الجمعة، 23 يونيو 2017

مريض في رمضان

الجمعة 23 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة / ٨٩
(مريض في رمضان)

جارٌ لي، له علي حق الجيرة وحق الصداقة، أتذكر كلماته قبل بداية شهر رمضان المبارك والجدول الذي وضعه لنفسه خلال الشهر الفضيل. بدأ رمضان وإذا بجاري وصديقي ينفذ جدوله بدقة جندي يتلقى أوامر من ضابط: منتظمٌ في مواعيده، مواظبٌ من أول ليلة في التراويح والتهجد، قد لا يلحق الصف الأول من التراويح لكن مكانه في هذا الصف في صلاة التهجد. صراحةً كنت أغبطه على نشاطه وهمته رغم كبر سنه، وكنت بيني وبين نفسي أريد أن أنصحه بالتخفيف قليلاً حتى لا يتعب، ثم تراجعت لمعرفتي بشخصيته؛ إذا اتخذ قراراً يأخذه بعد تفكيرٍ ودراسة ثم لا يتراجع عن تنفيذه أبداً، قالها لي ذات مرة: "أنا أدرى الناس بنفسي؛ إذا طاوعت هواها استكبرت وتمادت، وإذا أخذتها بالشدة خضعت وذلت". أعجبني يومها ما قاله، وحاولت أن ألزم نفسي به، والحقيقة أني لا زلت أحاول!

أحبتي في الله .. مرت العشر الأُوَّل من رمضان على نفس الوتيرة، إلى أن افتقدناه فجأةً في صلاة التراويح فسألنا عنه، علمنا أنه يمر بوعكةٍ صحية، انتظرنا يوماً آخر ثم يوماً ثالثاً، فإذا بنا نعلم من حارس العمارة أن جارنا كان في المستشفى وأنه عاد منها بقسطرة. قررنا بسرعةٍ أنا وبعض الجيران زيارته، فما أعظم ثواب زيارة المريض، فما بالنا و(مريض في رمضان) يتضاعف أجر عيادته عن مريضٍ في غير رمضان. اتصلنا به هاتفياً وأخذنا منه موعداً يناسبه، وقت زيارته كان في استقبالنا واقفاً على قدمه محتفظاً بابتسامته التي عهدناها لا تفارقه، جلسنا وبدأ يحكي لنا كيف تطور الأمر معه من آلامٍ مبرحةٍ في جنبه الأيسر لم تكن تتركه إلا وهو يمسك بجنبه ويلف على الأرض كالثعبان، إلى أن أجرى عمليةً بالمنظار. في التفاصيل أخبرنا أنه يشكو عادةً من آلام القولون العصبي التي تراوده كل فترةٍ والتي تستجيب بسرعةٍ لعلاجٍ محدد، أما الآلام التي أمسكت بتلابيبه هذه المرة فكانت أشد، ثم أنها توالت بشكلٍ غير معتادٍ فزارته ثلاث مرات في أربعة أيامٍ، كما أنها لم تستجب للعلاج الذي كانت تستجيب له من قبل، اُضطر للتوجه للمستشفى وأجرى الفحوصات اللازمة فاتضح له براءة القولون العصبي من تلك الآلام وأن سببها وجود حصوتين في الحالب الأيسر، ولأن الكبيرة منهما تقبع بالجزء الأسفل وقد تسبب محاولتها النزول كارثة، قرر الطبيب المختص حجزه في المستشفى في نفس الليلة، وأجرى له عمليةً بالمنظار صباح اليوم التالي.
اطمأننا عليه، وعلى أنه ولله الحمد قد تخلص من هذه الحصوة الكبيرة.
سأله أحدنا: "ألم تخف من العملية، عن نفسي أخاف جداً من العمليات"، رد قائلاً: "لم تكن عمليةً جراحيةً وإنما تم تفتيت الحصوة بالمنظار، كنت تحت التخدير الموضعي للجزء الأسفل من الجسم، أسمع وأتكلم وأشاهد على شاشة {المونيتور} كل ما يقوم به الطبيب الجراح".
صمت جارنا لحظةً ثم قال: "ما خفت منه بالفعل هو ما كنت فرحاً به!"، واستطرد موضحاً: "كنت فرحاً بالتخدير الجزئي للنصف الأسفل من جسمي لا أحس بأي ألم، ثم عندما عدت إلى غرفتي بالمستشفى انتظرت ساعة ثم أخرى ثم ساعة ثالثة أن يعود لي إحساسي بأقدامي، لكن أبداً لم يعد، ساعة رابعة ثم ساعة خامسة، كانت تلك الساعات الخمس بحق ساعات رعبٍ وهلع، لم تُسيطر على ذهني إلا فكرةٌ واحدة فقط: ماذا لو استمر الأمر على هذا الحال؟ ألا يمكن أن يكون خطأً طبياً قد حدث من طاقم التخدير؟ كيف يمكن لي أن أعيش ما تبقى لي من عمر؟ أسئلةٌ كثيرةٌ عصفت بذهني توالت وتزاحمت كأنها في سباق، كانت في تتابعها تزداد سوءاً وتشتد سواداً، لم أستطع أن أوقفها أبداً، إلى أن هداني الله سبحانه وتعالى إلى الدعاء، وسبحان الله العظيم عندما قال في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾، فلولا هدايةُ ربي ما تذكرتُ آياتٍ أحفظها جيداً منها: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ومنها: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، أحسستُ بسَكينةٍ تغمرني وراحة بالٍ تغشى كياني كله حينما تملكتني فكرة حسن الظن بالله، فبدأت بالدعاء والتضرع إلى المولى عز وجل كما لم أدعُ وأتضرع من قبل، فإذا بقدمي اليمني تبدي استجابةً يسيرةً جداً كانت كافيةً لأن أفرح فرحاً عظيماً برحمة ربي واستجابته دعاء المضطر عندما دعاه، فرحاً لم أجد تعبيراً عنه إلا بالانخراط في نوبة بكاءٍ شديدٍ تَعَجَّبَ منها المحيطون بي!".
لم يتمالك نفسه وهو يروي لنا ما حدث معه فأُجهش البكاء. هدأنا من روعه قدر ما نستطيع، ثم سأله أحدنا قبل أن ننصرف عن القسطرة؛ قال: "وجود القسطرة يمنعني من الصلاة في المسجد، فاُضطر إلى الصلاة في المنزل، وكلما سمعت الأذان من كل هذه المساجد التي من حولنا، وأتصور وقع أقدام الساعين إلى بيوت الله وأقدامي ليست من بينهم، لا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء. وكلما يبدأ وقت صلاة التراويح أو وقت صلاة التهجد وأنا لست من بين المصلين أجد عيناي وقد اغرورقتا بالدموع"، وإذا بدموعه تنساب على خده نكاد نحس بسخونتها! حاولنا تهدئته، فقال لنا بصوتٍ متهدج: "أنتم شبابٌ أطال الله في أعماركم، أما أنا فلا أعلم إن كان مكتوباً لي أن أشهد رمضانَ آخر أم لا؟"، قال له واحدٌ منا ونحن نهم بالانصراف: "خفف عن نفسك، مثابٌ ومأجورٌ بإذن الله بنيتك، وبما كنت قد واظبت عليه من عبادات ونوافل قبل المرض. في الواقع كنت متأكداً من أن يتملكك هذا الشعور، فبحثت قبل أن آتي لزيارتك فوجدت حديثاً صحيحاً من أحاديث البخاري كتبته على ورقةٍ حتى لا أنساه"، ثم أخرج ورقةً من جيبه قرأ منها الحديث الشريف التالي:
عن أبي موسى - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً]؛ رواه البخاري.
فكانت نهاية هذه الزيارة بهذه البشرى الطيبة من الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

أحبتي .. الصحة نعمةٌ كبيرة من الله سبحانه وتعالى لا يشعر بأهميتها الإنسان إلا إذا فقدها. حفظنا الله وإياكم، ومتعنا ومتعكم بالصحة والعافية.
اُدعوا لكل (مريض في رمضان)، وخاصةً لمريضنا الذي حدثتكم عنه، بتمام الشفاء وموفور الصحة، قولوا كما علمنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ ربَّ النَّاسِ، أَذْهِب الْبَأسَ، واشْفِ، أَنْتَ الشَّافي لا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفاءً لا يُغَادِرُ سقَماً».
ومع قرب انتهاء شهر رمضان الفضيل رددوا معي:
اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي.
اللهم اكتبني ممن رحمتهم، وغفرت لهم، وأعتقت رقابهم من النار.
اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه، فإن جعلته فاجعلني مرحوماً ولا تجعلني محروماً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


الجمعة، 16 يونيو 2017

الخليفة المفترَى عليه

الجمعة 16 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة /٨٨
(الخليفة المفترَى عليه)

وردت في كتب التاريخ مثل تاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير وتاريخ الخلفاء للسيوطي القصة التالية:
دخل ابن السماك على الرشيد يوماً فبينما هو عنده إذ استسقى ماءً، فقال لابن السماك عظني، فلما أهوى بالماء إلى فيه ليشربه قال له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو مُنعت هذه الشربة فبكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب، هنأك الله. فلما شربها، قال له: أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو مُنعت خروجها من بدنك فبماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي، قال ابن السماك: إن ملكاً قيمته شربة ماءٍ وبولة لجديرٌ ألا ينافس فيه! فبكى هارون الرشيد بكاءً شديداً.

أحبتي في الله .. أنقل لكم هذه القصة الآن في شهر رمضان المبارك لألفت النظر إلى مسلسلاتٍ تلفزيونيةٍ يتم صرف ملايين الجنيهات عليها، ثم يا ليتها تقدم للمشاهد شيئاً ينفعه، بل هي في غالب ظني جزءٌ من مخططٍ ممنهجٍ لتزييف تاريخ الإسلام والمسلمين.
بالله عليكم خليفة المؤمنين الذي يطلب موعظةً من رجل علمٍ، ثم يكون صادقاً مع نفسه ومع رجل العلم فيجيبه عن سؤاليه بأمانة، ثم هو في النهاية يبكي من الموعظة التي سمعها، هل مثل هذا الخليفة يمكن أن يكون كما تصوره لنا مسلسلات رمضان؟
تابعوا معي ماذا قال أهل العلم الثقاة المنصفين في هارون الرشيد (الخليفة المفترَى عليه)، قالوا: كان من عظماء أمتنا الذين طأطأ الروم رؤوسهم له، وأحنوا هاماتهم رهبةً منه، ذلكم هو الخليفة المجاهد هارون الرشيد، ذلك الرجل الذي حاول أعداء تاريخنا وأذنابهم أن يصوروه بصورة شارب الخمر الماجن، صاحب الجواري الحسان والليالي الحمراء، العسوف الظلوم ، مع أنه كان من أعظم خلفاء الدولة العباسية جهاداً وغزواً واهتماماً بالعلم والعلماء، وبالرغم من هذا كله أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لا هَمَّ له سوى الجواري والخمر والسُكْر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية.
قال ابن خلكان عنه في كتابه وفيات الأعيان: "كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حجٍ وجهادٍ وغزوٍ وشجاعةٍ ورأي".
ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: "وحكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مئة ركعةٍ إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج أحج معه مئةً من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنةٍ ثلاثمئة رجلٍ بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة".
ونقل الغزالي عن إبراهيم بن عبد الله الخراساني أنه قال: "حججت مع أبي سنة حج الرشيد فإذا نحن بالرشيد وهو واقفٌ حاسرٌ حافٍ على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول: يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العوّاد إلى الذنب، وأنت العوّاد إلى المغفرة، اغفر لي".
قال الرشيد لشيبان عظني، قال: لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خيرٌ لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف، فقال الرشيد: فسر لي هذا، قال: من يقول لك أنت مسئولٌ عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول أنتم أهل بيتٍ مغفورٍ لكم وأنتم قرابة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم. فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله.
وقال الأصمعي: صنع الرشيد يوماً طعاماً كثيراً وزخرف مجلسه وأحضر الشاعر أبا العتاهية فقال له: صِف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال:
عش ما بدا لك سالماً
في ظل شاهقة القصور
يسعى عليك بما اشتهيت
لدى الرواح وفي البكور
فإذا النفوس تقعقعت
في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً
ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد، وقال الفضل بن يحي: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته، فقال هارون الرشيد: دعه، فإنه رآنا في عمىً فكره أن يزيدنا.
وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله: ما أعلم أن لملكٍ رحلةً قط في طلب العلم إلا للرشيد، فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله.
وعن أبي معاوية الضرير قال صَبَ على يدي بعد الأكل شخصٌ لا أعرفه، فقال الرشيد: "تدري من يصب عليك؟"، قلت: "لا"، قال: "أنا، إجلالاً للعلم".
خرج الرشيد في السنة التي وُلِّيَ الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالاً كثيراً، وكان رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغزُ وحِج ووسع على أهل الحرمين، ففعل هذا كله.
وفي سنة سبعٍ وثمانين ومائة جاء للرشيد كتابٌ من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم وصورة الكتاب "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرُخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إليها، وذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حُصِّل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك"، فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضباً ودعا بدواة وكتب على ظهر كتابه "بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، والسلام"، ثم سار ليومه فقاد جيشاً ضخماً عدته 135 ألف جندي نزل بهم بمدينة هرقل وكانت غزوةً مشهورةً وفتحاً مبيناً فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة ثلاثمائة ألف دينار.
مات الرشـيد أثناء غـزوه الروم، قال السـيوطي في تاريـخ الخلفاء: مات الرشـيد في الغـزو بطوس من خراسان، ودُفن بها في الثالث من جمادى الآخرة سنة ثلاثٍ وتسعين ومائة هجرية، وله خمسٌ وأربعون سنة.
هذا هو هارون الرشيد (الخليفة المفترَى عليه)، كُتب التاريخ مليئةٌ بمواقفَ رائعةٍ له في نُصرة الحق وحب النصيحة وتقريب العلماء لا ينكرها إلا جاحدٌ أو مزور، ويكفيه أنه عُرف بالخليفة الذي يحج عاماً ويغزو عاماً.

أحبتي .. ما عرضته عن الخليفة هارون الرشيد مجرد مثالٍ واحد فقط لما أزعم أنه حملةٌ ممنهجةٌ ومخططٌ لها لتشويه التاريخ الإسلامي والإساءة لكل ما يمكن أن يكون مثالاً يُحتذى به.
انتبهوا أحبتي جيداً لما يُعرض في القنوات الفضائية من مسلسلات، للإنصاف قد يكون بعضها جيداً، لكن من باب الحرص أناشد كل ولي أمر وأقول له إذا أحسست أنك غير مطمئنٍ لما تشاهد فهذا دليلٌ على أن فطرتك سليمة فاحمد الله ثم ابحث بنفسك في الإنترنت عن مدى صحة ما يُعرض عليك أو اسأل أهل العلم، فإذا ثبت لك وجود إساءة أو تشويه لشخصية إسلامية أو موقف في التاريخ الإسلامي توقف فوراً عن المشاهدة، وامنع أهلك عنها، وأخبر أصدقائك بما توصلت إليه ثم لا تشاهد أبداً إلا ما يطمئن إليه قلبك .. وانتبه إلى أن الأطفال والشباب أكثر تأثراً من الكبار بما يشاهدونه من تلك المسلسلات، ليس فقط في مجال تزييف الدين وتشويه الحقائق وإنما في أمورٍ أخرى كثيرةٍ تطال جميع مجالات الحياة دون استثناء، حتى أن بعضها يُعَلِم الشباب وبالتفصيل كيف يدمن أو كيف يكون بلطجياً أو كيف يرتشي، ووصل الأمر للإخلال المتعمد للقيم الخاصة بالفضيلة وكيف أن من يلتزم بأداء الصلاة في المسجد "متشدد"، وأن من يلتزم بالزي الذي يوافق شريعة الإسلام "إرهابي"!
لا تترك لأبنائك الصغار الحرية المطلقة لمشاهدة ما يودون مشاهدته، لا تتنصل من مسئوليتك، أنت ولي أمرهم، تذكر أنهم أمانةٌ في رقبتك ستحاسَب عليهم؛ فكلنا راعٍ وكل راعٍ مسئولٌ عن رعيته.
عن نفسي أنا وأسرتي، ومنذ سنوات، لا نشاهد مسلسلات رمضان حيث تشغلنا عما هو أهم كتلاوة القرآن في شهر القرآن والذكر والدعاء والصلاة وسننها ونوافلها وإطعام الطعام والتصدق على الفقراء والمساكين وغير ذلك من أعمال الخير، يمكن مشاهدة الجيد من تلك المسلسلات بعد انتهاء رمضان، فدائماً ما يتم إعادة عرضها، أما أيام رمضان فما يمر منها لا يعود أبداً ولا يُعوض، والأجر فيها مضاعف، والثواب كبير، ولا ندري هل مكتوبٌ لنا أن نشهد رمضاناً آخر أم لا؟

أحبتي .. كلما سمعت وقرأت عن الهمة والنشاط التي يستعد بها منتجو هذه المسلسلات، التي تُعد للعرض خصيصاً في شهر رمضان من كل عام، ويرصدون لها مبالغ خيالية، ويتعمدون أن تتضمن لقطات مثيرة وغير لائقة، كلما تذكرت قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ونحن نرى بأم أعيننا عذاب بعضهم وبعضهن الأليم في الدنيا، ولي هنا دعوةٌ لأصحاب القنوات الفضائية ومنتجي وممثلي المسلسلات الهابطة التي يسمونها زوراً "رمضانية" أن يعودوا إلى رشدهم وإلى ربِّهم ويؤوبوا إلى بارئهم قبل أن يأتيهم الموت بغتةً فيحملوا ﴿أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾، ثم تراهم يقول يوم القيامة: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ فلا يستجاب لهم يومها ويكون لهم العذاب الأليم في الآخرة كما وعد الله سبحانه وتعالى. وعندما أقرأ قول المولى عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾، فلا أملك سوى أن أسأل نفسي، وأوجه السؤال لكل أخٍ مسلمٍ وأختٍ ومسلمة: هل نتوب في رمضان كما يريد لنا الله سبحانه وتعالى؟ أم نميل ميلاً عظيماً كما يريد الذين يتبعون الشهوات؟ الخيار لكل فردٍ منا، وعليه يكون الحساب بين يدي المولى عز وجل. تذكروا أحبتي أن اختيار سبيل الإيمان والتقوى والخوف من الله وعدم مبارزته بالمعاصي بالإصرار عليها هو بلا شك اختيار الأذكياء.

اللهم اهدنا واهدِ بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


الجمعة، 9 يونيو 2017

الهرم المقلوب!

الجمعة 9 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة/ ٨٧
(الهرم المقلوب!)

خبرٌ عاجلٌ تناقلته وكالات الأنباء: "فوجئ زوار منطقة الأهرام في جمهورية مصر العربية صباح اليوم بأن أهرامات الجيزة الثلاثة تقف مقلوبة؛ قاعدتها العريضة لأعلى تواجه السماء، وقمتها الرفيعة لأسفل تلامس الأرض، وكأنها قد تحولت إلى ثلاث مظلات!". وأضافت وكالات الأنباء القول: "لم تتوفر بعد الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة الغريبة غير المسبوقة والتي لم تحدث منذ سبعة آلاف سنة وقت بناء تلك الأهرامات، كما لم تصدر حتى الآن أية بيانات رسمية من الجهات المعنية حول هذا الموضوع. وسنواليكم تباعاً بكل جديدٍ حول هذا الأمر".
بعد انتشار هذا الخبر بدأ البشر في جميع أنحاء العالم يتابعون التغطية المباشرة لهذا الحدث العجيب من خلال البث الحي الذي تقدمه القنوات الفضائية، ويتحولون بواسطة جهاز التحكم عن بُعد "الريموت كنترول" بين تلك القنوات ليستمعوا إلى الخبراء والمتخصصين وهم يحاولون أن يقدموا تفسيراً لما حدث!

أحبتي في الله .. كانت هذه مقدمةً خياليةً لم تحدث بالطبع، لكني أردت أن أنقل لكم مفهوم (الهرم المقلوب!) بصورةٍ ملموسة، إنه مفهومٌ يعتمد على فكرة التوزيع غير المتكافئ أو الترتيب غير المنطقي أو الأولويات المعكوسة.
أهراماتنا المصرية الثلاثة التي ذكرناها على سبيل التوضيح ليست سوى حجارةٍ لا تضر ولا تنفع، ولن يَحدث فرقٌ كبيرٌ إذا هي وقفت معتدلةً أو مقلوبة. أما أهراماتنا المقلوبة التي أريد أن أنبه إليها فهي تلك التي توجد في حياتنا اليومية نحن المسلمين، وهي كثيرةٌ ومتعددة، وهي مهمةٌ لأنها تُحدث فروقاً كثيرةً في حياة كلٍ منا، ولأن لها تأثيراتٍ مباشرةً على كل مسلم.

من هذه الأهرامات المقلوبة ومن وحي رمضان فقط دون غيره:
ترى المساجد في ليالي شهر رمضان وهي تعج بالمئات والآلاف في صلاة التراويح، وبعض المساجد إذا تأخرت في الوصول إليها قليلاً لا تجد فيها موضعاً لقدم فتُضطر للصلاة بالحدائق أو الأرصفة أو الشوارع المحيطة بالمسجد.
ثم انظر لهذه المساجد وقت صلاة الفجر، لن تجد سوى العشرات! رغم أنه في رمضان تحديداً تصل أعداد المصلين، خاصةً وقت الفجر، ذروتها؛ لخصوصية هذا الشهر وما يتميز به من أجواءَ إيمانيةٍ ونفحاتٍ روحانيةٍ ولأن الكثير من الناس يكونون مستيقظين قرب وقت الفجر لحرصهم على صلاة التهجد ولقرب موعد صلاة الفجر مع وقت تناول وجبة السحور.
الغريب في الأمر أن الآلاف يصطفون بهمةٍ، هُم وأسرهم، لأداء سُنة، أما أداء الفرض، وهو الأصل، فيضيعونه ولا يهتمون به اهتمامهم بصلاة التراويح، فيتضاءل عدد من يصلي الفجر مع جماعة المسلمين بالمسجد ويقل بشكلٍ ملحوظ.
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!)؟

وانظر إلى مكة المكرمة هذه الأيام من شهر رمضان تراها تزدحم بمئات الآلاف من المعتمرين، حتى أن الطواف حول الكعبة توقف لأول مرة في التاريخ من شدة الزحام في شهر رمضان الحالي، وسيسجل التاريخ أن هذا حدث في العام ١٤٣٨هـ.
هل لنا أن نتصور أن هذا الأمر لم يحدث أبداً في أي موسم من مواسم الحج!
الازدحام على السُنة أكثر من الازدحام على أداء ركنٍ من أركان الإسلام الخمسة!
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!).

ثم هل لك أن تتخيل كم يدفعون لحجز أماكن في الفنادق التي تُطل على الحرم ليُصَلُّوا التراويح في شهر رمضان؟ قيمة إيجار الغرفة في فندقٍ مجاورٍ للحرم هو عشرة آلاف ريال لليلة الواحدة في العشر الأولى من رمضان، وتصل إلى أكثر من سبعين ألف ريال لليلة الواحدة في العشر الأواخر من الشهر الكريم! لو حسبناها بالجنيه المصري لوجدنا أن إيجار الغرفة لليالي العشر الأوائل يقترب من نصف مليون جنيه، أما قيمتها في الليالي العشر الأواخر فتزيد عن ثلاثة ملايين جنيه مصري! هذا إيجار الغرفة فقط، غير الأكل والشرب والانتقالات وميزانية شراء الهدايا إضافةً إلى ما يتم دفعه لاستخراج التصاريح فضلاً عن تكلفة تذاكر الطيران!
ورغم صدور أكثر من فتوى تجيز لمن نوى أو اعتزم أداء العمرة، خاصةً من سبق له أداؤها، ثم أنفق ما كان قد خصصه من مال لهذا الغرض على فقراء المسلمين فقد كسب ثوابين: ثواب عُمرة لم يؤدها وثواب الصدقة، رغم ذلك فكم من فقيرٍ ومحتاجٍ من أبناء المسلمين تمر عليه أيامٌ دون طعام؟ وكم منهم لا يجد ماءً نظيفاً يشربه؟ وكم منهم لا يجد ثوباً واحداً يستر جسده؟ وكم منهم يعيش دون مأوى؟ وكم من المسلمين تقتلهم أمراضٌ لا يملكون ثمن شراء دوائها؟ وكم منهم لا يجد مسجداً يصلي فيه إلا في عريشٍ لا يكاد يحميه من حرٍ ولا بردٍ ولا مطر؟!
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!).

ولو نظرت إلى حال بعض المسلمين خاصةً الشباب منهم وكيفية تعاملهم مع الوقت في هذا الشهر الفضيل لتعجبت غاية العجب؛ فمنهم من ينام طوال النهار ويستيقظ على وقت الإفطار، ثم هو يجد كل الوقت بعد الإفطار لأن يتوجه إلى أحد المقاهي أو الكافيهات ليلتقي شباباً غيره يدخنون السجائر والأرجيلة ويلعبون الورق. ومنهم من يفضل البقاء في البيت بعد الإفطار يتابع المسلسلات والفوازير والأفلام ويظل يتنقل وراءها ويتابعها من قناةٍ فضائيةٍ إلى أخرى. ومنهم من تستهويه مواقع التواصل الاجتماعي فيوزع وقته بين الفيس بوك وسناب شات والواتس آب والتيليجرام وجوجل بلس وتويتر والمسنجر وڤايبر وإسكايب وغيرها من برامج وتطبيقات.
ومع ذلك فهو لا يجد وقتاً للصلاة أو القرآن أو ذكر الله أو أعمال الخير والبر؛ فلا اهتمام بالصلاة المفروضة ولا السنن والنوافل، ولا اهتمام بالقرآن الكريم لا حفظاً ولا تلاوةً ولا تدارساً لتفسيره أو أسباب نزوله، بل قد يمر شهر القرآن كله ولم يقرأ صفحةً واحدةً من المصحف، أو يحفظ ولو حديثاً نبوياً شريفاً، ولا هو خصص وقتاً لذكر الله، ولا قام بعمل خير ولا عمل بر.
أليست هذه صورةً من صور (الهرم المقلوب!).

لو استرسلت في ذكر الأهرامات المقلوبة في حياة أمتنا الإسلامية لعرضت منها الكثير والكثير.
أما نحن كأفراد ففي حياة كلٍ منا وواقعه عشراتٌ من الأهرامات المقلوبة تحتاج إلى أن نعيدها إلى وضعها الطبيعي ولا نتركها على حالها المقلوب!

أحبتي .. أرجو ألا يُفهم مما كتبت أن جميع أحوالنا كمسلمين مقلوبة، فما قصدته هو التنبيه على بعض المظاهر التي تحتاج إلى إعادة نظر على ضوء ما ينبغي أن يكون، وعلى ضوء فقه الأولويات وتقديم الأهم على المهم وتقديم المهم على الأقل أهمية واستبعاد ما لا أهمية له ولا فائدة من ورائه.
ديننا دين العقل والمنطق والحكمة .. دين إنزال النصوص على الواقع المعاش .. لا ينبغي أبداً أن نعكس الأولويات فنقدم سُنةً على فرض أو نقدم بدعةً على سُنة؛ فتضيع منا جهودٌ وأوقاتٌ وأموالٌ في أعمالٍ محدودة الثواب لو أنا كنا خصصناها لفروضٍ وعباداتٍ وأعمالِ بِرٍ لأتت لنا بثوابٍ عظيم.

أحبتي .. على كلٍ منا أن ينظر إلى أهراماته في حياته الشخصية، في رمضان وفي غير رمضان، في مجال الدين وفي غيره من المجالات، إن كانت معتدلةً فبها ونعمت، وإن كان البعض منها مقلوباً فليسأل نفسه: "أما آن الأوان لأعدل هذه الأهرامات؟"، "أما آن الأوان لأن أستعدل كل ما هو مقلوبٌ لتستقيم حياتي؟".
علينا ألا نقوم بأفعالٍ، مهما بدت لنا طيبةً ومقبولة، لمجرد أننا تعودنا عليها، بل لابد أن نسأل أنفسنا دائماً: "هل ما نفعله صحيح أم لا؟"، فإن كان صحيحاً لابد أن نسأل أنفسنا: "هل يوجد ما هو أكثر منه صحةً وأفضل منه؟".
نحن مطالبون أحبتي بتغيير أحوالنا إلى الأحسن وإلى الأفضل والأكثر نفعاً والأعظم ثواباً؛ يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللهم ممن يقيمون شرعك ويُعلون كلمتك ويكون إسلامهم عقيدةً وعملاً وسلوكاً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.




الجمعة، 2 يونيو 2017

أهلاً رمضان/1

الجمعة 2 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة/ ٨٦
(أهلاً رمضان)

في آخر جمعةٍ من شعبان، وبعد الصلاة، تجمع عددٌ كبيرٌ من المصلين خارج المسجد، تبادلوا التهاني فيما بينهم بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك للعام الهجري ١٤٣٨هـ.
بعضهم كانت تبدو على وجهه علامات الفرحة والاستبشار، وبعضهم كانت إمارات التجهم ظاهرةً على محياه، وبعضهم كان استقباله لهذا الشهر الكريم محايداً، لا هو فرحٌ مستبشرٌ، ولا هو عابسٌ متجهمٌ.
هكذا حال البشر مع كل حدث أو موقف، ينقسمون غالباً إلى ثلاث فرق: فرقةٌ مع، وفرقةٌ ضد، وفرقةٌ ثالثة لا هي مع ولا هي ضد، تقف في المسافة الفاصلة بين الاثنين!
هل هذه قاعدةً عامة؟ هل هي سنةٌ من سنن الحياة؟ تبدو لي كأنها كذلك؛ فقد حدثنا التاريخ عمن سارعوا بالإيمان عندما سمعوا دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام للإسلام، وحدثنا عمن اتخذوا موقف العداوة والكفر من أول لحظة، كما حدثنا عمن كانوا مترددين يؤمنون تارةً ثم يتراجعون عن إيمانهم تارةً أخرى، وأولئك الذين عادوا الدعوة في بدايتها ثم تفكروا فآمنوا، وأولئك الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا من المنافقين.
لذلك علاقةٌ مباشرةٌ بظاهرة تُسمى الاستقطاب، حيث يكون الانجذاب الشديد لأحد رأيين بينهما اختلافٌ كبيرٌ أو تعارضٌ ظاهرٌ وملموس.
إنها طبيعةٌ في الإنسان تظل خاملةً حتى يُظهرها موقفٌ محفز، وكلما كان الموقف المحفز هاماً ومؤثراً كلما زادت حالة الاستقطاب ما بين من هو مع ومن هو ضد، ما بين موافقٍ ورافض، ما بين مؤيدٍ ومعارض، ما بين مستبشرٍ ومتجهم، وبين كلا الفريقين دوماً يكون المحايد.
الأمر لا يقتصر فقط على المسائل الفقهية الخلافية بل إنه ينسحب على مجالاتٍ أخرى من مجالات الحياة كالرياضة والسياسة والفكر والثقافة وغيرها.
ربما كانت هذه فطرةً فُطر الإنسان عليها؛ تأمل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ثم تأمل قوله تعالى في موضع آخر: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾.

عوداً إلى موضوعنا الخاص باستقبال شهر رمضان، كنت تستطيع أن ترصد بين أولئك الذين كانوا يتبادلون التهاني ويقولون (أهلاً رمضان) وكانت تبدو على وجوههم علامات الفرحة والاستبشار جماعاتٍ ثلاثاً: جماعة تتحدث عن الشعائر الخاصة بالشهر الكريم وأين سيصلي كلٌ منهم التراويح وأين سيصلي التهجد ومن هو الشيخ الذي سيصلون خلفه، وكم يعتزمون أن يحفظوا من أجزاء القرآن الكريم. وجماعة تتحدث عن مسلسلات رمضان التي تتسابق القنوات الفضائية في بثها؛ فيسألون عن أسماء تلك المسلسلات وأبطالها وتكلفة إنتاجها ومواعيد بثها ويتبادلون فيما بينهم ترددات القنوات التي تقوم بالبث. وجماعة تتحدث أحاديث عادية ليس لها علاقة بالشهر الفضيل لا من قريبٍ ولا من بعيد!
كلٌ منهم يقول في نفسه أو لصاحبه (أهلاً رمضان) ولكن بطريقته الخاصة!

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُـونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. يقول عز وجل: "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به"، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه]، ويقول: [إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين]، ويقول: [في الجنّة ثمانية أبواب، فيها باب يُسمى الريّان، لا يدخله إلا الصائمون]، كما يقول: [الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِ، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، فيشفعان]. 
إنه رمضان شهر الخير والبركات، شهر القرآن، نزل فيه القرآن في ليلة القدر قال المولى عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، حل علينا فكيف نستقبله؟ هل نقول بألسنتنا وأفواهنا (أهلاً رمضان)؟ أم نعبر عن ذلك بأعمالنا وأفعالنا؟

أحبتي .. يقول أهل العلم أن من أهم الأعمال الصالحة التي تتأكد في رمضان:
الصوم: لا شك أن الثواب الجزيل للصيام لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل، فإن سابّه أحد فليقل إني امرؤ صائم].
الصلاة: المحافظة على صلاة جميع الفروض في أوقاتها في المسجد مع جماعة المسلمين، والالتزام بالسنن الرواتب، والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالنوافل كلما أمكن ذلك. والحرص على الخشوع في الصلاة.
القيام: يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾. وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً". وصلاة التراويح وصلاة التهجد جماعةً في المسجد هي من صلوات القيام التي يحرص على أدائها المسلمون في شهر رمضان.
الصدقة: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة. قال صلى الله عليه وسلم: [أفضل الصدقة صدقة في رمضان..]. للصدقة في رمضان مزية وخصوصية، ولها صور كثيرة منها: إطعام الطعام؛ قال الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام]، ومنها كذلك تفطير الصائمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء].
الاجتهاد في قراءة القرآن: ويكون ذلك بكثرة قراءة القرآن؛ شهر رمضان هو شهر القرآن فكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءة القرآن، وأن يبكي أو يتباكى عند تلاوة القرآن، تدبراً وفهماً وتأثراً بكلام الله عز وجل وخشوعاً وخشية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يلج النار من بكى من خشية الله].
الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة]، هذا في كل الأيام فكيف بأيام رمضان والأجر والثواب فيها يتضاعف أضعافاً مضاعفة؟
الاعتكاف: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً. فالاعتكاف من العبادات التي تجمع كثيراً من الطاعات من التلاوة والصلاة والذكر والدعاء وغيرها.
العمرة في رمضان: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [عمرة في رمضان تعدل حجة]، وفي رواية [حجة معي].
تحري ليلة القدر: قال صلى الله عليه وسلم: [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه]. وورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين الاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها، وهي في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الوتر من لياليه الآخرة، وأرجى الليالي ليلة السابع والعشرين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟"، قال: [قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عني].
الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار: أيام وليالي رمضان أزمنةٌ فاضلةٌ علينا أن نغتنمها بالإكثار من الذكر والدعاء خاصةً في أوقات الإجابة ومنها: عند الإفطار فللصائم عند فطره دعوةٌ لا تُرد، وفي ثلث الليل الآخر حين ينزل ربنا تبارك وتعالى ويقول: {هل من سائلٍ فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفر له}، الاستغفار بالأسحار: قال تعالى: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
فلنحرص أحبتي على هذه العبادات وأعمال البر والتقوى ما استطعنا و﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.

هذا هو رمضان الذي قال الشاعر فيه:
يَا بَاغَيَ الخَيْرِ هَذَا شَهْـرُ مَكْرُمَـةٍ
أقْبِلْ بِصِـدْقٍ جَـزَاكَ اللهُ إحْسَانَـا
أقْبِـلْ بجُـودٍ وَلاَ تَبْخَـلْ بِنَافِلـةٍ
واجْعَلْ جَبِينَكَ بِِالسَّجْـدَاتِ عِنْوَانَـا
أعْطِ الفَرَائضَ قدْراً لا تضُـرَّ بِهَـا
واصْدَعْ بِخَيْرٍ ورتِّـلْ فِيـهِ قُرْآنَـا
واحْفَظْ لِسَاناً إذَا مَا قُلتَ عَنْ لَغَـطٍ
لاَ تجْرَحِ الصَّوْمَ بالألْفَـاظِ نِسْيَانَـا

أحبتي .. إن إضاعة الوقت في غير طاعة الله هي الغفلة التي نبهنا إليها ونهانا عنها الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾.
وكم تتألم النفس ويتقطع القلب حسراتٍ على ما نراه من بعض المسلمين الذين امتلأت بهم الأرصفة والمقاهي والملاعب في ليالي رمضان الفاضلة، وكم من حرماتٍ ومعاصٍ يُجاهَر بها في ليالي رمضان المباركة، وكم يضيع من وقت رمضان الثمين في مشاهدة المسلسلات والأفلام والفوازير، فاحذروا أحبتي أن يكون من بيننا مسلمٌ غافلٌ معرضٌ عن ذكر الله عز وجل خاصةً في هذه الأيام الطيبة المباركة؛ فرمضان كسوقٍ قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.
اللهم اجعلنا من الرابحين في شهرك الكريم.
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وجميع أعمال الخير والبر، و(أهلاً رمضان).

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/8oTaJg

الجمعة، 26 مايو 2017

استقيموا يرحمكم الله

الجمعة 26 مايو 2017م

خاطرة الجمعة /٨٥
(استقيموا يرحمكم الله)

أقيمت الصلاة فتقدم إمامُنا ووقف أمامَنا، نظر إلينا كقائدٍ ينظم صفوف جنوده، أشار للبعض من المصلين بالتقدم، وللبعض الآخر بالاقتراب من بعضهم وسد الخُلل، وطلب من الأطفال أن يصلوا في أطراف الصف الأول أو في الصفوف الخلفية، ولما اطمأن إلى انتظام الصفوف قال عبارته المشهورة (استقيموا يرحمكم الله)، ثم أعطانا ظهره وبصوتٍ عالٍ كبر تكبيرة الإحرام: "الله أكبر".
يتكرر هذا الموقف كثيراً في مسجدنا، ويتكرر بصورٍ مشابهةٍ في المساجد الأخرى، وفي بعض المرات عندما أسمع عبارة (استقيموا يرحمكم الله) يتملكني خاطرٌ قويٌ يستحوذ على تفكيري، يضيع عليّ شيئاً من الخشوع في الصلاة؛ فقلت في نفسي: "لو كتبت عن هذا الخاطر لخفت وطأة سيطرته على أفكاري ولو قليلاً"، وها أنا ذا أفعل .. أكتب لكم ما يدور في خاطري ويشغل فكري عندما أسمع عبارة (استقيموا يرحمكم الله).
أتساءل دوماً عن الأمر بالاستقامة في كلمة (استقيموا) هل المقصود منه استقامة الصف أثناء الصلاة فحسب؟ أم يا تُرى يتسع مفهوم هذا الأمر ليشمل الاستقامة في كل مجالات الحياة؟ وأجيب في نفسي عن السؤالين بأن المقصود المباشر لا شك هو استقامة الصفوف في الصلاة، بحيث يكون الكتف بالكتف هو التطبيق العملي لمفهومي: التكاتف، ورص الصفوف.
لكن المعنى الأعم والأوسع والأكثر شمولاً، لا يغيب أبداً عن ذهني كلما سمعت عبارة (استقيموا يرحمكم الله) حيث تستمر التساؤلات في نفسي، تُرى ما هو الأهم: أن نصطف للصلاة داخل المسجد بغير استقامةٍ واستواءٍ؟ أم نستقيم في تعاملنا بعضنا مع بعضٍ بعد انتهاء الصلاة وخارج المسجد؟ لماذا نحرص كل الحرص على الاستقامة للصلاة، ولا نحرص بنفس القدر على أن نكون مستقيمين في تعاملاتنا اليومية ومعاملاتنا وسلوكنا وتصرفاتنا خارج المسجد في غير أوقات الصلاة؟ ويستمر الحوار الداخلي بيني وبين نفسي؛ فأرد على هذين السؤالين بأن ديننا الإسلامي الحنيف لا يقدم أبداً المظهر على الجوهر؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ]، فالجوهر هو الأهم، ومع ذلك فإن الاهتمام بالمظهر مطلوب؛ قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾، وقال: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ﴾. إنها فلسفةٌ بسيطةٌ وواضحة: الجمع بين الحسنيين: الجوهر والمظهر، كلما أمكن ذلك، كلاهما مهم، بل ويكمل أحدهما الآخر. ما إن أصل إلى هذه القناعة حتى أجد سؤالاً آخر ينتظر الإجابة: ماذا لو خُيرنا بين الأمرين: إما الجوهر أو المظهر، أيهما نختار؟ وهل الأمر متروكٌ لهوى كل شخص أم أن هناك قاعدةً فقهيةً يتم الاحتكام إليها؟ أجد نفسي مرةً أخرى أجيب عن تساؤلات نفسي بأن لا شك أن تقديم الجوهر أهم من الالتزام بالمظهر في حالة عدم القدرة على الجمع بين الحسنيين لأمرٍ خارجٍ عن الإرادة.
أعود فأتذكر التوجيه الرباني لنبينا الكريم في قوله تعالى في سورة هود: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ وأظل أتصور كيف تلقى الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، وهل هذا هو سبب حديثه المشهور: [شيَّبَتني هود]؟ ربما، رغم أن ذات الآية ﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ نزلت وبنفس الكلمات في سورة الشورى، لا فرق بين الآيتين إلا في حرفي العطف الفاء والواو.
ثم أجد نفسي وقد بدأت أحسب كم مرةً في اليوم الواحد ندعو الله سبحانه وتعالى في كل ركعةٍ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؟ وهل هذا الصراط الذي ندعو الله أن يهدينا إليه هو الصراط الذي نمر عليه يوم الحساب، أم هو صراطنا وطريقنا في الحياة الدنيا؟
وهكذا ما إن أسمع عبارة (استقيموا يرحمكم الله) إلا وتتوالى هذه الأسئلة والأفكار وغيرها في خاطري تشغلني عن التركيز في الصلاة والخشوع فيها.

أحبتي في الله .. لا شك أن ما عرضته عليكم من أفكارٍ تتزاحم على عقلي عندما أسمع فيها الإمام، وهو يقف أمام المصلين وجهه لهم، يقول عبارته المعهودة (استقيموا يرحمكم الله)، رغم أنها أفكارٌ دينيةٌ وتساؤلاتٌ مشروعةٌ إلا أنها مدخل إبليس اللعين لإفساد صلاتي وحرماني من الخشوع فيها، لأن تلك الأسئلة والإجابات تكون قد استنفدت جزءاً كبيراً من الوقت المخصص للصلاة، فأجد نفسي ربما في الركعة الثانية ولم أدرِ ما قرأت أو قرأ الإمام في الركعة الأولى!
أحذركم أحبتي .. أن تمكنوا إبليس من أن ينجح معكم بهذا الأسلوب الخبيث.
عودةً إلى موضوع الاستقامة .. يقول المولى عز وجل ملقناً رسوله الكريم: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ﴾، ويبين الله سبحانه وتعالى لنا المقصود من الصراط المستقيم؛ فيقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾، ويقول: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾. ويوضح سبحانه وتعالى أن الصراط المستقيم هو هدايةٌ منه لمن اتبعوا سبيله يخرجهم به من الظلمات إلى النور؛ فيقول: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾. ثم يبين عز وجل ثمرة الاستقامة؛ فيقول تعالى: ﴿إن الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾، ويقول كذلك: ﴿إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ويقول عز من قائل: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾. أما من بَعُدَ عن طريق الاستقامة فتكفيه هذه الآية يتأمل معناها: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، ويحذرنا العزيز الحكيم من الفُرقة والبعد عن صراطه المستقيم؛ فيقول: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، ويبين لنا على لسان الشيطان الرجيم أن هدفه هو أن يصدنا عن الصراط المستقيم: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
أما عن الاستقامة في السنة المشرفة فمن ذلك ما ورد عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: "يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك"، وفي رواية "بعدك"، قال صلى الله عليه وسلم: [قل آمنت بالله ثم استقم]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه]. وقال عليه الصلاة والسلام: [استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن]. كما قال: [إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا].
تتناول الاستقامة جميع جوانب الدين وكل مجالات الحياة: الإخلاص، التقوى، التوبة، جهاد النفس، الرِّضا، الصَّبر، التوكل، القناعة، الزُّهد، الخوف، الرَّجاء، التمسك بكتاب الله، اتباع السنة، الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر، التفكر في خلق الله، دوام الشُّكر، فعل الخيرات، عدم المجاهرة بالمعصية، وعدم استصغار المُحقرات من الذنوب، الصِّدق، الحياء، حفظ اللسان، حسنُ الخُلُق، العفو، التواضع، غض البصر، السَّخاء، الرحمة بالعباد، ترك الجدال، النَّصيحة، إدخال السرور على المسلمين، صلة الرَّحِم، الإحسان إلى الجار، الرِّفق في كلِّ شيء، مداراة الناس، قضاء حوائج المسلمين، الأمانة، اتقاء الشُّبهات، محاسبة النَّفس، الاستغناء عن سؤال الناس، اجتناب الآثام وعقوق الوالدين وقول الزُّور والكذب والغش والخيانة والزِّنا وشرب الخمر والسَّرقة واللعن والفحش والظلم والرِّياء والعُجب والكِبر والغضب، وغير ذلك من الأوامر والنواهي التي تنظم حياة البشر.
وعن الآية الكريمة ﴿إنّ الّذين قالوا رَبُّنا اللّهُ ثُمّ استقاموا تَتَنَزّلُ عَليهمُ المَلائِكَةُ أن لا تَخافوا ولا تَحزَنوا وأبشِروا بالجَنَّةِ الّتي كُنتُم توعَدون﴾ يقول أحد الصالحين: مضى المسلمون بشطر هذه الآية؛ حيث قالوا ﴿رَبُّنا اللّهُ﴾ فأقروا بشهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، أما الشطر الثاني فمعظمهم بعيدٌ عنه، لقد وَعَدَهم الله، ووَعْدُ الله حق، إذا ما استقاموا أن ﴿تَتَنَزّلُ عَليهمُ المَلائِكَةُ﴾ وهي تنادي ﴿أن لا تَخافوا ولا تَحزَنوا وأبشِروا بالجَنَّةِ الّتي كُنتُم توعَدون﴾، فالحزن بعيدٌ عمن استقام، والخوف بعيدٌ عنه، وله البشرى، وله الرزق الحسن ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾، وما الطريقة التي تريد الآية الاستقامة عليها سوى الطريقة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو قدوة هذه الأمة مستجيباً لأمر الله تعالى: ﴿فاستَقِم كَما أُمِرتَ﴾ وليس ذلك له وحده، بل وللصحابة والتابعين ومن تبعهم منا بإخلاصٍ إلى يوم الدين؛ قال تعالى، والأمر لنا جميعاً معشر المسلمين: ﴿ومَن تابَ مَعَكَ﴾.
إن الاستقامة بهذا المعنى الواسع تمتد لتشمل كل الدين، لو اتبعناها بصدقٍ وإخلاصٍ لانتظمت لنا كل الدنيا؛ ولظفرنا بسعادة الدارين: الدنيا والآخرة.
ومن أسباب الاستقامة ووسائل الثبات عليها: الإخلاص لله تعالى ومتابعة سُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستغفار والتوبة، ومحاسبة النفس، والمحافظة على الصلوات الخمس مع الجماعة، وطلب العلم، واختيار الصحبة الصالحة، وحفظ الجوارح عن المحرمات، ومعرفة خطوات الشيطان للحذر منها.

أحبتي .. يقول علماؤنا أن الاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم، من غير ميلٍ عنه يُمنةً ولا يُسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها، الظاهرة والباطنة. والاستقامة هي سبيلٌ وسطٌ بين الإفراط والتفريط، بين الغلو والتقصير، وكلاهما منهيٌ عنه شرعاً، فالاستقامة تعبيرٌ واضحٌ عن الوسطية الإسلامية. قال أحد العارفين عن الاستقامة بأنها الزهد في الفانية، والرغبة في الباقية. وقِيل: أعظم الكرامة، لزوم الاستقامة.
ولا تكون الاستقامة إلا بطاعة الله ورسوله، تلك الطاعة التي قال عنها الشاعر:
تعصي الإلهَ وأنت تزعمُ حبَهُ
لعمري إن ذا في القياسِ شنيعُ
لو كان حبُك صادقاً لأطعتَهُ
إن المحبَ لمن يحبُ مُطيعُ
أحبتي .. (استقيموا يرحمكم الله) داخل المساجد وخارجها، والمهم خارجها .. الإسلام مستهدف .. فلا تكونوا الثغرة التي ينفذ منها أعداء الدين .. لا يهتم إعلامهم بمن يسرق المليارات وبمن يخالف القانون ممن يرتدون البدل وأربطة العنق، لكنه يهتم بمن يسرق القليل أو يرتشي أو يخرج عن جادة الصواب إذا كان ملتحياً أو قصير الثوب أو إذا كانت منتقبةً أو محجبة، فتكون فرصتهم للتشهير ليس بالشخص وإنما بدينه، وهو هنا الإسلام بالطبع .. استقيموا في تعاملاتكم كلها تكونوا قدوةً لغيركم وتكونوا خير سفراء لإسلامنا الذين ارتضاه الله ديناً لنا .. إنها أمانةٌ، والأمانة ثقيلة، لكننا لها.
كم هو جميلٌ أن تكون الاستقامة سبيلاً لجَسر الفجوة بين العقيدة والعبادات من ناحية وبين المعاملات من ناحيةٍ أخرى، فلا يحدث ما نراه من فصامٍ بينهما لدى البعض منا؛ فنجد من المسلمين من يصلي ويصوم ثم يقتل أو يزني أو يسرق أو يقبل رشوةً تحت أي مسمى أو يكذب أو ينصب على غيره أو يغش أو يتهاون في خدمة الناس أو حتى يعبس في وجوههم.
وكم هو رائعٌ أن يستقيم الموظف والعامل والمهندس والمزارع والضابط والمحامي والمستشار والتاجر والصحفي والطبيب والمحاسب والطالب وغيرهم؛ فتستقيم حياتنا في جميع المجالات على الوجه الذي يرضاه لنا ربنا سبحانه وتعالى.
فليتذكر كلٌ منا عندما يسمع عبارة (استقيموا يرحمكم الله) أن الاستقامة ليست فقط لرص الصفوف للصلاة وإنما هي أيضاً لتزكية النفوس والارتقاء بمستوى المعاملات بين المسلمين بعضهم وبعض وبينهم وبين غيرهم من البشر إلى أعلى درجة يمكن الوصول إليها، إنها الاستقامة التي أُمرنا باتباعها يا عباد الله لنكون بحق ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.
اللهم اجعلنا من المستقيمين وممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/Pcc5u0


الجمعة، 19 مايو 2017

ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا؟

الجمعة 19 مايو 2017م

خاطرة الجمعة /٨٤
(ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا؟)

مال علي وفي عينيه دموعٌ يغالب نفسه حتى لا تظهر، وقال بصوتٍ خافتٍ مع نبرة انكسارٍ مشوبةٍ بقلق: "لا أحس بالخشوع في صلاتي، ماذا أفعل؟"، قلت له محاولاً التخفيف عنه: "كلنا مثلك، إلا من رحم الله، ادعُ الله عسى أن نكون من الخاشعين"، هدأ قليلاً، ثم أردف قائلاً: "هزني ما قرأته لابن مسعود رضي الله عنه قال عن الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾ إنها نزلت بعد أربع سنوات من إسلامنا، وكانت عتاباً لنا من الله عز وجل بسبب قلة خشوعنا، فكان الرجال يعاتبون بعضهم بعضاً قائلين: "ألم تسمع قول الله تعالي: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾؟"، فيسقط الرجل باكياً لعتاب الله عز وجل .. هذا كان حال سلفنا الصالح فكيف بحالنا الآن؟ وكم منا من يشعر بعتاب الله عز وجل عندما يقرأ هذه الآية؟ .. والله إني لأسأل نفسي:(ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا؟)"، قلت له: "بعض الناس، هدانا وهداهم الله، يؤدون الصلاة باعتبارها عادة ولو أنهم انتبهوا إلى حقيقة أنها عبادة لأحسنوا أداءها وخشعوا فيها"، مؤكداً على ما سمع مني قال: "معك حق، كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول: [أرحنا بها يا بلال]، وبعض الناس هذه الأيام لسان حالهم يقول: أرحنا منها يا بلال، إنها قلة الخشوع في الصلاة". استمر الحديث بيننا عن الخشوع في الصلاة وأهميته وأدلة مشروعيته والأساليب التي تساعدنا على الخشوع في صلاتنا.

أحبتي في الله .. يقول أحد الصالحين لو لم يكن للخشوع في الصلاة إلا فضل الانكسار بين يدي الله، وإظهار الذل والمسكنة له، لكفى بذلك فضلاً، ذلك أن الله جل جلاله إنما خلقنا للعبادة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وأفضل العبادات ما كان فيها الانكسار والذل فهما سرها ولبها، ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع .
جعل الله سبحانه وتعالى الخشوع من صفات أهل الفلاح من المؤمنين فقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. وامتدح الخاشعين في آيات كثيرة: قال تعالى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾. وقال سبحانه: ﴿إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾. وقال: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.
يقول النبي عليه الصّلاة والسّلام: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ] وذكر منهم: [وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ]. ووجه الدلالة من الحديث أن الخاشع في صلاته يغلب على حاله البكاء في الخلوة أكثر من غيرها، فكان بذلك ممن يظلهم الله في ظله يوم القيامة.
يقول عليه الصلاة والسلام: [عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
يقول أهل العلم أن الخُشوع يأتي بمعنى استحضارُ المُصلِّي عظمة اللهِ عزَّ وجلَّ وهيبتُهُ وأنَّهُ لا يُعبد ولا يُلجأ إلى سِواهُ سبحانهُ.
ويكون الخشوعُ في الصلاةِ بالسكون فيها، وعلى المصلِّي أن يُظهر التذلّلُ للهِ عزَّ وجلَّ بقلبهِ وجميع جوارحهِ، وذلك بحضورِ القلبِ وانكسارهِ بين يدي اللهِ تعالى، والجوارحُ سكونها وسكوتها ذليلةً لله سبحانهُ.
أمّا كمالُ الخشوعِ فإنّه يتحقّقُ بتصفيةِ القلبِ من الرياءِ للخلقِ في الصلاةِ.
وعلى المصلي استشعارُ الخضوعِ والتواضعِ للهِ عزَّ وجلَّ عند ركوعهِ وسجودهِ، وأن يمتلئَ قلبهُ بتعظيمِ اللهِ عز وجلّ عند كل جزءٍ من أجزاء الصلاةِ، وأن يبتعد في صلاتهِ عن الأفكارِ والخواطرِ الدنيويّة، ويُعرض عن حديثِ النفسِ ووسوسةِ الشيطانِ.
والخشوع في الصلاةِ يُكثرُ ثوابها بقدر ما يعقل المصلّي من صلاتهِ.

ومن الأسبابِ التي تُساعدُ المسلمَ على الخشوعِ في الصّلاةِ يقول العارفون:
من ذلك تقديمِ السننِ على الفرائضِ؛ فإن النفسَ تأنسُ بالعبادةِ، وتتكيّفُ بالخشوعِ، فيدخلُ في الفريضةِ بحالةٍ أفضل ممّا لو دخلَ الفريضةَ من غير تقديمِ السُنّةِ. ومن ذلك بدء الصلاة بدعاء الاستفتاح، وهي سُنةٌ يهملها أو يجهلها كثيرٌ من الناس، وهي تساعد على تهيئة نفس المصلي للخشوع في صلاته. ومن ذلك غضُّ البصرِ عما يُلهي وعدم الالتفاتِ ورفعُ البصرِ إلى السماءِ، فيُستحَبُّ للمصلي النظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع القدمين، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حجره.
كما أن من أهم أسباب الخشوع في الصلاة تدبر معاني ما يُقرأ من قرآنٍ وما تشتمل عليه الآيات من الوعد والوعيد وأحوال الموت ويوم القيامة وأحوال أهل الجنة والنار وأخبار الأنبياء والرسل وما ابتلوا به من قومهم من الطرد والتنكيل والتعذيب والقتل وأخبار المكذبين بالرسل وما أصابهم من العذاب والنكال، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. ولذلك استنكر الله عز وجل على الغافلين عن التدبر غفلتهم فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، وقال تعالي أيضاً:﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾.
وتعظيم قدر الصلاة إنما يحصل إذا عَظَّم المسلم قدر ربه واستشعر في قلبه وفكره جلال وجهه وعظيم سلطانه، واستحضر إقبال الله عليه وهو في الصلاة، فعلم بذلك أنه واقفٌ بين يدي الله وأن وجه الله منصوبٌ لوجهه، ويا له من مشهدٍ رهيب، حُق للجوارح فيه أن تخشع، وللقلب فيه أن يخضع، وللعين فيه أن تدمع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ].
وهناكَ أفعالٌ تُكرهُ في الصلاةِ لأنها تُذهبُ الخشوعََ، على المصلِّي أن يبتعدَ عنها ويتجنّبها، كالعبثِ باللحيةِ أو الساعةِ، أو فرقعة الأصابعِ، أو ترك الهاتف المحمول مفتوحاً فيرن أثناء الصلاة ويقطع خشوع المصلين. كما يُكرهُ للمصلِّي دخول الصلاةِ وهناك ما يشغلهُ عنها، كاحتباسِ البولِ، أو الغائطِ، أو الريحِ، أو الجوعِ أو العطشِ، أو حضورِ طعامٍ يشتهيهِ؛ لقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. والخشوع الواجب في الصلاة يتضمّن السكينة في جميع أجزاء الصلاة، ولهذا كان الرسول عليه الصّلاة والسّلام يقول في ركوعه: [اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، ولَكَ أسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وعَصَبِي].
فإذا كان الخشوع في الصلاة يُعتَبر عند بعض العلماء واجباً، فمن نقر في صلاته نقر الغراب لم يخشع في صلاته، وكذلك من رفع رأسه من الركوع ولم يستقرّ قبل أن ينخفض لم يسكن بفعله هذا، ولم يخشع في ركوعه، ومن لم يخشع في صلاته يُعتَبر آثماً عاصياً كأنه لم يُصلِ؛ فهذا رجلٌ دَخَلَ الْمَسْجِدَ والنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فيه، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: [ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ] . فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: [ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ] - ثَلاثاً - فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: [إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ معك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً. وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا].

وعن الخشوع في الصلاة يقول الشاعر:
خشوعي لربي لا لسواه
فلست أسيرُ بغيرِ هداه
ويخشعُ غيري لعبدٍ ضعيفٍ
ويعبدُ غيري ضلالاً هواه

أحبتي .. (ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا؟) .. ألا يكفينا كي نخشع في صلاتنا أن نتدبر معاني فاتحة الكتاب ونحن نقرأها في كل ركعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قَاَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾،  قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ].
كما أن استحضار القرب من الله في السجود من أسباب الخشوع والاستكانة والتذلل لله؛ فإن السجود هو أعلى درجات الاستكانة وأظهر حالات الخضوع لله العلي القدير. إذا سجدنا نكون أقرب إلى الله، ومتى استشعرت قلوبنا معنى القرب من خالق ومبدع الكون خضعت وخشعت. تصوروا أحبتي حال أحدنا إذا كان في حضرة ملكٍ من ملوك الدنيا أو أميرٍ أو رئيسٍ أو وزيرٍ، ألا تغشاه الرهبة ويركن إلى السكون فإذا أراد الكلام تلعثم وارتبك، وأحس بقلبه يخفق بشدة، وسمع دقات قلبه كما لو كانت طبولاً، وإذا عيناه زائغتان، وكفاه باردان، ورجلاه تخزلانه لا تكادان تحملانه؟ فكيف والعبد منا في حضرة ربه الخالق العظيم؟ كيف وهو أقرب في حالة سجوده إلى الله مالك الملك والملكوت صاحب العز والجبروت خالق هذا الكون وخالق هؤلاء البشر؟ وكيف به وهو يعلم أن السجود أقرب موضعٍ لإجابة الدعاء، ومغفرة الذنوب ورفع الدرجات؛ قال الله تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: [أقرب ما يكون العبد من ربه هو ساجد، فأكثروا الدعاء فيه]؟

أحبتي .. (ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا؟) .. فلنخشع في صلاتنا ونصلي كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة رضي الله عنهم والتابعون يصلون. سُئل أحد الصالحين كيف تخشع فى صلاتك؟ أجاب أنه عندما يقوم فيكبر للصلاة، يتخيل الكعبة من أمامه، والصراط تحت قدميه، والجنة عن يمينه، والنار عن شماله، وملك الموت من ورائه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأمل صلاته، ويظنها ستكون آخر صلاةٍ له، فيكبر الله عز وجل بتعظيم، ويقرأ بتدبرٍ وخشوعٍ وتأنٍ، ويسجد بخضوعٍ، ويجعل صلاته خوفاً من الله ورجاءً في رحمته، ثم يسلم، ولا يدري هل قُبلت صلاته أم لا؟ .. ليتنا نصلي جميعاً مثل صلاته .. جعلنا الله وإياكم من ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.. وتقبل الله منا ومنكم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.
http://goo.gl/LShlaK