الجمعة، 28 يوليو 2017

خُلُقُه القرآن

الجمعة 28 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٤
(خُلُقُه القرآن)

"بكم تبيع دينك؟"، كان هذا سؤالي وجهته إلى صديقٍ عزيز، تعجب مما قلت فرَّد علي: "أأنت الذي يسأل هذا السؤال يا رجل؟!"، قلت له: "إنه أمرٌ يؤرقني هذه الأيام؛ لا يكاد يمر يومٌ إلا وأطالع في الأخبار من يبيعون دينهم بأبخس الأثمان، ما بين من يقتل أمه لرفضها إعطاءه بعض المال، إلى من يزني بزوجة صديقه لشهوةٍ عابرة، إلى من يغش الناس ويبيع لهم أغذيةً فاسدةً أو أدويةً مغشوشة أو قطع غيارٍ مقلدة، إلى قاضٍ مناطٍ به إقامة العدل بين الناس فإذا به ذراع بطشٍ وظلمٍ يحكم بين الناس بغير الحق، إلى طبيبٍ لم يحترم شرف مهنته فتحول إلى تاجرٍ يبحث عن المال من الفقير قبل الغني، إلى رجل دينٍ يقدم الفتاوى على هوى من يطلبها من أصحاب النفوذ والسلطان ثم تراه أخرس أبكم لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم عندما يرى بأم عينيه المظالم والمفاسد ومخالفة شرع الله والخروج السافر عن الدين، إلى مُعلمٍ مات ضميره فلم يعد يُعَلِّم بالمدرسة ومع ذلك تراه مبدعاً في الدروس الخصوصية والمجموعات وفيما اُشتهر بالسناتر، إلى تاجرٍ تملكه الجشع دون وازعٍ من دينٍ أو أخلاق فاحتكر السلع ورفع الأسعار وشق على الناس، إلى إعلاميٍ ابتعد عن المهنية وبدلاً من توعية الناس بالحقائق أصبح وسيلةً لنشر الأكاذيب وبيع الأوهام وبدلاً من تقديم نقدٍ موضوعيٍ مهذبٍ صار يتبارى مع أمثاله أيهم أكثر دناءةً وبذاءةً وافتراءً وتشويهاً لأصحاب الرأي الآخر، إلى فنانٍ ابتعد بالفن عن رسالته السامية وجعل منه أداةً لنشر الفسق والفجور والرذيلة وتحول إلى قدوةٍ سيئةٍ للشباب. والأمثلة كثيرةٌ عصيةٌ من كثرتها على الحصر. ألا يبيع هؤلاء دينهم بثمنٍ بخسٍ: مالٍ أو شهوةٍ أو شهرةٍ أو منصبٍ أو عرضٍ دنيويٍ زائل؟". سكت صديقي لحظةً ثم قال: "معك حق؛ البعض يصلي ويصوم ويزكي ويحج، ويطيل لحيته ويقصر جلبابه، وتتوقع أن يكون (خُلُقُه القرآن) لكنه لا يتورع عن أن يبيع دينه في تعاملاته مع غيره فيحلف كذباً أو يشهد زوراً أو يغش أو يدلس أو ينافق أو ينصب على غيره مقابل دراهم معدودة، والبعض يعتبر ذلك ذكاءً وشطارة!"، قلت: "قد يعتبر نفسه ذكياً من يبيع آخرته بدنيا يصيبها هو، لكن ماذا تقول فيمن يبيع آخرته بدنيا يصيبها غيره؟! ولله در الشاعر حين قال:
عَجِبْتُ لِمُبْتَاعِ الضَّلالَةِ بالْهُدَى
ولِلْمُشْتَرِي دُنْيَاهُ بِالدِّينِ أَعْجَبُ
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَيْنِ مَنْ بَاعَ دِينَهُ
بِدُنْيَا سِواهُ فَهْوَ مِن ذَيْنِ أَخْيَبُ".

أحبتي إن كل بعدٍ عن تطبيق الدين في حياتنا وتحويل قيمه النبيلة الرائعة إلى سلوكٍ يوميٍ بحيث يكون كلٌ منا (خُلُقُه القرآن) هو بيعٌ للدين من حيث لا ندري ومن حيث لا نقصد؛ خاصةً عندما يكون ذلك وسط أجانب يحكمون على الإسلام من خلال معاملاتنا وسلوكنا؛ انظروا ما حدث قبل عدة سنواتٍ عندما انتقل إمام إحدى المساجد إلى مدينة لندن ببريطانيا وكان يركب الحافلة دائماً من منزله إلى مدينةٍ أخرى، وكان أحياناً كثيرةً يستقل نفس الحافلة بنفس السائق. بعد انتقاله بأسابيع، استقل الحافلة ودفع الأجرة للسائق ثم جلس، فاكتشف أن السائق أعاد له عشرين بنساً زيادةً عن المفترض من الأجرة، فكر الإمام وقال لنفسه أن عليه إرجاع المبلغ الزائد لأنه ليس من حقه، ثم فكر مرةً أخرى وقال في نفسه انس الأمر فالمبلغ زهيدٌ وقليلٌ ولن يهتم به أحد، كما أن شركة الحافلات تحصل على الكثير من المال ولن ينقص عليهم شيءٌ بسبب هذا المبلغ الزهيد، إذن سأحتفظ بالمال وأعتبره هديةً من الله. توقفت الحافلة عند المحطة التي يريدها الإمام ولكنه قبل أن يخرج من الباب توقف لحظةً ومد يده وأعطى السائق العشرين بنساً وقال له: "تفضل، أعطيتني أكثر مما أستحق من المال"، فأخذها السائق وابتسم وسأله: "ألست الإمام الجديد في هذه المنطقة؟ إنني أفكر منذ مدة في الذهاب إلى مسجدكم للتعرف على الإسلام ولقد أعطيتك المبلغ الزائد عمداً لأرى كيف سيكون تصرفك". وعندما نزل الإمام من الحافلة شعر بضعفٍ في ساقيه وكاد أن يقع أرضاً من رهبة الموقف فأمسك بأقرب عامود نور ليستند عليه، ونظر إلى السماء ودعا باكياً: "يا الله! كنت سأبيع الإسلام بعشرين بنساً".
وهذه واقعةٌ أخرى حدثت في فرنسا لها علاقةٌ هذه المرة ليس ببيع الدين فقط بل وشرائه كذلك! امرأةٌ مسلمةٌ تضع النقاب تقوم بالتسوق في سوبر ماركت وبعد الانتهاء من التبضع ذهبت إلى الصندوق لدفع ما عليها من مستحقات، موظفة الصندوق امرأةٌ متبرِّجةٌ كاسيةٌ عاريةٌ واضح أنها من أصولٍ عربية، نظرت إلى المنقبة نظرة استهزاءٍ ثم بدأت تحصي السلع وتقوم بضرب السلع على الطاولة، لكن الأخت المنقبة لم تحرك ساكناً وكانت هادئة جداً مما زاد تلك العربية غضباً فلم تصبر وقالت لها وهي تستفزها: "لدينا في فرنسا عدة مشاكل وأزمات، ونقابك هذا مشكلةٌ من المشاكل؛ فنحن هنا للتجارة وليس لعرض الدين أو التاريخ. إذا كنت تريدين ممارسة الدين أو وضع النقاب فاذهبي إلى وطنك ومارسي الدين كما تشائين". توقفت الأخت المسلمة المنتقبة عن وضع السلع في الأكياس، ونظرت حولها فلم تجد رجلاً في المحل، فتقدَّمت إلى العربيَّة ثم قامت بنَزع النقاب عن وجهِها فإذا هي شقراء زرقاء العينَين، وقالت: "أنا فرنسيّةٌ مسلمةٌ، أبي وأجدادي فرنسيُّون، هذا إسلامي، وهذا وطني، أنتم بعتم دينكم، ونحن اشتريناه!".

قد لا نرى أبداً ردود فعل البشر تجاه تصرفاتنا، فأحياناً ما نكون نحن بتصرفاتنا وسلوكنا القرآن الذي سيقرأه الناس أو الإسلام الذي سيراه غير المسلمين؛ لذا يجب أن يكون كلٌ منا مثلاً وقدوةً للآخرين، ولنكن دائماً صادقين أمناء لأننا قد لا ندرك أبداً من يراقب تصرفاتنا، ويحكم علينا كمسلمين وبالتالي يحكم على الإسلام.

وأخطر الناس في بيعه للدين رجل دينٍ باع دينه خوفاً من قول كلمة حقٍ أو طمعاً في رضا صاحب سلطةٍ أو سلطان، ومثل هذا قال الشاعر فيه:
لحاكمٍ أشبهت خوصاً جشيشا
تــغـص بـهـا دواب الـمـسلمينا
وسـحـنـاتٌ لـكـم مـنـها مـلـلنا
وأقــــوالٌ سـئـمـنـاها سـنـيـنا
وعـند الـجد أُخـرستم فـسحقاً
غـــدوتــم لــعـبـةً لـلـحـاكـمينا
فـبـعـتم ديـنـكـم لـهـمُ بـعـرَضٍ
زهـيـدِ ولـــن تـكـونوا خـالـدينا
بـــذي الـدنـيا ولـبـستم عـلـينا
شريعـتنا العـظـيمة قـاصدينا
فـصبـراً إن مـوعـدنـا قـريـبٌ
أمــام الــحـق ربِ الـعـالـمينا

وهناك مِن الكتاب والصحفيين وممن يعتبرون أنفسهم الصفوة من المثقفين مَن باع دينه فكتب عنه الشاعر يقول:
لن أقول بعد اليوم عذراً
فكلماتكم حقدٌ
وشهدُكم مرٌّ بليد
وأنتم اكتسيتم
عاراً وذلاّ
أقلامكم بيعت
بأسواق النخاسة والعبيد
تكتبون حقداً
يشيب له الوليد
وأنتم بعتم دينكم بدنياكم
خسئتم
يا أحقر خلق الله يا عبيد

أحبتي .. نصيحتي لنفسي أولاً ثم لكم .. حتى لا نكون، والعياذ بالله، ممن يبيعون دينهم، أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، في كل أقوالنا وأفعالنا، وفي أخلاقنا ومعاملاتنا، وسلوكنا وتصرفاتنا، فهو إمامنا وقدوتنا، وهو الذي قال فيه سبحانه وتعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها لما سُئلت عن خُلُقه عليه الصلاة والسلام، قالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"، ومعنى ذلك أنه ما من خُلُقٍ حث عليه القرآن كالصدق والإخلاص والأمانة والوفاء والتواضع والكرم والشجاعة والإيثار ... إلخ إلا كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس تخلقاً به، وما من خُلُقٍ نهى عنه القرآن كالكذب والكبر والعجب والحسد والغدر والخيانة والجبن والبخل والنفاق والرياء .... إلخ إلا كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس اجتناباً له، ولهذا وصفه ربه سبحانه فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وهذا يرشدنا إلى أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام كانت الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهٍ؛ بالتخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها، والبعد عن كل خُلقٍ ذمه القرآن.
وهذا ما يجب أن نكون نحن وكل مسلمٍ عليه، أن نكون جميعاً ممن يُوصف بأن (خُلُقُه القرآن).
قال حكيم: "لا تخبر الناس كم تحفظ من القرآن الكريم، بل دعهم يرون فيك قرآناً يمشي على رجلين: اطعم جائعاً، اكس عارياً، ساعد محتاجاً، عَلِّم جاهلاً، ارحم يتيماً، سامح مسيئاً، بِرّ والديك، ابتسم للجميع. فليس العبرة أين وصلت في حفظ القرآن؟ إنما أين وصل القرآن فيك!

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/mPF833


الجمعة، 21 يوليو 2017

شقائق الرجال

الجمعة 21 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٣
(شقائق الرجال)

سمعته يقول لرفيقه: "لو كنا في عالمٍ بلا نساءٍ لارتحنا". كانا شخصان يسيران أمامي في الطريق، لم أسمع إلا هذه العبارة التي من الواضح أن قائلها كان يشكو لرفيقه من إحداهن. كانت خطواتي أسرع من خطواتهما فتجاوزتهما ومضيت إلى حال سبيلي.
ظلت تلك العبارة تتردد في سمعي، أعلم بالتأكيد أنها تعبر عن تصورٍ افتراضيٍ بحتٍ ليس له أساسٌ من الواقع، وأعلم أن البعض يقولها على سبيل الدعابة لا أكثر، ومع ذلك لا أدري لماذا شغلتني؟
خطر لي أن أكتب عبارة "عالم بلا نساء" في محرك البحث الشهير "جوجل" وأرى ما يعرضه عالم الإنترنت حول هذا الموضوع،
فهالني ما وجدت من نتائج، منها أن  إرنست همنجواى الروائي المشهور له قصة بعنوان "رجال بلا نساء"، ومنها أني وجدت الأمر مطروحاً للنقاش في كثيرٍ من المنتديات؛ على سبيل المثال كتب أحدهم: "تخيل الدنيا بدون نساء إذن: الأسواق هادئة، حالة كساد اقتصادي، الشوارع خالية، محلات الذهب ومحلات العطورات مغلقة، شركات الاتصالات تحقق خسائر كبيرة، المصابون بارتفاع ضغط الدم عددهم في تناقص، كما أن مناهج النحو تصبح أخف لإلغاء كل ما يتعلق بتاء التأنيث وجمع المؤنث السالم ونون النسوة!". ردت عليه إحداهن بقصفٍ مضاد؛ كتبت: "تخيل الدنيا بدون رجال، ماذا ستكون النتيجة؟ أسواقٌ تتميز بأجمل الروائح والعطور، شوارع منظمة، مقاهٍ خالية، بيوتٌ هادئةٌ ليس بها أصواتٌ عالية، شركات السجائر تعلن إفلاسها، العيادات النفسية مغلقة، الألوان زاهيةٌ ومفرحة، النساء متحابة، انتهاء الحروب والنزاعات بين الدول، عالمٌ يسوده الهدوء مليءٌ بالعاطفة والحب والرومانسية!".
ومما وجدت حول الموضوع أيضاً هذا الحوار الذكي بين رجلٍ وامرأة، انظروا كيف بدأ ثم كيف تطور ثم انظروا كيف انتهى:
قال لها: ألا تلاحظين أن الكون ذكر؟
فقالت له: بلى لاحظت أن الكينونة أنثي!
قال لها: ألم تدركي بأن النور ذكر؟
فقالت له: بلى أدركت أن الشمس أنثى!
قال لها: أوليس الكرم ذكراً؟
فقالت له: بلى ولكن الكرامة أنثى!
قال لها: ألا يعجبك أن يكون الشِعر ذكراً؟
فقالت له: وأعجبني أكثر أن المشاعر أنثى!
قال لها: هل تعلمين أن العِلم ذكر؟
فقالت له: إنني أعرف أن المعرفة أنثى!
فأخذ نفساً عميقاً وهو مغمضٌ عينيه، ثم عاد ونظر إليها بصمتٍ للحظات، وبعد ذلك
قال لها: سمعت أحدهم يقول إن الخيانة أنثى!
فقالت له: ورأيت أحدهم يكتب أن الغدر ذكر!
قال لها: ولكنهم يقولون أن الخديعة أنثى!
فقالت له: بل هن يقلن إن الكذب ذكر!
قال لها: هنالك من أكد لي أن الحماقة أنثى!
فقالت له: وهناك من أثبت أن الغباء ذكر!
قال لها: لا شك أن الجريمة أنثى!
فقالت له: أنا أجزم أن الإثم ذكر!
قال لها: أنا تعلمت أن البشاعة أنثى!
فقالت له: وأنا أدركت أن القبح ذكر!
تنحنح ثم أخذ كأس الماء فشربه كله دفعةً واحدةً أما هي فخافـت عند إمساكه بالكأس مما جعله يبتسم فابتسمت ما أن رأته يشرب وعندما رآها تبتسم له
قال لها: يبدو أنك محقةٌ؛ فالطبيعة أنثى!
فقالت له: وأنت قد أصبت؛ فالجمال ذكر!
قال لها: بل السعادة أنثى!
فقالت له: ربما، ولكن الحب ذكر!
قال لها: وأنا أعترف بأن التضحية أنثى!
فقالت له: وأنا أقر بأن الصفح ذكر!
قال لها: ولكنني على ثقةٍ بأن الدنيا أنثى!
فقالت له: وأنا على يقين بأن العالَم ذكر!
وسيبقي الحوار مستمراً طالما أن السؤال ذكر والإجابة أنثى!
ذكرني هذا ببيتي شعرٍ للمتنبي يصف فيهما حبيبته التي فقدها؛ حيث قال:
ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا
لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ عَيبٌ
ولا التّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ

أحبتي في الله .. قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [ .. إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ]. يقول أهل العلم: معنى الشقائق أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهنّ شُققن من الرجال. قال ابن الأثير: "أي نظائرهم وأمثالهم كأنهن شُققن منهم؛ ولأن حواء خُلقت من آدم عليه السلام، وشقيق الرجل أخوه لأبيه ولأمه؛ لأنه شُق نسبه من نسبه". ويُفهم من هذا تبعاً أنهن مستوياتٌ مع الرجال في الكرامة الإنسانية، أما الحقوق والواجبات فموزعةٌ بحسب فطرة الله التي فطر كلاً من الرجال والنساء عليها لتتم عِمارة الكون. لقد اهتم الإسلام بالمرأة اهتماماً بالغاً وعظيماً فأحاطها بكل سبل التربية والرعاية وشرع لها من الحقوق ما يلائم تكوينها وفطرتها ما لم تعهده أمةٌ من الأمم علي مر العصور والدهور، وبهذا الاهتمام العظيم كانت المرأة المسلمة وراء هؤلاء الأفذاذ العظام الذين تحملوا عبء الدعوة الإسلامية ونشروها في كل بقاع الأرض. تُشكل المرأة نصف المجتمع من حيث العدد فإذا وضعنا في اعتبارنا أنها تلد النصف الآخر علمنا أهميتها البالغة ودورها العظيم في بناء المجتمع المسلم.
جعل الإسلام النساء (شقائق الرجال) وساوى بينهما في إخوة النسب البشري؛ قال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. وساوى بينهما في وحدة الوجود الإنساني؛ قال جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾. كما كانت المساواة في العمل وفي الجزاء عليه؛ قال تعالي: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾. وقد ضرب الله تعالى ببعض النساء التقيات العابدات المثل وجعلهن قدواتٍ للرجال والنساء معاً في الصلاح والتقوى؛ قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾.
وعن دعاوى العلمانيين بضرورة مساواة المرأة بالرجل يقول العلماء أن المساواة تعني رفع أحد الطرفين حتى يساوي الآخر، أما العدل فهو إعطاء كل ذي حقٍ حقه، وهناك من يخلط بين هذين المصطلحين ويظن أن معنى المساواة مرادفٌ لمعنى العدل، وهذا ليس صحيحاً إلا في حالة تماثل المتساويين من كل وجه - وهذا لا يكاد يوجد - أما مع وجود الفروق؛ سواءً كانت هذه الفروق دينية أو خِلقية بيولوجية فإن المساواة بينهما تكون ضرباً من ضروب الظلم. ولو نظرنا إلى قضية مساواة المرأة بالرجل لوجدنا أنه من الظلم أن تُساوى بالرجل من كل الجوانب؛ لأن هناك فروقاً واضحةً بين الذكر والأنثى؛ ولذلك يقول الله عز وجل: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، فالإسلام لا يدعو إلى مساواة الرجل والمرأة من كل الجوانب، ومن يدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة ويتجاهل الفروق بينهما في الخِلقة والتكوين ويغض الطرف عنها، يوقع المرأة في ظلمٍ من حيث أراد إنصافها، لأنه بذلك يكلفها بما لا يناسب طبيعتها وخلقتها التي خُلقت عليها. فالعدل أن يكون لكل جنسٍ خصائصه التي تليق به ويُكلَف بما يناسبه، ومن الظلم أن يحمل فوق ما تحتمله خلقته التي خُلق عليها؛ قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، ولهذا نهى الله عز وجل عن مطالب المساواة فقال تعالى: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾، فالسُنة الإلهية ليست المساواة وإنما هي المفاضَلة بين المخلوقات وفقًا لطبيعة الخلق لئلا يُظلم أحدٌ لحساب أحد؛ لأن المساواة في غير مكانها ظلم.

أحبتي .. خلق الله سبحانه وتعالى الجنس البشري من نوعين، يكمل أحدهما الآخر، وكلٌ منهما يتجه في الحياة اتجاهاً يسير جنباً إلى جنبٍ مع اتجاه الجنس المقابل؛ ليؤدي كل واحدٍ منهما الوظيفة التي تؤهله صفاته للقيام بها نحو المجتمع الإنساني، ولا شك أنّ رقي الإنسانية الحقيقي لا يكون إلا بتوزيع الأعمال، وملاءمة كل جنسٍ للوظيفة التي يقوم بتأديتها في هذه الحياة. إن المرأة تماثل الرجل في أمورٍ وتفارقه في أخرى، وأكثر أحكام الشريعة الإسلامية تنطبق على الرجال والنساء سواءً بسواء، وما جاء من التفريق بين الجنسين ينظر إليه المسلم على أنه من رحمة الله وعلمه بخلقه، وينظر إليه الكافر المكابر على أنه ظلمٌ للمرأة!
يقول أحد الخبراء، على لسان الرجال، عن (شقائق الرجال): "أكثر ما يجعلنا لا نستمتع ولا نستثمر هذا الكنز الذي بين أيدينا، هو طريقة تعاملنا مع المرأة، فنحن نتعامل معها تعامل ينقصه الكثير من الدراية والفهم بطبيعتها وخصوصيتها؛ فنحن نتعامل مع المرأة كما نتعامل مع أصدقائنا، وهذا مصدر التصادم في الواقع، فالمرأة من كوكبٍ ونحن من كوكبٍ آخر". والعبارة الأخيرة ذكرتني بالكتاب المشهور لجون جراي الذي تُرجم إلى عدة لغات وبيعت منه ملايين النسخ وعنوانه {الرجال من المريخ، النساء من الزهرة}.

أحبتي فلنكن أكثر فهماً لطبيعة وخصائص الرجال والنساء، وأوسع إدراكاً للحكمة من وراء وجود فروقٍ بينهما، وأعلى قدرةً على توظيف تلك الفروق في إطارٍ من التكامل وليس التصادم. ثم إن علينا نحن الرجال أن نحسن التعامل مع نسائنا؛ وهل هن إلا أمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا وبناتنا، وخالاتنا وعماتنا وجداتنا؟ إنهن بحقٍ (شقائق الرجال) وأرحامهم. على أن يكون تعاملنا معهن، وتعاملهن معنا، خاصةً بين الأزواج، وفق مقتضيات وضوابط ديننا الحنيف، وأن يكون علي أساسٍ متينٍ من المودة والرحمة لقوله عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/bq12Bf

الجمعة، 14 يوليو 2017

زائرة غير مرغوب فيها

الجمعة 14 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٢
(زائرة غير مرغوب فيها)

اتصل بي يسألني: "ما أخبارها؟"، قلت له: "تعرف أني اجتماعي بطبعي، ثم بحكم عملي، أحب استقبال الزوار، ومع ذلك وجدت نفسي في موقفٍ لا أُحسد عليه؛ فقد أُضطررت لطردها، واعتبرتها (زائرة غير مرغوب فيها) تفرض نفسها علي فرضاً، أردت في البداية أن أستقبلها بلطف، لكنها أبت إلا أن تكون شرسة!"، قال مستوضحاً: "وكيف ذلك؟"، قلت: "تحضر دون استئذان، ولا تراعي أن حضورها يكون دائماً في الليل عندما يحتاج الإنسان عادةً إلى الراحة والسكينة والهدوء، تقتحم علي خلوتي في حجرة نومي وأنا نائمٌ على فراشي!  في كل مرةٍ تزورني يبدو لي في بداية الأمر أنها لن تفارقني، فهي لا تترك في جسدي موضعاً إلا وتتشبس به وتترك بصمتها عليه، إلا أنها في النهاية تستسلم وتضعف وتتركني بعد أن تكون قواي كلها قد خارت، لا تتركني إلا وقد نالت مني ما تشتهي، أما أنا فلا أحب مثل هذه اللقاءات الملتهبة والساخنة، لكن لا حول بي ولا قوة في ردها، إنها بالفعل (زائرة غير مرغوب فيها) أبداً"، متعاطفاً معي سألني: "قلبي معك، وكيف أنت الآن؟"، قلت له: "اطمئن، أنا الآن باردٌ والحمد لله".
عن الحُمَّى كنا نتحدث! فقد زارتني مراتٍ عدة خلال الفترة الماضية، عانيت منها ما عانيت، حاولت إخراجها من جسدي الذي احتلته بغير إذنٍ ولا رغبةٍ مني، بكل طريقةٍ ممكنة: بالأدوية تارةً، بالأدعية تارةً، وبكمادات الثلج تلف جسمي كله تارةً أخرى. كل ذلك لم يفلح إلا قليلاً، واكتشفت أن أقوى وسيلةٍ تساعد على إضعاف الحمى والتخلص منها هي تبريد الجسم بالماء.

أحبتي في الله .. كلما ارتفعت درجة حرارة جسمي تذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: [الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ]، فالحمى كما يقول العارفون "أنموذج، ورقيقة اُشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها"، و"فيها تنبيهٌ للنفوس على شدة عذاب النار، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهةٌ بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها"، لذلك قيل في نسبتها إلى جهنم أنه: "حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعةٌ من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك".
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إذَا حُمّ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُشّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ السّحَر]. وقال عليه الصلاة والسلام: [الْحُمَّى مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ]. كما قال عليه الصلاة والسلام: [الحمى كِيرٌ من جهنم، فما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار]،
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عادَ رَجُلاً مِن وَعَكٍ كان به فقال: [أبشر، فإن الله يقول: هي ناري أسَلِّطها على عبدي المذنب لتكون حظه من النار].  قال مجاهد: "الحمى حظ المؤمن من النار، ثم قرأ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾، قال: الحمى في الدنيا الوُرُود، فلا يَرِدُها في الآخرة".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حُمَّ دعا بقربةٍ من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل، وكان في مرضه الذي لقى به ربه مصاباً بالحمى، فكان يضع إلى جواره إناءً من ماءٍ باردٍ ويمسح بها وجهه.
يقول الشاعر:
إذَا وَجَدْتُ لَهِيبَ الْحُبّ فِي كَبِدِي
أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ
فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الْأَحْشَاءِ تَتّقِدُ
إطفاء الحمى بالماء ضروريٌ ومهمٌ وفعالٌ ومفيد، لكنه قد لا يصلح وحده، كما أنه قد لا يصلح في جميع الحالات؛ يقول أحد العلماء في شرحه للموطأ: "والحاصل أنَّ الحمى أنواع: منها ما يصلح له الإبراد بالماء، ومنها ما لا يصلح، والذي يصلح إبراده بالماء يختلف أيضاً، فمنه ما يصلح أن يُرش بين بدن المحموم وجيبه، أو يُقطر على صدره من السقاء فلا يجاوز ذلك، ومنه ما يحتاج إلى صب الماء على رأسه وسائر بدنه، أو إلى انغماسه في النهر الجاري مرةً فأكثر، وذلك باختلاف نوع المرض، وكما يُختلف بذلك يُختلف أيضاً بحسب اختلاف الفصل، والقطر، والمزاج، فلا يُسوى بين الشتاء والصيف، ولا بين مَنْ مزاجه باردٌ رطبٌ وبين من مزاجه حارٌ يابس، ولا بين من به نزلاتٌ وتحدرات وبين غيره، هذا هو المقرر من قواعد الطب".
والحمى من مكفرات الذنوب؛ ففِي حدِيث أبي هريرة قال: ذُكِرَتْ الْحُمّى عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَبّهَا رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: [لَا تَسُبّهَا فَإِنّهَا تَنْفِي الذّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ].
قال أبو هريرة: "مَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُنِي أَحَبّ إلَيّ مِنْ الْحُمّى لِأَنّهَا تَدْخُلُ فِي كُلّ عُضْوٍ مِنّي وَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ يُعْطِي كُلّ عُضْوٍ حَظّهُ مِنْ الْأَجْرِ".

أحبتي .. لما علمت أن الحمى من مكفرات الذنوب فكرت في التراجع عن وصفها بأنها (زائرة غير مرغوب فيها)، لكني لم أجد نفسي مرتاحاً لذلك. والغريب أني وجدت من سبقني إلى هذا الموقف، رغم أن اختياري خالف اختياره، شاعرٌ كان قد وصف الحمى ببيتين قال فيهما:
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ وَوَدّعَت
تَبّاً لَهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّعِ
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمْت عَلَى تَرْحَالِهَا
مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تَرْجِعِي
لكنه بعد أن أمعن النظر ورأى مزايا تكفير الذنوب عدَّل في البيتين فصارا:
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ لِصَبّهَا
أَهْلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّع
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا
مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْت: أَنْ لَا تُقْلِعِي
أما أنا عن نفسي، ليست عندي شجاعة ذلك الشاعر، فلا أستطيع أن أرحب بالحمى مرةً أخرى وأقول لها أهلاً، ولا أستطيع إذا حضرت مرةً أخرى، لا قدر الله، أن أقول لها لا تقلعي! وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يُقَّدر لي طريقةً لتكفير ذنوبي تكون أقل حرارةً، فكفاني ما نابني منها!
عافانا الله وإياكم من المرض، ومتعنا وإياكم بالصحة والعافية والسلامة من كل داء.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/xkdRms

الجمعة، 7 يوليو 2017

عقيقة يس طه

الجمعة 7 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩١
(عقيقة يس طه)

دعانا صديقنا طه إلى عقيقة ابنه فلبينا الدعوة، توجهنا إلى المكان الذي حدده في الزمان الذي أخبرنا به. لم يُقَصِّر صاحبنا في إعداد العقيقة؛ اختار لها قاعةً فخمةً بمكانٍ معروفٍ واتفق مع مطعمٍ متخصصٍ لإعداد وطبخ لحم الذبيحة مع الأرز البسمتي بتحويجةٍ متميزةٍ من المكسرات والتوابل، إلى جانب السلطات والعصائر والحلويات والفواكه والمياه الغازية. كان يوم عيدٍ لصاحبنا طه، كنا حريصين على أن نشاركه فرحته بالمولود الذكر الذي مَنَّ الله به عليه.
انتهت الوليمة، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، فسأل واحدٌ منا صديقنا طه عن الاسم الذي اختاره لمولوده، قال: "يبدو أنها عادةٌ متوارثةٌ في العائلة، نتسمى كلنا ونُسمي أبناءنا بأسماء الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فاسمي كما تعلمون طه محمد أحمد مصطفى، وسميت ابني يس". بارك له الحاضرون، وأشاد بعضهم بحسن اختياره لاسم الولد، ولأنه من أسماء النبي الكريم، ففي هذا بشرى بصلاح هذا الابن بإذن الله.
حتى هذا الوقت كنت أعرف، ككثيرين غيري، أن اسم طه واسم يس من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، إلى أن تحدث أحد الحاضرين، وهو شيخٌ جليلٌ لا أعلم من هو، ربما كان من أقارب زوجة صديقنا طه، تحدث بهدوءٍ وثقةٍ فقال: "أخي طه، بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورُزقت بره. أما بعد، فاسمح لي أخي الفاضل أن أصحح معلومةً متداولةً بين كثيرٍ منا دون أن ندري أنها ليست صحيحة"، سكت لحظةً حتى تأكد من أن الأحاديث الجانبية قد توقفت وأن الحاضرين يُصغون إليه فاستطرد قائلاً: "البعض يعتقد أن طه ويس هما من أسماء نبينا الكريم، لكنهما في الواقع ليستا كذلك"، وأكمل وسط دهشة الحاضرين: "يقول أهل العلم أن طه ويس هما من الحروف المقطعة التي اُفتتحت بها بعض سور القرآن الكريم؛ ويدل على ذلك كما يقول العلماء أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة سورة طه، جاءتا في مواضع أخرى لا نزاع فيها في أنهما من الحروف المقطعة، أما الطاء ففي فاتحة سورة الشعراء ﴿طسم﴾، وفاتحة سورة النمل ﴿طس﴾. وفاتحة سورة القصص ﴿طسم﴾. وأما الهاء ففي فاتحة سورة مريم في قوله تعالى ﴿كهيعص﴾". 
انتهى الشيخ من كلامه، ثم قام فعانق صديقنا طه وكرر التهنئة له وسلم على الحضور وانصرف.
علق البعض ممن حضر (عقيقة يس طه) بأنهم يسمعون هذا الكلام لأول مرة، لكن أحد الحاضرين، وقد شجعته كلمات الشيخ الوقور، قال: "أنا قرأت عن هذا الموضوع بالفعل وقت أن كنا نبحث عن اسمٍ لحفيدنا قبل ولادته وأردنا أن يكون اسمه موافقاً للشريعة، فاطلعت على ما قاله الشيخ، بل وعلمت أن بعض العلماء لم يُجز التسمية بهذين الاسمين؛ فقد قال الإمام ابن القيم في {تحفة المودود بأحكام المولود}: ومما يُمنع منه: التسمية بأسماء القرآن وسوره، مثل: طه، ويس، وحم".
يبدو أن الحاضرين وجدوا أنفسهم في حرجٍ، فبدأوا ينصرفون، أما صاحب العقيقة فقد اختار عدم التعليق واحتفظ بابتسامته على شفتيه يودع بها ضيوفه ومهنئيه.

أحبتي في الله .. بعد عودتي من (عقيقة يس طه) أردت أن أتأكد من صحة ما سمعت من الرجلين، فوجدت جمهور أهل العلم على ما ذهب إليه الرجلان؛ فقد قال ابن القيم: "وأما ما يذكره العوام أن يس وطه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فغير صحيحٍ ولا حسنٍ، وإنما هذه الحروف مثل: الم، وحم، والمر، والر ونحوها".
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: "طه: من جملة الحروف المقطعة، المفتتح بها كثيرٌ من السور، وليست اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم".
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: "وليس طه وياسين من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في أصح قولي العلماء، بل هما من الحروف المقطعة في أوائل السور مثل ص وق ون ونحوها".
ومن الحُجج التي يحتج بها القائل بأن اسم طه من أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام هي ما يُفهم من الآيات في بداية سورة طه وهي : ﴿طه . ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى﴾ فيقول المخالف أن الله خاطب نبيه عليه الصلاة والسلام بعد ورود كلمة طه مما يثبت أن هذه اللفظة هي اسمٌ من أسمائه صلى الله عليه وسلم، بمعنى يا طه {اسم الرسول عليه الصلاة والسلام} ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. وهذا القول غير صحيحٍ ومردودٌ عليه؛ ورده من القرآن أيضاً حيث نرى أن سورة الأعراف بدأت ب ﴿المص . كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فهل من عاقلٍ يقول أن المص هي من أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام! ومثل ذلك في بداية سورة إبراهيم، وكذلك في بداية سورة مريم.

أما أسماء النبي عليه الصلاة والسلام فهي كثيرةٌ، منها أسماء ‏وردت في القرآن الكريم وهي: الشاهد، والمبشر، والنذير، والمبين، والداعي إلى الله، ‏والسراج المنير، والمذكر، والرحمة، والنعمة، والهادي، والشهيد، والأمين والمزمل، ‏والمدثر. ومنها ما ورد في القرآن والسنة النبوية وهما: أحمد ومحمد. ومنها ما ورد ‏في السنة وهي: الماحي، والحاشر، والعاقب، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ‏والمتوكل.

وأما عن اسم المصطفى فقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هل المصطفى من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام؟ فأجاب: "لا، بل الظاهر أنه من أوصافه، والعجيب أن بعض الناس يكرر فيقول: قال المصطفى .. قال المصطفى .. مع أن الصحابة رضي الله عنهم أشد منا تعظيماً للرسول عليه الصلاة والسلام وأعلم بمناقبه منا ولم يقولوا ذلك".
ذكرني موضوع تسمية المولود بطُرفةٍ ذكرها العلَّامةُ الشيخُ محمَّد العثَيمين رحمه الله تعالى في { الشَّرحِ الممتع على زاد المستقنع }، قال: "إن رجلًا سمَّى ولدَه نَـكْـتَـلْ فقيل له لماذا؟ قال: لأنَّ هذا أخو يوسف ﴿فَأرْسِلْ مَعَنا أخانا نَـكْـتَل﴾! وهذا مِن الجهلِ، فهم يُريدونَ أنْ يتبرَّكوا بالأسماءِ الموجودةِ في القرآنِ الكريمِ فيخْتَطفُون ولا يُفكِّرون ولا يُقدِّرون".

أحبتي .. يُسن تسمية الولد في اليوم السابع من الولادة، أو يوم الولادة نفسه وأن يكون الاسم حسناً لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: [إنكم تُدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فحسنوا أسماءكم].
وأفضل الأسماء عبد الله وعبد الرحمن؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: [أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله، وعبد الرحمن]. كما قال: [وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة].
فمن هذه الأحاديث وما في معناها يُستفاد الندب إلى التسمي بكل اسمٍ يكون معناه حسناً، والأفضل للإنسان أن يُسمي أولاده بأسماء الأنبياء والصالحين، والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدل الاسم القبيح باسمٍ حسنٍ؛ فقد رُوى أنه، عليه الصلاة والسلام، غَيَّر اسم عاصيةٍ، وقال: [أنت جميلة].

فلنحسن تسمية أبنائنا، ولتكن أسماؤهم طيبةً ذات معانٍ سامية، موافقةً للشرع وليست مخالفةً له، ونبتعد عن الأسماء المخالفة أو تلك التي بها شبهة مخالفة.
علَّمنا الله ما ينفعنا، ونفعنا بما علمنا، وزادنا علماً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/dLXA26

الجمعة، 30 يونيو 2017

من السنن المهجورة

الجمعة 30 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٠
(من السنن المهجورة)

كنا نتحدث في مواضيع شتى ومسائل متفرقة، كعادتنا كلما اجتمعنا، يذكر أحدنا معلومةً جديدةً أو خبراً مفيداً أو ملخصاً لمقالٍ قرأه أو كتابٍ يطالعه أو آيةً قرآنيةً لفتت انتباهه أو حديثاً شريفاً ربما استمع إليه لأول مرة، أو سُنةً (من السنن المهجورة) ينبغي الاهتمام بها، وغير ذلك من موضوعات. فذكر واحدٌ منا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اَللَّذَّاتِ: اَلْمَوْتِ] {الهاذم هو القاطع، وذُكر بلفظ الهادم وهو المزيل كالذي يهدم البناء، كما ذُكر بلفظ الهازم بمعنى الغالب}. ورغم أن البعض ضعَّف الحديث إلا أن معناه مهمٌ وآثار العمل به مفيدة. قال صاحبنا: "أعتقد أن ذكر الموت كما أمرنا الرسول الكريم هو (من السنن المهجورة) التي علينا أن نهتم بها ونحافظ عليها"، وافقه الجميع على رأيه، لكني لاحظت نوعاً من الضيق من ذكر موضوع الموت لم يعبر عنه صراحةً إلا أصغرنا سناً حيث قال: "ألا يوجد (من السنن المهجورة) إلا هذا الحديث يا شيخنا؟"، قالها وهو يضفي على حديثه لمسةً من المرح، لكن ما خفي كان واضحاً.

ألاحظ أن بعض الناس يتجنب الحديث عن أي موضوعٍ فيه ذكرٌ للموت، كما ألاحظ أن كثيراً منهم لا يرتاحون حتى لسماع لفظه، ويأنفون من ذكر الموت ويتحاشون ذلك قدر إمكانهم، كما لو كان ذكره يأتي به قبل موعده! غالب ظني أن هؤلاء يتهربون من ذكر الموت لأنه يذكرهم بتقصيرهم في أداء حقوق الله عليهم. لكن، من منا ليس مقصراً؟ نحن جميعاً مقصرون، بدرجة أو أخرى، لذا فإن ذكر الموت نافعٌ لنا ومفيدٌ لنفيق من غفلتنا ونصلح من أحوالنا.

أحبتي في الله .. الموت حقٌ لا ريب فيه وهذا معلومٌ للجميع؛ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾، أما الأجل فهو من تقدير الله سبحانه وتعالى لا يعلمه أحدٌ لا زماناً ولا مكاناً، يقول سبحانه: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
يقول أهل العلم عن الموت أن الله فاطر السماوات والأرض  ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ جعل الموت حلقةً من حلقات الحياة يتم به الاختبار والابتلاء؛ فالموت ليس فَناءً، بل هو انتقالٌ من دارٍ إلى دار، بينهما برزخٌ يفصل بين حياتين: حياة الاختبار والابتلاء، وحياة الجزاء والبقاء. والحياة الحقيقية هي حياة الآخرة وإن آثر أكثر الناس الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُ‌ونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَ‌ةُ خَيْرٌ‌ وَأَبْقَىٰ﴾، وقال: ﴿إِنَّمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَ‌ةَ هِيَ دَارُ‌ الْقَرَ‌ارِ‌﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلّا عَيْش الآخِرَةِ]. والموت هو اليقين حقّاً، وإن أعرض الناس عنه وحادوا، والحياة الدنيا دار البلاء والاختبار والعمل لما بعد الموت. قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَ‌ةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾، وقال: ﴿وَاعْبُدْ رَ‌بَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ أي: الموت. ولما مات عثمان بن مظعون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ، مَا يُفْعَلُ بِي]. فالموت حقٌ لا يُعرض عن ذكره إلا غافل، ولا يفر منه إلا جاهل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّ‌ونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَ‌دُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
وفي ذكر الموت فوائد عظيمة: فهو أدعى لقصر الأمل في الدنيا والزهد في زخارفها، والحرص على العمل الصالح وإحسانه، ومحاسبة النفس على ما فعلت، والمبادرة للتوبة النصوح، وأداء الحقوق إلى أصحابها، ثم هو يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي.
انظروا أحبتي سُنة المصطفى عليه الصلاة والسلام في ذكر الموت في كل حين: وقت الصلاة: [اذكر الموت في صلاتك، فإن المرء إذا ذكر الموت في صلاته فحريٌ أن يحسن صلاته]، و[إذا قمت في صلاتك فصلِ صلاة مودع]. وفي الصباح والمساء: [إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح]. وفي الصحة والفراغ: [وخذ من حياتك لموتك ومن صحتك لمرضك، ومن فراغك لشغلك]. وعند النوم: [اللهم إني أسلمت نفسي إليك]، [باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين]. وعند الاستيقاظ: [الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور]. وفي حياتنا كلها: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ].
الموت راحةٌ للمؤمن من تعب الدنيا ونصبها، ونهايةٌ سعيدةٌ لهذا الابتلاء الذي عاناه فيها، أما الكافر فبالموت يبدأ شقاؤه وعناؤه والعياذ بالله؛ مُرَّ على رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: [مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ]، قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟"، قَالَ: [الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ].
وتبدو راحة العبد المؤمن في بشارة الملائكة له عند الموت، لا تخف ولا تحزن وأبشر بالجنة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَ‌بُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُ‌وا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَ‌ةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ‌ رَّ‌حِيمٍ﴾. والبلاء الذي يتعرض له المؤمن قبل موته يكفر عنه ذنوبه ويرفع درجته؛ فإنه كما قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: [ما يصيب المسلم من نَصَب، ولا وَصَب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا ابْتَلَى اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَكِ اكْتُبْ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ فَإِنْ شَفَاهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَإِنْ قَبَضَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ].
يقول أحد الصالحين: كل يوم يفجعنا الموت بفجيعته، فتبكي منا العيون وترتجف القلوب، ويشتد بنا الخوف من الموت، ويستشعر كل منا قرب لحظة النهاية. ثم ندفن ميتنا ونعود أدراجنا، وتبدأ دموعنا في الجفاف، وتبدأ حياتنا في العودة إلى سابق حالها، غفلةً، ونسياناً للحظة اللقاء! هذا المشهد نراه من حولنا يتكرر بصورةٍ متتابعة، فلا الرحيل انتهى، ولا نحن تذكرنا وتدبرنا! من أين إذن نأتي لقلوبنا بواعظٍ أشد لها من الموت؟
إن الأسباب وراء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتذكر الموت ليست قاصرةً على مجرد الاتعاظ والتذكرة، بل لأن فكرة الموت تجمع حولها كثيراً من المعاني الإيمانية والمبادئ الحياتية والدوافع السلوكية التي قد تغير طبيعة حياة الإنسان من لهوٍ وعبث إلى قيمةٍ وأثر. فالحياة في نظر الإسلام هي هبةٌ ربانيةٌ من الله سبحانه للناس، خلقهم فيها واختبرهم وأمرهم ليصلحوها ويصلحوا فيها بالقول والعمل، ويعمروها بالصلاح والعبودية لله سبحانه. والأبناء والأحفاد والذريات والمال والمتاع أيضاً منه سبحانه وتعالى فإذا قضى الله سبحانه الموت على أحدٍ فإنا له وإليه راجعون، والعبد عبده، والخلق خلقه والأمر أمره لا إله إلا هو، فهو يهب الحياة والنعمة، وهو سبحانه يقبض الروح ويوقف الإنعام إذا شاء. فتأتي فكرة الموت هنا لتؤكد على ذلك المعنى تأكيداً يضطر الإنسان المؤمن إلى الاستشعار بالفقر والضعف الكاملين تجاه ربه سبحانه، والحاجة التامة له عز وجل ولإنعامه وعطاياه، فيرجوه ويسأله، ويحسن عمله ويطهر عبوديته. كذلك فلا لذة دائمةً في الحياة الدنيا يمكن أن يركن إليها الإنسان، وإنما اللذات منتهيةٌ وزائلة، فاللذة الحقة هي لذة المتاع في الآخرة، وإنما لذة الدنيا في استشعار معنى العبودية في كل شأن من شؤونها والركون إلى جانب الله سبحانه والرضا بأقداره، لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتدبر الموت لأن هاذم اللذات يقلل الارتباط بالدنيا ويقوي الارتباط فيما عند الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ]، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: "إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ"، قَالَ: [لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ  بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ].

أحبتي .. فلنتذكر الموت دائماً، فهو للإنسان أكبر واعظ، يجعلنا نحسن العبادة لله سبحانه وتعالى، ونتقن أعمالنا التي فيها عمار الدنيا، ونتميز في معاملة الناس بالحسنى كما نحب أن يعاملونا، ونكثر من عمل الخير في مختلف مجالاته، فضلاً عن أننا نكسب ثواب إحياء سُنةٍ (من السنن المهجورة) للنبي عليه الصلاة والسلام.
جعلنا الله ممن صلح عمله وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/4YHiQo

الجمعة، 23 يونيو 2017

مريض في رمضان

الجمعة 23 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة / ٨٩
(مريض في رمضان)

جارٌ لي، له علي حق الجيرة وحق الصداقة، أتذكر كلماته قبل بداية شهر رمضان المبارك والجدول الذي وضعه لنفسه خلال الشهر الفضيل. بدأ رمضان وإذا بجاري وصديقي ينفذ جدوله بدقة جندي يتلقى أوامر من ضابط: منتظمٌ في مواعيده، مواظبٌ من أول ليلة في التراويح والتهجد، قد لا يلحق الصف الأول من التراويح لكن مكانه في هذا الصف في صلاة التهجد. صراحةً كنت أغبطه على نشاطه وهمته رغم كبر سنه، وكنت بيني وبين نفسي أريد أن أنصحه بالتخفيف قليلاً حتى لا يتعب، ثم تراجعت لمعرفتي بشخصيته؛ إذا اتخذ قراراً يأخذه بعد تفكيرٍ ودراسة ثم لا يتراجع عن تنفيذه أبداً، قالها لي ذات مرة: "أنا أدرى الناس بنفسي؛ إذا طاوعت هواها استكبرت وتمادت، وإذا أخذتها بالشدة خضعت وذلت". أعجبني يومها ما قاله، وحاولت أن ألزم نفسي به، والحقيقة أني لا زلت أحاول!

أحبتي في الله .. مرت العشر الأُوَّل من رمضان على نفس الوتيرة، إلى أن افتقدناه فجأةً في صلاة التراويح فسألنا عنه، علمنا أنه يمر بوعكةٍ صحية، انتظرنا يوماً آخر ثم يوماً ثالثاً، فإذا بنا نعلم من حارس العمارة أن جارنا كان في المستشفى وأنه عاد منها بقسطرة. قررنا بسرعةٍ أنا وبعض الجيران زيارته، فما أعظم ثواب زيارة المريض، فما بالنا و(مريض في رمضان) يتضاعف أجر عيادته عن مريضٍ في غير رمضان. اتصلنا به هاتفياً وأخذنا منه موعداً يناسبه، وقت زيارته كان في استقبالنا واقفاً على قدمه محتفظاً بابتسامته التي عهدناها لا تفارقه، جلسنا وبدأ يحكي لنا كيف تطور الأمر معه من آلامٍ مبرحةٍ في جنبه الأيسر لم تكن تتركه إلا وهو يمسك بجنبه ويلف على الأرض كالثعبان، إلى أن أجرى عمليةً بالمنظار. في التفاصيل أخبرنا أنه يشكو عادةً من آلام القولون العصبي التي تراوده كل فترةٍ والتي تستجيب بسرعةٍ لعلاجٍ محدد، أما الآلام التي أمسكت بتلابيبه هذه المرة فكانت أشد، ثم أنها توالت بشكلٍ غير معتادٍ فزارته ثلاث مرات في أربعة أيامٍ، كما أنها لم تستجب للعلاج الذي كانت تستجيب له من قبل، اُضطر للتوجه للمستشفى وأجرى الفحوصات اللازمة فاتضح له براءة القولون العصبي من تلك الآلام وأن سببها وجود حصوتين في الحالب الأيسر، ولأن الكبيرة منهما تقبع بالجزء الأسفل وقد تسبب محاولتها النزول كارثة، قرر الطبيب المختص حجزه في المستشفى في نفس الليلة، وأجرى له عمليةً بالمنظار صباح اليوم التالي.
اطمأننا عليه، وعلى أنه ولله الحمد قد تخلص من هذه الحصوة الكبيرة.
سأله أحدنا: "ألم تخف من العملية، عن نفسي أخاف جداً من العمليات"، رد قائلاً: "لم تكن عمليةً جراحيةً وإنما تم تفتيت الحصوة بالمنظار، كنت تحت التخدير الموضعي للجزء الأسفل من الجسم، أسمع وأتكلم وأشاهد على شاشة {المونيتور} كل ما يقوم به الطبيب الجراح".
صمت جارنا لحظةً ثم قال: "ما خفت منه بالفعل هو ما كنت فرحاً به!"، واستطرد موضحاً: "كنت فرحاً بالتخدير الجزئي للنصف الأسفل من جسمي لا أحس بأي ألم، ثم عندما عدت إلى غرفتي بالمستشفى انتظرت ساعة ثم أخرى ثم ساعة ثالثة أن يعود لي إحساسي بأقدامي، لكن أبداً لم يعد، ساعة رابعة ثم ساعة خامسة، كانت تلك الساعات الخمس بحق ساعات رعبٍ وهلع، لم تُسيطر على ذهني إلا فكرةٌ واحدة فقط: ماذا لو استمر الأمر على هذا الحال؟ ألا يمكن أن يكون خطأً طبياً قد حدث من طاقم التخدير؟ كيف يمكن لي أن أعيش ما تبقى لي من عمر؟ أسئلةٌ كثيرةٌ عصفت بذهني توالت وتزاحمت كأنها في سباق، كانت في تتابعها تزداد سوءاً وتشتد سواداً، لم أستطع أن أوقفها أبداً، إلى أن هداني الله سبحانه وتعالى إلى الدعاء، وسبحان الله العظيم عندما قال في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾، فلولا هدايةُ ربي ما تذكرتُ آياتٍ أحفظها جيداً منها: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ومنها: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، أحسستُ بسَكينةٍ تغمرني وراحة بالٍ تغشى كياني كله حينما تملكتني فكرة حسن الظن بالله، فبدأت بالدعاء والتضرع إلى المولى عز وجل كما لم أدعُ وأتضرع من قبل، فإذا بقدمي اليمني تبدي استجابةً يسيرةً جداً كانت كافيةً لأن أفرح فرحاً عظيماً برحمة ربي واستجابته دعاء المضطر عندما دعاه، فرحاً لم أجد تعبيراً عنه إلا بالانخراط في نوبة بكاءٍ شديدٍ تَعَجَّبَ منها المحيطون بي!".
لم يتمالك نفسه وهو يروي لنا ما حدث معه فأُجهش البكاء. هدأنا من روعه قدر ما نستطيع، ثم سأله أحدنا قبل أن ننصرف عن القسطرة؛ قال: "وجود القسطرة يمنعني من الصلاة في المسجد، فاُضطر إلى الصلاة في المنزل، وكلما سمعت الأذان من كل هذه المساجد التي من حولنا، وأتصور وقع أقدام الساعين إلى بيوت الله وأقدامي ليست من بينهم، لا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء. وكلما يبدأ وقت صلاة التراويح أو وقت صلاة التهجد وأنا لست من بين المصلين أجد عيناي وقد اغرورقتا بالدموع"، وإذا بدموعه تنساب على خده نكاد نحس بسخونتها! حاولنا تهدئته، فقال لنا بصوتٍ متهدج: "أنتم شبابٌ أطال الله في أعماركم، أما أنا فلا أعلم إن كان مكتوباً لي أن أشهد رمضانَ آخر أم لا؟"، قال له واحدٌ منا ونحن نهم بالانصراف: "خفف عن نفسك، مثابٌ ومأجورٌ بإذن الله بنيتك، وبما كنت قد واظبت عليه من عبادات ونوافل قبل المرض. في الواقع كنت متأكداً من أن يتملكك هذا الشعور، فبحثت قبل أن آتي لزيارتك فوجدت حديثاً صحيحاً من أحاديث البخاري كتبته على ورقةٍ حتى لا أنساه"، ثم أخرج ورقةً من جيبه قرأ منها الحديث الشريف التالي:
عن أبي موسى - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً]؛ رواه البخاري.
فكانت نهاية هذه الزيارة بهذه البشرى الطيبة من الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

أحبتي .. الصحة نعمةٌ كبيرة من الله سبحانه وتعالى لا يشعر بأهميتها الإنسان إلا إذا فقدها. حفظنا الله وإياكم، ومتعنا ومتعكم بالصحة والعافية.
اُدعوا لكل (مريض في رمضان)، وخاصةً لمريضنا الذي حدثتكم عنه، بتمام الشفاء وموفور الصحة، قولوا كما علمنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ ربَّ النَّاسِ، أَذْهِب الْبَأسَ، واشْفِ، أَنْتَ الشَّافي لا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفاءً لا يُغَادِرُ سقَماً».
ومع قرب انتهاء شهر رمضان الفضيل رددوا معي:
اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي.
اللهم اكتبني ممن رحمتهم، وغفرت لهم، وأعتقت رقابهم من النار.
اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه، فإن جعلته فاجعلني مرحوماً ولا تجعلني محروماً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.