هي دار ابتلاء ودار محنةٍ جعلها الله عز وجل دار عبورٍ إلى الآخرة فيقع فيها الابتلاء للمؤمن؛ قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾، وقال: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾. وقد يكون الابتلاء شديداً على النفس، وقد يجد الإنسان منه ألماً ومشقةً ظاهرةً، وربما شعر بصعوبة الصبر، لكنه بتصبره وتوكله على الله جل وعلا ينال رزق الله من الصبر وينال رزق الله من الفرج أيضاً، فيا للعجب، كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [ومن يتصبر يصبره الله، وما أُعطيَ أحدٌ عطاءً أوسع من الصبر] . وقال صلوات الله وسلامه عليه: [واعلم بأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً] فالفرج قرين الكرب، واليسر يأتي بعد العسر. مع أهمية الرضا وعدم السخط؛ قال صلوات الله وسلامه عليه: [إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط].
وأن يعلم المهموم والمغموم أن بعد العسر يسراً، وأن بعد الضِّيق فرجاً؛ فليُحسن الظنَّ بالله فإنه جاعلٌ له فرجاً ومخرجاً، وكلما استحكم الضِّيق وازدادت الكُربة قرب الفرج والمخرج. وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، فذكر عسراً واحداً ويسرين، لأن العسرَ المقترن بأل في الآية الأولى هو نفس العسر في الآية الثانية، أما اليسر في الآية الثانية فهو يسرٌ آخر غير الذي في الآية الأولى.
والإكثارُ من ذكر الله؛ فإن لذلك تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همِّه وغمِّه، قال الله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
ثم الإكثار من الدعاء؛ بالأدعية النبوية لعلاج الكرب؛ ومنها:
[لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع، ورب الأرض رب العرش الكريم]، و[يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث]، و[اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت].
وعن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا أعلمكِ كلمات تقوليهنَّ عند الكرب، أو في الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئًا].
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: "اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي"، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحاً]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: "لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"، لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قط إلا اُستجيب له].
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجلٍ من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: [يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة؟] فقال: همومٌ لزمتني، وديونٌ يا رسول الله، فقال: [ألا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك؟] قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: [قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"]، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عني ديني.

أحبتي .. من اهتدى بهدي الإسلام فإنه يجد علاج الاكتئاب والهم والحزن والكرب والغم فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلقَ وهو أعلم بما يصلحهم ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾؛ الإسلام أعطانا تعاليم رائعة جداً لإبعاد الاكتئاب عنا ومنحنا السعادة والسرور والحياة المطمئنة.
تعاليم الإسلام رائعة جداً في علاج الاكتئاب، فالمؤمن لا يحزن ولا يعرف اليأس وبالتالي لا يعرف الاكتئاب، المسلم ليس بضعيفٍ لأن إيمانه جعله من أقوى الأقوياء وبزيادة الإيمان يزيد ارتباط العبد بربه، وعندها يجد في قلبه القوة التي يستطيع أن يتغلب بها على كل الصعاب، لذلك إذا شعر العبد بالاكتئاب ليس عليه إلا أن يعود إلى ربه وأن يقوي إيمانه ويراجع حساباته. ويبحث عن كل ما باعد بينه وبين ربه، ويطرق الباب بالدعاء والمناجاة وصلاة الليل والخلوة به سبحانه فسوف يجد في قلبه الراحة التي يبحث عنها بعد الضيق والسعادة بعد الحزن بإذن الله.

وقانا الله وإياكم شر الاكتئاب، وكتب لنا ولكم باتباع هذه ال(وصفة للسعادة) السعادة في الدارين: الدنيا والآخرة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/T5NAkW

الجمعة، 5 يناير 2018

الغنيمة الباردة

الجمعة 5 يناير 2018م

خاطرة الجمعة /١١٦
(الغنيمة الباردة)

لم تغادر ذاكرتي إلى اليوم علامات الدهشة التي أبداها أحد أصدقائي، وكنا نتحدث عن قلة مرتادي المساجد لصلاة الفجر، حين سألني: "كم يستوعب الصف الأول في مسجدكم من المصلين؟"، فسألته: "في الصيف أم في الشتاء؟"، هنا ارتفع حاجباه وسألني: "وهل يوجد للشتاء أو الصيف تأثيرٌ في ذلك؟!"، تجنبت الإجابة بنعم، وفضلت أن أجيبه بسؤالٍ آخر أكثر غرابةً: "ألم تسمع بتأثير الحرارة فيما يُعرف بقانون التمدد والانكماش؟"، أجاب: "بلى سمعت. أتريد أن تقول أن الصف الأول في مسجدكم يتمدد بالحرارة في فصل الصيف وينكمش بالبرودة في فصل الشتاء؟!"، قلت مراوغاً قاصداً المداعبة بالإمعان في الغموض: "اقتربت عزيزي مما أريد أن أقوله!". تعمدت الصمت للحظة كانت كافيةً لأن تتسع حدقتا عينيه انتظاراً لتوضيحٍ مني؛ فاستطردت قائلاً: "الصف الأول بمسجدنا يستوعب في الصيف عشرة مصلين، أما في الشتاء فلا يستوعب إلا تسعة!"، ومع استمرار علامات الدهشة التي لم يكن يستطيع إخفاءها، أكملت: "في الصيف يتخفف الناس من ملابسهم لحرارة الجو، لكنهم في الشتاء يلبسون أثقل ما يمتلكون من ملابس طبقةً فوق طبقةٍ؛ فتنتفش ملابسهم وتزداد أحجامُهم فيشغلون حيزاً من المكان أكبر مما يشغلونه في شهور الصيف!".
زال تعجب صديقي واندهاشه بهذا التوضيح، وانتقلنا لمناقشة أسباب قلة عدد من يواظبون على صلاة الجماعة في المساجد بشكلٍ عامٍ، وندرة من يواظب منهم على صلاة الفجر تحديداً، وفي فصل الشتاء على وجه الخصوص؛ ففي شارعنا الصغير، على سبيل المثال، يسكن قرابة ألف مسلمٍ تكتظ بهم المساجد وقت صلاة الجمعة حتى أن بعضَهم يُضطر للصلاة على حُصُرٍ تُفرش خارج هذه المساجد، أما صلاة الفجر مع الجماعة بالمسجد في يومٍ من أيام الشتاء الباردة فلا يكاد عددهم يزيد عن اثني عشر رجلاً، إلا في رمضان أو قبل امتحانات آخر العام!
ومن بين ما قلت لصديقي: "لو يعلم هؤلاء الأحبة كم يُفَوِّتون على أنفسهم من غنيمة الشتاء؛ لأتوْا للمساجد حبواً"، فاستوقفني ليستوضح مني ما أقصد بعبارة غنيمة الشتاء، وكما يحلو لي أن أزيد الأمر غموضاً قبل توضيحه؛ قلت له: "إنها (الغنيمة الباردة) يا عزيزي!"،
فعاد حاجباه للارتفاع من جديد وعادت حدقتا عينيه للاتساع مترقباً أن أوضح له معنى ما أقول!

أحبتي في الله .. مع اشتداد برودة الجو في أشهر الشتاء نتذكر دائماً مقولاتٍ مشهورةً عن ربيع المؤمن وعن غنيمة الشتاء وعن (الغنيمة الباردة) فلنلقِ نظرةً سريعةً عما قال أهل العلم في هذا الموضوع؛ قالوا جزاهم الله خيراً:

الدهور والأعوام والليالي والأيام، سنن الله تتعاقب في هذه الدنيا، وبتعاقبها وسيرها تتعاقب الفصول على الناس، فهذا فصلٌ للصيف وذا للشتاء وذاك للخريف وذا للربيع، والمؤمن يقف مع هذه النعمة يتدبرها حق التدبر ويشكر الله لأجلها، قولاً وعملاً. فإنَّ تقلُّبَ الأحوال الكونية مِن صيفٍ وشتاءٍ، وليلٍ ونهارٍ، وجفافٍ وأمطارٍ، وسكونٍ ورياحٍ، يُعزِّز إيمانَ المؤمن بأنَّ الله سبحانه وتعالى خالِقُ الكون ومدِّبره؛ فيتذكر قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾، كما يتذكر قوله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
إن مصالح العباد وحياتهم لا تنصلح إلا بهذا التعاقب، فالله حكيمٌ عليمٌ، لم يوجِد شيئاً عبثاً ولم يخلق شيئاً بغير حكمةٍ؛ فَتَقَلُّبُ الزمان وتَصَرُّفُ الأحوال من حرٍ إلى قَرٍ، ومن صيفٍ إلى شتاءٍ، إنما هو بحكمته وتصريفه، فهو سبحانه أعلم بما يُصلِح عباده، حتى لو كرهنا حرارة الصيف أو برودة الجو في الشتاء؛ يقول عز وجل: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾.
إن فصول السنة تُذَكِّر بالآخرة؛ فشدة حر الصيف يذكر بِحَرِّ جهنم، وهو من سمومها، وشدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم، وهو من نَفَسِها. وإن المؤمن ليتميز عن غيره بجميل صبره عند الضراء، وبحسن شكره عند السراء، وإن ما نجدُه ونُحِسُّه من شدة البرودة في الشتاء إنما هو نفسٌ من الزمهرير، كما جاء في الحديث؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [اشتكَتِ النارُ إلى ربها فقالت: يا ربِّ، أَكَل بَعضِي بعضاً، فأَذِنَ لها بنَفَسيْن: نفَس بالشتاء، ونفَس في الصيف، فهو أشدُّ ما تَجِدون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون مِن الزمهرير - وهو شِدَّة البَرْد]؛ فإذا ما وَجَد المرءُ لَسْعَة البرد تذكَّر زمهريرَ جهنَّم، فاستعاذ منها، وسأل الله تعالى برْدَ الجنَّة ونعيمَها؛ ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾. ما أوقع ذلك في نفوس المتقين! وما أشد تأثيره على قلوب المخبتين! حين يتذكرون الزمهرير؛ فيزيدهم ذلك إيماناً وتوبةً وإقبالاً على رب العالمين. وهكذا حال المؤمنين الصادقين؛ كل ما حولهم يذكرهم فيتذكرون، وبدقيق صنعة الله يتفكرون، ثم لربهم يشكرون، ولذنوبهم يستغفرون، وعلى تقصيرهم يحزنون.

والشِّتاءُ ربيعُ المؤمِن يستغلُّ حلولَه فيما يُقرِّبه إلى الله تعالى؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [الشِّتاء ربيعُ المؤمِن؛ طال ليلُه فقامَه، وقصُر نهارُه فصامَه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء].
وكأن عمر بن الخطاب يشرح حديث النبي عليه الصلاة والسلام حين قال رضي الله عنه: "الشتاء غنيمة العابدين". أما الحسن البصري فيمدح الشتاء بقوله: "ونِعمَ زمان المؤمن الشتاء؛ ليله طويلٌ يقومه، ونهاره قصيرٌ يصومه". وكذا فعل ابن مسعود حين قال: "مرحباً بالشِّتاء؛ تتنزَّل فيه البَرَكة، ويطول فيه الليلُ للقيام، ويقصُر فيه النهار للصِّيام".

والشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزِّه قلبَه في رياض الأعمال الميسَّرة فيه، يَصلح دينُ المؤمن في الشتاء؛ بما يسَّر الله فيه منَ الطاعات؛ فإن المؤمن يَقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقَّةٍ ولا كلفةٍ تحصل له من جوعٍ ولا عطشٍ؛ فإن نهاره قصيرٌ باردٌ، فلا يحس فيه بمشقَّة الصيام.
يقول ابن رجب في معنى (الغنيمة الباردة): "أنها غنيمةٌ تحصل بغير قتالٍ ولا تعبٍ ولا مشقةٍ، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفواً صفواً بغير كلفةٍ، وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم". وقال السندي: "(الغنيمة الباردة) هي الحاصلة بلا تحمل كلفة المحاربة، وصوم الشتاء له أجرٌ بلا تحمل مشقة الجوع؛ لقصر الأيام، والعطش؛ لبرودتها، فيه ترغيبٌ للناس في صوم الشتاء". وقال المناوي: "الصوم في الشتاء (الغنيمة الباردة) أي: الغنيمة التي تحصل بغير مشقةٍ". وعن عبيد بن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء قال: "يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم، فاقرؤوا، وقَصُر النهار لصيامكم، فصُومُوا" .
قال الله تعالى: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وممَّا يَعتني به المسلِمُ في الشتاء إسباغُ الوضوء وإتمامه، فلا يُعجله الشعورُ بالبرد عن إكمالِ الوضوء لأعضائه وإتمامِها، بل إنَّ ذلك الإتمامَ والإسباغ وقتَ المكارِه هو ممَّا يُكفِّر الله به الخطايا، والمكاره تكون بشدَّة البرْد أو الحرِّ أو الألَم، فيحتسب المسلِمُ تلك الشدَّةَ وهو يتوضَّأ بأنَّها مِن مُكفِّرات الخطايا، ورافعات الدَّرَجات؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [ألاَ أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرْفَع به الدرجاتِ؟] قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: [إسْباغُ الوضوءِ على المكارِه، وكَثْرة الخُطَى إلى المساجِد، وانتظار الصلاة بعدَ الصلاة، فذَلِكُم الرِّباط].
والشتاءُ هو ربيعَ المؤمِن؛ ففيه كثيرٌ من الأعمال الميسَّرة: فإذا ما نزَل الغيثُ والأمطار أقَرَّ المؤمن بفضْلِ الله ونعمته، ودعَا بما سَنَّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام: [مُطِرْنا بفضْل الله ورحمتِه]، وتحرَّى الدعاءَ حين نُزُول المطر، فهو مِن الأوقات الفاضلة؛ فعنِ النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: [ثِنتان ما تُرَدَّان: الدعاء عند النِّداء وتحتَ المطَر].
وممَّا سَنَّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام من الأدعية والأذكار، ما يَكثُر احتياجُه في الشتاء خاصَّةً، كالدُّعاء عند هُبوبِ الرِّياح؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [الرِّيح مِن رَوْح الله، تأتي بالرَّحْمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها، واسألوا الله خيرَها، واستعيذوا بالله من شرِّها]. كما سَنَّ عليه الصلاة والسلام الدعاءَ عندَ سماعِ الرَّعد بقوله: [سُبْحانَ الذي يُسبِّح الرعدُ بحمدِه والملائكةُ مِن خِيفته]. وسَنَّ عليه الصلاة والسلام الاستسقاءَ، وهو طلبُ السُّقيا والمطَر مِن الله سبحانه وتعالى بصلاة الاستسقاءِ، أو بالدعاء المجرَّد، أو بالدعاء على مِنبرِ صلاة الجُمُعة.
كما أن من أعمال الخير التي تزداد أهميتها في فصل الشتاء الاهتمام بالفقراء؛ فلا شك أن إيثارهم بما يدفع عنهم غائلة البرد خلال ذلك الفصل له فضلٌ عظيمٌ، وأجرٌ كبيرٌ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ فَرَّجَ عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ]، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرَى مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَجْوَعَ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَظْمَأَ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَنْصَبَ مَا كَانُوا قَطُّ، فَمَنْ كَسَا لِلَّهِ كَسَاهُ اللهُ، وَمَنْ أَطْعَمَ لِلَّهِ أَطْعَمَهُ اللهُ، وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ سَقَاهُ اللهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ أَغْنَاهُ اللهُ، وَمَنْ عَفَا لِلَّهِ أَعْفَاهُ اللهُ].
فَهَمُّ المساكين والفقراء في الشتاءِ يقضُّ مضاجعَنا، حين نتذكرُ مبيَتهم في العراءِ بلا مأوى يسترُهم، أو لباسٍ يُدفئُهم، أو طعامٍ يسدُّ جَوعتَهُم، فنحمدُ الله الذي أنعمَ علينا بمأوىً آمنٍ، وفراشٍ دافئٍ، وطعامٍ زكيٍّ، فنسارعُ لنتصدّقَ عليهم، ونقومُ بذلك لأننا قرأنا قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾؛ فما أعظمه من ثواب!
جميلٌ هو الشتاء، على الرغمَ من تقلُبنا فيهِ، ما بين صحةٍ ومرضٍ، وبين عافيةٍ وحُمّى وزُكامٍ و بردٍ، إلا أننا نوقِن أنّ المؤمنَ يؤجرُ على الشوكةِ يُشاكُها فيهونُ علينا ألمُ المرضُ وإنْ كان ثقيلاً. شتاؤنا يعيشُه المؤمنون كروح ٍ واحدةٍ، إنْ مرِضَ أحدنُا دعا له الآخر، وإنْ ضجِرتْ نفسٌ ذكّرتها نفوسٌ أخرى بأجرِ الاحتساب: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، فمرضُ المؤمن هو تكفيرٌ لذنوبه ورفعةٌ لدرجاته. وحينَ مرضتْ أمُ السائب؛ سألها النبيُ صلى الله عليه وسلم: [ما لكِ يا أمَّ السائب؟] فقالتْ: الْحُمَّى، لا بارك الله فيها، فقال لها عليه الصلاة والسلام: [لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ].

وفي فصلِ الشِّتاء تشتدُّ الحاجة إلى بعضِ الرُّخَص التي شرَعَها الإسلام بسماحته ويُسْره؛ ففي الشتاء، وكذا في الصيف، يُرخَّص للمسلم أنْ يمسحَ على الجواربِ؛ درءاً للمشقَّة.
كما يُرخَّص للمسلمين في الجمْعِ بين الصلوات وقتَ اشتداد المطر، وحدوثِ البَلل أو الوحل، أو عند هبوب الرياح المؤذية، ونزول الثلوج أو البَرْد، وإنْ حدثتْ مشقَّةٌ في الاجتماع للصلاة، جازَ للمرء أنْ يُصلِّي في بيته؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام يُنادي منادِيه في الليلةِ الباردة أو المَطيرة: "صَلُّوا في رِحالِكم". لكن لا ينبغي التساهل في ذلك والأمر ميسَّرٌ في زماننا؛ فالطُّرُق معبَّدَةٌ، والسيَّارات متوفِّرةٌ، والمساجد قريبةٌ، ولكن هذا مِن يُسْر الإسلام وسماحتِه، والرُّخْصةُ سَعَةٌ وتسهيلٌ متى ما تحقَّقتْ شروطُها.

وهذا رجلٌ صالحٌ كتب عن (الغنيمة الباردة) يقول: "دخلَ الشتاءُ، وعادتْ لياليهُ الطِوال. عادتْ ليالي الأُنس ِبمناجاةِ الربّ، ففي أيامٍ خلتْ كانت وجوهُ الصحابة رضوانُ اللهِ عليهم تتهللُ فرحاً بمقدمِ الشتاء؛ فلطالما انتظرَهُ المُشمِّرون، واشتاقَ إليهِ المشتاقون، فإذا خلد البشرُ إلى منامِهم، وسكنَتْ الأرواحُ من حولِهم، قاموا مُنسلِّينَ خفية، مودّعينَ فُرَشَهَم الدافئة الوثيرة إلى حيث الماء الباردِ، ليُسبغوه على أبدانِهم متطهرين، يرجون به نوراً يستضيؤون به يومَ القيامة، ويتميّزون به عن المنافقين، وما خففَ عنهم ألم الماء البارد إلا ما استيقنوه مِن بشارةِ نبيهم صلى الله عليه وسلم بأن إسباغَ الوضوءِ على المكارهِ هو مِن كفاراتِ ذنوبِهم. ثم يمضون إلى مصلياتهم، فيقفون طويلاً بين يدي ربِّهم مناجين مخبتين، بعدما علِموا أنّ مَن أطال الوقوف في الليل مناجياً الله سبحانه وتعالى؛ هوّنَ الله عليه طولَ الوقوفِ يومَ القيامة. حينها تبدأُ تراتيل السحر، وتتنزل ملائكةٌ تستمعُ التلاوات، وتصعدُ صلواتٌ وكلماتٌ طيباتٌ، وتُسْكَبُ دموعٌ وعَبَراتٌ، وتنطرحُ بين يدي ربِّنا الأمنيات، والربُّ عزّ وجلّ يتنزلُ ويسمعُ تلك المناجاة، وهو سبحانه ينادي في تلك الساعاتِ الأخيرةِ من الليل ويقولُ: {من يَدعوني فأستَجيبَ لَهُ؟ مَن يسألُني فأُعْطيَهُ؟ مَن يَستَغفرُني فأغفِرَ لَهُ}. أيُّ لحظاتِ قُرْبٍ! أيُّ لحظاتِ نقاءٍ وطُهرٍ! أيُّ سكينةٍ وراحةِ قلبٍ! تمضي الأوقاتُ خفيفةً لذيذةً على من قام الليل، يجلسُ في مصلاهُ في بيته حتى قبيل الفجر؛ فيتسحر ناوياً صيام يومه، ثم يخرج في البرد والمطر ليصلي الفجر مع جماعة المسلمين في المسجد".

أحبتي .. هذا هو نهارُ الشتاءِ القصير، وهذهِ هي لياليهِ الطِوال، فالشتاء هو (الغنيمة الباردة)؛ فللِه ما أسهلَ صيام أيامه، وللهِ ما ألذَّ قيامَ لياليه.
ولابد لِمن لم يعتدْ على ذلك أن يتحلّى بـالصبرِ والمجاهدةِ، وقهرِ شيطانِهِ الذي ما اعتادَ أن يقهرَه، فقد وعدَنا الله سبحانهُ وتعالى على مجاهدةِ أنفسِنا أجراً عظيماً فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، فكمْ فوّت علينا الشيطانُ مِن طاعةٍ حين خيّلَ إلينا أنها ثقيلة. وكم فوَّت علينا مِن غنائم، حينَ أغرانا في ليلِ الشتاء بملءِ بطونِنا بالطعام، وأشغلَ فكرَنا بالدنيا حتى خلدْنا إلى النوم ثم ثقُلَ علينا قيامُ الليل للعبادة وللسحور بعد ذلك!"
سُئل أحد السلف ما بالنا لا نقوم الليل؟ قال: "كبلتكم معاصيكم". إننا لم نُحرم صلاة الليل إلا بذنوبنا وإسرافنا على أنفسنا، ذلك الثلث الأخير الذي تتنزل فيه الرحمات، وتُقسم فيه الهبات من لدن رب الأرض والسموات باسطاً يده سخاءً، يغفر ذنوب المذنبين، ويكشف الضر عن الملهوفين، وينفس كرب المكروبين، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه. كرمٌ وتفضلٌ منه نحن عنه معروضون، وبلذيذ المنام نحن مشتغلون. لو دُعي أحدنا في كل ليلةٍ في الثلث الأخير ليُعطىَ مالاً لما تأخر أبداً، فما بالنا نتخلف عن أمرٍ هو خيرٌ من الدنيا وما فيها؟ أخشى أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . والآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، أو ممن قال الشاعر لهم:
قُم الليلَ يا هذا لعلك ترشدُ
إلى كم تنامُ الليلَ والعمرُ يَنفدُ
أراك بطولِ الليلِ ويحَكَ نائماً
وغيرُك في محرابِه يتهجدُ
ولو عَلِمَ البَطَّالُ ما نالَ زاهدٌ
من الأجرِ والإحسانِ ما كان يَرقدُ
أترقدُ يا مغرورُ والنارُ تُوقدُ؟
فلا حرُها يُطفأُ ولا الجمرُ يُخمدُ
فيا راكبَ العِصيانِ ويحكَ خَلِها
ستُحشرُ عطشانَ ووجهُك أسودُ
فكمْ بَيْن مشغولٍ بطاعةِ ربِهِ
وآخرُ بالذنبِّ الثقيلِ مُقْيَّدُ
فهذا سعيدٌ في الجِنانِ مُنَعَّمٌ
وهذا شقيٌ في الجحيمِ مُخَلَّدُ
أحبتي .. قيام الليل وصيام النهار في فصل الشتاء نعمتان فَرَّط فيهما كثيرٌ منّا، رغم كونهما يسيرتين. فليحاسب كل واحدٍ منا نفسه كم ليلةً قامها وكم يوماً صامه؟ ألا ما أعظم تقصيرنا! وسلفُ هذه الأمةِ كانوا من المتقين ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، فقوي إيمانهم وصدَّقه يقينهم، فاجتهدوا وقاموا، قدوتهم في ذلك الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه. لا شك في أن قيام ليل الشتاءِ شاقٌّ على بعض النفوس حين تألُّمُ لتركها الفراشِ الوثيرِ في شدةِ البرد، وحين تسكب الماء شديد البرودة في آخرِ الليل على الأطرافِ الدافئة للوضوء، لكن اليقين بأنَ الأجرَ يعظُمُ مع المشقة يجعل لترك الفراش وصبِّ الماء الباردِ على الأطرافِ لذةً لا تضاهيها لذةٌ أخرى؛ فيهونُ كلُّ ألم ٍ وتعبٍ، وتزول كل مشقةٍ، ويحل الرضى وتسكن النفس.
فالحمدُ للهِ على أجورٍ ليست إلا لمؤمنٍ، والحمدُ لله على ثوابٍ عظيمٍ يُقابلُ عملاً يسيراً، والحمدُ لله على الشتاءِ الذي يُسهّلُ لنا عبادةَ قيامَ الليل وصوم النهار، وأعمال خيرٍ كثيرةٍ. في الشتاءِ غنائمُ وأجورٌ لِمن جدّ وسعى إليها وأقبل عليها؛ فلنعزمْ النيةَ مِن لحظتِنا هذه سعياً إلى إسباغِ الوضوء، وقيام الليل، وصوم النهار، والتصدق على الفقراء والمساكين، وفعل الخيرات، وإتمام العبادات، فإنّ أحدَنا لا يدري متى ستنتهي فرصته في جمع ِ الأجور ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾؛ فلنتسابقْ في قيام الليل وفي صيام النهار لنكون من المقربين فَهُم ﴿السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾، ولنتنافسْ فيما بيننا ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾، لنكون من الفائزين بهذه (الغنيمة الباردة).
اللهم اجعلنا ممن وصفهم الشاعر بقوله:
يمشون نحو بيوتِ اللهِ إذ سمعوا الله أكبر
في شوقٍ وفي جَذلْ
أرواحُهم خشعت للهِ في أدبٍ
قلوبُهم من جلالِ اللهِ في وَجلْ
نجواهم: ربنا جئناك طائعةً نفوسُنا
وعَصَيْنا خادعَ الأملْ
إذا سجى الليلُ قاموه
وأعينُهم من خشيةِ اللهِ مثلُ الجائدِ الهَطلْ
هُم الرجالُ فلا يُلهيهم لَعبٌ عن الصلاةِ
ولا أكذوبةُ الكسلْ

طابت أيام وليالي شتائنا عامرةً بقيام الليل وصوم النهار والعبادات وذكر الله وفعل الخيرات.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/xfTzPx