الجمعة، 29 نوفمبر 2019

إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض


الجمعة 29 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٥
(إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض)

تحت عنوان "حين داهمني الموت، ما الذي حدث؟" كتبتْ تقول: في يومٍ من الأيام، وأنا على سجادة الصلاة، والكسل يغلبني وضعتُ رأسي بوضعية السجود مُلقيةً بثقلي على الأرض، بقيتُ على ذلك وقتًا ليس بالقصير. هممتُ بالوقوف للصلاة مستعيذةً بالله من الكسل، فلما وقفتُ ودخلتُ في الصلاة، فجأةً، أظلمت الدنيا في عينيّ فأصبحتُ لا أرى إلا سوادًا قاتمًا مُخيفًا، وتملكني إحساسٌ بأن الدماء تتدفق إلى رأسي ساخنةً وهي تفور، وأني أكاد أسقط على الأرض من ثقل رأسي. أيقنتُ لحظتها أنه الموت لا مناص منه، فطار قلبي رُعبًا وخوفًا من تلك النهاية. لم أتذكر من القرآن الكريم كله إلا قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، ولكأن لساني يصرخ بها لكني لا أستطيع الصراخ، ولا أقوى على إخراج أي صوت. بدأتْ الآن إذن سكرات الموت. وجدتني أكلم نفسي وأقول: "يا ربِ كنتُ في صلاةٍ، لكن لم أخشع فيها، ليتني علمتُ أنها آخر صلاةٍ لكنتُ خشعتُ خشوعًا لم أخشعه في حياتي من قبل؛ كيف لا وهي صلاة مودع!". ثم تذكرتُ أعمالاً صالحةً كنتُ أنوي عملها لكني كنت دائماً أؤجلها لأعذارٍ واهيةٍ؛ فأردتُ أن أصرخ قائلةً: "ربِ أنظرني لأفعل كذا وكذا؛ فأنا لم أتوقع أن الموت سيفاجئني وأنا أصلي، ولم أستعد بأي شيءٍ فقد كنتُ أؤجل، وطول الأمل يَغُرُّني ويُغْريني، أنا في صلاةٍ الآن، لكني يا ربِ لم أفرح لأن الموت أتاني الآن وأنا أصلي، رغم أني كنتُ أتمنى هذه الميتة وأدعوك أن تحققها لي، لكن لما أتى الجد علمتُ أني كنتُ أُمَنّي نفسي بالعمل الصالح ولا أعمله. وصلاتي هذه أستحي منك ربي أن تقبضني عليها، فإني بلغتُ من التقصير في حقك يا رب مبلغًا، أنت سبحانك أعلم به مني، فاعفُ عني يا الله!". حانت ساعة الفراق، ما الذي سينفعني الآن؟ أحسستُ وقتها أني غادرتُ الحياة الدنيا وانتقلتُ إلى حياة البرزخ. كل الأماني رحلت حين وافتني المنية، ولم يبقَ سوى ما أخلصتُ فيه النية. الآن يُعرف المؤمن الحق من المنافق، ويرى كل عبدٍ مقعده من الجنة أو النار. قلتُ لنفسي معاتبةً: "كنتِ يا نفسي تظنين أنكِ من عباد الله الأخيار الصالحين، ولعب الشيطان بفكرك حتى صوّرك بأبهى وأطهر صورة. الآن ذهب كل شيءٍ، ولم يبقَ إلا العمل الصالح والخوف من الله. فماذا استفدتِ يا نفسُ الآن؟! صندوق عملك يكاد يطير خفّةً فلا شيء يُثقله! الآن لحظة نزع روحك، لقد انتهى وقت الاختبار". كل هذه الأفكار دارت في ذهني للحظاتٍ، ثم زالت بعدها الظلمة من عينيّ، وبدأتُ أرى شيئًا فشيئًا، زالت العتمة؛ لكأن الله سبحانه وتعالى يقول لي: "سنمهلك لنرى ماذا ستعملين!".

أحبتي في الله .. قرأتُ هذه القصة على أحد مواقع الإنترنت فاقشعر بدني. وضعتُ نفسي - للحظاتٍ - مكان كاتبة القصة؛ فعلمتُ كم أنا مقصر، وعلمتُ أن (إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض) ونعمةٌ عظيمةٌ لا يشعر بقيمتها إلا المقصرون من أمثالي.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾، وفي كلتا الآيتين يكون الإمهال للكافرين والمكذبين.

ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ"]، والإمهال هنا للظالمين.
يقول تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾؛ كأن الله سبحانه وتعالى يقول: عمرناكم في الأرض عمراً مديداً، وأمهلناكم زمناً طويلاً، فماذا فعلتم فيه؟
يقول المفسرون في معنى هذه الآية: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر، من ذوي الألباب والعقول، واتعظ منهم من اتعظ، وتاب من تاب، وجاءكم من الله منذرٌ ينذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب الله، فلم تتذكروا مواعظ الله، ولم تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من عند ربكم.

يقول أهل العلم إن الله يُنعم على الناس بكثيرٍ من النعم، لكن الإنعام ليس دليلَ محبَّة الله سبحانه وتعالى؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لَم يَحجب الرزق عن الكفَّار لكفرهم، أو الفجار لفجورهم، فإنَّه يعطي الدنيا مَن يحبُّ ومَن لا يحبُّ، ولا يعطي الدِّين إلاَّ لِمَن أحبَّ، فمَن أعطاه الله الدين فقد أحبَّه؛ فالمؤمن يُجازى بالذنوب، والكافر والمنافق والفاسق يُستدرَج بالنِّعم؛ يقول تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، فيسبغ الله عليهم النِّعمَ، وينسيهم الشُّكرَ، وكم من مُستدرَجٍ بالإحسان إليه، وكم من مَفتونٍ بالثناء عليه، وكم من مَغرورٍ بالستر عليه؛ يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ]، ثم تلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾. إنه عطاءُ إمهالٍ وإملاءٍ واستدراجٍ، لا عطاءَ محبَّةٍ كما يظنُّ البعض؛ قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ  . أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. هكذا موقف الفُسَّاق والكفَّار، عطاءٌ وإمهالٌ واستدراجٌ؛ كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إنَّ الله ليُملي للظالِم، حتى إذا أخَذه لَم يُفْلته]، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. يظن البعض أنَّ ما يُعايشه من سلامٍ وأمانٍ، مع كثرة ذنوبه وإصراره على الضلال، حبًّا وقَبولاً من الله، والحقُّ أنه إملاءٌ وإمهالٌ؛ يقول الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِير﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.



السؤال: هل الإمهال هو للكافرين والمكذبين والظالمين فقط؟ فإذا لم نكن من هؤلاء، وكنا مقصرين ندعو الله أن يعطينا فرصةً للتوبة، أو مؤمنين نسأله سبحانه أن يُسهل لنا أداء المزيد من العبادات والمزيد من أعمال الخير والبر، فهل في إمهال الله لنا فرصةٌ لتحقيق ذلك؟
يرى جمهور العلماء أنه من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الإملاء يمتد ليشمل جميع خلقه: فهو فرصةٌ لإسلام غير المسلمين، وهو فرصةٌ لتوبة المسلمين المقصرين الغافلين المُسَوِّفين، كما أنه فرصةٌ للمؤمنين الأتقياء الصالحين للاستزادة من أعمال الخير والبر. إنه منحةٌ إذن لكل البشر؛ وصدق من قال إن (إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض).

يقول أهل العلم إن عمر الإنسان في هذه الحياة هو فرصةٌ له لمزيدٍ من العمل الصالح، فإذا استغل ما بقي له من أنفاسٍ وساعاتٍ وأيامٍ وشهور وسنين فيما يقربه إلى الله ازداد رصيده؛ فالزمن يمضي وينقضي، وهو رأس مال الإنسان في هذه الحياة الفانية، فالسعيد من اغتنمه في الطاعات، وشغله في إرضاء رب الأرض والسموات، والشقي من ضيَّعه في المنكرات، وأهدره في المعاصي والمحرمات. وعندما سُئل رَسُولُ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: [مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ]، وفي الحديثِ حثٌّ على التَّزوُّدِ مِن الطَّاعاتِ كلَّما زاد العُمرُ، وفيه أنَّ الزِّيادةَ في عُمرِ المُحسِنِ علامةُ خيرٍ، والزِّيادةَ في عُمرِ المسيءِ علامةُ شرٍّ؛ فعلى ذلك ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائماً أن يجعله ممن طال عمره في طاعةٍ، من أجل أن يكون من خير الناس.

وأتفكر في أحوالنا، وفي إمهال الله عزَّ وجلَّ لنا: يُمهلنا بأن يعطينا مع كل يومٍ جديدٍ ساعاتٍ إضافيةً عسى أن يتوب المسيء منا، وعسى أن يستثمرها المؤمن في مزيدٍ من العبادة وأعمال الخير والبر. يُمهلنا مع كل رزقٍ جديدٍ ليرى هل نكون من الشاكرين فيزيدنا من فضله؟ أم من الغافلين عن شكره فنستحق الحرمان أو التقتير أو إمساك الرزق؟ ثم ليعلم سبحانه ماذا نحن فاعلون برزقه، أننفقه في حلالٍ أم في حرام؟ أنخرج زكاته؟ أنتصدق ببعضه على لفقراء والمساكين؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بصحةٍ وعافيةٍ لم يُنعم بمثلها على غيرنا، فينظر أنستخدمها في الخير أم الشر؟ أنستعملها فيما يُرضيه أم فيما يُغضبه ويُسخطه؟ يُمهلنا مع كل مصيبةٍ من مصائب الدنيا لينظر أنصبر فننال ثواب الصابرين؟ أم نجزع ونسخط فنكون من الخاسرين؟ يُمهلنا بأن يُعطينا جاهاً ونفوذاً فينظر أنتكبر ونتعالى على خلقه؟ أم نكون من المتواضعين؟ يُمهلنا بأن يُعطينا سيادةً وقيادةً فينظر هل منعنا الظلم؟ هل أقمنا العدل؟ هل مكَّنا لتطبيق شرعه الحنيف الذي ارتضى لنا؟ هل نصرنا المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بنعمة العلم فينظر أنتباهى به؟ أيكون سبباً في كِبرنا وغرورنا؟ أنخفيه عن الناس؟ أنتاجر به من أجل دنيا فانية، أم نجعله في خدمة البشر؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بنعمة العقل فينظر هل نسخره فيما ينفع أم فيما يضر؟ يُمهلنا بأن يُنعم علينا بمواهب خاصةٍ قلّ أن يتمتع بها غيرنا فينظر كيف نستخدمها؛ هل في شيءٍ مفيدٍ أم في أمور ليس من ورائها إلا ضياع الوقت والجهد والمال؟
هكذا تتوالى نعم الله علينا، وفي كلٍ منها إمهالٌ واختبارٌ وابتلاءٌ، فهل نحن على بصيرةٍ من ذلك أم في غفلةٍ لاهون؟ إن (إمهال الله لعباده فرصةٌ لا تُعوض).

أحبتي .. أنصح نفسي وإياكم بما نصح به أحد العارفين حين قال: إن كنتَ ممن وُّفقتَ للخيرات، فاشكر الله على الفضل الكبير، واحمده على الخير الكثير، وسله سبحانه الإخلاص والثبات حتى الممات، وإن كنتَ من أهل التقصير والتفريط، وضاع وقتك فيما لا ينفع، فبادر بالتوبة قبل فوات الأوان، فأبوابها ولله الحمد مفتوحةٌ للتائبين، واغتنم ما بقي من حياتك في طاعة ربك وإرضاء خالقك، واعلم أن الذين أضاعوا أعمارهم في غير طاعةٍ باءوا بالخسران المبين؛ يقول تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ . وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾.
اللهم اجعلنا من الذين يعقلون، الذين يعلمون أن الدار الآخرة خيرٌ؛ فيعملون لها. اللهم لا تُمهلنا إلا لنفيق من غفلتنا، ونتدارك تقصيرنا، ونثوب إلى رشدنا، ونتوب توبةً نصوحاً، ونقلع عن سوء أفعالنا، لنقلل من أوزارنا، ونكثر من حسناتنا، ونزيد من خيرات أعمالنا وأقوالنا، حتى إذا جاءتنا الساعة بغتةً، وهي آتيةٌ لا ريبَ فيها، لا نكون من الخاسرين.

http://bit.ly/2rBGy4h



الجمعة، 22 نوفمبر 2019

التكافل في الإسلام


الجمعة 22 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٤
(التكافل في الإسلام)

قاضٍ قَلَّ أن يجود الزمان بمثله، عُرضت عليه في إحدى الجلسات قضيةٌ اهتزت لإنسانيتها جنبات المحكمة حين نُودي على اسم المتهمة - وكان لا يضع النساء داخل القفص - وكانت تُحاكم بجريمة تبديدٍ لمبلغٍ في إيصال أمانةٍ، دخلت المتهمة على المنصة، وكانت محبوسةً ولم يُفرج عنها لعدم سداد الكفالة، كانت في أواخر الأربعينيات من عمرها، واللافت للنظر فقر حالها. سألها القاضي: "لماذا لم تدفعي مبلغ  ٧٠٠٠ جنيه للسيد فلان؟"، بصوتٍ خائفٍ ومرتعشٍ أقرب للبكاء أجابته المسكينة: "المبلغ ليس٧٠٠٠ جنيه وإنما في حقيقة الأمر هو ١٠٠٠ جنيه فقط كنتُ قد استدنتهم نظير شراء بضاعةٍ من الحاج "فلان" التاجر والد الأستاذة المحامية الحاضرة في الجلسة، وكنتُ أعطيه ٦٠ جنيهاً كل شهرٍ، لكن حصلت لي ظروفٌ منعتني من السداد، ولم يُمهلني الحاج، ورفع عليّ هذه القضية بموجب إيصال  الأمانة الذي كان قد كتبه عليّ ب ٧٠٠٠ جنيه"، التفت القاضي إلى المحامية وسألها بأدبٍ وهدوءٍ عن صحة ما قالته السيدة المتهمة؛ فأنكرت المحامية معرفتها بالحقيقة. نظر القاضي إلى المتهمة وسألها عن حالها؛ فعلم أنها أرملةٌ تعمل لتربية بناتها الثلاث، فقال لها: "خيرٌ إن شاء الله"، ورفع الجلسة. وقبل أن يدخل غرفة المداولة وجَّه كلامه للمحامين الموجودين وقال لهم: "أعلم أنكم أصحاب فضلٍ ومروءةٍ، ولن تتأخروا عن فعل المعروف"، وأخرج منديلاً كان في جيبه وضعه على المنصة ثم أخرج من جيبه مبلغاً من المال وضعه في المنديل وقال: "هذه ٥٠٠ جنيه، هي كل ما معي الآن، ولا أدري مَن مِن السادة المحامين سيشاركني في سداد دين هذه السيدة؟". أعطى المنديل للحاجب فتوجه به إلى المحامين الذين تسابقوا في عمل الخير؛ دفع أولهم ١٠٠٠ جنيه، ثم توالى الباقون حتى تجمع في المنديل ما تجاوز ٨٠٠٠ جنيه. كانت المحامية ابنة صاحب الدين قد خرجت مسرعةً إلى خارج المحكمة واتصلت بوالدها وأخبرته بما تم، ثم عادت إلى القاعة ونُودي عليها حين دخلت المتهمة غرفة المداولة، وكان القاضي جالساً خلف مكتبه فأشار للمحامية قائلاً: "هذه ٧٠٠٠ جنيه موجودةٌ بالمنديل؛ تستطيعين أخذها وتتصالحين مع المتهمة ونفرج عنها"، قالت المحامية إن أباها أخبرها بألا تأخذ أكثر من ٥٠٠ جنيه قيمة الباقي من القرض. شكرها القاضي وابتسم ناظراً إلى المحامين الذين امتلأت بهم غرفة المداولة وقال: "أظن أنها أخذتال٥٠٠ جنيه الخاصة بي"؛ ضحك الجميع، فقاطعهم قائلاً: "وأظنكم لا تريدون أن يحرمكم الله ثواب المشاركة" فعلا صوت المحامين في الغرفة بالتأييد؛ فنظر إلى المتهمة ومد يده بالمنديل وباقي ال ٨٠٠٠جنيه وقال: "وهذه من الله لك ولبناتك"، فضجت غرفة المداولة بالتهليل والتكبير الذي سرى إلى القاعة وهتف كل من فيها. هرول كل الحاضرين في المحكمة إلى تلك القاعة يتساءلون: "ماذا حدث؟"، فيعلموا بأن ما حدث كان وجود قاضٍ رحيم.

أحبتي في الله .. هذا موقفٌ من مواقف (التكافل في الإسلام) التي غَلَّب فيها القاضي الإنسانية على القانون فكان العدل، وظهرت سماحة الإسلام في أبهى صورها من محبةٍ وتفاهمٍ وتعاونٍ وودٍ ورأفةٍ ورحمةٍ وتسامحٍ وصفحٍ وعفوٍ وإحسان، وهي جميعها قيمٌ إيجابيةٌ عظيمةٌ تقوي روابط الإخوة بين المؤمنين؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
و(التكافل في الإسلام) قوامه العطاء وأساسه البر والتقوى؛ يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾. والزكاة والصدقات وجهٌ من وجوه التقوى؛ يقول سبحانه: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾، ويبين لنا المولى عزَّوجلَّ أن ما نتصدق به ليس منةً منا وإنما هو حقٌ للفقراء والمساكين؛ فيقول: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْـمَحْرُومِ﴾، ويعلمنا أن الصدقات تطهر المال وتزكيه؛ فيقول تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾، ويقرر أن الزكاة فريضةٌ واجبةٌ، ويحدد مستحقيها ومستحقي الصدقات بقوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْـمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْـمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ﴾.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْـمُؤْمِنُ لِلْـمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [... مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]، كما قال صلى الله عليه وسلم: [مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [عَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ صَدَقَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ]، وقَالَ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ]، كما قال عليه الصلاة والسلام :[إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْـمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ الَّذِي يَسَعُ فُقَرَاءَهُمْ ...]، ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الْـمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْـجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْـجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْـحُمَّى].
وفي هذ المعنى يقول الشاعر:
ديـنُ التـكافـلِ والمحبــةِ دِينـُـه
لا ســــُـوقـَـةَ فـِيـــه ولا أُمَــــراءُ
فالمُسلمونَ جَميعُهم جَسدٌ إذا
عُضـوٌ شَكا سـَهِرَت لَه الأعْضَـاءُ

و(التكافل في الإسلام) يصفه العلماء بأنه دِعَامَةٌ أساسيةٌ من دعائم المجتمع الإسلامي، ويقولون إنه يشمل صوراً كثيرةً من التعاون والتآزر والمشاركة؛ تتمثَّل بتقديم العون والحماية والنصرة والمواساة، وذلك إلى أن تُقضى حاجة المضطر، ويزول هَمُّ الحزين، ويندمل جرحُ المصاب، ويبرأ جسدُ الأمة كاملاً من الآلام والأسقام.
ويقول أهل العلم إن العطاء من الله وحده، يهب ما يشاء لمن يشاء، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولو شاء لجعل الجميع أغنياء، ولكنه سبحانه جعل في خلقه أغنياء وفقراء، وأقوياء وضعفاء؛ ليبلو بعضهم ببعض، والجميع في موضع الاختبار من الله، الفقير في موضع الاختبار من الله أيصبر أم يجزع؟ والغني في موضع الاختبار من الله أيعطي أم يبخل؟ والإسلام حين يكلف الغني برعايته للفقير، ويضع عليه التزاماتٍ معينةً نحوه، إنما يهدف إلى رفعة قدر ذلك الغني والحفاظ على كرامته فيظل مالكاً لماله لا مملوكاً له، وفي ذلك تحريرٌ للإنسان من عبوديته للمال. كما أن (التكافل في الإسلام) يحفظ كرامة غير القادرين الذين لا يجدون ما ينفقون، ويصونهم من مرارة البؤس وذل الاحتياج؛ ففيها إشعارٌ لهم بالتضامن والتآخي والتآزر والتعاون في محيط الجماعة المسلمة، التي لا يُهمَل فيها فردٌ، ولا يضيع فيها فقيرٌ أو مسكينٌ أو ذو حاجة.

يقول الشاعر:
إذا جَادت الدُنيـا عليك فُجدْ بها
على النـاسِ واعلم أنهـا تتقلــبُ
فلا الجودُ يُفنيهـا إذا هي أقبلتْ
ولا البخلُ يُبقيها إذا هي تَذهبُ
ويقول آخر:
يـَرْجـُـو بـِطـَاعَـتـهِ رِضَـــاهُ فَـإنـَــهُ
بِالجُودُ يُعْطي المُنفِقينَ رِضــــاهُ
فالمَـالُ مَـالُ اللهِ وهُـوَ المُـرتَجَـى
للسَـائليــنَ يُجِيــــبُ مَــنْ نـَـاداهُ

أما عن ثمرات (التكافل في الإسلام) فيقول أحد العارفين إنها عظيمةٌ في الدنيا والآخرة، ومن مظاهرها: تماسك بنيان المجتمع وحمايته، تقوية علاقة المسلم بالله وبالناس، نيل رضا الله ومحبته ورحمته، حصول البركة في العمر والمال والولد، إشاعة التحاب بين أفراد المجتمع، تحقيق العدل في المجتمع الإسلامي، تمتين العلاقات الاجتماعية بين المسلمين، شكر الله على نعمة المال، مواساة الفقراء والمساكين وسد حاجة المعوزين، إشاعة التراحم والتواد وتزكية النفس بإخراج الشُح منها، بركة المال ونماؤه ووقاية الإنسان من المصائب، النجاة يوم القيامة بإذن الله؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ]، أَوْ قَالَ: [يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ].
وعن أفضل الصدقة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ]، ويقول كذلك: [جُهْدُ المُقلِّ وابدأْ بمن تَعُولُ].
ومن أعظم الصدقات الصدقة الجارية وهي ما يبقى بعد موت العبد، ويستمر أجره عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثَةِ، إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ].

أحبتي .. تصدقوا في السر والعلن، أنفقوا على المحتاجين والفقراء والمساكين؛ أخرجوا الزكاة، وأكثروا من الصدقات، وخصصوا جزءاً من أموالكم للقروض الحسنة، وأَنْظِروا المُعسر إلى حين مَيسرة، اكفلوا اليتامى، سدوا ديون الغارمين، ارعوا ذوي الاحتياجات الخاصة، ساهموا في التخفيف من معاناة غيركم ما استطعتم، تبرعوا بأموالكم في كل مجالات البر، واعلموا أن المال مال الله ونحن مستخلفون فيه، واعلموا أننا مسئولون عن أموالنا يوم القيامة فاجعلوها شاهدةً لنا لا علينا، ثم اعلموا أنما تنفقون منمالٍ في أوجه الخير لا يضيع؛ فما راح من مالٍ فيه هو الباقي، وما تبقى دون الصرف منه على عمل خيرٍ هو الذي يضيع. كونوا عباد الله ممن يقيمون (التكافل في الإسلام)، بأفعالكم وليس بأقوالكم، وأبشروا برضا الله ومحبته.

اللهم اهدنا إلى سُبل الخير وقِنا شح أنفسنا.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

http://bit.ly/2OEqsOY

الجمعة، 15 نوفمبر 2019

سفير للإسلام


الجمعة 15 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٣
(سفير للإسلام)

تقول إعلاميةٌ معروفةٌ: كنتُ في زيارةٍ للولايات المتحدة الأمريكية وذهبتُ إلى أحد المحلات الكبرى لشراء بعض الأغراض، وأثناء انتظاري لدفع قيمة مشترياتي، دخلتْ سيدةٌ مسلمةٌ ترتدي حجاباً محتشماً، وتبدو عليها علامات التعب من دفع صندوقٍ ثقيلٍ أمامها، يبدو أنه لماكينة قص الحشائش، ذهبَتْ السيدة المسلمة إلى الموظفة التي تجلس على ماكينة الحساب، وقالت لها بأدبٍ جم: "سيدتي، لقد اشتريتُ منك هذه الماكينة بالأمس ب ٥٠٠ دولار مع عدة أشياء أخرى"، سألتها الموظفة وهي منشغلةٌ: "وتريدين إرجاعها؟"، قالت السيدة المسلمة: "لا، بل أريد أن أدفع ثمنها!"، ردت الموظفة، وهي ما تزال منشغلةً: "لا أفهم! ألم تقولي إنك اشتريتها بالأمس؟ إذا كنتِ تعنين أنك وجدتيها أرخص في محلٍ آخر، فنحن لدينا سياسةٌ لرد الفرق؛ ولكن بشرط أن يكون معك ما يثبت سعرها في المحل الآخر، فهل معك ما يثبت ذلك؟"،قالت السيّدة المسلمة: "يا سيدتي، لا هذا ولا ذاك، لقد اشتريتُ منك هذه الماكينة بالأمس مع مشترياتٍ أخرى ببطاقة الائتمان، وحملتُها لمنزلي في ضاحية كذا - وهي ضاحيةٌ تبعد عن المحل مسافة ساعتين تقريباً - وعندما عدتُ إلى البيت أخذتُ أراجع الفاتورة، فوجدتُ أنك لم تحسبي قيمة هذه الماكينة ضمن المشتريات، فحاولتُ الاتصال بالمحل، حتى لا تتعرضي للأذى بسبب ذلك، ولكن ساعات العمل كانت قد انتهت، فقررتُ أن آخذ اليوم إجازةً من العمل وأحمل لك الماكينة، كي تُسَجِّليها وأدفع ثمنها، فلا تتضرري بسببي، ولا أستخدم شيئاً لم أدفع ثمنه". هنا وقفتْ الموظفة فجأةً، في ذهولٍ شديدٍ، وهي تحدق النظر في السيدة المسلمة، امتلأت عيناها بالدموع، وأخذتْ تحضنها وتقبلها وتقول لها: "أنا لا أفهم، كيف قررتِ الرجوع لدفع مبلغٍ هو بالأساس خطأٌ مني، وحملتِ هذا الصندوق الثقيل، وأخذتِ اليوم إجازة من عملك، ثم قدتِ السيارة كل هذه المسافة! لماذا فعلتِ كل هذا سيدتي؟"، ردت السيدة المسلمة ببراءة ٍشديدةٍ تشي بأنها قد تصرفتْ تصرفاً بديهياً: "إنها الأمانة It is AMANA"، وأخذتْ تشرح للموظفة معنى الأمانة في الإسلام. ذهبتْ الموظفة لمديرتها في مكتبها، وكنا نراها من خلف زجاج المكتب ولا نسمعها، ولكن كان يبدو عليها التأثر الشديد وهي تحكي لمديرتها ماذا فعلت السيدة المسلمة، وبعد دقائق، جمعت المديرة الموظفين بالمحل، وأوقفتهم صفاً واحداً، وأخذتْ تحدثهم عن موقف السيدة المسلمة، التي بدتْ عليها علامات الحياء الشديد والإحساس أنها لم تفعل غير واجبها الذي تعلمته من دينها. ثم أخذ الجميع يسألونها في تلهفٍ شديدٍ عن الإسلام وتعاليمه، وهي تجيبهم بمزيجٍ من الثقة بالنفس والتواضع والإخلاص. بعد أن انتهوا، أصرت المديرة بشدةٍ أن تعطيها الماكينة هديةً من العاملين بالمحل، لكن السيدة اعتذرت بأدبٍ عن قبول الهدية قائلةً إنها تبتغي فقط الثواب؛ فلا تريد للماكينة أن تفسد هذا الثواب الذي هو أفضل بكثيرٍ لها. وطبعاً زاد هذا الرد من إعجاب الناس بها. رحلتْ السيدة في هدوءٍ وأنا أشعر بفخرٍ شديدٍ في داخلي، فقد ظل حديث الإعجاب بها بعد أن رحلتْ ليس فقط بين الموظفين، ولكن أيضاً بين الزبائن الذين ظل أغلبهم يتابعون الموقف في انبهارٍ شديدٍ بتلك السيدة.

أحبائي في الله .. كانت هذه المرأة - من حيث لم تتوقع - سفيرةً للإسلام بغير أوراق اعتمادٍ وبدون صفةٍ رسمية. وضعتها الظروف في هذا الموقف؛ ففتح الله عليها وألهمها التصرف الصحيح بالعودة إلى المحل، ثم ألهمها القول السديد الذي ردت به على أسئلة الموظفين بالمحل.
كلنا سفراء لديننا، منا من يجيد السفارة؛ فينبهر الناس بسلوكه وأقواله فيكون ذلك سبباً لإقبالهم على التعرف على الإسلام واعتناق بعضهم له؛ فالناس يحكمون على الإسلام من خلال أخلاق المسلمين وتعاملاتهم.
يقول العلماء إن المسلم (سفير للإسلام) مسؤولٌ عن هذا الدِّين، وتزدادُ المسؤولية إذا كان يعيش في بلاد الغُرْبة، في عالَمٍ غريبٍ في اعتقاده ومبادئِه وأخلاقه وسلوكياته، فلا ينبغي له أن ينجرِف مع الناس الذين يعيش معهم في عقائدِهم وتصرفاتهم، بل واجبُه أن يكون سفيراً للإسلام بسلوكه وأخلاقه ومعاملاته؛ فيفتح الله له القلوبَ لتتمكَّن من التوحيد الذي حُرِمت منه؛ فيكون المسلم سفيراً عن الله وعن رسوله في البلاد التي يسَّر الله تعالى له الوصول إليها، والعيش فيها. وإذا كان مِن المعلوم أنَّ فاقدَ الشيء لا يُعطيه، فإن على المسلم في بلاد الغربة أن يَعرِف ما هو الإسلام، وأن يحاول بِنِيَّةٍ خالصةٍ وصادقةٍ أن يُطبِّق هذا الدِّين في كلِّ أمور حياته، في معايشِه وعباداته وصداقاتِه، وحبِّه وبُغضِه، وأخْذِه وعطائه، وكلِّ شؤون الحياة، فإذا رأى الأجانبُ هذه الصورة أحبُّوها، وأحبُّوه، وسألوه: لماذا يفعل كذا ولا يفعل كذا؟ فيجيبهم: لأنَّه مسلمٌ يتقي الله، فتكون فرصةً له للتعريف بالإسلام والتأثير في الناس بأبلغ بكثيرٍ من الوعْظ والكلام، وتكون هذه الفرصة بمثابة دعوةٍ إلى دين الله الحق؛ يقول جلَّ وعَلا: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، ويقول تبارك شأنه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾. وهذه فرصةٌ لا تتوفر لغيره ممن يقيمون في بلاد الإسلام، يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى؛ فينوي بينه وبين نفسه، مخلصاً نيته لله، أن يكون سفيراً لدينه ومثالاً يُحتذى وقدوةً لغير المسلمين، فيُحَسِّن من سلوكه وأخلاقه ويتمسك بعباداته ويقيم شرع الله - ما استطاع - في نفسه وأسرته، فربما كان سبباً في هداية ولو شخصٍ واحدٍ إلى دين الحق؛ يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: [ ... فَوَاللَّهِ لَئِنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ اَلْنَّعَمِ]. كما قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا ...]. وقال كذلك: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلهُ مثلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ].
وورد في الأثر: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغَرِ الإِسْلامِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَلا يُؤْتَى الإِسْلامُ مِنْ ثَغْرَتِهِ فَلْيَفْعَلْ". والمسلم المغترب في بلادٍ يجاوره فيها في السكن أو العمل غير مسلمين هو على ثغرٍ خطير؛ فجيرانه وزملاؤه وكثيرٌ من الناس يطالعونه وينظرون إليه، يشاهدون تصرفاته، ويرصدون أفعاله وأقواله، ثم هُم يحكمون على الإسلام من خلال ما يرونه ويشاهدونه ويسمعونه، فليكن خير (سفير للإسلام).
وللأسف يوجد من المسلمين المقيمين في مجتمعاتٍ غير مسلمةٍ من يتخذ الغربة عذراً للتخفف من أعباء الدين - كما يزعمون - فلا صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج، وإذا فعلوا فربما في السر أو في المناسبات أو مراءاةً لمسلمين آخرين! بل ويذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك فيشرب الخمر - والعياذ بالله - فإذا راجعته في ذلك يقول لك إنه مجرد مشروبٍ اجتماعيٍ؛ يقصد أنه يشرب للمجاملة فقط! والبعض يتخلى عن اسمه الإسلامي الجميل ويقبل أن يُنادى باسمٍ لا يتوافق مع دينه بحجة تسهيل نطق اسمه على الآخرين! كيف يكون هؤلاء وأمثالهم سفراء لدينهم؟

أحبتي .. ليكن شعار كلٍ منا: أنا (سفير للإسلام)، ولنحرص على أن تكون أخلاقنا ومعاملاتنا دليلاً ومرشداً على ديننا. إن صلاحنا واستقامة أحوالنا على منهج ديننا الحنيف هو في الأصل واجبٌ علينا، كما أن فيه مصلحةً لنا؛ يقول تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ﴾، فإذا اجتمع مع ذلك أن نكون قدوةً لغيرنا ومثالاً لهم يحذون حذوه فيكون هذا ﴿فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾.

اللهم أعنا ولا تُعن علينا، ووفقنا للوفاء بأحكام شريعتك ودينك الذي ارتضيت لنا، ولا تَفْتِّنا، ولا تستبدلنا، وكن لنا سنداً ونصيراً وآتنا من فضلك الذي تؤتيه من تشاء.

http://bit.ly/2QnE5EW

الجمعة، 8 نوفمبر 2019

شهادة وفاة الأخلاق والقيم


الجمعة 8 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٢
(شهادة وفاة الأخلاق والقيم)

كتب يقول: حينما كنتُ رئيساً لإدارةٍ تهتم بالشئون العامة بالقوات المسلحة جاءتني ذات مرةٍ سيدةٌ فاضلةٌ تريد أن تحظى برعاية بعض أسر شهداء حرب أكتوبر 73 فرحبتُ بها، وكفلتْ تلك المرأة قرابة مائتي أسرةٍ: كفالاتٍ ماليةً، وكفالات علاجٍ، وزواجٍ، وحجٍ وعمرةٍ،.. إلخ. وكانت تُعطي عطاء من لا يخشى الفقر حتى لكأنها حاتمية الأصل، ثم وصل عدد الأسر التي كانت تكفلها إلى ألف أسرةٍ؛ فأطلقتُ عليها لقب "أم الشهداء"، وعندما عرضتُ عليها أن نقيم لها حفل تكريم رفضتْ وقالت: "بذلك يضيع الثواب". تركتُ وظيفتي فانقطعت أخبارها عني فترةً طويلةً، وذات يومٍ، بعد خمسة عشر عاماً، تلقيتُ اتصالاً من مديرة إحدى دور المسنين فاجأتني بأن هناك عجوزاً تريد الحديث معي، فلما تحدثتْ معي عرفتُ أن الصوت ليس غريباً؛ فذكرتني بنفسها أنها "أم الشهداء"، وعلمتُ أنها بدار المسنين منذ خمس سنواتٍ، فزرتُها وجلستُ معها، وحدثتني عن أبنائها: ولدها الكبير طبيبٌ عالميٌ مقيمٌ في أمريكا، وولدها الثاني أصبح ثرياً مشهوراً في دبي، وابنتها متزوجةٌ ومقيمةٌ في القاهرة. كانت العجوز تعاني من أمراض كبر السن وضعف البصر وهشاشة السمع ورقة العظم، وكانت تحس باقترابها من عتبة الموت. تمشي بصعوبةٍ ممسكةٍ بعصا لا تقدر أن تخطو خطوةً واحدةً إلا بها. لقد أصبحتْ ضعيفةً نحيفةً متعبةً مهدودةً، ليست كما عهدتُها من قبل تطوف مصر بأكملها بحثاً عن أرملةٍ تشتري لها الطعام وتؤانس وحشتها. وجدتُها متأثرةً ببُعد فلذات أكبادها عنها، وعلمتُ منها أن آخر عهدها بولديها كان قبل عشر سنوات؛ فقمتُ بالاتصال بهما ودعوتهما لزيارة أمهما؛ فأجابني الطبيب المقيم في أمريكا: "إن أمنا ثريةٌ، ولديها من المال ما يكفيها للعيش في دار المسنين دون مشاكل"، فقلتُ له: "ألا تشتاق لأمك؟"، فاعتذر بانشغاله رغم أنه يزور مصر كل عام. وسمعتُ كلاماً مشابهاً من ولدها المقيم في دبي. أما البنت فقد تعللت بأولادها وكثرة مشاغلها. بقيتُ ثلاثة أشهرٍ أزورها في كل أسبوعٍ، وأستمع إلى حديثها العذب الصافي في كل زيارةٍ وحكاياتها مع أولادها. وفي كل زيارةٍ تُخرج لي ملف ذكرياتٍ عبارةً عن ألبومات صورٍ لأولادها، وهي فرحةٌ مسرورةٌ بنجاحهم وتفوقهم، وتخبرني أنها بذلتْ كل غالٍ ونفيسٍ حتى يُكمل ولدها الطبيب دراسته. كانت أكبر متعةٍ لها الحديث عن أولادها. وذات يومٍ حدثتني برغبتها العارمة في زيارة أولادها لتفرح بهم وبأحفادها، وتكحل نظرها برؤيتهم قبل وداع هذه الحياة، وأخبرتني ألا مشكلة لديها في تدبير نفقات السفر؛ فاتصلتُ بولديها لترتيب أمور سفرها إليهما واستقبالهما لها ومعرفة عنوان كلٍ منهما، فكان الرد واحداً وهو: "الأمور هنا صعبةٌ، وعندما نزور القاهرة سوف نراها". وفي يومٍ حزينٍ لا أنساه جاءني اتصالٌ من مديرة دار المسنين تُبلغني بوفاة العجوز؛ فذهبتُ سريعاً أسحب قدماي سحباً وأكاد أتعثر في المشي. ولما وصلتُ الدار ورأيتُ العجوز وحيدةً مسجاةً تذكرتُ كم كانت تتمنى أن تنظر نظرةً واحدةً إلى أولادها وأحفادها، أو يكونوا عند رأسها وقت سكرات الموت، ولم يُلبوا طلبها، ولم يردوا حتى على اتصالاتها. لم أتمالك مشاعري وانسابت دموعي، وكانت لحظاتٍ بلغ بي الحزن فيها مبلغه؛ فاتصلتُ بولديها فكان ردهما: "لا نستطيع الحضور، ولا داعي لمشقة السفر من أجل هذا الأمر". فاتصلتُ بابنتها فأخبرتني أنها مع أولادها في الإسكندرية للمشاركة في مسابقةٍ رياضيةٍ؛ وحضورها صعب. قمتُ بتجهيز المرأة ودفنها ومشيتُ وحيداً في جنازتها، رغم أنها سخَّرت مالها لتعليم ولدها ليحصل على أرقى الشهادات العالمية في الطب، وكانت هي السبب الرئيس في نجاح ابنها الثاني، كما أنها لم تدخر جهداً في تربية بنتها. بكيتُ كالطفل، تماماً كما بكيتُ يوم ماتت أمي الحنون. بعد أسبوعٍ من دفن العجوز حضرتْ بنتها إلى دار المسنين تطلب شهادة الوفاة؛ ليبدأ حصر الثروة الطائلة لوالدتها المتوفاة ويتم تقسيم التركة، وبعدها حضر الولدان واستلما الشهادة.
يا لتلك الشهادة؛ إنها ليست شهادة وفاة الأم، إنها (شهادة وفاة الأخلاق والقيم)، شهادة وفاة الضمير، شهادة وفاة العطف والعاطفة والرحمة ورد الجميل. إنها شهادة ميلاد العقوق الصارخ. يا الله، ما كنتُ أظن أني سأبقى حياً حتى أرى هذا الزمن الذي يستغني فيه البعض عن مصدر حنانه.
ختم هذا المسئول منشوره بقوله: "إذا ماتت القيم ماتت الروح، وشقيت النفس، وتعكر طعم الحياة، وضاع منك شرفك ورجولتك وكل شيء جميل. علموا أولادكم البر قبل أن يفلتوا من أيديكم وتلهيهم معالم الحضارة المعاصرة، سلموا (شهادة وفاة الأخلاق والقيم) لكل من ينكر جميل والديه".

أحبتي في الله .. يبين أهل العلم كيف عُني الإسلام بالوالدين عنايةً بالغةً، وحض الأبناء على حسن معاملتهما، وألزمهم بالبر بهما وطاعتهما، وفِعْل كل ما يرضيهما؛ إذ أن برهما حقٌ واجبٌ، وقرن الله تعالى بر الوالدين بتوحيده وعبادته جلَّ وعلا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. وعن وجوب بر الوالدين ولوكانا مشركين؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.
ويذكر العلماء أن التاريخ لا يعرف ديناً كرَّم المرأة باعتبارها أماً، وأعلى من مكانتها مثل الإسلام الذي رفع من مكانة الأم، وجعل برها من أصول الفضائل، كما جعل حقها أعظم من حق الأب لما تحملته من مشاق الحمل والولادة والإرضاع والتربية، فحين أوصى الله سبحانه وتعالى الإنسان بوالديه جعل للأم مكانةً خاصةً؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.
وعن حق الأم في البر وثوابه؛ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: [أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّمَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أَبُوكَ]. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ - ثَلَاثًا - إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ]. وهذا صحابيٌ يقول: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: [وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟]، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: [ارْجِعْ فَبَرَّهَا]، ثُمَّ قَالَ: [وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟]، قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: [فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا]، ثُمَّ قَالَ: [وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ]. "وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا" كنايةٌ عن لزوم خدمتها، والتواضع، وحسن الطاعة لها.
وقد حذر رسول الله من عقوق الوالدين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة] وذكر منهم العاق لوالديه. وسُئل صلى الله عليه وسلم عن الكبائر؛ قال: [الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ اَلْوَالِدَيْنِ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَعَنَ اللهُ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ]، كما قال: [لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَاقٌّ]. إن في عقوق الوالدين (شهادة وفاة الأخلاق والقيم).

أحبتي .. واضحةٌ هي أوامر الله سبحانه وتعالى وتوجيهات نبينا الكريم - عليه الصلاة والسلام - لنا ببر الوالدين، وببر الأم على وجه الخصوص، وواضحةٌ هي العواقب الوخيمة لعقوق الوالدين؛ فلماذا هذا العقوق الذي نراه؟ لماذا هذه القسوة في القلوب؟ أما آن لنا أن تلين قلوبنا وتخشع امتثالاً لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾؟
وأنتَ يا مَن تعق والديك - خاصةً أمك - راجع نفسك فوراً وتراجع عن عقوقك؛ فأنت واقعٌ في كبيرةٍ تُغضب المولى عزَّ وجلَّ، أتتحمل غضب المولى؟ بادر إلى البر والإحسان لا تُسَوِّف ولا تُماطِل ولا تُؤجِل؛ هل تضمن لنفسك أن تعيش ولو دقيقةً واحدةً؟ سارع أخي الحبيب، ومَزِّق (شهادة وفاة الأخلاق والقيم) واجتهد في الحصول على شهادةٍ تنفعك في حياتك وآخرتك، شهادةٍ تُرضي بها ربك، شهادةٍ بوصِلِ ما قطعته، وبِرِ من أسأت إليه. أحْسِن إلى مَن أوصاك خالقُك برعايته وحُسن صحبته، وتُبْ توبةً نصوحاً؛ عسى أن يشملك الله برحمته فتكون ممن قال عنهم: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ فتفوز فوزاً عظيماً.
اللهم اجعلنا من البارين بوالدينا أحياءً وأمواتاً، ووفقنا ربنا إلى حُسن رعايتهما وصحبتهما – خاصةً أمهاتنا اللاتي ولدننا - واجعل ذلك في موازين حسناتنا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

http://bit.ly/2WS37x8

الجمعة، 1 نوفمبر 2019

قم للمعلم وفه التبجيلا


الجمعة 1 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١١
(قم للمعلم وفه التبجيلا)

قصةٌ حقيقيةٌ مؤثرةٌ حدثت لأحد المعلمين في السودان؛ كان يُدَرِّس للصف الثالث الابتدائي بمدرسةٍ للبنات، وكان يرى كل يومٍ خارج المدرسة بجوار نافذة الفصل بنتاً مسكينةً وجميلةً تكسوها البراءة تبيع الخبز في الصباح، وقد بلغت سن المدرسة لكنها لم تدخلها بسبب الوضع المادي لأسرتها، فلديها أربعة أخوةٍ صغارٍ، ووالدهم متوفٍ، وهي تسهم مع أمها في مصاريف معيشتهم ببيع الخبز بجوار المدرسة، فساعدت إخوتها بأن يدخلوا المدرسة ويكملوا تعليمهم. كان المعلم يشرح لتلميذاته دروس الرياضيات وبائعةُ الخبز تتابعه من نافذة الفصل وهي بالخارج.  في أحد الأيام سأل المعلم التلميذات سؤالاً صعباً وخصص له جائزةً، ولم تُجبه أية تلميذة، وتفاجأ ببائعة الخبز تؤشر بإصبعها من خارج النافذة وتصرخ: "أستاذ أعرف الإجابة!"، فأذن لها المعلم بالإجابة؛ فأجابت وكانت إجابتها صحيحة!! منذ ذلك اليوم راهن عليها المعلم، وتكفل برعايتها وبكل ما يلزمها من مصروفاتٍ مدرسيةٍ على نفقته ومن مرتبه، واتفق مع مدير المدرسة على أن يتم تسجيلها كتلميذةٍ بالمدرسة وتشارك بالاختبارات دون دخول الفصل لعدم قدرتها على تحمل مصاريف المدرسة، وأن يجعلها تبدأ من الصف الثالث كمستمعةٍ لتتعلم ولو الشيء البسيط من التعليم، واتفق مع جميع معلمي المواد الأخرى على أن تظل الفتاة تستمع من النافذة إلى حصصهم وهي خارج الفصل، فأجمعوا على الموافقة. أخبر المعلم والدة الفتاة بذلك واتفق معها على أنتترك ابنتها بيع الخبز وتتفرغ للتعليم ويتولى أحد إخوتها البيع بدلاً منها. عندما ظهرت نتائج اختبارات آخر العام كانت المفاجأة؛ فقد كانت الفتاة هي الأولى على المدرسة. استمرت الفتاة على هذا النحو برعاية المعلم وإشرافه اليومي إلى أن وصلت إلى الصف الأول بالمرحلة الثانوية، حينها فارق المعلم السودان للعمل بالخارج، ولم تكن هناك في ذلك الوقت هواتف لكي يتابع أخبارها. كبر أحد إخوة الفتاة وعمل بعربة كارو لبيع الماء واستمر في الصرف عليها، وانقطعت صلتها بالمعلم لمدة اثني عشر عاماً عاد بعدها إلى السودان، وكان لديه زميلٌ بالدولة التي كان يعمل فيها، ولزميله هذا ابنٌ يدرس بكلية الطب بجامعة الخرطوم، فطلب زميله منه أن يرافقه إلى الجامعة؛ فذهب مع صديقه، ومكث بعض الوقت في الكافتريا، فإذا بفتاةٍ على قدرٍ من الجمال تحدق فيه وقد تغيرت معالم وجهها عندما رأته، وهو لا يعلم لماذا تحدق فيه بهذا الشكل! فسأل ابن صاحبه إن كان يعرف هذه الفتاة، وأشار إليها خُفيةً، فأجابه: "نعم بالطبع؛ إنها بروفيسور تُدَرِّس طلاب دفعة السنة السادسة والأخيرة بكلية الطب"، ثم سأل الطالب المعلم إن كان يعرفها، فرد بالنفي. فجأةً، وبدون مقدماتٍ، جرت الفتاة نحو المعلم وعانقته وهي تبكي بحرقةٍ بصوتٍ لفت أنظار كل من كان بالكافتيريا، وظلت تحضنه لفترةٍ من الزمن دون مراعاةٍ لأي اعتبار، وظن الجميع أنه والدها، وأُجهشت بالبكاء حتى أُغمي عليها وتم إسعافها. عندما أفاقت وتمالكت أعصابها نظرت إلى المعلم وقالت له: "ألا تذكرني أستاذي؟ أنا تلميذتك، أنا البنت التي كانت حطام إنسانةٍ وصنعتَ حضرتك منها إنسانةً ناجحةً، أنا البنت التي كنتَ حضرتك السبب في دخولها المدرسة، وصرفتَ عليها من حُر مالك حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، وذلك بفضل الله ثم رعايتك واهتمامك وموقفك الإنساني الفريد، أنا ابنتك بائعة الخبز ". ودعته والذين معه ومجموعةً من الزملاء إلى منزلها، وأخبرت أمها وإخوتها بالمعلم الإنسان الذي وقف معها وكان سبباً في تغيير مجرى حياتهم جميعاً. احتفلت به الأسرة احتفالاً كبيراً، وكانت مناسبة فرحٍ عظيم، وألقى المعلم كلمةً قال فيها: "لأول مرةٍ أحسُ أني معلمٌ وإنسان".

أحبتي في الله .. يعلم إخواننا في السودان اسم هذا المعلم، واسم تلميذته التي أصبحت أستاذةً جامعيةً معروفةً، والتي كانت بتصرفها مع معلمها تطبق حرفياً شعار (قم للمعلم وفه التبجيلا). لكن ما يستوقفنا من هذه القصة هو الدور الذي قام به هذا المعلم الرائع؛ حين زاوج بين عمله المهني كمعلمٍ ودوره التربوي والتزامه الأدبي وسلوكه الأخلاقي وتصرفه الإنساني، فكانت النتيجة مكسباً لكل أطراف العملية التربوية: المجتمع وقد كسب أستاذةً متخصصةً متميزةً في مجالها، التلميذة وقد شغلت منصباً مرموقاً ووظيفةً عالية المكانة، أسرة التلميذة وقد ارتقى وضعها الاجتماعي، المعلم وقد حظي بوفاءٍ نادرٍ من تلميذته وأسرتها وتقديرٍ من المجتمع.
هذا المعلم نموذجٌ للإنسان المسلم المؤمن الكَيْس الفطن، بحكمته ولباقته وحسن تصرفه، وبإحساسه الصادق ونظرته الثاقبة ورجاحة تقديره، إضافةً لكرمه وسخائه، واهتمامه بواجبه الإنساني قبل واجبه المهني.

لم يُعلِ من شأن التعليم والتعلم دينٌ كما فعل ديننا الإسلامي الحنيف؛ لقد رفعَ الله تعالى مكانةَ العلم وأهله، وعظَّم منزلتَهم وأعلَى شأنَهم، فقال عزَّ من قائل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وبيَّن سبحانه أن العالِمَ والجاهِلَ لا يستويان؛ قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وقال الرسول عليه السلام: [فضلُ العالمِ على العابِدِ، كفَضْلِي علَى أدناكم، إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَهُ، وأهلَ السمواتِ والأرضِ، حتى النملةَ في جُحْرِها، وحتى الحوتَ، ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [ليس من أمَّتي مَن لم يُجِلَّ كبيرَنا ويرحَمْ صغيرَنا ويعرِفْ لعالِمِنا حقَّه]، كما قال: [إن الله لم يبعَثني مُعنِّتًا ولا مُتعنِّتًا، ولكن بعَثَني مُعلِّمًا مُيسِّرًا].

وفي وصف المعلم قال أحدهم: تعجز الحروف عن التّعبير وتتوه الكلمات على السّطور عندما يسألني شخصٌ عن فضل المعلّم، فما من عبارات مدحٍ ولا قصائد شكرٍ تفي حق هذا الشّخص الّذي كرّس أغلب أوقاته لينقل طلّابه وتلاميذه من ظُلمة الجهل إلى نور العلم والمعرفة، ليُمسي في آخر نهاره متعباً منهكاً منتظراً بشوقٍ فجر يومٍ جديدٍ يستكمل فيه مسيرة بناء جيلٍ واعٍ متعلّمٍ قادرٍ على التّمييز بين الصّواب والخطأ.
وقال آخر: المعلم هو منارة العلم التي تضيء الطريق أمام الطلاب بالعلم والمعرفة، يسهل لهم الطريق لمعرفة الحق، ويغرس فيهم العلم النافع الذي يرفع عنهم الجهل؛ فهو أبٌ وصديقٌ يسمع طلابه ويعاملهم كأبنائه يحنو عليهم فهو الأب الحاني، ويؤدبهم فهو المؤدب الذي يربيهم على الأخلاق الحميدة، وهو الصديق الذي يسمع شكواهم ويفهم مبتغاهم.
لذا يقول أهل العلم إن مهنة التعليم لها قداستها في المجتمعات التي تسعى إلى صنع التقدم والحضارة، ووظيفة المعلم تنال مكانةً رفيعةً في تلك المجتمعات. وإن فضل المعلم على المتعلم كفضل الرسل على سائر الناس؛ فهو يُميط الجهل عنهم ليبصروا بقلوبهم الحق فيزدادوا إيماناً بخالقهم وتمسكاً بدينهم. فالمعلم حريصٌ على توعية الطلاب بما ينفعهم ويقربهم من الله ويحذرهم مما يبعدهم عن رضاه. ولو كان العالَم دون معلمٍ لسادَ الجهلُ والتخلّف بين الناس.

وعن مكانة المعلم وتقدير دوره، وعن التطبيق العملي لمبدأ (قم للمعلم وفه التبجيلا) قال أحد العلماء: “ما مَدَدتُ رِجلِي نحوَ دارِ أُستاذِي إجلالًا له، وما صلَّيتُ صلاةً مُنذ ماتَ إلا استغفَرتُ له مع والدَيَّ“.
أما الخليفة العباسي هارون الرشد فقد اتخذ “الكسائي” إمام الكوفة معلماً ومربياً لابنيه الأمين والمأمون، وكان يستشيره في كل أمور الدين والدنيا، وكان الأميران يتسابقان إلى إلباسه خُفيه عندما يهم بالخروج من عندهما. هذه مكانة العلم وهذا هو تقدير المعلمين.
قال الشاعر:
(قم للمعلمِ وفّهِ التبجيلا)
كاد المعلمُ أن يكون رسولا
أعلِمتَ أشرفَ أو أجَّلَ مِن الذي
يبني وينشئ أنفساً وعقولا؟
وقال آخر:
لولا المعلمُ ما قرأتُ كتاباً يوماً
ولا كتبَ الحروفَ يراعي
فبفضلِه جزتُ الفضاءَ محلقاً
وبعلمِه شقَ الظلامَ شعاعي
وقال ثالث:
رأيتُ الحقَ حقَ المعلمِ
وأوجبه حفظاً على كلِ مسلمِ
له الحقُ أن يُهدى إليه كرامةً
لتعليمِ حرفٍ واحدٍ ألفَ درهمِ

أحبتي .. حريٌ بكلٍ منا، أياً كان الدور المناط به معلماً كان أو غير معلم، أن يساعد في اكتشاف الموهوبين من أبنائنا، ويعينهم ويرشدهم ويتابعهم، ويسهم في صقل قدراتهم، ليهدي إلى المجتمع والوطن بل إلى الإنسانية جمعاء أشخاصاً متميزين وعلماء متخصصين في جميع مجالات الحياة.
وأدعو كل من يقرأ هذه الكلمات أن يتذكر معلميه ويدعو لهم بالخير، ويحاول أن يتواصل معهم -إن استطاع- برسالةٍ أو مكالمةٍ هاتفيةٍ أو زيارةٍ، أو بإشارةٍ إليهم وإشادةٍ بهم على مواقع التواصل الاجتماعي، يشكرهم ويقدر جهدهم عرفاناً بجميلهم؛ لنكون قد قمنا بجزءٍ من دورنا في تطبيق مبدأ (قم للمعلم وفه التبجيلا) وفاءً وامتناناً.
اللهم انفعنا، وانفع بنا، واهدنا واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، وارفع بنا شأن الأمة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

http://bit.ly/2CeldA1

الجمعة، 25 أكتوبر 2019

العدالة الإلهية


الجمعة 25 أكتوبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٠
(العدالة الإلهية)

قصةٌ حقيقةٌ وقعت أحداثها بدمشق منذ زمنٍ بعيد؛ امرأةٌ كان والدها مِنَ الوُجهاء الأثرياء، وتزوجها ابن أحد الولاة العثمانيين، من ذَوي الإقطاع والثراء، وكانتِ المرأة وحيدة أبويها، وكذا زوجها. تُوفِّي والدها فورثته، وتُوفِّي والد زوجها فورثه، ثم تُوفِّي زوجها دون أن يكونَ لها منه ولد، فورثتِه هو الآخر؛ فصار عندها أراضٍ، وإقطاعاتٌ شاسعة. ولما لم يكنْ لها مورد رزقٍ من عملٍ كانت تبيع جزءاً من أراضيها كل مدةٍ لتنفق على نفسها، وعندما يقلُّ ما في يدها تبيع أرضاً أخرى، وهكذا. ونظراً لوَحْدتها، وعدم وجود ذريةٍ تؤنسها، فقد قامتْ بكفالة إحدى الفتيات اليتيمات مدَّةً منَ الزمن، حتى تزوجت. كبرت المرأة وكان جيرانها يخدمونها في حاجياتها، وكان أسفل شقتها صاحب محل بقالةٍ تشتري منه، ويوصِّل لبيتها الأغراض. وذات يومٍ طلبتْ منَ المحل بعض الأغراض، فجاءَها صاحبُ المحل، ودخل بالأغراض، فقالتْ له: "اجلس حتى أُضَيّفَك فنجاناً منَ القهوة"، وقامتِ العجوز -وهي على عتبة التسعين منَ العمر - للمطبخ تُعِدُّ القهوة له، فلعب الشيطان بعقل البائع، ووسوس له أن ينتهزَ الفرصة ليسرقَ أموالها؛ فلحقها إلى المطبخ، وخنقها بطوق الذهب الذي ترتديه دون مقاوَمة، وفتَّش البيت، ولم يجدْ إلا مبلغاً زهيداً جدّاً مِنَ المال، فأخَذَهُ وانصرف. بعد يومٍ أو أكثر افتقد الجيران جارتهم العجوز، واستغربوا عدم إجابتها وفتحها الباب، وكان ذلك سبباً لكشف الجريمة، وتمَّ التحقيق مع الجيران، ولم يلبثْ أنِ انكشف المجرم، وتطابقتْ عليه الأدلة، واعترف. لكنه وكَّل أحد شياطين المحامين، فاستطاع تدبير تقريرٍ طبيٍّ للمجرم بأنَّه مختلٌّ عقليّاً بدرجةٍ خطيرة، وبعد جلساتٍ في المحكمة أُطلق سراحه؛ لكونه غير مسؤولٍ عن فعله؛ فرجع المجرم لحياته المعتادَة حرّاً طليقاً، وبقيَ على ذلك سنواتٍ. وعلمتْ بالقصة تلك اليتيمة التي ربَّتها المغدور بها، فتبنَّتِ الموضوع، وأعادت رفع القضيَّة على المجرِم بعد أنِ اطمأنَّ تلك المدة الطويلة، وكانت حجتها القوية: إن كان المجرمُ مجنوناً بتلك الدَّرجة المثبتة في التقرير، فمكانه ليس بين الناس العقلاء؛ حتى لا يرتكب الجرائم؛ بل في مستشفى المجانين، وإن كان عاقلاً فلا بُدَّ منَ القصاص، وفعلاً لم يكن أمام المجرم إلاَّ التشبُّث بالخيار الأول؛ فراراً منَ العقوبة، فتمَّ إيداعه مستشفى الأمراض العقلية.
وهناك كان المجانين باستقبال النَّزيل الجديد، وتحلَّقوا حوله يسألونه: "ما الذي أتى بك إلى هنا؟"، فقاللهم بكل صراحة: "أنا قتلتُ امرأةً عجوزاً، وقلتُ عن نفسي إنني مجنون؛ لأهرب من العقوبة، وبسبب ذلك جاؤوا بي عندكم، هذه قصتي". فاستغرب المجانين، واجتمعوا فيما بينهم، وإذا بهم يحيطون به، ويقولون: "أنت مجرمٌ قاتلٌ، ولا بد من محاكمتكَ، سنحاكمك الآن"؛ فشَكَّلُوا محكمةً فيما بينهم، وحكموا عليه بالإعدام شنقاً، وربطوا عنقه بالملابس، وهو لا يقدر على الفرار منهم، ولم يُجْدِ الصراخ والاستنجاد، وشنقوه. وفي اليوم التالي، لَمَّا أراد الممرضون توزيع الطعام، وجدوه مشنوقاً، فسألوا: "مَن قتله؟"، قال المجانين: "نحن شنقناه؛ لأنه مجرمٌ قاتلٌ"، فسألوا الحارس المناوب فقال: "لَمْ أميزْ صراخه عن الصراخ المعتاد لباقي المجانين".
وهكذا جاء للقاتل القصاص العادل من حيث لم يحتسبْ، ونشرت الجرائد خبره وقصته العجيبة.

أحبتي في الله .. إنها (العدالة الإلهية) لا تغيب حينما تغيب عدالة البشر. إنه الله سبحانه وتعالى العدل الذي لا يقبل الظلم على نفسه، والذي جعله بين الناس مُحَرَّماً؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾، ويقول: ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾، ويقول: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾، ويقول: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾، ويقول: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، ويقول: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ﴾، ويقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾، ويقول: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً﴾، ويقول: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾، ويقول: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾.
وعَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنَّهُ قالَ: {يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا}.
إنها (العدالة الإلهية)، عدالةٌ لكل البشر حتى إنه يُقال: "لو كان المظلوم كافراً وظُلم ثم دعا الله؛ فإن الله يستجيب دُعاءه، لا حباً للكافر ولكن حباً للعدل".

يقول العلماء إنه لا شك أن ما يحدث من أنواع المظالم العامة والخاصة لا يخفى على الله منها شيءٌ، ولا شك أيضاً أن الله تعالى لا يرضى بالظلم والعدوان. والناس بين ظالمٍ ومظلوم، فأما الظالم فإن الله تعالى إنما يُملي له ليزداد إثماً، ويؤخره ليومٍ تشخص فيه الأبصار، قال تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾، وهذا وعيدٌ شديدٌ للظالمين؛ يمهلهم الله، ويدرُّ عليهم الأرزاق، ويتركهم يتقلبون في البلاد آمنين مطمئنين، يُملي لهم ليزدادوا إثماً، حتى إذا أخذهم لم يُفلتهم: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
وأما المظلوم فإن الله تعالى يمتحنه تمييزاً وتمحيصاً، فإن آمن بالله واتقاه جُوزي على ذلك بالثواب الجزيل؛ يقول تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾، ويقول: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾. والدنيا ليست بدار جزاءٍ ووفاء، وإنما هي دار محنةٍ وبلاء، وهي لم تُخلق للدوام والبقاء، بل للزوال والفناء؛ فإن الله تعالى لم يخلقها إلا ليبتلي بها عباده ويمتحنهم فيها فينظر كيف يعملون. وإقامة العدل المطلق لا تكون في الدنيا بل تكون في الآخرة.
وحَريٌ بالمظلوم أن يقول: "حسبي الله ونعم الوكيل" فلا يمسسه بإذن الله سوءٌ من الظالم؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾. صدق من قال: ﺃﺗدﺭون ﻣﻌﻨﻰ ﻗﻝ ﺍﻟﻤﻡ "ﺣﺴﺒﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻧﻌ ﺍﻟﻛﻴﻞ"؟ معنى ذلك أﻧﻪ ﻧﻘﻞ ﻣﻠﻒ ﺍﻟﻘﻀﻴﺔ ﻣ قاضي ﺍﻷﺭﺽ ﺇﻟﻰ ﻗﺎﺿﻲ ﺍﻟسماء، وهناك لمحكمة الآخرة قوانين أخرى غير محكمة الأرض: فالملفات معلنةٌ غير سرية؛ يقول تعالى: ﴿ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورًا﴾، والحضور تحت حراسةٍ مشددة؛ يقول تعالى: ﴿وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾، والظلم مستحيل؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾، وليس هناك محامٍ يدافع عنك؛ يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾، والرشوة والواسطة مستحيلة؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ﴾، ولا يوجد تشابه أسماء أو التباس وقائع؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾،واستلام نتيجة الحكم باليد؛ يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾، ولا يوجد حكمٌ غيابي؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾، ولا يوجد نقضٌ أو استئناف؛ يقول تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾، ولا يوجد شهود زور؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ولا توجد ملفاتٌ منسية؛ يقول تعالى: ﴿أحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾، وأما الأعمال فلها ميزانٌ دقيقٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسبين﴾. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الشاعر:
أمَا واللهِ إنَّ الظُّلمَ لؤمٌ
وما زالَ المسيءُ هو الظَّلومُ
إلىَ دياَّنِ يومِ الدّينِ نَمضي
وعندَ اللهِ تجتمعُ الخُصومُ
ستعلمُ في الحسابِ إذا التقينا
غداً عند الإلهِ مَنْ الملومُ
وقال آخر:
إذا جارَ الأميرُ وكاتباه
وقاضي الأرضِ داهنٌ في القضاء
فويلٌ ثمَّ ويلٌ ثمَّ ويلٌ
لقاضي الأرضِ مِنْ قاضي السماء

كلمتي إلى كل ظالمٍ .. اتقِ الله، ولا تأخذك العزة بالإثم. توقف فوراً عن الظلم. تُب إلى الله توبةً نصوحاً. أعد الحقوق إلى أصحابها فهذا أهون لك من أن تُحاسَب عليها في الآخرة. اعترف بما اقترفت يداك منظلمٍ، واطلب القصاص من نفسك في الدنيا، وسارع إلى التخلص من وزر ظلمٍ عقابه عند الله عظيمٌ، واستحضر في نفسك معنى الخلود في العذاب، أو اطلب العفو من أصحاب الحقوق الذين ظلمتهم.
أما من يَظلِم أو يشارك في الظلم ثم يقول إنه "عبد المأمور" فأقول له: اعلم أنك عبد الله وحده، لستَ عبداً لغيره، واعلم أن هذا القول يُدخِلك في دائرة الشرك والعياذ بالله، ثم إنه لن يُعفيك من المسئولية والحساب يوم تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى أن تقول: "قتلتُ أو عذبتُ أو اغتصبتُ أو سرقتُ أو شهدتُ بالزور أو كذبتُ وافتريتُ أو حكمتُ بغير الحق لأن رئيسي طلب مني ذلك"؛ فأنت تعلم أنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. صحيحٌ أنت مأمورٌ بطاعة رئيسك، لأنها من طاعة ولي الأمر، إلا في ظلم غيرك؛ فالظلم معصيةٌ لله، إذا ساعدك آمرك في الإفلات من عقابها في الدنيا فلن يساعدك في التخفيف من العقاب عليها في الآخرة. انتبه لنفسك، واقلع فوراً عن ظلم غيرك، وارجع إلى ربك بتوبةٍ صادقةٍ، وأنقذ نفسك من عذاب الآخرة فهو شديدٌ أليمٌ غليظٌ تظل خالداً فيه مُهانا.
أقول لكل ظالمٍ، ولكل من شارك في ظلمٍ، ولكل من أيَّد ظالماً أو أعانه، ولكل من مالَ إلى ظالمٍ ولو بقلبه: تذكر (العدالة الإلهية) وبادر بالتوبة والعمل الصالح، وأبشر بوعد ربك لك عندما تتوب؛ إنه لا يغفر لك ذنوبك وحسب، بل ويبدل لك سيئاتك حسنات؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾.
وأما المظلوم فأقول له: أنت مخيرٌ بين أن تقتص لنفسك في الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا﴾، أو أن تعفو وتصفح فيغفر الله لك؛ يقول تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، أو أن تصبر وتحتسب فيكون لك الأجر العظيم؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾.

أحبتي .. فلنستعِّد جميعاً لوقفةٍ بين يدي الله سبحانه وتعالى في يومٍ عظيمٍ، يوم (العدالة الإلهية) المطلقة ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾، لنقابل المولى عزَّ وجلَّ بقلوبٍ صافيةٍ ونفوسٍ راضيةٍ، وأعمالٍ صالحة.
اللهم إنا نعوذ بك أن نَذِل أو نُذَل، أو نَضِل أو نُضَل، أو نَظلِم أو نُظلَم، أو نَجهَل أو يُجهَل علينا.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/32MEuUz


الجمعة، 18 أكتوبر 2019

همة أحيت أمة


الجمعة 18 أكتوبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٩
(همة أحيت أمة)

عام 1906م في إحدى قرى صعيد مصر اشترى أحد الشيوخ البسطاء صحيفةً وعندما قرأها لفت انتباهه خبرٌ غريبٌ هو أن رئيس وزراء اليابان "كاتسورا" أرسل خطاباتٍ رسميةً إلى دول العالم ليرسلوا إليهم العلماء والفلاسفة والمشرعين وكل أصحاب الديانات لكي يجتمعوا في مدينة طوكيو في مؤتمرٍ عالميٍ يتحدث فيه أهل كل دينٍ عن قواعد دينهم وفلسفته، ومن ثَمَّ يختار اليابانيون بعد ذلك ما يناسبهم من هذه الأديان ليكون ديناً رسمياً للإمبراطورية اليابانية بأسرها؛ وسبب ذلك أن اليابانيين بعد انتصارهم المدوي على الروس في معركة تسوشيما عام 1905م رأوا أن معتقداتهم الأصلية لا تتفق مع تطورهم الحضاري وعقلهم الباهر ورقيهم المادي والأدبي الذي وصلوا إليه فأرادوا أن يختاروا ديناً جديداً للإمبراطورية الصاعدة يكون ملائماً لهذه المرحلة المتطورة من تاريخهم. وقيل إن المؤتمر كان للحوار والتعاون بين الأديان. على أية حال أسرع هذا الصعيدي البطل إلى شيوخ الأزهر يستحثهم للتحرك السريع لانتهاز هذه الفرصة الذهبية لنقل دين محمدٍ إلى أقصى بقاع الأرض، فلم يسمع الشيخ إلا عبارات "إن شاء الله"، و"ربنا يسهل"! فكتب الشيخ في صحيفته الخاصة "الإرشاد" نداءً عاماً لعلماء الأزهر لكي يسرعوا بالتحرك قبل أن يفوتهم موعد المؤتمر، وسعى حثيثاً إلى الدعوة لتشكيل وفدٍمن العلماء المصريين يكون له سبقٌ في تمثيل الدين الإسلامي بالمؤتمر، وكتب يقول: "إن مسلمي مصر أولى بأن يحوزوا هذه الفضيلة لوجود الأزهر بين ظهرانيهم"، ولكن لا حياة لمن تنادي. ورغم هذا الإحباط لم يستسلم هذا الصعيدي البطل فحمل هَمَّ أمةٍ كاملةٍ على كتفيه وانطلق إلى قريته الصغيرة ليبيع خمسة أفدنةٍ من الأرض لينفق من حسابه الخاص على تكاليف تلك المغامرة العجيبة التي انتقل فيها على متن باخرةٍ من الإسكندرية إلى إيطاليا ومنها إلى عدن في اليمن ومنها إلى بومباي في الهند ومنها إلى كولمبو في جزيرة سيلان "سيريلانكا حالياً"، ومن هناك استقل باخرةً لشركةٍ إنجليزيةٍ متجهةً لسنغافورة ثم إلى هونج كونج ثم إلى سايغون في الصين ليصل أخيراً إلى ميناء يوكوهاما الياباني بعد مغامرةٍ بحريةٍ لاقى فيها هذا الصعيدي البطل ما لاقاه من الأهوال والمصاعب. في الميناء تفاجأ بوجود شيخٍ هنديٍ وشيخٍ صينيٍ من التركستان الشرقية وشيخٍ قوقازيٍ من مسلمي روسيا، جاءوا مثله على نفقتهم الخاصة ليجدوا أن الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني أرسل وفداً كبيراً من العلماء الأتراك ليجتمع أولئك الدعاة جميعاً ويكونوا وفداً إسلامياً ضخماً مكوناً من مسلمين من أقطارٍ مختلفةٍ ليحمل كل واحدٍمنهم رسالة محمد بن عبد الله في وجدانه ليوصلها إلى إمبراطور اليابان شخصياً، في حين أرسلت بقية الدول وفوداً من كل المذاهب المسيحية. بدأ المؤتمر في الأول من مارس عام 1906م وانتهى دون الاستقرار على دينٍ بعينه؛ إذ إن كل مجموعةٍ من اليابانيين استحسنت ديناً دون الاتفاق على واحدٍمنها، وإن كانت غالبية من حضروا المؤتمر من اليابانيين وجدوا في أنفسهم ميلاً للإسلام الذي أحسن علماؤه بيان ما فيه من قواعد ومبادئ يتفق معها العقل والمنطق. وأعلن الإمبراطور الياباني "الماكيدو" أن حرية الأديان مكفولةٌ لجميع المواطنين، وكاد الإمبراطور نفسه أن يُسْلِم على يد ذلك الشيخ بعد أن أبدى إعجابه بالإسلام، لولا خوفه من انشقاق أمّته على بعضها. اشترك الشيخ مع ثلاثةٍ من الدعاة هُم: سليمان إمباركد من الصين، ومخلص محمود من روسيا، وحسين عبد المنعم من الهند، في تأسيس جمعيةٍ في طوكيو للدَّعوة الإسلاميَّة، وانطلقوا إلى شوارع طوكيو ومعهم مترجم، يدعون المواطنين اليابانيين إلى الإسلام؛ فأسلم على أيديهم اثنا عشر ألف ياباني، أسلم نصفهم في فترة وجود الشيخ في اليابان. عاد الشيخ بعدها إلى مصر، وأصدر في عام 1907م كتاباً أسماه “الرحلة اليابانية” عرض فيه تفاصيل رحلته إلى اليابان، وفي العام ذاته أسس جريدة "الأزهر المعمور" واستمر بالعمل بها حتى وافته المنية عام 1961م. وهو يُعد بذلك أول داعيةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث. قيل عنه: «لو ظل هذا الرجل في اليابان لاعتنق معظم أهلها الإسلام». هذا الشيخ اسمه: علي أحمد علي الجرجاوي، من قرية أم القرعان مركز جرجا محافظة سوهاج بصعيد مصر، فهل سمع أحدٌ منا عنه أو عرف قصته؟!

أحبتي في الله .. انظروا إلى همة هذا الرجل، إنها بحقٍ (همة أحيت أمة). لقد كانت همته في الدعوة إلى الله سبباً في تعريف أمةٍ كاملةٍ بدين الإسلام. لقد بادر الشيخ إلى تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، وكان شعاره: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، فاستحق من الأجر بإذن الله ما لا يمكن إحصاؤه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]، وفاز بالخير كله مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]،وذلك حينما حمل لواء: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً].
يقول أهل العلم إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من أعظم خصائص أمَّة الإسلام، فهي تهدي كلَّ أحدٍ إلى كل خيرٍ إلى قيام الساعة؛ فقد ختم الله بنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم الرسالات، وجعل دعوتَه عامةً إلى أمم الأرض كلها.
ودعوة الناس إلى الإسلام وهدايتهم إليه من أوجب الواجبات، لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً في وجوبها؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾، أي أن تكون هناك فرقةٌ من الأمة تقوم بواجب الدعوة إلى الله، وإن كان ذلك واجباً على كل فردٍ من الأمة بحسب قدرته واستطاعته؛ فمن يقدر على الدعوة بنفسه يجب عليه القيام بها، ومن لا يقدر فإنه قادرٌ على إعانة القادرين عليها، وإذا كان العامة غير قادرين على الدعوة بالأسلوب النظري والمناهج الدعوية المدروسة، فهم قادرون على الدعوة بالأسلوب العملي بالتزامهم بتعاليم الإسلام؛ فقد اهتدى إلى الإسلام كثيرون بسبب المعاملة الحسنة والسلوك الحميد من خواص المسلمين وعوامهم، إضافةً إلى أن عوام المسلمين قادرون أيضاً على إعانة القادرين على الدعوة بأموالهم، وتيسير وسائل الدعوة لهم. وإذا كان عامة المسلمين يحصل لهم من الفضل ما يحصل لغيرهم إن قاموا بالدعوة بأية صورةٍ من صورها، فإن كل مسلمٍ عليه تبعةٌ مقابل ذلك، فأي إهمالٍ من المسلم لواجباته تجاه دينه يجلب المعاناةَ للمسلمين كافةً، ويُعِين كثيراً ممن يسعون إلى تشويه الإسلام، وكثيرون هم الذين صدَّهم عن الإسلام معاملةٌ سيئةٌ، أو هضمُ حقوقٍ، أو إغلاظٌ في المعاملة من بعض المنتسبين إلى الإسلام، فويلٌ للذين يصرفون الناس عن الإسلام، وينفرونهم عنه بسوء قولهم أو فعلهم.
إن كثيراً من الناس يجهل أهمية الدعوة الفردية رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بها خاصةً في أول مراحل الدعوة؛ فقد وضع عن طريقها اللبنات الأساسية للدولة الإسلامية؛ فهي التي أثّرت في الناس أيما تأثيرٍ فجعلت الأفراد المتمسكين بهذا الدين مضَّحين له بالغالي والنفيس.
لن يستقيم لهذه الأمة أمرٌ، ولن تُحفظ هويتُها إلا بالدعوة إلى الله وإلى الإسلام الذي هو الدين عند الله؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾.
إن الدعوة إلى الله دعوةٌ مباركةٌ، طيبة الثمار، تُنتج أفراداً ملتزمين بالإسلام التزاماً صحيحاً، كما أنها من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم يُثاب فاعلها.
يقول أحدهم ملخصاً موضوع الدعوة الفردية: "إن انتمائي إلى الإسلام يجب أن يجعل مني صاحب رسالةٍ في الحياة، ويفرض عليّ أن أعمل ليكون المجتمع الذي أعيش فيه مسلماً ملتزماً؛ فإنه لا يكفي أن أكون مسلماً وحدي دونما اهتمامٍ بمن حولي". وقال آخر: "أأسف كثيراً عندما أسمع من يستدل بضعفه وعجزه وتكاسله بقول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقد نسي أو تناسى أنه لم يبذل الوُسع بعد؛ فالآية تحث على البذل والعمل حسب الطاقة لا كما يظن، وكم منحنا الله من طاقاتِ مالٍ ووقتٍ وصحةٍ وعقلٍ نهدرها فيما لا يفيد، ثم نعتذر عن واجب الدعوة ونحن لم نبذل الوُسع الذي تفضل به الله علينا!".

أحبتي .. إن الشيخ علي الجرجاوي واحدٌ من الذين بادروا إلى رفع راية الدعوة إلى الله، والذين يصح القول في شأنهم إن رُبَّ (همة أحيت أمة). إن هؤلاء ينبغي أن تُدرَس قصصهم في المناهج الدراسية، وتُذاع حكاياتهم في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، وتُسمى بأسمائهم الشوارع والمدارس؛ ليتعرف الناس على جهودهم، وليكونوا قدوةً صالحةً لشبابنا الذين يبحثون الآن عن قدوةٍ فلا يجدونها إلا في نماذج مريضةٍ معيبةٍ مشوهة. إذا أردنا العزة والتمكين وتغيير الأحوال إلى الأصلح علينا أن نبدأ بإصلاح أنفسنا وأبنائنا وأهلينا ومجتمعنا؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. فلنبدأ بأنفسنا؛ ولنا في نبينا عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة، أمَرَه ربُه تبارك وتعالى في بداية الدعوة بقوله: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾.
على كلٍ منا أن يحافظ على عباداته، ويسمو بأخلاقه، ويرتقي بمعاملاته، وأن ينوي أن يكون ذلك في سبيل الدعوة إلى الله والتعريف بدين الإسلام؛ فيؤجَر على كل عبادةٍ يلتزم بأدائها، وكل عملٍ حسنٍ يقوم به، وكل كلمةٍ طيبةٍ يتفوه بها، حيث يكون وقتها داعيةً إلى الله بالتزامه وأخلاقه وسلوكه.
اللهم أعنا لنكون خير سفراء لديننا، وخير نماذج لما ينبغي أن يكون عليه المسلم المعاصر المتمسك بوعيٍ بكتاب الله وسُنة رسوله الكريم.
http://bit.ly/35FfPTX