الجمعة، 14 يوليو 2017

زائرة غير مرغوب فيها

الجمعة 14 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٢
(زائرة غير مرغوب فيها)

اتصل بي يسألني: "ما أخبارها؟"، قلت له: "تعرف أني اجتماعي بطبعي، ثم بحكم عملي، أحب استقبال الزوار، ومع ذلك وجدت نفسي في موقفٍ لا أُحسد عليه؛ فقد أُضطررت لطردها، واعتبرتها (زائرة غير مرغوب فيها) تفرض نفسها علي فرضاً، أردت في البداية أن أستقبلها بلطف، لكنها أبت إلا أن تكون شرسة!"، قال مستوضحاً: "وكيف ذلك؟"، قلت: "تحضر دون استئذان، ولا تراعي أن حضورها يكون دائماً في الليل عندما يحتاج الإنسان عادةً إلى الراحة والسكينة والهدوء، تقتحم علي خلوتي في حجرة نومي وأنا نائمٌ على فراشي!  في كل مرةٍ تزورني يبدو لي في بداية الأمر أنها لن تفارقني، فهي لا تترك في جسدي موضعاً إلا وتتشبس به وتترك بصمتها عليه، إلا أنها في النهاية تستسلم وتضعف وتتركني بعد أن تكون قواي كلها قد خارت، لا تتركني إلا وقد نالت مني ما تشتهي، أما أنا فلا أحب مثل هذه اللقاءات الملتهبة والساخنة، لكن لا حول بي ولا قوة في ردها، إنها بالفعل (زائرة غير مرغوب فيها) أبداً"، متعاطفاً معي سألني: "قلبي معك، وكيف أنت الآن؟"، قلت له: "اطمئن، أنا الآن باردٌ والحمد لله".
عن الحُمَّى كنا نتحدث! فقد زارتني مراتٍ عدة خلال الفترة الماضية، عانيت منها ما عانيت، حاولت إخراجها من جسدي الذي احتلته بغير إذنٍ ولا رغبةٍ مني، بكل طريقةٍ ممكنة: بالأدوية تارةً، بالأدعية تارةً، وبكمادات الثلج تلف جسمي كله تارةً أخرى. كل ذلك لم يفلح إلا قليلاً، واكتشفت أن أقوى وسيلةٍ تساعد على إضعاف الحمى والتخلص منها هي تبريد الجسم بالماء.

أحبتي في الله .. كلما ارتفعت درجة حرارة جسمي تذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: [الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ]، فالحمى كما يقول العارفون "أنموذج، ورقيقة اُشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها"، و"فيها تنبيهٌ للنفوس على شدة عذاب النار، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهةٌ بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها"، لذلك قيل في نسبتها إلى جهنم أنه: "حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعةٌ من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك".
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إذَا حُمّ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُشّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ السّحَر]. وقال عليه الصلاة والسلام: [الْحُمَّى مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ]. كما قال عليه الصلاة والسلام: [الحمى كِيرٌ من جهنم، فما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار]،
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عادَ رَجُلاً مِن وَعَكٍ كان به فقال: [أبشر، فإن الله يقول: هي ناري أسَلِّطها على عبدي المذنب لتكون حظه من النار].  قال مجاهد: "الحمى حظ المؤمن من النار، ثم قرأ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾، قال: الحمى في الدنيا الوُرُود، فلا يَرِدُها في الآخرة".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حُمَّ دعا بقربةٍ من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل، وكان في مرضه الذي لقى به ربه مصاباً بالحمى، فكان يضع إلى جواره إناءً من ماءٍ باردٍ ويمسح بها وجهه.
يقول الشاعر:
إذَا وَجَدْتُ لَهِيبَ الْحُبّ فِي كَبِدِي
أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ
فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الْأَحْشَاءِ تَتّقِدُ
إطفاء الحمى بالماء ضروريٌ ومهمٌ وفعالٌ ومفيد، لكنه قد لا يصلح وحده، كما أنه قد لا يصلح في جميع الحالات؛ يقول أحد العلماء في شرحه للموطأ: "والحاصل أنَّ الحمى أنواع: منها ما يصلح له الإبراد بالماء، ومنها ما لا يصلح، والذي يصلح إبراده بالماء يختلف أيضاً، فمنه ما يصلح أن يُرش بين بدن المحموم وجيبه، أو يُقطر على صدره من السقاء فلا يجاوز ذلك، ومنه ما يحتاج إلى صب الماء على رأسه وسائر بدنه، أو إلى انغماسه في النهر الجاري مرةً فأكثر، وذلك باختلاف نوع المرض، وكما يُختلف بذلك يُختلف أيضاً بحسب اختلاف الفصل، والقطر، والمزاج، فلا يُسوى بين الشتاء والصيف، ولا بين مَنْ مزاجه باردٌ رطبٌ وبين من مزاجه حارٌ يابس، ولا بين من به نزلاتٌ وتحدرات وبين غيره، هذا هو المقرر من قواعد الطب".
والحمى من مكفرات الذنوب؛ ففِي حدِيث أبي هريرة قال: ذُكِرَتْ الْحُمّى عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَبّهَا رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: [لَا تَسُبّهَا فَإِنّهَا تَنْفِي الذّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ].
قال أبو هريرة: "مَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُنِي أَحَبّ إلَيّ مِنْ الْحُمّى لِأَنّهَا تَدْخُلُ فِي كُلّ عُضْوٍ مِنّي وَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ يُعْطِي كُلّ عُضْوٍ حَظّهُ مِنْ الْأَجْرِ".

أحبتي .. لما علمت أن الحمى من مكفرات الذنوب فكرت في التراجع عن وصفها بأنها (زائرة غير مرغوب فيها)، لكني لم أجد نفسي مرتاحاً لذلك. والغريب أني وجدت من سبقني إلى هذا الموقف، رغم أن اختياري خالف اختياره، شاعرٌ كان قد وصف الحمى ببيتين قال فيهما:
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ وَوَدّعَت
تَبّاً لَهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّعِ
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمْت عَلَى تَرْحَالِهَا
مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تَرْجِعِي
لكنه بعد أن أمعن النظر ورأى مزايا تكفير الذنوب عدَّل في البيتين فصارا:
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ لِصَبّهَا
أَهْلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّع
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا
مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْت: أَنْ لَا تُقْلِعِي
أما أنا عن نفسي، ليست عندي شجاعة ذلك الشاعر، فلا أستطيع أن أرحب بالحمى مرةً أخرى وأقول لها أهلاً، ولا أستطيع إذا حضرت مرةً أخرى، لا قدر الله، أن أقول لها لا تقلعي! وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يُقَّدر لي طريقةً لتكفير ذنوبي تكون أقل حرارةً، فكفاني ما نابني منها!
عافانا الله وإياكم من المرض، ومتعنا وإياكم بالصحة والعافية والسلامة من كل داء.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/xkdRms

الجمعة، 7 يوليو 2017

عقيقة يس طه

الجمعة 7 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩١
(عقيقة يس طه)

دعانا صديقنا طه إلى عقيقة ابنه فلبينا الدعوة، توجهنا إلى المكان الذي حدده في الزمان الذي أخبرنا به. لم يُقَصِّر صاحبنا في إعداد العقيقة؛ اختار لها قاعةً فخمةً بمكانٍ معروفٍ واتفق مع مطعمٍ متخصصٍ لإعداد وطبخ لحم الذبيحة مع الأرز البسمتي بتحويجةٍ متميزةٍ من المكسرات والتوابل، إلى جانب السلطات والعصائر والحلويات والفواكه والمياه الغازية. كان يوم عيدٍ لصاحبنا طه، كنا حريصين على أن نشاركه فرحته بالمولود الذكر الذي مَنَّ الله به عليه.
انتهت الوليمة، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، فسأل واحدٌ منا صديقنا طه عن الاسم الذي اختاره لمولوده، قال: "يبدو أنها عادةٌ متوارثةٌ في العائلة، نتسمى كلنا ونُسمي أبناءنا بأسماء الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فاسمي كما تعلمون طه محمد أحمد مصطفى، وسميت ابني يس". بارك له الحاضرون، وأشاد بعضهم بحسن اختياره لاسم الولد، ولأنه من أسماء النبي الكريم، ففي هذا بشرى بصلاح هذا الابن بإذن الله.
حتى هذا الوقت كنت أعرف، ككثيرين غيري، أن اسم طه واسم يس من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، إلى أن تحدث أحد الحاضرين، وهو شيخٌ جليلٌ لا أعلم من هو، ربما كان من أقارب زوجة صديقنا طه، تحدث بهدوءٍ وثقةٍ فقال: "أخي طه، بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورُزقت بره. أما بعد، فاسمح لي أخي الفاضل أن أصحح معلومةً متداولةً بين كثيرٍ منا دون أن ندري أنها ليست صحيحة"، سكت لحظةً حتى تأكد من أن الأحاديث الجانبية قد توقفت وأن الحاضرين يُصغون إليه فاستطرد قائلاً: "البعض يعتقد أن طه ويس هما من أسماء نبينا الكريم، لكنهما في الواقع ليستا كذلك"، وأكمل وسط دهشة الحاضرين: "يقول أهل العلم أن طه ويس هما من الحروف المقطعة التي اُفتتحت بها بعض سور القرآن الكريم؛ ويدل على ذلك كما يقول العلماء أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة سورة طه، جاءتا في مواضع أخرى لا نزاع فيها في أنهما من الحروف المقطعة، أما الطاء ففي فاتحة سورة الشعراء ﴿طسم﴾، وفاتحة سورة النمل ﴿طس﴾. وفاتحة سورة القصص ﴿طسم﴾. وأما الهاء ففي فاتحة سورة مريم في قوله تعالى ﴿كهيعص﴾". 
انتهى الشيخ من كلامه، ثم قام فعانق صديقنا طه وكرر التهنئة له وسلم على الحضور وانصرف.
علق البعض ممن حضر (عقيقة يس طه) بأنهم يسمعون هذا الكلام لأول مرة، لكن أحد الحاضرين، وقد شجعته كلمات الشيخ الوقور، قال: "أنا قرأت عن هذا الموضوع بالفعل وقت أن كنا نبحث عن اسمٍ لحفيدنا قبل ولادته وأردنا أن يكون اسمه موافقاً للشريعة، فاطلعت على ما قاله الشيخ، بل وعلمت أن بعض العلماء لم يُجز التسمية بهذين الاسمين؛ فقد قال الإمام ابن القيم في {تحفة المودود بأحكام المولود}: ومما يُمنع منه: التسمية بأسماء القرآن وسوره، مثل: طه، ويس، وحم".
يبدو أن الحاضرين وجدوا أنفسهم في حرجٍ، فبدأوا ينصرفون، أما صاحب العقيقة فقد اختار عدم التعليق واحتفظ بابتسامته على شفتيه يودع بها ضيوفه ومهنئيه.

أحبتي في الله .. بعد عودتي من (عقيقة يس طه) أردت أن أتأكد من صحة ما سمعت من الرجلين، فوجدت جمهور أهل العلم على ما ذهب إليه الرجلان؛ فقد قال ابن القيم: "وأما ما يذكره العوام أن يس وطه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فغير صحيحٍ ولا حسنٍ، وإنما هذه الحروف مثل: الم، وحم، والمر، والر ونحوها".
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: "طه: من جملة الحروف المقطعة، المفتتح بها كثيرٌ من السور، وليست اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم".
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: "وليس طه وياسين من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في أصح قولي العلماء، بل هما من الحروف المقطعة في أوائل السور مثل ص وق ون ونحوها".
ومن الحُجج التي يحتج بها القائل بأن اسم طه من أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام هي ما يُفهم من الآيات في بداية سورة طه وهي : ﴿طه . ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى﴾ فيقول المخالف أن الله خاطب نبيه عليه الصلاة والسلام بعد ورود كلمة طه مما يثبت أن هذه اللفظة هي اسمٌ من أسمائه صلى الله عليه وسلم، بمعنى يا طه {اسم الرسول عليه الصلاة والسلام} ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. وهذا القول غير صحيحٍ ومردودٌ عليه؛ ورده من القرآن أيضاً حيث نرى أن سورة الأعراف بدأت ب ﴿المص . كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فهل من عاقلٍ يقول أن المص هي من أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام! ومثل ذلك في بداية سورة إبراهيم، وكذلك في بداية سورة مريم.

أما أسماء النبي عليه الصلاة والسلام فهي كثيرةٌ، منها أسماء ‏وردت في القرآن الكريم وهي: الشاهد، والمبشر، والنذير، والمبين، والداعي إلى الله، ‏والسراج المنير، والمذكر، والرحمة، والنعمة، والهادي، والشهيد، والأمين والمزمل، ‏والمدثر. ومنها ما ورد في القرآن والسنة النبوية وهما: أحمد ومحمد. ومنها ما ورد ‏في السنة وهي: الماحي، والحاشر، والعاقب، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ‏والمتوكل.

وأما عن اسم المصطفى فقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هل المصطفى من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام؟ فأجاب: "لا، بل الظاهر أنه من أوصافه، والعجيب أن بعض الناس يكرر فيقول: قال المصطفى .. قال المصطفى .. مع أن الصحابة رضي الله عنهم أشد منا تعظيماً للرسول عليه الصلاة والسلام وأعلم بمناقبه منا ولم يقولوا ذلك".
ذكرني موضوع تسمية المولود بطُرفةٍ ذكرها العلَّامةُ الشيخُ محمَّد العثَيمين رحمه الله تعالى في { الشَّرحِ الممتع على زاد المستقنع }، قال: "إن رجلًا سمَّى ولدَه نَـكْـتَـلْ فقيل له لماذا؟ قال: لأنَّ هذا أخو يوسف ﴿فَأرْسِلْ مَعَنا أخانا نَـكْـتَل﴾! وهذا مِن الجهلِ، فهم يُريدونَ أنْ يتبرَّكوا بالأسماءِ الموجودةِ في القرآنِ الكريمِ فيخْتَطفُون ولا يُفكِّرون ولا يُقدِّرون".

أحبتي .. يُسن تسمية الولد في اليوم السابع من الولادة، أو يوم الولادة نفسه وأن يكون الاسم حسناً لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: [إنكم تُدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فحسنوا أسماءكم].
وأفضل الأسماء عبد الله وعبد الرحمن؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: [أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله، وعبد الرحمن]. كما قال: [وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة].
فمن هذه الأحاديث وما في معناها يُستفاد الندب إلى التسمي بكل اسمٍ يكون معناه حسناً، والأفضل للإنسان أن يُسمي أولاده بأسماء الأنبياء والصالحين، والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدل الاسم القبيح باسمٍ حسنٍ؛ فقد رُوى أنه، عليه الصلاة والسلام، غَيَّر اسم عاصيةٍ، وقال: [أنت جميلة].

فلنحسن تسمية أبنائنا، ولتكن أسماؤهم طيبةً ذات معانٍ سامية، موافقةً للشرع وليست مخالفةً له، ونبتعد عن الأسماء المخالفة أو تلك التي بها شبهة مخالفة.
علَّمنا الله ما ينفعنا، ونفعنا بما علمنا، وزادنا علماً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/dLXA26

الجمعة، 30 يونيو 2017

من السنن المهجورة

الجمعة 30 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٠
(من السنن المهجورة)

كنا نتحدث في مواضيع شتى ومسائل متفرقة، كعادتنا كلما اجتمعنا، يذكر أحدنا معلومةً جديدةً أو خبراً مفيداً أو ملخصاً لمقالٍ قرأه أو كتابٍ يطالعه أو آيةً قرآنيةً لفتت انتباهه أو حديثاً شريفاً ربما استمع إليه لأول مرة، أو سُنةً (من السنن المهجورة) ينبغي الاهتمام بها، وغير ذلك من موضوعات. فذكر واحدٌ منا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اَللَّذَّاتِ: اَلْمَوْتِ] {الهاذم هو القاطع، وذُكر بلفظ الهادم وهو المزيل كالذي يهدم البناء، كما ذُكر بلفظ الهازم بمعنى الغالب}. ورغم أن البعض ضعَّف الحديث إلا أن معناه مهمٌ وآثار العمل به مفيدة. قال صاحبنا: "أعتقد أن ذكر الموت كما أمرنا الرسول الكريم هو (من السنن المهجورة) التي علينا أن نهتم بها ونحافظ عليها"، وافقه الجميع على رأيه، لكني لاحظت نوعاً من الضيق من ذكر موضوع الموت لم يعبر عنه صراحةً إلا أصغرنا سناً حيث قال: "ألا يوجد (من السنن المهجورة) إلا هذا الحديث يا شيخنا؟"، قالها وهو يضفي على حديثه لمسةً من المرح، لكن ما خفي كان واضحاً.

ألاحظ أن بعض الناس يتجنب الحديث عن أي موضوعٍ فيه ذكرٌ للموت، كما ألاحظ أن كثيراً منهم لا يرتاحون حتى لسماع لفظه، ويأنفون من ذكر الموت ويتحاشون ذلك قدر إمكانهم، كما لو كان ذكره يأتي به قبل موعده! غالب ظني أن هؤلاء يتهربون من ذكر الموت لأنه يذكرهم بتقصيرهم في أداء حقوق الله عليهم. لكن، من منا ليس مقصراً؟ نحن جميعاً مقصرون، بدرجة أو أخرى، لذا فإن ذكر الموت نافعٌ لنا ومفيدٌ لنفيق من غفلتنا ونصلح من أحوالنا.

أحبتي في الله .. الموت حقٌ لا ريب فيه وهذا معلومٌ للجميع؛ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾، أما الأجل فهو من تقدير الله سبحانه وتعالى لا يعلمه أحدٌ لا زماناً ولا مكاناً، يقول سبحانه: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
يقول أهل العلم عن الموت أن الله فاطر السماوات والأرض  ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ جعل الموت حلقةً من حلقات الحياة يتم به الاختبار والابتلاء؛ فالموت ليس فَناءً، بل هو انتقالٌ من دارٍ إلى دار، بينهما برزخٌ يفصل بين حياتين: حياة الاختبار والابتلاء، وحياة الجزاء والبقاء. والحياة الحقيقية هي حياة الآخرة وإن آثر أكثر الناس الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُ‌ونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَ‌ةُ خَيْرٌ‌ وَأَبْقَىٰ﴾، وقال: ﴿إِنَّمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَ‌ةَ هِيَ دَارُ‌ الْقَرَ‌ارِ‌﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلّا عَيْش الآخِرَةِ]. والموت هو اليقين حقّاً، وإن أعرض الناس عنه وحادوا، والحياة الدنيا دار البلاء والاختبار والعمل لما بعد الموت. قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَ‌ةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾، وقال: ﴿وَاعْبُدْ رَ‌بَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ أي: الموت. ولما مات عثمان بن مظعون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ، مَا يُفْعَلُ بِي]. فالموت حقٌ لا يُعرض عن ذكره إلا غافل، ولا يفر منه إلا جاهل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّ‌ونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَ‌دُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
وفي ذكر الموت فوائد عظيمة: فهو أدعى لقصر الأمل في الدنيا والزهد في زخارفها، والحرص على العمل الصالح وإحسانه، ومحاسبة النفس على ما فعلت، والمبادرة للتوبة النصوح، وأداء الحقوق إلى أصحابها، ثم هو يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي.
انظروا أحبتي سُنة المصطفى عليه الصلاة والسلام في ذكر الموت في كل حين: وقت الصلاة: [اذكر الموت في صلاتك، فإن المرء إذا ذكر الموت في صلاته فحريٌ أن يحسن صلاته]، و[إذا قمت في صلاتك فصلِ صلاة مودع]. وفي الصباح والمساء: [إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح]. وفي الصحة والفراغ: [وخذ من حياتك لموتك ومن صحتك لمرضك، ومن فراغك لشغلك]. وعند النوم: [اللهم إني أسلمت نفسي إليك]، [باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين]. وعند الاستيقاظ: [الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور]. وفي حياتنا كلها: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ].
الموت راحةٌ للمؤمن من تعب الدنيا ونصبها، ونهايةٌ سعيدةٌ لهذا الابتلاء الذي عاناه فيها، أما الكافر فبالموت يبدأ شقاؤه وعناؤه والعياذ بالله؛ مُرَّ على رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: [مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ]، قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟"، قَالَ: [الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ].
وتبدو راحة العبد المؤمن في بشارة الملائكة له عند الموت، لا تخف ولا تحزن وأبشر بالجنة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَ‌بُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُ‌وا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَ‌ةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ‌ رَّ‌حِيمٍ﴾. والبلاء الذي يتعرض له المؤمن قبل موته يكفر عنه ذنوبه ويرفع درجته؛ فإنه كما قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: [ما يصيب المسلم من نَصَب، ولا وَصَب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا ابْتَلَى اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَكِ اكْتُبْ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ فَإِنْ شَفَاهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَإِنْ قَبَضَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ].
يقول أحد الصالحين: كل يوم يفجعنا الموت بفجيعته، فتبكي منا العيون وترتجف القلوب، ويشتد بنا الخوف من الموت، ويستشعر كل منا قرب لحظة النهاية. ثم ندفن ميتنا ونعود أدراجنا، وتبدأ دموعنا في الجفاف، وتبدأ حياتنا في العودة إلى سابق حالها، غفلةً، ونسياناً للحظة اللقاء! هذا المشهد نراه من حولنا يتكرر بصورةٍ متتابعة، فلا الرحيل انتهى، ولا نحن تذكرنا وتدبرنا! من أين إذن نأتي لقلوبنا بواعظٍ أشد لها من الموت؟
إن الأسباب وراء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتذكر الموت ليست قاصرةً على مجرد الاتعاظ والتذكرة، بل لأن فكرة الموت تجمع حولها كثيراً من المعاني الإيمانية والمبادئ الحياتية والدوافع السلوكية التي قد تغير طبيعة حياة الإنسان من لهوٍ وعبث إلى قيمةٍ وأثر. فالحياة في نظر الإسلام هي هبةٌ ربانيةٌ من الله سبحانه للناس، خلقهم فيها واختبرهم وأمرهم ليصلحوها ويصلحوا فيها بالقول والعمل، ويعمروها بالصلاح والعبودية لله سبحانه. والأبناء والأحفاد والذريات والمال والمتاع أيضاً منه سبحانه وتعالى فإذا قضى الله سبحانه الموت على أحدٍ فإنا له وإليه راجعون، والعبد عبده، والخلق خلقه والأمر أمره لا إله إلا هو، فهو يهب الحياة والنعمة، وهو سبحانه يقبض الروح ويوقف الإنعام إذا شاء. فتأتي فكرة الموت هنا لتؤكد على ذلك المعنى تأكيداً يضطر الإنسان المؤمن إلى الاستشعار بالفقر والضعف الكاملين تجاه ربه سبحانه، والحاجة التامة له عز وجل ولإنعامه وعطاياه، فيرجوه ويسأله، ويحسن عمله ويطهر عبوديته. كذلك فلا لذة دائمةً في الحياة الدنيا يمكن أن يركن إليها الإنسان، وإنما اللذات منتهيةٌ وزائلة، فاللذة الحقة هي لذة المتاع في الآخرة، وإنما لذة الدنيا في استشعار معنى العبودية في كل شأن من شؤونها والركون إلى جانب الله سبحانه والرضا بأقداره، لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتدبر الموت لأن هاذم اللذات يقلل الارتباط بالدنيا ويقوي الارتباط فيما عند الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ]، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: "إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ"، قَالَ: [لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ  بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ].

أحبتي .. فلنتذكر الموت دائماً، فهو للإنسان أكبر واعظ، يجعلنا نحسن العبادة لله سبحانه وتعالى، ونتقن أعمالنا التي فيها عمار الدنيا، ونتميز في معاملة الناس بالحسنى كما نحب أن يعاملونا، ونكثر من عمل الخير في مختلف مجالاته، فضلاً عن أننا نكسب ثواب إحياء سُنةٍ (من السنن المهجورة) للنبي عليه الصلاة والسلام.
جعلنا الله ممن صلح عمله وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/4YHiQo

الجمعة، 23 يونيو 2017

مريض في رمضان

الجمعة 23 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة / ٨٩
(مريض في رمضان)

جارٌ لي، له علي حق الجيرة وحق الصداقة، أتذكر كلماته قبل بداية شهر رمضان المبارك والجدول الذي وضعه لنفسه خلال الشهر الفضيل. بدأ رمضان وإذا بجاري وصديقي ينفذ جدوله بدقة جندي يتلقى أوامر من ضابط: منتظمٌ في مواعيده، مواظبٌ من أول ليلة في التراويح والتهجد، قد لا يلحق الصف الأول من التراويح لكن مكانه في هذا الصف في صلاة التهجد. صراحةً كنت أغبطه على نشاطه وهمته رغم كبر سنه، وكنت بيني وبين نفسي أريد أن أنصحه بالتخفيف قليلاً حتى لا يتعب، ثم تراجعت لمعرفتي بشخصيته؛ إذا اتخذ قراراً يأخذه بعد تفكيرٍ ودراسة ثم لا يتراجع عن تنفيذه أبداً، قالها لي ذات مرة: "أنا أدرى الناس بنفسي؛ إذا طاوعت هواها استكبرت وتمادت، وإذا أخذتها بالشدة خضعت وذلت". أعجبني يومها ما قاله، وحاولت أن ألزم نفسي به، والحقيقة أني لا زلت أحاول!

أحبتي في الله .. مرت العشر الأُوَّل من رمضان على نفس الوتيرة، إلى أن افتقدناه فجأةً في صلاة التراويح فسألنا عنه، علمنا أنه يمر بوعكةٍ صحية، انتظرنا يوماً آخر ثم يوماً ثالثاً، فإذا بنا نعلم من حارس العمارة أن جارنا كان في المستشفى وأنه عاد منها بقسطرة. قررنا بسرعةٍ أنا وبعض الجيران زيارته، فما أعظم ثواب زيارة المريض، فما بالنا و(مريض في رمضان) يتضاعف أجر عيادته عن مريضٍ في غير رمضان. اتصلنا به هاتفياً وأخذنا منه موعداً يناسبه، وقت زيارته كان في استقبالنا واقفاً على قدمه محتفظاً بابتسامته التي عهدناها لا تفارقه، جلسنا وبدأ يحكي لنا كيف تطور الأمر معه من آلامٍ مبرحةٍ في جنبه الأيسر لم تكن تتركه إلا وهو يمسك بجنبه ويلف على الأرض كالثعبان، إلى أن أجرى عمليةً بالمنظار. في التفاصيل أخبرنا أنه يشكو عادةً من آلام القولون العصبي التي تراوده كل فترةٍ والتي تستجيب بسرعةٍ لعلاجٍ محدد، أما الآلام التي أمسكت بتلابيبه هذه المرة فكانت أشد، ثم أنها توالت بشكلٍ غير معتادٍ فزارته ثلاث مرات في أربعة أيامٍ، كما أنها لم تستجب للعلاج الذي كانت تستجيب له من قبل، اُضطر للتوجه للمستشفى وأجرى الفحوصات اللازمة فاتضح له براءة القولون العصبي من تلك الآلام وأن سببها وجود حصوتين في الحالب الأيسر، ولأن الكبيرة منهما تقبع بالجزء الأسفل وقد تسبب محاولتها النزول كارثة، قرر الطبيب المختص حجزه في المستشفى في نفس الليلة، وأجرى له عمليةً بالمنظار صباح اليوم التالي.
اطمأننا عليه، وعلى أنه ولله الحمد قد تخلص من هذه الحصوة الكبيرة.
سأله أحدنا: "ألم تخف من العملية، عن نفسي أخاف جداً من العمليات"، رد قائلاً: "لم تكن عمليةً جراحيةً وإنما تم تفتيت الحصوة بالمنظار، كنت تحت التخدير الموضعي للجزء الأسفل من الجسم، أسمع وأتكلم وأشاهد على شاشة {المونيتور} كل ما يقوم به الطبيب الجراح".
صمت جارنا لحظةً ثم قال: "ما خفت منه بالفعل هو ما كنت فرحاً به!"، واستطرد موضحاً: "كنت فرحاً بالتخدير الجزئي للنصف الأسفل من جسمي لا أحس بأي ألم، ثم عندما عدت إلى غرفتي بالمستشفى انتظرت ساعة ثم أخرى ثم ساعة ثالثة أن يعود لي إحساسي بأقدامي، لكن أبداً لم يعد، ساعة رابعة ثم ساعة خامسة، كانت تلك الساعات الخمس بحق ساعات رعبٍ وهلع، لم تُسيطر على ذهني إلا فكرةٌ واحدة فقط: ماذا لو استمر الأمر على هذا الحال؟ ألا يمكن أن يكون خطأً طبياً قد حدث من طاقم التخدير؟ كيف يمكن لي أن أعيش ما تبقى لي من عمر؟ أسئلةٌ كثيرةٌ عصفت بذهني توالت وتزاحمت كأنها في سباق، كانت في تتابعها تزداد سوءاً وتشتد سواداً، لم أستطع أن أوقفها أبداً، إلى أن هداني الله سبحانه وتعالى إلى الدعاء، وسبحان الله العظيم عندما قال في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾، فلولا هدايةُ ربي ما تذكرتُ آياتٍ أحفظها جيداً منها: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ومنها: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، أحسستُ بسَكينةٍ تغمرني وراحة بالٍ تغشى كياني كله حينما تملكتني فكرة حسن الظن بالله، فبدأت بالدعاء والتضرع إلى المولى عز وجل كما لم أدعُ وأتضرع من قبل، فإذا بقدمي اليمني تبدي استجابةً يسيرةً جداً كانت كافيةً لأن أفرح فرحاً عظيماً برحمة ربي واستجابته دعاء المضطر عندما دعاه، فرحاً لم أجد تعبيراً عنه إلا بالانخراط في نوبة بكاءٍ شديدٍ تَعَجَّبَ منها المحيطون بي!".
لم يتمالك نفسه وهو يروي لنا ما حدث معه فأُجهش البكاء. هدأنا من روعه قدر ما نستطيع، ثم سأله أحدنا قبل أن ننصرف عن القسطرة؛ قال: "وجود القسطرة يمنعني من الصلاة في المسجد، فاُضطر إلى الصلاة في المنزل، وكلما سمعت الأذان من كل هذه المساجد التي من حولنا، وأتصور وقع أقدام الساعين إلى بيوت الله وأقدامي ليست من بينهم، لا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء. وكلما يبدأ وقت صلاة التراويح أو وقت صلاة التهجد وأنا لست من بين المصلين أجد عيناي وقد اغرورقتا بالدموع"، وإذا بدموعه تنساب على خده نكاد نحس بسخونتها! حاولنا تهدئته، فقال لنا بصوتٍ متهدج: "أنتم شبابٌ أطال الله في أعماركم، أما أنا فلا أعلم إن كان مكتوباً لي أن أشهد رمضانَ آخر أم لا؟"، قال له واحدٌ منا ونحن نهم بالانصراف: "خفف عن نفسك، مثابٌ ومأجورٌ بإذن الله بنيتك، وبما كنت قد واظبت عليه من عبادات ونوافل قبل المرض. في الواقع كنت متأكداً من أن يتملكك هذا الشعور، فبحثت قبل أن آتي لزيارتك فوجدت حديثاً صحيحاً من أحاديث البخاري كتبته على ورقةٍ حتى لا أنساه"، ثم أخرج ورقةً من جيبه قرأ منها الحديث الشريف التالي:
عن أبي موسى - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً]؛ رواه البخاري.
فكانت نهاية هذه الزيارة بهذه البشرى الطيبة من الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

أحبتي .. الصحة نعمةٌ كبيرة من الله سبحانه وتعالى لا يشعر بأهميتها الإنسان إلا إذا فقدها. حفظنا الله وإياكم، ومتعنا ومتعكم بالصحة والعافية.
اُدعوا لكل (مريض في رمضان)، وخاصةً لمريضنا الذي حدثتكم عنه، بتمام الشفاء وموفور الصحة، قولوا كما علمنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ ربَّ النَّاسِ، أَذْهِب الْبَأسَ، واشْفِ، أَنْتَ الشَّافي لا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفاءً لا يُغَادِرُ سقَماً».
ومع قرب انتهاء شهر رمضان الفضيل رددوا معي:
اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي.
اللهم اكتبني ممن رحمتهم، وغفرت لهم، وأعتقت رقابهم من النار.
اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه، فإن جعلته فاجعلني مرحوماً ولا تجعلني محروماً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


الجمعة، 16 يونيو 2017

الخليفة المفترَى عليه

الجمعة 16 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة /٨٨
(الخليفة المفترَى عليه)

وردت في كتب التاريخ مثل تاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير وتاريخ الخلفاء للسيوطي القصة التالية:
دخل ابن السماك على الرشيد يوماً فبينما هو عنده إذ استسقى ماءً، فقال لابن السماك عظني، فلما أهوى بالماء إلى فيه ليشربه قال له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو مُنعت هذه الشربة فبكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب، هنأك الله. فلما شربها، قال له: أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو مُنعت خروجها من بدنك فبماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي، قال ابن السماك: إن ملكاً قيمته شربة ماءٍ وبولة لجديرٌ ألا ينافس فيه! فبكى هارون الرشيد بكاءً شديداً.

أحبتي في الله .. أنقل لكم هذه القصة الآن في شهر رمضان المبارك لألفت النظر إلى مسلسلاتٍ تلفزيونيةٍ يتم صرف ملايين الجنيهات عليها، ثم يا ليتها تقدم للمشاهد شيئاً ينفعه، بل هي في غالب ظني جزءٌ من مخططٍ ممنهجٍ لتزييف تاريخ الإسلام والمسلمين.
بالله عليكم خليفة المؤمنين الذي يطلب موعظةً من رجل علمٍ، ثم يكون صادقاً مع نفسه ومع رجل العلم فيجيبه عن سؤاليه بأمانة، ثم هو في النهاية يبكي من الموعظة التي سمعها، هل مثل هذا الخليفة يمكن أن يكون كما تصوره لنا مسلسلات رمضان؟
تابعوا معي ماذا قال أهل العلم الثقاة المنصفين في هارون الرشيد (الخليفة المفترَى عليه)، قالوا: كان من عظماء أمتنا الذين طأطأ الروم رؤوسهم له، وأحنوا هاماتهم رهبةً منه، ذلكم هو الخليفة المجاهد هارون الرشيد، ذلك الرجل الذي حاول أعداء تاريخنا وأذنابهم أن يصوروه بصورة شارب الخمر الماجن، صاحب الجواري الحسان والليالي الحمراء، العسوف الظلوم ، مع أنه كان من أعظم خلفاء الدولة العباسية جهاداً وغزواً واهتماماً بالعلم والعلماء، وبالرغم من هذا كله أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لا هَمَّ له سوى الجواري والخمر والسُكْر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية.
قال ابن خلكان عنه في كتابه وفيات الأعيان: "كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حجٍ وجهادٍ وغزوٍ وشجاعةٍ ورأي".
ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: "وحكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مئة ركعةٍ إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج أحج معه مئةً من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنةٍ ثلاثمئة رجلٍ بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة".
ونقل الغزالي عن إبراهيم بن عبد الله الخراساني أنه قال: "حججت مع أبي سنة حج الرشيد فإذا نحن بالرشيد وهو واقفٌ حاسرٌ حافٍ على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول: يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العوّاد إلى الذنب، وأنت العوّاد إلى المغفرة، اغفر لي".
قال الرشيد لشيبان عظني، قال: لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خيرٌ لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف، فقال الرشيد: فسر لي هذا، قال: من يقول لك أنت مسئولٌ عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول أنتم أهل بيتٍ مغفورٍ لكم وأنتم قرابة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم. فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله.
وقال الأصمعي: صنع الرشيد يوماً طعاماً كثيراً وزخرف مجلسه وأحضر الشاعر أبا العتاهية فقال له: صِف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال:
عش ما بدا لك سالماً
في ظل شاهقة القصور
يسعى عليك بما اشتهيت
لدى الرواح وفي البكور
فإذا النفوس تقعقعت
في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً
ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد، وقال الفضل بن يحي: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته، فقال هارون الرشيد: دعه، فإنه رآنا في عمىً فكره أن يزيدنا.
وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله: ما أعلم أن لملكٍ رحلةً قط في طلب العلم إلا للرشيد، فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله.
وعن أبي معاوية الضرير قال صَبَ على يدي بعد الأكل شخصٌ لا أعرفه، فقال الرشيد: "تدري من يصب عليك؟"، قلت: "لا"، قال: "أنا، إجلالاً للعلم".
خرج الرشيد في السنة التي وُلِّيَ الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالاً كثيراً، وكان رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغزُ وحِج ووسع على أهل الحرمين، ففعل هذا كله.
وفي سنة سبعٍ وثمانين ومائة جاء للرشيد كتابٌ من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم وصورة الكتاب "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرُخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إليها، وذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حُصِّل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك"، فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضباً ودعا بدواة وكتب على ظهر كتابه "بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، والسلام"، ثم سار ليومه فقاد جيشاً ضخماً عدته 135 ألف جندي نزل بهم بمدينة هرقل وكانت غزوةً مشهورةً وفتحاً مبيناً فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة ثلاثمائة ألف دينار.
مات الرشـيد أثناء غـزوه الروم، قال السـيوطي في تاريـخ الخلفاء: مات الرشـيد في الغـزو بطوس من خراسان، ودُفن بها في الثالث من جمادى الآخرة سنة ثلاثٍ وتسعين ومائة هجرية، وله خمسٌ وأربعون سنة.
هذا هو هارون الرشيد (الخليفة المفترَى عليه)، كُتب التاريخ مليئةٌ بمواقفَ رائعةٍ له في نُصرة الحق وحب النصيحة وتقريب العلماء لا ينكرها إلا جاحدٌ أو مزور، ويكفيه أنه عُرف بالخليفة الذي يحج عاماً ويغزو عاماً.

أحبتي .. ما عرضته عن الخليفة هارون الرشيد مجرد مثالٍ واحد فقط لما أزعم أنه حملةٌ ممنهجةٌ ومخططٌ لها لتشويه التاريخ الإسلامي والإساءة لكل ما يمكن أن يكون مثالاً يُحتذى به.
انتبهوا أحبتي جيداً لما يُعرض في القنوات الفضائية من مسلسلات، للإنصاف قد يكون بعضها جيداً، لكن من باب الحرص أناشد كل ولي أمر وأقول له إذا أحسست أنك غير مطمئنٍ لما تشاهد فهذا دليلٌ على أن فطرتك سليمة فاحمد الله ثم ابحث بنفسك في الإنترنت عن مدى صحة ما يُعرض عليك أو اسأل أهل العلم، فإذا ثبت لك وجود إساءة أو تشويه لشخصية إسلامية أو موقف في التاريخ الإسلامي توقف فوراً عن المشاهدة، وامنع أهلك عنها، وأخبر أصدقائك بما توصلت إليه ثم لا تشاهد أبداً إلا ما يطمئن إليه قلبك .. وانتبه إلى أن الأطفال والشباب أكثر تأثراً من الكبار بما يشاهدونه من تلك المسلسلات، ليس فقط في مجال تزييف الدين وتشويه الحقائق وإنما في أمورٍ أخرى كثيرةٍ تطال جميع مجالات الحياة دون استثناء، حتى أن بعضها يُعَلِم الشباب وبالتفصيل كيف يدمن أو كيف يكون بلطجياً أو كيف يرتشي، ووصل الأمر للإخلال المتعمد للقيم الخاصة بالفضيلة وكيف أن من يلتزم بأداء الصلاة في المسجد "متشدد"، وأن من يلتزم بالزي الذي يوافق شريعة الإسلام "إرهابي"!
لا تترك لأبنائك الصغار الحرية المطلقة لمشاهدة ما يودون مشاهدته، لا تتنصل من مسئوليتك، أنت ولي أمرهم، تذكر أنهم أمانةٌ في رقبتك ستحاسَب عليهم؛ فكلنا راعٍ وكل راعٍ مسئولٌ عن رعيته.
عن نفسي أنا وأسرتي، ومنذ سنوات، لا نشاهد مسلسلات رمضان حيث تشغلنا عما هو أهم كتلاوة القرآن في شهر القرآن والذكر والدعاء والصلاة وسننها ونوافلها وإطعام الطعام والتصدق على الفقراء والمساكين وغير ذلك من أعمال الخير، يمكن مشاهدة الجيد من تلك المسلسلات بعد انتهاء رمضان، فدائماً ما يتم إعادة عرضها، أما أيام رمضان فما يمر منها لا يعود أبداً ولا يُعوض، والأجر فيها مضاعف، والثواب كبير، ولا ندري هل مكتوبٌ لنا أن نشهد رمضاناً آخر أم لا؟

أحبتي .. كلما سمعت وقرأت عن الهمة والنشاط التي يستعد بها منتجو هذه المسلسلات، التي تُعد للعرض خصيصاً في شهر رمضان من كل عام، ويرصدون لها مبالغ خيالية، ويتعمدون أن تتضمن لقطات مثيرة وغير لائقة، كلما تذكرت قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ونحن نرى بأم أعيننا عذاب بعضهم وبعضهن الأليم في الدنيا، ولي هنا دعوةٌ لأصحاب القنوات الفضائية ومنتجي وممثلي المسلسلات الهابطة التي يسمونها زوراً "رمضانية" أن يعودوا إلى رشدهم وإلى ربِّهم ويؤوبوا إلى بارئهم قبل أن يأتيهم الموت بغتةً فيحملوا ﴿أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾، ثم تراهم يقول يوم القيامة: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ فلا يستجاب لهم يومها ويكون لهم العذاب الأليم في الآخرة كما وعد الله سبحانه وتعالى. وعندما أقرأ قول المولى عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾، فلا أملك سوى أن أسأل نفسي، وأوجه السؤال لكل أخٍ مسلمٍ وأختٍ ومسلمة: هل نتوب في رمضان كما يريد لنا الله سبحانه وتعالى؟ أم نميل ميلاً عظيماً كما يريد الذين يتبعون الشهوات؟ الخيار لكل فردٍ منا، وعليه يكون الحساب بين يدي المولى عز وجل. تذكروا أحبتي أن اختيار سبيل الإيمان والتقوى والخوف من الله وعدم مبارزته بالمعاصي بالإصرار عليها هو بلا شك اختيار الأذكياء.

اللهم اهدنا واهدِ بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


الجمعة، 9 يونيو 2017

الهرم المقلوب!

الجمعة 9 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة/ ٨٧
(الهرم المقلوب!)

خبرٌ عاجلٌ تناقلته وكالات الأنباء: "فوجئ زوار منطقة الأهرام في جمهورية مصر العربية صباح اليوم بأن أهرامات الجيزة الثلاثة تقف مقلوبة؛ قاعدتها العريضة لأعلى تواجه السماء، وقمتها الرفيعة لأسفل تلامس الأرض، وكأنها قد تحولت إلى ثلاث مظلات!". وأضافت وكالات الأنباء القول: "لم تتوفر بعد الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة الغريبة غير المسبوقة والتي لم تحدث منذ سبعة آلاف سنة وقت بناء تلك الأهرامات، كما لم تصدر حتى الآن أية بيانات رسمية من الجهات المعنية حول هذا الموضوع. وسنواليكم تباعاً بكل جديدٍ حول هذا الأمر".
بعد انتشار هذا الخبر بدأ البشر في جميع أنحاء العالم يتابعون التغطية المباشرة لهذا الحدث العجيب من خلال البث الحي الذي تقدمه القنوات الفضائية، ويتحولون بواسطة جهاز التحكم عن بُعد "الريموت كنترول" بين تلك القنوات ليستمعوا إلى الخبراء والمتخصصين وهم يحاولون أن يقدموا تفسيراً لما حدث!

أحبتي في الله .. كانت هذه مقدمةً خياليةً لم تحدث بالطبع، لكني أردت أن أنقل لكم مفهوم (الهرم المقلوب!) بصورةٍ ملموسة، إنه مفهومٌ يعتمد على فكرة التوزيع غير المتكافئ أو الترتيب غير المنطقي أو الأولويات المعكوسة.
أهراماتنا المصرية الثلاثة التي ذكرناها على سبيل التوضيح ليست سوى حجارةٍ لا تضر ولا تنفع، ولن يَحدث فرقٌ كبيرٌ إذا هي وقفت معتدلةً أو مقلوبة. أما أهراماتنا المقلوبة التي أريد أن أنبه إليها فهي تلك التي توجد في حياتنا اليومية نحن المسلمين، وهي كثيرةٌ ومتعددة، وهي مهمةٌ لأنها تُحدث فروقاً كثيرةً في حياة كلٍ منا، ولأن لها تأثيراتٍ مباشرةً على كل مسلم.

من هذه الأهرامات المقلوبة ومن وحي رمضان فقط دون غيره:
ترى المساجد في ليالي شهر رمضان وهي تعج بالمئات والآلاف في صلاة التراويح، وبعض المساجد إذا تأخرت في الوصول إليها قليلاً لا تجد فيها موضعاً لقدم فتُضطر للصلاة بالحدائق أو الأرصفة أو الشوارع المحيطة بالمسجد.
ثم انظر لهذه المساجد وقت صلاة الفجر، لن تجد سوى العشرات! رغم أنه في رمضان تحديداً تصل أعداد المصلين، خاصةً وقت الفجر، ذروتها؛ لخصوصية هذا الشهر وما يتميز به من أجواءَ إيمانيةٍ ونفحاتٍ روحانيةٍ ولأن الكثير من الناس يكونون مستيقظين قرب وقت الفجر لحرصهم على صلاة التهجد ولقرب موعد صلاة الفجر مع وقت تناول وجبة السحور.
الغريب في الأمر أن الآلاف يصطفون بهمةٍ، هُم وأسرهم، لأداء سُنة، أما أداء الفرض، وهو الأصل، فيضيعونه ولا يهتمون به اهتمامهم بصلاة التراويح، فيتضاءل عدد من يصلي الفجر مع جماعة المسلمين بالمسجد ويقل بشكلٍ ملحوظ.
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!)؟

وانظر إلى مكة المكرمة هذه الأيام من شهر رمضان تراها تزدحم بمئات الآلاف من المعتمرين، حتى أن الطواف حول الكعبة توقف لأول مرة في التاريخ من شدة الزحام في شهر رمضان الحالي، وسيسجل التاريخ أن هذا حدث في العام ١٤٣٨هـ.
هل لنا أن نتصور أن هذا الأمر لم يحدث أبداً في أي موسم من مواسم الحج!
الازدحام على السُنة أكثر من الازدحام على أداء ركنٍ من أركان الإسلام الخمسة!
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!).

ثم هل لك أن تتخيل كم يدفعون لحجز أماكن في الفنادق التي تُطل على الحرم ليُصَلُّوا التراويح في شهر رمضان؟ قيمة إيجار الغرفة في فندقٍ مجاورٍ للحرم هو عشرة آلاف ريال لليلة الواحدة في العشر الأولى من رمضان، وتصل إلى أكثر من سبعين ألف ريال لليلة الواحدة في العشر الأواخر من الشهر الكريم! لو حسبناها بالجنيه المصري لوجدنا أن إيجار الغرفة لليالي العشر الأوائل يقترب من نصف مليون جنيه، أما قيمتها في الليالي العشر الأواخر فتزيد عن ثلاثة ملايين جنيه مصري! هذا إيجار الغرفة فقط، غير الأكل والشرب والانتقالات وميزانية شراء الهدايا إضافةً إلى ما يتم دفعه لاستخراج التصاريح فضلاً عن تكلفة تذاكر الطيران!
ورغم صدور أكثر من فتوى تجيز لمن نوى أو اعتزم أداء العمرة، خاصةً من سبق له أداؤها، ثم أنفق ما كان قد خصصه من مال لهذا الغرض على فقراء المسلمين فقد كسب ثوابين: ثواب عُمرة لم يؤدها وثواب الصدقة، رغم ذلك فكم من فقيرٍ ومحتاجٍ من أبناء المسلمين تمر عليه أيامٌ دون طعام؟ وكم منهم لا يجد ماءً نظيفاً يشربه؟ وكم منهم لا يجد ثوباً واحداً يستر جسده؟ وكم منهم يعيش دون مأوى؟ وكم من المسلمين تقتلهم أمراضٌ لا يملكون ثمن شراء دوائها؟ وكم منهم لا يجد مسجداً يصلي فيه إلا في عريشٍ لا يكاد يحميه من حرٍ ولا بردٍ ولا مطر؟!
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!).

ولو نظرت إلى حال بعض المسلمين خاصةً الشباب منهم وكيفية تعاملهم مع الوقت في هذا الشهر الفضيل لتعجبت غاية العجب؛ فمنهم من ينام طوال النهار ويستيقظ على وقت الإفطار، ثم هو يجد كل الوقت بعد الإفطار لأن يتوجه إلى أحد المقاهي أو الكافيهات ليلتقي شباباً غيره يدخنون السجائر والأرجيلة ويلعبون الورق. ومنهم من يفضل البقاء في البيت بعد الإفطار يتابع المسلسلات والفوازير والأفلام ويظل يتنقل وراءها ويتابعها من قناةٍ فضائيةٍ إلى أخرى. ومنهم من تستهويه مواقع التواصل الاجتماعي فيوزع وقته بين الفيس بوك وسناب شات والواتس آب والتيليجرام وجوجل بلس وتويتر والمسنجر وڤايبر وإسكايب وغيرها من برامج وتطبيقات.
ومع ذلك فهو لا يجد وقتاً للصلاة أو القرآن أو ذكر الله أو أعمال الخير والبر؛ فلا اهتمام بالصلاة المفروضة ولا السنن والنوافل، ولا اهتمام بالقرآن الكريم لا حفظاً ولا تلاوةً ولا تدارساً لتفسيره أو أسباب نزوله، بل قد يمر شهر القرآن كله ولم يقرأ صفحةً واحدةً من المصحف، أو يحفظ ولو حديثاً نبوياً شريفاً، ولا هو خصص وقتاً لذكر الله، ولا قام بعمل خير ولا عمل بر.
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!).

لو استرسلت في ذكر الأهرامات المقلوبة في حياة أمتنا الإسلامية لعرضت منها الكثير والكثير.
أما نحن كأفراد ففي حياة كلٍ منا وواقعه عشراتٌ من الأهرامات المقلوبة تحتاج إلى أن نعيدها إلى وضعها الطبيعي ولا نتركها على حالها المقلوب!

أحبتي .. أرجو ألا يُفهم مما كتبت أن جميع أحوالنا كمسلمين مقلوبة، فما قصدته هو التنبيه على بعض المظاهر التي تحتاج إلى إعادة نظر على ضوء ما ينبغي أن يكون، وعلى ضوء فقه الأولويات وتقديم الأهم على المهم وتقديم المهم على الأقل أهمية واستبعاد ما لا أهمية له ولا فائدة من ورائه.
ديننا دين العقل والمنطق والحكمة .. دين إنزال النصوص على الواقع المعاش .. لا ينبغي أبداً أن نعكس الأولويات فنقدم سُنةً على فرض أو نقدم بدعةً على سُنة؛ فتضيع منا جهودٌ وأوقاتٌ وأموالٌ في أعمالٍ محدودة الثواب لو أنا كنا خصصناها لفروضٍ وعباداتٍ وأعمالِ بِرٍ لأتت لنا بثوابٍ عظيم.

أحبتي .. على كلٍ منا أن ينظر إلى أهراماته في حياته الشخصية، في رمضان وفي غير رمضان، في مجال الدين وفي غيره من المجالات، إن كانت معتدلةً فبها ونعمت، وإن كان البعض منها مقلوباً فليسأل نفسه: "أما آن الأوان لأعدل هذه الأهرامات؟"، "أما آن الأوان لأن أستعدل كل ما هو مقلوبٌ لتستقيم حياتي؟".
علينا ألا نقوم بأفعالٍ، مهما بدت لنا طيبةً ومقبولة، لمجرد أننا تعودنا عليها، بل لابد أن نسأل أنفسنا دائماً: "هل ما نفعله صحيح أم لا؟"، فإن كان صحيحاً لابد أن نسأل أنفسنا: "هل يوجد ما هو أكثر منه صحةً وأفضل منه؟".
نحن مطالبون أحبتي بتغيير أحوالنا إلى الأحسن وإلى الأفضل والأكثر نفعاً والأعظم ثواباً؛ يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللهم ممن يقيمون شرعك ويُعلون كلمتك ويكون إسلامهم عقيدةً وعملاً وسلوكاً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.




الجمعة، 2 يونيو 2017

أهلاً رمضان/1

الجمعة 2 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة/ ٨٦
(أهلاً رمضان)

في آخر جمعةٍ من شعبان، وبعد الصلاة، تجمع عددٌ كبيرٌ من المصلين خارج المسجد، تبادلوا التهاني فيما بينهم بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك للعام الهجري ١٤٣٨هـ.
بعضهم كانت تبدو على وجهه علامات الفرحة والاستبشار، وبعضهم كانت إمارات التجهم ظاهرةً على محياه، وبعضهم كان استقباله لهذا الشهر الكريم محايداً، لا هو فرحٌ مستبشرٌ، ولا هو عابسٌ متجهمٌ.
هكذا حال البشر مع كل حدث أو موقف، ينقسمون غالباً إلى ثلاث فرق: فرقةٌ مع، وفرقةٌ ضد، وفرقةٌ ثالثة لا هي مع ولا هي ضد، تقف في المسافة الفاصلة بين الاثنين!
هل هذه قاعدةً عامة؟ هل هي سنةٌ من سنن الحياة؟ تبدو لي كأنها كذلك؛ فقد حدثنا التاريخ عمن سارعوا بالإيمان عندما سمعوا دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام للإسلام، وحدثنا عمن اتخذوا موقف العداوة والكفر من أول لحظة، كما حدثنا عمن كانوا مترددين يؤمنون تارةً ثم يتراجعون عن إيمانهم تارةً أخرى، وأولئك الذين عادوا الدعوة في بدايتها ثم تفكروا فآمنوا، وأولئك الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا من المنافقين.
لذلك علاقةٌ مباشرةٌ بظاهرة تُسمى الاستقطاب، حيث يكون الانجذاب الشديد لأحد رأيين بينهما اختلافٌ كبيرٌ أو تعارضٌ ظاهرٌ وملموس.
إنها طبيعةٌ في الإنسان تظل خاملةً حتى يُظهرها موقفٌ محفز، وكلما كان الموقف المحفز هاماً ومؤثراً كلما زادت حالة الاستقطاب ما بين من هو مع ومن هو ضد، ما بين موافقٍ ورافض، ما بين مؤيدٍ ومعارض، ما بين مستبشرٍ ومتجهم، وبين كلا الفريقين دوماً يكون المحايد.
الأمر لا يقتصر فقط على المسائل الفقهية الخلافية بل إنه ينسحب على مجالاتٍ أخرى من مجالات الحياة كالرياضة والسياسة والفكر والثقافة وغيرها.
ربما كانت هذه فطرةً فُطر الإنسان عليها؛ تأمل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ثم تأمل قوله تعالى في موضع آخر: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾.

عوداً إلى موضوعنا الخاص باستقبال شهر رمضان، كنت تستطيع أن ترصد بين أولئك الذين كانوا يتبادلون التهاني ويقولون (أهلاً رمضان) وكانت تبدو على وجوههم علامات الفرحة والاستبشار جماعاتٍ ثلاثاً: جماعة تتحدث عن الشعائر الخاصة بالشهر الكريم وأين سيصلي كلٌ منهم التراويح وأين سيصلي التهجد ومن هو الشيخ الذي سيصلون خلفه، وكم يعتزمون أن يحفظوا من أجزاء القرآن الكريم. وجماعة تتحدث عن مسلسلات رمضان التي تتسابق القنوات الفضائية في بثها؛ فيسألون عن أسماء تلك المسلسلات وأبطالها وتكلفة إنتاجها ومواعيد بثها ويتبادلون فيما بينهم ترددات القنوات التي تقوم بالبث. وجماعة تتحدث أحاديث عادية ليس لها علاقة بالشهر الفضيل لا من قريبٍ ولا من بعيد!
كلٌ منهم يقول في نفسه أو لصاحبه (أهلاً رمضان) ولكن بطريقته الخاصة!

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُـونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. يقول عز وجل: "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به"، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه]، ويقول: [إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين]، ويقول: [في الجنّة ثمانية أبواب، فيها باب يُسمى الريّان، لا يدخله إلا الصائمون]، كما يقول: [الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِ، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، فيشفعان]. 
إنه رمضان شهر الخير والبركات، شهر القرآن، نزل فيه القرآن في ليلة القدر قال المولى عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، حل علينا فكيف نستقبله؟ هل نقول بألسنتنا وأفواهنا (أهلاً رمضان)؟ أم نعبر عن ذلك بأعمالنا وأفعالنا؟

أحبتي .. يقول أهل العلم أن من أهم الأعمال الصالحة التي تتأكد في رمضان:
الصوم: لا شك أن الثواب الجزيل للصيام لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل، فإن سابّه أحد فليقل إني امرؤ صائم].
الصلاة: المحافظة على صلاة جميع الفروض في أوقاتها في المسجد مع جماعة المسلمين، والالتزام بالسنن الرواتب، والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالنوافل كلما أمكن ذلك. والحرص على الخشوع في الصلاة.
القيام: يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾. وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً". وصلاة التراويح وصلاة التهجد جماعةً في المسجد هي من صلوات القيام التي يحرص على أدائها المسلمون في شهر رمضان.
الصدقة: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة. قال صلى الله عليه وسلم: [أفضل الصدقة صدقة في رمضان..]. للصدقة في رمضان مزية وخصوصية، ولها صور كثيرة منها: إطعام الطعام؛ قال الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام]، ومنها كذلك تفطير الصائمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء].
الاجتهاد في قراءة القرآن: ويكون ذلك بكثرة قراءة القرآن؛ شهر رمضان هو شهر القرآن فكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءة القرآن، وأن يبكي أو يتباكى عند تلاوة القرآن، تدبراً وفهماً وتأثراً بكلام الله عز وجل وخشوعاً وخشية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يلج النار من بكى من خشية الله].
الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة]، هذا في كل الأيام فكيف بأيام رمضان والأجر والثواب فيها يتضاعف أضعافاً مضاعفة؟
الاعتكاف: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً. فالاعتكاف من العبادات التي تجمع كثيراً من الطاعات من التلاوة والصلاة والذكر والدعاء وغيرها.
العمرة في رمضان: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [عمرة في رمضان تعدل حجة]، وفي رواية [حجة معي].
تحري ليلة القدر: قال صلى الله عليه وسلم: [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه]. وورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين الاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها، وهي في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الوتر من لياليه الآخرة، وأرجى الليالي ليلة السابع والعشرين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟"، قال: [قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عني].
الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار: أيام وليالي رمضان أزمنةٌ فاضلةٌ علينا أن نغتنمها بالإكثار من الذكر والدعاء خاصةً في أوقات الإجابة ومنها: عند الإفطار فللصائم عند فطره دعوةٌ لا تُرد، وفي ثلث الليل الآخر حين ينزل ربنا تبارك وتعالى ويقول: {هل من سائلٍ فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفر له}، الاستغفار بالأسحار: قال تعالى: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
فلنحرص أحبتي على هذه العبادات وأعمال البر والتقوى ما استطعنا و﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.

هذا هو رمضان الذي قال الشاعر فيه:
يَا بَاغَيَ الخَيْرِ هَذَا شَهْـرُ مَكْرُمَـةٍ
أقْبِلْ بِصِـدْقٍ جَـزَاكَ اللهُ إحْسَانَـا
أقْبِـلْ بجُـودٍ وَلاَ تَبْخَـلْ بِنَافِلـةٍ
واجْعَلْ جَبِينَكَ بِِالسَّجْـدَاتِ عِنْوَانَـا
أعْطِ الفَرَائضَ قدْراً لا تضُـرَّ بِهَـا
واصْدَعْ بِخَيْرٍ ورتِّـلْ فِيـهِ قُرْآنَـا
واحْفَظْ لِسَاناً إذَا مَا قُلتَ عَنْ لَغَـطٍ
لاَ تجْرَحِ الصَّوْمَ بالألْفَـاظِ نِسْيَانَـا

أحبتي .. إن إضاعة الوقت في غير طاعة الله هي الغفلة التي نبهنا إليها ونهانا عنها الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾.
وكم تتألم النفس ويتقطع القلب حسراتٍ على ما نراه من بعض المسلمين الذين امتلأت بهم الأرصفة والمقاهي والملاعب في ليالي رمضان الفاضلة، وكم من حرماتٍ ومعاصٍ يُجاهَر بها في ليالي رمضان المباركة، وكم يضيع من وقت رمضان الثمين في مشاهدة المسلسلات والأفلام والفوازير، فاحذروا أحبتي أن يكون من بيننا مسلمٌ غافلٌ معرضٌ عن ذكر الله عز وجل خاصةً في هذه الأيام الطيبة المباركة؛ فرمضان كسوقٍ قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.
اللهم اجعلنا من الرابحين في شهرك الكريم.
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وجميع أعمال الخير والبر، و(أهلاً رمضان).

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/8oTaJg