الجمعة، 30 أغسطس 2019

عبادة على حرف!


الجمعة 30 أغسطس 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٢
(عبادة على حرف!)

يَحكي أحد الشيوخ الأفاضل قصة فتاةٍ كانت تحب ابن عمها حباً شديداً، وتدعو الله صباحَ مساء أن يكون زوجاً لها، وتُكثر من العبادة وقيام الليل والدعاء بأن يحقق لها المولى عزَّ وجلَّ أملها، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فقد تزوج ابن عمها ابنة عمٍ أخرى، فتغير حال الفتاة وأصابها الحزن والكآبة، وتركت العبادة والدعاء، واتصلت أثناء ذلك على ذلك الشيخ، وشكت له حالها وأنها تركت العبادة والدعاء وقيام الليل بسبب ترك ابن عمها لها، فقال لها الشيخ: "افتحي المصحف وانظري إلى الآية رقم 11 من سورة الحج، وستجدين فيها حلاً لمشكلتك"، وكان فضيلته يحيلها إلى الآية التي تذكر الناس الذين يعبدون الله (عبادة على حرف!).

أحبتي في الله .. يقول العلماء أن الله سبحانه وتعالى قد بَيَّن لنا أن الابتلاءات سنةٌ ربانيةٌ؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾، وأمام هذه الابتلاءات ترى ضعاف الإيمان يسألون الله ويظلون في الدعاء المستمر ليكشف عنهم الله تعالى الغُمة والابتلاء، وعندما يأتي الله بالفرج وتنزاح غمتهم ينقطع ذلك الوصال الرباني، فما عرفوا الله تعالى إلا وقت حاجتهم، ونسوه وقت الرخاء، هؤلاء كانت عبادتهم لله (عبادة على حرف!)، أما المؤمنون حقاً فهم عندما يتعرضون للاختبارات والامتحانات والابتلاءات والفتن يزدادون قُرباً إلى الله، وليس بعداً أو انقلاباً.

يقول تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ وعلى حرف هنا بمعنى على شرطٍ أو على شك؛ ذلك أنه كان ناسٌ من قبائل العرب ومَن حولهم مِن أهل القرى يقولون: "نأتي محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن صادفنا خيراً من معيشة الرزق ثبتنا معه، وإلا لحقنا بأهلنا"، وهؤلاء هم المنافقون، إن صلحت لهم دنياهم أقاموا على العبادة، وإن فسدت عليهم دنياهم وتغيرت، انقلبوا فلا يقيمون على العبادة إلا لما صلح من دنياهم، فإن أصابتهم فتنةٌ أو شدةٌ أو اختبارٌ أو ضيقٌ، تركوا دينهم ورجعوا إلى الكفر.
وقيل في سبب نزول هذه الآية أن رجلاً من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده، وتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَقِلْني، فقال: [إن الإسلامَ لا يُقال]، فقال: إني لم أَصِب في ديني هذا خيراً؛ أَذْهَبَ بصري ومالي وولدي، فقال: [يا يهوديّ، إن الإسلامَ يَسْبِكُ الرِجالَ كما تَسْبِكُ النارُ خَبَثَ الحديدِ والفضةِ والذَهب]؛ فأنزل الله تعالى الآية.
وقيل أن هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة ذلك أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر أمره: ادعُ لي ربّك أن يرزقني مالاً وإبلاً وخيلاً وولداً حتى أومِن بك وأعدِل إلى دينك؛ فدعا له فرزقه الله عزَّ وجلَّ ما تمنّى؛ ثم أراد الله فتنته واختباره - وهو أعلم به - فأخذ منه ما كان رَزَقه به بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام.

وقريبٌ من ذلك، لكن بغير رِدةٍ إلى الكفر ولله الحمد، ما يحدث في موسم الامتحانات المدرسية والجامعية كل عامٍ، حيث نرى الكثير من الطلبة يواظبون على صلاة الجماعة بالمسجد، ويحرصون على صلاة الفجر، ويتسابقون ليكونوا في الصف الأول، يُصَلُّون بخشوعٍ ويُمسكون بالمصاحف يقرأون ما تيسر من القرآن، تراهم يطيلون السجود يدعون الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم وييسر لهم طريق النجاح ويحقق أمانيهم، فإذا انتهت فترة الامتحانات لا ترى منهم إلا القليل! فقد كانت عبادتهم لله (عبادة على حرف!)،
وكذلك أي شخصٍ - أياً كانت مهنته أو وظيفته أو عمله - إذا هو عَبَدَ اللهَ سبحانه وتعالى حق عبادته وقت الحاجة فقط، أو إذا ترك العبادة كلها أو قَصَّر فيها وقَلَّل منها حين يتعرض لابتلاءٍ أو تصيبه مصيبةٌ أو ينزل به عارضٌ من عوارض الدنيا.
كلما رأيتُ شخصاً من هؤلاء تذكرتُ من الشعر هذا البيت المشهور:
صَلَّىٰ المُصَلّي لأمرٍ كَانَ يَطْلُبُهُ
لَمَّا انْقَضَىٰ الأمْرُ لا صَلَّىٰ وَلا صَامَا

يتساءل أحد الصالحين ويقول: في أي شريعةٍ يكون هذا الأمر؟ وفي أي ملةٍ ودين؟ هذا الأمر ضربٌ من ضروب الحيلة، ويمكن لك أن تتحايل على الناس، أما الله سبحانه وتعالى فلا يمكن لك أن تستخدم الحيلة معه، فهو كما وصف نفسه: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾. عندما تعبد الله لتحقيق أمرٍ ما، وبمجرد أن يتحقق - أو لا يتحقق - تترك العبادة، هذا يعني أنك تعبده سبحانه على شرط، وهذا ما لا يجوز على الإطلاق، أيجوز أن يشترط العبد الضعيف على خالقه؟ لا شك أن من يفعل ذلك إنسانٌ منافقٌ ضعيف الإيمان.

أحبتي .. حذارِ ثم حذارِ من عبادة الله (عبادة على حرف!)، نعرفه ونسعى إليه وقت الشدة ثم ننساه إذا لم تتحقق حاجتنا أو نصل إلى مبتغانا، أو بعد انقضاء الشدة وتَحَقُق المصلحة وانتهاء الحاجة!
فلنراجع أنفسنا؛ ولنعبد الله لأنه أهلٌ للعبادة، ليس لأي سببٍ آخر. لنعبد الله في كل وقتٍ وحين، ولا ننساه أبداً حتى لا يتحقق وعيده فينسانا فنكون من المنافقين الفاسقين الذين يقول تعالى عنهم: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك. اللهم يَسِّر لنا أن نعبدك في السراء والضراء، في السر والعلن، وقت السرور ووقت الضيق، ولا تجعلنا من المنافقين ولا الفاسقين. تجاوز اللهم عن تقصيرنا، ورُدنا إليك وإلى دينك رداً جميلاً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2ZoPJoM

الجمعة، 23 أغسطس 2019

وما كان ربك نسيا/1

الجمعة 23 أغسطس 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠١
(وما كان ربك نسيا)

سامح شابٌ من سكان القاهرة، خريج كلية ألسن قسم ألماني يروي قصته فيقول: كنت متوجهاً في أحد الأيام، بصحبة بعض الزملاء، إلى الجامعة لأداء امتحان، أثناء سيرنا في أحد الشوارع رأينا رجلاً كبيراً ملقىً الأرض، جرينا نحوه لنعرف ما به، وجدناه في غاية التعب والإرهاق وغير قادرٍ على التنفس بشكلٍ طبيعيٍ، يتصبب عرقاً، يحاول أن يتكلم ولا يستطيع، اتصلنا بالإسعاف لكن للأسف مر وقتٌ طويلٌ ولم تصل سيارة الإسعاف. تأخرنا كثيراً واقترب موعد الامتحان، ووجدت أصدقائي يتركونني وحدي مع الرجل المريض ويتوجهون واحداً تلو الآخر إلى الكلية حتى لا يفوتهم الامتحان. بقيتُ أنا وحدي مع هذا الرجل لا أدري كيف أتصرف. الناس من حولي إما مشغولٌ بنفسه، أو لا يريد أن يجر على نفسه المشاكل إذا هو ساعد رجلاً لا يعرفه. نظرتُ إلى الرجل فإذا به وقد دخل في غيبوبة، لم أستطع أن أتركه وأمشي هكذا ببساطة، تذكرتُ الامتحان الذي يكاد يفوتني، وفكرتُ في هذا الرجل الملقى أمامي على الأرض، واحترتُ؛ ماذا عساني أفعل؟ حسمتُ أمري واتخذتُ قراري؛ فأوقفتُ سيارة أجرة ونقلتُ الرجل إلى أقرب مستشفى، تم حجز الرجل في العناية المركزة، وظللتُ بجانبه حتى وقت العصر، ومن شدة تعبي وجدتني وقد غلبني النوم فألقيتُ بجسمي على أريكةٍ بجوار سريره واستغرقتُ في نومٍ عميق. أفقتُ على حركةٍ بالغرفة فإذا بطبيبٍ يشد على يدي ويقول لي: "لولا سرعة نقلك له - يقصد الرجل المريض - للمستشفى لكان قد أصيب بشللٍ رباعيٍ ناتجٍ عن جلطةٍ في المخ. لقد وصل إلينا في الوقت المناسب تماماً، وقمنا بإجراء ما يلزم وسيتعافى بإذن الله". فرحتُ جداً عندما علمتُ أن الرجل يتماثل للشفاء، رغم أني لا أعرفه، لكني أحسستُ بارتياحٍ نفسيٍ، على الأقل لم تذهب تضحيتي بالامتحان بغير فائدة!
ظللتُ أزوره يومياً حتى ترك العناية المركزة، ونقلوه إلى غرفةٍ عاديةٍ حيث بدأت صحته في التحسن وصار من الممكن أن يتكلم، تعارفنا، شكرني، تركتُ له اسمي ورقم هاتفي وطلبتُ منه أن يتصل بي في أي وقتٍ إذا احتاج لشيءٍ، وتركته وخرجت. لم أحزن كثيراً لرسوبي في المادة التي كنت في طريقي للامتحان فيها، فهذا كان أمراً متوقعاً، لكني حزنت جداً عندما أعلنت إدارة الكلية قبيل انتهاء العام الدراسي عن منحةٍ دراسيةٍ مجانيةٍ لإكمال الدراسة في ألمانيا بشرط النجاح في جميع المواد وفي كل سنوات الدراسة بتقدير جيد على الأقل، وكان رسوبي في تلك المادة هو المانع الوحيد أمامي للحصول على هذه المنحة. مرت الأيام وامتحنت المادة ونجحت فيها وتخرجت، لكني كنت بائساً ليس لديّ رغبةٌ في أي عمل، خاصةً عندما أتذكر زملائي الذين فازوا بالمنحة وسافروا إلى ألمانيا ليكملوا دراستهم بها ويعودوا بشهادةٍ تساعدهم على الحصول على أفضل فرص العمل بمصر. أما أنا فقد مرت عليّ الأيام بطيئةً مملةً، كلها متشابهةٌ، مرت بلا طعمٍ وبغير هدف، حتى كان ذلك اليوم المشهود، يومٌ لن أنساه ما حييت؛ حيث لحظةٌ واحدةٌ غيرت حياتي كلها تغييراً جذرياً، حدث فيها ما لم يكن في حسباني وما لم يخطر على بالي أبداً، ولا حتى في الأحلام. كنتُ في ذلك اليوم على موعدٍ لمقابلة عملٍ في إحدى الشركات الكبيرة في مصر، وكنتُ قد أعددتُ نفسي جيداً استعداداً لتلك المقابلة، لكن للأسف ذهبت الوظيفة إلى غيري صاحب الواسطة الكبيرة! لا أنسى ذلك اليوم أبداً، خرجتُ من الشركة، وقد اسودت الدنيا في عينيي، أو بالأحرى اشتد سوادها. من شدة حزني ارتفع ضغط دمي، وأحسستُ بألمٍ شديدٍ في عينيي اللتين بدأتا تدمعان لا إرادياً، أسير كالأعمى أكاد لا أرى، وشريط الفرص التي ضاعت مني يمر في مخيلتي. وصلتُ إلى البيت وأنا صامتٌ، لا أريد أن أتكلم مع أحد، ولا أجيب على أسئلة أهلي، أردتُ فقط أن أنام، دخلتُ إلى غرفتي وألقيتُ بنفسي على السرير، أريد أن أصرخ من شدة حزني، أكاد أنفجر من الغضب والغيظ والإحساس بالظلم. وحتى أُنَّفِس عن نفسي هذا الغضب الهائل وهذه المشاعر السلبية أمسكتُ بهاتفي وكتبتُ على صفحتي على الفيس بوك: "لماذا يا رب خذلتني، لماذا تخليت عني؟". كنتُ منهاراً انهياراً شاملاً نفسياً وجسدياً فنمت، استيقظتُ في منتصف الليل بسبب كوابيس كثيرةٍ، فتحتُ الفيس مرةً أخرى فوجدتُ رسالةً من شخصٍ ليس على قائمة الأصدقاء، لا يضع اسماً حقيقياً، ولا يضع صورته، وجدته وقد كتب لي يقول: "مساء الخير يا سامح، هل أنت بخير؟ طمني عنك؟"، تعجبتُ من كونه يعرفني بالاسم؛ فكتبتُ أقول له: "الحمد لله، أنا بخير، عفواً من معي؟"، رد عليّ بقوله: "غير معقول! ألا تعرفني يا سامح؟ أنا الرجل الذي أنقذته من الموت"، قلت: "أهلاً بك، كيف حالك؟ كيف وصلت إلى صفحتي على الفيس بوك؟!"، قال: "بحثتُ برقم هاتفك المسجل لدي فوجدتُ صفحتك. لفت نظري ما كتبتَ، أخبرني، ما بك؟ ما الذي يضايقك إلى درجة أن تكتب لماذا يا رب خذلتني؟". أخبرته بما حدث في المقابلة للوظيفة التي لم أحصل عليها، وكيف أني ظُلمت في ذلك بسبب عدم وجود واسطة معي، فوجئت به يسألني إن كنتُ أرغب في السفر إلى ألمانيا. قرأت سؤاله مرتين وبقيتُ للحظات لا أصدق ما تراه عيناي. أجبته بتلقائية: "هل أنت جاد؟!"، قال لي: "أنا مستثمرٌ أقيم في ألمانيا منذ فترةٍ طويلة. وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه لك بعد كل ما قدمته لي". مرت الأيام، وصدق الرجل في وعده، سافرتُ إلى ألمانيا، وسهّل لي كل إجراءات الإقامة والعمل. الغريب في الأمر أني عندما قابلت أصدقائي هناك استغربوا جداً وسألوني كيف أتيتَ إلى ألمانيا؟! حكيتُ لهم قصة الرجل الذي نقلته إلى المستشفى بسيارة أجرة وقت الامتحان، وكيف أنه ساعدني للحضور.
سبحان الله؛ كنتُ أحلم بمنحةٍ دراسيةٍ لعدة أشهرٍ في ألمانيا أعود بعدها للعمل في مصر، لكن الله سبحانه وتعالى بكرمه وإحسانه رزقني إقامةً دائمةً في ألمانيا، وعملاً مستمراً أحسن وأفضل بكثيرٍ مما كنتُ أحلم أو أتصور؛ وصدق قوله تعالى: (وما كان ربك نسيا).

ويُحكى أن رجلاً تُوفيَّ وترك زوجته الشابة هي وابنهما الرضيع، وورث الابن الرضيع عن أبيه بعض الممتلكات. طلب أخو الزوج المتوفَى من أرملة أخيه أن يتبنى الطفل الرضيع ويُربيه ويحافظ له على ممتلكاته؛ فقامت بعمل توكيلٍ رسميٍ لعم الطفل يُخول للعم الحق في التصرف في ممتلكات الطفل وكأنه مالكها؛ فقام الرجل ببيع الممتلكات التي تخص ابن أخيه، واستولى على ثمنها، وترك البلد وسافر إلى أمريكا.
تزوج من أمريكيةٍ وأنجب منها وأصبحت لديه أسرةٌ وأبناء. ساعدته زوجته في عمله واستثمار ما معه من مالٍ فبدأ بتجارة السيارات وصارت لديه ثروةٌ كبيرةٌ تقدر بالملايين، بينما كانت أرملة أخيه تعيش هي وابنها في فقرٍ مدقع، ولولا أن سخَّر الله لهما من أهل الخير من ينفق عليهما لماتا جوعاً. بعد خمسةٍ وعشرين عاماً قرر العم الهارب العودة إلى بلده بالأموال التي استثمرها في أمريكا، وقام بشراء أرضٍ كبيرةٍ بنى عليها قصراً فخماً في أرقى الأماكن بالعاصمة، وافتتح مشروعاً تجارياً كوكيلٍ لشركةٍ عالميةٍ لبيع السيارات، وأصبح من أشهر رجال الأعمال، وذاع صيته في البلاد. كبر الطفل وأصبح شاباً وعلم بأمر عودة عمه وما صار عليه من مكانةٍ وما يمتلك من ثروةٍ، فذهب إليه يطلب منه بعضاً من ماله الذي ورثه عن أبيه، طرده عمه وقال له أن ليس له عنده شيءٌ، وطلب منه ألا يأتي لزيارته مرةً أخرى. عاد الشاب إلى أمه حزيناً مكسور الخاطر. عندما انتهى العم من تجهيز القصر بأفخم وأحدث أنواع الأثاث استدعى عائلته من أمريكا لتعيش معه في مصر؛ وذهب يوم وصولهم ليستقبلهم في المطار، ذهب بسيارته الحديثة الفارهة واستقبل زوجته وأبناءه، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن تقع لهم حادثةٌ مروعةٌ وهم في طريقهم من المطار إلى القصر، فلقوا جميعهم مصرعهم في الحال.
وكانت المفاجأة أن الشاب اليتيم هو الوريث الوحيد لمال عمه الذي تُوفي! سبحان الله، وكأن عمه رجع إلى البلاد ليموت بها، ويورثه ابن أخيه، ويرجع المال لصاحبه. وكأن الله سبحانه وتعالى قد سخَّر للطفل الرضيع الضعيف عمه، الذي زين له الشيطان أن يسرق مال ابن أخيه فهرب بالمال واستثمره، ثم وبعد خمسة وعشرين عاماً يعود المال لصاحبه! يعود ومعه واحدةٌ من أكبر الشركات، وقصرٌ واسعٌ منيفٌ مؤثثٌ بأفخم الأثاث ومجهزٌ بأفضل الأجهزة! لعلها دعوة المظلوم؛ فليس بينها وبين الله حجابٌ (وما كان ربك نسياً).

أحبتي في الله .. قصتان حقيقيتان حدثتا بالفعل: تُبين القصة الأولى عدم نسيان المولى عزَّ وجلَّ عمل خيرٍ رآه صاحبه بسيطاً، واعتبره واجباً ينبغي القيام به؛ فلم يتأخر عن تقديم العون والمساعدة لرجلٍ غريبٍ لا يعرفه، لكنه كان في حاجةٍ إلى المساعدة والمعاونة، فأعطاه الله سبحانه وتعالى أجره في الدنيا بأكثر مما كان يتوقع، وسيكون ثوابه في الآخرة عظيماً بإذن الله. أما القصة الثانية فتُبين عدم نسيان المولى عزَّ وجلَّ عمل شرٍ استصغره من قام به، وظن أن استيلاءه على مال يتيمٍ قريبٍ وحرمانه من حقه الشرعي في إرثٍ ورثه عن أبيه أمرٌ بسيطٌ، وزين له الشيطان عمله فأنساه أن الله لا يرضى بالظلم؛ فما كان من الله سبحانه وتعالى إلا أن عاقبه في الدنيا أشد العقاب، وسيكون حسابه في الآخرة عسيراً إن شاء الله.
في الحالتين - رغم أنهما مختلفتان تماماً؛ الأولى عن الخير والثانية عن الشر - إلا أن ما يجمع بينهما هو التأكيد على حقيقة (وما كان ربك نسيا).

وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه صفة النسيان؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾، وكذلك في قوله تعالى: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾.
أما الإنسان فيكون نسيانه في أغلب الأحوال من عمل الشيطان؛ يقول تعالى: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.



قال الإمام الشافعي رحمه الله: "آيةٌ من القرآن هي سَهمٌ في قلبِ الظالم، وبَلسمٌ على قلبِ المظلوم"! قيل: وما هي؟ فقال: "قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾".
وقال أحد العارفين: إذا رأيتَ مَن يَهزَأُ بدين الله، ويتآمر على دعوة الله، ويستبيح حرمات الله. وإذا رأيتَ مَن يداهن الحكَّام، وينافق؛ لينالَ عرضاً من الدنيا. وإذا رأيتَ مَن يكذب على الله في شرعه وسُنة نبيه. وإذا رأيتَ مَن يُلبس على الناس الحقَّ بالباطل، ويخلط بين المعروف والمنكر. وإذا رأيتَ مَن يهتك أعراض الناس بالغيبة أو اللعن أو إشاعة الفاحشة. وإذا رأيتَ مَن يظلم الناس، ويسفك الدماء. وإذا رأيتَ مَن يسرق ويغش ويُدَلِّس. وإذا رأيتَ الظالمين يصادرون الأموال، وينهبون الأغراض، ويهتكُون الأعراض. وإذا رأيتَ تضحيات الصابرين، وصبر المحتسبين، وثبات المظلومين، فقل لكل هؤلاء: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. ولا يغرنَّ أحداً منا حلمُ الله عليه؛ فإنه سبحانه يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، وما من مظلومٍ دعاه إلا رفع دعْوتَه فوق الغمام وفتح لها أبواب السماء، وقال: {وعزتي، لأنصرنَّك ولو بعد حين}.
يقول أهل العلم إن الله تعالى يُمهل مَن عصاه، ويُملي له، فإن تاب إلى ربه ورجع وآب كان ذلك رحمةً من الله تعالى عليه، وإن استمر في طغيانه كان ذلك استدراجاً من الله تعالى، ولكن الله تعالى لا يُهمله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى يُملي - وربَّما قال: يمهلُ - للظَّالِمِ، حتَّى إذا أخذَه لم يُفلِتْهُ] ثم قرأ: ﴿كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

والله سبحانه وتعالى لا يرضى بالظلم، وينتصر للمظلوم ولو بعد حين، لا يهمل ولكن يمهل؛ يقول الشاعر:
لا تظلمنَّ إذا ما كنتَ مُقتدراً
فَالظُلْمُ مَرْتَعُهُ يُفْضِي إلىٰ النَّدَمِ
تَنامُ عَيْنُكَ وَالمَظْلومُ مُنَتَبِهٌ
يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ

في المقابل أقول: لا تستصغر أي عملٍ من أعمال الخير، بل سارع فيه وكُن من السابقين؛ قال تعالى واصفاً المؤمنين من عباده: ﴿أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾. وإذا رأيتَ مَن يحافظ على الصلاة المكتوبة والسنن الرواتب وغير الرواتب وقيام الليل. وإذا رأيتَ مَن يصوم الفرض والنوافل. وإذا رأيتَ مَن يُخرج زكاة ماله ويحرص على أن يتصدق على الفقراء والمساكين. وإذا رأيتَ مَن إذا أنعم الله عليه بأقل سُبل الاستطاعة بادر إلى حج بيت الله ولم يؤخر ولم يُسَوِّف. وإذا رأيتَ مَن لسانه رطبٌ بذكر الشهادتين مداومٌ على شكر الله والثناء عليه يطلب منه الرحمة والمغفرة. وإذا رأيتَ مَن يتقي الله في معاملاته ويخالق الناس بخُلقٍ حسنٍ ويسارع في عمل الخير، فقل لكل هؤلاء: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾.

أحبتي .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾؛ فذِكرُ الله هو الذي يدفعنا نحو عمل الخير، وهو الذي يبعدنا عن طريق الشر. اللهم اجعلنا ممن يذكرونك في الرخاء قبل الشدة، وفي اليُسر قبل العُسر، واجعلنا اللهم من أهل قولك: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، ولا تجعلنا ممن قلت عنهم: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾، ولا من المنافقين الفاسقين الذين قلت عنهم في كتابك الكريم: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾. ندعوك اللهم بما دعاك به عبادك الصالحون: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، ﴿اللَّهُمَ حَبَّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ﴾ فاستجب لنا ربنا، أنت مولانا؛ فنعم المولى ونعم النصير.


http://bit.ly/2Nok3IR

الجمعة، 16 أغسطس 2019

عناية الله

الجمعة 16 أغسطس 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٠
(عناية الله)

تمثلت (عناية الله) التي تحيط بالبشر في كل زمانٍ ومكان، في معجزةٍ ربانيةٍ وقعت قبل أيامٍ في مكة المكرمة، لم يشعر بها إلا قليلٌ من الناس!
كانت أعدادٌ كبيرةٌ من المُحْرمين يقفون على مداخل عرفات، وقد تعذر عليهم دخولها لعدم حصولهم على تصاريح الحج حسب الأنظمة المعمول بها، وقام جنود الأمن بمنعهم من الدخول. عيونهم تتطلع إلى عرفات، وأفئدتهم متعلقةٌ برحمة الله سبحانه وتعالى، وألسنتهم تلهج بالتلبية: "لبيك اللهم لبيك"، لا يملون من ذكر الله والدعاء له مخبتين خاشعين، لسان حالهم يقول: "لبينا يا الله فاقبلنا، إنا ضيوفك يا الله فلا تُرجعنا، لا تردنا ربنا ونحن واقفون ببابك". يمر الوقت عليهم وهم ممنوعون من الدخول إلى حيث رُكْن الحج الأكبر بالوقوف في عرفات. يدعون الله سبحانه وتعالى بتضرعٍ وتذللٍ وإخلاص. ثقتهم في الله مطلقة، وحسن ظنهم بالله كبير. ينتظرون معجزةً تحقق لهم أغلى أمانيهم، لا يحول دون تحقيقها سوى تلك الحواجز الحديدية الموضوعة أمامهم تسد الطريق عليهم وتحول بينهم وبين العبور إلى عرفات. لا يفكرون في طعامٍ أو شرابٍ، لا يشعرون بتعبٍ ولا إرهاقٍ - رغم وقوفهم تحت الشمس الحارقة لساعاتٍ طوال - كل ما يشغلهم هو الدعاء، يدعون ربهم ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾، دامعةً عيونهم، منكسرةً نفوسهم، كلما طال انتظارهم قل أملهم حتى كاد أن يتلاشى؛ فها هو وقت العصر قد اقترب، وكاد النهار أن ينتهي، وإذا انتهى النهار تبخر أملهم وضاع حلمهم وتبددت أمنيتهم الغالية. وقبل الغروب بوقتٍ قصير، ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ إذا (عناية الله) لم تتخلَ عنهم، وإذا رحمته سبحانه وتعالى بهم تأتيهم من حيث لا يحتسبون، وإذا بالمعجزة الربانية تقع؛ فتتعالى صيحاتهم: "الله أكبر، الله أكبر". لم تصدر الأوامر من البشر بالسماح لهم بالدخول إلى عرفات، وإنما ﴿أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ﴾ رب البشر، من فوق سبع سمواتٍ بالسماح لهم بالدخول؛ فإذا بجنود الله تُنَفِّذ الأمر؛ فتطيح الريح بالحواجز الحديدية، وتفتح الأمطار الشديدة الطريق المغلقة لهؤلاء الذين وقفوا يدعون الله سبحانه وتعالى ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ فيتحقق أملهم ويعبرون إلى عرفات! إنها حقاً (عناية الله). في لحظاتٍ تبدلت الأحوال، دون تمهيد، اختفى قرص الشمس، دوى صوت الرعد دوياً شديداً، وجاءت ريحٌ عاصفٌ اقتلعت الحواجز الحديدية الثقيلة لتتطاير في الهواء كما لو كانت أوراقاً، وهطلت أمطارٌ غزيرةٌ؛ فوقف هؤلاء المحظوظون مكبرين؛ لم يحصلوا على تصريحٍ للحج من العباد، لكنهم حصلوا على هذا التصريح من رب العباد!
إنها (عناية الله) التي أدخلتهم إلى صعيد عرفات ملبيين مهللين؛ فمع هذا الطقس الغريب تحول الوضع عند الحواجز، فما كان لأحدٍ أن يوقف أحداً ليسأله هل معه تصريحٌ أم لا!
إنها واللهِ لمعجزةٌ كبيرةٌ، ونعمةٌ عظيمةٌ أنعم الله سبحانه وتعالى بها على بعض عباده ممن وقفوا ببابه، لم يملوا ولم ييأسوا، بل ظلوا يدعونه سبحانه وتعالى وهم ينتظرون رحمته، واثقين كل الثقة في أن العزيز الحكيم لن يخذلهم أبداً، يشعرون في قرارة أنفسهم بأنهم سيدخلون عرفات وسيكونون ممن كُتب لهم الحج، لكن لم يكن يخطر ببال أيٍ منهم للحظةٍ واحدةٍ كيف سيتحقق ذلك!

أحبتي في الله .. لم أتمالك نفسي وأنا أتابع تفاصيل هذه المعجزة الربانية؛ فإذا عيناي تفيضان بالدموع مستشعراً حال أولئك الذين مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليهم بفضله، وفتح لهم الأبواب الموصدة ليكونوا من بين حجاج هذا العام. أي شعورٍ جياشٍ يا تُرى أحسوا به؟ وأية سعادةٍ طاغيةٍ غمرتهم؟ وأي إحساسٍ بمعية الله وعظمته وقدرته ورحمته تملكهم في تلك اللحظات؟ أحس بهم وقد اختلطت تلبيتهم بالشكر والثناء، وامتزجت مشاعرهم بالفرح والبكاء.
لقد تابع الملايين من المسلمين في شتى بقاع الأرض - ممن لم يُكتب لهم أداء شعيرة الحج هذا العام - مسيرة الحجيج في الأيام العشر الأُوَل من شهر الله الحرام ذي الحجة من خلال شاشات التلفاز، وتابعوا أخبارهم من خلال وسائل الإعلام المختلفة وكلهم شوقٌ إلى أن يكونوا مع هؤلاء الحجيج. تابعوا مسيرتهم وقلوبهم تهفو إلى بيت الله الحرام وإلى الكعبة المشرفة وإلى كل مكانٍ من أماكن الشعائر المقدسة، داعين لأنفسهم بأن يكتب الله سبحانه وتعالى لهم زيارة بيته الحرام حجاجاً ومعتمرين في أعوام قادمةٍ، وداعين للحجيج من الأهل والأقارب والجيران والمعارف بأن يُتموا شعائرهم على أكمل وجه، ويعودوا إلى ديارهم سالمين غانمين مستبشرين القبول من الله عزَّ وجلَّ.

وكانت أخبار الطقس تصل إلينا، وشاهدنا بأم أعيننا هذا التحول الكبير في الطقس وتلك الأمطار الشديدة والريح العاصفة، لكن لم يخطر على بالنا أبداً أن مجموعةً من المسلمين كانت تلك العاصفة سبباً في دخولهم عرفات وإتمامهم شعائر الحج!
ما أقدرك يا الله، وما أرحمك يا الله، وما أرأفك يا الله يا رب العالمين. ومَن أصدق منك ربنا حديثاً وأنت سبحانك تقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟ ومَن أوفى منك وعداً وأنت تقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾؟ ومَن أوضح منك بياناً إذ تقول: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾؟
وها هو رسولنا الكريم يوجهنا ويرشدنا ويهدينا؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ]، ويقول  عليه الصلاة والسلام: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ]، ويقول صلى الله عليه وسلم: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي]، ويقول كذلك: [مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ]، ويقول أيضاً: [لَا تَعْجِزُوا فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَهْلِكُ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ].
إنه الدعاء إذن، سلاح المؤمن، إنه - كما يقول أهل العلم - نعمةٌ عظيمةٌ وعبادةٌ في حد ذاته؛ طالما أنت تدعو الرحمن فأنت في عبادةٍ ولك الأجر على ذلك، والله سميعٌ عليمٌ بصيرٌ خبيرٌ يعلم كل ما في صالحك، ويدرك كل أحوالك، فهو الحكيم، يعرف متى يعطيك، ومتى يُبعد عنك ما تريد فقد يكون فيه شرٌ لك.
قال صلى الله عليه وسلم: [يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ: يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي]؛ فإذا جاء الداعي بشروط الدعاء - وأهمها الإخلاص والدعاء بما هو مشروع - واستمر عليه فإنّ ثمرة هذا الدعاء ستكون مضمونةً بإذن الله، فسيحصل على الخير وينال منه ما يريد، فدُعاء المُسلم لا يُهمَل بل يُعطىٰ إليه عاجلاً أو آجلاً؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عنهُ من السُّوءِ مثلَها]. قالوا: إذاً نُكثِرُ، قال: [اللهُ أكثرُ]. وعلى ذلك فقد قسم العلماء الدعاء والاستجابة إلى ثلاث مراتب؛ الأولى: يستجيب الله سبحانه وتعالى لدعائك، الثانية: لا يستجيب الله لدعائك لكنه يدخره لك فيجعله في ميزان حسناتك فينفعك يوم القيامة، الثالثة: يدفع الله به عنك بلاءً لم تكن تعلمه أنت ويعلمه الله علام الغيوب ومقدر الأقدار.
يقول أحد العارفين عن الدعاء أنه سببٌ عظيمٌ للفوز بالخيرات والبركات، وسببٌ لدفع المكروهات والشرورِ والكربات، وهو استعانةٌ من عاجزٍ ضعيفٍ بقويٍ قادرٍ، واستغاثةٌ من ملهوفٍ بربٍ مُغيثٍ، وتوجهٌ إلى مصرِّفِ الكون ومدبِّر الأمر، لِيُزيلَ عِلَّةً، أو يَرْفَعَ مِحْنَةً، أو يَكْشِفَ كُرْبَةً، أو يُحَقِّقَ رجاءً أو رَغْبَةً. فكم سمعنا عمَّن أُغلِقت في وجهه الأبواب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ثم طَرَقَ باب مُسبب الأسباب، وألحّ على الله في الدعاء، ورفع إليه الشكوى، وبكى بين يدي الرب الرحيم، فَفُتِحَتْ له الأبواب، وانفرج ما به من شِدّةٍ وضيق. فالإلحاح في الدعاء سببٌ للإجابة؛ فالله عزَّ وجلَّ يفرح بانكسار عبده بين يديه يباهي به ملائكته، ويعطيه أكثر مما يتوقع ويتخيل.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ]، والحديث وإن كان سنده غير ثابتٍ، لكن معناه صحيح؛ يقول العلماء إن الإلحاح في الدعاء، هو الذي يفتح الأبواب الموصدة والطرق المغلقة، وهو الذي يسهل كل صعبٍ بإذن الله، وهو ملازمٌ للدعاء، فلا ييأس المسلم من الإجابة، وفي ذلك انقيادٌ لله واستسلامٌ له، وإظهارٌ لافتقار العبد إليه، وفيه رضى الله ومحبته، كما أنّه ليس اعتراضاً على القَدر، بل هو سببٌ مشروعٌ لبلوغ المراد، وهو من علامات العبودية والإيمان. ويقولون إن معنى الإلحاح في الدعاء هو لزومه، وتكراره والمداومة عليه، وعدم اليأس من الإجابة؛ وإن أبطأ حصول المطلوب. والمُلِّحون في الدعاء هم الملازمون لسؤال ربهم في جميع الحالات، اللائذون بباب كرمه، لا تقطعهم المحن عن الرجوع إليه، ولا تبعدهم النعم عن الإقبال عليه؛ لأن دعاء المُلِّح دائمٌ غير منقطعٍ، فهو يسأل ولا يرى إجابة، ثم يسأل، ثم يسأل، فلا يرى إجابة، وهكذا. فلا يزال يلح، ولا يزال رجاؤه يتزايد، وفي ذلك دلالةٌ على صحة قلبه، وصدق عبوديته، واستقامة وجهته. فقلب المُلِّح معلقٌ دائماً بمشيئة الله، واستعمال اللسان في الدعاء عبادةٌ، وانتظار مشيئة الله عبادةٌ، فيكون العبد بين عبادتين سريتين، ووجهتين فاضلتين؛ فلذلك يحبه الله تعالى.
يقول الشاعر:
يا مَن له عنت الوجوهُ بأسرِها
وله جميعُ الكائناتِ توحدُ
يا مُنتهىٰ سُؤلي وغايةَ مطلبي
مَن لي إذا أنا عن جنابِك أُطردُ
أنتَ المؤملُ في الشدائدِ كلِها
يا سيدي ولك البقاءُ السرمدُ
ولك التصرفُ في الخلائقِ كلِها
فلذاكَ تَهدي مَن تَشاءُ وتُسعدُ
فامنن عَليّ بتوبةٍ يا مَن له
قلبُ المُحبِ مُقدِّسٌ ومُوحِّدُ

أحبتي .. آمنا بالله، وشهدنا معجزاته، وعلمنا أنه من (عناية الله) أنه لا يُرجِع ضيفاً ولا يَرد ملبياً.
سبحانك يا الله، ها نحن عبيدك، نرفع إليك أكفنا بالدعاء، نتضرع إليك فلا تردنا خائبين. اكلأنا اللهم بعنايتك، واشملنا برعايتك، واكتب لنا اللهم حجاً مبروراً نختم به حياتنا وأعمارنا لنرجع إليك بصحائفنا خاليةً من الذنوب والخطايا كيوم ولدتنا أمهاتنا. إنك سبحانك ولي ذلك والقادر عليه.


http://bit.ly/2YRONZR

الجمعة، 9 أغسطس 2019

إياك وما يُعتذر منه/2


الجمعة 9 أغسطس 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٩
(إياك وما يُعتذر منه)

يُحكى أنه كان هناك شابٌ عصبي المزاجِ سريعُ الغضبِ بشكلٍ لا يُصدق، وكان دائماً ما يغضب ويخرج عن صوابه ويجرح الناسَ بأقواله وأفعاله، وكان والد هذا الشاب رجلاً حكيماً له خبرةٌ كبيرةٌ بالحياةِ، وقد لاحظ هذه الصفة السيئة بابنه، فقرر أن يعلمه درساً ليصلحه ويقومه فأحضر له كيساً مملوءاً بالمسامير الصغيرة وقال له: "يا بني كلما شعرتَ بالغضب الشديد وفقدتَ أعصابك وبدأتَ تفعل أشياء لا تصح، عليك أن تقوم بدق مسمارٍ واحدٍ في السياج الخشبي لحديقة المنزل". نفذ الشاب نصيحة والده؛ وكان كلما شعر بالغضب الشديد دق مسماراً في السياج. لكن لم يكن دق المسامير في السور الخشبي سهلاً؛ فهو يحتاج جهداً كثيراً ووقتاً طويلاً. في اليوم الأول قام الشاب بدق أربعين مسماراً، وتعب كثيراً في دقها، فقرر في نفسه أن يحاول أن يملك نفسه عند الغضب حتى لا يتكبد عناء دق المسامير. مع مرور الأيام نجح الشاب فى إنقاص عدد المسامير التي يدقها، حتى تمكن من ضبط نفسه بشكلٍ نهائي، وتخلص من تلك الصفة السيئة إلى الأبد. مر يومان كاملان والشاب لا يدق أي مسمارٍ في السياج، فذهب إلى والده فرحاً، هنأه الوالد على هذا التحول الجيد، لكنه طلب منه شيئاً جديداً؛ وهو القيام بإخراج جميع المسامير التي سبق أن دقها من السياج! تعجب الشاب من طلب والده، لكنه قام بتنفيذ طلبه فوراً؛ فأخرج جميع المسامير، وعاد مرةً أخرى إلى والده وأخبره بإنجازه، فأخذه والده إلى الحديقة وأشار إلى السياج قائلاً: "أحسنتَ صُنعاً يا بني، ولكن انظر الآن إلى كل هذه الثقوب المحفورة في السياج. هذا السياج مستحيلٌ أن يعود يوماً كما كان، مهما فعلتَ، وهذه الثقوب هي الأفعال والأقوال التي كانت تصدر منك عند الغضب، يُمكنك أن تعتذر بعدها ألف مرةٍ لعلك تمحي آثارها، لكنها دوماً ستترك أثراً في نفوس الآخرين لا يمحيه الزمن".

أحبتي في الله .. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ناصحاً وموجهاً أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: [صَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ كَأَنَّكَ تَرَاهُ؛ فَإِنْ كُنْتَ لا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَآيَسْ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ تَعِشْ غَنِيًّا، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ]. عن عبارة (إياك وما يُعتذر منه) يقول أهل العلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حذَّر من الوقوع فيما يحمل على الاعتذار، فالعاقل هو الذي يفكر في القول قبل أن يقوله، والفعل قبل أن يفعله، فإن رأى في الكلمة خيراً قالها وإلا حبسها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ]، وهو تفسيرٌ لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾، ولقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من الوقوع فيما يغضب الله، وفيما يغضب الناس، فيكون الاعتذار.
أما الاعتذار لله فلابد منه لأنه توبةٌ؛ فيكون التحذير من الذنوب كبيرها وصغيرها، والمعنى: إياك والمعاصي؛ فإنك قد تتمادى فيها فتموت عليها فتدخل النار، وقد تعتذر منها فلا ينفعك الاعتذار، فالأولى ألا تُقدِم عليها، ولا تقرب ما يؤدي إليها.
وأما الاعتذار للناس فهو إرضاءٌ لهم وتطييبٌ لنفوسهم، وبعفوهم يعفو الله عزَّ وجلَّ عنك. والاعتذار إليهم سبيلٌ إلى التسامح والصفح، وهو دليلٌ على مكارم الأخلاق؛ فهو خُلقٌ نبيلٌ، وسجيَّةٌ محمودةٌ لا يتمتَّع بها إلا مَن كان ذا فطرةٍ سويَّةٍ لم تُفسِدْها التَّقاليد الباليَة، والعادات المُتعجرفة، بحيث يأنَفُ المُتكبِّرون من الاعتذار عن أخطائهم التي يرتكِبونها في حقِّ غيرهم من الناس؛ فإن اعتذر المخطئ فهو إنسانٌ متواضعٌ، وإن عفا المعتذر إليه فهو حليمٌ كريم.
وعن الاعتذار من المخطئ وعفو المعتذر إليه يقول العلماء أن التوبة إلى الله سبحانه وتعالى هي المظهر الأسمى للاعتذار من المخطئ، حين يرفع العبد كف ضراعته إلى ربه نادماً باكياً معتذراً، يقول كما قال أبواه آدم وحواء بعد أول ذنبٍ ارتُكب من البشر: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، وأما العفو من المعتذر إليه فكان مثله الأعلى عفو الله سبحانه وتعالى عنهما بقبول اعتذار آدم عليه السلام وتوبته؛ قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في قبول اعتذار المعتذر والعفو عنه، فكان لا يرد معتذراً لما كان في نبينا الكريم من كرم نفسٍ وحُسن خلقٍ؛ وفي موقفه مع حادثة قتل ابنته زينب رضي الله عنها خير دليلٍ على سعة عفوه وعظم نفسه، فعند هجرتها رضي الله عنها دفعها رجلٌ كان مشركاً وقتها وهو هبار بن الأسود، دفعها وهي حبلى فسقطت من فوق بعيرها فأسقطت جنينها ولا زالت مريضةً في المدينة بعدها حتى لقيت ربها، وبعد الفتح يأتي هبارٌ إلى رسول الله ويعتذر إليه فيقول: "السلام عليك يا نبي الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولقد هربتُ منك في البلاد وأردت اللحاق بالأعاجم ثم ذكرتُ عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك، وكنا يا نبي الله أهل شركٍ فهدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة؛ فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني، فإني مقرٌ بسوء فعلي، معترفٌ بذنبي"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ، فَقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ حَيْثُ هَدَاكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ].
وهاهُم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وقد استوعبوا كتاب الله سبحانه وتعالى، وتأسوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، يطبقون مبدأ اعتذار المخطئ وعفو المعتذر إليه تطبيقاً عملياً؛ حين وقعت بين أبي ذرٍ وبلالٍ، رضي الله عنهما، خصومةٌ، فغضب أبو ذرٍ وفلت لسانه بكلمةٍ قال فيها لبلال: "يا ابن السوداء"، فتأثر بلال وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو أبا ذر؛ استدعى النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر، وقال له: [أَعَيَرْتَهُ بِأُمِهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ]، فتأثر أبو ذرٍ وتحسَّر وندم، وقال: "وددتُ واللهِ لو ضُرب عنقي بالسيف، وما سمعتُ ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ووضع أبو ذرٍ خده على التراب معتذراً وقال: "يا بلال؛ ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعها"، فذرفت عينا بلالٍ بالدموع، وقال: "يغفر الله لك يا أبا ذر، يغفر الله لك يا أبا ذر، واللهِ ما كنتُ لأضع قدمي على جبهةٍ سجدت لله رب العالمين"، وتعانقا وبكيا وقد ذهب ما في القلوب من حنقٍ وبغضاء. هذه هي حياتهم يوم تعاملوا بالإسلام كمنهجٍ للحياة، رضي الله عنهم أجمعين.
وكما يحثنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على عدم الخطأ الذي يستوجب الاعتذار بقوله: (إياك وما يُعتذر منه)، فإنه يحثنا كذلك على المبادرة إلى الاعتذار الفعلي حين يكون السلام وسيلةً للاعتذار فيقول: [لَا يحلُّ لمسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَياَلٍ يَلْتْقَيِاَنِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بالسَّلَامِ].
قال الكُتَّاب عن الاعتذار:
"إذا كان الاعتذار ثقيلاً على نفسك، فالإساءة ثقيلةٌ على نفوس الآخرين أيضاً". "لا بأس في الاعتذار، ولكن قول آسف لا يعني الاستمرار في ارتكاب نفس الخطأ مرةً أخرى". "أستطيع مسامحتك على عشرة أخطاء مختلفة، ولكن لن أسامحك على نفس الخطأ مرتين". "بمجرد أن نؤجل تقديم الاعتذار يصبح الأمر أكثر صعوبةً إلى أن يصير في النهاية مستحيلاً". "لا يمكنك قضاء كامل حياتك تعتذر من الآخرين، أصلح من نفسك". وأقول: "الاعتذار فن لا يجيده إلا المخلصون ذوو النفوس المطمئنة والقلوب الصافية النقية".
وقال الشاعر: 
إذا اعتذرَ الجاني محا العُذرُ ذنبَه
وكلُّ امرئٍ لا يَقبَلُ العذرَ مُذنِبُ
وقال الآخرُ:
إذا ما امْرُؤٌ مِن ذنبِه جاءَ تائبًا
إليكَ فلم تَغفِر له فلكَ الذَّنبُ!
وقال ثالثٌ:
خُذْ مِنْ أَخيكَ العَفوَ واغْفِر ذَنْبَه
وَلا تَكُ فِي كُلِ الأُمورِ تُعاتُبُه
فَإنَّكَ لَنْ تَلْقَى أَخاكَ مُهَذَباً
وأَيُ امرئٍ يَنْجو مِنَ العَيْبِ صَاحِبُه؟

أحبتي .. علينا أن نتجنب الخطأ في حق الله سبحانه وتعالى بالحرص على ألا يرانا حيث نهانا ولا يفتقدنا حيث أمرنا، فإذا وقع منا الخطأ بغير قصدٍ في حقه علينا أن نسارع بالاعتذار منه بطلب العفو والمغفرة والتوبة عما ارتكبنا من خطأ. كما أن علينا أن نتجنب الخطأ في حق الناس بكل شكلٍ من الأشكال؛ بالقول أو العمل، بالتصريح أو التلميح، سواءً كانوا حاضرين أم غائبين، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، التزاماً منا بالتوجيه النبوي العظيم (إياك وما يُعتذر منه)، فإذا وقع الخطأ بالفعل فلنبادر، دون إبطاءٍ وبغير كبرٍ، إلى الاعتذار إليهم وطلب الصفح والعفو والسماح منهم؛ فالعمر أقصر من أن نضيعه في تأجيل الاعتذار، أو في انتظار اعتذار الآخرين لنا!
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2KyEuzI

الجمعة، 2 أغسطس 2019

عابر سبيل

الجمعة 2 أغسطس 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٨
(عابر سبيل)

رُوي عن الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه حين فُتحت عليه الفتوحات، قالت له ابنته حفصة - أم المؤمنين رضي الله عنها -: البس ألين الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق، ومُرْ بصَنَعة الطعام تَطْعَمُه وتُطْعِم من حضر. فقال عمر: يا حفصة، ألستِ تعلمين أن أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته؟ فقالت: بلى.
قال: ناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوةً إلا جاعوا عشيةً، ولا شبعوا عشيةً إلا جاعوا غدوةً؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا كذا سنة لم يشبع من التمر هو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قربتم إليه يوماً طعاماً على مائدةٍ فيها ارتفاعٌ فشقَّ ذلك عليه حتى تغير لونه، ثم أمر بالمائدة فرُفعت، ووُضع الطعام على دون ذلك، أو وُضع على الأرض؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام على عباءةٍ مثنيةٍ فثُنيت له ليلةً أربع طاقاتٍ فنام عليها، فلما استيقظ قال: [مَنَعْتُمُونِي قِيَامَ اللَّيْلَةِ بِهَذِهِ الْعَبَاءَةِ، اثْنُوهَا بِاثْنَتَيْنِ كَمَا كُنْتُمْ تَثْنُونَهَا]؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع ثيابه لتُغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوباً يخرج به إلى الصلاة حتى تجف ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَنعت له امرأةٌ من بني ظفر كساءين إزاراً، وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر، فخرج إلى الصلاة وهو مشتملٌ به ليس عليه غيره، وقد عقد طرفيه إلى عنقه، فصلى كذلك؟
فما زال يقول حتى أبكاها، وبكى عمر رضي الله عنه وانتحب، حتى ظننَّا أن نفسه ستخرج.

أحبتي في الله .. أبكتني هذه الرواية عندما اطلعتُ عليها؛ لقد عاش رسولنا الكريم في دنيانا كأنه (عابر سبيل).
بأبي أنت وأمي يا حبيبي يا رسول الله .. أنت يا خير من أنجبت البشرية تزهد في الدنيا وهي التي إن أردتَ جاءتك راغمةً .. أنت يا أفضل خلق الله تزهد في الدنيا ولو شئتَ لجمعوا لك الأموال وولوك المُلك عليهم .. أنت يا من قال عنك الله سبحانه وتعالى: ﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا . تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا﴾ عندما قال الكافرون: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا . أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾. 
لقد صدق أهل العلم حين قالوا أنه كان من أخلاقك - صلوات الله وسلامه عليك - الزهدُ في الدنيا، والاكتفاء منها بما يُقيم الأَوَدَ، والصبرُ على شظف العيش، والقناعة بما يصل إليك. كنتَ تنام على حصيرٍ ليس تحته شيءٌ، ووسادةٍ حشوُها ليفٌ، وكان لباسك البُرَدَ الغليظة، وطعامك التمر والماء والشعير، يمضي الشهر والشهران لا تُوقد في بيتك نار؛ فتكتفون بالتمر والماء. كم كنتَ تبيتَ طاوياً، وتُصبح صائماً، وكنتَ تعصب الحجر على بطنك من شدة الجوع. حُمِلَت إليك الأموال فلم تدَّخر لنفسك منها شيئاً، بل مِتَّ ودِرعُك مرهونةٌ عند يهوديٍ في ثلاثين صاعاً من شعيرٍ. لو أردتَ أن تعيش في نعيمٍ ورغَدٍ من العيش، لكان لك ذلك، ولكنك آثرتَ الزهد والصبر ابتغاءَ مرضاة الله تعالى، فعشتَ في الدنيا كما لو كنتَ (عابر سبيل).
عن السيدة عائشة - أم المؤمنين رضي الله عنها - قالت: "ما شبع آل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - منذ قَدِم المدينة من طعام البُرِّ ثلاثَ ليالٍ تباعًا حتى قُبض". وعنها - رضي الله عنها - قالت: "إِنْ كُنَّا آلَ مُحَمَّدٍ نَمكُثُ شَهْرًا مَا نَسْتَوْقِدُ بِنَارٍ، إِنْ هُوَ إِلا التَّمْرُ وَالْمَاءُ". وعنها أنها كانت تقول: "وَاللهِ إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلالِ، ثُمَّ الْهِلالِ، ثُمَّ الْهِلالِ، ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ نَارٌ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فلما سُئلت: ما كان يُعَيِّشُكم؟ قالت: "الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ". "المنيحة" منحة اللبن، كالناقة، أو الشاة، تعطيها غيرك يحتلبها ثم يردها عليك. وعنها أنها قالت: "لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ". وقالت رضي الله عَنْهَا: "مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ". "خبز البُر" هو الخبز المصنوع من طحن حبوب القمح الكاملة دون غربلتها وتصفيتها.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ دَقَلًا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ". "الدقل" رديء التمر!
إنه الزهد في الحياة الدنيا، التي يصفها لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم فيقول: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾، ووصف متاعها بقوله تعالى: ﴿مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾.
وها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بحقيقة الدنيا عندما نام على حصيرٍ فقامَ وقد أَثَّرَ في جنبهِ، قال له بعض الصحابة: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً؟ فَقَالَ: [مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا]، وعن الزهد فيها يقول - عليه الصلاة والسلام - لمن سأله دُلَّني على عملٍ إذا عملتُه أحبَّني الله وأحبني الناس؟: [ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّك اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ]. ويوجهنا صلى الله عليه وسلم فيقول: [كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ].
وصف أحد العلماء عاشق الدنيا الذي يؤثرها على الآخرة بأنه: "من أسْفَه الخلق وأقلهم عقلاً، إذ آثر الخيال على الحقيقة، والمنام على اليقظة، والظل الزائل على النعيم الدائم، والفانية على الباقية، وباع حياة الأبد في أرغد عيشٍ بحياةٍ إنما هي أحلامُ نومٍ، أو كظلٍ زائل".
وكان أحد الصالحين يقول: "ابن آدم، إن لك عاجلةً وآجلةً، فلا تؤثرنَّ عاجلتك على آجلتك فتندم، واعلم أنك إنْ تَبِعْ دنياك بآخرتك تربحهما، وإن تَبِعْ آخرتك بدنياك تخسرهما. ابن آدم، إن الدنيا مطيةٌ، إنْ ركبتَها حمَلتْك، وإنْ حمَلتَها أثقلتك. ابن آدم، إنك مرتهنٌ بعملك، واردٌ عليك أجلُك، معروضٌ على ربِك: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. إن المؤمن كيِّسٌ؛ نظر فأبصَر، وتفكَّر فاعتبر، ثم عمد إلى دنياه فهدمها وبنى آخرته، ولم يهدم آخرته لبناء دنياه، ولم يزل ذلك عمله حتى لقي ربه فرضي عنه وأرضاه. ابن آدم، إذا رأيت الناس في خيرٍ فنافسهم، وإذا رأيتهم في هلكةٍ من طلب الدنيا فذرهم وما اختاروا لأنفسهم، ولقد رأيتُ أقواماً آثروا عاجلتهم على آجلتهم، ودنياهم على آخرتهم، فافتضحوا وذلوا وهلكوا وعُوقبوا بموت القلوب. من ركَن إلى الدنيا ذلَّ واقتصر، ومَن زهد فيها عزَّ واقتدر".
قال أحد الزهاد: لو كانت الدنيا ذهباً يفنى، والآخرة خزفاً يبقى، لآثر العاقل خزفاً يبقى، على ذهبٍ يفنى، فكيف والدنيا أقل من خزفٍ، والآخرة أكثر من ذهب؟!
ويقول أحد الصالحين: عجبتُ لحالنا؛ الدنيا موليةٌ عنا، والآخرة مقبلةٌ علينا، ونشتغل بالمدبرة، ونُعرض عن المقبلة، كأننا لن نصل إليها، ولن نحط رحالنا فيها!
ويقول أهل العلم: لله در امرأة فرعون آسيا بنت مزاحم - رضي الله عنها - ما أعقلها، عندما طلَّقت الدنيا وما فيها من القصور والدور ومتاع الغرور، والتجأت لله العزيز الغفور؛ فقالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
وهذا أبو العتاهية - الشاعر المعروف -دخل على الرشيد حين بنى قصره، وزخرف مجلسه، واجتمع إليه خواصه، فقال له: "صِف لنا ما نحن فيه من الدنيا"، فقال: "عش ما بدا لك آمناً .. في ظلِّ شاهقةِ القصور"، فقال الرشيد: "أحسنتَ، ثم ماذا؟"، فقال: "يسعى إليك بما اشتهيتَ لدى الرواح وفي البكور"، فقال: "حسنٌ، ثم ماذا؟"، فقال: "فإذا النفوسُ تقعقعت .. في ضيقِ حشرجةِ الصدور .. فهناك تعلمُ موقناً .. ما كنتَ إلاّ في غرور". فبكى الرشيد بكاءً شديداً، فقال الفضل بن يحيى لأبي العتاهية: "بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته"، فقال له الرشيد: "دعه فإنه رآنا في عمىً فَكَرِهَ أن يزيدنا عمىً".
أما الشاعر فيقول:
لا تَأْسَفَنَّ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا
فَالمَوْتُ لا شَكَّ يُفْنِيْنَا وَيُفْنِيْهَا
وَمَنْ يَكُنْ هَمُّهُ الدُّنْيَا لِيَجْمَعَهَا
فَسَوْفَ يَوْمًا عَلَى رَغْمٍ يُخَلِّيْهَا
اعمل لِدَارِ البَقَا رِضْوَانُ خَازنُهَا
الجَارُ أحْمِدُ والرَّحمنُ بَانِيْهَا
النَّفْسُ تَطْمَعُ في الدَّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ
أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيْهَا
أَمْوَالُنَا لِذَوِي المِيْرَاثِ نَجْمَعُهَا
وَدَارُنا لِخَرَاِب البُومِ نَبْنِيْهَا
لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوتِ يَسْكُنُهَا
إِلا التي كانَ قَبْلَ المَوْتِ يَبْنِيْهَا
فَمَنْ بَنَاهَا بِخَيْر طَابَ مَسْكَنُهُ
وَمَنْ بَنَاهَا بِشرِّ خَابَ بِانِيْهَا
وَهَذِهِ الدَّارُ لا تَغْرُرْكَ زَهْرَتُهَا
فَعَنْ قَرِيْبٍ تَرَى مُعْجِبكَ ذَاوِيْهَا
فَارْبَأ بنَفْسُكَ لا يَخْدَعكَ لامِعُهَا
مِنَ الزَّخَارِفِ وَاحْذَرْ مِنْ دَوَاهِيْهَا
خَدَّاعَةٌ لَمْ تَدُمْ يَوْمًا عَلَى أَحَدٍ
وَلا اسْتَقَرَّتْ عَلَى حَالٍ لَيَالِيْهَا
فَانْظُرْ وَفَكَّرْ فَكَمْ غَرَّتْ ذَوي طَيْشِ
وَكَمْ أَصَابَتْ بِسَهْم المَوْتِ أَهْلِيْهَا

أحبتي .. الدنيا كما يُقال عنها سوقٌ ربح فيه قومٌ، وخسر آخرون. وليس معنى الزهد في الدنيا هو تركها وراء ظهورنا والانعزال عن الناس، وإنما نعيش فيها ونعمرها ونصلح ما استطعنا للإصلاح سبيلاً، ونزيد رصيد حسناتنا كل يومٍ ونحن ما زلنا على ظهرها بالطاعات وأعمال الخير، ولا تكون الدنيا في قلوبنا؛ لنكون بإذن الله من الفائزين والرابحين.
ليكن كلٌ منا في الدنيا (عابر سبيل)، ولنسَّخِر نِعم الله عزَّ وجلَّ علينا في طاعته، ولنحذر قول القائل لمن سأله مَن أشدُ الناس صُراخاً يوم القيامة؟ فقال: "رجلٌ رُزق نعمةً؛ فاستعان بها على معصية الله". ولنعمل بعمل من أراد الجنة، وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ، طمعاً في جنةٍ يصف الله سبحانه وتعالى جزاء الصالحين فيها بقوله: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وبقوله تعالى في الحديث القدسي: {أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ}.
يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ فلنجاهد هوى النفس، ونعمل كل عملٍ يقربنا من الجنة ويباعد بيننا وبين النار، ولنصبر على بلاءات الدنيا ونحتسب عند الله الأجر والثواب لنكون من أهل هذه الآية: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.
لنتأسى برسولنا الحبيب وصحابته الكرام؛ كانوا أكثر الناس زهداً وكانوا أصحاب رسالةٍ غيروا بها العالم وأخرجوا البشرية من الظلمات إلى النور؛ فَهَلَّا كنا من الزاهدين ونبدأ بتغيير أنفسنا فنكون كل يومٍ إلى الله أقرب؟
اللهم لا تجعل الدنيا في قلوبنا، واجعلها بأيدينا، ولا تفتنا فيها، واجعل قلوبنا معلقةً بك وحدك، وتهفو إلى جنتك. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا. واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2yxOgfP

الجمعة، 26 يوليو 2019

احفظ الله يحفظك


الجمعة 26 يوليو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٧
(احفظ الله يحفظك)

يَروي أحد كبار الأطباء السوريين قصةً وقعت له قبل حوالي نصف قرن فيقول: عندما كنتُ طالباً في كلية الطب في الجامعة، ركبتُ في سيارةٍ عموميةٍ لخمسة ركاب، صعدتُ إلى المقعد الأول وجلستُ، فجاء شخصٌ فتح الباب، لم يتكلم ولا كلمة، أمسكني من ثيابي وحملني وألقاني خارج السيارة وركب مكاني، معه صديقه، ولم يقل لي "انزل"، واللهِ لو قال لي "انزل" لما حزنت، لم يكلمني أبداً، كأنني ذبابة. كدتُ أموت من الألم النفسي، وأقسم بالله لو كان معي وقتها سلاحٌ لقتلته، احتقارٌ لا يُحتمل؛ طالب طبٍ جالسٌ في سيارةٍ يأتي إنسانٌ كالوحش يحمله من ثيابه ويركب مكانه ويقول للسائق "امشِ". مشى السائق، وأنا انتظرتُ ساعتين إلى أن جاءت سيارةٌ أخرى فركبت، وفي الطريق شاهدنا حادثاً مروعاً؛ نزلنا لنحاول إسعاف أو مساعدة الضحايا ففوجئنا بأنها السيارة التي أنزلوني منها، انقلبت والركاب الخمسة ماتوا جميعاً!
سبحان من يُخرج الحي من الميت ويُخرج الميت من الحي. خلال ثانيةٍ واحدةٍ انقلبت حياتي من بؤسٍ للمهانة التي تعرضتُ لها، إلى شكرٍ لله عزَّ وجلَّ لحفظه لي، وصدق رسولنا الكريم حين قال: (احفظ الله يحفظك).

أحبتي في الله .. إنه حفظُ الله الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباسٍ؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، ...].
يقول أهل العلم أن [احْفَظْ] تعني: احفظ حدودَ الله وشريعتَه؛ بفعل أوامره واجتناب نواهيه. و[احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ] في دينك وأهلك ومالك ونفسك؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين بإحسانه، ولأنَّ الإنسان كلما اهتدى زاده الله سبحانه وتعالى هدىً؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾. وعُلِمَ من هذا أن من لم يحفظ الله، فإنَّه لا يستحق أن يحفظه الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي هذا ترغيبٌ على حِفظ حدود الله.

وإنَّ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: [احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ] دليلاً على إثبات معية الله لعبده؛ فمن حَفظ حدود الله وجد الله معه في كل أحواله، حيثما توجه يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون﴾.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: [احْفَظْ اللَّهَ] أمرٌ بحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه؛ وحِفظ ذلك يكون بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده بعدم التعدي أو التجاوز، فمَن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه الكريم؛ قال تعالى: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾.
وقد جاءت النصوص بحفظ أمورٍ مهمةٍ والاعتناء بها أولها: الصلاة؛ قال تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. ثم الطهارة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ]. والأَيْمَان "بمعنى الحلف"؛ قال تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم﴾. والرأس والبطن؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [... الاِسْتِحْيَاء مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ ...]. وكذلك حِفظ اللسان والفرج؛ أمر الله عزَّ وجلَّ بحفظ الفروج فقال: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [من حفِظ ما بين لَحْيَيْه ورِجلَيْه دخل الجنَّةَ].
أما قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: [يَحْفَظْكَ] فيعني أن مَن حَفظ حدود الله وراعى حدوده حفظه الله؛ فإن الجزاء من جنس العمل؛ قال تعالى: ﴿وَأَوفوا بِعَهدي أوفِ بِعَهدِكُم﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك).
وحِفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
الأول: حِفظه في مصالح دنياه كحفظه في بدنِه وولدِه وأهلِه ومالِه؛ قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ﴾، هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه. ومَن حَفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في كبره وضعفه، ومتعه بسمعه وبصره وقوته وعقله؛ ها هو أبو الطيب الطبري أحد علماء الإسلام بلغ من العمر سبعين سنةً وبينما هو على سفينةٍ وصلت إلى الشاطئ لكن اليابسة بعيدةٌ تحتاج إلى قفز ٍوقوةٍ فما استطاع الشباب أن يقفزوا، فإذا بهذا العالم الجليل يُشمر عن ساقيه ويقفز إلى اليابسة؛ فاستغرب الشباب وقالوا: "ما هذه القوة يا شيخ؟"، قال: "هذه جوارح حفظناها وقت الصغر فحفظها الله لنا وقت الكبر؛ ﴿فَاللَّهُ خَيرٌ حافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ﴾".
ومِن حِفظ الله للعبد حِفظ ذريته بعد موته بصلاحه؛ قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ فقد حُفظ الغلامان بصلاح أبيهما، وعكس هذا من ضيع الله ضيعه الله حتى يدخل عليه الضرر من حيث كان يرجو النفع؛ قال بعض السلف: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خادمي ودابتي".
الثاني: حِفظ الله للعبد في دينه وإيمانه؛ فيحفظه في حياته من الشبهات، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان؛ ففي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إنْ أَمسَكْتَ نفْسي فاغفِرْ لها، وإنْ أَرسلَتْها فاحفَظْها بما تَحْفَظُ به عِبادَكَ الصَّالحينَ].
كما لم يَكن رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يدعُ هؤلاءِ الكلماتِ حينَ يمسي وحينَ يصبحُ: [اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العافيةَ في الدُّنيا والآخرةِ، اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ في ديني ودنيايَ وأَهلي ومالي، اللَّهمَّ استُر عوراتي وآمِن روعاتي، اللَّهمَّ احفَظني من بينِ يديَّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومِن فوقي، وأعوذُ بعظمتِك أن أُغتالَ مِن تحتي].

وعن حفظ الله قال الشاعر:
ونركبُ الجوَّ في أمنٍ وفي دَعةٍ
فما سَقطنا لأنَّ الحافظَ اللهُ
وقال آخر:
وإذا العنايةُ لاحظتكَ عُيونُها
نَمْ فالمخاوفُ كُلهُنَّ أمانُ

أحبتي .. فلنحفظ الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلاة والوضوء، والوفاء بما نحلف عليه، وحفظ الرأس والبطن، واللسان والفرج، والامتثال لجميع أوامر الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، واجتناب ما نُهينا عنه، وعدم التعدي على حدود الله. إنه شرطٌ وجواب شرطٍ: (احفظ الله يحفظك) فلنحفظ الله دائماً، ولنحفظه خاصةً وقت الرخاء حتى يستجيب لدعائنا وقت الشدة والكرب؛ قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ].
اللهم اجعلنا من المحافظين عليك، المقيمين شرعك، المجتنبين نواهيك، الملتزمين حدودك، واحفظنا اللهم بحفظك، واكلأنا بعنايتك، وادفع عنا كل شرٍ، وابعد كل همٍ، وفَرِّج كل كربٍ، وأصلح لنا أحوالنا كلها بعزتك وقدرتك يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2ypExIF