الجمعة، 1 سبتمبر 2017

يوم العيد

الجمعة 1 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /٩٩
(يوم العيد)

يُروى أنه قبل أيامٍ من العيد ذهب رب عائلةٍ متوسط الدخل إلى السوق لشراء أضحية العيد، وبعدما اختار كبشاً كبيراً ودفع ثمنه التقى أحد أصدقائه وطلب منه أن يأخذ الكبش إلى منزله لأنه كان مشغولاً، وكان صديقه متوجهاً ناحية بيته. لم يكن الصديق متأكداً من موقع المنزل بالضبط فأخطأ وأخذ الكبش إلى جيران صديقه وأعطاهم إياها قائلاً: "هذه الأضحية لكم" دون أن يذكر مِن مَن. كان الجيران فقراء لا يملكون المال لشراء الأضحية ففرحوا كثيراً ظناً منهم أنها من أحد المحسنين، ومن شدة فرحهم انتبهت لهم زوجة رب الأسرة وتساءلت في نفسها من أين لهم بالمال لشراء هذا الكبش؟ عندما عاد رب الأسرة إلى المنزل توقع أن يجد أولاده فرحين بالكبش لكنه وجد كل شيءٍ عادياً، دخل المنزل وسأل زوجته عن الكبش فردت عليه أن لا أحد أتى به، ثم تذكرت جيرانها فقالت له: "أعتقد أن صديقك أخطأ وأخذ الأضحية لجيراننا فاذهب واستردها منهم"، فرَّد عليها قائلاً: "الله قد كتبها لهم ولا يحق لنا أن نسلب الفرحة من نفوس الأولاد الفقراء في (يوم العيد)". وقرر أن يذهب لشراء أضحيةٍ أخرى، عندما عاد إلى السوق وجد أحد البائعين يحط رحله فذهب إليه، وقال في نفسه سأكون أول المشترين منه عسى أن يخفض لي في الثمن، وعندما وصل للبائع واختار كبشاً ليشتريه منه، قال له البائع أنه قد وقع له في طريقه إلى السوق حادثٌ نجا منه هو وماشيته بأعجوبةٍ فنذر نذراً أنه سيدَع أول زبونٍ يختار أفضل أضحيةٍ ثم يأخذها دون أن يدفع شيئاً! فسبحان الله؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، وقال عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الله سبحانه وتعالى قد شرع الأعياد فرحاً وسروراً للمسلمين بعد مواسم الخيرات وفرائض العبادات؛ فعيد الفطر يأتي بعد أداء فريضة الصوم، وكذا عيد الأضحى يأتي بعد قضاء الركن الأعظم في فريضة الحج وهو الوقوف بعرفة. وقد جعلها الشرع أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ يرفه فيها المسلم عن نفسه وأهله ويوسع عليهم بما شرع الله وأحل من التوسعة الطيبة المباحة؛ فشُرعت التوسعة على الأهل بأنواع الطيبات من المآكل والمشارب في الأعياد، ففي عيد الفطر فرض الله زكاة الفطر ومن عللها أن يجد الفقير ما يوسع به على أهله من المأكل في يوم العيد، وكذا في عيد الأضحى شرع الله تعالى الأضحية ومن عللها أن يجد  الفقير ما يوسع به على أهله من طيب الطعام وليشارك إخوانه من المسلمين بفرحهم ويتشبه الجميع بالحجيج في نسك الذبح.
وها هي أيام عيد الأضحى هلت على الأمة الإسلامية مبشرةً بالفرحة والبهجة والسرور متزامنةً مع شعيرة الحج وزيارة البيت الحرام. وهلَّ (يوم العيد) الذي نضحي فيه اقتداءً بسيدنا إبراهيم عليه السلام عندما أمره الله أن يذبح ابنه اسماعيل فأخذه إلى الصحراء حتى يذبحه ولكن الله فداه بكبشٍ من السماء فأصبحت الأضحية في عيد الأضحى سُنةً لجميع المسلمين؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾. هلت أيام العيد، أيام الفرح وهو مرتبطٌ في الإسلام بالعبادات وبالطاعة، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
يبدأ (يوم العيد) أولاً بتجمع المسلمين في الصباح الباكر مع شروق الشمس لأداء صلاة العيد، وهي من السنن النبوية الشريفة، وهي من أجمل الأمور في العيد، لا يكتمل جماله بدونها، بعدها يذهب المسلمون لذبح الأضاحي؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنَّتنا ...]. ويصف الشاعر نحر الأضحية (يوم العيد) في بيتين:
ويومَ العيدِ صلِّينا
وعُدنا للقرى صُبحا
وقمنا بعد أن عُدنا
ذبحنا كبشنا ذبحا
وسنة النحر لها فضلٌ كبيرٌ؛ قال ‏‏أصحاب رسول اللّهِ ‏صلى اللَّهُ عليه وسلم: ‏‏يا رسول اللَّه ما هذه الأضاحي؟ قال: ‏[سُنَّةُ أَبِيكُمْ ‏‏إِبْرَاهِيمَ]، ‏قالوا: فما لنا فيها يا رسول اللَّهِ؟ قال: [بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ]، قالوا: فالصوف يا رسول اللَّه؟ قال: [بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنْ الصُّوفِ حَسَنَةٌ].

يقول أحد العلماء أن من عظمة التشريع الإلهي أنه جعل العبادات التي يتقرب بها الإنسان لله سبحانه تعالى ويكسب بها رضاه هي ذاتها في كثيرٍ منها مما يفيد منها الناس فيحصل التكافل وتنتشر المودة ويسود العطف بينهم؛ فتوزيع لحم الأضاحي يُدخل السرور والبهجة على قلوب الفقراء.
ومن مظاهر الاحتفال بالعيد الإكثار من التكبير والتهليل فأيامه مباركةٌ نظراً لأن مناسك الحج لا تنتهي إلا في ثالث أيام التشريق وهو رابع أيام عيد الأضحى. ولا شك أن صلة الرحم والإكثار من الزيارات للأهل والأقارب يدخل الفرح والسرور والمودة والرحمة في قلوب الناس، مما يعمل على تقريبهم وتقوية ما بينهم من علاقات وحل ما بينهم من نزاعات أو خلافات.

أحبتي ... هل فكرنا كيف نستثمر وقتنا (يوم العيد) أفضل استثمار ممكن من الناحية الشرعية، بحيث نجعل منه موسماً حقيقياً من مواسم الخيرات يعم فيه النور وتتنزل الرحمات؟ يعرض أحد المجتهدين بعض ما يمكن عمله احتفالاً بالعيد وسعياً لرضا الله سبحانه وتعالى، من ذلك:
بر الوالدين وإدخال السرور عليهما؛ فهما سبب وجودك ولهما عليك غاية الإحسان، وقد وصى الله تعالى بهما في غير موضع من القرآن؛ فقال سبحانه: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾، وقال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ فأحرى بنا أن نسعدهما أيام العيد.
ثم الإحسان إلى الزوجة وإدخال السرور على نفسها، وغمرها بالعطف والمودة الزائدة في هذا اليوم، فكم من بيتٍ يقضي عيده في تعاسةٍ بسبب تفويت الزوج لأسبابٍ بسيطةٍ جداً تُدخل السرور على أهله. وكلنا يعلم وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالنساء وأن خيرنا خيرنا لأهله، وخير الأمة لأهله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلا تأسينا به. ويلحق العناية بالزوجة العناية بالأولاد وإدخال السرور على نفوسهم ولو بضحكةٍ أو قبلةٍ على جبين ولدك فمن لا يَرحم لا يُرحم.
وكذلك صلة الأرحام، وتكون بالتزاور والتواد والتعاطف، وما أجمل أن يزور الأثرياء الفقراء من عائلتهم؛ فكم يُدخل مثل هذا الصنيع الفرح والسرور على الأقارب وأولي الأرحام من الفقراء، حتى لو كانوا مقاطعين لك ولا يصلونك، امتثالاً لما جاء في الحديث الشريف: [ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من وصل من قطعه].
وأيضاً الإحسان إلى الجار في أيام العيد له فضلٌ كبيرٌ؛ فقد أوصانا الله تعالى بالجار فقال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: [ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه]، وقال صلى الله عليه وسلم: [خيرُ الأصحابِ عِندَ الله خيرُهُم لصاحِبه، وخيرُ الجيرانِ عِند الله خيرُهُم لجاره]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحسن إلى جاره]، فما أجمل زيارة الجيران؛ لما في مثل هذا التصرف من إشاعةٍ للمحبة والمودة والإخاء.
يأتي بعد ذلك ود وصلة من تحابوا في الله وتعارفوا فيه فاجتمعوا عليه وتفرقوا عليه. فعلينا الاهتمام بالأخوة في الله بزيارتهم في أيام العيد حتى تكتمل سعادتنا وسعادتهم.

يقول الشاعر:
هــل الـعـيدُ إلا أن تـعـود عـلى الـذي
هـجـرتَ فـتُـبدي الـبِـشرَ بـعـد تـجـهمِ
وعــنـد ذوي الأرحـــامِ تـُظـهـرُ رحـمـةً
وتـبــدو بـوجــهٍ بالـبـشـاشـةِ مــفـعـمِ
هـــل الـعـيـدُ إلا أنْ تــواسـيَ فــاقـداً
وتــرفـعَ ضـيـقـاً عــن فـقـيـرٍ ومـعـدمِ
هــــل الـعـيـد إلا أن تـــزور مــجـاوراً
فـلـلـجـار حــقٌ عــنـد أهــل الـتـقـدمِ

أحبتي ... يختصر أحد العلماء آداب الاحتفال بالعيد بقوله إن العيد عند المسلم الحق الذي يحب الله تعالى ورسوله، ويخشى الله تعالى ويتقيه، هو شكر المولى عز وجل من خلال ملازمة إقامة العبادات والحفاظ عليها في أوقاتها، فالقدم تسير إلى المساجد، واللسان لا يفتر عن الذكر، والمصحف لا يُهجر، والأعمال الصالحات لا تنقطع، وخصوصاً في ذلك اليوم الذي يغفل فيه الكثيرون عن التزام التعبد. والعيد صلة الرحم وزيارة الأقارب لا المقابر وبذل الصدقات لا الإنفاق على المعاصي والمنكرات والمحرمات. العيد أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة في كل محلٍ حللت به. العيد سترٌ لا تبرجٌ وسفور. العيد إحياءٌ للسنن والشعائر وبذلٌ للقربات. والعيد ابتسامةٌ في وجه أخيك، العيد اتصالٌ هاتفيٌ برجلٍ بَعُدَ عهدك به ويرجو وِدَّك ومودتك وهو من المحبين لك ولكنك عن ذلك من الغافلين أو المتغافلين.

أحبتي ... في (يوم العيد) انشروا الفرحة والسرور، فذلك من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى؛ قال عليه الصلاة والسلام: [...وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم ...]. وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى – في عيد الأضحى – تغنيان وتضربان، والنبي متغشٍ بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي عن وجهه وقال: [دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد]. ومع الفرح والسرور لا ننسى من لهم حالات خاصة؛ اصطحبوا أبناءكم لزيارة الأطفال اليتامى في دورهم، وزيارة المرضى في المستشفيات، وتقديم الهدايا البسيطة لهم، علموا أولادكم أن سعادة الإنسان لا تكتمل إلا بإسعاده الآخرين. علموهم أن الإسلام دين الرحمة والتكافل والمودة، دين المحبة والتسامح والصفح والغفران، دينٌ ينظم لنا كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياتنا، إنه منهج حياةٍ متكامل، يحرص على أن يكون المسلم فرحاً سعيداً مسروراً بشوشاً مبتهجاً ودوداً رؤوفا رحيماً حريصاً على سعادة الآخرين، على عكس ما يروج له البعض من أعداء الدين الذين يصورون المسلم الملتزم متجهماً عبوساً كارهاً لغيره.
ختاماً أقول لكم كما قال الشاعر:
تَقَبَّلَ رَبُّنَاْ الطَّاْعَاْتِ مِنْكُمْ
وَجَاْءَ الْعَفْوُ مِنْ رَبٍّ وَدُوْدِ
وَقَاْكُمْ رَبُّنَاْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ
حَبَاْكُمْ مِنْ رِضَاْهُ بِالْمَزِيْدِ
وَفَرَّجَ عَنْكُمُ الْكُرُبَاْتِ رَبِّيْ
وَثَبَّتَكُمْ عَلَى النَّهْجِ الرَّشِيْدِ
وَقَاْنَاْ اللَّهُ مِنْ نَاْرٍ تَلَظَّىْ
وَصَيَّرَنَاْ لِجَنَّاْتِ الْخُلُوْدِ

اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين، الحامدين لك، الشاكرين نعمك، المحافظين على دينك، المقيمين لشعائرك وعباداتك، المتبعين سُـنة رسولك. اللهم تقبل منا واجعلنا من القوم الذين قلت فيهم: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/AtNSEJ



الجمعة، 25 أغسطس 2017

أيام العشر

الجمعة 25 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٨
(أيام العشر)

لسنواتٍ عديدةٍ كنا نجلس يومياً بالمسجد بعد صلاة الفجر في "مجلس علم" نستمع إلى درسٍ قصيرٍ يشرح فيه إمامنا، جزاه الله خيراً، بعض ما ورد بالآيات الكريمة التي صلى بها. بمرور الزمن تحول "مجلس العلم" إلى "موقف علم" حيث نقف خارج المسجد نتدارس ما صلينا به من آياتٍ كريمة. ثم تطور "موقف العلم" فأصبح "ممشى علم" جمعنا فيه بين حُسْنَيَيْن: تحصيل العلم، والحفاظ على الصحة واللياقة بالمشي وبتنفس الهواء النقي الذي لم يتلوث بعد بأنفاس المنافقين!
في أحد "مماشي" العلم هذه، وكانت (أيام العشر) الأولى لشهر ذي الحجة قد اقتربت ونستعد لاستقبالها باعتبارها أفضل أيام الدنيا، عرض كل واحدٍ منا ما يعتزم الالتزام به من أعمال الخير التي يتضاعف ثوابها خلال هذه الأيام المباركة، وتوصلنا إلى نتيجةٍ طيبةٍ ألا وهي إعطاء الأولوية للأعمال التي يستفيد منها غيرنا كما نستفيد نحن منها، فقدمنا الصدقات والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم القرآن وما شابه ذلك، على الصلاة والصوم والذكر وقراءة القرآن، فهذه الأخيرة تعود فائدتها علينا نحن فقط أما تلك فإلى جانب أن لنا فيها ثواباً بإذن الله فإن غيرنا يستفيد منها فنكون قد ضربنا عصفورين، أو ربما عدداً من العصافير، بحجرٍ واحد.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم عن (أيام العشر) أنه من فضل الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسم للطاعات، يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيما يقربهم إلى ربهم، والسعيد من اغتنم تلك المواسم، ولم يجعلها تمر عليه مروراً عابراً. ومن هذه المواسم الفاضلة عشر ذي الحجة، وهي أيامٌ شهد لها الرسول بأنها أفضل أيام الدنيا، وحث على العمل الصالح فيها؛ بل إن الله تعالى أقسم بها، وهذا وحده يكفيها شرفاً وفضلاً. وهذا يستدعي من العبد أن يجتهد فيها، ويكثر من الأعمال الصالحة، وأن يحسن استقبالها واغتنامها.
من فضائل عشر ذي الحجة أنّ الله تعالى أقسم بها؛ فإذا أقسم الله بشيءٍ دلّ هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بعظيم، قال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين من السلف والخلف، وقال ابن كثير في تفسيره: "هو الصحيح". وهي الأيام المعلومات التي شرع الله فيها ذكره؛ قال الله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد لها بأنها أفضل أيام الدنيا؛ فعنه أنه قال: [أفضل أيام الدنيا أيام العشر] ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: [ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجلٌ عفر وجهه بالتراب]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأيَّامِ الْعَشْرِ]، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ].
وفيها يوم عرفة وهو يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صوم هذا اليوم فقال: [صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ]. وفيها يوم النحر وهو أعظم الأيام عند الله سبحانه وتعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرِّ].
وفيها اجتماع أمهات العبادة، وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتّى ذلك في غيرها.

ويقول أهل العلم أن من الأعمال المستحبة في (أيام العشر) أداء مناسك الحج والعمرة؛ وهما أفضل ما يُعمل في عشر ذي الحجة، ومن يسّر الله له حج بيته أو أداء العمرة على الوجه المطلوب فجزاؤه الجنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلاّ الجنة]. ومن الأعمال المستحبة، بل هو من أفضلها، الصيام؛ فقد أضافه الله إلى نفسه لعظم شأنه وعلو قدره، فقال سبحانه في الحديث القدسي: {كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به}. وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد عناية، وبيّن فضل صيامه فقال: [صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده]. وعليه فيُسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة. ومن الأعمال المستحبة الصلاة، وهي من أجَّل الأعمال وأعظمها وأكثرها فضلاً، ولهذا يجب على المسلم المحافظة عليها في أوقاتها مع الجماعة، وعليه أن يكثر من النوافل في هذه الأيام، فإنها من أفضل القربات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه: {وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه}. ومنها التكبير والتحميد والتهليل والذكر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما من أيامٍ أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد]. ويُستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام ويرفع صوته به. ومن الأعمال المستحبة الصدقة؛ حث الله عليها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]. وهناك أعمالٌ أخرى يُستحب الإكثار منها في هذه الأيام منها: تلاوة القرآن وتعلمه، الاستغفار، بر الوالدين، صلة الأرحام والأقارب، إفشاء السلام وإطعام الطعام، الإصلاح بين الناس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حفظ اللسان والفرج، الإحسان إلى الجيران، إكرام الضيف، الإنفاق في سبيل الله، إماطة الأذى عن الطريق، كفالة الأيتام، زيارة المرضى، قضاء حوائج الناس، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الرفق بالضعفاء، الدعاء للآخرين بظهر الغيب، أداء الأمانات والوفاء بالعهد، إغاثة الملهوف، غض البصر، إسباغ الوضوء، الدعاء بين الأذان والإقامة، قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، الذهاب إلى المساجد والمحافظة على صلاة الجماعة، المحافظة على السنن الراتبة، ذكر الله عقب الصلوات، إدخال السرور على المسلمين، والتعاون مع المسلمين في كل ما فيه خير.
ومن لم يستطع أن يعمل شيئاً من هذه الأعمال الصالحة والمستحبة، فعلى الأقل عليه ألا يظلم نفسه بفعل السيئات والمنكرات؛ قال أحد الصالحين: ليتذكر كلٌ منا أن أيام العشر تقع في شهر ذي الحجة، وهو أحد الأشهر الأربعة الحرم؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ]؛ ألا فاحذروا أحبتي أشدَّ الحذر أن تظلموا أنفسكم في هذه الأيام المباركة (أيام العشر) وفي هذا الشهر الحرام بالسيئات والخطايا، والبدع والضلالات، والظلم والعدوان، والغِش والكذب، والغيبة والبهتان والنميمة، والحسد والغِلِّ والحقد، والفجور في الخصومة، والسَّب واللعن والقذف، فهي كلها من ظلم الإنسان لنفسه، وهو ما نهانا عنه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ فإن الظلم محرمٌ في كل وقت وهو أشد تحريماً وأعظم خطيئةً ووزراً في الأشهر الحرم، فما بالنا إن كانت، والعياذ بالله، في أحب أيام الدنيا؟.
قال الشاعر عن (أيام العشر):
ألا يا باغي الخيرات أقْبِل
إلى ذي الحجَّة الشهر الحرام
به العشر الأوائل حين هلت
أحــب الـلـــه خـــيـــراً للأنام
بها النفحات من فيضٍ ونورٍ
وعــــــــــرفاتٍ فَشَمِّرْ للصيام
بها النحر الذي قد قال فيه
إلــــــــــه العرش ذكراً للأنام
بها الميلاد يبدأ من جديدٍ
إذا ما القلب طُهر من سقام
وبالحسنات فرج كل ذنب
إذا شئت الوصول إلى المرام
ألا يا باغيَ الخيرات أقبل
فــــــــإن الشهر شهرٌ للكرام
إذا استهواك شيطانٌ فأدبر
ولا تركنْ إلى الفعل الحرام

أحبتي ... إن لربكم في أيام دهركم نفحات،
و(أيام العشر) من مواسم الخير التي ينبغي على المسلم أن يتعرض فيها لنفحات رحمة الله عز وجل.
إلى من فاتهم أن تُعتق رقابهم من النار في رمضان فعادوا من بعدها تائهين، ومن لذات الطاعات محرومين، ما زالت أمامكم فرصٌ أدركوها؛ فأبواب المغفرة واسعةٌ والأمل في الفوز يتجدد.
فلنحرص على مواسم الخير فإنها سريعة الانقضاء، ولنقدم لأنفسنا عملاً صالحاً نجد ثوابه وقت أن نكون في أشد الحاجة إليه؛
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، التي إن مرت لا ندري هل يمتد أجلنا لنشهدها في أعوامٍ مقبلةٍ أم لا؟
هذه أيام العفو والمغفرة، أيام العتق من النيران، إنها فرصةٌ عظيمةٌ غاليةٌ من ربٍ غفورٍ ودودٍ حليمٍ عظيمٍ، هذه أيام القيام والصيام وذكر الرحمن والصدقات والدعوة إلى الله، والسعيد من اغتنمها.
جعلنا الله وإياكم من المحبين لله عز وجل، ورزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/fzQAk7


الجمعة، 18 أغسطس 2017

أكلٌ مُحَّرَمٌ

الجمعة 18 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٧
(أكلٌ مُحَّرَمٌ)

قال لي وهو منفعل: "لم أعد أطيق ما يفعله بي"، قلت وأنا أعلم من يقصد: "هو أخوك فتحمله وتحمل تصرفاته؛ عسى الله أن يهديه ويهدينا جميعاً"، قال: "لقد وصل به الأمر إلى أن يشوه سمعتي؛ فكتب عني على صفحته على الفيس بوك كلاماً جارحاً"، قلت له: "يهديك من حسناته ما لم تكن تتوقعه!"، هدأ قليلاً ثم قال: "لقد فاض بي الكيل"، قلت له: "أبشر فهذه فرصة قد وصلت إليك دون أن تسعى إليها"، تساءل متعجباً: "أية فرصة تقصد؟"، قلت: "اختبار صبرك، وإثابتك عليه"، وأكملت موضحاً: "كثيرٌ من الناس يصف نفسه بأنه صبورٌ لكنه يكتشف بأنه ليس كذلك في أول موقفٍ عمليٍ يتطلب منه الصبر، أما أنت فأراك والحمد لله صابراً على ما يفعل أخوك، أما عن ثواب الصبر فيكفي قول المولى عز وجل: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فاستمر في صبرك وزد فيه ليصل إلى مرتبة الصبر الجميل وهو الصبر بغير شكوى"، قال: "ونِعمَ بالله، لكن ما يحز في نفسي أنه أخي، ليس لي غيره، وهو الكبير، لم أكن أتوقع منه أن يؤخر عني حقي في الميراث ثم أن يأكل بعض حقي فيه وهو يعلم مدى احتياجي. لقد أوصلني لأن أقول له حسبي الله ونعم الوكيل، وكانت هذه هي اللحظة التي تحول فيها وبدأ يكتب عني بالتصريح مرةً وبالتلميح مرات"، تساءلت متعجباً: "أوما يزال إرثكم عن والدكم، رحمه الله، دون توزيعٍ حتى الآن؟ لقد تُوفي من أكثر من ثلاثين عاماً!"، رد متحسراً: "كلما فتحت معه هذا الموضوع غضب وسألني لِمَ العجلة؟! حتى حان الوقت الذي رآه هو مناسباً فباع عقاراً ورثناه عن أبينا رحمة الله عليه، وما يزال يراوغ في إيفائي حقي من البيع"، خففت عنه بقولي: "لقد قلت حسبي الله ونعم الوكيل، وهذه عبارة معناها أنك قد وكلت أمرك لله سبحانه وتعالى، وهو الذي لا تضيع عنده الحقوق، فالمطلوب منك الآن يا عزيزي هو الصبر".

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الإرث شرعاً هو ما يتركه الشخص لورثته من أموالٍ وحقوق. وقد امتاز نظام الإرث في الإسلام عن غيره من أنظمة التوريث الوضعية القاصرة، فلم يجعل الشارع الحكيم قسمة الميراث إلى مالك المال ليورث من يشاء ويحرم من يشاء، بل لم يجعل ذلك إلى نبيٍ مُرسَلٍ ولا إلى مَلكٍ مقربٍ، وإن الله سبحانه وتعالى هو الذي قسم التركة في آياتٍ قرآنيةٍ تُتلى إلى يوم القيامة. وقد وضع الإسلام للميراث شروطاً وموانع، فإذا توفرت الشروط وانتفت الموانع حصل الإرث وإلا فلا.
وعن توزيع الإرث يقول العلماء أنه ينبغي أن يتم مباشرةً بعد استكمال الإجراءات المطلوبة للقسمة من حصر الورثة والممتلكات وتنفيذ الوصايا النافذة شرعاً، ولا ينبغي تأخيره، وخاصةً إذا طلب بعض الورثة حقه، إلا إذا كان التأخير لمصلحةٍ وبرضى الورثة من الرشداء البالغين فإنه لا حرج فيه. وإذا ترتب على التأخير مردودٌ ماديٌ من إيجارٍ أو غيره فإنه يُوزع على جميع الورثة كلٌ حسب نصيبه المقدر له في كتاب الله تعالى، إلا إذا تنازل أحد الورثة من الرشداء البالغين عن حقه في ذلك.
وفي فتوى صريحةٍ يقول المفتي أن مماطلة أحد الورثة أو تأجيلُه قسمةَ الإرث أو منع تمكين الورثة من نصيبهم بلا عذرٍ أو إذنٍ من الورثة محرَّمٌ شرعاً، وصاحبه آثمٌ مأزورٌ، وعليه التوبة والاستغفار مما اقترفه، ويجب عليه رَد المظالم إلى أهلها؛ بتمكين الورثة من نصيبهم وعدم الحيلولة بينهم وبين ما تملكوه إرثاً، فقد أجمع الفقهاء على أن المال ينتقل بعد الموت من مِلك المُوَرِّث إلى ملك ورثته؛ لأنه ينقطع عن مِلك المُوَرِّث بالموت، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله]، وأن التركة بعد موت المُوَرِّث حقٌ لعموم الورثة على المشاع، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، فيستحق كل وارثٍ نصيبه من التركة بعد أن يُخصم منها نفقة تجهيز الميت وبعد قضاء الديون وإنفاذ الوصايا والكفارات والنذور ونحو ذلك، فلا يجوز لأى أحدٍ من الورثة الحيلولة دون حصول باقي الورثة على حقوقهم المقدَّرة لهم شرعاً بالحرمان أو بالتعطيل، كما لا يجوز استئثار أحدِهم بالتصرف في التركة دون باقي الورثة أو إذنهم، فمنع القسمة أو التأخير فيها بلا عذرٍ أو إذنٍ محرَّمٌ شرعاً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من فَرَّ مِن ميراث وارثِه، قَطَع الله ميراثَه مِن الجنة يوم القيامة]، وفى رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ، قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ]؛ فقطع الميراث عن أحد الورثة حرام؛ لأن الوعيد على الشيء دليلٌ على حرمته، والقطع الوارد فى الحديث يدخل فيه المنع من الإرث مطلقاً، أو تأخيره عن ميعاد استحقاقه دون عذرٍ أو إذن. المنع أو التأخير بلا عذرٍ أو إذنٍ تعدٍّ على حقوق الغير وهضمٌ لحقهم، وذلك من الظلم، والظلم من الكبائر المتوعَّد عليها، قال عليه الصلاة والسلام: [اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة]، وفيه أيضًا أكلٌ لأموال الناس بالباطل الذى نهى الله تعالى عنه فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾.

أحبتي .. حالة تأخير توزيع الميراث على الورثة، مَرَّت عليّ في حياتي أكثر من مرة وبأكثر من صورةٍ، وفي جميع الأحوال كان يترك آثاراً سلبية في علاقات الورثة بعضهم ببعض.
وأسوأ منها حالة حرمان وارثٍ من التركة، وفي ذلك ظلمٌ بينٌ يقع خاصةً على النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة الخاضعين لوصاية غيرهم.
وفيما يتعلق بالنساء على وجه الخصوص هناك من يمنع عنهم أرثهم، ومنهم من يشتري منهم حقهم في الإرث بثمنٍ بخسٍ ويدعي أن ذلك تم برضاهن لكن الحقيقة أنه حقهن اُنتزع منهن بسيف الحياء، ومنهم من يُجبر الوارثة على زواجٍ من لا ترغب فيه من أبناء العم حتى لا يضيع الورث إذا كان أرضاً زراعية فمعظم أهل المجتمعات الريفية يريدون الاحتفاظ بالملكية الزراعية وفى اعتقادهم أن توريث المرأة سيذهب بممتلكات الأسرة إلى عائلةٍ أخرى وهو ما يؤدى إلى تفتيت الممتلكات والحيازات، ومنهم من يتحايل ويستخرج شهاداتٍ طبيةً مزورةً لإثبات أن الوارثة لا تستطيع إدارة شئونها بنفسها فتؤول الوصاية له عليها فيحرمها من حقها في الميراث، ومنهم من يوقع عقودَ بيعٍ صوريةٍ قبل وفاته ليحرم بعض الورثة ويحجب عنهم حقوقهم بعد وفاته، وهناك صورٌ أخرى لظلمٍ لا يرضاه الله سبحانه وتعالى ولا رسوله الكريم، يتعارض مع شريعتنا الإسلامية الغراء؛ فهو أكلٌ لأموال الغير بالباطل، وإذا كان أكل مال الغير من الغرباء بالباطل محرماً، فما يكون أكل مال أقرب الأقارب والأرحام؟ إنه (أكلٌ مُحَّرَمٌ) بلا شك، بل إنه شديد الحُرمة. يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَتَأكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً﴾ أي تأكلون أيها الناس الميراث أكلاً شديداً لا تتركون منه شيئاً، فالأكل اللم (أكلٌ مُحَّرَمٌ) تجد من يستبيحه لنفسه يأكل كل شيءٍ يجده لا يسأل أحلالٌ أم حرام، فيأكل الذي له ولغيره، وذلك كان فعل أهل الجاهلية يظلمون الضعيف ويأكلون ماله، لا يورثون النساء، ولا الصغار، ويأكلون نصيبهم؛ قال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾.

أحبتي .. يقول الخبراء في علم الاجتماع أن ثمة حقيقةً تطالعنا باستمرار هذه الأيام ويُظهرها واقع الناس في تعاملاتهم، تتمثل في ازدياد حالات الغش والاحتيال والتزوير من قبل الإخوة والأزواج ويذهب ضحيتها العديد من النساء ذوات النوايا الحسنة، والنساء الغافلات عن معرفة حقوقهن الدينية؛ حيث يمارس أولياء الأمر بعد وفاة الأب التعنت وحجب الإرث عن أخواتهن بحجة الحفاظ على الأموال، فهم فئةٌ من ضعاف النفوس استمرأت الكسب غير المشروع. وقد أفرزت المدنية الحديثة وتعقيدات الحياة المعاصرة وتشابك المصالح فيها العديد من الظواهر السلبية والسلوكيات الغريبة التي جعلت بعض الناس يتكالبون وبشراهةٍ على الماديات ويظلمون الغير بالاستحواذ على حقوقهم وابتلاع هذه الحقوق دون مخافة الله عز وجل.
ومن القصص التي تُروى عما هو (أكلٌ مُحَّرَمٌ) أن رجلاً غنياً يملك ثروةً كبيرةً جاءته سكرات الموت فلما حضرته الوفاة جاء أولاده واجتمعوا عند رأسه، فأوصاهم بأن يحب بعضهم بعضاً، وألا يجور أخٌ على أخيه، فعاهدوه على ذلك، ثم دخل عليه ملك الموت فقبض روحه. جهز الأبناء جثة أبيهم، فغسَّلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، وذهبوا به إلى المقبرة، وبعد أن دفنوه، وخرجوا من قبره، إذا بولدٍ من أولاده يستأذن بقية إخوانه وأقاربه بأن ينزل مرةً أخرى إلى قبر أبيه من أجل أن يطمئن على أنه قد دُفن ووجهه إلى القبلة، فأذنوا له، فنزل إلى قبر أبيه، وتأخر كثيراً، فأصاب إخوانه القلق فنزل واحدٌ منهم لينظر ماذا يصنع أخوه في القبر، وإذا به يجد أخاه قد أُلقى في القبر ميتاً بجوار أبيه! العجيب أنه وجد أخاه قد خلع الكفن عن جسد أبيه وأخرج يد أبيه من الكفن وجعله يبصم بأصبعه على عقد بيع لعمارةٍ كان يملكها قبل وفاته، وهي الآن مِلكٌ لجميع الورثة، فقد نزل الولد إلى قبر أبيه وفي جيبه محبرةٌ وفى الجيب الآخر عقد بيع، نزل وفك الكفن، وأخذ أصبع والده ووضعه في المبصمة على المحبرة ووضع يد والده على العقد، وجعل يبصمه على عقد بيع العمارة، وقبل أن يخرج بالعقد من أجل أن ينتفع به ويستمتع بتلك العمارة جاءه ملك الموت فى القبر فطرحه ميتاً بجوار والده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

أحبتي .. لا يجوز لأحدٍ أن يؤخر توزيع التركة على الوارثين بغير رضاهم، ولا يجوز لأحدٍ أن يحرم غيره من حقه الشرعي في الميراث، ومن يفعل ذلك فهو آثمٌ، ومعطلٌ لحكم الله، ومتعدٍ على كتاب الله وسُنة رسوله، وآكلٌ لأموال اليتامى بالباطل، وقاطعٌ للأرحام بهذه المظالم. وواجب على كل مسلمٍ ألا يقع في هذا الإثم فهذا (أكلٌ مُحَّرَمٌ)، كما أنه واجبٌ علينا جميعاً أن نتصدى لهذه الظاهرة بالتوعية والنصح، فهذا أمرٌ بالمعروف أُمرنا به، ونهيٌ عن منكرٍ سنحاسَب عليه؛ قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾،  وقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، وجعل سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين؛  قال عز وجل: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، فكانت من وصايا لقمان لولده: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
وقال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ].
أما المظلوم الذي ضاعت حقوقه، فليعلم أن الله تعالى سيكون معه إذا صبر على الظلم، وسيبارك الله تعالى له في القليل ليكون كثيراً.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/5dKTwd

الجمعة، 11 أغسطس 2017

لغة الضاد

الجمعة 11 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٦
(لغة الضاد)

بزيه الأزهري الوقور اعتلى منبر مسجد الشيخة سلامة أكبر مساجد مدينة العين بدولة الإمارات العربية المتحدة، كان يوم جمعةٍ، وكانت خِطبته يومئذٍ أول خِطبة له بعد استقدامه من مصر ليكون إماماً وخطيباً لهذا المسجد. شابٌ في بداية الثلاثينات من عمره، قصير القامة، مصري الملامح، عَلِمَ المصريون المقيمون بالمدينة وضواحيها بمقدمه فتوافدوا على المسجد من كل حدبٍ وصوب. كنت واحداً ممن تركوا مساجدهم التي اعتادوا أن يصلوا فيها صلاة الجمعة كل أسبوع، وتوجهوا للترحيب بالوافد الجديد، ابن مصر، وابن الأزهر الشريف. بدأ إمامُنا خِطبته بمقدمةٍ قويةٍ مؤثرة من المقدمات المحفوظة التي يغلب عليها السجع ثم أكملها مرتجلاً، فإذا بنا نُفاجَأ بكارثةٍ كانت في انتظارنا، لم يكن أي واحدٍ منا يتوقع حدوثها، خاصةً من إمامٍ معممٍ يرتدي الزي المميز للأزهريين. كانت كارثةً، خاصةً بالنسبة لي على الأقل وبالنسبة لكل من يحب ويعشق (لغة الضاد)؛ فكلما ابتعد صاحبنا عما يحفظه من استشهاداتٍ بآياتٍ من القرآن الكريم وبأحاديثَ نبويةٍ شريفةٍ وبأبياتِ شعرٍ ذات علاقة بموضوع الخطبة، وقع في أخطاءَ لغويةٍ فادحةٍ. كانت كلماته تؤذي مسامع كل من كانت (لغة الضاد) عزيزةً عليه! بدأ ينصب ما يجب أن يُجر، ويجر ما يجب أن يُرفع، ويحرك ما ينبغي أن يكون ساكناً، يتجاهل خبر كان أو إحدى أخواتها فلا ينصبه، ويرفع اسم إنَّ أو إحدى أخواتها! ومع كل خطأٍ يقع فيه كنت أحس بأن ضغط دمي يرتفع، حتى تمنيت أن يُنهي خطبته قبل أن ينفجر رأسي كمداً أو يتوقف قلبي حزناً وألماً! تملكني وقتها شعورٌ بالندم ممزوجٌ بالأسى، ندمٌ لحرصي على حضور هذه الخِطبة للإمام الجديد، وأسىً على خريجي الأزهر الشريف؛ إذ من المفترض أن يكون هذا واحداً من أفضلهم، اُختير لهذا العمل من بين عشراتٍ أو ربما مئاتٍ تقدموا للحصول عليه! مَرَّ بخاطري أنه قد يحدث مثل هذا الموقف في بلدي فيقبله الناس على مضض، أما أن يصدر ممن يمثل مصر ويكون سفيراً للأزهر في بلدٍ آخر فهذا مما لا يمكن تحمله. تساءلت بيني وبين نفسي: "ألهذه الدرجة وصل مستوي خريجي الجامعات المصرية في اللغة العربية؟"، والأدهى أن يكون هذا مستوى خريجي جامعة الأزهر على ما لها من تاريخٍ عريقٍ واهتمامٍ متميزٍ بلغتنا الجميلة (لغة الضاد). تمنيت ألا يكون جميع الخريجين على هذا المستوى من الضعف في اللغة، وهم بالتأكيد ليسوا كذلك. لم أدَعْ هذا الموقف يمر؛ فبعد انتهاء شعائر صلاة الجمعة، وانتظار عشرات المصريين وغير المصريين الذين توجهوا للإمام للسلام عليه والترحيب بقدومه، توجهت إليه وكنا اثنين لا ثالث لنا، رحبت به، وشكرت له حُسن اختياره لموضوع الخِطبة، وأشدت باستشهاداته المناسبة للموضوع، ثم وبصوتٍ أقرب للهمس صارحته بكثرة ما كان منه مما سميتها له تخفيفاً "هنات"، وأعطيته أمثلةً  على بعضها، وهونت الأمر عليه بقولي: "إن ارتجال خطبة جمعةٍ ليس بالأمر السهل خاصةً من فوق منبرٍ تقف عليه لأول مرة، وفي بلدٍ غير بلدك، وأمام جمعٍ من المصلين لم تتعود على تنوع جنسياتهم إلى هذه الدرجة". وقلت له ناصحاً: "سَكِّنْ تَسْلَمْ، قاعدةٌ تفيد المرتجل في مثل هذه المواقف". للأمانة كان الرجل يصغي لما أقول، وإن كانت علامات التعجب تكاد تقفز من عينيه! وبعد أن انتهيت من حديثي سألني سؤالاً واحداً، قال: "هل حضرتك متخصصٌ في اللغة العربية؟"، قلت: "لا"، فالتفت عني كما لو كان يقول لي: "انتهت المقابلة"!، تركني ولسان حاله يقول: "خسارة ما ضيعته من وقتٍ معه!"، وانصرفت عنه وفي ذهني خاطرٌ أن الخسارة أن يظن البعض أن حب اللغة العربية وإجادتها قاصرٌ فقط على خريجي كليات اللغة العربية!

أحبتي في الله .. حدث هذا الموقف في منتصف ثمانينات القرن الماضي، أي منذ قرابة ثلاثين سنة، لكن ما ذكرني به هذه الأيام واحدٌ ممن يُفترض أنهم من أساطين القانون في مصر، لم يكن يرتجل كلاماً بل كان يقرأه من ورقٍ أظن أنه هو الذي كتبه بنفسه، فإذا بالأخطاء اللغوية الفادحة تترى وتتوالى وكأنها مطارق يهوي بها على رؤوس مستمعيه، أخطاء في نطق كلماتٍ لا يخطئ فيها تلميذٌ بالمرحلة الإعدادية! ثم بلغ الأمر مداه فإذا بسيادة المستشار يَلْحَن في الآيات القرآنية التي استشهد بها! لم تقف المصيبة إذن عند حدود الكلام المرتجل بل تعداه إلى ما هو مكتوب، وتجاوز الأمر الخطأ في كلام البشر ليصل إلى الخطأ في كلام رب البشر وفي آيات كتابه الكريم فتحول الخطأ إلى خطيئة. لم أتحمل الصدمة فأغلقت التلفاز، على أهمية ما كنت حريصاً على متابعته، احتراماً لسمعي وحفاظاً على صحتي وتقديراً لمعشوقتي (لغة الضاد)! 
ألهذا الحد بلغت الاستهانة باللغة العربية، ووصلت إهانتها والاستخفاف بها وهي اللغة التي كرمها الله سبحانه وتعالى فأنزل قرآنه بها؟   
قال تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقال: ﴿حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقال: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْـزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾، وقال: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، وقال: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، وقال: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾. أَبَعْدَ كل هذه الآيات التي شرَّف بها الله سبحانه وتعالى اللغة العربية وخصها دون غيرها من اللغات لتكون وعاءً لكتابه الكريم، أَبَعْدَ كل هذا يمكن لمسلمٍ أن يُضَيِّع هذه اللغة؟ والأغرب أن يكون ذلك المسلم الذي تضيع اللغة العربية على يديه عربياً!
أكاد أجزم أن هذه جريمةٌ كبرى لا يمكن السكوت عنها أو المرور عليها مرور الكرام، إنه أمرٌ جلل؛ فالخطأ في قراءة الآيات القرآنية على نحوٍ صحيحٍ يبطل صلاة المسلم فإذا قرأ فيها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ على هذا النحو: "إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ"، فقد انقلب المعنى تماماً؛ وبدلاً من أن يكون العلماء هم الذين يخشون الله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى الآية، صار المعنى هو أن الله هو الذي يخشى العلماء، وحاشا لله أن يكون كذلك.
نفس الشيء لو أنه قرأ الآية الكريمة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ على هذا النحو: "وإذ ابتلى إبراهيمُ ربَّه بكلمات فأتمهن" فيكون قد عكس معنى الآية؛ فبدلاً من أن يكون الله سبحانه وتعالى هو فاعل الابتلاء، وهذا هو المعنى الصحيح للآية، صار المعنى هو أن إبراهيم هو الذي يبتلي ربه، والقراءة على هذا النحو باطلةٌ ولا تجوز. مثالٌ آخر أكثر وضوحاً، قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ والمعنى: أن الله برئٌ من المشركين، ورسولُه برئٌ منهم. وتُقرأ ﴿وَرَسُولُه﴾ بالضم، على الابتداء، والخبر محذوفٌ، والتقدير: "وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ"، ولا تجوز قراءتها "ورسولِه" بكسر اللام؛ لأنها تُوهِم أن الله بريءٌ من المشركين، وبرئٌ من رسولِه، وهذا باطلٌ محالٌ، والاعتقاد به كفر.

أحبتي .. يقول أهل العلم أنه ما من لغةٍ تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها؛ فهي اللغة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتحمل رسالته النهائية إلى البشر، رسالة الإسلام. من مميزاتها أنها لغة القرآن الكريم، والأحاديث النبويّة الشّريفة.
ساهمت اللّغة العربيّة في نهوض العديد من الحضارات، وخصوصاً الأوروبيّة، الأمر الذي جعل الأوروبيّين حريصين على تعلُّمها للاستفادة من التقدم الذي حققه المسلمون في العديد من فروع العلم حينما كانت الحضارة الإسلامية في أوج انتشارها. سُمّيت اللغة العربية (لغة الضاد) لأنها اللغة الوحيدة في العالم التي تحتوي على حرف الضاد.

يُنسب إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، القول: "تعلموا العربية فإنها من الدين".
وقال ابن تيمية عنها: "معرفتها فرضٌ واجبٌ، فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللغة العربية، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب".
ونظم حافظ إبراهيم قصيدته المشهورة عن اللغة العربية وهي تتحدث عن نفسها فتقول: 
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً
وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ
آلة ٍوتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحرُ في أحشائِه الدرُ كامنٌ
فهل ساءَلوا الغواصَ عن صَدَفاتي
أما الشاعر حمد بن خليفة أبو شهاب فقال عن اللغة العربية:
لغة القرآن يا شمس الهدى
صانك الرحمن من كيد العدى
هل على وجه الثرى من لغةٍ
أحدثت في مسمع الدهر صدى
بين طيّاتك أغلى جوهر
غرّد الشادي بها وانتضدا
نحن علّمنا بك الناس الهدى
وبك اخترنا البيان المفردا
وزرعنا بك مجداً خالداً
يتحدّى الشّامخات الخُلَّدَا
ما اصطفاك الله فينا عبثاً لا
ولا اختارك للدين سُدى
لغةٌ قد أنزل الله بها
بيّناتٍ من لدنه وهدى
وقال مصطفى صادق الرافعي محذراً: "ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ".

وقبل أن أختم، اخترت لكم طرفتين لُغويتين:
‏سأل رجلٌ الحسن البصري‏:‏ ما تقول في رجلٍ ترك أبيه وأخيه؟ فقال الحسن‏:‏ ترك أباه وأخاه‏ !!‏ فقال الرجل‏:‏ فما لأباه وأخاه؟
فقال الحسن‏:‏ فما لأبيه وأخيه !! فقال الرجل للحسن‏:‏ أراني كلما كلمتك خالفتني‏ !!
وهاكم الطرفة الأخرى:
رُوي أن رجلاً قصد سيبويه لينافسه في النحو فخرجت له جارية سيبويه فسألها قائلاً: أين سيدك يا جارية؟ فأجابته بقولها: "فاء إلى الفيء فإن فاء الفيء فاء".
فقال: والله إن كانت هذه الجارية فماذا يكون سيدها؟! ورجع.

أحبتي .. ما أجمل (لغة الضاد)، لغتنا العربية، وما أروعها من لغةٍ، شرَّفها المولى عز وجل لتكون لغة القرآن الكريم، فاتقوا الله فيها، لا تضيعوها .. تعلموها واتقنوا فنونها، وعلموها أبناءكم، واحرصوا على التحدث بها ما وسعكم ذلك، واعتمدوها لغةً لمكاتباتكم .. وهمسةٌ في أذن كل من يعمل في مجال الدعوة إماماً أو خطيباً أو كاتباً أو مستخدماً لمواقع الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي: لا تنطقوا أو تكتبوا أو تنشروا إلا ما كان صحيح اللغة، ولتكن نيتكم في ذلك الحرص على سلامة لغة القرآن الكريم، كلام الله، فتُثابوا بإذن الله على نياتكم وعلى قَدْرِ جهدكم في ضبط ألفاظها ومفرداتها والحفاظ عليها غضةً نضرة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/Hd7JsQ


الجمعة، 4 أغسطس 2017

مخلوقون لزمانٍ غير زماننا

الجمعة 4 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٥
(مخلوقون لزمانٍ غير زماننا)

اقترب مني وهو يمشي على أطراف أصابع قدميه، لمحته بطرف عيني وتظاهرت أني لا أراه، اقترب أكثر حتى لامست شفتاه أذني، فإذا به يهمس بصوتٍ خافتٍ: "أحبك يا جدي"، رغم أني فوجئت بما فعل إلا أنني قررت الاستمرار في اللعبة؛ فقربت شفتاي من أذنه وهمست بصوتٍ خافتٍ كذلك: "وأنا أحبك يا عمر"، ضحك آخر أحفادي، حفظهم الله جميعاً وبارك فيهم، ثم انصرف إلى لعبه وبراءة الأطفال في عينيه. لم يستغرق هذا الموقف سوى ثوانٍ معدودات، لكن أثره في نفسي كان كبيراً؛ فشعوري بالسعادة لهذا التصرف التلقائي من حفيدي العزيز كان أكبر من أن يُوصف، وتذكرت وقتها المقولة الشهيرة: "ما أعز من الولد إلا ولد الولد"، إنهم أحفادنا وهم (مخلوقون لزمانٍ غير زماننا).

أحبتي في الله .. امتنَّ الله تعالى على عباده بنعمة الأبناء والأحفاد؛ قال عز وجل: ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾.      والأطفال هبةٌ من الله سبحانه وتعالى، يتفضل بها على عباده؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ . أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا﴾، فالناس كما أفادت هذه الآية على أحوالٍ أربعة: منهم من يهبهم الله سبحانه وتعالى إناثاً فقط، ومنهم من لا يهبهم إلا ذكوراً، ومنهم من يهبهم إناثاً وذكوراً، ومنهم من يكون عقيماً فلا يهبه الله تعالى ذكراً ولا أنثى. فليس معنى ﴿يُزَوِّجُهُمْ﴾ في الآية هو النكاح كما قد يتوهم البعض بل المعنى هو الجمع والتقارن؛ أي أن يهب الله تعالى لبعض عباده بناتٍ وبنين، فهو يزاوج له في الهبة فيهبه أبناء من كلا الجنسين. يقول المفسرون لهذه الآية أنها نزلت في الأنبياء خصوصاً وإنْ عَمَّ حكمها؛ فيهب لمن يشاء إناثاً يعني لوطاً عليه السلام لم يولد له ذكر وإنما وُلدت له ابنتان، ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم عليه السلام لم تولد له أنثى بل وُلد له ثمانية ذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وُلد له ثلاثة بنين وأربع بنات، ويجعل من يشاء عقيماً يعني عيسى ويحيى عليهما السلام. وأما تقديم الإناث في الآية الكريمة فقد ذكروا له حِكَماً منها: أنه توصيةٌ بالاهتمام بهن ورعايتهن لضعفهن، ومنها: إلغاء الأفكار التي كانت سائدةً عند العرب في الجاهلية عن البنات، ومنها: أنهن قُدمن في الذكر لأنهن أكثر لتكثير النسل، ومنها: أن في ذلك إشارةً إلى ما تقدم في ولادتهن من اليُمْن كما في الأثر "من يُمن المرأة تبكيرها بأنثى".

يُعَرَّف الحفيد على أنّه ابن الولد، أما ابن البنت فيُعرف باسم السِبط، وفيما يتعلّق برسول الله عليه الصلاة والسلام فلم يكن له أي أحفادٍ من أبنائه الذكور، وذلك بسبب موتهم وهم صغار السنّ، إلا أنّ له ثمانية أسباطٍ: خمسة بنين وثلاث بنات. أسباطه من ابنته زينب رضي الله عنها: علي {مات صغيرًا}، وأمامة {التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة}. ومن ابنته فاطمة رضي الله عنها: الحسن، والحسين، ومحسن {مات صغيراً}، وأم كلثوم، وزينب. ومن ابنته رقية رضي الله عنها: عبد الله.
أما ابنته أم كلثوم رضي الله عنها فقد ماتت ولم تنجب.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾، فلننظر كيف كان يتعامل مع أحفاده:
تضافرت الروايات على أنّ الحسن والحسين كانا يركبان على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة؛ فمن رواية عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :  خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ وَهُوَ حَامِلُ حَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ: إِنِّي رَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ فِي سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَيْ الصَّلَاةِ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: [كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ].
وخطبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فأقبلَ الحسنُ والحُسينُ، رضي الله عنهما، عليهما قميصَان أحمران، يعثُران ويقُومان، فنزلَ فأخذَهما، فصعِد بهما المنبَر، ثم قال: [صدقَ الله: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، رأيتُ هذَين فلم أصبِر].
وكذا كان حُبُّه صلى الله عليه وسلم لبقيَّة أحفاده؛ فقد كان يُصَلِّي وهو حامل أُمامة بنت ابنته زينب رضي الله عنها؛  ففي الصحيحين عَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى وَهْوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا.
ويُرْوَى في الصحيحين أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا. فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: [مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ].

عن علاقة الأجداد بالأحفاد الذين هم (مخلوقون لزمانٍ غير زماننا) يقول الخبراء في علم النفس أنَّ "الأب والأم يعيشان الأبوة والأمومة مع أطفالهما في حلوها ومُرّها، لكن الجدَّين يعيشان مع الأحفاد الأبوَّة والأمومة المتأخرة في حلوها فقط، أما الجانب المرّ فيتركانه للأب والأم". ويقول الخبراء في التربية أن "الأجداد يكتسبون دوراً عاطفياً جديداً من خلال تواجدهم مع جيلٍ ثالثٍ يختلف عن جيل الأبناء، ويحاولون تفادي الأخطاء التي وقعوا فيها أثناء تربيتهم لأبنائهم مستعينين بالخبرة التراكمية التي اكتسبوها. ودور الأجداد في حياة الأحفاد مهمٌ حيث يرتكز على التوجيهات البناءة والمعارف التي استقوها في حياتهم، ما يسمح لهم بتقديم النصائح المفيدة لأحفادهم". ويقولون: "على الآباء والأمهات أن يعلموا أن وجود الأجداد في حياة الأحفاد أمرٌ مهم. فهذا يسعد الأجداد ويسعد الأطفال أيضاً، فلا بأس من التنازل عن بعض القواعد الأسرية الصارمة عند زيارة الأجداد حتى يستمتع الأطفال قليلاً". ويضيفون: "بعض الأجداد ينظرون إلى الطريقة التي يربي بها الوالدان الأحفاد بشيء من الاستنكار، وهذا خطأ يسبب الكثير من الخلافات الأسرية. فعلى الأجداد أن يعلموا أن ليس عليهم إعادة التربية أو فرض رؤيتهم لكن دورهم هو الإضافة وتلقين الأجيال الجديدة قواعد الحياة من منطلق الخبرة  والحب والخوف عليهم ولكن من دون أوامر أو نزاعات". 
أما الخبراء في علم الاجتماع فيحذرون الأجداد من التدخل السلبي في تربية الأحفاد فيقولون: "كثيراً ما يكون الأجداد متسامحين مع أحفادهم ويحاولون الدفاع عنهم عند لجوء آبائهم إلى معاقبتهم من حيث تكون هناك ضرورة إلى العقوبة سواءً أكانت عقوبةً ماديةً أم معنويةً، ومن ثم لا يدرك الطفل لماذا يلجأ الأب إلى معاقبته في حين يحاول الجد حمايته. وعملية إدراك الطفل للخطأ الذي قام به أمرٌ مهمٌ جداً في عملية التنشئة الاجتماعية".
وكتب أديبٌ يصف علاقة الجد بالحفيد: "والحَفِيدُ لا يمكن أن يتلقى من زخات الحب أصفى ولا أكرم، ولا أكبر مما يهبه الجَدُّ في حياته، والجَدُّ على الجانب الآخر، بخبرة السنين، ومقارنة العقل، واستحلاب العواطف يجد عُمره في حَفِيده، ويستحضرُ طفولة أبنائه بين يديه من جديد، ويستعيدها بالصورة البطيئة، فيضخ في تلك العلاقة خلاصة ما عرف وجرب وسمع ورأى، ويعوض ما فاته، ويصلح كل الهفوات، التي حدثت في علاقته بأبنائه، ويحاول أن يصنع أنموذجاً متكاملاً مميزاً، يضاهي الكمال".
وهذا شاعرٌ نظم أبياتاً تصف مشاعره في انتظار وصول حفيده:
سبطي، حفيدي بل حبيبي في الطريق
ينبوع نورٍ كم يذوب
وكم يُـذيبُ وكم يريقْ
أحييْتَ فِيَّ مآثرًا
وبعثْتَ في صدري الشروق
أنت الحفيد بل الأنيس بل مهجتي
أنت الرفيق
أوَّاهُ أنت الجدولُ الرقراقُ
بالخير الدَّفـيـقْ
والنسمةُ السَّكـْرى
بأحلام السنين ولا تفيق
أنتَ المُـعَـتـَّـقُ في خوابي النور
والجدوى من الزمن العتيقْ
وكتب شاعرٌ آخر أبياتاً عن حفيدته منها:
حبيبتي حفيدتـــي الصغيـــرَةْ
لولاكِ ما أعطى الشــذى عبيرَهْ
ولا الأريجُ  قـــــــد ندى زهورَهْ
ولا الشعاعُ قد ألــــفتُ نــــورَهْ
يا سُلوتي فــي غربتي المريرة

وفي دراسةٍ أجرتها الجمعية الأميركية للمتقاعدين ثبت أن علاقة الأجداد بأحفادهم هي واحدةٌ من أكثر العلاقات الأسرية قوةً، برغم الاعتقاد السائد في العديد من بلدان العالم بأن روابط الأسرة متعددة الأجيال قد ضعفت في العقود الأخيرة وأن الأسر ستؤول إلى زوال.
وأوضحت الدراسة أن 88٪ من مشهد تواصل الأجيال يكون في صالح الطرفين صحياً ونفسياً، ويزيد من قدرة الجسم على مقاومة الأمراض التي تحتاج لجهاز مناعةٍ قوي. وانتهت الدراسة إلى نظريةٍ مهمةٍ بأنه كلما قويت روابط الصلة والتقارب والحب بين الأجيال المتعاقبة، خاصةً بين الأحفاد والأجداد، كلما وقف الأحفاد مع أجدادهم عند كبرهم وفي أيامهم الأخيرة التي غالباً ما يعانون فيها من أمراضٍ عضال. وكشفت دراسة أُجريت في العاصمة الألمانية برلين، اعتماداً على بيانات جرى جمعها من أكثر من 500 شخص فوق السبعين من عمرهم، أن الأجداد والجدات الذين يساعدون من فترةٍ لأخرى في رعاية الأحفاد، أو يقدمون المساعدة لآخرين في مجتمعهم، يعيشون لفترة أطول من كبار السن الذين لا يهتمون بالآخرين. وأكدت على أن التفرغ لتربية الأحفاد قد يؤثر تأثيراً سلبياً على كبار السن، ولكن المساعدة في التنشئة من آنٍ لآخر يمكن أن يكون مفيداً لهم. وتوصلت الدراسة إلى أن عدم الاتصال بالأحفاد على الإطلاق يؤثر سلبياً على صحة الأجداد والجدات.

أحبتي في الله .. هذا هو نبينا الكريم، نبي الرحمة، يعلمنا كيف نتعامل مع أحفادنا. وهؤلاء خبراؤنا يقدمون إلينا النصائح المفيدة في التعامل مع الأحفاد. وهذا أديبٌ وصف لنا علاقة الجد بالحفيد. وهذه أحدث الدراسات العلمية تؤكد لنا على ضرورة تعزيز العلاقة بين الجدود والأحفاد.
فعلينا أحبتي أن نتعامل مع أحفادنا وهم (مخلوقون لزمانٍ غير زماننا) بالحب والمودة والصبر والرحمة واللين، وعلينا أن نتفهم سماتهم وخصائصهم وطباعهم ونتعامل معهم وفقاً لها وبما يتناسب مع أعمارهم وشخصية كلٍ منهم. وعلينا أن ندرك تماماً معنى ما ورد في الأثر: "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم".
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/77Gtiq