الجمعة، 9 أغسطس 2019

إياك وما يُعتذر منه/2


الجمعة 9 أغسطس 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٩
(إياك وما يُعتذر منه)

يُحكى أنه كان هناك شابٌ عصبي المزاجِ سريعُ الغضبِ بشكلٍ لا يُصدق، وكان دائماً ما يغضب ويخرج عن صوابه ويجرح الناسَ بأقواله وأفعاله، وكان والد هذا الشاب رجلاً حكيماً له خبرةٌ كبيرةٌ بالحياةِ، وقد لاحظ هذه الصفة السيئة بابنه، فقرر أن يعلمه درساً ليصلحه ويقومه فأحضر له كيساً مملوءاً بالمسامير الصغيرة وقال له: "يا بني كلما شعرتَ بالغضب الشديد وفقدتَ أعصابك وبدأتَ تفعل أشياء لا تصح، عليك أن تقوم بدق مسمارٍ واحدٍ في السياج الخشبي لحديقة المنزل". نفذ الشاب نصيحة والده؛ وكان كلما شعر بالغضب الشديد دق مسماراً في السياج. لكن لم يكن دق المسامير في السور الخشبي سهلاً؛ فهو يحتاج جهداً كثيراً ووقتاً طويلاً. في اليوم الأول قام الشاب بدق أربعين مسماراً، وتعب كثيراً في دقها، فقرر في نفسه أن يحاول أن يملك نفسه عند الغضب حتى لا يتكبد عناء دق المسامير. مع مرور الأيام نجح الشاب فى إنقاص عدد المسامير التي يدقها، حتى تمكن من ضبط نفسه بشكلٍ نهائي، وتخلص من تلك الصفة السيئة إلى الأبد. مر يومان كاملان والشاب لا يدق أي مسمارٍ في السياج، فذهب إلى والده فرحاً، هنأه الوالد على هذا التحول الجيد، لكنه طلب منه شيئاً جديداً؛ وهو القيام بإخراج جميع المسامير التي سبق أن دقها من السياج! تعجب الشاب من طلب والده، لكنه قام بتنفيذ طلبه فوراً؛ فأخرج جميع المسامير، وعاد مرةً أخرى إلى والده وأخبره بإنجازه، فأخذه والده إلى الحديقة وأشار إلى السياج قائلاً: "أحسنتَ صُنعاً يا بني، ولكن انظر الآن إلى كل هذه الثقوب المحفورة في السياج. هذا السياج مستحيلٌ أن يعود يوماً كما كان، مهما فعلتَ، وهذه الثقوب هي الأفعال والأقوال التي كانت تصدر منك عند الغضب، يُمكنك أن تعتذر بعدها ألف مرةٍ لعلك تمحي آثارها، لكنها دوماً ستترك أثراً في نفوس الآخرين لا يمحيه الزمن".

أحبتي في الله .. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ناصحاً وموجهاً أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: [صَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ كَأَنَّكَ تَرَاهُ؛ فَإِنْ كُنْتَ لا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَآيَسْ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ تَعِشْ غَنِيًّا، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ]. عن عبارة (إياك وما يُعتذر منه) يقول أهل العلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حذَّر من الوقوع فيما يحمل على الاعتذار، فالعاقل هو الذي يفكر في القول قبل أن يقوله، والفعل قبل أن يفعله، فإن رأى في الكلمة خيراً قالها وإلا حبسها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ]، وهو تفسيرٌ لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾، ولقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من الوقوع فيما يغضب الله، وفيما يغضب الناس، فيكون الاعتذار.
أما الاعتذار لله فلابد منه لأنه توبةٌ؛ فيكون التحذير من الذنوب كبيرها وصغيرها، والمعنى: إياك والمعاصي؛ فإنك قد تتمادى فيها فتموت عليها فتدخل النار، وقد تعتذر منها فلا ينفعك الاعتذار، فالأولى ألا تُقدِم عليها، ولا تقرب ما يؤدي إليها.
وأما الاعتذار للناس فهو إرضاءٌ لهم وتطييبٌ لنفوسهم، وبعفوهم يعفو الله عزَّ وجلَّ عنك. والاعتذار إليهم سبيلٌ إلى التسامح والصفح، وهو دليلٌ على مكارم الأخلاق؛ فهو خُلقٌ نبيلٌ، وسجيَّةٌ محمودةٌ لا يتمتَّع بها إلا مَن كان ذا فطرةٍ سويَّةٍ لم تُفسِدْها التَّقاليد الباليَة، والعادات المُتعجرفة، بحيث يأنَفُ المُتكبِّرون من الاعتذار عن أخطائهم التي يرتكِبونها في حقِّ غيرهم من الناس؛ فإن اعتذر المخطئ فهو إنسانٌ متواضعٌ، وإن عفا المعتذر إليه فهو حليمٌ كريم.
وعن الاعتذار من المخطئ وعفو المعتذر إليه يقول العلماء أن التوبة إلى الله سبحانه وتعالى هي المظهر الأسمى للاعتذار من المخطئ، حين يرفع العبد كف ضراعته إلى ربه نادماً باكياً معتذراً، يقول كما قال أبواه آدم وحواء بعد أول ذنبٍ ارتُكب من البشر: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، وأما العفو من المعتذر إليه فكان مثله الأعلى عفو الله سبحانه وتعالى عنهما بقبول اعتذار آدم عليه السلام وتوبته؛ قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في قبول اعتذار المعتذر والعفو عنه، فكان لا يرد معتذراً لما كان في نبينا الكريم من كرم نفسٍ وحُسن خلقٍ؛ وفي موقفه مع حادثة قتل ابنته زينب رضي الله عنها خير دليلٍ على سعة عفوه وعظم نفسه، فعند هجرتها رضي الله عنها دفعها رجلٌ كان مشركاً وقتها وهو هبار بن الأسود، دفعها وهي حبلى فسقطت من فوق بعيرها فأسقطت جنينها ولا زالت مريضةً في المدينة بعدها حتى لقيت ربها، وبعد الفتح يأتي هبارٌ إلى رسول الله ويعتذر إليه فيقول: "السلام عليك يا نبي الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولقد هربتُ منك في البلاد وأردت اللحاق بالأعاجم ثم ذكرتُ عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك، وكنا يا نبي الله أهل شركٍ فهدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة؛ فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني، فإني مقرٌ بسوء فعلي، معترفٌ بذنبي"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ، فَقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ حَيْثُ هَدَاكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ].
وهاهُم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وقد استوعبوا كتاب الله سبحانه وتعالى، وتأسوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، يطبقون مبدأ اعتذار المخطئ وعفو المعتذر إليه تطبيقاً عملياً؛ حين وقعت بين أبي ذرٍ وبلالٍ، رضي الله عنهما، خصومةٌ، فغضب أبو ذرٍ وفلت لسانه بكلمةٍ قال فيها لبلال: "يا ابن السوداء"، فتأثر بلال وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو أبا ذر؛ استدعى النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر، وقال له: [أَعَيَرْتَهُ بِأُمِهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ]، فتأثر أبو ذرٍ وتحسَّر وندم، وقال: "وددتُ واللهِ لو ضُرب عنقي بالسيف، وما سمعتُ ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ووضع أبو ذرٍ خده على التراب معتذراً وقال: "يا بلال؛ ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعها"، فذرفت عينا بلالٍ بالدموع، وقال: "يغفر الله لك يا أبا ذر، يغفر الله لك يا أبا ذر، واللهِ ما كنتُ لأضع قدمي على جبهةٍ سجدت لله رب العالمين"، وتعانقا وبكيا وقد ذهب ما في القلوب من حنقٍ وبغضاء. هذه هي حياتهم يوم تعاملوا بالإسلام كمنهجٍ للحياة، رضي الله عنهم أجمعين.
وكما يحثنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على عدم الخطأ الذي يستوجب الاعتذار بقوله: (إياك وما يُعتذر منه)، فإنه يحثنا كذلك على المبادرة إلى الاعتذار الفعلي حين يكون السلام وسيلةً للاعتذار فيقول: [لَا يحلُّ لمسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَياَلٍ يَلْتْقَيِاَنِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بالسَّلَامِ].
قال الكُتَّاب عن الاعتذار:
"إذا كان الاعتذار ثقيلاً على نفسك، فالإساءة ثقيلةٌ على نفوس الآخرين أيضاً". "لا بأس في الاعتذار، ولكن قول آسف لا يعني الاستمرار في ارتكاب نفس الخطأ مرةً أخرى". "أستطيع مسامحتك على عشرة أخطاء مختلفة، ولكن لن أسامحك على نفس الخطأ مرتين". "بمجرد أن نؤجل تقديم الاعتذار يصبح الأمر أكثر صعوبةً إلى أن يصير في النهاية مستحيلاً". "لا يمكنك قضاء كامل حياتك تعتذر من الآخرين، أصلح من نفسك". وأقول: "الاعتذار فن لا يجيده إلا المخلصون ذوو النفوس المطمئنة والقلوب الصافية النقية".
وقال الشاعر: 
إذا اعتذرَ الجاني محا العُذرُ ذنبَه
وكلُّ امرئٍ لا يَقبَلُ العذرَ مُذنِبُ
وقال الآخرُ:
إذا ما امْرُؤٌ مِن ذنبِه جاءَ تائبًا
إليكَ فلم تَغفِر له فلكَ الذَّنبُ!
وقال ثالثٌ:
خُذْ مِنْ أَخيكَ العَفوَ واغْفِر ذَنْبَه
وَلا تَكُ فِي كُلِ الأُمورِ تُعاتُبُه
فَإنَّكَ لَنْ تَلْقَى أَخاكَ مُهَذَباً
وأَيُ امرئٍ يَنْجو مِنَ العَيْبِ صَاحِبُه؟

أحبتي .. علينا أن نتجنب الخطأ في حق الله سبحانه وتعالى بالحرص على ألا يرانا حيث نهانا ولا يفتقدنا حيث أمرنا، فإذا وقع منا الخطأ بغير قصدٍ في حقه علينا أن نسارع بالاعتذار منه بطلب العفو والمغفرة والتوبة عما ارتكبنا من خطأ. كما أن علينا أن نتجنب الخطأ في حق الناس بكل شكلٍ من الأشكال؛ بالقول أو العمل، بالتصريح أو التلميح، سواءً كانوا حاضرين أم غائبين، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، التزاماً منا بالتوجيه النبوي العظيم (إياك وما يُعتذر منه)، فإذا وقع الخطأ بالفعل فلنبادر، دون إبطاءٍ وبغير كبرٍ، إلى الاعتذار إليهم وطلب الصفح والعفو والسماح منهم؛ فالعمر أقصر من أن نضيعه في تأجيل الاعتذار، أو في انتظار اعتذار الآخرين لنا!
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2KyEuzI

الجمعة، 2 أغسطس 2019

عابر سبيل

الجمعة 2 أغسطس 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٨
(عابر سبيل)

رُوي عن الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه حين فُتحت عليه الفتوحات، قالت له ابنته حفصة - أم المؤمنين رضي الله عنها -: البس ألين الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق، ومُرْ بصَنَعة الطعام تَطْعَمُه وتُطْعِم من حضر. فقال عمر: يا حفصة، ألستِ تعلمين أن أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته؟ فقالت: بلى.
قال: ناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوةً إلا جاعوا عشيةً، ولا شبعوا عشيةً إلا جاعوا غدوةً؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث في النبوة كذا كذا سنة لم يشبع من التمر هو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قربتم إليه يوماً طعاماً على مائدةٍ فيها ارتفاعٌ فشقَّ ذلك عليه حتى تغير لونه، ثم أمر بالمائدة فرُفعت، ووُضع الطعام على دون ذلك، أو وُضع على الأرض؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام على عباءةٍ مثنيةٍ فثُنيت له ليلةً أربع طاقاتٍ فنام عليها، فلما استيقظ قال: [مَنَعْتُمُونِي قِيَامَ اللَّيْلَةِ بِهَذِهِ الْعَبَاءَةِ، اثْنُوهَا بِاثْنَتَيْنِ كَمَا كُنْتُمْ تَثْنُونَهَا]؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع ثيابه لتُغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوباً يخرج به إلى الصلاة حتى تجف ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة؟ وناشدتك الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَنعت له امرأةٌ من بني ظفر كساءين إزاراً، وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر، فخرج إلى الصلاة وهو مشتملٌ به ليس عليه غيره، وقد عقد طرفيه إلى عنقه، فصلى كذلك؟
فما زال يقول حتى أبكاها، وبكى عمر رضي الله عنه وانتحب، حتى ظننَّا أن نفسه ستخرج.

أحبتي في الله .. أبكتني هذه الرواية عندما اطلعتُ عليها؛ لقد عاش رسولنا الكريم في دنيانا كأنه (عابر سبيل).
بأبي أنت وأمي يا حبيبي يا رسول الله .. أنت يا خير من أنجبت البشرية تزهد في الدنيا وهي التي إن أردتَ جاءتك راغمةً .. أنت يا أفضل خلق الله تزهد في الدنيا ولو شئتَ لجمعوا لك الأموال وولوك المُلك عليهم .. أنت يا من قال عنك الله سبحانه وتعالى: ﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا . تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا﴾ عندما قال الكافرون: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا . أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾. 
لقد صدق أهل العلم حين قالوا أنه كان من أخلاقك - صلوات الله وسلامه عليك - الزهدُ في الدنيا، والاكتفاء منها بما يُقيم الأَوَدَ، والصبرُ على شظف العيش، والقناعة بما يصل إليك. كنتَ تنام على حصيرٍ ليس تحته شيءٌ، ووسادةٍ حشوُها ليفٌ، وكان لباسك البُرَدَ الغليظة، وطعامك التمر والماء والشعير، يمضي الشهر والشهران لا تُوقد في بيتك نار؛ فتكتفون بالتمر والماء. كم كنتَ تبيتَ طاوياً، وتُصبح صائماً، وكنتَ تعصب الحجر على بطنك من شدة الجوع. حُمِلَت إليك الأموال فلم تدَّخر لنفسك منها شيئاً، بل مِتَّ ودِرعُك مرهونةٌ عند يهوديٍ في ثلاثين صاعاً من شعيرٍ. لو أردتَ أن تعيش في نعيمٍ ورغَدٍ من العيش، لكان لك ذلك، ولكنك آثرتَ الزهد والصبر ابتغاءَ مرضاة الله تعالى، فعشتَ في الدنيا كما لو كنتَ (عابر سبيل).
عن السيدة عائشة - أم المؤمنين رضي الله عنها - قالت: "ما شبع آل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - منذ قَدِم المدينة من طعام البُرِّ ثلاثَ ليالٍ تباعًا حتى قُبض". وعنها - رضي الله عنها - قالت: "إِنْ كُنَّا آلَ مُحَمَّدٍ نَمكُثُ شَهْرًا مَا نَسْتَوْقِدُ بِنَارٍ، إِنْ هُوَ إِلا التَّمْرُ وَالْمَاءُ". وعنها أنها كانت تقول: "وَاللهِ إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلالِ، ثُمَّ الْهِلالِ، ثُمَّ الْهِلالِ، ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ نَارٌ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فلما سُئلت: ما كان يُعَيِّشُكم؟ قالت: "الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ". "المنيحة" منحة اللبن، كالناقة، أو الشاة، تعطيها غيرك يحتلبها ثم يردها عليك. وعنها أنها قالت: "لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ". وقالت رضي الله عَنْهَا: "مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ". "خبز البُر" هو الخبز المصنوع من طحن حبوب القمح الكاملة دون غربلتها وتصفيتها.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ دَقَلًا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ". "الدقل" رديء التمر!
إنه الزهد في الحياة الدنيا، التي يصفها لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم فيقول: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾، ووصف متاعها بقوله تعالى: ﴿مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾.
وها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بحقيقة الدنيا عندما نام على حصيرٍ فقامَ وقد أَثَّرَ في جنبهِ، قال له بعض الصحابة: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً؟ فَقَالَ: [مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا]، وعن الزهد فيها يقول - عليه الصلاة والسلام - لمن سأله دُلَّني على عملٍ إذا عملتُه أحبَّني الله وأحبني الناس؟: [ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّك اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ]. ويوجهنا صلى الله عليه وسلم فيقول: [كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ].
وصف أحد العلماء عاشق الدنيا الذي يؤثرها على الآخرة بأنه: "من أسْفَه الخلق وأقلهم عقلاً، إذ آثر الخيال على الحقيقة، والمنام على اليقظة، والظل الزائل على النعيم الدائم، والفانية على الباقية، وباع حياة الأبد في أرغد عيشٍ بحياةٍ إنما هي أحلامُ نومٍ، أو كظلٍ زائل".
وكان أحد الصالحين يقول: "ابن آدم، إن لك عاجلةً وآجلةً، فلا تؤثرنَّ عاجلتك على آجلتك فتندم، واعلم أنك إنْ تَبِعْ دنياك بآخرتك تربحهما، وإن تَبِعْ آخرتك بدنياك تخسرهما. ابن آدم، إن الدنيا مطيةٌ، إنْ ركبتَها حمَلتْك، وإنْ حمَلتَها أثقلتك. ابن آدم، إنك مرتهنٌ بعملك، واردٌ عليك أجلُك، معروضٌ على ربِك: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. إن المؤمن كيِّسٌ؛ نظر فأبصَر، وتفكَّر فاعتبر، ثم عمد إلى دنياه فهدمها وبنى آخرته، ولم يهدم آخرته لبناء دنياه، ولم يزل ذلك عمله حتى لقي ربه فرضي عنه وأرضاه. ابن آدم، إذا رأيت الناس في خيرٍ فنافسهم، وإذا رأيتهم في هلكةٍ من طلب الدنيا فذرهم وما اختاروا لأنفسهم، ولقد رأيتُ أقواماً آثروا عاجلتهم على آجلتهم، ودنياهم على آخرتهم، فافتضحوا وذلوا وهلكوا وعُوقبوا بموت القلوب. من ركَن إلى الدنيا ذلَّ واقتصر، ومَن زهد فيها عزَّ واقتدر".
قال أحد الزهاد: لو كانت الدنيا ذهباً يفنى، والآخرة خزفاً يبقى، لآثر العاقل خزفاً يبقى، على ذهبٍ يفنى، فكيف والدنيا أقل من خزفٍ، والآخرة أكثر من ذهب؟!
ويقول أحد الصالحين: عجبتُ لحالنا؛ الدنيا موليةٌ عنا، والآخرة مقبلةٌ علينا، ونشتغل بالمدبرة، ونُعرض عن المقبلة، كأننا لن نصل إليها، ولن نحط رحالنا فيها!
ويقول أهل العلم: لله در امرأة فرعون آسيا بنت مزاحم - رضي الله عنها - ما أعقلها، عندما طلَّقت الدنيا وما فيها من القصور والدور ومتاع الغرور، والتجأت لله العزيز الغفور؛ فقالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
وهذا أبو العتاهية - الشاعر المعروف -دخل على الرشيد حين بنى قصره، وزخرف مجلسه، واجتمع إليه خواصه، فقال له: "صِف لنا ما نحن فيه من الدنيا"، فقال: "عش ما بدا لك آمناً .. في ظلِّ شاهقةِ القصور"، فقال الرشيد: "أحسنتَ، ثم ماذا؟"، فقال: "يسعى إليك بما اشتهيتَ لدى الرواح وفي البكور"، فقال: "حسنٌ، ثم ماذا؟"، فقال: "فإذا النفوسُ تقعقعت .. في ضيقِ حشرجةِ الصدور .. فهناك تعلمُ موقناً .. ما كنتَ إلاّ في غرور". فبكى الرشيد بكاءً شديداً، فقال الفضل بن يحيى لأبي العتاهية: "بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته"، فقال له الرشيد: "دعه فإنه رآنا في عمىً فَكَرِهَ أن يزيدنا عمىً".
أما الشاعر فيقول:
لا تَأْسَفَنَّ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا
فَالمَوْتُ لا شَكَّ يُفْنِيْنَا وَيُفْنِيْهَا
وَمَنْ يَكُنْ هَمُّهُ الدُّنْيَا لِيَجْمَعَهَا
فَسَوْفَ يَوْمًا عَلَى رَغْمٍ يُخَلِّيْهَا
اعمل لِدَارِ البَقَا رِضْوَانُ خَازنُهَا
الجَارُ أحْمِدُ والرَّحمنُ بَانِيْهَا
النَّفْسُ تَطْمَعُ في الدَّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ
أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيْهَا
أَمْوَالُنَا لِذَوِي المِيْرَاثِ نَجْمَعُهَا
وَدَارُنا لِخَرَاِب البُومِ نَبْنِيْهَا
لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوتِ يَسْكُنُهَا
إِلا التي كانَ قَبْلَ المَوْتِ يَبْنِيْهَا
فَمَنْ بَنَاهَا بِخَيْر طَابَ مَسْكَنُهُ
وَمَنْ بَنَاهَا بِشرِّ خَابَ بِانِيْهَا
وَهَذِهِ الدَّارُ لا تَغْرُرْكَ زَهْرَتُهَا
فَعَنْ قَرِيْبٍ تَرَى مُعْجِبكَ ذَاوِيْهَا
فَارْبَأ بنَفْسُكَ لا يَخْدَعكَ لامِعُهَا
مِنَ الزَّخَارِفِ وَاحْذَرْ مِنْ دَوَاهِيْهَا
خَدَّاعَةٌ لَمْ تَدُمْ يَوْمًا عَلَى أَحَدٍ
وَلا اسْتَقَرَّتْ عَلَى حَالٍ لَيَالِيْهَا
فَانْظُرْ وَفَكَّرْ فَكَمْ غَرَّتْ ذَوي طَيْشِ
وَكَمْ أَصَابَتْ بِسَهْم المَوْتِ أَهْلِيْهَا

أحبتي .. الدنيا كما يُقال عنها سوقٌ ربح فيه قومٌ، وخسر آخرون. وليس معنى الزهد في الدنيا هو تركها وراء ظهورنا والانعزال عن الناس، وإنما نعيش فيها ونعمرها ونصلح ما استطعنا للإصلاح سبيلاً، ونزيد رصيد حسناتنا كل يومٍ ونحن ما زلنا على ظهرها بالطاعات وأعمال الخير، ولا تكون الدنيا في قلوبنا؛ لنكون بإذن الله من الفائزين والرابحين.
ليكن كلٌ منا في الدنيا (عابر سبيل)، ولنسَّخِر نِعم الله عزَّ وجلَّ علينا في طاعته، ولنحذر قول القائل لمن سأله مَن أشدُ الناس صُراخاً يوم القيامة؟ فقال: "رجلٌ رُزق نعمةً؛ فاستعان بها على معصية الله". ولنعمل بعمل من أراد الجنة، وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ، طمعاً في جنةٍ يصف الله سبحانه وتعالى جزاء الصالحين فيها بقوله: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وبقوله تعالى في الحديث القدسي: {أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ}.
يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ فلنجاهد هوى النفس، ونعمل كل عملٍ يقربنا من الجنة ويباعد بيننا وبين النار، ولنصبر على بلاءات الدنيا ونحتسب عند الله الأجر والثواب لنكون من أهل هذه الآية: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.
لنتأسى برسولنا الحبيب وصحابته الكرام؛ كانوا أكثر الناس زهداً وكانوا أصحاب رسالةٍ غيروا بها العالم وأخرجوا البشرية من الظلمات إلى النور؛ فَهَلَّا كنا من الزاهدين ونبدأ بتغيير أنفسنا فنكون كل يومٍ إلى الله أقرب؟
اللهم لا تجعل الدنيا في قلوبنا، واجعلها بأيدينا، ولا تفتنا فيها، واجعل قلوبنا معلقةً بك وحدك، وتهفو إلى جنتك. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا. واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2yxOgfP

الجمعة، 26 يوليو 2019

احفظ الله يحفظك


الجمعة 26 يوليو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٧
(احفظ الله يحفظك)

يَروي أحد كبار الأطباء السوريين قصةً وقعت له قبل حوالي نصف قرن فيقول: عندما كنتُ طالباً في كلية الطب في الجامعة، ركبتُ في سيارةٍ عموميةٍ لخمسة ركاب، صعدتُ إلى المقعد الأول وجلستُ، فجاء شخصٌ فتح الباب، لم يتكلم ولا كلمة، أمسكني من ثيابي وحملني وألقاني خارج السيارة وركب مكاني، معه صديقه، ولم يقل لي "انزل"، واللهِ لو قال لي "انزل" لما حزنت، لم يكلمني أبداً، كأنني ذبابة. كدتُ أموت من الألم النفسي، وأقسم بالله لو كان معي وقتها سلاحٌ لقتلته، احتقارٌ لا يُحتمل؛ طالب طبٍ جالسٌ في سيارةٍ يأتي إنسانٌ كالوحش يحمله من ثيابه ويركب مكانه ويقول للسائق "امشِ". مشى السائق، وأنا انتظرتُ ساعتين إلى أن جاءت سيارةٌ أخرى فركبت، وفي الطريق شاهدنا حادثاً مروعاً؛ نزلنا لنحاول إسعاف أو مساعدة الضحايا ففوجئنا بأنها السيارة التي أنزلوني منها، انقلبت والركاب الخمسة ماتوا جميعاً!
سبحان من يُخرج الحي من الميت ويُخرج الميت من الحي. خلال ثانيةٍ واحدةٍ انقلبت حياتي من بؤسٍ للمهانة التي تعرضتُ لها، إلى شكرٍ لله عزَّ وجلَّ لحفظه لي، وصدق رسولنا الكريم حين قال: (احفظ الله يحفظك).

أحبتي في الله .. إنه حفظُ الله الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباسٍ؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، ...].
يقول أهل العلم أن [احْفَظْ] تعني: احفظ حدودَ الله وشريعتَه؛ بفعل أوامره واجتناب نواهيه. و[احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ] في دينك وأهلك ومالك ونفسك؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين بإحسانه، ولأنَّ الإنسان كلما اهتدى زاده الله سبحانه وتعالى هدىً؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾. وعُلِمَ من هذا أن من لم يحفظ الله، فإنَّه لا يستحق أن يحفظه الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي هذا ترغيبٌ على حِفظ حدود الله.

وإنَّ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: [احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ] دليلاً على إثبات معية الله لعبده؛ فمن حَفظ حدود الله وجد الله معه في كل أحواله، حيثما توجه يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون﴾.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: [احْفَظْ اللَّهَ] أمرٌ بحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه؛ وحِفظ ذلك يكون بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده بعدم التعدي أو التجاوز، فمَن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه الكريم؛ قال تعالى: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾.
وقد جاءت النصوص بحفظ أمورٍ مهمةٍ والاعتناء بها أولها: الصلاة؛ قال تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. ثم الطهارة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ]. والأَيْمَان "بمعنى الحلف"؛ قال تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم﴾. والرأس والبطن؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [... الاِسْتِحْيَاء مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ ...]. وكذلك حِفظ اللسان والفرج؛ أمر الله عزَّ وجلَّ بحفظ الفروج فقال: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [من حفِظ ما بين لَحْيَيْه ورِجلَيْه دخل الجنَّةَ].
أما قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: [يَحْفَظْكَ] فيعني أن مَن حَفظ حدود الله وراعى حدوده حفظه الله؛ فإن الجزاء من جنس العمل؛ قال تعالى: ﴿وَأَوفوا بِعَهدي أوفِ بِعَهدِكُم﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك).
وحِفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
الأول: حِفظه في مصالح دنياه كحفظه في بدنِه وولدِه وأهلِه ومالِه؛ قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ﴾، هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه. ومَن حَفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في كبره وضعفه، ومتعه بسمعه وبصره وقوته وعقله؛ ها هو أبو الطيب الطبري أحد علماء الإسلام بلغ من العمر سبعين سنةً وبينما هو على سفينةٍ وصلت إلى الشاطئ لكن اليابسة بعيدةٌ تحتاج إلى قفز ٍوقوةٍ فما استطاع الشباب أن يقفزوا، فإذا بهذا العالم الجليل يُشمر عن ساقيه ويقفز إلى اليابسة؛ فاستغرب الشباب وقالوا: "ما هذه القوة يا شيخ؟"، قال: "هذه جوارح حفظناها وقت الصغر فحفظها الله لنا وقت الكبر؛ ﴿فَاللَّهُ خَيرٌ حافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ﴾".
ومِن حِفظ الله للعبد حِفظ ذريته بعد موته بصلاحه؛ قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ فقد حُفظ الغلامان بصلاح أبيهما، وعكس هذا من ضيع الله ضيعه الله حتى يدخل عليه الضرر من حيث كان يرجو النفع؛ قال بعض السلف: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خادمي ودابتي".
الثاني: حِفظ الله للعبد في دينه وإيمانه؛ فيحفظه في حياته من الشبهات، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان؛ ففي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إنْ أَمسَكْتَ نفْسي فاغفِرْ لها، وإنْ أَرسلَتْها فاحفَظْها بما تَحْفَظُ به عِبادَكَ الصَّالحينَ].
كما لم يَكن رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يدعُ هؤلاءِ الكلماتِ حينَ يمسي وحينَ يصبحُ: [اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العافيةَ في الدُّنيا والآخرةِ، اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ في ديني ودنيايَ وأَهلي ومالي، اللَّهمَّ استُر عوراتي وآمِن روعاتي، اللَّهمَّ احفَظني من بينِ يديَّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومِن فوقي، وأعوذُ بعظمتِك أن أُغتالَ مِن تحتي].

وعن حفظ الله قال الشاعر:
ونركبُ الجوَّ في أمنٍ وفي دَعةٍ
فما سَقطنا لأنَّ الحافظَ اللهُ
وقال آخر:
وإذا العنايةُ لاحظتكَ عُيونُها
نَمْ فالمخاوفُ كُلهُنَّ أمانُ

أحبتي .. فلنحفظ الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلاة والوضوء، والوفاء بما نحلف عليه، وحفظ الرأس والبطن، واللسان والفرج، والامتثال لجميع أوامر الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، واجتناب ما نُهينا عنه، وعدم التعدي على حدود الله. إنه شرطٌ وجواب شرطٍ: (احفظ الله يحفظك) فلنحفظ الله دائماً، ولنحفظه خاصةً وقت الرخاء حتى يستجيب لدعائنا وقت الشدة والكرب؛ قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ].
اللهم اجعلنا من المحافظين عليك، المقيمين شرعك، المجتنبين نواهيك، الملتزمين حدودك، واحفظنا اللهم بحفظك، واكلأنا بعنايتك، وادفع عنا كل شرٍ، وابعد كل همٍ، وفَرِّج كل كربٍ، وأصلح لنا أحوالنا كلها بعزتك وقدرتك يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2ypExIF


الجمعة، 19 يوليو 2019

مجهولون في الأرض، معروفون في السماء


الجمعة 19 يوليو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٦
(مجهولون في الأرض، معروفون في السماء)

كتب أحدهم يقول: دُعيتُ مرةً لحفل تكريمٍ لي في إحدى الدول، وأراد المكرِّمون أن يكون التكريم في المسجد بعدما أخطب لهم الجمعة، وكان من بين الحضور بعض الوجهاء ونوابٌ من البرلمان وغيرهم من عِلية القوم يجلسون في الصف الأول. بعد انتهاء صلاة الجمعة وقف الإمام وقال: "سيكون التكريم اليوم جديداً من نوعه؛ لن يُسَلِّم الهدية اليوم نائبٌ من البرلمان، ولا وجيهٌ من الوجهاء، سيسلمها رجلٌ آخر لا نعرفه لكن الله يعلمه!"، ثم نادى وقال: "فليقم أول من دخل المسجد!"، تلفت الناس كلهم يُمنةً ويُسرةً، ثم فوجئوا برجلٍ مغمورٍ من بين الناس يقوم خجلاً، ويمشي على استحياءٍ نحو الإمام، الذي طلب منه أن يسلمني هدية التكريم، سلمني الرجل هديتي ثم عاد إلى مكانه تتبعه الأبصار والقلوب على السواء.
يقول الكاتب: هذا المشهد البسيط يختزل مشهد الآخرة بامتياز؛ رجلٌ مغمورٌ لا يعرفه أحدٌ، ومشاهير يجلسون في الصفوف الأولى يعرفهم كل أحدٍ، لكن لما كان الاختيار على حسب مطالب الآخرة لا الدنيا؛ قام المغمورون وقعد المشهورون، ففي ميزان الله يسبق المغمور الصالح، ويتأخر المشهور الأقل منه صلاحاً؛ ففي الحديث الشريف: [إِنَّهُ لَيأتِي الرَّجُلُ السَّمِينُ العظِيمُ يَوْمَ الْقِيامةِ لا يزنُ عِنْد اللَّه جنَاحَ بعُوضَةٍ]. اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾. إن الشرف الحقيقي هناك لا هنا، وإن الوجاهة وجاهة الآخرة قبل الدنيا، وإن يوم القيامة يوم المفاجآت، وإن الأسماء اللامعة في الدنيا ليس شرطاً أن تلمع في الآخرة، وإن كثيراً من الذين نظنهم منسيين أو خاملي الذكر اليوم ستشنف أسماؤهم سمع أهل المحشر يوم يُعاد ترتيب الأسماء؛ إنهم (مجهولون في الأرض، معروفون في السماء).

أحبتي في الله .. يُذكر أن عجوزاً ماتت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تَقُمُّ المسجد - أي تنظفه وتطيّبه - ما كان أكثر المسلمين يعرفونها أو يعرفون اسمها، لكن لعلّها كانت صاحبة شأنٍ بين أهل السّماء؛ ماتت فصلّى عليها النّاس ودفنوها، ولم يُؤْذِنُوا بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا علم بوفاتها بعد أيامٍ عاتب أصحابه وقال لهم: [أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي]، ثمّ ذهب إلى قبرها فصلى عليها. أيّ مكانةٍ هذه التي حازتها تلك المرأة في السّماء حتّى يُؤمر خاتم الأنبياء بأن ينطلق إلى قبرها ليصلّي عليها ويجزل لها الدّعاء! ما ضرّها أنّ أهل الأرض اختلفوا في اسمها، ما دامت قد كانت معروفةً في السّماء.
وذكر أهل السِيَر أنّ مسلمة بن عبد الملك القائد المسلم المعروف، حاصر في بعض فتوحاته حصناً من الحصون، فاستعصى فتحه على المسلمين، ولقوا جراء ذلك مشقةً كبيرةً، فلما كان اللّيل تقدم جنديٌ ملثمٌ وألقى بنفسه على الحصن، واحتمل ما احتمل من الخطر، وأحدث في الحصن نقباً كان سبباً في تيسّر فتحه بعد ذلك. عقب الفتح نادى مسلمة في جنوده: "أين صاحب النقب؟"، فلم يجبه منهم أحدٌ، كرّرها مراراً فلم يجبه أحدٌ، فقال مسلمة: "عزمت على صاحب النقب أن يأتي للقائي في الوقت الذي يختاره"، فلمّا كان اللّيل أتاه رجلٌ ملثّمٌ فقال له: "أنا أعرف صاحب النّقب، وأدلّكم عليه بشروطٍ ثلاثة؛ ألا تبعثوا باسمه في صحيفةٍ إلى الخليفة، وألا تأمروا له بشيءٍ جزاء ما صنع، وألا تسألوه من هو"، فقال مسلمة: "له ذلك، أين هو؟"، فأجاب الجندي الملثم: "أنا صاحب النقب أيها الأمير"، ثم سارع بالخروج، من دون أن يكشف عن وجهه أو يعرفه أحدٌ. وظلّ مجهولاً لم يُعرف بين أهل الأرض، لكن يكفيه أنه كان معروفاً في السّماء، حتّى أنّ القائد المظفّر مسلمة بن عبد الملك صار بعد ذلك لا يصلي صلاةً إلا قال في دعائها: “اللهمّ اجعلني مع صاحب النّقب يوم القيامة”.
وذكر ابن كثير في تاريخه أنّ السائب بن الأقرع قدم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يبشره بنصر المسلمين في معركة نهاوند ضدّ الفرس في السّنة 21 هـ، فسأله عمر عن قتلى المسلمين، فعدَّ فلاناً وفلاناً من أعيان الناس وأشرافهم، ثم قال لعمر: وآخرون من أفناد الناس لا يعرفهم أمير المؤمنين؛ فجعل عمر يبكي ويقول: “وما ضرهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين؟! لكن الله يعرفهم، وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر؟”.
هؤلاء وأمثالهم هم بحقٍ (مجهولون في الأرض، معروفون في السماء)، وصفهم العارفون بأنهم لا يأبهون إن كان لهم نصيبٌ من الدنيا أم لم يكن، لا يطمعون في مالٍ أو جاهٍ، لا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، غناهم في قلوبهم، يكتفون بالرضا، والقليل من الزاد، إلا إن زادهم الحقيقي هو ذكر الله، وموطنهم الأصلي هو السماء، ليست الدنيا هي موطنهم، إنهم الأتقياء الذين يعيشون في الدنيا بأجسادهم بينما أرواحهم معلقةٌ بالآخرة، يرون فيها حياتهم ومماتهم وخلودهم، يرون الحُلم في أسمى معانيه حينما يكونون بعيدين عن أنظار الناس، غلبت قلوبهم شهوات أنفسهم، وتوطنت بداخلهم لذة العبودية، واستبدلت لذة المعصية؛ فكانوا جند الله في الأرض، مصلحين مستغفرين، ليس عليهم سيماء سوى أثر الباقيات الصالحات، مجهولون في الأرض لا يأبه لهم الناس، فلكأنهم في شفافيتهم ونقائهم سكان السماء، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. إنهم يتقنون فن إشباع القلب بالإيمان، ويُبدعون في أعمالهم إغاظةً للشيطان، بينما هم سائرون خطوةً بخطوةٍ على سبيل قائدهم عليه الصلاة والسلام حين قال: [كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ]. ربّما لا يعرفهم ولا يتحدّث عنهم ولا يهتمّ بهم أحدٌ، لكنّهم مشهورون في الملأ الأعلى عند الله وبين ملائكته؛ فكم من مشهورٍ في الأرض مجهولٍ في السماء، وكم من مجهولٍ في الأرض معروفٍ في السماء.
الشّهرة في السّماء شهرةٌ يحظى صاحبها بالقُرب والرّضا والذّكر عند الله، فيعيش دنياه مرتاح البال قرير العين هانيها، يجعل الله له من كل ضيقٍ فرجاً، ومن كلّ همٍّ مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، دعاؤه مُجابٌ، وأمله مُنالٌ، ما أن يرفع يديه إلى السّماء ويدعو ربّه، حتى تقول الملائكة: صوتٌ معروفٌ من عبدٍ معروف.
صدق من قال: "لو رأيتَ مقامات الناس في الآخرة ستفاجأ بأناسٍ درجاتهم سابقةٌ ولا أحد يعرفهم؛ إنهم الأتقياء الأخفياء".
وصدق من كتب: "هنيئاً لخفِي العمل؛ هناك أناسٌ يعيشون معنا في الأرض، وأملاكهم في السماء عظيمةٌ؛ قصورهم تُبنى، وبساتينهم تُزرع، فأكثروا من الخبايا تغنموا".

يقول أهل العلم ‏أن الشهرةَ الحقيقية هي التي تكون في السماء، ومن أعظم أسبابها كثرة ذكر الله، قال الله في الحديث القدسي: {أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعهُ إِذَا ذَكَرَني، فَإن ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي، وإنْ ذَكَرَني في ملإٍ، ذكَرتُهُ في ملإٍ خَيْرٍ منْهُمْ}.
فإن لم تكن ذاكراً الله في نفسك أو في ملأٍ، فكُن ممن يغشون مجالس تلاوة وتدارس كتاب الله في بيتٍ من بيوته تحظى بالشهرة التي لا تضارعها شهرةٌ؛ قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: [مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ].
هل تعي معنى أن يذكرك الله سبحانه وتعالى في نفسه؟
هل تدرك معنى أن يذكرك الله سبحانه وتعالى في ملأ السماء؟
هل تستوعب معنى أن تنزل عليك السكينة؟
هل تتصور معنى أن تغشاك الرحمة؟
هل تفهم معنى أن تحفك الملائكة؟
هل تعقل حجم الشرف الذي تحظى به عندما تكونُ مشهوراً في السماء؟
إنه ذلك الفضلُ الذي لا يصفه لفظٌ، ولا يُعَبِّر عن شكره بحقٍ إلا سجود القلب.

أحبتي .. أختم بعباراتٍ طيبةٍ كتبها أحد الصالحين، قال فيها: أخي المؤمن؛ لا تهتمّ بالشّهرة بين النّاس وفي هذه الدّنيا الفانية وعلى ظهر هذه الأرض، اهتمّ بما يقوله عنك ربّ العزّة جلّ وعلا، اهتمّ بمقامك في الملأ الأعلى، اهتمّ بما يقوله عنك الملائكة المقرّبون، جاهد نفسك على إخلاص أقوالك وأعمالك وأحوالك لله، واحرص على إخفاء ما يمكنك إخفاءه منها. اجعل بينك وبين الله أسراراً من الأعمال والأقوال والأحوال الصّالحة لا يطّلع عليها إلا الله. لا تهتمّ بما يقوله عنك النّاس. احرص على الإخلاص، وتأكّد من أنّ الله لن يضيّع عملك. الدّنيا شأنها حقيرٌ والعمر قصيرٌ، لكنّه يطول بالنية الصّالحة الصّادقة. ازرع الخير مهما رأيته هيّناً وقليلاً، ولا تنتظر شكراً من أحد. انتظر جزاءك من الله. ازرع الخير في زوجتك وأبنائك وفي أصدقائك وجيرانك بكلماتك ومواقفك، وكن على يقينٍ بأنّه سيثمر يوماً ما بإذن الله؛ يقول الحقّ جلّ وعلا: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنَّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾.
اللهم اجعلنا من عبادك الذين هم (مجهولون في الأرض، معروفون في السماء). تجاوز عن تقصيرنا، وأعنَّا على الإكثار من ذِكرك في أنفسنا، وفي مجالس الذِكر وتلاوة وتدارس القرآن في المساجد، وتقبل منا أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم.

http://bit.ly/30HmTvM

الجمعة، 12 يوليو 2019

الدعوة إلى الله


الجمعة 12 يوليو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٥
(الدعوة إلى الله)

تحت عنوان "البريطاني إدريس توفيق، قسٌ تحوّل إلى داعيةٍ إسلاميٍ على يد طفلٍ مصريٍ" نشرت إحدى الصحف هذه القصة الواقعية:
كان قساً كاثوليكياً في الفاتيكان لا يعرف عن الإسلام إلا ما تقدمه له وسائل الإعلام الغربية من أن هذا الدين هو دين العنف والإرهاب في العالم، وساقته الأقدار للسفر من بلده في إنجلترا إلى المنطقة العربية ليعود منها مسلماً بل وداعيةً إسلامياً. يقول إدريس توفيق: أول معرفةٍ لي بالإسلام لم تكن من خلال الكتب أو الصحف أو متابعة وسائل الإعلام الإسلامية وكثرة الاطلاع على العلوم الإسلامية، لكن كانت بداية تعرفي على هذا الدين الحنيف من خلال خطوةٍ عمليةٍ بدأت عن طريق طفلٍ مصريٍ صغيرٍ لا يزيد عمره على 12 عاماً يعمل ماسح أحذيةٍ بميدان رمسيس بالقاهرة؛ فعندما وقفتُ أمامه ليقوم بمسح حذائي نظر إلى وجهي بابتسامةٍ طفوليةٍ وقال لي: "السلام عليكم"، فلفت نظري هذا التعبير بشدةٍ وأنا مواطنٌ غربيٌ كل معلوماته عن الإسلام أنه دين عنفٍ وإرهابٍ وتعصبٍ، كما تروج له وسائل الإعلام الغربية. وقتها سألتُ نفسي ما هو هذا الدين الذي تبدأ تحيته بالسلام؟ ولماذا يسعى الغرب إلى تشويهه في أذهان أبنائه؟ وبعد هذا اللقاء مع الطفل الصغير بدأتُ رحلتي الحقيقية في البحث عن حقيقة الإسلام، وكأن الله عزَّ وجلَّ سخَّر لي هذا الطفل ليكون سبباً رئيسياً ومباشراً في اعتناقي للإسلام، وتحولي لأحد المدافعين والمنافحين عنه، بل والداعين له في أوروبا والعالم، وأنا أعتبر أن هذا الطفل سيُثاب ثواباً كبيراً عني، وعن كل من اعتنق الإسلام على يدي، لمجرد أنه ابتسم في وجهي وحياني بتحية الإسلام، ونقل لي صورةً حقيقيةً عن سماحة الإسلام في يومٍ من الأيام. ومِن هذا الطفل تعلمتُ أننا كمسلمين يجب أن يكون أفضل ما لدينا في (الدعوة إلى الله) أن نكون أول من نطبق صحيح الإسلام على أنفسنا قبل دعوة الآخرين إليه، ونتعامل مع الآخر كما أراد الإسلام. قبل اعتناقي للإسلام كنتُ قساً كاثوليكياً درستُ الكهنوت في روما، واليوم أحاول أن أضع رؤيتي وخبرتي أمام غير المسلمين لأساعد على تصحيح صورة الإسلام لديهم، وأيضاً للمسلمين الأوروبيين خاصةً الذين لديهم بعض القناعات الزائفة عن الإسلام لكي يعودوا مسلمين صحيحي الإسلام والعقيدة.

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى في وصف هؤلاء الذين أنار الله بصيرتهم فعادوا إلى دين الفطرة، إلى دين الإسلام، أنهم على نورٍ من ربهم: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدرَهُ لِلإِسلامِ فَهُوَ عَلى نورٍ مِن رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلقاسِيَةِ قُلوبُهُم مِن ذِكرِ اللَّهِ أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبينٍ﴾.
ومن بين الذين شرح الله صدورهم للإسلام الشيخ يوسف أستيس، الذي أسلم في عام 1991م، وصار من أشهر رجال (الدعوة إلى الله) في الغرب.
يقول الشيخ يوسف عن قصة إسلامه: بدأتُ بالدراسة الكنسية أو اللاهوتية عندما اكتشفتُ أني لا أعلم كثيراً عن ديني، وبدأتُ أسأل أسئلةً دون أن أجد أجوبةً مناسبةً لها، فدرستُ حتى صرتُ واعظاً وداعياً من دعاة النصرانية، وكذلك كان والدي، وكنا بالإضافة إلى ذلك نعمل بالتجارة في الأنظمة الموسيقية وبيعها للكنائس، وكنتُ أكره الإسلام والمسلمين؛ حيث أن الصورة المشوهة التي وصلتني وارتسمت في ذهني عن المسلمين أنهم أناسٌ وثنيون لا يؤمنون بالله ويعبدون صندوقاً أسوداً في الصحراء، وأنهم همجيون وإرهابيون يقتلون من يخالف معتقدهم. ذات يومٍ أخبرني والدي إنه سيأتي إلينا رجلٌ من مصر قد نقيم معه تجارةً في مجال بيع السلع المختلفة؛ ففرحتُ في نفسي وقلتُ: سوف نتوسع في تجارتنا، وتصبح تجارةً دوليةً تمتد إلى أرض ذلك الضخم أعني "أبي الهول"! ثم قال لي والدي: لكنني أريد أن أخبرك أن هذا الرجل الذي سيأتينا مسلمٌ، وهو رجل أعمال. فقلتُ منزعجاً: مسلمٌ!! لا، لن أتقابل معه. أصرّ والدي على رأيه بأن أقابل ذلك المصري المسلم؛ فلما حضر موعد اللقاء لبستُ قبعةً مكتوباً عليها "عيسى هو الرب" وعلقتُ صليباً كبيراً في حزامي، وأمسكتُ بنسخةٍ من الكتاب المقدس في يدي، وحضرتُ إلى طاولة اللقاء بهذه الصورة، ثم تطرقنا في الحديث عن ديانته، وتهجمتُ على الإسلام والمسلمين حسب الصورة المشوهة التي كانت لدي، وكان هو هادئاً جداً وامتص حماسي واندفاعي ببرودته، ثم دعاه والدي للإقامة عندنا في المنزل، وكان المنزل يحويني أنا وزوجتي ووالدي ثم جاء هذا المصري، واستضفنا كذلك قسيساً آخر لكنه يتبع المذهب الكاثوليكي؛ فصرنا نحن الخمسة؛ أربعةٌ من علماء ودعاة النصارى: أنا وكنتُ درستُ الإنجيل والمذاهب النصرانية واخترتُ بعضاً منها أثناء حياتي وانتهيتُ إلى حصولي على شهادة الدكتوراة في العلوم اللاهوتية، ووالدي من المذهب البروتستانتي وكان قد قرأ الإنجيل منذ صغره وصار داعياً ذا منصبٍ معترفٍ به في الكنيسة، ومعنا قسيسٌ كاثوليكي له خبرة 12 عاماً في الدعوة في الأمريكيتين، وزوجتي وكانت من مذهب الإنجيليين الجدد الذي له ميولٌ صهيونيةٌ، ومسلمٌ مصريٌ عاميٌ. كنا نحن النصارى في البيت يحمل كلٌ منا نسخةً مختلفةً من الكتاب المقدس، ونتناقش عن الاختلافات في العقيدة النصرانية وفي الأناجيل المختلفة على مائدةٍ مستديرةٍ، والمسلم يجلس معنا ويتعجب من اختلاف كتبنا؛ فسألنا المسلم المصري - وكان اسمه محمد -: كم نسخةً مختلفةً من القرآن عندكم؟ فقال: ليس لدينا إلا نسخةٌ واحدةٌ، والقرآن موجودٌ كما أُنزل بلغته العربية منذ أكثر من 1400 سنة، لم يتغير أبداً، وقد حُفِظَ في صدور الكثير من الناس، وأنه على مدى قرونٍ فإن الملايين قد حفظوه تماماً، وعلَّموه لمن بعدهم. فنزل هذا الجواب علينا كالصاعقة!
هكذا بدأنا الحوار معه، ولعلَّ ما أثار إعجابي أثناء الحوار أن محمداً لم يتعرض للتجريح أو التهجم على معتقداتنا أو إنجيلنا وأشخاصنا، وظل الجميع مرتاحين لحديثه. ولما أردتُ دعوته للنصرانية، قال لي بكل هدوءٍ ورجاحة عقل: إذا أثبتَّ لي أن النصرانية أحق من الإسلام سأتبعك إلى دينك الذي تدعو إليه. فقلتُ له: متفقين؛ فسأل محمدٌ: أين الأدلة التي تثبت أفضلية دينكم وأحقيته؟ قلتُ: نحن لا نؤمن بالأدلة، ولكن بالإحساس والمشاعر. قال محمدٌ: ليس كافياً أن يكون الإيمان بالإحساس والمشاعر، والإسلام فيه الدلائل والمعجزات التي تثبت أن الدين عند الله الإسلام. فطلبتُ هذه الدلائل، فقال محمدٌ: إن أول هذه الأدلة هو كتاب الله سبحانه وتعالى - القرآن الكريم - الذي لم يطرأ عليه تغييرٌ أو تحريفٌ منذ نزوله، وهذا القرآن يحفظه كثيرٌ من الناس، ولا يوجد أي كتابٍ في العالم على وجه الأرض يحفظه الناس، كما يحفظ المسلمون القرآن الكريم من أوَّله لآخره؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وهذا الدليل كافٍ لإثبات أن الدين عند الله الإسلام. سألنا الأخ محمد: ما هو اعتقادكم في الإله في الإسلام؟ فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيمِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، تلاها بالعربية ثم ترجم لنا معانيها، وكأن صوته حين تلاها بالعربية دخل إلى قلبي، ولا يزال صوته يرن صداه في أذني ولاأزال أتذكره، أما معناها فلا يوجد أوضح ولا أفضل ولا أقوى ولا أوجز ولا أشمل منه إطلاقاً. فكان هذا الأمر مثل المفاجأة القوية لنا، مع ما كنا نعيش فيه من ضلالاتٍ وتناقضاتٍ في هذا الشأن وغيره. منذ ذلك الحين بدأتُ البحث عن الأدلة الكافية، التي تثبت أن الإسلام هو الدين الصحيح، وذلك لمدة ثلاثة أشهرٍ بحثاً مستمراً. بعد هذه الفترة وجدتُ في الكتاب المقدس أن العقيدة الصحيحة التي ينتمي إليها سيدنا عيسى عليه السلام هي التوحيد، وأنني لم أجد فيه أن الإله ثلاثةٌ كما يدَّعون، ووجدتُ أن عيسى عبد الله ورسوله وليس إلهاً، مثله كمثل الأنبياء جميعاً جاء يدعو إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، وأن الأديان السماوية لم تختلف حول ذات الله سبحانه وتعالى، وكلُّها يدعو إلى العقيدة الثابتة بأنه لا إله إلا الله، ولقد علمتُ أن الإسلام جاء ليختم الرسالات السماوية ويكملها، ويُخرج الناس من حياة الشرك إلى التوحيد والإيمان بالله تعالى، وأن دخولي في الإسلام سوف يكون إكمالاً لإيماني بأن عيسى هو عبد الله ورسوله، وأنه كان يدعو إلى الإيمان بالله وحده. ثم وجدتُ أن الله سبحانه وتعالى تحدَّى الكفار بالقرآن الكريم أن يأتوا بمثله، أو يأتوا بآياتٍ مثله، فعجزوا عن ذلك. وأيضاً من المعجزات التي رأيتُها، والتي تثبت أن الدين عند الله الإسلام التنبؤات المستقبلية التي تنبأ بها القرآن الكريم مثل: ﴿الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾.
وفي أحد الأيام طلب القسيس الكاثوليكي من الأخ محمد أن يصطحبه معه ليرى صلاة المسلمين في المسجد، فأخذه معه وذهب به إلى أحد المراكز الإسلامية، فرأى وضوء المسلمين وصلاتهم، وبقي ينظر إليهم، ولما عاد القسيس توجهنا بسؤالنا له: أي أنواع الموسيقى يستخدمونها أثناء الصلاة؟ فقال: ولا واحدة. فقلنا متعجبين: يعبدون ربهم ويصلون بدون موسيقى؟! فقال القسيس: نعم، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأعلن إسلامه. فقلتُ له: لماذا أسلمتَ؟ أأنت متيقنٌ مما تفعله؟ قلتُ له ذلك وأنا في نفسي أتمنى لو أني كنتُ أسلمتُ قبله حتى لا يسبقني لما هو أفضل! وصعدتُ أنا وزوجتي إلى الأعلى، فقالت لي: أظن أني لن أستمر بعلاقتي معك طويلاً. فقلتُ لها: لماذا؟ هل تظنين أني سأسلم؟ قالت: لا، بل لأني أنا التي سوف تسلم! فقلتُ لها: وأنا أيضاً في الحقيقة أريد أن أُسلم. قال: فخرجتُ من باب البيت، وخررتُ على الأرض ساجداً تجاه القبلة، وقلتُ: يا إلهي اهدني. وشعرتُ مباشرةً بانشراح صدري للإسلام، ثم دخلتُ البيت وأعلنتُ إسلامي.
كان أبي أكثر تحفظاً، انتظر أشهراً قبل أن ينطق بالشهادتين، كما أسلم أولادي، والحمد للّه الذي جعلنا مسلمين. الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة محمدٍ خير الأنام.
يقول يوسف: تعلَّق قلبي بحب الإسلام وحب الوحدانية والإيمان باللّه تعالى، وأصبحتُ أغار على الدين الإسلامي أشد من غيرتي من ذي قبل على النصرانية، وبدأت رحلة الدعوة إلى الإسلام وتقديم الصورة النقية، التي عرفتُها عن الدين الإسلامي، الذي هو دين السماحة والخُلق، ودين العطف والرحمة.
ويقول: أرى أن إسلامنا جميعاً كان بفضل الله، ثم بالقدوة الحسنة في ذلك المسلم الذي كان حسن (الدعوة إلى الله) وكان قبل ذلك حسن التعامل، وكما يقال عندنا: "لا تقل لي، ولكن أرني".

يقول أهل العلم أن الله سبحانه وتعالى رغّب في القرآن الكريم إلى الدّعوة ونشر رسالة الإسلام؛ فقد جعل خيريّة أمّة الإسلام على باقي الأمم مرتبطةً بقيامها بواجب الدّعوة إلى الله تعالى، بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنّكر، قال الله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، ووصف تعالى الدّعاة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنّكر بأنّهم مفلحون؛ قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، كما وصف عزّ وجلّ قول الدّعاة بأنّه أحسن الأقوال؛ حيث قال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، وبيَّن طرق الدعوة عند التعامل مع غير المسلمين؛ قال سبحانه وتعالي: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ﴾ أي أن الدعوة إلى الله لا تكون إلا بالخُلق الحسن والمعاملة الطيبة؛ فعندما سُئلت السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ". هذه هي الأخلاق التي ينبغي أن نكون عليها تأسياً برسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام.
وفي السُنّة النبويّة حثنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أن ندعو غير المسلمين للإسلام؛ بقوله: [لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم]. وبيَّن عليه الصلاة والسلام أنّ أجر الدّاعية مستمرٌ ما دام المدعوّ يعمل بما دعاه إليه الدّاعية؛ حيث قال: [مَن دعا إلى هدىً، كانَ لَهُ منَ الأجرِ مثلُ أجورِ منِ اتَّبعَهُ، لا ينقُصُ ذلِكَ من أجورِهِم شيئًا].

أحبتي في الله .. واجبٌ على كل مسلمٍ منا أن يكون مثالاً حياً لتعاليم الإسلام، بأخلاقه وسلوكه وتعاملاته؛ فغير المسلمين يحكمون على الإسلام من خلال ما يرون من المسلمين؛ فلنكن خير سفراء لديننا الحنيف حتى نكسب ثواب (الدعوة إلى الله) ودخول الناس في الإسلام.
اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/32laoHX