الجمعة، 28 أبريل 2017

عسى أن تكون هي المنجية

الجمعة 28 إبريل 2017م

خاطرة الجمعة /٨١
(عسى أن تكون هي المنجية)

شهر رمضان الماضي كان مميزاً بشكل استثنائي بالنسبة لي لأسبابٍ كثيرة منها أني كُلفت من قبل فاعلي خيرٍ بإعداد حقائب تشتمل على بعض المواد الغذائية الضرورية مثل الأرز والزيت والسكر والسمن والصلصة، وتوزيعها على المحتاجين في هذا الشهر الكريم.
وإن أنسى لا أنسى موقفاً ترك في نفسي أثراً كبيراً .. في أحد أيام ذلك الشهر الكريم، توجهنا أنا وزوجتي إلى أحد محلات بيع المواد الغذائية لشراء الأغراض المطلوبة لتلك الحقائب، كنا في حاجةٍ إلى كميةٍ كبيرةٍ من الأرز، وكان المسموح ببيعه في ذلك المحل لكل فرد كمية صغيرة ومحدودة، سألنا عن مدير المحل وقابلناه وأخبرناه بما نعتزم عمله، فوافق فوراً على أن يبيع لنا كميةً كبيرةً من الأرز. لم نكن نتوقع منه هذه الاستجابة السريعة، وأحسسنا وقتها أنه يقول بينه وبين نفسه (عسى أن تكون هي المنجية).
وعند نقل ما اشتريناه من أغراضٍ كثيرةٍ إلى السيارة قام أحد الشباب العاملين بالمحل بمساعدتنا في نقلها رغم الصيام ورغم الحر، وعندما انتهى من ذلك حاولت زوجتي أن تعطيه إكراميةً بسيطةً، رفض بأدبٍ وقال لها: "أتريدين أن تحرميني من الثواب؟"، لقد كان لسان حاله يقول: (عسى أن تكون هي المنجية).

أحبتي في الله .. يقول أحد الصالحين: كل واحدٍ منا يسعى لنيل رضى الله بالتقرب منه سواءً بالعبادة التي نحن مأمورون بأدائها أو بفعل الخير والمعروف وذلك من أجل نيل الحسنات والأجر الوفير. يسعى كلٌ منا جاهداً لفعل الخيرات وأعمال البر في حياته لتكون شاهدةً له في آخرته ومنجيةً له من عذاب ربه. ولا ندري، أيُ هذه الأعمال تكون هي المنجية؟ من ذلك: إزالة الأذى عن الطريق، الابتسامة في وجه الجميع، توزيع مياه باردة على عمال يشتغلون تحت لهيب شمس الصيف، قيام الليل، قراءة القرآن، الاستغفار، ذكر الله، التبرع بمصاحف للمساجد، وضع ثلاجة للماء يشرب منها العطشى من الناس، وضع ماء وفتات الخبز أو الحبوب لتشرب منه الطيور والحيوانات وتأكل. أفكار كثيرة لأعمال بسيطة نقوم بها (عسى أن تكون هي المنجية).
يقول آخر مضيفاً إلى الأعمال السابقة: تقود سيارتك وحرارة الشمس تحرق الأخضر واليابس وتلمح أحدهم يمشي والعرق يغسل ثوبه لا تشمئز وافتح باب سيارتك ليركب معك. تأتي من العمل مرهقاً عائداً إلى بيتك تحمل الكثير من الأغراض المطلوبة منك وتسألك والدتك: "هل جلبت لي اللبن؟" ابتسم لها وقل: "لحظات" وأسرع لجلبه. يقول لك والدك: "تعال وصلني عندي موعد مع الطبيب" فتقول له: "أبشر". تُصلي وطفلك يلعب حولك وفجأة يقفز على ظهرك وأنت ساجد لا تغضب تحمَّل وأطل سجدتك. يشتمك البعض ويسبك فتقول: "سامحك الله". تقرأ آية من كتاب الله فتدمع عينك. تمر بشباب يعصون الله فتتوقف لكي تقدم لهم الموعظة والنصيحة. ترى امرأةً متبرجةً فتغض بصرك وتستغفر الله. يخطئ أحدٌ في حقك وتريد أن تشتمه وتضربه فتتذكر قوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ فتكتم غيظك وتعفو عنه. تصلك فضيحة أحدهم فتقف عندك ولا تنتشر.
ردد دائماً قبل كل فكرة خير قبل أن تحولها لعمل: (عسى أن تكون هي المنجية).
ويقول ثالث: ليست الجنة بحاجةٍ إلى أعمالٍ تعجز الجبال عن حملها، استحضر النيّة، وأخلص في العمل، واجعل الجنّة نصب عينيك ستنالها بإذن الله.
لا يدري المسلم أي الأعمال هو المقبول وأي الحسنات هي المنجية: تتبرع بمدخراتك لبناء مسجد. تضع في جيبك حبّاتٍ من الحلوى توزعها على الأطفال بالمسجد. تعطي الأجير أجره قبل أن يجف عرقه تُكرمه وتُقدم له الطعام والشراب. تمسح على رأس يتيمٍ تعامله بلطفٍ وتشعره بالحنان. تساعد طالباً يحتاج إلى مصاريف للاستمرار في دراسته. تعود مريضاً في مشفىً تُدخل السرور على قلبه وتدعو له. تُفَّرج الضيق عن مكروب. تصلي ركعتين وقت الضحى. لا تدري أي هذه الأعمال قد لقى القبول من المولى عز وجل؛ فتقول في نفسك (عسى أن تكون هي المنجية).
 وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: [يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ]، قَالَ: "مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ".
وهذه امرأةٌ من بني إسرائيل كانت بَغِيَّاً {تحترف الزنا}، سقت كلباً فدخلت الجنّة. وهذا رجلٌ رآه رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يتقلب في أعلى الجنّة بغصنٍ قطعه من ظهر الطريق كان يؤذي المسلمين.

أحبتي .. يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]، لا‌ تَحقرن أي: لا‌ تستقلنَّ من المعروف شيئًا، فتتركه لقلَّته؛ فقد يكون سبباً للوصول إلى مرضاة الله تعالى ولو كان هذا المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلقٍ؛ أي: بوجهٍ ضاحكٍ مُستبشر؛ وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن، ودَفع الوَحشة عنه، وجبْر خاطره، وبذلك يحصل التآلف المطلوب بين المؤمنين؛ فما أعظم ثواب هذا العمل رغم بساطته. يقول أهل العلم أنه يتعلق بهذا الحديث فوائد: الفائدة الأولى: أنه يدخل في عموم هذا الحديث ما لا يُحصى من الأعمال الصالحة التي ينبغي على المسلم أن يحرص على فعلها بنفسه، أو الإعانة على فعلها بنفسه أو بماله أو برأيه. الفائدة الثانية: ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم عن التقليل من شأن المعروف، أيًّا كان مقداره؛ فإن الله تعالى يحب المعروف كله قليله وكثيره؛ فلذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على فعل المعروف بجميع أنواعه ولا يحتقر منه شيئًا، فلربما كانت نجاته في عملٍ يسير؛ فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ]. الفائدة الثالثة: العمل اليسير من المعروف قد يكون كبيراً عند الله عز وجل: فلربما عظُم العمل بسبب النية الصالحة فكما قيل: "رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمه النية، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تصغِّره النية"، أو لأن ذلك غاية ما يستطيعه من قام بالعمل، أو لأنه آثر به غيره على نفسه مع حاجته، ولربما كان سبب التعظيم لشدة حاجة الشخص، أو بسبب قرابة محتاج ونحو ذلك؛ فإن العمل في مثل هذه الأحوال يتضاعف ويعظم أجره عند الله عز وجل؛ قال الله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾.
ويقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ]، مجرد كلمةٍ طيبةٍ لم يخطر ببال العبد أنها تبلغ به هذه الدرجات العالية، فما بال البعض منا ما زال يبخل، ليس بالمال فقط، وإنما بالعمل الصالح البسيط، أو بالمعاملة الحسنة، أو حتى بالابتسامة والكلمة الطيبة، ألم نقرأ قول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾؟.

أحبتي .. حِرْصُنا على فضائل الأعمال من: صلة الرحم، حسن الخلق، طيب المعاملة، اللين والرفق، الأمانة، الصدق، الإخلاص، الوفاء بالعهد، إجادة العمل، الالتزام بالوعد، احترام الآخرين، الإيثار، القناعة، الكرم، شكر الناس، حفظ الحقوق لأصحابها، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، وغير ذلك من أعمال البر والتقوى، واهتمامنا بالنوافل من صلاةٍ وصيامٍ وصدقاتٍ، والتزامنا بأداء العبادات، هذه كلها هي التي تقودنا إلى مرضاة الله ورضوانه. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى﴾؛ فلنفعل ما استطعنا من خيرٍ مهما قلّ أو صغر، لا ندري فقد يكون عند الله عظيماً؛ يقول عز وجل: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾؛ فإذا مر على قلبنا مثل هذا الخاطر فلنتذكر عبارة: (عسى أن تكون هي المنجية)، بذلك ننفع أنفسنا، ونكون قدوةً لغيرنا، ومثالاً مشرفاً لأعظم دينٍ ارتضاه الله لنا وختم به رسالاته للبشرية وكلفنا بأمانة تبليغه للناس، فلنبلغه للناس بتصرفاتنا ومعاملاتنا وأخلاقنا، تماماً مثلما فعل السلف الصالح عندما فتحوا بلاد العالم شرقاً وغرباً، لم يفتحوها بسيوفهم، وإنما بحسن أخلاقهم وطيب معاملاتهم.

اللهم اجعلنا من الناجين من عذابك، الفائزين برضاك ورضوانك وجنات نعيمك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.



الجمعة، 21 أبريل 2017

تبليس إبليس

الجمعة 21 إبريل 2017م

خاطرة الجمعة /٨٠
(تبليس إبليس)

قال بلهجةٍ لا تخلو من التهكم وبانفعالٍ لم يستطع أن يخفيه: "العالم وصل القمر، وما زلنا نقول ادخل برجلك اليمين ولا تدخل برجلك الشمال!".
كان هذا ما قاله صاحبنا ونحن نناقش بهدوءٍ أسباب تخلف مجتمعاتنا الإسلامية رغم ما خصنا به الله سبحانه وتعالى من خيرية أشار إليها في قوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.
تعددت الآراء وتشعبت وذهب كلٌ منا إلى حيث يعتقد أنه سبب تخلفنا عن غيرنا من الأمم:
فمِن قائلٍ أن بُعْدنا عن العلم، وقد أُمرنا أن نأخذ به، هو السبب. ألم يمدح المولى عز وجل في آياتٍ كثيرةٍ في كتابه الكريم العلم والعلماء وحض على التفكر وإعمال العقل؟ ألم يحثنا الرسول الكريم على العلم والتعلم والتعليم في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة؟ فأين نحن من ذلك؟ هل اهتممنا بالعلم والتعليم والبحث العلمي والعلماء بالقدر الكافي؟
ومِن قائلٍ بأننا ابتعدنا عن واجباتٍ شرعيةٍ اشتملت عليها الآية الكريمة التي تخص أمتنا بأنها خير الأمم؛ فبقية الآية تضمنت هذه الواجبات: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه﴾، فأين نحن من هذه التوجيهات الربانية الثلاثة؟ هل نقوم بواجب الأمر بالمعروف على أتم وجه؟ هل نحن نهتم فعلاً بالنهي عن المنكر؟ هل نؤمن بالله سبحانه وتعالى كما ينبغي أن يكون الإيمان عقيدةً وعبادةً ومعاملاتٍ وأخلاقاً؟ بقدر اقترابنا من تحقيق هذه التوجيهات بقدر ما نكون خير الأمم.
تشعبت الأفكار واختلفت الرؤى في إطار من التكامل. لكن ما لم نختلف حوله هو استهجاننا لما قاله صاحبنا وتهكمه على سنة التيامن التي أمرنا بها رسولنا الكريم. أنكرنا عليه ما قال من حيث الشكل: فقد عرض رأيه بشكلٍ مستفزٍ لا يُخفي تهكمه وسخريته بل وازدراءه لهذه السنة المهجورة. ومن حيث المضمون: فإنه يربط ما بين التخلف الذي تعيشه الأمة الإسلامية، وبين التمسك بسنةٍ من سنن النبي عليه الصلاة والسلام!.
عاتبنا صاحبنا، وأوضحنا له صراحةً رأينا فيما قال فاعتذر، وانتهى اللقاء كما ينتهي دائماً على وعدٍ بلقاءٍ آخر من لقاءات الخير.

أحبتي في الله .. خلْطُ الأمور عندما يكون مقصوداً فإنه يكون من (تبليس إبليس)، ولا يصدر ذلك إلا من جهات أو أفراد بينهم وبين الإسلام عداوة، لا يستطيعون التعبير عنها صراحةً فيلجأون إلى نشر عبارات أو قصص تحمل في ظاهرها الخير لكنها في باطنها تُضمر شراً بالإسلام وأهله. غالباً ما يبدأ الأمر بالاستخفاف ببعض المظاهر الإسلامية كالنقاب والحجاب واللحية والثوب القصير والتيامن وغير ذلك من مظاهر لها مرجعيتها في تشريعنا الإسلامي. وما قول صاحبنا: "العالم وصل القمر، وما زلنا نقول ادخل برجلك اليمين ولا تدخل برجلك الشمال!"، إلا نموذجاً لهذا الخلط المقصود؛ فما دخل تقدم الأمة أو تأخرها بتقديم الرجل اليمنى أو اليسرى؟ مثل هذا القول يعبر عن منهجيةٍ مغرضةٍ تستهدف ربط هذه المظاهر التي أمرنا بها المولى سبحانه وتعالى ورسولنا الكريم بكل ما هو سيء: التخلف والجهل والفساد والإرهاب وغير ذلك من مفردات ذات طابعٍ سلبي. ومع التكرار، وهو من آليات نشر هذا الفكر المغرض، تصبح مثل هذه المقولات بديهيةً لا تحتاج إلى مناقشةٍ عند البعض، بل ويذهب بعض المثقفين إلى نشرها والترويج لها.
بدأ الأمر بالحرب على حجاب المرأة المسلمة عام 1899م حين أصدر قاسم أمين كتابه الشهير «تحرير المرأة»، الذي تضمن دعوته لتعليم المرأة وتحريرها من القيود المجتمعية الظالمة، داعياً للسفور «خلع الحجاب»، بعد ذلك جاءت هدى شعراوي، التي خلعت الحجاب في ميدان التحرير بقلب القاهرة بلد الأزهر الشريف، داعيةً بنات جنسها للتحرر من الحجاب كما لو كانت قطعة القماش تلك التي على رؤوسهن هي سبب تخلف الأمة! وكأن ما تلبسه الراهبات من النصارى ليس حجاباً، لكنها استراتيجية الإساءة لكل ما يرمز إلى الإسلام، إنها استراتيجية (تبليس إبليس) بخلط السم بالعسل، بدأها أعداء الإسلام ثم تلقفها بعض بني جلدتنا وتبنوها كما لو كانت قضيةً مقدسةً لهم!
فهذه أختٌ مسلمةٌ تلبس النقاب كانت تتسوق في سوبر ماركت في فرنسا، وبعد الانتهاء من التبضع ذهبت إلى الصندوق لدفع ما عليها من مستحقات، وخلف الصندوق كانت هناك امرأةٌ متبرجةٌ من أصولٍ عربيةٍ نظرت إلى المنقبة باستهزاءٍ وقالت لها وهي تستفزها: "لدينا في فرنسا عدة مشاكل وأزمات، ونقابك هذا مشكلةٌ من المشاكل التي تسببتن لنا بها، إذا كنت تريدين ممارسة الدين أو وضع النقاب فاذهبي إلى وطنك ومارسي الدين كما تشائين"، قامت الأخت المنقبة بكشف النقاب عن وجهها فإذا هي شقراء زرقاء العينين، وقالت: "أنا فرنسية أباً عن جد، هذا وطني، وهذا إسلامي، أنتم بعتم دينكم ونحن اشتريناه"!.

أما عن اللحية فقد انتشرت قصةٌ على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شبكة الإنترنت، تناقلها وأعاد نشرها كما هي عددٌ كبيرٌ من الأصدقاء دون أن يدركوا الهدف الخفي من تعميمها. تقول القصة أنه في زمن سيدنا سليمان عليه السلام، جاء طائر إلى بركةٍ ليشرب الماء، فوجد أطفالاً بالقرب منها فانتظر حتى غادر الأطفال وابتعدوا عن البركة، ثم جاء رجلٌ ذو لحيةٍ إلى البركة، فقال الطير في نفسه هذا رجلٌ وقورٌ لا يمكن أن يؤذيني؛ فنزل الطائر إلى البركة ليشرب الماء، فرمى الرجل الطائر بحجرٍ ففقأ عينه، فذهب الطائر إلى نبي الله سليمان عليه السلام شاكياً؛ فاستدعى سيدنا سليمان هذا الرجل وسأله: "ألك حاجةٌ بهذا الطائر فرميته؟"، قال الرجل: "لا"، فأصدر النبي عليه السلام حكمه بفقء عين الرجل. لكن الطائر اعترض وقال: "إن عين الرجل لم تؤذيني بل لحيته هي التي خدعتني؛ لذا أطالب بقص لحيته حتى لا ينخدع بها أحدٌ غيري". وتنتهي القصة بالتساؤل: تُرى إن حضر هذا الطائر زماننا هذا كم لحيةً سيطالب بقصها؟
أخطأ الرجل، لا شك في هذا، لكن (تبليس إبليس) يكمن في تعمد ربط الخطأ أو الإساءة باللحية وليس بصاحبها! ماذا إذن لو كان الرجل غير ملتحٍ ويلبس زي رجل أمن، وهو بِسَمْتِه هذا يجعل الطائر يحس بالأمان معه ربما أكثر من صاحب اللحية، فهل كانت القصة لتنتهي بطلب الطائر أن يخلع جميع رجال الأمن ملابسهم الرسمية بزعم أنها هي التي انخدع بها؟
يقول أحد الأفاضل تعليقاً على تلك القصة المزعومة: لا شك أن التدين الظاهر أمرٌ يشترك فيه الصالح والمنافق، ولكن هل يجوز أن نذم الصالحين بزلل المتشبهين بهم؟ هذا منتهى الظلم. مِن الناس مَن يصلي نفاقاً ومنهم من يحج نفاقاً ومنهم من يجاهد نفاقاً ومنهم من يتصدق نفاقاً فهل يجوز أن نمتنع عن هذه الأمور الطيبة لمجرد أن بعض المنافقين يقومون بها؟
كون المرء له تدينٌ ظاهرٌ في ملبسه أو مظهره لا يعني أنه معصومٌ من الخطأ، لكن يبقى عليه وزره، فلو أن مسلماً صلى ثم ارتكب معصيةً بعد الصلاة هل يمكن لعاقل أن يقول إن صلاته هي سبب المعصية وأن يطالب الجميع بترك الصلاة؟!
إننا لسنا حجةً على الإسلام، إن أخطأنا، وإنما الإسلام حجة علينا جميعاً.
خلاصة القول، أنه لا يضير أحدٌ أبداً، إلا من كان قلبه يحمل الحقد على الإسلام، أن يأخذ المسلم بكل الأسباب المادية العلمية والعملية التي تقود الأمة نحو التقدم وتبتعد بها عن التخلف الذي ترزح فيه، مع تمسكه في ذات الوقت بثوابت الدين الظاهر منها والباطن.

أحبتي .. كم من أفرادٍ ليسوا مسلمين ارتكبوا المعاصي والسيئات، وعاثوا في الأرض فساداً وإفساداً وتدميراً، بل إن بعضهم قتل ملايين البشر في حروبٍ عالمية وبواسطة قنابل ذرية! فهل سمعتم من ينسب أفعالهم تلك إلى دينهم؟
إن الخلط المقصود بين ما يقع فيه بعض المسلمين من زللٍ وما يرتكبه بعضهم من أخطاءٍ وحماقات وبين دين الإسلام خلطٌ متعمدٌ وهو  من باب (تبليس إبليس) فانتبهوا: لا تنخدعوا أحبتي بهذا التبليس، ثم لا تسارعوا بنشر وتعميم مثل هذه الأقوال والقصص المغرضة فتكونوا سبباً في انخداع البعض من بسطاء المسلمين بها فتحملوا أوزاراً وأوزاراً مع أوزاركم يوم الحساب.

اللهم يسِّر لنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن نؤمن بك كما ينبغي أن يكون إيمان المسلم تماماً وكمالاً .. اللهم اجعلنا ممن يجمعون الحسنيين: التمسك بجوهر دينك الحنيف، والالتزام بمظاهره والاعتزاز بها والفخر بأنها تعبر عن هويتنا وعن ديننا الذي ارتضيته لنا، لنكون بحق ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/V9iIu9

الجمعة، 14 أبريل 2017

حق تلاوته

الجمعة 14 إبريل 2017م

خاطرة الجمعة /٧٩
(حق تلاوته)

اتصل بي من يومين يسأل عني، ثم حكى لي موقفاً طريفاً حدث له؛ قال: "قرأت عنوان خاطرتك يوم الجمعة الماضي  {المشاؤون في الظُلَم} دون أن أنتبه إلى التشكيل؛ ففهمت من العنوان أن الخاطرة سيكون محورها {الظُلْم} بمعنى ظُلْم الإنسان لنفسه ولغيره، فإذا بي أفاجَئ بعد عدة أسطر بالمعنى المقصود من {الظُلَم} أنه جمع ظُلْمة أي الظلمات، واكتشفت أن الفرق يكمن في تشكيل الكلمة"، قلت له مصححاً: "بل تشكيل حرفٍ واحدٍ فقط منها!"، قال: "معك حق، لقد التبس علي معنى الكلمة حينما لم أنتبه للفرق بين الفتحة والسكون على حرف الظاء". أردفت قائلاً: "عنوان الخاطرة مستوحى من قول النبي عليه الصلاة والسلام: [بشر المشائين في الظُلْم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة]".
 قبل ذلك بحوالي شهرين كنتُ قد قابلت جاراً لنا، سرنا سوياً لصلاة العصر، وقبل أن ندلف إلى مسجد {رحمة الله} الذي تعودنا أن نصلي فيه، إذا به يخبرني أنه سيصلي في مسجد {البر الرحيم}، وهو مسجدٌ مجاورٌ لمسجدنا. لكن ما لفت انتباهي هو نُطقه للفظ {البر} بكسر الباء وليس بفتحها كما ينبغي أن ينطق! رغم أن {البَر} من أسماء الله الحسنى، ورغم أنه ورد في إحدى آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾.

أحبتي في الله .. هل لتشكيل الحروف في لغتنا العربية الجميلة أهميةٌ إلى هذه الدرجة؟ سؤال يجيب عنه البعض بأن أهمية التشكيل تبدو محدودة وأن الأمر شكليٌ يتعلق بالمظهر أكثر منه بالمضمون والجوهر، ويرى آخرون، وأنا منهم، أن حركات تشكيل الحروف ما وُجدت إلا لضبط الكلمات نُطقاً ومعنىً، وأنها تساعدنا على أن نتلو القرآن الكريم (حق تلاوته) وأن الإخلال بتشكيل الحروف يمكن أن يؤثر على المعنى بشكلٍ كبير. ومن أشهر الأمثلة التي تُساق للدلالة على ذلك الآية الكريمة في القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، بضبط آخر لفظ الجلالة {اللَّهَ} بالفتحة وآخر كلمة {الْعُلَمَاءُ} بالضمة؛ فيكون المعنى أن العلماء هم أكثر عباد الله خشيةً منه، ولو بدلنا الفتحة مكان الضمة والضمة مكان الفتحة لانعكس معنى الآية تماماً وانقلب مضمونها وجوهرها.
وعلى ذكر القرآن الكريم، يقول علماؤنا الأفاضل أن القرآن الكريم كتاب الله وكلامه أنزله على نبينا محمدٍ وكان من أهم معجزاته صلى الله عليه وسلم، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ كتابه الكريم من التحريف والتبديل ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. وعن تلاوة القرآن قال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾، وقال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
والكتاب المأمورون نحن المسلمين بتلاوته هو القرآن الكريم كتاب الله العزيز وكلامه نزل بدون تغيير أو تبديل أو تحريف سواءً في لفظه أو معناه، لذا يجب علينا الحرص كل الحرص على قراءة القرآن بالطريقة الصحيحة وأن نوفيه (حق تلاوته) بمراعاة تشكيل كلماته والتي إن تغيرت بسبب خطأٍ في النطق لأدت إلى تبديلٍ في المعنى أو في الحكم الشرعي الذي جاء به النَص القرآني.
ومن أمثلة بعض الآيات التي إن لم يتم نطقها بالشكل الصحيح وعدم مراعاة تشكيلها فإنها تؤدي إلى تغييرٍ في المعنى والحكم الشرعي:
قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ بنصب {إِبْرَاهِيمَ} ورفع {رَبُّهُ}، فيكون المعنى أن الله قد ابتلى إبراهيم بما أمره من التكاليف والأوامر فأتمهن أي أداهن حق التأدية. أما لو قام أحدنا بقراءة تلك الآية برفع {إِبْرَاهِيمُ} ونصب {رَبَّهُ} فإنه سوف يغير معنى الآية الكريمة تماماً ويعكس مفهومها الصحيح إلى معنىً آخر غير جائز.
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾، فقد جاءت كلمة {وَأَرْجُلَكُمْ} منصوبةً لتدل على أنها معطوفةٌ على {وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} ولو كانت معطوفةً على {بِرُءُوسِكُمْ} لجاءت مثلها مجرورةً بالكسرة، وبهذا تم الاستدلال على أن الصحيح في الوضوء هو غسل الرجلين وليس المسح، فإذا قمنا بقراءة الآية الكريمة بجر كلمة {وَأَرْجُلِكُمْ} فإن الحكم الشرعي في طريقة الوضوء سيتغير إلى العكس تماماً من الغسل للرجلين إلى المسح عليهما.
وهكذا كثيرٌ من الآيات، وكثيرٌ من كلمات القرآن الكريم، لها قراءةٌ خاصةٌ على غير ما تعود الناس عليه، فإذا لم ندقق في قراءتها فإن قراءتنا تكون غير صحيحة.
ولتشكيل حروف القرآن الكريم قصةٌ أنقلها عن أهل العلم:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تنزل عليه الآية يأمر أحد كتابه فيكتبها في موضع كذا من سورة كذا، ولم يكن في ذلك الوقت نقطٌ ولا شكلٌ للحروف. ثم بدأ جمع القرآن على يد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد استشهاد سبعين من حفاظ القرآن الكريم في معركة اليمامة، وكان ذلك بنقل القرآن وكتابته في مصحفٍ واحدٍ مرتب الآيات. ثم جُمع القرآن مرةً أخرى في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك بنسخ عدة نسخ من المصحف الذي جُمع في عهد أبي بكر لترسل إلى البلاد الإسلامية، بسبب اتساع الفتوحات الإسلامية واختلاف القراء في قراءة القرآن من بلد إلى آخر. إلى أن جاء الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وقت انتشر فيه الإسلام وكثر تابعوه من العجم وغيرهم وتفشى اللحن في لغة العرب، وكثر الخطأ في القرآن الكريم، فسمع أبو الأسود الدؤلي، التابعي الجليل، يوماً قارئاً يقرأ قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ فقال {ورسولِه} بكسر اللام بدلاً من {وَرَسُولُهُ} بضم اللام، فإذا بأعرابيٍ يقول: "إذا كان الله بريئاً من المشركين ومن رسولِه فأنا أبرأ منهم كذلك"، فشق ذلك على أبي الأسود، وقال: "عزّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله"، حيث أدرك أبو الأسود هول الخطأ وما أدى إليه من فهمٍ خاطئٍ تماماً يصل إلى حد الكفر لمجرد الخطأ في نطق حرفٍ واحدٍ فقط، فقال للأمير زياد بن أبيه، وكان والياً على البصرة (45-53هـ)، أعطني كاتباً فطناً، فأتى به، فقال له أبو الأسود: "إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فضع نقطةً أعلاه، وإذا رأيتني قد ضممت فمي فانقط نقطةً بين يدي الحرف، وإن كسرت فانقط نقطةً تحت الحرف، فإذا أتبعت شيئاً من ذلك غُنَّةً فاجعل مكان النقطة نقطتين"، فكان أبو الأسود هو أول من نقط حروف المصحف، تلك النقاط التي اُصطلح على تسميتها {نقاط الشكل} أي التشكيل الموصل إلى ضبط نطق الحروف القرآنية كما أنزلها الله على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
وحين تفشت العُجمة، وكثر التصحيف أمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق {75-95هـ} أن يضع علاجاً لها، فاختار كلاً من نصر بن عاصم، ويحيى بن يَعْمَر لهذه المهمة فقاما بوضع {نقاط الإعجام} التي حددت الفروق بين الحروف العربية المتشابهة كحروف الباء والتاء والثاء والياء، والجيم والحاء والخاء، والراء والزاي، والسين والشين، والعين والغين، والفاء والقاف، ونحوها مما يتفق في الرسم ويختلف في النطق. فأصبح هناك نوعان من النقاط. في بادئ الأمر كان نساخ المصاحف يلجأون إلى التمييز بين هذين النوعين من النقاط بإفراد كل نوع منهما بلونٍ خاص به، إلى أن أتى إمام اللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي بفكرةٍ عبقريةٍ وضعت حداً فاصلاً بين نقاط الشكل ونقاط الإعجام، فأبقى على نقاط الإعجام كما هي، وغيَّر نظام نقاط الشكل واستبدل بها علامات الضبط {الفتحة، الضمة، الكسرة، والسكون}؛ فجعل الفتحة ألفاً صغيرةً مضطجعةً فوق الحرف، والكسرة ياءً صغيرةً تحته، والضمة واواً صغيرةً فوقه. وإن كان الحرف منوّناً كرر الحرف، وجعل ما فيه إدغامٌ من السكون الشديد رأس شينٍ بغير نقط {سـ}، وما ليس فيه إدغامٌ من السكون الخفيف رأس خاءٍ بلا نقط {حـ} والهمزة رأس عينٍ {عـ}، وفوق ألف الوصل رأس صادٍ {صـ}، وللمد الواجب ميماً صغيرةً مع جزءٍ من الدال {مد}.
وما زالت هذه العلامات هي المعتمدة والمستخدمة في المصاحف حتى الآن، وهي التي رَصَّعت حروف المصحف بما زاده وضوحاً، فكان ما وُضع على حروف المصحف الشريف من نقاطٍ وتشكيلٍ بمثابة علاماتٍ هاديةٍ، وأنوارٍ كاشفةٍ يستضئ بها كل قارئ للقرآن إلى يوم القيامة، فهي تحمي القارئ من اللحن، وتقي المصحف شبهة التحريف. إنه وعد الله تعالى بحفظ كتابه الكريم: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.

أحبتي .. لتشكيل كلمات القرآن الكريم فائدةٌ عظيمةٌ؛ فالقراءة الصحيحة لآياته الكريمة نتعرف من خلالها على المعنى الصحيح لكلام الله عز وجل فنتفهمه ونتدبره ونعمل به ونكسب ثواب أننا نتلوه (حق تلاوته). البعض منا يقرأ القرآن الكريم كما يقرأ كتاباً عادياً أو جريدةً أو مجلة، والصحيح أن على المسلم أن يقرأ القرآن ويتلوه كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾. قال عبدالله بن مسعود في تفسير هذه الآية: "والذي نفسي بيده إن (حق تلاوته) أن يُحِل حلالَه، ويُحَرِمَ حرامَه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يُحرفَ الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله".
أحبتي .. في عصرٍ تطورت فيه التقنيات، أصبح من السهل تنزيل نسخةٍ كاملةٍ من المصحف الكريم على جهاز الحاسب الآلي أو على الهاتف المحمول وتنزيل ملف صوت، فيكون من المفيد جداً الجمع بين قراءة القرآن الكريم والاستماع له في آنٍ واحد. أصارحكم القول أحبتي أنني عندما اتبعت هذه الطريقة منذ حوالي سنة اكتشفت أني كنت أخطئ في التلاوة الصحيحة لكثيرٍ من ألفاظ القرآن الكريم. إنها تجربةٌ شخصيةٌ استفدت منها فصححت لنفسي الكثير من أخطاء التلاوة، بل وصرتُ أتقن بالتدريج أحكام التجويد من غُنةٍ وإدغامٍ وتفخيمٍ وترقيقٍ ومُدودٍ وقلقلةٍ وغيرها كما ينبغي أن تكون، وكم ندمت على ما فاتني من عمر كنت أتلو فيه القرآن بشكلٍ غير صحيح، وما فوَّتُه على نفسي من أجرٍ وثواب.
أتمنى منكم أحبتي الاستفادة من هذه التجربة وألا تضيعوا على أنفسكم أجر وثواب تلاوة كتاب الله عز وجل (حق تلاوته)، وأن تُجنبوا أنفسكم الإحساس بالندم الذي أحسست به.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/4HCFxD


الجمعة، 7 أبريل 2017

المشاؤون في الظلَم

الجمعة 7 إبريل 2017م

خاطرة الجمعة /٧٨
(المشاؤون في الظلَم)

يُحكى أن معلماً كان يتحدث عن صلاة الفجر بأسلوبٍ شيقٍ يتلاءم مع سن تلاميذه الصغار بالصف الثالث الابتدائي؛ فتكلم عن فضل هذه الصلاة وأهميتها، تأثر بحديثه تلميذٌ لم يسبق له أن صلى الفجر، لا هو ولا أحدٌ من أهله. وعندما عاد التلميذ إلى المنزل أخذ يفكر كيف يمكن أن يستيقظ لصلاة الفجر في اليوم التالي. لم يجد حلاً سوى أن يبقى طوال الليل مستيقظاً حتى يتمكن من أداء الصلاة. وبالفعل نفذ ما فكر به. وعندما سمع الأذان. انطلق لأداء الصلاة، لكنه واجه مشكلةً لم يكن قد استعد لها: المسجد بعيد، والطريق إليه مظلمٌ موحش، وصوت الكلاب مرعبٌ مخيف، ولا يستطيع الذهاب وحده؛ فجلس أمام باب بيته يبكي. فجأةً سمع صوت وقع أقدامٍ في الشارع. رفع رأسه يستطلع الأمر فإذا بجارهم الشيخ العجوز يمشي متجهاً إلى المسجد وجهه مضيء كالقمر، فتسلل خلفه بهدوءٍ حتى لا يشعر به فيخبر أهله، فربما عاقبوه لخروجه من البيت بغير إذنٍ وفي هذا الوقت المتأخر من الليل، إنهم يحسبونه نائماً في غرفته على فراشه الدافئ الوثير! استمر الحال على هذا المنوال، إلى أن جاء يومٌ علم فيه الطفل الصغير بوفاة جاره الشيخ العجوز فبكى بحرقةٍ وحرارةٍ استغرب لها والده فسأله: "يا بني لماذا تبكي على جارنا المتوفى هكذا وهو ليس في سنك لتلعب معه وليس قريبك فتفتقده؟"، نظر الطفل إلى أبيه بعيونٍ دامعةٍ ونظرات حزنٍ وقال له: "أنا لم أفتقده من أجل ما تقول، أنا أفتقده من أجل الصلاة، صلاة الفجر". ثم استطرد وهو يبتلع عبراته: "لماذا يا أبي لا تصلي الفجر؟ لماذا يا أبتي لا تكون مثل ذلك الرجل ومثل الكثير من الرجال الذين رأيتُهم؟". قال الأب: "أين رأيتَهم؟"، فقال الطفل: "في المسجد". قال الأب: "متى؟"، فحكى الطفل حكايته لأبيه، تأثر الأب من ابنه واقشعر جلده وكادت دموعه أن تسقط؛ فاحتضن ابنه، ومنذ ذلك اليوم لم يترك الأب صلاةً إلا وصلاها في المسجد مصطحباً معه ابنه الصغير. هذا الطفل رغم صغر سنه إلا أنه اختار لنفسه أن يكون من (المشائين في الظلَم).

تذكرت هذه القصة ونحن عائدون يوماً من المسجد بعد أداء صلاة الفجر، فإذا بجارٍ لنا خارجٍ من منزله يمشي في اتجاهنا، حيانا، فرددنا تحيته بأحسن منها، وسأله واحدٌ منا، وهو صديقٌ له، عن مقصده، فقال أنه ذاهب إلى العمل، فسأله صديقه: "هل صليت الفجر؟"، رد باقتضاب: "لا، تعلم أني لا أصلي، أدعُ لي الله أن يهديني للصلاة". قال صديقه: "إذن عُد إلى بيتك ولا تذهب للعمل". فتعجب الجار وسأل: "لماذا؟"، رد عليه صديقه: "لأني كما سأدعو لك الله سبحانه وتعالى أن يهديك للصلاة، سأدعوه أن يرزقك"!
هكذا بعض الناس .. يسعون إلى رزقهم وينسون الرازق فلا يسعون إليه، يحرصون على مواعيد العمل لا يتأخرون عنها دقيقةً واحدةً ولا يهتمون بمواعيد الصلاة، وإذا اهتموا صلوها في غير أوقاتها! ومن الناس من يسهرون إلى قبل وقت صلاة الفجر بقليلٍ يشاهدون مباراةً أو فيلماً ثم يغلقون التلفاز ويدخلون إلى مخادعهم للنوم وهم يسمعون مكبرات الصوت من المساجد القريبة وصوت المؤذن ينادي من خلالها بأن الصلاة خيرٌ من النوم!

أحبتي في الله .. لعظم صلاة الفجر أقسم الله سبحانه وتعالى بوقتها فقال: ﴿وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾. وقال تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾.
وعدَّد أحد الصالحين الفوائد من صلاة الفجر فرأى أنها عشر فوائد:
الفائدة الأولى: الدخول في ذمَّة الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن صلَّى الصبح، فهو في ذمة الله].
 الفائدة الثانية: أجر قيام الليل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلَّى الليلَ كلَّه].
الفائدة الثالثة: براءةٌ من النفاق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما، لأتَوهما ولو حبواً، ولقد هممتُ أن آمُرَ المؤذِّن فيُقيم، ثم آخُذَ شُعلاً من النار، فأحرِّقَ على من لا يخرج إلى الصلاة بعد].
 الفائدة الرابعة: النور التام يوم القيامة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [بشِّرِ المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة].
الفائدة الخامسة: شهود الملائكة له وثناؤهم عليه عند الله سبحانه وتعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل، وملائكةٌ بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربُّهم - وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلون].
الفائدة السادسة: أجر حجةٍ وعمرةٍ إذا ذكر الله سبحانه وتعالى حتى تطلع الشمس؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن صلى الغداة في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجةٍ وعمرةٍ تامةٍ، تامةٍ، تامة].
الفائدة السابعة: غنيمةٌ لا تعدلها غنائم الدنيا؛ عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثًا قِبَلَ نجدٍ، فغنموا غنائم كثيرة، فأسرعوا الرجعة، فقال رجلٌ ممن لم يخرج: ما رأينا بعثًا أسرع رجعةً، ولا أفضل غنيمةً من هذا البعث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ألا أدلُّكم على قومٍ أفضل غنيمةً، وأسرع رجعة؟ قومٍ شهدوا الصبح، ثم جلسوا يذكرون الله حتى طلعت عليهم الشمس، فأولئك أسرع رجعةً، وأفضل غنيمةً].
الفائدة الثامنة: فضل اغتنام سنة الفجر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها].
الفائدة التاسعة: النجاة من النار، والبشارة بدخول الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لن يلج النارَ أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها].
الفائدة العاشرة: الفوز برؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة (وهي أعظم الفوائد)؛ عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: [أمَا إنكم سترَون ربَّكم كما ترَون هذا القمر، لا تُضَامُّون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا].

أما من يقولون أنه يصعب عليهم الاستيقاظ لصلاة الفجر، فإني أسوق إليهم هذه القصة عن جنود من الكتيبة الصينية التي شاركت في حرب الخليج بشمال المملكة العربية السعودية، أسلم عددٌ منهم وكانت المشكلة التي واجهتهم هي الاستيقاظ لصلاة الفجر؛ فعندما علم قادتهم بتجمعهم في خيمةٍ واحدة ليتناوبوا السهر كي لا تفوتهم صلاة الفجر فرقوهم بين الخيام، فأخذ كلٌ منهم ساعته المنبهة معه لكنها صودرت منه، وكلما وجدوا طريقةً للاستيقاظ قبيل الفجر لأداء الصلاة في وقتها حاربهم هؤلاء القادة وسدوا عليهم المنافذ والأبواب، لكنهم توصلوا، بفضل الله ثم بإخلاصهم وإصرارهم على أن يكونوا من (المشائين في الظلَم)، لطريقةٍ رائعةٍ للاستيقاظ! اتفقوا على أن يشرب كل واحدٍ منهم كمياتٍ كبيرةً من الماء قبيل النوم لكي يستيقظ للذهاب للخلاء ومن ثم ينظر إلى ساعته ويعلم كم بقي من الزمن لصلاة الفجر فإن قارب الوقت انتظر وصلى وإلا شرب كميةً أخرى من الماء، ومع تكرار التجربة مراراً قدَّر هؤلاء الكميات المناسبة التي تجعلهم يستيقظون في وقتٍ يكاد يقترب من وقت الفجر، وصار كلٌ منهم يؤدي صلاة الفجر في وقتها! هؤلاء حديثو العهد بالإسلام بلغ حبه في قلوبهم هذه الدرجة، فأين نحن من هؤلاء؟

يعتقد النائم عن صلاة الفجر أنه سيأخذ القدر الكافي من الراحة وما علم المسكين بقدر راحة تلك القلوب التي فازت بالوقوف لدقائق بين يدي علام الغيوب. إذا كنت تنام متى شئت وتقوم متى شئت دون أي مراعاة للصلاة في وقتها فستبقى في دائرة الأحزان، مادامت الصلاة ليست في دائرة اهتمامك. الغريب أن بعض الآباء والأمهات يختلقون أعذاراً لأبنائهم فلا يوقظونهم لصلاة الفجر بحجة أنهم لم يأخذوا قسطاً من الراحة أو أنهم يجهدون أنفسهم في المذاكرة أو لأي سبب آخر. قالت متصلةٌ بالهاتف لأحد الشيوخ ضيف برنامجٍ دينيٍ في قناةٍ فضائية أنها تحاول أن توقظ ابنها للصلاة ولا يستجيب، سألها الشيخ: "ماذا تفعلين لو شبت نارٌ في البيت؟"، قالت: "أوقظه بكل طريقةٍ ممكنة ولو بإلقاء الماء على وجهه". قال الشيخ: "تخافين عليه من نار الدنيا ولا تخافين عليه من نار الآخرة"!

أحبتي .. أهل الفجر (المشاؤون في الظلَم) فئةٌ موفقةٌ وجوههم مسفرةٌ وجباههم مضيئةٌ مشرقة، وأوقاتهم مباركة، فإن كنت منهم فاحمد الله على فضله، واسأل لنفسك الثبات. وإن لم تكن منهم فادعُ الله مخلصاً أن يجعلك منهم، قل دائماً: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾، واصدُق اللهَ في حرصك، وخُذ بالأسباب المعينة على الاستيقاظ؛ فمَن صَدَق اللهَ، صَدَقه اللهُ وأعانه؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ولا تحرم زوجك وأبناءك هذا الثواب العظيم، والتزم بما أمرك الله به: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾، وكن حنوناً ودوداً رؤوفاً صابراً عليهم. اغرس في نفوس أبنائك حب الله؛ وعلمهم أن الإنسان منا إذا أحب شخصاً حباً صادقاً أحب لقاءه، وأخذ يفكر كل وقته في محبوبه، وكلما اقتربت لحظة اللقاء لم يستطع صبراً على لقائه .. فهل حقاً أولئك الذين يتكاسلون عن صلاة الفجر يحبون الله؟
ما أجمل الفجر؛ فريضته تجعلك في ذمة الله، وسنته خيرٌ من الدنيا وما فيها، وقرآنه مشهود. وما أروع صلاة الفجر مع جماعة المسلمين في المسجد، حين يواظب عليها كل المسلمين؛ حينها فقط يكون النصر ويكون التمكين وتكون الرفعة والعزة، لقد فطن أعداء الإسلام لهذا الأمر فقال قادتهم: "لن تستطيعوا أن تنتصروا علينا حتى يكون عدد المصلين في صلاة الفجر كعدد المصلين في صلاة الجمعة".

أحبتي .. علينا أن ننظم أوقاتنا حسب أوامر ربنا، لا أن ننظم أوامر الله حسب هوانا، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾، وقال: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾.
اللهم باعد بيننا وبين هوى النفس، واجعلنا من أهل الفجر، من (المشائين في الظلَم)، واجعلنا في ذمتك وحمايتك ورعايتك وعنايتك؛ فكما قال الشاعر:
وإذا العناية لاحظتك عيونها   ***    نم فالمخاوف كلهن أمانُ
فاستمسك بحبل الله معتصماً  *** فإنه الركن إن خانتك أركانُ
اللهم احفظنا بحفظك وكن لنا مُعيناً ومؤيداً وناصراً وكافياً، وتقبل اللهم منا، واجعلنا من أصحاب النور التام يوم القيامة كما وعدتنا إنك لا تخلف الميعاد.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/1aBKsn

الجمعة، 31 مارس 2017

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ

الجمعة 31 مارس 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٧
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)

في محادثةٍ هاتفيةٍ تمت منذ عدة أيام واستمرت قرابة أربعين دقيقة، مع صديقٍ عزيزٍ عليّ له منزلةٌ كبيرةٌ في نفسي، عاتب محدثي من يضيعون أوقاتهم وجهودهم في الكتابة في موضوعات تستهدف تنمية الجانب المعرفي لدى القراء ويبقى دورها محدوداً في تغيير سلوكهم. وتمنى لو تُوجه كل الجهود وتُسخر كل الطاقات من أجل هدفٍ أساسيٍ هو إعادة صياغة شخصية الفرد المسلم حتى لا تستمر حالة الانفصام التي نعايشها ونلمس تداعياتها كل يوم لأشخاص مسلمين يلتزمون بمظاهر الدين دون جوهره، يحرصون على الشكل دون الاهتمام بالمضمون. حدثني بمرارة عن انتشار الفساد والرشوة والسرقة والإدمان والعقوق والنفاق وغلبة القيم المادية وانتشار الرذيلة وغير ذلك من سلوكيات سلبية. وأنهى حديثه بأنه يرى أن على المثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي خاصةً العلماء ورجال الدين أن يعيدوا ضبط بوصلتهم لانتشال الناس من هذا المستنقع بالتركيز على كل ما من شأنه أن يغير في السلوك بحيث يبتعد كل فرد في المجتمع عن السلبية والأنانية والعيش كجزيرة منعزلة ويتحول ليصبح مواطناً صالحاً إيجابياً نحو نفسه ونحو غيره ونحو مجتمعه يتوافق سلوكه مع قيم ديننا الإسلامي الحنيف.

أحبتي في الله .. أغرتني هذه المحادثة الهاتفية على البحث عن معنى الإيجابية ومفهومها باعتبارها قيمةً تسهم في تغيير سلوك الأفراد نحو الأحسن فيكون في ذلك نفعٌ لهم ولمجتمعهم.
فما هي الإيجابية؟ يُعرِّف علماؤنا المتخصصون في علم الاجتماع وعلم النفس الإيجابية بأنها حالةٌ في النفس تجعل صاحبها مهموماً بأمر ما، ويرى أنه مسئول عنه تجاه الآخرين، ولا يألو جهداً في العمل له والسعي من أجله. والإيجابية تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء. فالشخص الإيجابي هو الشخص المتحرك المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه. كما يعرفها بعضهم بأنها اتخاذ الوضع الأفضل في الظرف الأسوأ؛ فتكون بذلك سلوكاً فاعلاً نحو الإصلاح. وعكس الإيجابية تكون السلبية: وهي تحمل معاني التقوقع، والانزواء، والبلادة، والانغلاق، والكسل؛ فالشخص السلبي بليد، يدور حول نفسه، لا تتجاوز اهتماماته أرنبة أنفه، ولا يمد يده ليساعد الآخرين، ولا يخطو إلى الأمام. وهذا عبءٌ على المجتمع؛ لأن النظرة التشاؤمية هي الغالبة عليه في كافة تصرفاته، تجده ضعيف الفاعلية في كافة مجالات الحياة، لا يرى للنجاح معنىً، ولا يؤمن بأن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فلا تجد عنده همة الخطوة الأولى، ولهذا لا يتقدم ولا يحرك ساكناً، وإن فعل في مرةٍ يتوقف مئات المرات، يتعلل دوماً بالحجج الواهية والأعذار الواهية، وهو دائم الشكوى والاعتراض والعتاب والنقد الهدام. إن السلبية هي أخطر آفةٍ يصاب بها الفرد أو المجتمع، بينما الإيجابية هي أهم وسيلة لنهضة الأمم؛ فالنهضة يصنعها أفرادٌ إيجابيون مميزون يتمتعون بالأفكار الطموحة والإرادة الكبيرة. والشخص الإيجابي يرى أن كل مشكلةٍ لها حل والسلبي يرى مشكلةً في كل حل، الإيجابي لا تنضب أفكاره والسلبي لا تنضب أعذاره، الإيجابي يرى في العمل أملاً والسلبي يرى في العمل ألماً، الإيجابي يصنع الأحداث والسلبي تصنعه الأحداث، الإيجابي يتطلع للمستقبل والسلبي يخاف المستقبل، الإيجابي يمثل قيمةً مضافةً إلى هذه الدنيا أما السلبي فهو يخصم منها.

هذا ما قاله علماؤنا المتخصصون، أما شيوخنا الأجلاء فيقولون أن الإيجابية أصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام، وهى ميزةٌ عظيمةٌ ميز الله تعالى بها المسلم، فالإسلام يدعو إلى إيجابية الفرد نحو نفسه ونحو المجتمع؛ فسورة العصر قال عنها الإمام الشافعي: "لو ما أنزل الله حجةً على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"، وذلك لأنها تجمع الدين كاملاً قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ فهي توصي بإيجابية الفرد نحو نفسه ونحو من حوله.
والقرآن الكريم به الكثير من الآيات التي توجِّه إلى التحلي بالسلوك الإيجابي وعدم الوقوف من الأحداث موقف المتفرج؛ لقوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. والإيجابية ليست قاصرة على الرجال فقط؛ قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.
ويتحدث القرآن الكريم عن فضيلة الإيجابية في مواضع كثيرةٍ بألفاظ مثل المسارعة والمسابقة والمنافسة والفرار، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِين﴾، وقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، وقوله: ﴿سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾، وقوله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾، والفرار إلى الله هو أعلى مراتب الإيجابية.
 والمسلم لا يقف من الأحداث موقف المتفرج؛ وإنما يتربى على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن الفساد والتسيب والانحراف والظلم، يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾. ومن مظاهر الإيجابية دعوة الإسلام إلى التعاون بين الناس على البر والتقوى؛ لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ﴾.
ومن دلائل الإيجابية دعوة الإسلام الحنيف للإصلاح بين الناس، وفض المنازعات بينهم؛ يقول تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، ويقول عز وجل: ﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. ويدعونا إسلامنا الحنيف للنشاط والحيوية وحب العمل يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. ويوضح لنا المولى عز وجل أن النجاة من هلاك الأمم والشعوب يكون بالإصلاح؛ قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾، لم يقل "صالحون" إنما قال "مصلحون"؛ فالصالح صلاحه بينه وبين ربه وصلاحه لنفسه فقط، أما المصلح فإنه يقوم بإصلاح نفسه ودعوة غيره للإصلاح وكأن شعاره في الدنيا هو (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ). ويعرض لنا القرآن الكريم قصص الإيجابيين مثل مؤمن آل فرعون، في سورة غافر، الذي وقف ينصر جماعة موسى عليه السلام أمام طغيان نظام فرعون المستبد، ومثل الرجل الصالح، في سورة يس، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لنصرة أنبياء الله المستضعفين، ومثل تلك الجماعة التي أنكرت على أصحاب السبت فسادهم، في سورة الأعراف، وكان شعار هذه الجماعة المؤمنة هو الإعذار إلى الله، حيث لما قال السلبيون: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ قال الإيجابيون: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾. ومثل قصة هدهد نبي الله سليمان، في سورة النمل، ذلك الهدهد الذي طار إلى مملكة سبأ في جنوب الجزيرة العربية تاركاً سليمان في الشام، بغير تكليفٍ أو تنفيذٍ لأمرٍ صادرٍ له، ليأتي بخبر عظيم إلى القيادة أدى إلى دخول أمةٍ بأكملها في دين الله.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام الأسوة الحسنة والقدوة الملهمة؛ فالإسلام نادى به رجلٌ واحدٌ هو أعظم رجلٍ في تاريخ البشرية رسولنا الكريم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وعندما بدأ دعوته اتجه إلى جذب الأشخاص الإيجابيين إليه فبدأ بأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه والذي قام بمفرده بدعوة أغلب العشرة المبشرين بالجنة.
أما الأحاديث النبوية الشريفة التي تحثنا على الإيجابية فكثيرةٌ، منها ما يدعونا للتحلي بالإيجابية إزاء المنكر والتصدي له بالفعل أو بالقول أو بالقلب حسبما تسمح قدرة الإنسان؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان]. ويضرب النبي لنا مثلاً يبين أهمية أن يكون المسلم إيجابياً في تصرفاته؛ فقال صلى الله عليه وسلم: [مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة، بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً]. ويقول رسولنا الكريم حاثاً لنا على العمل الإيجابي: [لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطبٍ على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه]. وقد دعا الإسلام إلى تحمل المسئولية، فلا يقف المسلم من الأحداث موقفاً سلبياً؛ فالمسلم مسئول عن نفسه وعن زوجته وأبنائه وعن مجتمعه؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [كلكم راعٍ وكل راعٍ مسئولٌ عن رعيته، والأمير راعٍ والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته]. ومن بين ما يدعو إلى الإيجابية في علاقة المسلم بالمسلم قول رسولنا الكريم: [المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً]، وقوله: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه بها كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة]. والمسلم لا يقف موقفاً سلبياً عندما يقع ظلمٌ على أخيه المسلم؛ لقول رسولنا الكريم: [انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً] فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً، أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: [تحجزه أو تمنعه عن الظلم، فإن ذلك نصره]. ويُروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله لعلي رضي الله عنه: [فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمر النعم]. كما أن الإسلام يدعو المسلمين أن يكونوا أقوياء؛ لقول الرسول الكريم: [المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير]، وهذا ولا شك يدعو الإنسان للإيجابية والعمل. وتصل دعوة رسولنا الكريم لنا لنكون إيجابيين أقصاها حين يقول صلى الله عليه وسلم: [إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلةٌ فليغرسها] وهي دعوةٌ للعمل ولأن يكون الإنسان المسلم إيجابياً حتى ولو كان ذلك وقت قيام الساعة ونهاية الحياة على الأرض!

أحبتي .. فليبدأ كلٌ منا بنفسه ويرفع شعار (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)، فيصلح من نفسه ويعيد ضبط سلوكه ليتسق مع قيم ديننا الإسلامي الحنيف. 
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/mSaKtL




الجمعة، 24 مارس 2017

وصفة للتميز

الجمعة 24 مارس 2017م

خاطرة الجمعة /٧٦
(وصفة للتميز)

كنت قبل عدة شهور أقوم بتجميع مادةٍ لكتابٍ اعتزمنا، أنا وأخٌ عزيزٌ زميل مهنةٍ وصديق عمرٍ، إصداره عن موضوع التفوق الدراسي وكيف يمكن تحقيقه. اطلعت على عددٍ من الكتب والمراجع، وراجعت بعض البحوث التي نُشرت حول هذا الموضوع، واستفدت من الكثير من المناقشات التي دارت حوله في مواقع التواصل الاجتماعي، وبقي لي أن أسمع بشكلٍ مباشرٍ من بعض من تفوقوا دراسياً وأحرزوا مراتب متقدمةً عن أقرانهم عن أهم النصائح التي يمكن أن يقدموها لطلاب اليوم للأخذ بيدهم لإدراك النجاح والتفوق وتحقيق التميز، فقمت بإجراء بعض المقابلات الشخصية المقننة لعددٍ ممن أعلم شخصياً أنهم كانوا من الأوائل طوال فترة دراستهم، وخرجت من هذه المقابلات بعدة نصائح عمليةٍ مفيدةٍ تصلح أن تكون (وصفة للتميز) في أي مادة من المواد الدراسية المقررة، كانت أهم تلك النصائح:
المذاكرة اليومية، وليس قبل الامتحانات فقط، المراجعة كل فترة زمنية معينة لما قاموا بمذاكرته، التركيز أثناء المذاكرة، الجمع بين الاستذكار الجماعي والاستذكار الفردي، شرح المادة للآخرين من الطلاب، التقويم الذاتي قبل التقويم الرسمي، العلاقة الطيبة مع الأستاذ مدرس المادة، قراءة الكتاب الخاص به من أول كلمة في المقدمة إلى آخر كلمة فيه، حفظ الكتاب إن استطعت، أداء جميع التكليفات التي يطلبها أستاذ المادة في وقتها وبشكل متميز، الاهتمام بالمشاركة الشفوية في محاضرات الأستاذ. وكذلك الحرص على وجود علاقة شخصية متميزة مع الأستاذ في حدود علاقة الطالب بأستاذه، كالظهور أمام الأستاذ دائماً في أحسن مظهر، واحترامه والاستماع لتوجيهاته، والتأدب في التعامل معه.
وقد أكد هؤلاء المتميزون المتفوقون أنه قد ثبتت فعالية هذه النصائح واعتبروها بالفعل (وصفة للتميز)؛ اتبعوها فنجحوا وتفوقوا وصار بعضهم أساتذة جامعة مرموقين يُشار إليهم بالبنان.

أحبتي في الله .. لم يكن لنا نصيبٌ في استكمال مشروع الكتاب لأسبابٍ فنية، لكن بقي لي ما بذلته من جهد، استفدت من كل كلمةٍ قرأتها، وكل مرجعٍ اطلعت عليه، وكل دراسةٍ تابعت نتائجها. وما استفدته من المقابلات الشخصية مع الناجحين والمتفوقين كان أعظم. تأملت كثيراً فيما اعتبروه (وصفة للتميز) فإذا بفكري يذهب بعيداً، وإذا بقلبي يوافق فكري، وإذا بروحي تساير كلاً من فكري وقلبي فيما ذهبا إليه! ففي لحظة انكشافٍ روحانيةٍ لمعت الفكرة بخاطري في شكل سؤال: إذا كانت هذه (وصفة للتميز) وتحقيق النجاح في الحياة الدنيا فهل تصلح لضمان الفلاح والقبول لأعمالنا التي نعملها نبتغي بها وجه الله ولتكون رصيداً لنا في الحياة الآخرة؟!
ويا للعجب؛ فإن ما وجدته من تشابهٍ يصل إلى حد التطابق!

المذاكرة اليومية تقابل الاهتمام بالعبادات اليومية كالصلاة المفروضة على وقتها وصلاة الضحى وقيام الليل؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾. ليس قبل الامتحانات فقط تقابل ليس في مواسم الطاعات فقط كالصلاة أيام الجمع أو في شهر رمضان فقط. المراجعة كل فترة زمنية معينة لما قاموا بمذاكرته تقابل جبر كل تقصير في العبادات بالنوافل من صومٍ وصلاةٍ؛ يقول الله تعالى في الحديث القدسي: [ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيءٌ قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوعٍ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك]. التركيز أثناء المذاكرة، تقابل الخشوع في الصلاة والانتباه لروح العبادة والهدف منها؛ قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. الجمع بين الاستذكار الجماعي والاستذكار الفردي، تقابل الجمع بين الصلاة مع الجماعة والصيام مع الجماعة والحج مع الجماعة والعبادات الفردية من صلاةٍ وصومِ تطوعٍ وعُمرة. شرح المادة للآخرين من الطلاب، تقابل القيام بواجب الدعوة والبلاغ للآخرين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بلغوا عني ولو آية... ]. التقويم الذاتي قبل التقويم الرسمي، يقابل محاسبة النفس والشدة عليها وتدارك أي تقصيرٍ وحملها على وجوه الخير مهما كانت محفوفةً بالمكاره؛ يقول جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية}. العلاقة الطيبة مع أستاذ المادة، يقابله علاقة الإنسان المسلم بربه سبحانه وتعالى ثم علاقته بنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾، وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. قراءة الكتاب الخاص به من أول كلمة في المقدمة إلى آخر كلمة فيه، يقابلها الحرص على تلاوة القرآن الكريم؛ قال رسول صلى الله عليه وسلم: [اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه]. حفظ الكتاب إن استطعت، في مقابل حفظ القرآن الكريم أو ما تيسر منه؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة]. أداء جميع التكليفات التي يطلبها أستاذ المادة في وقتها وبشكل متميز، يقابلها أداء جميع العبادات التي أمرنا الله بها على أكمل وجه في الصلاة والصوم والحج والزكاة في أوقاتها المحددة ثم التميز بالنوافل وأعمال الخير والبر؛ ومن ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ [أفضل الصّلاة بعد الفريضة صلاة اللّيل]. الاهتمام بالمشاركة الشفوية في محاضرات الأستاذ، ويقابله الحرص على التواصل مع الله سبحانه وتعالى بالذكر والدعاء؛ يقول عز وجل: ﴿... وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. وكذلك الحرص على وجود علاقة شخصية متميزة مع الأستاذ في حدود علاقة الطالب بأستاذه، يقابلها التسليم بالقضاء والقدر والإيمان بالغيبيات؛ قال الله تعالى عن نفسه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾، وقال الله جل وعلا: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾. الظهور أمام الأستاذ دائماً في أحسن مظهر، يقابلها أخذ زينتنا عند كل مسجد والاهتمام بالطهارة والنظافة بشكل مستمر؛ قال المولى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ*قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾. واحترام الأستاذ والاستماع لتوجيهاته، يقابلها التسليم المطلق لله عز وجل نلتزم أوامره ونبتعد عما نهانا عنه؛ يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. والتأدب في التعامل مع الأستاذ، يقابله الذل لله والعبودية له وحمده وشكره على جميع نعمه وأفضاله؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾، ويقول: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ ، ويقول: ﴿إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾، ويقول: ﴿إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾.

أحبتي .. مر على خاطري هذا المثال، ولله المثل الأعلى، أفلا ترون معي أن ما اعتبره المتميزون (وصفة للتميز) في الحياة الدنيا يمكن اعتمادها (وصفة للتميز) تنفعنا ونحن نعد زادنا للحياة الآخرة؟
وإذا كان الأمر كذلك، فأيهما أهم؟ لو قارنا بين الدارين: الدنيا والآخرة، فلن نجد وجهاً للمقارنة إلا كمن يقارن بين: فانٍ وخالد، بين: مؤقتٍ ودائم، بين: قليلٍ وكثير، بين: رخيصٍ وغالٍ، بين: زائفٍ وحقيقي، بين: مظهرٍ وجوهر.
ليست هذه دعوةً لترك الدنيا، فنحن مأمورون بالعمل والتميز والتفوق والإجادة لكلا الدارين، وإنما هي دعوةٌ لجعل الدنيا مزرعةً للآخرة، نلقي بذور الخير الآن لنحصد في الدار الآخرة كل ما نتمنى من نعيم: جنةٍ عرضها كعرض السموات والأرض، ورؤية وجه الله سبحانه وتعالى، ومصاحبة الرسول الكريم، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
يقول أحد الصالحين: "الدنيا {منزل بالإيجار} مهما ظننت أنك تملكها فأنت واهم، ومهما فَعلت فيها فإنّك ستتركها يوماً ما .. والآخِرة {منزل تمليك} بيدك الآن بناؤه فلتُحسن البناء .. ستمكثون تحت الأرض زمناً لا يعلم مداه إلا الله، لن تتمكنوا فيه من أي عمل تنتفعون به ولو تسبيحة، فخُذوا من حياتكم لموتكم .. هناك أناسٌ بسطاء يعيشون معنا على الأرض، لا مال، ولا جاه، ولا منصب في هذه الدنيا الفانية، ولكن .. أملاكهم في السماء عظيمة، قصورهم تُبنى وبساتينهم تُزرع، فأكثروا من خبايا العمل الصالح".

أحبتي .. عليكم بهذه الوصفة، فهي (وصفة للتميز) في الدارين: الدنيا والآخرة. التزموا بها، وأوصوا بها أزواجكم وأبناءكم وأهليكم وكل من تحبون. جمعنا الله وإياكم في جنات النعيم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/CWB388

الجمعة، 17 مارس 2017

الخير والبركة

الجمعة 17 مارس 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٥
(الخير والبركة)

التقيت به قبل ثلاثين سنة في دارٍ حكوميةٍ للمسنين في منطقة Old Bridge بولاية New Jersey حيث كنت أقوم بزيارة إحدى قريباتنا المسنة وكانت تقيم بهذه الدار. الدار عمارةٌ سكنيةٌ تتكون من خمسة أدوار، تحيط بها الحدائق من كل جانب، مجهزةٌ بجميع الإمكانيات، الدور الأرضي مخصصٌ للاستقبال وبه عدة قاعاتٍ لمشاهدة التلفاز وللقاءات الجماعية والاحتفال بالمناسبات الاجتماعية ومكتبةٌ للقراءة والاطلاع. يتكون مبنى الدار من شققٍ مختلفة المساحات تم تزويد جميع الغرف والمطابخ ودورات المياه بأجهزة إنذارٍ مثبتةٍ في الأسقف تتدلى من كل جهازٍ منها سلسلةٌ رفيعةٌ طويلةٌ تكاد تلامس أرضية الشقة يسهل على المسن شدها في حالة الطوارئ فيأتي له المنقذون يدخلون الشقة بمفتاحٍ رئيسي Master Key خلال دقائق معدودة. توجد بالدار خدمات رعايةٍ صحيةٍ على مدار الساعة. وتقوم إدارة الدار بتنظيم أنشطةٍ اجتماعيةٍ وترفيهيةٍ للمسنين أبرزها حفلات السمر والرحلات الأسبوعية. في هذه الدار تم تخصيص الدور تحت الأرضي لغرف غسيل الملابس ينزل إليها المقيم بالدار وهو يحمل سلة ملابسه فيجد آلةً لبيع الصابون وأخرى لبيع ملطف الأنسجة ويجد الغسالات الآلية كما يجد مقاعد وأرائك وثيرةً للجلوس ورفوفاً بها أحدث المجلات الأسبوعية. ليس على المقيم سوى وضع العملات المعدنية سواءً لشراء الصابون أو الملطف أو تشغيل الغسالة؛ يضع كل شيء في المكان المخصص له، ويختار برنامج التشغيل المناسب لتبدأ الغسالة في العمل. يتناول إحدى المجلات ويجلس على المقعد أو الأريكة في انتظار انتهاء الغسالة من عملها، فإذا تصادف وجود أكثر من مسنٍ في غرفة الغسيل تكون فرصةً لهم لتبادل الأحاديث.
التقيت به مصادفةً في غرفة الغسيل، ورغم أني لا أعرفه ولا هو يعرفني فقد تبادلنا التحية. حينما جلسنا متجاورين في انتظار انتهاء غسالتينا من العمل بدأ يتحدث إلي شاكياً عقوق أبنائه، قال لي أنه في الثمانينات من عمره، زوجته متوفية، وله ثلاثة أولاد متزوجون يقيم كلٌ منهم في ولايةٍ غير التي يقيم فيها أخواه، وهو يعيش في هذه الدار، لا يسأل عنه أبناؤه إلا باتصالٍ هاتفيٍ أيام الأعياد فقط: عيد الشكر رابع يوم خميس في شهر نوفمبر، ويوم عيد الميلاد في الخامس والعشرين من ديسمبر، وقد يتذكرونه باتصالٍ آخر يوم عيد الاستقلال في الرابع من يوليو. يكتفون بمكالمةٍ هاتفيةٍ سريعةٍ لا تطفئ شوقه لهم. يتذكر أن أحدهم زاره في هذه الدار قبل ثلاث سنوات. قال لي وهو يحس بالمرارة أنه لا يعرف شكل أحفاده، وهو بالكاد يعرف أسماءهم. أخبرني أنه يتمنى أن يراهم جميعاً، أبناءه وأحفاده، قبل أن يموت. وما تزال كلماته التي قالها بأسىً ترن في أذني حتى الآن: "لم نقصر في رعايتهم وهم صغار، ثم عندما نكبر ونحتاج إليهم يأتون بنا إلى هذه الدور، يتركونا فيها حتى نموت". كنت أستمع إليه وأنا متأثرٌ مما يقول، لكني أعلم أن ما يحدث معه أمرٌ عاديٌ يحدث لكثيرٍ مثله؛ فحينما أردت أن أختار موضوع رعاية المسنين في الولايات المتحدة الأمريكية ليكون موضوع بحثٍ لي أثناء دراسة الماجستير لم يوافقني المشرف الأكاديمي بالجامعة وقال لي: "هذا جرحٌ في جسد الأمة لا نحتاج إلى وضع مزيدٍ من الملح عليه!". تذكرتُ وقتها تعاملنا في بلادنا العربية والإسلامية مع المسنين عامةً ومع الوالدين على وجه الخصوص، وقارنتُ بين نظرتهم في المجتمعات الغربية وبين نظرتنا نحن إلى كبار السن باعتبارهم (الخير والبركة) نعاملهم بما يستحقونه من تقدير واحترام؛ فحمدت الله كثيراً على نعمةٍ نحن فيها لا نُحس بها إلا عندما نشاهد بأنفسنا ما يعانيه غيرنا ممن فقدوا هذه النعمة.
تذكرتُ تلك الوقائع بعد مرور ثلاثين سنةً عندما سمعت أحد المسئولين يتحدث في التلفاز عن المسنين ويصفهم بأنهم "عبءٌ" ثقيل! يا إلهي! إلى أين نحن ذاهبون؟ هل نحن في طريقنا لاعتماد المنهج الغربي في التعامل مع المسنين في بلادنا الإسلامية؟! وهل هذا المنهج هو الذي يمثل قمة التقدم والرقي والحضارة؟!

أحبتي في الله .. للإجابة عن هذه التساؤلات علينا أن نعود إلى مرجعيتنا الأساسية، التي لا غنى لنا عنها، ولا بديل لأحكامها، نعود إلى شريعتنا الغراء لننظر أين نقف من تعاليم وتوجيهات ديننا الإسلامي الحنيف:
فعن رعاية الإسلام بالمسنين يقول علماؤنا أن الإسلام حرص أشد الحرص على العناية بالفرد داخل المجتمع، من وقت كونه جنيناً، فطفلاً، فشاباً، فرجلاً، بعد أن أعطاه قيمته الإنسانية؛ فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، فالإنسان في جميع مراحله محترمٌ ومكرمٌ لقيمته الإنسانية الذاتية، ويزداد ذلك الاحترام والتكريم بقدر ما يكتسب من الصفات الطيبة، وبقدر ما يعمل من أعمال البر والخير. إن الإسلام حفظ للإنسان كرامته، ووفَّاه حقه، فأمر بإكرامه عند شيبته وحث على القيام بشؤونه، وهو النموذج الذي جسدته ابنتا شعيب عليه السلام اللتان قالتا: ﴿لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾.
ولما كان حال الكبر هو مظنة الإهمال والضجر والغضب خصه سبحانه بالذكر وبمزيدٍ من العناية من بين سائر الحالات التي يمر بها الإنسان في حياته، قال سبحانه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. ووصف الله عز وجل مرحلة الكبر في القرآن الكريم بأنها عودة إلى أرذل العمر في قوله: ﴿واللهُ خَلَقَكُم ثمَّ يَتَوَفَّاكُم ومِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَي لا يَعلَمَ بَعدَ عِلمٍ شَيئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾؛ لذلك كانت الشيخوخة محل عنايةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: [رَغِمَ أنفُ ثم رغم أنفُ، ثم رغم أنفُ]، قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: [من أدرك أبويه عند الكبر - أحدهما أو كليهما - فلم يدخل الجنة]. وقال لرجلٍ استأذنه في الجهاد: [أحَيٌّ والداك؟] قال: نعم، قال: [ففيهما فجاهد].
والأمر لا يقف عند الوالدين إذا بلغا سن الشيخوخة بل يتعدى ذلك إلى كل كبيرٍ مُسّن، فيوجب له الاحترام ويجعل ذلك من الإسلام؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقَّر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينْهَ عن المنكر]. كما يوجب له الرعاية الاجتماعية والخلقية؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم]. ويَعِد الشاب البار الذي استجاب لأمر ربه بالجزاء الأوفى فيقول صلى الله عليه وسلم: [ما أكرم شابٌ شيخاً لسنه - أي في شيخوخته - إلا قيض الله له من يكرمه عند سنّه]. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يُسَلِّم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير]. كما قال: [أمرني جبريل أن أقدم الأكابر].
ومن سماحة الإسلام أنه راعى حق المسن في العبادات أيضاً، وأمر من يؤم الناس أن يراعي حال المسنين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء]. ومن باب التيسير ورفع الحرج جعل الإسلام للمسنين وغيرهم تشريعاتٍ خاصةً بهم، وحطّ عنهم الإثم في ترك ما لا يقدرون عليه؛ قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾. من تلك التشريعات: أجاز للمسن أن يفطر في نهار رمضان ويطعم إذا شق عليه الصيام؛ قال سبحانه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾. ورخص الإسلام للمسن المريض التخلف عن صلاة الجماعة، قال صلى الله عليه وسلم: [من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر]، قالوا: وما العذر؟ قال: [خوفٌ أو مرضٌ - لم تُقبل - منه الصلاة التي صلى]. بل رخّص للمريض - والمسن غالباً ما يصيبه المرض - أن يصلي بالكيفية التي يستطيعها إن تعذر عليه أو شق القيام، فإن لم يستطع أن يصلي قائماً قعد، فإن لم يستطع قاعداً فعلى جنبه؛ قال صلى الله عليه وسلم لمريض: [صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب]. وأوجب الإسلام الحج على المستطيع، فإن بلغ بالمسن العمر فشاخ وهَرِم فلم يستطع الحج لم يجب عليه الحج، لكنه مقصرٌ لأنه أَخَّرَه إلى وقتٍ لا يستطيعه فيه، ما لم يكن أخَّره لعذر، وحين زال العذر بلغ الهرم وخارت قواه ولم يملك مالاً ليُنيب عنه غيره فعندها فقط يسقط عنه الحج.

أحبتي .. أي رقيٍ وأي تحضرٍ وأية إنسانية أكثر من ذلك؟ علينا فقط أن نحافظ على قيمنا الإسلامية السامية، وأن نحسن لوالدينا ولكبار السن من الأهل والجيران وغيرهم فهم (الخير والبركة) وفيهم فلنجاهد. وليعلم كلٌ منا أنه قادمٌ بإذن الله إلى محطة الشيخوخة حين يمضي به قطار الحياة، وعليه من الآن أن يُحْسن لوالدَيه؛ حتى يجد مِن أبنائه مَن يحسن إليه ويرعاه عندما يصل هو يوماً إلى نفس المحطة، وأن يحسن إلى المسنين فيحترمهم ويوقرهم ويقدم لهم كل ما يستطيع أن يقدمه لهم من أشكال الرعاية، فهذا من أعظم أعمال البر والإحسان.
أحبتي .. احكموا بأنفسكم .. ما هو المنهج الأفضل والأرقى: المنهج الغربي أم المنهج الإسلامي في هذا المجال؟
انظروا ماذا يحدث عندما يلتزم المسلمون بمبادئ الإسلام وشريعة الله؛ فمما يُروى أن امرأةً فرنسيةً أخذت ولدها البالغ من العمر (14) عاماً إلى المركز الإسلامي بباريس من أجل أن يدخل في الإسلام، فلما وصلا للمركز دخل الصبي على إمام المركز وقال له: أمي تقول لك ساعدني للدخول في الإسلام. فسأله الإمام: وهل تريد أنت أن تدخل في الإسلام؟ فقال: أنا لم أفكر في هذا الأمر، ولكن أمي هي التي تريد لي ذلك. فاستغرب الإمام من إجابته وقال له: وهل أمك مسلمة؟ رد عليه الصبي: لا، ولا أعرف لماذا تريدني أن أدخل في الإسلام!! سأله الإمام: وأين أمك؟ قال: هي معي الآن تنتظرني خارج المسجد. فقال الإمام: اذهب وأحضرها حتى أتحدث معها. فخرج الصبي ورجع مع أمه. قال لها الإمام: هل صحيحٌ ما سمعته من ابنك بأنك لستِ مسلمةً وتطلبين منه أن يدخل في الإسلام؟ قالت: نعم هذا صحيح. فاستغرب الإمام من إجابتها وسألها: ولماذا؟، قالت: لأني أسكن بعمارةٍ في باريس وفي الشقة التي أمامي تسكن امرأةٌ مسلمةٌ مسنةٌ لها ولدان يدرسان في الجامعة، وفي كل صباحٍ ومساءٍ أشاهد الولدين كلما خرجا من المنزل أو رجعا يقبلان رأس أمهما ويدها، ويعاملانها باحترامٍ شديدٍ وكأنها رئيسة دولة، فأحببت أن يدخل ابني في الإسلام حتى إذا كبرت لا يرميني في دور المسنين وتهتم بي الدولة، وإنما يعاملني مثلما يعامل المسلم أمه!

أحبتي .. لا يسعني أن أنهي الحديث عن المسنين بغير أن أوجه دعوةً مفتوحةً لكل مسئولٍ في جميع جهات العمل للاستفادة من خبرات كبار السن الذين أحيلوا إلى التقاعد؛ شكلوا منهم لجان عملٍ تطوعيٍ في مجالات التخصص المختلفة، يقومون من خلالها بالدراسة وإبداء الرأي وتقديم المقترحات والتوصيات في مختلف المشرعات: الهندسية والصناعية والطبية والتربوية والاجتماعية والزراعية وغيرها من المجالات. إنهم بمثابة بيوت خبرةٍ وطنيةٍ متميزة تعمل بإخلاص تعطيكم رحيق خبراتها بدون تكلفةٍ تُذكر. المسنون هم (الخير والبركة) لأسرهم وللقريبين منهم، وهم مخزونٌ استراتيجيٌ هائلٌ للعلم والمعرفة وخبرات الحياة لمجتمعاتهم وأوطانهم؛ ينبغي الاستفادة منهم بدلاً من إهمالهم. استعينوا بهم في لجانٍ استشارية. إنهم ثروةٌ قوميةٌ لا تقدر بمال، استفيدوا منهم في مجالات التطوير والتحسين كلٌ في مجال اختصاصه؛ فقد كانوا يشغلون وظائف قيادية وإشرافية وأصبحوا الآن خبراء في مجالات تخصصهم يجمعون بين الخبرة والحكمة. لا تضيعوا على المجتمع الكثير من النفع والفائدة إذا أنتم أهدرتم هذه الفرصة. انظروا إليهم على أنهم أنتم أنفسكم عندما تُحالون إلى التقاعد، وعاملوهم كما تحبون أن تُعامَلوا وقتها!
وفروا للمسنين الإطار القانوني اللازم وأماكن العمل ووسائل الانتقال، سيُدهشكم حماسهم وعطاؤهم، وتُبهركم آراؤهم وأفكارهم ومقترحاتهم! وهم لا ينتظرون منكم سوى أن تقدموا لهم التقدير الأدبي بالشكر والعرفان!

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إن أَذِنَ الله وأَمَّدَ في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

                                          http://goo.gl/6RUh6N