الجمعة، 15 فبراير 2019

حصنوا أموالكم


الجمعة 15 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٤
(حصنوا أموالكم)

قصةٌ حقيقيةٌ وقعت أحداثها في المملكة العربية السعودية؛ حين اتخذت إدارة إحدى كليات البنات قراراً بأن يتم تفتيشٌ مفاجئٌ لحقائب الطالبات داخل القاعات. وبالفعل شُكلت لجنةٌ للتفتيش، وبدأ التفتيش عن كل ما هو ممنوعٌ كالهواتف المتحركة، كاميرات التصوير، الصور، الرسائل، وغير ذلك من ممنوعات. كان الأمن مستتباً، والوضع يتسم بالهدوء، والطالبات يتقبلن هذا التفتيش بتفهمٍ ورحابة صدر. أخذت اللجنة تجوب القاعات بكل ثقةٍ وتخرج من قاعةٍ لتدخل أخرى، وحقائب الطالبات مفتحةً أمامهم، وكانت خاليةً إلا من بعض الكتب والأقلام والأدوات اللازمة للكلية. انتهى التفتيش من كل القاعات، ولم تبقَ إلا قاعةٌ واحدةٌ، حيث كانت هي موقع الحدث؛ حيث دخل أعضاء اللجنة إلى هذه القاعة بكل ثقةٍ كما هي العادة، استأذنوا الطالبات في تفتيش حقائبهن، وبدأ التفتيش. كان في طرفٍ من أطراف القاعة طالبةٌ جالسةٌ، وكانت تنظر للجنة التفتيش بطرفٍ عينها ويدها على حقيبتها، وكان قلقها يزداد كلما اقترب دورها، فماذا كانت تخبئ داخل الحقيبة يا ترى؟ ما هي إلا لحظاتٌ وإذا باللجنة تريد تفتيش الطالبة، التي أمسكت حقيبتها بشدة، وكأنها تقول: "والله لن تفتحوها". طلبت المفتشة منها فتح حقيبتها، فرفضت الطالبة وضمت الحقيبة إلى صدرها. حاولت المفتشة سحب الحقيبة بالقوة، والطالبة تصرخ ويزداد تمسكها بحقيبتها. بدأ عراكٌ وتشابكت الأيادي والحقيبة لا تزال بعيدةً عن يد المفتشة. دهشت الطالبات واتسعت أعينهن، ووقفت المحاضرة ويدها على فمها. ساد صمتٌ عجيبٌ في القاعة. يا إلهي ماذا يحدث؟ ما هو الشيء الذي تحاول الطالبة إخفاءه داخل الحقيبة؟ بعد مداولاتٍ بين أعضاء اللجنة اتفقوا على اصطحاب الطالبة وحقيبتها إلى إدارة الكلية لاستئناف التفتيش والتحقيق مع الطالبة. دخلت الطالبة إلى مقر الإدارة ودموعها تنهمر كالمطر، أخذت تنظر في أعين الحاضرات نظراتٍ مليئةٍ بالخوف والغضب لأنهن سيفضحنها أمام الملأ. أجلستها المديرة، وهدأت الموقف، وعندما هدأت الطالبة سألتها المديرة: "ماذا تخبئين يا ابنتي؟"، هنا، وفي لحظةٍ صعبةٍ عصيبةٍ فتحت الطالبة حقيبتها. يا إلهي ..... ما هذا؟! لم يكن في الحقيبة أية ممنوعات أو أشياء محرمة؛ لا جوالات ولا صور. لم يكن فيها إلا بقايا من السندوتشات! نعم هذا هو كل ما كان موجوداً بحقيبة الطالبة! وبعد سؤال الطالبة عن هذه البقايا، قالت بعد أن تنهدت: "هذه بقايا ساندوتشات زميلاتها التي يرمين بها بعد فطورهن؛ حيث يتبقى من الساندوتش نصفه أو ربعه، فأجمع هذه البقايا وأفطر ببعضها، وأحمل الباقي إلى أهلي؛ إلى أمي وأخواتي في البيت ليكون لهم الغداء والعشاء؛ لأننا أسرةٌ فقيرةٌ ومعدومةٌ، ليس لنا أحدٌ، ولا يسأل عنا أحدٌ، وكنت مضطرةً لمنع لجنة التفتيش من فتح حقيبتي كي لا أُحرج أمام زميلاتي في القاعة؛ فعذراً على سوء الأدب معكن". في هذه الأثناء انفجر الجميع بالبكاء، وطال البكاء أمام هذه الطالبة المسكينة.

أحبتي في الله .. هذا الموقف الصعب والمشهد المؤلم ما كان يمكن أن يحدث لو أن كلاً منا أخرج زكاة ماله، ما كان لفقيرٍ أن يقتات على بقايا طعام غيره، ولا كان لمسكينٍ أن يبيت هو وأسرته من غير عشاءٍ، ولا لمتسولٍ أن يجوب الشوارع يمد يده يسأل الناس إلحافاً. إنه مشروعٌ تعبديٌ اقتصاديٌ اجتماعيٌ ينبغي ألا يتخلف أي مسلمٍ عن المشاركة الطوعية فيه، يتم تنفيذه تحت شعار (حصنوا أموالكم).
ليس هذا اجتهاداً فكرياً ولا هو تصورٌ نظريٌ، بل هو مشروعٌ يمكن إعادة تنفيذه حيث كان قد سبق تطبيقه بالفعل في عهد الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز، فبعد أن تولى الخلافة بسنتين وخمسة أشهرٍ وخمسة أيامٍ فقط، كتب إلى واليه بالعراق: أن أخرج للناس أعطياتهم -ما يستحقونه من زكاة-، فكتب إليه الوالي: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال، فكتب إليه عمر: أن انظر كل من أدان في غير سفهٍ ولا سرفٍ فاقضِ عنه، قال: قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن زوِّج كل شابٍ يريد الزواج، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن انظر من كانت عليه جزيةٌ - من أهل الكتاب - فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه.
هذا ما حدث حين عرف كل مسلمٍ ما له وما عليه؛ فأدى الجميع حقوق الفقراء ودفعوا زكاة أموالهم ليكفلوا غيرهم من الفقراء وذوي الحاجة حتى اختفى الفقر من دولة الإسلام. إنه مشروعٌ نرى أننا في أشد الاحتياج إليه.

يقول أهل العلم أن الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة،‏ وعمودٌ من أعمدة الدين التي لا يقوم إلا بها، ‏يُقاتَلُ مانعها، ‏ويُكَّفَر جاحدها، ‏فُرضت في العام الثاني من الهجرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ].
تتضح أهمية الزكاة بأن الله عزّ وجلّ أمر بوجوبها وقرنها مع الصلاة في مواقع كثيرةٍ في القرآن الكريم للدلالة على عظم منزلتها؛ منها قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ﴾.

وللترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةَ، وَاسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ الْبَلاءِ بِالدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ].
وللترهيب من منع الزكاة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَانِعُ الزَّكاةِ يَومَ القِيامَةِ في النَارِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما منَعَ قَومٌ الزَّكاةَ إلاّ ابتلاهُم اللهُ بالسِّنين]. وفي روايةٍ: [وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ].

والزكاة في اللغة تعني البركة والطهارة والنماء والصلاح‏.‏ وسميت الزكاة لأنها تزيد في المال الذي أُخرجت منه،‏ وتقيه الآفات‏.
والحكمة من مشروعيتها أنها تُصلح أحوال المجتمع مادياً ومعنوياً فيصبح جسداً واحداً متماسكاً، ‏وتطهر النفوس من الشح والبخل، ‏وهي صمام أمانٍ في النظام الاقتصادي الإسلامي ومدعاةٌ لاستقراره واستمراره، وهي من أعلى درجات التكافل الاجتماعي، ‏كما أنها عبادةٌ ماليةٌ، ‏وهي سببٌ لنيل رحمة الله تعالى‏؛ ‏ قال تعالى‏: ﴿‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏﴾‏،‏ وشرطٌ لاستحقاق نصره سبحانه‏؛ ‏ قال تعالى‏:‏ ‏﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ  . الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ‏﴾،‏ وصفةٌ من صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس؛ ‏قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ‏﴾.
وصدق الشاعر حين قال:
لا تخزنوا المالَ لقَصْدِ الغنى
وتطلبـوا اليسـرى بعسـراكمْ
فـذاكَ فــقـرٌ لـكمْ عـاجـلٌ
أعـاذنـا اللّـهُ وإِيــــاكـمْ
ما قــالَ ذو العـرشِ اخزنـوا
بـل أنفـقـوا ممـا رُزَقْــناكم

أحبتي .. لو أن الزكاة أصبحت مشروع كل مسلم، ما وُجد إنسانٌ مسلمٌ محتاج. فليسارع كلٌ منا إلى إخراج زكاته في موعدها وفي مصارفها الشرعية؛ بذلك نرضي ربنا. أحبتي (حصنوا أموالكم) بالزكاة؛ فبها تطهر أموالنا؛ وتربو وتزداد أرزاقنا. كما أننا اليوم نساعد غيرنا ونحن قادرون، ومن يعلم ربما أصبحنا غداً مثلهم واحتجنا لمن يساعدنا؛ ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾. ولنعلم أيها الأحبة أن المال مال الله، ونحن مستخلفون فيه، ومحاسبون عليه. والزكاة ليست منةً منا ولا تفضلاً ولا هي إحسان، وإنما هي حقٌ لمستحقيها؛ علينا أن نؤديه بحبٍ وإخلاصٍ ورضا نفسٍ، كما أن علينا أن نحس تجاه متلقي زكاة أموالنا بالشكر والامتنان أن كانوا سبباً في حصولنا على الأجر والثواب بإذن الله.
قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم وَاسمَعوا وَأَطيعوا وَأَنفِقوا خَيرًا لِأَنفُسِكُم وَمَن يوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾؛ اللهم قنا شح أنفسنا لنكون من المفلحين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/PM46FB



الجمعة، 8 فبراير 2019

التعود على النعمة


الجمعة 8 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٣
(التعود على النعمة)

هذه قصةٌ واقعيةٌ حدثت مع خير البشر؛ مع النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومع اثنين من أقرب الصحابة إليه: أبي بكرٍ الصديق، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: [مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ؟] قالا: الجوعُ يا رسول الله. قال: [وَأَنا، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَخْرَجَني الَّذِي أَخْرَجَكُما، قُوما] فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَيْنَ فُلانٌ؟] قالت: ذهب يستعذبُ لنا الماء، إذ جاء الأنصاريُ فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمدُ لله، ما أحدٌ اليوم أكرمَ أضيافاً مني. فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بُسْرٌ وتمرٌ ورطبٌ، فقال: كلوا، وأخذ المُدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكَ وَالحَلُوبَ] فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العِذْقِ وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما: [وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذَا النَّعيمِ يَوْمَ القِيامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هذا النَّعِيمُ].

وفي روايةٍ: قال صلى الله عليه وسلم: [هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسألون عَنْهُ].
وفي روايةٍ: مرّ عليه الصلاة والسلام حتى دخل حائطاً لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: [أطْعِمْنا بُسْرًا]، فجاء بعذقٍ فوضعه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم دعا بماءٍ باردٍ فشرب، فقال: [لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ]، فأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض حتى تناثر البسر، ثم قال: يا رسول الله، إنا لمسئولون عن هذا؟ قال: [نَعَمْ، إلا مِنْ كِسْرَةٍ يُسَدُّ بِها جَوْعَةٌ، أوْ حُجْرٌ يُدْخَلُ فِيه مِنَ الحَرِّ والقَرِّ]. وفي روايةٍ: [نَعَمْ، إلا مِنْ ثَلاثَةٍ: خِرْقَةٍ كَفَّ بِها عَوْرَتَهُ، أو كِسْرَةٍ سَدُّ بِها جَوْعَتَةُ، أوْ جُحْرٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الحَرِّ والقَرّ].
ولما نزلت الآية: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ قالت الصحابة: يا رسول الله، وأي نعيم نحن فيه، وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: [أَلَيْسَ تَحْتَذُونَ النِّعَالَ، وَتَشْرَبُونَ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ].

أحبتي في الله .. تصوروا أن هذا كان حال هذا سيد الخلق أجمعين؛ الذي عرض عليه كفار قريش أن يجمعوا له مالاً كثيراً ليكون أغنى الناس، وعرضوا عليه مُلكاً ليكون أعز الناس، على أن يترك أمر الرسالة فرفض، وقال لهم قولته المشهورة: [وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْته]. تخيلوا للحظاتٍ أن هذا كان حال أعظم من أنجبتهم البشرية منذ الأزل وإلى الأبد؛ النبي الكريم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين، يعانون من الجوع ولا يجدون ما يسد رمقهم!
قارنوا بين حياة هؤلاء الذين عانوا شظف العيش والجوع والعطش والبطش والتكذيب والتهجير وكل صنوف العذاب، وبين حياتنا نحن الآن حيث الإسراف والتبذير في كل شيئٍ من: مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومسكنٍ ووسائل نقلٍ وأدوات ترفيهٍ وأمنٍ ونعمٍ كثيرةٍ لا تُعد ولا تُحصى.
هل أحسسنا بكل هذه النعم الظاهرة؟ هل شعرنا بكل النعم الباطنة؟ هل شكرنا المنعم على جميع نعمه وأفضاله؟

يقول أحد الصالحين هناك مرضٌ صامتٌ من أشد الأمراض فتكاً، لا تُرى له ملامح، ولا تشعر له بأية أعراض. إذا تمكن منك فسوف يضرك ضرراً شديداً.
هذا المرض الخطير هو مرض (التعود على النعمة)، وله مظاهر منها: أن تألف نِعمَ اللهِ عليك وكأنها ليست بِنِعَم، وتفقد الإحساس بها، كأنها حقٌ مكتسب. وأن تتعود الدخول على أهل بيتك وتجدهم بخيرٍ وفي أحسن حال، فلا تحمد الله. وأن تذهب للتسوق، وتضع ما تريد في العربة وتدفع التكلفة وتعود لمنزلك دون أدنى إحساسٍ بالمنعم وشكره، لأن هذا شيئٌ عاديٌ. وأن تستيقظ كل يومٍ وأنت في أمانٍ وصحتك جيدةٌ لا تشكو من شيءٍ، دون أن تحمد الله. انتبه! فأنت في هذه الحالات والله في خطر!
إذا أَكلتَ وهناك من بات جائعاً، أو من يملك طعاماً ولا يستطيع أن يأكله، فاحمد الله وأشكره كثيراً. أن تدخل بيتك وقد أنعم الله عليك بالستر والمودة، بوجود أمٍ أو أبٍ أو زوجةٍ وأطفالٍ بصحةٍ وفي أفضل حالٍ، فاحمد الله واشكره كثيراً.
لا تجعل الحياة تُرغمك أن تألف النعم، بل ارغم أنت حياتك أن تألف الْحَمْد والشكر لهذا الإله العظيم؛ فإذا سُئِلت عن حالك؟ لا تقل: لا جديد؛ فأنت في نعمٍ كثيرةٍ لا تحصيها، قد جدَّدها الله لك في يومك هذا، وواجبٌ عليك حمده وشكره؛ فغيرك قد حُرِمها في يومه ذاك!
فكم من آمنٍ أصبح خائفاً، وكم من صحيحٍ أصبح سقيماً، وكم من عاملٍ أصبح عاطلاً، وكم من غَنيٍ أصبح محتاجاً، وكم من مبصرٍ أصبح أعمى، وكم من متحركٍ أصبح عاجزاً. وأنت جُدِّدَت لك كل تلك النعم، فَقُل الحمد لله على ما أعطى وأبقى.

يقول أهل العلم أنه ورد في القرآن الكريم ما يُذَكِّر النّاس بفضل ربّهم ونِعمه عليهم، وكثُرت الآيات الكريمة التي عدّدت تلك الفضائل والنعم، وبعد فيض النِّعم التي ذُكرت في القرآن جُملةً أو مُفصّلةً قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحصوها إِنَّ اللهَ لَغَفورٌ رَحيمٌ﴾؛ فنِعم الله سبحانه وتعالى على عباده عظيمةٌ وجليلةٌ لا يُحصيها من أراد ذكرها وتعدادها، وقد أوجب الشكر عليها ومَدَح الشّاكرين، وذَمَّ جحود النّعم وكفرانها، حيث قال: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ وقال أيضاً: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.

وأخبر الله تعالى عباده أنّهم محاسبون يوم القيامة عن كلّ نِعمة تقلّبوا فيها في الحياة الدّنيا، حيث قال: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، فكان ذلك الإخبار حُجّةً على الإنسان أنّه سيُسأل عن النّعم التي أوتيها في الحياة الدنيا. يقول المفسرون لهذه الآية الكريمة إن الله سبحانه وتعالى يسأل كل ذي نعمةٍ عما أنعم عليه من كل أنواع النعيم الذي تَنَعَّم به في دار الدنيا، هل قام بشكره، وأدى حق الله فيه، ولم يستعن به على معاصيه، فينعمه نعيماً أعلى منه وأفضل؟ أم اغتر به، ولم يقم بشكره؟ بل ربما استعان به على معاصي الله فيعاقبه على ذلك، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾.
والمراد بالنعيم: ما يتنعم به الإِنسان خلال حياته الدنيوية من مالٍ وولدٍ، ومن طعامٍ وشرابٍ، ومن متعةٍ وشهوةٍ. قيل أن النعيم هو ما يُسَد به الجوع، وما يُدفَع به العطش، وما يُستَكَن فيه من الحر، وتُستَر به العورة. وقيل أن النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار. وقيل هو الأمن والرزق والمال والفراغ. وقيل أنه شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخُلُق، ولذة النوم، والتلذّذ حتى عن شَربةِ عسل. هو بالإجمال كل لذةٍ من لذات الدنيا.
ثم إننا سنُسأل يوم القيامة عن ألوان النعم التي منحنا الله تعالى إياها، فمن أدى ما يجب عليه نحوها، من شكر الله تعالى عليها كان من السعداء، ومن جحدها وشغلته عن طاعة ربه، وتباهى وتفاخر بها، وربما استعان بها على معصية الله كان من الأشقياء. الكل سيُسأل، ولكن سؤال المؤمن سؤال تشريفٍ لأنه شكر، وسؤال الكافر سؤال توبيخٍ لأنه قد ترك الشكر.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أولَ ما يُسْأَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أنْ يُقَالَ لَهُ: ألَم نُصِحَّ لَك جِسْمَكَ، وَتُروَ مِنَ الماءِ البارِدِ؟].
وقال صلى الله عليه وسلم: [النَّعِيم المَسْئُولُ عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ: كِسْرَةٌ تُقَوّيهِ، وَماءٌ يُرْوِيهِ، وَثَوْبٌ يُوَارِيهِ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ النَّعِيمِ].



قال أهل العلم أن المؤمن يعيش دائماً وأبداً مع المنعم، ويعيش الكافر دائماً وأبداً مع النعمة، يستغرق فيها، وينغمس فيها، ويفعل فيها الحرام، هي كل دنياه، إلهه شهوته، لكن المؤمن يعيش مع المنعم، مع خالق النعمة، مع الذي سخرها له، مع الذي أعطاه إياها.
إن في حياة الإنسان نعماً كثيرةً قد لا ينتبه إليها، بحكم (التعود على النعمة). من بين هذه النعم نعمة الصحة، وسوف تُحاسب عنها، أنت بكامل أعضائك، وبكامل حواسك، وبكامل تفكيرك، تتحرك، وتنام، وتستيقظ، وتنظف نفسك بيدك، لستَ بحاجةٍ إلى أحد، ترى، وتسمع، وتفكر، وتعقل، وتشم، وتنطق، وتتكلم. جوارحك كلها سليمةٌ: فهذه العين؛ كيف استخدمتَها؟ هل نظرتَ إلى ما حرَّم الله أم نظرتَ إلى آيات الله؟ هل غضضتَ بصرك عن محارم الله أم نظرتَ إلى الحرام؟ وهذه الأذن؛ إلى ماذا استمعتَ بها؟ هل استمعتَ إلى ما لا يرضي الله؟ أم استمعتَ إلى الحق؟ وهذا اللسان؛ كيف يتحرك؟ بالغيبة، بالنميمة، بالكذب، بالبهتان، بالسخرية؟ أم بقول الحق، ونشر العلم، وذِكر الله عز وجل؟
ومن النعم المغبون فيها الإنسان نعمة الفراغ؛ عندك وقت فراغٍ كيف أمضيتَه؟ في اللهو واللعب، في القيل والقال، في إيذاء الناس؟ أم أمضيتَ هذا الوقت الثمين في مجلس علمٍ، مجلس ذكرٍ، في طاعةٍ، في عملٍ صالحٍ، في توفيقٍ بين اثنين، في كلمةٍ طيبةٍ تلقيها على الناس، في خدمةٍ لإنسانٍ ضعيف، في معونةٍ لإنسانٍ فقير، في معاونة أرملةٍ أو مسكينٍ؟ ونعمة الكفاية؛ عندك ما تأكل، عندك بيتٌ تسكنه، عندك زوجةٌ تحصنك، عندك ولدٌ يعينك. هذه كلها، وغيرها من نعيم الدنيا سوف تُسأل عنها يوم القيامة.

أحبتي ..  انتبهوا حتى لا تصابوا بمرض (التعود على النعمة). حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، الكَيِّسُ من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

اللهم أَدِمْ علينا نِعَمك ظاهرةً وباطنةً، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء. اللهم لك الحمد حمداً يوافي نعمك ويدفع نقمك ويكافئ مزيدك.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. اللهم إنك قلت وقولك الحق: ﴿لئِن شكرتمْ لأزيدنَّكُم﴾.
اللهم كما رزقتنا النعم، فارزقنا شكرها، واجعلنا حامدين شاكرين فضلك علينا، واجعلنا ممن قلت فيهم: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾. اللهُم اجعلنا جميعاً من عبادك الشاكرين الذاكرين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/1rXHC3

الجمعة، 1 فبراير 2019

إياكم والظلم


الجمعة 1 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٢
(إياكم والظلم)

بدأ الرجل يروي لنا قصته بهذه العبارة: "من رآني فلا يظلمن أحداً"، يقول الرجل وهو يبكي أنه كان جباراً من الجبابرة، يساعد الظالمين على ظلمهم للناس، وكان أكثرهم ظلماً، وذات يومٍ وبينما هو يتمشى على شاطئ بحيرةٍ رأى صياداً حالفه الحظ في اصطياد سمكةٍ كبيرةٍ جداً، رأى الظالم السمكة فأُعجب بها واندهش من حجمها الكبير، يقول إنه لم يرَ مثلها من قبل، توجه إلى الصياد وقال له بأسلوبٍ غير لائقٍ: "أعطني هذه السمكة يا رجل؛ لأنه ليس من حقك أن تصطاد هنا"، فقال الصياد: "هذا قوت أبنائي الصغار، وليس لدي شيءٌ آخر أقوم به غير عملي هذا" ، فقام الرجل الظالم بضربه، وأخذ السمكة منه بالقوة، وألقاه في البحيرة ومضى في طريقه، وبينما هو عائدٌ إلى البيت فتحت السمكة، بقدرة الله، فمها وعضت يده عضةً قويةً، وعندما وصل إلى البيت ألقى بها من يده؛ فضربت  إبهامه وتسببت له في جرحٍ خطيرٍ وألمٍ شديدٍ جداً لدرجة أنه لم ينم ليلتها نتيجة الألم، وعندما حل الصباح  ذهب الرجل إلى الطبيب يشكو إليه، فقال له الطبيب : "هذه بداية الآكلة؛ ولا بد من قطع الإبهام فوراً، وإذا لم نقطع الإبهام في أقل من يومين من الممكن أن نضطر إلى قطع ذراعك بالكامل!". عاد الرجل إلى بيته محتاراً في أمره لا يدري ماذا يصنع، وبعد مرور الساعات بدأت يده تؤلمه بشدة، بعدها بدأ الألم ينتشر في جسمه بأكمله فتوجه الرجل للمستشفى يستغيث بالطبيب؛ فنصحه الطبيب بقطع يده إلى أعلى الكتف، وبالفعل قَبِل الرجل هذه المرة ما قرره الطبيب، فقام بقطع يده إلى الكتف. وحينما كان الناس يسألونه ما الذي حصل له حتى قُطعت يده، كان يرد وهو يبكي: "إنه صاحب السمكة!". وذات يومٍ حكى الرجل قصته لأحد الشيوخ فقال له: "لو كنتَ بحثتَ عن الصياد صاحب السمكة وتحللتَ منه لما قُطعت يدك"، ونصحه بالبحث عن الرجل وطلب عفوه ومسامحته حتى لا يزيد الألم بالنشر في جسمه بالكامل. وبالفعل خرج الرجل يبحث عن الصياد صاحب السمكة في جميع أرجاء المدينة حتى وجده، فانكب على قدميه يقبلها، ويبكي بحرقةٍ، وأخد يستحلفه بالله أن يسامحه ويعفو عنه، استغرب الصياد من الأمر وسأله: "من أنت؟"، فقال له الرجل: "أنا الذي أخذتُ منك سمكتك منذ وقتٍ بعيدٍ"، وقصَّ له ما وقع له بسبب السمكة من البداية للنهاية، فأخذ الصياد يبكي لما وقع للظالم من بلاءٍ، وقال له أنه قد سامحه، فسأله: "أستحلفك بالله؛ ما قلتَ فيّ يوم أخذتُ منك السمكة بالقوة؟"، أجاب الصياد: "قلت فيك وقتها يا ربِ إن هذا الظالم ظلمني وأخد مني رزق أولادي وتغلب عليّ بقوته، فأرني قوتك فيه يا رب العالمين“.

هذه قصةٌ يتداولها الناس عن الظلم، أما الواقع الذي نعايشه ويجعلنا نقول بأعلى صوتٍ لكل من نعرفه ومن لا نعرفه (إياكم والظلم) فهو شاهدٌ حيٌ على أن عاقبة الظلم وخيمةٌ؛ فهذا ظالمٌ لم يمت إلا بعد أن أذله الله، وهذا نهش جسمه المرض العضال قبل أن يموت، وذلك غرق وهو يسبح في مصيفه، والآخر انقلبت به سيارته، وغيرهم كثيرٌ وكثيرٌ؛ علَّ الظالم يتعظ، وعسى المفتونين بقوة أي ظالمٍ وجبروته أن يعتبروا.

أحبتي في الله .. إن الله سبحانه وتعالى لا يَظلم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظلِمُ مِثقالَ ذَرَّةٍ﴾، ولا يرضى الظلم لعباده؛ قال تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ يُريدُ ظُلمًا لِلعالَمينَ﴾، بل وحرَّم الظلم على نفسه وجعله بيننا مُحَرَّماً؛ يقول تعالى في الحديث القدسي: {يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا}.

ووردت في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تنهى عن الظلم وتحذر من عواقبه الوخيمة؛ من ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَرسَلنا عَلَيهِم رِجزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانوا يَظلِمونَ﴾ وقوله: ﴿وَأَخَذنَا الَّذينَ ظَلَموا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانوا يَفسُقونَ﴾، وقوله: ﴿وَلَقَد أَهلَكنَا القُرونَ مِن قَبلِكُم لَمّا ظَلَموا﴾، وقوله: ﴿وَتِلكَ القُرى أَهلَكناهُم لَمّا ظَلَموا﴾، وقوله: ﴿فَتِلكَ بُيوتُهُم خاوِيَةً بِما ظَلَموا إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَومٍ يَعلَمونَ﴾، وقوله كذلك: ﴿فَكُلًّا أَخَذنا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَن أَرسَلنا عَلَيهِ حاصِبًا وَمِنهُم مَن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَن خَسَفنا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَن أَغرَقنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ﴾.

ووصف سبحانه الظالمين بأنهم لا يفلحون؛ قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظّالِمونَ﴾، وبَيَّن لنا أن الظالم من الخاسرين الخائبين؛ قال تعالى: ﴿وَعَنَتِ الوُجوهُ لِلحَيِّ القَيّومِ وَقَد خابَ مَن حَمَلَ ظُلمًا﴾، وتوعد الذين ظلموا بالعذاب يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿فَوَيلٌ لِلَّذينَ ظَلَموا مِن عَذابِ يَومٍ أَليمٍ﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذينَ يَظلِمونَ النّاسَ وَيَبغونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ أُولئِكَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَظلِم مِنكُم نُذِقهُ عَذابًا كَبيرًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ لِلَّذينَ ظَلَموا عَذابًا دونَ ذلِكَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَنَقولُ لِلَّذينَ ظَلَموا ذوقوا عَذابَ النّارِ الَّتي كُنتُم بِها تُكَذِّبونَ﴾، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ قيلَ لِلَّذينَ ظَلَموا ذوقوا عَذابَ الخُلدِ﴾. ويصف سبحانه أحوالهم يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿فَيَومَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذينَ ظَلَموا مَعذِرَتُهُم وَلا هُم يُستَعتَبونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَو أَنَّ لِلَّذينَ ظَلَموا ما فِي الأَرضِ جَميعًا وَمِثلَهُ مَعَهُ لَافتَدَوا بِهِ مِن سوءِ العَذابِ يَومَ القِيامَةِ وَبَدا لَهُم مِنَ اللَّهِ ما لَم يَكونوا يَحتَسِبونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَو أَنَّ لِكُلِّ نَفسٍ ظَلَمَت ما فِي الأَرضِ لَافتَدَت بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا العَذابَ وَقُضِيَ بَينَهُم بِالقِسطِ وَهُم لا يُظلَمونَ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [اتَّقوا دعوةَ المظلومِ فإنَّها تصعدُ إلى السَّماءِ كأنَّها شرارةٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ].

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنْ وعد الذين يتوبون عن الظلم، ويستغفرون الله، ويُصلحون، ويُبَدِّلون حُسناً بعد سوءٍ وعدهم بالمغفرة والرحمة؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يَعمَل سوءًا أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستَغفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفورًا رَحيمًا﴾، وقال تعالى: ﴿فَمَن تابَ مِن بَعدِ ظُلمِهِ وَأَصلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتوبُ عَلَيهِ إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِلّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسنًا بَعدَ سوءٍ فَإِنّي غَفورٌ رَحيمٌ﴾. وهذا نبي الله موسى عليه السلام ظلم نفسه واستغفر الله فغفر له؛ قال تعالى: ﴿قالَ رَبِّ إِنّي ظَلَمتُ نَفسي فَاغفِر لي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ﴾.

ومن حِلم الله بعباده أنه يمهلهم كي يتوبوا عن الظلم فيغفر لهم؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.

النصوص عن الظلم في القرآن والسُنة المشرفة كثيرةٌ، وواضحةٌ وضوحاً يغني عن شرحها. المهم أن نفتح قلوبنا لكلام الله سبحانه وتعالى. هلا استشعرنا بصدقٍ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الله غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِموْنَ﴾؟ واللهِ لو استشعرناها بصدقٍ وحقٍ لبكينا وندمنا على كل لحظةٍ ظلمنا فيها غيرنا بالفعل أو القول أو الظن.
على أنه من المهم التأكيد على معنىً يغفل عنه الكثيرون؛ ألا وهو أن عذاب الله سبحانه وتعالى لا يقتصر على الظالمين فقط، بل يمتد ليشمل غير الظالمين؛ الذين يركنون إلى الظالمين فيدعمونهم أو يؤيدونهم أو يرضون بقلوبهم ما يفعل الظالمون. يحذرهم الله سبحانه وتعالى ويتوعدهم بأن النار ستمسهم، ويُذَّكِرهم بأنه شديد العقاب؛ قال تعالى: ﴿وَلا تَركَنوا إِلَى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وَما لَكُم مِن دونِ اللَّهِ مِن أَولِياءَ ثُمَّ لا تُنصَرونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقوا فِتنَةً لا تُصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَموا مِنكُم خاصَّةً وَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ شَديدُ العِقابِ﴾.

ولنا في قصة ثمود قوم سيدنا صالح عبرةٌ وعظةٌ؛ حيث يتضح أن من مكرَ وخطط، ومن ساعد وأَذِن، ومن مول وجهَّز، ومن سكت وتغافل عن قتل الناقة، حاق به العذاب نفسه والوعيد نفسه، واشترك في الذنب نفسه؛ فالقاتل الذي تعاطى وعقر واحدٌ فقط، والمحرضون رهطٌ قليل، وباقي القوم الذين لم يسعوْا لنصرة الحق ولا هم أخذوا على يد القاتل ولا هم تصدوا لمن يحرض على الظلم، اشتركوا جميعاً في العذاب؛ يقول الحق سبحانه: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا . إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا . فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا . وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾.

أحبتي .. نداءٌ أوجهه للظالمين؛ أقول لهم: (إياكم والظلم)، توقفوا عنه وتوبوا يرحمكم الله ويغفر لكم. وكلمةٌ من القلب للغافلين الذين ما يزالون يركنون إلى الذين ظلموا؛ أقول لهم: أفيقوا من قبل أن تُحاسَبوا على ظلمٍ لم تقترفه أيديكم، وإنما حرضتم عليه أو مكَّنتم له أو وافق هوى قلوبكم فسكَّتُم، ولم تعملوا بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: [انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: [تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ]، وفي روايةٍ: [تَحْجِزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ]. انتبهوا أحبتي فالحديث يوجهكم إلى فعلٍ إيجابيٍ تُثابون على القيام به، والظالمون، كما هو ظاهرٌ لكم، لا عهد لهم حتى مع أقرب الناس إليهم؛ ألا يكفي أنهم قد خانوا الله من قبل، فهل أنتم أعز عندهم من الله؟! ألا تعقلون؟ كم من الذين خالفوا قول الله وركنوا إلى الظالمين صاروا الآن بين يديه سبحانه وتعالى ينتظرون أن تمسهم النار، هؤلاء أغلقوا عيونهم وصموا آذانهم وأماتوا الفطرة السليمة في قلوبهم؛ فلم يأبهوا بتحذير الله لهم ووعيده؛ فباعوا آخرتهم بدنيا غيرهم! أفلا تتعظون؟

اللهم أرنا قوتك في الظالمين، ولا تجعلنا منهم، وتُب علينا واغفر لنا وارحمنا إن نحن تبنا وندمنا وتوقفنا عن الظلم، ولا تجعلنا ربنا للظالمين أعواناً، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيرا لننصرهم ونأخذ على أيديهم ونحجزهم ونمنعهم من الظلم، أنت ولينا ومولانا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/sVhsWR

الجمعة، 25 يناير 2019

رُبَّ أخٍ لك لم تلدهُ أُمك


الجمعة 25 يناير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧١
(رُبَّ أخٍ لك لم تلدهُ أُمك)

كتبَ يقول كان الوضع الصحي لجَدِّي حرجاً، ولم يكن له أحدٌ سواي ليعتني به، فاحتجتُ إلى شراء الدواء له، لكن لم يكن معي نقودٌ تكفي لأشتري له الدواء، فاتصلتُ بصديقٍ لي وقلتُ له أنني بحاجةٍ إلى نقودٍ لأشتري الدواء لجدي، فأخبرني أن أعاود الاتصال به في المساء! في المساء عاودتُ الاتصال، لكن لا أحد يجيب، كان هاتفه خارج التغطية! فشعرت بخيبة أملٍ، ثم خرجت إلى الشارع وبدأت أبحث عن أي مصدرٍ للمال لشراء الدواء لجدي، لكني لم أتمكن من ذلك؛ فعدتُ إلى المنزل وأنا محبطٌ لعدم جلب الدواء. دخلتُ إلى المنزل حزيناً فإذا بي أفاجأ بأن الدواء في يدي أمي! سألتها: "كيف أحضرتِ الدواء؟!"، قالت لي: "جاء صديقك سأل عنك، ولما أخبرته بأنك غير موجود؛ سألني عن وصفة الطبيب التي بها اسم الدواء الخاص بجدك؛ فأعطيتها له، فذهب وجلبه". اتصلتُ بصديقي مجدداً لأشكره؛ فإذا هاتفه ما يزال خارج نطاق التغطية. فذهبتُ إليه إلى المقهى التي نجتمع فيها دائماً، وجدتُه جالساً في مكانه المعتاد، جلستُ معه وسألتُه: "لماذا هاتفك خارج التغطية؟!"، فأجابني بأنه باع هاتفه لكي يجلب لي النقود. هنا بكيتُ وأحسستُ بأن الله سبحانه وتعالى قد رزقني بأغلى صديق.

وفي قصةٍ أخرى؛ حدث ذات مرةٍ أثناء وجود المعلم بالفصل، وطرحه لبعض الأسئلة على الطلاب أن وقع أحمد الطالب في الصف الخامس الابتدائي، في موقفٍ محرجٍ، فقد كان لا يستطيع التحكم في مثانته في بعض الأحوال؛ لذا تبلل سرواله وشعر بالخجل الشديد. وأخذ يتخيل كيف سيفكر فيه زملاؤه إن رأوه على هذه الحال، لا شك أنه سيكون موضوع سخريتهم، وسيتحدث عنه الجميع وينظرون له بامتعاضٍ شديدٍ. كان خياله يمضي به بعيداً، وتخيل كل الأشياء السيئة التي من الممكن أن تحدث. أثناء ذلك لاحظ المعلم نوعاً من عدم الارتياح يبدو على ملامح أحمد، فظل يراقبه ليتبين ما به من المتاعب، فزاد ارتباك أحمد عندما لاحظ ذلك، وحاول أن يتصرف بشكل طبيعي، ولأنه كان مضطرباً شعر بضربات قلبه تتزايد بشدةٍ، وأحس أن قلبه سيتوقف من شدة قلقه. نظرات المعلم لأحمد جعلت صديقه محمود يتنبه له، ولقرب مقعده منه استطاع رؤية سرواله المبلل. فطلب محمود من المعلم السماح له بالشرب فوافق، وحينما جلب محمود زجاجة الماء توجه إلى مقعده، وأثناء مروره بمقعد أحمد تعمد إسقاط الزجاجة عليه، فانسكب الماء منها على ملابسه. صُدم الجميع وهُرع المعلم لمساعدة أحمد، وأحضر محمود منشفةً من غرفة المعلمين، كما قام زملاء أحمد بتنظيف مقعده، وذهب واحدٌ منهم لإحضار ملابس رياضيةٍ من صالة الألعاب ليلبسها ريثما تجف ملابسه. وبدلاً من أن يسخر الجميع من أحمد أصبحوا متعاطفين معه، وعلى الرغم من أن المعلم وَبَّخ محمود على إهماله وعاقبه لإسقاطه زجاجة الماء على أحمد، إلا إن محمود لم يحزن فقد فعل هذا عن عمدٍ، حتى ينقذ صديقه من الوقوع في الحرج. وبطبيعة الحال صار أحمد مرتاحاً بعد كل ما حدث، ونظر إلى محمود، الذي وقف معاقبَاً في زاوية الفصل نظرة امتنانٍ، وبعد أن حان وقت انتهاء الدوام المدرسي، اقترب منه وشكره من كل قلبه، واعتذر له عن توبيخ المعلم له، لكن محمود ابتسم في هدوءٍ وقال له: "لا داعي للشكر بين الأصدقاء؛ لقد فعلتُ ما يحتمه عليّ واجب الصداقة".

أحبتي في الله .. صدق المثل الذي يقول (رُبَّ أخٍ لك لم تلدهُ أُمك)، وهو مثلٌ يُضرب للشهامة ووقوف الصديق بجانب صديقه في وقت الشدة، كنايةً عن قربهما من بعضٍ بحيث يصيرا كالأخوين رغم أنه لم تلدهما نفس الأم. إنها الصداقة الحقة والحب في الله الذي جعل أحدهم يقول: "إني لأضع اللقمة في فم صديقي فأجد طعمها في حلقي!".
يقول أهل العلم إن الصداقة هي الصحبة عن محبةٍ، وهي مأخوذةٌ من الصدق؛ لأن الصديق يصُدق صديقه. وقد حث الشرع على مصادقة الأخيار والبعد عن مصادقة الأشرار؛ يقول اللّه سبحانه وتعالى لرسوله الكريم: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وتتضمن الآية الكريمة الأمر بمصاحبة الذين يخلصون للّه ويعبدونه ويبتهلون إليه ويخلصون له؛ لأنَّ هؤلاء هم الذين يزيدون إيمانك وهم الذين يحفظون لك ودّك ويفون لك الوعد والعهد.

يقول المفسرون أن منزلة الصديق عظيمةٌ حتى إنّ أهل النار يستغيثون بأصدقائهم قبل أقربائهم، ويتطلّعون إلى من كانوا يصادقون من أمثالهم فلا يرون أحداً، فيتساءلون: أين هو الصديق الحميم؟ أخبرنا اللّه سبحانه وتعالى أنهم يقولون: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ . وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾، لكنهم يعرفون أن صداقة غير المؤمنين صداقةٌ لا ترتكز على أساسٍ، فما لم تكن الصداقة على الطاعة وتقوى الله فإنها تنقلب يوم القيامة إلى عداوةٍ؛ قال تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾. إن صديق السوء يتبرأ من صاحبه يوم القيامة؛ قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا . يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾، يخبر الله سبحانه وتعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول وما جاء به من عند الله من الحق المبين، واتخذ خليلاً، وهو الصديق المقرب، أضله عن ذكر الله وسلك به طريقاً أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم، وعضَّ على يديه حسرةً وأسفاً.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ]، ومعناه: فلينظر المرء بعين بصيرته إلى أمور مَن يريد صداقته وأحواله، فمن رضي دينه صادَقه، وليحذر ممن هو ضعيف الدين قليل الإيمان. وقال صلى الله عليه وسلم: [لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ]؛ حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من صحبة من ليس بتقيٍ، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته؛ لأن المطاعمة تُوقِع الأُلفة والمودة في القلوب. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ]، حثاً لنا على اختيار الصديق الصالح؛ فالصديق الصالح له أثرٌ طيبٌ على صاحبه، والصديق السوء له أثرٌ سيئٌ على صاحبه، وفي هذا الحديث فضيلة مجالسة الصالحين، وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق، والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس، أو يكثُرُ فجره وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة. وقال صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ]؛ أي أكثر الأصحاب ثواباً عند الله أكثرهم إحساناً إلى صاحبه، ولو بالنصيحة. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ]؛ فالإخبار بحب الصديق لصاحبه يوجب زيادة الحب بينهما، والتَحَابُ بين المؤمنين مطلوبٌ في الشرع، ومحبوبٌ في الدين.
ومن الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الصديق حتى يكون صديقاً صالحاً: التقوى، حُسن الخُلق، السمعة الطيبة، الوفاء، الأمانة، الصدق، الشهامة، الإخلاص، ورجاحة العقل.
قال بعض الحكماء: اصطفِ من الإخوان ذا الدِّين والحسب، والرأي والأدب؛ فإنه رِدْءٌ لك عند حاجتك، ويدٌ عند نائبتك، وأُنْسٌ عند وحشتك، وزَيْنٌ عند عافيتك. وقيل: اصحب أهل التقوى؛ فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤنةً، وأكثرهم لك معونةً. وقيل: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر. وسُئل حكيمٌ بم يعرف الرجل أصدقاءه؟ قال: بالشدائد؛ لأن كل أحدٍ في الرخاء صديقٌ.
وقال الشاعر:
عن المرءِ لا تسأَلْ، وسَلْ عن قَرِينهِ
فكلُّ قَرينٍ بالمُقَارَنِ يَقتدي
إذا كنتَ في قومٍ فصاحِبْ خيارَهم
ولا تصحَبِ الأرْدَى؛ فتردَى مع الرَّدِي

أحبتي .. ليَحْذَر كلٌ منا، ونُحذِّر أبناءنا وأحبابنا، من مصاحبة الإنسان الفاسق، المصر على المعاصي؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، وعلينا أن نختار أصدقاءنا وفق التوجيه الرباني: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾؛ فليس أنفع لنا من صديقٍ صدوقٍ يعيننا على طاعة الله ومرضاته، يُقَوِّمنا بلطفٍ إذا أخطأنا، ويعلمنا بتواضعٍ إذا جهلنا، ويكون لنا خير الناصحين؛ ذلك هو الذي نقول عنه بحقٍ: (رُبَّ أخٍ لك لم تلدهُ أُمك).

اللهم اجعلنا من الأصدقاء المتقين المخلصين، وأصلح لنا أصدقاءنا ليكونوا من المؤمنين الصادقين، واجمع بيننا على الخير في الدنيا والآخرة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/TMnKde

الجمعة، 18 يناير 2019

إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً


الجمعة ١٨ يناير ٢٠١٩م

خاطرة الجمعة /١٧٠
(إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً)

رجلان حجا بيت الله الحرام، وأثناء العودة إلى ديارهما جلسا في صالة الانتظار بمطار جدة الدولي، فتحدث أحدهما إلى الآخر فقال: "أنا أعمل مقاولاً، وقد أنعم الله عليّ بالحج هذا العام للمرة العاشرة"، فأومأ الآخر برأسه، وكان اسمه سعيد، وقال: "حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً"؛ فابتسم الرجل وقال: "أجمعين. وأنتَ هل حججتَ قبل ذلك؟"، أجاب سعيد بعد تردد: "والله يا أخي إن لحجتي هذه قصةٌ طويلةٌ، ولا أريد أن أزعجك بتفاصيلها"، ضحك الرجل وقال: "بالله عليك أخبرني، فكما ترى نحن لا نفعل شيئاً سوى الانتظار"، ابتسم سعيد وقال: "نعم الانتظار هو ما تبدأ به قصتي؛ فقد انتظرت سنين طويلة حتى حججت؛ فبعد ثلاثين عاماً من العمل معالجاً فيزيائياً في مشفىً خاصٍ استطعت أن أجمع كلفة الحج. وفي اليوم الذي ذهبت فيه لأحجز لنفسي مكاناً في أحد أفواج الحجاج، صادفت إحدى الأمهات التي أعالج ابنها المشلول وقد كسا وجهها الهم والغم وقالت لي: "أستودعك الله يا أخ سعيد فلن ترانا في المشفى بعد اليوم". استغربت كلامها؛ وسألتها إن كانت غير راضيةٍ عن علاجي لابنها وتفكر في نقله لمكانٍ آخر، فقالت لي: "لا يا أخ سعيد، يشهد الله أنك كنت لابني أحَّن من الأب، وقد ساعده علاجك كثيراً بعد أن كنا قد فقدنا الأمل"، ومشت حزينة. استغرب الرجل وقاطع سعيد قائلاً: "إذا كانت راضيةً عن أدائك، وابنها يتحسن فلِمَ تَرَكَتْ العلاج؟"، أجابه سعيد: "هذا ما فكرتُ به وشغل بالي؛ فذهبت إلى إدارة المشفى وسألت؛ فتبين لي أن والد الصبي فَقَدَ وظيفته ولم يعد يستطيع تحمل نفقة العلاج". أبدى الرجل حزنه وقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله، مسكينةٌ هذه المرأة. وكيف تصرفتَ؟"، أجاب سعيد: "ذهبتُ إلى المدير ورجوته أن نستمر في علاج الصبي على نفقة المشفى، ولكنه رفض رفضاً قاطعاً، وقال لي: هذه مؤسسةٌ خاصةٌ وليست جمعيةً خيريةً. خرجتُ من عند المدير حزيناً مكسور الخاطر على المرأة، وفجأةً وضعت يدي على جيبي الذي فيه نقود الحج فتسمرتُ في مكاني لحظةً، ثم رفعتُ رأسي إلى السماء وخاطبت ربي قائلاً: اللهم أنت تعلم بمكنون نفسي، وتعلم أنه لا شيء أحب إلى قلبي من حج بيتك، وزيارة مسجد نبيك، وقد سعيتُ لذلك طوال عمري ولكني آثرتُ هذه المسكينة وابنها على نفسي فلا تحرمني فضلك. وذهبتُ إلى المحاسب ودفعتُ كل ما معي له عن أجر علاج الصبي لستة أشهرٍ مقدماً، وتوسلت إليه أن يقول للمرأة بأن المشفى لديها ميزانيةٌ خاصةٌ للحالات المشابهة". تأثر الرجل ودمعت عيناه وقال: "بارك الله فيك، وفي أمثالك". ثم قال: "إذا كنتَ قد تبرعتَ بمالك كله فكيف حججت إذن؟"، فأجاب سعيد: "رجعتُ يومها إلى بيتي حزيناً لضياع فرصة عمري في الحج، ولكن الفرح ملأ قلبي لأني فرجتُ كربة المرأة وابنها، فنمتُ ليلتها ودمعتي على خدي؛ فرأيت في المنام أنني أطوف حول الكعبة، والناس يسلمون عليّ ويقولون لي: "حجاً مبروراً يا حاج سعيد فقد حججتَ في السماء قبل أن تحج على الأرض، دعواتك لنا يا حاج سعيد". فاستيقظتُ من النوم وأنا أشعر بسعادةٍ غامرة، فحمدتُ الله على كل شيءٍ ورضيت بأمره. وما إن نهضتُ من النوم حتى دق جرس الهاتف، وإذا به مدير المستشفى الذي قال لي: "أنجدني؛ فصاحب المشفى يريد الذهاب إلى الحج هذا العام وهو لا يذهب دون معالجه الخاص، لكن زوجة معالجه في أيام حملها الأخيرة ولا يستطيع تركها، فهلا أسديتني خدمة ورافقته في حجه؟"، وافقتُ على الفور، وسجدتُ لله شكراً. وكما ترى فقد رزقني الله حج بيته دون أن أدفع شيئاً، والحمد لله، وفوق ذلك فقد أصر الرجل على إعطائي مكافأةً مجزيةً لرضاه عن خدمتي له، وحكيتُ له عن قصة المرأة المسكينة فأمر بأن يُعالَج ابنها في المستشفى على نفقته الخاصة، وأن يكون في المشفى صندوقٌ خاصٌ لعلاج الفقراء، وفوق ذلك فقد عَيَّنَ زوجها بوظيفةٍ في إحدى شركاته. كما أنه أعاد إليّ مالي الذي دفعته. أرأيت فضلاً أعظم من ذلك؟ إنه فضل ربي". نهض الرجل وقبل سعيد على جبينه قائلاً: "واللهِ لم أشعر في حياتي بالخجل مثلما أشعر الآن؛ فقد كنتُ أحج المرة تلو الأخرى وأحسب نفسي قد أنجزتُ شيئاً عظيماً، وأن مكانتي عند الله ترتفع بعد كل حجةٍ، ولكني أدركتُ الآن أن حجك بألف حجةٍ من أمثالي؛ فقد ذهبتُ أنا إلى بيت الله، أما أنت فقد دعاك الله إلى بيته".
هذه قصةٌ منشورةٌ على مواقع التواصل الاجتماعي تبين لنا (إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً).

أحبتي في الله .. كنت أحدث أحد أصدقائي بهذه القصة فوجدته يقول: صحيح (إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً) صدق الله العظيم؛ فتعجبت وقلت له: "إنها ليست آيةً من آيات القرآن الكريم كما تعتقد، والقرآن الكريم كلام الله لا يجوز زيادة أو انتقاص كلمةٍ من كلماته أو حرفٍ من حروفه، ولا حتى تغيير تشكيلها".
ومع ذلك فإن معنى العبارة صحيحٌ؛ ففي القرآن الكريم آيتان مشابهتان في المعنى مع اختلافٍ في الألفاظ؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾.
يقول المفسرون للآية الكريمة: الأولى أن الله يتقبل عن المحسنين أحسن الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم، بأحسن ما كانوا يعملون، وفي هذا ترغيبٌ عظيمٌ وتشويقٌ للنفس الضعيفة إلى ثواب الله، كلما فترت. وإن الله لا يضيع ثوابَ عمل من أحسن فأطاع الله واتبع أمره، فيذهب به، بل يوَفّره أحوجَ ما يكون إليه. وسُمّي الثواب أجراً لوقوعه جزاءً على الأعمال وموعوداً به فأشبه الأجر.
وقال المفسرون للآية الثانية: إنا لا نضيع ثواب من أحسن عملاً فأطاع الله، واتبع أمره ونهيه، بل نجازيه بطاعته وعمله الحسن جنات عدن تجري من تحتها الأنهار. والمراد بإحسان العمل هو أن يريد العبد بعمله وجه الله مخلصاً له وحده، لا يريد به رياءً ولا سمعةً، وأن يكون فيه متّبعاً لشرع الله موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذان هما شرطا حُسن العمل؛ فالعبرة هي بحُسن العمل وليست بكثرته. وهذا العمل الحسن لن يضيعه الله تعالى بل سيحفظه للعاملين وسوف يوفيهم أجورهم بحسب أعمالهم وبفضله سبحانه وكرمه وإحسانه.

ومما ورد في السُنة المشرفة قصة رجلٍ مسلمٍ يحب الخير لإخوانه، ويرجو لهم السلامة، مرّ بغصن شجرةٍ على ظهر طريقٍ، أشواكُه تؤذي المسلمين، فعمد إلى الغصن فقطعه، وحمله بعيداً عن ِ طريق ِالمسلمين؛ فاستحق بذلك رحمة الله تعالى، ورضوانه وجنّةَ الخلد ونعيمها. أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجنةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانتْ تُؤْذِي المسلمينَ]. وفي روايةٍ: [مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فقالَ: واللهِ لأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ المسلمينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الجَنَّةَ]. وفي روايةٍ: [بينما رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللهُ لهُ، فَغَفَرَ لهُ].
ومما ورد كذلك قصة رجلٍ آخر كان يمشي في طريقٍ، شعر بالعطش الشديد، بحث حوله فرأى بئراً؛ فنزل فيه وشرب وارتوى. لم يبتعد الرجل عن البئر كثيراً حين رأى كلباً يلهث، يأكل تراب الأرض من العطش، قال الرجل في نفسه: "بلغ العطشُ بالكلب مثل الذي كان بلغ بي"؛ فأخذته الرأفة بالكلب وقرر أن يسقيه، فخلع خفه ونزل إلى البئر فملأ الخف ماءً وحمله بفمه وصعد، فسقى الكلب. ولم يكن الله سبحانه وتعالى غافلاً عما فعله الرجل، فأكرمه غاية الإكرام، ورحمه واسع الرحمة، فشكر له صنيعه وغفر له؛ وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: [بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ] قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا فَقَالَ: [نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ].

أحبتي .. مِلاك ذلك كله الآية الكريمة: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ فهذا وعدٌ من الله سبحانه وتعالى لكل مؤمنٍ يعمل صالحاً: حياةٌ طيبةٌ في الدنيا، وحُسن الجزاء في الآخرة، فصدق الله العظيم، ثم صدق من قال: "لا تعبدوا الله ليعطي، بل اعبدوه ليرضى؛ فإن رضيَ أدهشكم بعطائه".

اللهم إنا نسألك أن تهدينا لصالح الأعمال، لا يهدينا لها إلا أنت سبحانك. ونسألك اللهم الجنة وما قرّب إليها من قولٍ وعملٍ، ونعوذ بك من النار وما قرّب منها من قولٍ وعملٍ.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/H4M42d

الجمعة، 11 يناير 2019

ألا بذِكر الله تطمئن القلوب


الجمعة 11 يناير2019م

خاطرة الجمعة /١٦٩
(ألا بذِكر الله تطمئن القلوب)

كتب أحد المسلمين الجدد في مذكراته أنه من بين أسباب تفكيره في الإسلام أيام شبابه أنه كان في عام 1978م يعمل طبيب امتياز في قسم التجميل والحروق بالمستشفى الرئيسي الجامعي بالإسكندرية، وأنه كان وقتئذٍ من الشمامسة الكبار وأستاذاً للغة القبطية وأستاذاً في مدارس الأحد في كنيسة العذراء مريم في محرم بك بالإسكندرية. يقول الكاتب: ذات يومٍ كنت في عنبر الحروق للرجال وحدث حريقٌ في مطبخ مطعم سانتا لوتشيا في محطة الرمل، وجاءت سيارات الإسعاف بالمصابين إلينا، وكان مريضي هو أشدهم إصابةً؛ فقد كان هو الطباخ، كانت نسبة الحروق في جسده مائة بالمائة، وكان يصرخ صراخاً فظيعاً من شدة الألم، وكنا نعرف بحكم الخبرة أنه سيموت خلال 24 ساعة. ولكني بدأت معه الإسعافات الطبية كالعادة وأعطيته مسكناً للألم حتى أتمكن من تطهير الحروق في جسده. فلما هدأ وبدأت الإسعافات وأولها تركيب قسطرة للبول، قال لي بهدوءٍ شديدٍ جعل شعر رأسي يقف: "يا دكتور انتظر .. وفر جهودك وأدويتك لزملائي"، فتعجبت جداً، أضاف: "أنا رجلٌ مسلمٌ مؤمنٌ وموحدٌ بالله، وكنت ممرضاً في الجيش ودخلت الحرب وتعلمت إسعاف الحروق وأعلم أنني سأموت حتماً خلال ساعاتٍ قليلةٍ فلا تتعب نفسك وتضيع الأدوية هباءً، تكفيني الحقنة المسكنة كلما شعرت بالألم واتركني أموت في سلامٍ فأنا لا أخاف من الموت وأتمنى لقاء الله وأنا أتلو القرآن". كاد شعر رأسي يشيب في تلك اللحظة. أشاح بوجهه عني وأخذ يرتل القرآن في هدوءٍ وكلما رتل ازداد هدوءاً. وفي صباح اليوم التالي لم أجده، سألت عنه الممرضات، فقالت لي إحداهن أنه ظل يرتل القرآن حتى خرجت روحه بهدوء، ولم يطلب إلا شربة ماءٍ وحقنةً مسكنةً واحدةً فقط. ظلت صورته في مخيلتي، وما زالت إلى اليوم، كلما تذكرته أراه شاباً قوي البنيان وجسده كله محترق. ودمعت عيناي يومئذٍ وما زالتا. وأخذت أسأل نفسي: "كيف لا يخاف من الموت؟ هل بسبب الإسلام؟ أم بسبب القرآن؟ أم كلاهما معاً؟ ما هذا اليقين؟ ما هذه الطمأنينة؟ ما هذا السلام مع الله وحب لقائه؟ ما هذا الدين؟ وما سر هذا الكتاب الذي يرتل كلماته فيزداد سكينة؟". ولم أنس هذا الرجل حتى أسلمت بعد حوالي خمسة عشر عاماً، سنة 1993م، وفهمت ما قاله بعد إسلامي بسنين، لما تثبّت إيماني وتعلمت القرآن وتفسيره. وكلما تذكرته أقول: "اللهم ارحمه، واغفر له وسامحه، واجعل قبره روضةً من رياض الجنة، واجعل كلامه معي في ميزان حسناته إلى يوم ألقاك". ولا أملُّ من قولي: "الحمد لله على نعمة الإسلام، الحمد لله على نعمة التوحيد، الحمد لله على نعمة القرآن، الحمد لله على نعمة الإيمان واليقين".
قرأت هذه القصة الحقيقية فتذكرت على الفور الآية الكريمة: (ألا بذِكر الله تطمئن القلوب).

ولأن الشيء بالشيء يُذكر؛ فإن قصةً أخرى تُروى عن رجلٍ غنيٍ وتقيٍ سافر لبريطانيا لعمل فحوصاتٍ طبيةٍ بسبب مرضٍ أصابه؛ وعندما قابله الطبيب المختص بادره قائلاً: "أظن من طريقة لباسك أنك عربيٌ مسلمٌ"، فقال الرجل: "نعم". قال الطبيب أريد أن أستفسر منك عن أمر". وبدأ الكلام قائلاً: "أنا كما تعلم طبيبٌ بريطانيٌ شهيرٌ، ومهنتي تجعلني في مستوىً اجتماعيٍ راقٍ ومستوىً ماديٍ ممتاز، وقد جربت كل أنواع الملذات التي تخطر ولا تخطر ببالك، وسافرت لأجمل الأماكن، وجربت كل المتع، ولكني رغم ذلك لستُ سعيداً حتى أنني فكرت بالانتحار وذهبت لأشهر الأطباء النفسيين دون جدوى، وأنت غنيٌ مثلي فهل لديك شعوري؟!". يقول الرجل: "تفاجأت بكلامه، ولكن الله ألهمني فدار بيننا الحديث التالي:
الرجل: أنت إن أردت أن تمتع سمعك، ماذا تفعل؟ استغرب الطبيب وأجاب: اسمع الموسيقا. الرجل: وإن أردت أن تمتع أنفك، ماذا تفعل؟ أجاب الطبيب: أشم العطور والورود. الرجل: وإن أردت أن تمتع بصرك، ماذا تفعل؟ أجاب: انظر لحديقةٍ غناء أو امرأةٍ جميلة. فرد الرجل: لماذا لا تمتع سمعك برائحة الورود؟، فضحك الطبيب وأجاب كيف؟ لا يمكن. فأتبع الرجل: لماذا لا تمتع بصرك بالموسيقا؟ فأجاب الطبيب: لا يمكن؛ لكل جارحةٍ من الجوارح التي ذكرتها متعتها! فسأل الرجل: الضيق الذي تشكوه هل هو بعينيك أو انفك أو أذنيك؟ فرد الطبيب: هو ضيقٌ بصدري وقلبي. فسأل الرجل: كيف تمتع قلبك؟
فاحتار الطبيب وسكت. هنا قال الرجل: كما أن لكل جارحةٍ متعتها، فإن القلب متعته بالقرب من خالقه؛ هذا هو سر ذهاب شعور الضيق وسبب انشراح الصدر.
صدق من قال: (ألا بذِكر الله تطمئن القلوب).

أحبتي في الله .. يحثنا ديننا الحنيف على ذِكر الله كثيراً لتزكو نفوسنا وتتطهر قلوبنا. وبالذِكر نستمد من الله سبحانه وتعالى العون والتوفيق؛ لأجل هذا جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية المشرفة ما يدعو إلى الإكثار من ذِكر الله عزَّ وجلَّ في كل وقتٍ وعلى كل حال؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾، وقال سبحانه: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾، وقال جلَّ شأنه: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾. وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ﴾.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ، ذِكْرُ اللَّهِ].
وقال صلوات الله وسلامه عليه: [مَنْ قَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ وبحَمدِهِ، غُرِستْ لهُ نَخْلَةٌ في الجَنَّةِ].
وقال صلى الله عليه وسلم: [سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ]، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: [الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ].
وجاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قال: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَليّ؛ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: [لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ].
يقول أهل العلم إن ذِكر الله عزّ وجلّ عبادةٌ تملأ قلب الإنسان بالطمأنينة، وتؤثّر على حياته بغرس السكينة فيها، ويدلّ على ذلك قول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. قال المفسرون في تفسير هذه الآية الكريمة: "إذا سمع المؤمنون ذكر الله سبحانه أحبّوه، واستأنست قلوبهم بذكره، والمراد بالقلوب الواردة في الآية قلوب المؤمنين"، وقالوا: "إنّ معنى الاطمئنان الوارد في الآية؛ هو السكون"، وقالوا: "إنّ ذلك يكون بالقرآن، والسكون يكون بحصول اليقين في قلب الإنسان، أمّا الاضطراب فيكون في حصول الشكّ، فيكون معنى الآية بذلك؛ أنّ قلوب المؤمنين تسكن بذكر الله، ويستقرّ فيها اليقين"، ولذلك قيل: "إنّ في الدنيا جنةٌ، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، والمراد بذلك جنة ذِكر الله سبحانه وتعالى. إن استئناس الإنسان بذِكر الله سبحانه، يتبعه سكون قلبه، وراحته، واستشعاره لعظمة ربّه جلّ وعلا، ورحمته، وحكمته، وقوته، وقهره، وكذلك سننه التي يُجريها في هذا الكون، ممّا يُطمئن قلبه لكلّ ما يجري حوله من تقلّبات الحياة، واضطرابها، فيكون مستبشراً متفائلاً حتى حين يقلق ويرتاب الناس من حوله، كما أنّه يصبر على البلاء الذي قد يصيبه في حياته، لأنّه يرجو بذلك مثوبة الله سبحانه.
ولذِكر الله سبحانه فوائدٌ وثمراتٌ كبيرةٌ؛ فهو يعدّ قوتاً للقلب، وغذاءً للروح، وشفاءً للأسقام، وإزالةً للهموم. إنه سببٌ لحصول النور في قلب الإنسان، ووجهه، وفي انفتاح أبواب المعرفة أمامه، وفي قُربه من الله تعالى. يلين قلب الإنسان، ويزيد في رزقه، وينزل عليه نصر الله تعالى، ومعونته. ذِكر الله تعالى يعدّ عوناً للإنسان على طاعته، فهو يدفع الإنسان إلى القيام بالطاعات، ويصرفه عن المعاصي، والذنوب. وهو سببٌ في تنزّل الرحمة والسكينة على الذاكرين، وسببٌ في حفوفهم بالملائكة. فالذكر حياة القلب، وسبيل لانشراح الصدر، به تُجلى الكروب، وتزول الهموم، وتُطرد الشياطين، وعلى الضد من ذلك، التارك للذكر يتمكن منه الشيطان ويتخذه قريناً؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، كما أنه يلقى عقوبة الدنيا في ضيق العيش، وتكون عقوبته في الآخرة أشد خزياً؛ قال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

أحبتي .. ذِكر الله سبحانه وتعالى عبادةٌ يسيرة الأداء عظيمة الأجر والثواب؛ لا تكلف مالاً، ولا تتطلب جهداً، ولا يُشترط لأدائها طهارةٌ ولا استقبال قبلةٍ، ومع ذلك يغفل عنها كثيرٌ من الناس فلا تكونوا منهم؛ اذكروا الله في كل وقتٍ وحين؛ عند قيادة السيارة، أو ركوب وسيلةٍ من وسائل النقل العام، وفي الطائرة وفي الباخرة، وعند انتظار دورٍ في عيادة طبيب أو مشفى، عند المشي إلى المسجد أو إلى السوق أو جهة العمل، قبل النوم، وبعد الاستيقاظ .. اذكروا الله دائماً وفي كل حال.
يقول أحد العارفين: "الإكثار من ذكر الله براءةٌ من النفاق، وفكاكٌ من أسر الهوى، وجسرٌ يصل به العبد إلى مرضاة ربه وما أعده الله له من النعيم المقيم".
اللهم لا تجعلنا من الغافلين، واجعلنا بإحسانك وفضلك من الذاكرين لك كثيراً، واجعل قلوبنا مطمئنةً بذكرك؛ (ألا بذِكر الله تطمئن القلوب).

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.
https://goo.gl/ggg5LE

الجمعة، 4 يناير 2019

كما تَدين تُدان/2


الجمعة 4 يناير 2019م

خاطرة الجمعة /١٦٨
(كما تَدين تُدان)

كان هناك عجوزٌ يعيش مع ابنه وزوجة ابنه وحفيده، وعندما أصبح العجوز متقدماً بالسن، لم يعد يقوى على الأكل بشكلٍ طبيعي، حيث أصبحت يداه ترتجفان، ونظره الضعيف يؤدي إلى إسقاط الطعام من يده أحياناً. وذات يومٍ سقط طبق الطعام من يدي العجوز وانكسر؛ عندها غضبت زوجة ابنه من ذلك وطلبت من زوجها أن يجد حلاً لهذا الموضوع، فكر الزوج في الأمر وخطر له أن يصنع لوالده طبقاً من الخشب، وتجنباً لسكب الطعام على المائدة، تم إجبار العجوز على تناول طعامه وحيداً بعيداً عن العائلة. كلما وُضع الأكل للعجوز ووجد نفسه وحيداً كانت الدموع تسيل على وجنتيه، حيث كان يشعر أنه منبوذٌ في أيامه الأخيرة؛ حيث يُجبَر على الأكل وحيداً بينما يستمتع باقي أفراد الأسرة بتناول الطعام على المائدة، وكان حفيده ينظر إليه وسط صمتٍ مهيب، في الوقت الذي لم يعد ابنه وزوجة ابنه يطيقانه. بعد مرور عدة أشهرٍ على هذا الحال، تُوفي الرجل العجوز وأقيمت مراسم التشييع والدفن، وبعد الانتهاء من تلك المراسم أراد الابن وزوجته التخلص من الأغراض المتعلقة بالعجوز بإعطائها للفقراء أو إتلافها، فجأةً ركض حفيد العجوز وأخذ الطبق الخشبي، فسأله أبوه: "لماذا أخذتَ هذا الطبق؟ وماذا تريد أن تصنع به؟!"، عندها أجابه الطفل الصغير: "أريد أن أحتفظ به كي أطعمك أنت وأمي به عندما تكبران مثل جدي!".

وهذا رجلٌ فقيرٌ تقوم زوجته بصنع الزبدة ويقوم هو ببيعها في المدينة لأحد البقالات. كانت الزوجة تعمل الزبدة على شكل كرةٍ وزنها كيلو جرام، وهو يبيعها لصاحب البقالة ويشتري بثمنها حاجيات المنزل. في أحد الأيام شك صاحب البقالة في الوزن، فقام بوزن كرات الزبدة فوجد وزن كل واحدةٍ منها تسعمائة جرامٍ فقط؛ فغضب وعندما حضر الفقير في اليوم التالي قابله متجهماً وقال له: "لن أشتري منك يا غشاش؛ تبيعني كرة الزبدة على أنها كيلو جرام، وهي أقل من الكيلو بمائة جرام"، حزن الفقير ونكس رأسه ثم قال: "نحن يا سيدي لا نملك ميزاناً ولكني اشتريت منك كيلو من السكر وجعلته مثقالاً لنا نزن به الزبدة".

أحبتي في الله .. تيقنوا تماماً أن مكيالكم يُكال لكَم به. قال أهل العلم أنه وَرَدَ في الأثر "وقيل أنه حديثٌ شريف": [البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ]، والبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُق؛ فمن يعمل الخير فإن أجره يبقى محفوظاً عند الله ولا يضيع. أما الإثم الذي لا يُنسى فهو الخصال الشريرة وغير الحميدة التي تدفع الإنسان إلى القيام بالمعاصي، وهو كالبرّ لا يُنسى، إذ إنّ الله سبحانه وتعالى سيجازي الآثم، إمّا في الدنيا أو الآخرة. والديان لا يموت ولا ينام؛ فهو سبحانه لا يغفل عن أي دَيْنٍ لعباده، فهو الحق، العادل، الكريم، المعطاء، الجبار. فكن كما شئت؛ أي اختر بنفسك لنفسك الطريق، سواءً كانت خيراً أو شراً، فالله تعالى أعطى الإنسان العقل ووهبه الحرية، ولم يجبره على فعل أي شيء. و(كما تَدين تُدان) هي النتيجة النهائية؛ فأعمالك ستُرَد عليك، إذ أن الجزاء من جنس العمل، وهذا دليلٌ على عدل الله سبحانه وتعالى ورحمته.

(كما تَدين تُدان)، أو الجزاء من جنس العمل، حكمةٌ بليغةٌ تناقلها الناس قديماً، وجاءت الشواهد من الكتاب والسنة دالةً على صدقها؛ فقد عاقب الله تعالى المنافقين بجنس ما أذنبوا وارتكبوا، فقال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فعاقبهم على استهزائهم بدين الله عقاباً من جنس عملهم، فقال سبحانه: ﴿اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ فقوله: ﴿سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ﴾ من باب المقابلة على سوء صنيعهم وسخريتهم من المؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل. وكذلك الحدود التي شرعها الله تعالى، كان الجزاء فيها من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي مجازاةً على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب ذلك أن يُقطع ما استعانا به في السرقة.
ومما وعد الله به عباده المؤمنين قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾، لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته. كما رتب الله تعالى من الأجور والثواب على بعض الأعمال ما هو مناسبٌ للعمل نفسه، ومن ذلك:
قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
وفي الحديث القدسي ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى للرحم حين تعلقت به سبحانه: {أَمَا تَرضَينَ أَن أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وَأَقطَعَ مَن قَطَعَكِ؟} قَالَت: بَلَى، قَالَ: {فَذَاكَ لَكِ}.
وفي السُنة أحاديث كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: [ارحَمُوا مَن فِيْ الأَرضِ يَرحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [احفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ]، وقوله صلى الله عليه وسلم:
[المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسْلِمُه، مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]. وقد جاء في السُنة من الوعيد على بعض الذنوب ما هو مناسبٌ لها؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [مَن لَعَنَ شَيئًا لَيسَ لَهُ بِأَهلٍ رَجَعَتِ الَّلعنَةُ عَلَيهِ]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [مَن ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَن شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيهِ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [مَن سُئِلَ عَن عِلمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلجِمَ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ].
فالجزاء من جنس العمل، و(كما تدين تدان)، ذلك من مقتضى عدل الله سبحانه وتعالى وحكمته؛ فمن عاقب بجنس الذنب لم يَظْلِم، ومن دانك بما دنته به لم يتجاوز.

أحبتي .. من الحكمة ألا تصنع الرمح لمنافقٍ؛ يوماً ما ستكون أنت الهدف الذي يرمي نحوه. ولا تكن مُعيناً لظالمٍ ولا شريكاً له في ظلمه؛ فسيبطش بك فور انتهاء دورك. وخاذل المظلوم شريكٌ مع الظالم؛ فأكثر الظالمين لولا السكوت ما ظلموا. ومن أيَّد ظالماً ودعمه وتغاضى عن ظلمه لغيره، وبرره له، وشجعه عليه، سيأتي، إن عاجلاً أو آجلاً، اليوم الذي يُظلم هو فيه، ثم يشعر بمرارة خذلان غيره له، وشماتتهم فيه.
تأكدوا أحبتي أن (كما تَدين تُدان) هو قانون العدل الإلهي، نشاهد آثاره كل يومٍ؛ ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ﴾. فإن كنا نعمل خيراً فسوف نلقى خيراً، وإن كنا نعمل غير ذلك، لا قدَّر الله، فسوف نُدان بجنس عملنا، إن لم يكن بنفس الموقف فحتماً سيكون بنفس الألم، ولنتذكر أن الله عزَّ وجلَّ عندما تُرفع إليه دعوة المظلوم فإنه يقول: {وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ}.

اللهم يسَّر لنا أعمال الخير والبر، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وجازنا اللهم برحمتك وفضلك وإحسانك من جنس أعمالنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.
https://goo.gl/XEd52j