الجمعة، 12 مايو 2017

المزارع والملياردير

الجمعة 12 مايو 2017م

خاطرة الجمعة /٨٣
(المزارع والملياردير)

مع بداية شهر رجب الماضي كنا قد بدأنا حملة جديدة لجمع تبرعات لاستكمال إنشاءات وتجهيزات مسجد العنود بنت عبد الرحمن بعزبة الهجانة بالقاهرة. قارئةٌ فاضلةٌ اطلعت على المنشور الخاص بتلك الحملة ثم أرسلت تسألني: "هل يجوز التبرع لهذا المسجد من أموال الزكاة؟".
لم أتسرع في الإجابة عن السؤال، ورجعت إلى أهل العلم فكان رأيهم أن الزكاة لها مصارف معينة قد بينها الله تعالى في كتابه الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، بذلك تكون قد تحددت مصارف الزكاة، في ثمانية:
الأول: الفقراء، وهم أهل الحاجة الذين لا يجدون ما يكفي لسد حاجاتهم الأساسية‏، على ما جرت به العادة والعرف‏.‏ وهم من لا يملكون مالاً ولا كسباً حلالاً. الثاني: المساكين، ‏وهم أهل الحاجة الذين لا يجدون ما يكفي لسد حاجاتهم الأساسية‏، ‏على ما جرت به العادة والعرف‏، وهم يملكون أو يكتسبون من الكسب اللائق ما لا تتم به الكفاية. الثالث: العاملون عليها، وهم كل من يقوم بعملٍ من الأعمال المتصلة بجمع الزكاة وتخزينها وحراستها وتدوينها وتوزيعها. الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم حديثو العهد بالإسلام ليس في إيمانهم قوة، فيعطَوْن من الزكاة ليقوى إيمانهم، فيكونوا دعاةً للإسلام وقدوةً لغيرهم، ومن ذلك تأليف من يُرجى إسلامه‏، والصرف في الكوارث لغير المسلمين إذا كان ذلك يؤدي إلى تحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين‏.‏ الخامس: الرقاب، ليس موجوداً في الوقت الحاضر؛ لذا يُنقل سهمهم إلى بقية مصارف الزكاة حسب رأي جمهور الفقهاء، ويرى البعض أنه ما زال قائماً بالنسبة لأسرى الجنود المسلمين. السادس: الغارمون، وهم المدينون إذا لم يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم، فهؤلاء يُعطَوْن ما يوفون به ديونهم. السابع: في سبيل الله، وهي الأعمال التي يُحتاج إليها لنصرة الدين على منهج القرآن والسنة وبالضوابط الشرعية للجهاد تحت راية ولي الأمر. الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر الذي انقطع به السفر فيعطَى من الزكاة ما يوصله لبلده. 
فلا يجوز صرف الزكاة في غير هذه المصارف كبناء مساجد، وقناطر ومدارس ونحو ذلك، وهذا هو رأي جمهور العلماء. أرسلت للسيدة الفاضلة بهذا الرد، فتفضلت بإرسال تبرعٍ كريمٍ للمساهمة في استكمال بناء المسجد ليس من مال الزكاة وإنما كصدقةٍ جارية.

أحبتي في الله .. شدني موضوع الزكاة فأحببت أن أشارككم بعضاً مما قرأت عنه، يقول العلماء أن الزكاة فريضةٌ من فرائض الإسلام، وهي أحد أركانه وأهمها بعد الشهادتين والصلاة، دل على وجوبها كتاب الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾، وسنة رسوله؛ قال عليه الصلاة والسلام: [بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَان]. 
فالزكاة ركنٌ من أركان الإسلام، ودعامةٌ من دعائم الإيمان، من بخل بها أو انتقص منها شيئاً فهو من الظالمين المستحقين لعقوبة الله؛ قال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
ومن الزكاة ما هو على المال، ومنها ما هو على الذهب والفضة، وما هو على عروض التجارة، وعلى الزروع، وغير ذلك، بشروط ومقادير محددة مشروحة بالتفصيل في كتب الفقه.

 يقول أهل العلم أن الزكاة حارسٌ على الأموال وعلى أصحابها، فإذا شبع الجائع، واكتسى العاري عم الأمن والسلام، إنها تطبع الفرد على حب البذل والسخاء، وتغرس في المجتمع بذور التعاون والإخاء.
والمال مال الله، والغني مُستخلفٌ فيه، والفقراء عيال الله، وأَحَّبُ خلفاء الله إلى الله أَبَّرُهم بعياله؛ قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾. فالزكاة فريضةٌ لازمةٌ يُكفَّر جاحدها، ويفسق مانعها، إنها ليست تبرعاً، يتفضل به غنيٌ على فقير، إنها واجبٌ شرعي.
إن الالتزام بأداء فريضة الزكاة يُغني الأمة ويغني أفرادها؛ رُوي أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث معاذاً بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن أميراً عليها، فبعث معاذ إلى عمر بثلث الزكاة، فأنكر ذلك عمر، وقال له: "لم أبعثك جابياً، ولا آخِذَ جزيةٍ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم"، فقال معاذ: "ما بعثت إليك بشيءٍ وأنا أجد أحداً يأخذه مني". فلما كان العام الثاني بعث إليه بنصف الزكاة فتراجعا بمثل ذلك. فلما كان العام الثالث بعث إليه بالزكاة كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل ذلك، فقال معاذ: "ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئاً".
كما قِيل: "ما مات عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد وُلِّيَ الخلافة ثلاثين شهراً فقط، حتى صار الرجل يأتينا بالمال العظيم فلا نجد من يأخذه".
ولقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخير العميم فقال: [تَصَدَّقُوا فإِنَّهُ يَأتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فأمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لي بِهَا].

ذكرني الحديث عن الزكاة بقصتين: (المزارع والملياردير).
فأما قصة (المزارع) فهي تبين أن الزكاة تحافظ على المال وتنميه؛ فهذه قصةٌ ﻭﻗﻌ بالفعل في إحدى القرى السورية ﺑﺄﻭﺍﺧ ﻋﻬ ﺍﻷﺗك ﻋﻨﻣﺎ ﺳﻠَّ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺍﻟﺠﺍﺩ ﻋﻠﻰ ﺯﺭﻭﻉ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺣﺘﻰ ﻟ ﻳﺒقَ ﻋﺩٌ ﺃﺧﻀٌ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ. ﻓﻘ هجم الجراد على المزارع ﺑﺄﻋﺍﺩٍ ﻛﺒﻴﺓٍﺍً حتى أنه كان يشكل ﺳﺤﺎﺑﺔً ﺗﺤﺠ ﺍﻟﺸﻤ عند ﺍﻧﻪ ﻭﺍﻧﺘﻘﺎﻟﻪ ﻣ ﻣﻜﺎﻥٍ ﻵﺧ. بدﺃ الجراد ﻳﺄﻛﻞ ﺍﻷﺧﻀ ﻭﺍﻟﻴﺎﺑ ﺣﺘﻰ اﻟﺘﻬ ﻟُﺤﺎﺀ ﺍﻟﺸﺠ، وﺣ ﻣﺠﺎﻋﺔٌ ﻛﺒﻴﺓٌ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ. ﺧﻼﻝ ﻫ ﺍﻟﻔﺘ شكى ﺃﺣ ﺍﻟﻤﺍﺭﻋﻴﺍﺭﻋﺎً ﻓﻲ ﺑﻠﺗﻪ وادعى أﻥ ﺑﺤﺯﺗﻪﻋﺎً ﺍﻟﻤﺒﻴﺍﺕ ﺍﻟتي تقضي ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﺍﺩ ﻗﻀﺎﺀً ﻣﺒﻣﺎً ﻭﻟ ﻳﻌِ ﻣﻨﻪ ﺃﺣﺍً، ﺃﻭ ﻳُﻌﻠ ﺍﻟﻭﻟﺔ به ﻟﺘﺄﻣﻴﻨﻪ ﻟﻠﻤﺍﺭﻋﻴ، ﻭﺩﻟﻴﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺫﻟ ﺑﺴﺘﺎنه ﺍﻷﺧﻀ ﻭﺃﺷﺠﺎﺭﻩ ﺍﻟﻤرقة وﺍﺭﻓﺔ ﺍﻟﻼﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﻟ ﻳﻘﺑﻬﺎ ﺍﻟﺠﺍﺩ قط. ﺍﻣﺘ ﻀﺎﺑ الشرطة ﺍﻟﻤﺴﻭﻝ ﺣﺼﺎﻧﻪ ﻭﺗﺒﻌﻪ ﻋ ﺍلجنود للتأكد ﻣ ﺻﺤﺔ الشكوى، ﻭﺍﻧﻠﻘ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺎﻥ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، فرﺃﻯ ﺍﻷﺷﺠﺎﺭ ﺍﻟﺨﻀﺍﺀ ﻭﺍﻷﺛﻤﺎﺭ ﺍﻟﻴﺎﻧﻌﺔ ﺗﻤﺎﻣﺎً ﻛﻤﺎ ﻭُﺻﻔ ﻟﻪ، ﻓ المزارع ﺻﺎﺣ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﻭسأله: "ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺗﻜﺘ ﺍﻟﻭﺍﺀ ﺍﻟﻤﺒﻴ ﻟﻠجراد ﻋ ﺍﻟﻤﺍﺭﻋﻴ؟ ولماذا ﻟ ﺗُﻌﻠ ﺍﻟﻭﻟﺔ به ﻛﻲ ﺗﻣِّﻨﻪ ﻟﻠﻤﺍﺭﻋﻴ؟"، ﻓﺄﺟﺎﺑﻪ ﻗﺎﺋﻼً: "ﺳﻴ، ﺍﻟﻭﺍﺀ ﺍﻟ أﺳﺘﻌﻤﻠﻪ ﻛﻠّﻬ ﻳﻌﻧﻪ ﻭﻻ ﻳﺴﺘﻌﻤﻠﻧﻪ"، سأﻝ الضابط المزارع: "ﻣﺎ ﻫ ﺍﻟﻭﺍﺀ؟"، أﺟﺎﺑﻪ: "ﺍﻟﻛﺎﺓ ﺳﻴ؛ ﺇﻧﻲ ﺃﺗﺼَّﻕ ﺑﻌُﺸْ ﻣﺤﺼﻟﻲ ﺳﻨﻳﺎً ﻃﻮﺍﻝ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻓﺤﻔ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﻲ"، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﻀﺎﺑ: "ﻭﻫﻞ ﻳﻔﻬ ﺍﻟﺠﺍﺩ ﻭﻳﻤﻴِّ ﺑﻴ ﺑﺴﺘﺎﻥ المزكي ﻭبستان غير المزكي؟"، أﺟﺎﺑﻪ المزارع: "ﺟِّﺏ سيدي، ﺃﻟِ ﺍﻟﺠﺍﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺭﻉ وشاهد بنفسك". ترجل ﺍﻟﻀﺎﺑ على ﺻﻬ ﺣﺼﺎﻧﻪ ﻭﺟﻤﻊ ﺑﻜﻠﺘﺎ ﻳﻳﻪ من على الأرض عدداً ﻛﺒﻴﺍً ﺍﻟﺠد ﻭﺃﻟﻘﺎﻩ على ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﻭﺇﺫﺍ ﺑﺎﻟﺠﺍﺩﻄﻢ ﺑﺄﺭﺽ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ ﻭﺯﺭﻋﻪ ﻗﺎﻓاً ﻣﺍً ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﻭﻟ ﺗﺒَﺍﺩﺓٌ ﻭﺍﺣﺓٌ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﺑﻞ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺠﺍﺩﻄﻢ ﻭﻳﻌ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺎﻧﻪ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻘﻀ ﻭﺭﻗﺔً ﻣ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، كرَّﺭ ﺫﻟ ﺛﻼﺙ ﻣﺍﺕ، ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺓٍ ﻳﻌ ﺍﻟﺠﺍﺩ ﺣﻴ ﺃﺗﻰ ﻭﻛﺄﻧﻪ ﺍﺻﻄﺪ ﺑﺠﺍﺭ ﻣﻨﻴﻊ!

أحبتي .. ما نراه الآن من القحط، والجفاف، والأوبئة، وانتشار الفقر، وشحُّ الأمطار، وجفاف الأنهار، وغور مياه الينابيع، وقضاء الصقيع أو الحشرات على الزرع والكلأ، وهبوب الرياح العاتية والأعاصير تقتلع الأشجار وتهدم البيوت، والزلازل والبراكين والسيول والفيضانات، وغيرها من ظواهر مماثلة، هذه كلها من نتائج منع الزكاة.
قلت ذلك لأحد الأصدقاء فقال: "ما دخل الزكاة في ذلك؟! بل هي ظواهر طبيعيةٌ لها أسبابٌ علميةٌ معروفة"، قلت له: "نعم هي ظواهر طبيعيةٌ لها أسبابٌ علمية، لكن مَن الذي أوجد هذه الأسباب؟ إنه المولى عز وجل؛ فهو القائل في كتابه الكريم: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، وهو القائل سبحانه: ﴿وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾. كما أنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ» كالصواعق ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ كالخسف ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ﴾ كالعداوات المستمرٍ والحروبٍ الدائمة ﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾". قلت له: تفكر صديقي في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وفي قوله عز وجل: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾، فالله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب، وهو القادر على أن يحول المطر والريح، وغيرها، من خيرٍ للمؤمنين إلى شرٍ لمن يحارب دينه ويعارض شريعته، ولنا في قوم عادٍ عبرة". قلت له: ألم تقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [ ... وَلاَ مَنَعَ قَوْمٌ اَلْزَكَاةَ إلاَ حَبَسَ اللهُ عَنْهُم الْقَطْرَ]؟"، قال: "صدقت أخي، فالله سبحانه هو ﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، والكوارث الطبيعية هي جندٌ من جنود الله في الأرض؛ قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾"، ثم قال ذكرتني بقصةٍ كنت قد قرأتها عن شخص كأنه هو المقصود بالآيات الكريمة: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾، إنها قصة (الملياردير)، وهي قصةٌ واقعيةٌ عن نهاية ملياردير رفض دفع الزكاة، قَصَّها أحد المسئولين بلجنة الزكاة بالسعودية. قال إن لجنة الزكاة كانت تُحصل الزكاة من كبار الأغنياء وتنفقها كالعادة على الفقراء والمساكين وذوي الاحتياجات، وفوجئت اللجنة بأن مليارديراً كانت تحصل منه مبلغاً بالملايين رفض دفع الزكاة، وقال للجنة أنه لن يدفع، فأرسلنا إليه محذرين بالحكمة والموعظة الحسنة، وقلنا له: "ما الذي جرى لك؟ إن الشيطان ينزغ بينك وبين عملك الصالح فلا تستمع لصوت الشيطان، أنت تؤدي زكواتك على الدوام فزادك الله نعيماً فوق نعيمٍ فلا تُهلك نفسك بنفسك"، فرفض مرةً بعد مرة واستخسر أن يفرط في الملايين التي يدفعها، فزدنا في نصحه ولكنه قال: "لن أدفع ولا يقل لي أحدٌ إن المال سيضيع وسينتهي فأنا معي مالٌ لو أراد الله أن يفقرني فلن يستطيع". وهنا تركوه ولم يتحدثوا معه ثانيةً. وتدور الأيام وبعد شهور قليلةٍ فقط يمرض ذلك الملياردير ويدخل المستشفى مصاباً بسخونةٍ وتوقف درجة حرارته عند 40 درجة، واحتار الأطباء في أمره وحاولوا معه كل الحيل والحرارة لا تنزل أبداً وهو يتوجع، فأحضروا له أطباء من الخارج وأجروا له عملية استئصال قالوا أنه ورمٌ بجانب المرارة، ولم يحدث له أي تقدم، فجاء بآخرين وكان المستشفى يدفع له التكاليف انتظاراً للتحصيل منه في النهاية، وتعطلت أعمال الملياردير وشركاته فاتصلوا بنجله الشاب الذي كان قد تزوج من أمريكية وهاجر معها إلى أمريكا ليحضر مرض أبيه فجاء الشاب ورافق أباه أسبوعين وقام الأب بعمل توكيلٍ عامٍ لابنه لإدارة أعماله، وبعد شهرٍ واحدٍ أصاب الابن الضجر وحضرت زوجته للسعودية بطفليها واتفقا على أن يبيعا جميع ممتلكات الأب ويعودا من حيث أتوا، وبالفعل ظنوا أن مسألة موت الأب مسألة وقت؛ فقام الابن ببيع جميع ممتلكات أبيه من شركات ومصانع واستولى على أرصدته بالبنوك وعاد إلى أمريكا مرةً أخرى، وبمجرد أن حدث ذلك فوجئوا بشفاء الملياردير وكأنه لم يمرض للحظة! وطالبته المستشفى بفاتورة طويلة كان الابن قد سافر دون أن يسددها، وفوجئ الرجل أنه قد أصبح خالي الوفاض من أي مالٍ بل وقد أصبح مديوناً، وباتصاله بنجله قال له نجله: "إنت لسة عايش؟" وأغلق الهاتف في وجهه، وانقطعت العلاقة بينهما، فظل الرجل يبكي بكاءً مريراً وانتبه لحاله وتذكر قولته التي قالها، واتصل بأحد شيوخ اللجنة وبالفعل جاءه في المستشفى وعلم ما حدث له ودعاه للتوبة من كلام الكفر الذي قاله، وقال: "دعك من مالك الذي ضاع وحالك ومحتالك واسجد لله شكراً أن منحك فرصة للتوبة". والمفاجأة أن لجنة الزكاة قد دفعت للملياردير فاتورة المستشفى بعد أن خفضتها إدارة المستشفى لتناسب هذا الذي بدأ تواً رحلته في هذه الحياة المتقلبة من ملياردير إلى عبد فقير!

أحبتي .. الزكاة تطهيرٌ لنفس الغني من البخل والشح، فلن يُفلح فرد أو مجتمع سيطر عليه الشح؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وهي تطهيرٌ لنفس الفقير من الحسد والضغن على الغني الكانز لمال الله، والذي يمنعه عن عباد الله، فمن شأن الإحسان أن يستميل قلب الإنسان، ومن شأن الحرمان أن يملأه بالبغض والحقد.
وهي تطهيرٌ للمجتمع كله من عوامل الهدم، والتفرقة، والصراع، والفتن.
وهي تطهيرٌ للمال من تلوثه بتعلق حق الغير به؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْكَ شَرَّهُ].
 الزكاة بعد ذلك وسيلةٌ من وسائل الضمان الاجتماعي الذي جاء به الإسلام؛ فالإسلام يأبى أن يوجد في مجتمعه، من لا يجد القُوت الذي يكفيه، والثوب الذي يستره، والمسكن الذي يُؤويه.

أحبتي .. أخرجوا زكاة أموالكم، جاهدوا شح أنفسكم، أطيعوا الله ورسوله ولا تمنعوا حق الفقراء والمساكين، لا تطيعوا أهواءكم وما يزينه الشيطان لكم، لا تؤخروا الزكاة عن موعدها، لا تتحايلوا لتقللوا من قيمتها، لا توزعوها إلا على مصارفها، بادروا بإخراج ما فاتكم منها عن أعوامٍ سابقة أهملتم فيها إخراجها، وانتبهوا في حساب الزكاة أن الحول مقصودٌ به العام الهجري وليس العام الميلادي، فمن كان منكم قد أخطأ في الحساب فليصحح خطأه ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾.
اختاروا أحبتي لأنفسكم أن تكونوا واحداً من اثنين: إما (المزارع) أو (الملياردير)، واعلموا أن الملياردير أمهله الله سبحانه وتعالى برحمته وفضله حتى تاب، فهل تضمنون إذا اخترتم لأنفسكم أن تكونوا مثله أن يمهلكم الله حتى تتوبوا؟ ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.



http://goo.gl/itWqxz

الجمعة، 5 مايو 2017

لباس التقوى

الجمعة 5 مايو 2017م

خاطرة الجمعة / ٨٢
(لباس التقوى)

كتبت لي تخبرني، وهي شديدة الانزعاج، أن ابنتها الهادئة المطيعة، وكانت من صغرها ملتزمةً بارتداء الحجاب، قد خلعت حجابها ولا تريد أن ترتديه مرةً أخرى. الأم غير قادرة على تصور أن هذا التصرف يصدر عن ابنتها الوديعة. كتبت لي تطلب النصيحة، وكيف تتصرف مع ابنتها.
قمت بالرد عليها، وكتبت لها ما يلي:
" فيما يتعلق بموضوع إقدام ابنتك العزيزة على خلع الحجاب، فهذا في تقديري سببه أنها بدأت مرحلةً عمريةً حساسةً هي مرحلة المراهقة وترغب في التعبير عن استقلاليتها وحقها في اتخاذ قراراتها بنفسها دون تدخلٍ ممن هم أكبر منها سناً خاصةً والديها اللذين دأبا على اتخاذ القرارات نيابةً عنها طوال سنوات طفولتها .. وهذا هو الجانب الإيجابي في الموقف؛ لأنه يوضح صحة النمو ويبين بدايات تكوين شخصيةٍ قويةٍ وناضجة بإذن الله، وإن ظهر التعبير عن ذلك في صورة تمردٍ على عرفٍ أو عادةٍ أو سلوكٍ معين، فكان التمرد على ما تعتقد أنه أمرٌ يخصها هي وحدها ولا يخص غيرها، ألا وهو مظهرها. كما أن لبسها الحجاب بدايةً لم يكن عبادةً قدر ما كان عادة، بالإضافة إلى أنه لم تتوفر لها ربما فرصة الاطلاع على رأي الدين في هذا الأمر. فأنصح بدايةً بالصبر والتعامل بحكمةٍ واحتواء الموقف وعدم تحويله لمشكلة، ثم أنصح باعتماد أسلوب الحوار الهادئ، الذي يبين رأي الدين في موضوع ارتداء الحجاب، ليس فقط ببيان الأدلة الشرعية التي توجبه، بل وشرح وإيضاح نظرة الإسلام بصفةٍ عامةٍ إلى المرأة واحترامه لها وحرصه على صيانتها وحفظها. شريطة أن يتم ذلك من خلال حوارٍ هادئٍ يسوده الحب يكون الهدف منه الشرح والتوضيح وإكساب المعلومات لا أن يكون الهدف منه إظهار أن ابنتك مخطئة أو التقليل من قيمة رأيها وإلا حقق الحوار نتيجةً عكسية. ويكون التركيز على توضيح أن ارتداء الحجاب فريضةٌ دينيةٌ، وأنه (لباس التقوى)، وعلى أنها الآن لم تعد طفلةً صغيرةً يتحمل مسئوليتها الكبار وإنما صارت كبيرةً تتحمل مسئولية نفسها وتُعامَل كامرأةٍ ناضجةٍ كاملة الأهلية فيما يتعلق بتصرفاتها وأفعالها، ولأن عقل الشابة الكبيرة الراشدة يختلف عن عقل الطفلة فعليها أن تعطي لنفسها فرصة التفكير قبل اتخاذ أي قرار. وفروا لها كتيباً صغيراً يوضح موقف الشرع من الحجاب، واعطوها فرصة الاطلاع على محتواه قبل بداية جولة حوارٍ جديدة. أعود للتأكيد على الصبر وطول البال والهدوء وإشعار الابنة طوال الوقت بالحب والتقدير. اتركوا لها حرية الاختيار وساعدوها على اتخاذ القرار السليم دون إجبار، واجعلوها تحس أنكم قريبون منها إذا احتاجت لأية مشورةٍ في أي وقت، لا تضغطوا عليها ولا تشعروها بأنكم في خصامٍ معها. أعلم أن الأمر صعب، لكن الموقف يحتاج إلى صبرٍ وحكمة. وأثق بأنها في نهاية الأمر ستعود لارتداء الحجاب، لكن بقرارٍ منها وبقناعةٍ تامة. تربية الأبناء ليست سهلة، أعانكم الله وسدد خطاكم وألهمكم طريق الرشاد ".

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الحجاب عبادةٌ من أعظم العبادات وفريضةٌ من أهم الفرائض؛ لأن الله تعالى أمر به في كتابه الكريم، ونهى عن ضده وهو التبرج، وأمر به النبي في سُنته ونهى عن ضده، وأجمع العلماء قديماً وحديثاً على وجوبه، لم يشذّ عن ذلك منهم أحد؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ﴾، ويقول عز وجل: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾، ويقول تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾.
فرضية الحجاب للفتاة المسلمة أمرٌ لا شك فيه، لكن المهم هو تهيئة الفتاة نفسياً وفكرياً لتقبل هذا الأمر قبل أن يصبح واجباً عليها، تماماً كالصلاة؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ]، فالأولاد لم يبلغوا سن التكليف للصلاة وهم أبناء سبع، ولا حتى وهم أبناء عشر، لكنها فكرة التهيئة المتدرجة قبل سن التكليف، وهذا يستوجب الفطنة والحكمة وحسن التصرف من الوالدين. كما أن فترة التهيئة التي قد تطول لعدة سنوات هي فرصةٌ لنقل المعارف الشرعية للأولاد بشكلٍ متدرجٍ يتناسب مع أعمارهم، بحيث يصبح أبناؤنا على علمٍ تامٍ بما سيكونون مكلفين به مع بداية سن التكليف الشرعي وهو سن البلوغ.

أحبتي .. مما يساعد على إقناع فتياتنا بأهمية ارتداء الحجاب (لباس التقوى)، إلى جانب الأدلة الشرعية المشار إليها، استخدام المنطق للإقناع؛ انظروا معي ماذا فعل هذا الأب مع ابنته ليقنعها بأهمية الحجاب:
اﺷﺘت البنت هاتفاً جديداً ﻏﺎﻟﻲ ﺍﻟﺜﻤ، فسألها أبوها: "ﻣﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﺨﻄﻮ ﺍﻟﺘﻲ ﻗُﻤِ ﺑﻬﺎ ﻣﺒﺎﺷ ﺑﻌﺍﺋ ﺍﻟﺠﻬﺎﺯ؟"، ﻗﺎﻟ: "ﻭﺿﻌتُ ﻋﻠﻰ ﺷﺎﺷﺘﻪ ﺭقاقةً من البلاستيك الشفاف لوقايتها من ﺍﻟﺨَ، ﻭﻏَتُ الهاتف بغلافٍ جلديٍ ﻳﻘﻴﻪ ﻣ ﺍﻟﺼﻣﺎﺕ"، قال ﺍﻷﺏ: "ﻭﻫﻞ ﺃﺟﺒﻙِ ﺃﺣٌ ﻋﻠﻰ ﻫ؟"، قالت ﺍﻟﺒﻨ: "ﻛﻼ، ﻭﻟﻜ ﺍﻷﻓﻀﻞ ﺃﻥ ﻧﻔﻌﻞ ﻫ ﻟﻠحفاظ على سلاﻣﺔ الهاتف"، قال ﺍﻷﺏ: "وﻫﻞ ﺃﺻﺒﺢ ﺍلهاتف الآن ﻋ ﺍﻟﻔﺎﺋ ﻷﻧ ﻭﺿﻌِ ﻋﻠﻴﻪ ما يحميه؟"، قالت ﺍﻟﺒﻨ: "ﻻ ﻳﺎ ﺃﺑ ﺑﻞ ﻷﻧﻨﻲ ﻻ ﺃﺭﻳ ﺃﻥ ﻳُﻜﺴ أو حتى يُخدش؛ ﻟﻜﻲ أحافظ عليه، وحتى ﻻ ﺗقل ﻗﻴﻤﺘﻪ"، قال ﺍﻷﺏ: "ﻭﻫﻞ ﺃﺻﺒﺢ ﻗﺒﻴﺤﺎً ﻋﻨﻣﺎ ﻭﺿﻌِ ﺍﻟﻐﻼﻑ ﻋﻠﻴﻪ؟"، ردت ﺍﻟﺒﻨ: "ﺑﻨﻈﺮ أصبح أكثر جمالاً وأناقة"، ﻧﻈﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺃﺑﻫﺎٍ ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻬﺎ: "ﻫ بالضبط ﻫ ﻣﻌﻨﻰ ﺍﻟﺤﺠﺎﺏ ﻳﺎ ابنتي".
أحبتي .. أنقل لكم جانباً من حوارٍ عقليٍ منطقيٍ مقنع بين أحد الأساتذة الجامعيين وإحدى طالباته:
سألتني: "هل في القرآن آيةٌ تدل على إلزام المرأة بالحجاب؟ حسب معرفتي أن الحجاب لم يأمر الله به، ولهذا أنا غير محجبةٍ ولكني أصلي والحمد لله"، قلت: "دعيني أسألك سؤالاً، إذا كررت عليك معنىً واحداً ولكني عبرت عنه بثلاث كلماتٍ مختلفة فماذا تفهمين من ذلك؟"، قالت: "أفهم أن المقصود هو تأكيد المعنى"، قلت لها: "صحيح، وهذا ما قصدته بالضبط"، قالت: "وما علاقة هذا بالحجاب؟"، قلت لها: "إن الله تعالى استخدم ثلاثة مصطلحات في القرآن يعبر بها عن حجاب المرأة؛ لقد وصف الله اللبس الساتر للمرأة بالحجاب، والجلباب، والخمار؛ فاستخدم ثلاث كلمات لمعنىً واحد، ألا يدل هذا على ضرورة تستر المرأة؟"، قالت: "أفهم من هذا أني لا بد أن أتحجب"، قلت: "وينبغي أن تكوني حريصةً على التقرب إلى الله تعالى بطاعته، لأن العُري من أهداف الشيطان تجاه البشر وهو ما حققه مع أبينا آدم وأمنا حواء، لما أمر الله آدم وحواء بالأكل من أشجار الجنة عدا شجرةٍ واحدةٍ، وسوس لهما الشيطان ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ أي الشيطان ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ فلما عصوا أمر الله بأكل الثمرة انكشفت عوراتهما، وهذا هو هدف الشيطان بأن يوصل الناس للعري التام، فلهذا آدم وحواء تابا وأسرعا في ستر عوراتهما بورق الشجر، فمسألة اللباس مسألة قديمة بدأت مع بداية خلق آدم عليه السلام". ثم بادرتها بسؤال: "قلتِ لي في بداية حديثنا إنك تحافظين على الصلاة، فهل تتحجبين أثناء الصلاة؟"، قالت: "طبعاً"، قلت: "لماذا؟"، سكتت فترة ثم قالت: "لا أعرف"، فابتسمت وقلت لها: "هل تعتقدين أن الإسلام يأمر المرأة بلباسٍ تقابل فيه ربها ولباسٍ أقل ستراً تقابل فيه الناس؟"، فاستغربت من سؤالي ثم قلت لها: "إن الصلاة عبادةٌ وهي جزءٌ من حياتنا، وحياتنا كذلك عبادةٌ نتعبد الله فيها، فلباس المرأة في صلاتها هو لباسها في حياتها"، وانتهى الحوار.
وعلى صلةٍ بالموضوع، انتشرت قصة واقعية حدثت عام 1979م، يقول راويها: قرر جدي أن يهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كانت الترتيبات تقضي بأن يسافر هو أولاً في البداية ثم تلحق به جدتي وأبناؤهم السبعة بعد ذلك، كانت رحلتهم تتضمن النزول في نيويورك ثم السفر إلى شيكاغو قبل محطتهم الأخيرة في كاليفورنيا. في نيويورك، كان قرار الجهات الأمنية يلزم جميع المهاجرين عند وصولهم تعبئة طلب "الغرين كارد" قبل السفر للمحطة التالية.
كانت عمّتي بذلك الوقت قد تحجّبت منذ فترةٍ بسيطة، ولما طلب منها الموظف المختص أن تخلع حجابها من أجل التقاط صورةٍ شخصيةٍ لها لإتمام المعاملة، رفضت !! ووضَّح الموظفون لها أكثر من مرة، أنها لن تحصل على "الغرين كارد" ولن تسافر إلى محطتها التالية إلا إذا تصورت حاسرةَ الرأس!! بدأت جدتي المرهقةُ من السفر الطويل تفقد صبرها؛ فلم يبقَ إلا وقتٌ قليلٌ على إقلاع طائرتهم التي اشتروا تذاكرها بكل ما يملكونه من مال، لذلك كانت تتوسل لابنتها أن توافق على خلع الحجاب لأخذ الصورة من باب أن الضرورات تبيح المحظورات، لكن عمّتي ظلت مُصرَّةً على موقفها. استدعى الموظفون بعض المسؤولين الكبار في المطار كمحاولةٍ لإقناعها، لكنها كانت ثابتةً على موقفها، وقالت لهم: "لا يهم مَن تستدعون، فلن أخلع حجابي". وبعد مرور عدة ساعاتٍ ساخنةٍ من الحوار والجدال مع مسؤولي الأمن، وافقوا أخيراً على التقاط صورتها وهي مرتديةٌ الحجاب. ولكن بعد ماذا؟ بعد أن فات الوقت وأقلعت طائرتهم المتجهة لشيكاغو، واضطروا عندها لشراء تذاكرَ جديدةٍ والبقاء ليلةً كاملةً في نيويورك. بطبيعة الحال، كانت جدتي في تلك اللحظات تصبُّ جامَ غضبها على عمتي، وتتذمر مما فعلتْ ومن عنادها الذي كلفهم فواتَ رحلتهم إلى مكان استقرارهم في كاليفورنيا مع جدي. في اليوم التالي، وصلت رحلتهم إلى كاليفورنيا وكان جدي باستقبالهم وهو يبكي غيرَ مصدقٍ أنه يراهم أمامه أحياء!! كان يقول لهم وسط دموعه: "اللهم لك الحمد أنّكم على قيد الحياة" !! كانوا مستغربين من لهفته تلك وتعجبه من أنهم ما زالوا أحياء، فكان رده الصادم: "طائرتكم الأصلية التي حجزتم عليها أمس، تحطمت نتيجة خللٍ في المحرك ومات جميع الركاب الذين كانوا على متنها وعددهم 171 راكباً"! كانت الصدمة والدهشة والفرحة والبكاء والحمد والشكر لله سيدَ الموقف في تلك اللحظات لأن الله نجاهم بفضله وكرمه، ثم بسبب بركات حجاب عمتي!

وأختم أحبتي بهذا الموقف الذي حدث مع دكتورةٍ مسلمةٍ محجبةٍ كان قد عينها الرئيس الأميركي السابق أوباما مستشارةً له، سألها الصحافيون مستغربين أن لباسها لا يعكس مدى علمها ظناً منهم أن الحجاب رمزٌ للتخلف والرجعية، فأجابتهم ببساطةٍ وذكاء قائلةً: "إن الإنسان في العصور الأولى كان شبه عارٍ ومع تطور فكره عبر الزمن بدأ يرتدي الثياب، وما أنا عليه اليوم وما أرتديه هو قمة الفكر والرقي الذي وصل إليه الإنسان عبر العصور وليس تخلفاً. أما العُري فهو علامة التخلف والرجوع بفكر الإنسان إلى العصور الأولى، ولو كان العري دليل التقدم لكانت البهائم أكثر تقدماً من الإنسان!".

أحبتي .. (لباس التقوى) الظاهر منه هو الحجاب .. احرصوا على أن ترتديه بناتنا، حببهن فيه، وساعدهن على مواجهة تيارات التغريب ومحاولات طمس الهوية الإسلامية تحت مسمى الحرية الشخصية أو الليبرالية أو العلمانية أو التجديد أو أي مسمىً آخر، وعلموهن أن اللباس نوعان: الأول وهو الظاهر، ساترٌ للجسد وهو فرضٌ أمر الله ورسوله به، والثاني وهو الباطن، لباسٌ ساترٌ للروح والقلب، وهو خيرٌ من الأول كما قال تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾، لأن المرأة قد تكون محجبةً جسدياً ولكنها فاقدةٌ للباس الذي هو خير (لباس التقوى)، والصواب أن تلبس المرأة اللباسين معاً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/hrVpMf

الجمعة، 28 أبريل 2017

عسى أن تكون هي المنجية

الجمعة 28 إبريل 2017م

خاطرة الجمعة /٨١
(عسى أن تكون هي المنجية)

شهر رمضان الماضي كان مميزاً بشكل استثنائي بالنسبة لي لأسبابٍ كثيرة منها أني كُلفت من قبل فاعلي خيرٍ بإعداد حقائب تشتمل على بعض المواد الغذائية الضرورية مثل الأرز والزيت والسكر والسمن والصلصة، وتوزيعها على المحتاجين في هذا الشهر الكريم.
وإن أنسى لا أنسى موقفاً ترك في نفسي أثراً كبيراً .. في أحد أيام ذلك الشهر الكريم، توجهنا أنا وزوجتي إلى أحد محلات بيع المواد الغذائية لشراء الأغراض المطلوبة لتلك الحقائب، كنا في حاجةٍ إلى كميةٍ كبيرةٍ من الأرز، وكان المسموح ببيعه في ذلك المحل لكل فرد كمية صغيرة ومحدودة، سألنا عن مدير المحل وقابلناه وأخبرناه بما نعتزم عمله، فوافق فوراً على أن يبيع لنا كميةً كبيرةً من الأرز. لم نكن نتوقع منه هذه الاستجابة السريعة، وأحسسنا وقتها أنه يقول بينه وبين نفسه (عسى أن تكون هي المنجية).
وعند نقل ما اشتريناه من أغراضٍ كثيرةٍ إلى السيارة قام أحد الشباب العاملين بالمحل بمساعدتنا في نقلها رغم الصيام ورغم الحر، وعندما انتهى من ذلك حاولت زوجتي أن تعطيه إكراميةً بسيطةً، رفض بأدبٍ وقال لها: "أتريدين أن تحرميني من الثواب؟"، لقد كان لسان حاله يقول: (عسى أن تكون هي المنجية).

أحبتي في الله .. يقول أحد الصالحين: كل واحدٍ منا يسعى لنيل رضى الله بالتقرب منه سواءً بالعبادة التي نحن مأمورون بأدائها أو بفعل الخير والمعروف وذلك من أجل نيل الحسنات والأجر الوفير. يسعى كلٌ منا جاهداً لفعل الخيرات وأعمال البر في حياته لتكون شاهدةً له في آخرته ومنجيةً له من عذاب ربه. ولا ندري، أيُ هذه الأعمال تكون هي المنجية؟ من ذلك: إزالة الأذى عن الطريق، الابتسامة في وجه الجميع، توزيع مياه باردة على عمال يشتغلون تحت لهيب شمس الصيف، قيام الليل، قراءة القرآن، الاستغفار، ذكر الله، التبرع بمصاحف للمساجد، وضع ثلاجة للماء يشرب منها العطشى من الناس، وضع ماء وفتات الخبز أو الحبوب لتشرب منه الطيور والحيوانات وتأكل. أفكار كثيرة لأعمال بسيطة نقوم بها (عسى أن تكون هي المنجية).
يقول آخر مضيفاً إلى الأعمال السابقة: تقود سيارتك وحرارة الشمس تحرق الأخضر واليابس وتلمح أحدهم يمشي والعرق يغسل ثوبه لا تشمئز وافتح باب سيارتك ليركب معك. تأتي من العمل مرهقاً عائداً إلى بيتك تحمل الكثير من الأغراض المطلوبة منك وتسألك والدتك: "هل جلبت لي اللبن؟" ابتسم لها وقل: "لحظات" وأسرع لجلبه. يقول لك والدك: "تعال وصلني عندي موعد مع الطبيب" فتقول له: "أبشر". تُصلي وطفلك يلعب حولك وفجأة يقفز على ظهرك وأنت ساجد لا تغضب تحمَّل وأطل سجدتك. يشتمك البعض ويسبك فتقول: "سامحك الله". تقرأ آية من كتاب الله فتدمع عينك. تمر بشباب يعصون الله فتتوقف لكي تقدم لهم الموعظة والنصيحة. ترى امرأةً متبرجةً فتغض بصرك وتستغفر الله. يخطئ أحدٌ في حقك وتريد أن تشتمه وتضربه فتتذكر قوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ فتكتم غيظك وتعفو عنه. تصلك فضيحة أحدهم فتقف عندك ولا تنتشر.
ردد دائماً قبل كل فكرة خير قبل أن تحولها لعمل: (عسى أن تكون هي المنجية).
ويقول ثالث: ليست الجنة بحاجةٍ إلى أعمالٍ تعجز الجبال عن حملها، استحضر النيّة، وأخلص في العمل، واجعل الجنّة نصب عينيك ستنالها بإذن الله.
لا يدري المسلم أي الأعمال هو المقبول وأي الحسنات هي المنجية: تتبرع بمدخراتك لبناء مسجد. تضع في جيبك حبّاتٍ من الحلوى توزعها على الأطفال بالمسجد. تعطي الأجير أجره قبل أن يجف عرقه تُكرمه وتُقدم له الطعام والشراب. تمسح على رأس يتيمٍ تعامله بلطفٍ وتشعره بالحنان. تساعد طالباً يحتاج إلى مصاريف للاستمرار في دراسته. تعود مريضاً في مشفىً تُدخل السرور على قلبه وتدعو له. تُفَّرج الضيق عن مكروب. تصلي ركعتين وقت الضحى. لا تدري أي هذه الأعمال قد لقى القبول من المولى عز وجل؛ فتقول في نفسك (عسى أن تكون هي المنجية).
 وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: [يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ]، قَالَ: "مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ".
وهذه امرأةٌ من بني إسرائيل كانت بَغِيَّاً {تحترف الزنا}، سقت كلباً فدخلت الجنّة. وهذا رجلٌ رآه رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يتقلب في أعلى الجنّة بغصنٍ قطعه من ظهر الطريق كان يؤذي المسلمين.

أحبتي .. يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]، لا‌ تَحقرن أي: لا‌ تستقلنَّ من المعروف شيئًا، فتتركه لقلَّته؛ فقد يكون سبباً للوصول إلى مرضاة الله تعالى ولو كان هذا المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلقٍ؛ أي: بوجهٍ ضاحكٍ مُستبشر؛ وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن، ودَفع الوَحشة عنه، وجبْر خاطره، وبذلك يحصل التآلف المطلوب بين المؤمنين؛ فما أعظم ثواب هذا العمل رغم بساطته. يقول أهل العلم أنه يتعلق بهذا الحديث فوائد: الفائدة الأولى: أنه يدخل في عموم هذا الحديث ما لا يُحصى من الأعمال الصالحة التي ينبغي على المسلم أن يحرص على فعلها بنفسه، أو الإعانة على فعلها بنفسه أو بماله أو برأيه. الفائدة الثانية: ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم عن التقليل من شأن المعروف، أيًّا كان مقداره؛ فإن الله تعالى يحب المعروف كله قليله وكثيره؛ فلذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على فعل المعروف بجميع أنواعه ولا يحتقر منه شيئًا، فلربما كانت نجاته في عملٍ يسير؛ فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ]. الفائدة الثالثة: العمل اليسير من المعروف قد يكون كبيراً عند الله عز وجل: فلربما عظُم العمل بسبب النية الصالحة فكما قيل: "رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمه النية، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تصغِّره النية"، أو لأن ذلك غاية ما يستطيعه من قام بالعمل، أو لأنه آثر به غيره على نفسه مع حاجته، ولربما كان سبب التعظيم لشدة حاجة الشخص، أو بسبب قرابة محتاج ونحو ذلك؛ فإن العمل في مثل هذه الأحوال يتضاعف ويعظم أجره عند الله عز وجل؛ قال الله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾.
ويقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ]، مجرد كلمةٍ طيبةٍ لم يخطر ببال العبد أنها تبلغ به هذه الدرجات العالية، فما بال البعض منا ما زال يبخل، ليس بالمال فقط، وإنما بالعمل الصالح البسيط، أو بالمعاملة الحسنة، أو حتى بالابتسامة والكلمة الطيبة، ألم نقرأ قول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾؟.

أحبتي .. حِرْصُنا على فضائل الأعمال من: صلة الرحم، حسن الخلق، طيب المعاملة، اللين والرفق، الأمانة، الصدق، الإخلاص، الوفاء بالعهد، إجادة العمل، الالتزام بالوعد، احترام الآخرين، الإيثار، القناعة، الكرم، شكر الناس، حفظ الحقوق لأصحابها، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، وغير ذلك من أعمال البر والتقوى، واهتمامنا بالنوافل من صلاةٍ وصيامٍ وصدقاتٍ، والتزامنا بأداء العبادات، هذه كلها هي التي تقودنا إلى مرضاة الله ورضوانه. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى﴾؛ فلنفعل ما استطعنا من خيرٍ مهما قلّ أو صغر، لا ندري فقد يكون عند الله عظيماً؛ يقول عز وجل: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾؛ فإذا مر على قلبنا مثل هذا الخاطر فلنتذكر عبارة: (عسى أن تكون هي المنجية)، بذلك ننفع أنفسنا، ونكون قدوةً لغيرنا، ومثالاً مشرفاً لأعظم دينٍ ارتضاه الله لنا وختم به رسالاته للبشرية وكلفنا بأمانة تبليغه للناس، فلنبلغه للناس بتصرفاتنا ومعاملاتنا وأخلاقنا، تماماً مثلما فعل السلف الصالح عندما فتحوا بلاد العالم شرقاً وغرباً، لم يفتحوها بسيوفهم، وإنما بحسن أخلاقهم وطيب معاملاتهم.

اللهم اجعلنا من الناجين من عذابك، الفائزين برضاك ورضوانك وجنات نعيمك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.