الجمعة، 4 يناير 2019

كما تَدين تُدان/2


الجمعة 4 يناير 2019م

خاطرة الجمعة /١٦٨
(كما تَدين تُدان)

كان هناك عجوزٌ يعيش مع ابنه وزوجة ابنه وحفيده، وعندما أصبح العجوز متقدماً بالسن، لم يعد يقوى على الأكل بشكلٍ طبيعي، حيث أصبحت يداه ترتجفان، ونظره الضعيف يؤدي إلى إسقاط الطعام من يده أحياناً. وذات يومٍ سقط طبق الطعام من يدي العجوز وانكسر؛ عندها غضبت زوجة ابنه من ذلك وطلبت من زوجها أن يجد حلاً لهذا الموضوع، فكر الزوج في الأمر وخطر له أن يصنع لوالده طبقاً من الخشب، وتجنباً لسكب الطعام على المائدة، تم إجبار العجوز على تناول طعامه وحيداً بعيداً عن العائلة. كلما وُضع الأكل للعجوز ووجد نفسه وحيداً كانت الدموع تسيل على وجنتيه، حيث كان يشعر أنه منبوذٌ في أيامه الأخيرة؛ حيث يُجبَر على الأكل وحيداً بينما يستمتع باقي أفراد الأسرة بتناول الطعام على المائدة، وكان حفيده ينظر إليه وسط صمتٍ مهيب، في الوقت الذي لم يعد ابنه وزوجة ابنه يطيقانه. بعد مرور عدة أشهرٍ على هذا الحال، تُوفي الرجل العجوز وأقيمت مراسم التشييع والدفن، وبعد الانتهاء من تلك المراسم أراد الابن وزوجته التخلص من الأغراض المتعلقة بالعجوز بإعطائها للفقراء أو إتلافها، فجأةً ركض حفيد العجوز وأخذ الطبق الخشبي، فسأله أبوه: "لماذا أخذتَ هذا الطبق؟ وماذا تريد أن تصنع به؟!"، عندها أجابه الطفل الصغير: "أريد أن أحتفظ به كي أطعمك أنت وأمي به عندما تكبران مثل جدي!".

وهذا رجلٌ فقيرٌ تقوم زوجته بصنع الزبدة ويقوم هو ببيعها في المدينة لأحد البقالات. كانت الزوجة تعمل الزبدة على شكل كرةٍ وزنها كيلو جرام، وهو يبيعها لصاحب البقالة ويشتري بثمنها حاجيات المنزل. في أحد الأيام شك صاحب البقالة في الوزن، فقام بوزن كرات الزبدة فوجد وزن كل واحدةٍ منها تسعمائة جرامٍ فقط؛ فغضب وعندما حضر الفقير في اليوم التالي قابله متجهماً وقال له: "لن أشتري منك يا غشاش؛ تبيعني كرة الزبدة على أنها كيلو جرام، وهي أقل من الكيلو بمائة جرام"، حزن الفقير ونكس رأسه ثم قال: "نحن يا سيدي لا نملك ميزاناً ولكني اشتريت منك كيلو من السكر وجعلته مثقالاً لنا نزن به الزبدة".

أحبتي في الله .. تيقنوا تماماً أن مكيالكم يُكال لكَم به. قال أهل العلم أنه وَرَدَ في الأثر "وقيل أنه حديثٌ شريف": [البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ]، والبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُق؛ فمن يعمل الخير فإن أجره يبقى محفوظاً عند الله ولا يضيع. أما الإثم الذي لا يُنسى فهو الخصال الشريرة وغير الحميدة التي تدفع الإنسان إلى القيام بالمعاصي، وهو كالبرّ لا يُنسى، إذ إنّ الله سبحانه وتعالى سيجازي الآثم، إمّا في الدنيا أو الآخرة. والديان لا يموت ولا ينام؛ فهو سبحانه لا يغفل عن أي دَيْنٍ لعباده، فهو الحق، العادل، الكريم، المعطاء، الجبار. فكن كما شئت؛ أي اختر بنفسك لنفسك الطريق، سواءً كانت خيراً أو شراً، فالله تعالى أعطى الإنسان العقل ووهبه الحرية، ولم يجبره على فعل أي شيء. و(كما تَدين تُدان) هي النتيجة النهائية؛ فأعمالك ستُرَد عليك، إذ أن الجزاء من جنس العمل، وهذا دليلٌ على عدل الله سبحانه وتعالى ورحمته.

(كما تَدين تُدان)، أو الجزاء من جنس العمل، حكمةٌ بليغةٌ تناقلها الناس قديماً، وجاءت الشواهد من الكتاب والسنة دالةً على صدقها؛ فقد عاقب الله تعالى المنافقين بجنس ما أذنبوا وارتكبوا، فقال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فعاقبهم على استهزائهم بدين الله عقاباً من جنس عملهم، فقال سبحانه: ﴿اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ فقوله: ﴿سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ﴾ من باب المقابلة على سوء صنيعهم وسخريتهم من المؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل. وكذلك الحدود التي شرعها الله تعالى، كان الجزاء فيها من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي مجازاةً على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب ذلك أن يُقطع ما استعانا به في السرقة.
ومما وعد الله به عباده المؤمنين قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾، لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته. كما رتب الله تعالى من الأجور والثواب على بعض الأعمال ما هو مناسبٌ للعمل نفسه، ومن ذلك:
قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
وفي الحديث القدسي ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى للرحم حين تعلقت به سبحانه: {أَمَا تَرضَينَ أَن أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وَأَقطَعَ مَن قَطَعَكِ؟} قَالَت: بَلَى، قَالَ: {فَذَاكَ لَكِ}.
وفي السُنة أحاديث كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: [ارحَمُوا مَن فِيْ الأَرضِ يَرحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [احفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ]، وقوله صلى الله عليه وسلم:
[المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسْلِمُه، مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]. وقد جاء في السُنة من الوعيد على بعض الذنوب ما هو مناسبٌ لها؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [مَن لَعَنَ شَيئًا لَيسَ لَهُ بِأَهلٍ رَجَعَتِ الَّلعنَةُ عَلَيهِ]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [مَن ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَن شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيهِ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [مَن سُئِلَ عَن عِلمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلجِمَ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ].
فالجزاء من جنس العمل، و(كما تدين تدان)، ذلك من مقتضى عدل الله سبحانه وتعالى وحكمته؛ فمن عاقب بجنس الذنب لم يَظْلِم، ومن دانك بما دنته به لم يتجاوز.

أحبتي .. من الحكمة ألا تصنع الرمح لمنافقٍ؛ يوماً ما ستكون أنت الهدف الذي يرمي نحوه. ولا تكن مُعيناً لظالمٍ ولا شريكاً له في ظلمه؛ فسيبطش بك فور انتهاء دورك. وخاذل المظلوم شريكٌ مع الظالم؛ فأكثر الظالمين لولا السكوت ما ظلموا. ومن أيَّد ظالماً ودعمه وتغاضى عن ظلمه لغيره، وبرره له، وشجعه عليه، سيأتي، إن عاجلاً أو آجلاً، اليوم الذي يُظلم هو فيه، ثم يشعر بمرارة خذلان غيره له، وشماتتهم فيه.
تأكدوا أحبتي أن (كما تَدين تُدان) هو قانون العدل الإلهي، نشاهد آثاره كل يومٍ؛ ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ﴾. فإن كنا نعمل خيراً فسوف نلقى خيراً، وإن كنا نعمل غير ذلك، لا قدَّر الله، فسوف نُدان بجنس عملنا، إن لم يكن بنفس الموقف فحتماً سيكون بنفس الألم، ولنتذكر أن الله عزَّ وجلَّ عندما تُرفع إليه دعوة المظلوم فإنه يقول: {وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ}.

اللهم يسَّر لنا أعمال الخير والبر، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وجازنا اللهم برحمتك وفضلك وإحسانك من جنس أعمالنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.
https://goo.gl/XEd52j


الجمعة، 28 ديسمبر 2018

بالشكر تدوم النعم/1


الجمعة 28 ديسمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦٧
(بالشكر تدوم النعم)

يُروى أن رجلاً عمره سبعون عاماً عانى من مشكلة مياهٍ على العين؛ ولم يتمكن من الرؤية لعدة أيام. وحين ازداد الألم زار طبيباً فاقترح عليه أن يُجري عملية جراحية في عينيه؛ فوافق الرجل على الفور للتخلص من الألم. بعد نجاح العملية حضر الطبيب إلى المريض وأعطاه بعض الأدوية وكتب له الخروج بعد دفع فاتورة المستشفى. وعندما نظر الرجل إلى الفاتورة بدأ في البكاء؛ فقال له الطبيب: "إذا كنت لا تستطيع دفع الفاتورة يمكن عمل تخفيضٍ يناسبك". ولكن ظل الرجل يبكي؛ فقال له الطبيب مرةً أخري: يمكن لنا أن نقسطها أيضاً لك". ولكن الرجل ازداد في البكاء؛ فقال له الطبيب: "يا جدي ما الذي يبكيك، ألا تريد دفع الفاتورة؟" قال الرجل: "ليس هذا ما يبكيني، ما يبكيني هو أن الله أعطاني نعمة البصر سبعين عاماً، ولم يرسل لي فاتورةً مقابل ذلك أبداً".

كما يُحكى أن رجلاً ابتلاه الله بقطع رجليه ويديه وابتلاه بالعمى، زاره مرةً أحد الناس فوجده يشكر الله عزَّ وجلَّ على نعمه ويقول: "الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به غيري، وفضَّلني على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً"، فتعجب الرجل الزائر من قوله فسأله: "على أي شيءٍ تحمد الله وتشكره؟"، فقال له الرجل الأعمى والأبتر: "يا هذا، أَشْكُرُ الله عزَّ وجلَّ على أنه قد وهبني لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، كما أنه وهبني بدناً على البلاء صابراً".

تذكرت هاتين القصتين وأنا أستمع لصديقٍ يتحدث في حفل تكريم له بمناسبة ترقيته إلى وظيفةٍ أعلى، سمعته يقول إن سبب نجاحه هو مثابرته وحرصه على الحصول على أعلى درجةٍ علميةٍ في مجال تخصصه مع أخذه بأسباب تنمية قدراته المهنية بكل وسيلةٍ ممكنةٍ؛ بالقراءة والاطلاع على كل جديدٍ في مجال العمل وحضور الدورات التدريبية وورش العمل التي تنظمها المؤسسة، وغير ذلك من وسائل وأساليب. كان كلامه ملهماً لكثيرٍ من الحاضرين، خاصةً الشباب منهم. أما أنا فقد لفت انتباهي أنه لم يذكر فضل الله عليه ولا مرةً واحدةً خلال حديثه الطويل، ولم يشكر الواهب المُنعِم على عطاياه ونعمه، رغم علمنا جميعاً بأنه (بالشكر تدوم النعم)!

أحبتي في الله ..  لا اعتراض لي على ما قاله صديقي؛ فهو جميعه من باب الأخذ بالأسباب، ونحن مطالبون بذلك بغير شكٍ، لكن في غمرة فرحتنا بإنجازٍ أنجزناه أو بنجاحٍ حققناه أو بنعمةٍ أنعم بها الله سبحانه وتعالى علينا يجب ألا ننسى المُنعم؛ فالنعم كلها من الله، وإن كان علينا أن نُحَدِّث بنعمة ربنا كما أمرنا سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، فإن أول الحديث يكون بالشكر، ويكون بنسبة النعمة للمنعم؛ فلا نكون كقارون حين نسب النعمة إلى نفسه واغتر بعلمه فقال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾. ومثل قارون موجودون في كل زمانٍ ومكان؛ فما ضربه الله لنا إلا مثلاً، فهل من متعظ؟
لا يزال هناك مِن بيننا مَن يغتر بعلمه، ومن يغتر بماله، ومن يغتر بقوته، ومن يغتر بحسبه ونسبه. إنها النفس البشرية حين تضل وتطغى وتفقد فطرتها النقية الصافية التي فطر الله الناس عليها.
لكن المسلم الحق عندما يُرزَق لا ينسى الرازق، وحينما يُنعَم عليه لا ينسى المنعم، كما أنه عندما يمرض لا ينسى الشافي. يأخذ بكل سببٍ مقبولٍ لا يتعارض مع الشرع، وهو يوقن بأن النافع هو الله سبحانه وتعالى، وهو الضار. فتدور حياة المسلم كلها ما بين فضلٍ ونعمةٍ نشكر الله عليها، وابتلاءٍ وفتنةٍ نصبر عليها. وبقدر الشكر يكون الثواب، وبمدى الصبر يكون الجزاء، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ].
وكما يُقال: تحتاج النعمة إلى شُكر، ويحتاج البلاء إلى صبر، ويحتاج الذنب إلى استغفار، فمن شكر وصبر واستغفر نال الأجر.
فما هو الشكر؟ يقول أهل العلم: شكرت الدابة، أي: سمنت وظهر عليها أثر العلف. وحقيقته في العبودية لله سبحانه وتعالى هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه: شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه: انقياداً وطاعة. يقول ابن القيم: "شكر العبد يدور على ثلاثة أركانٍ لا يكون شكوراً إلا بمجموعها، وهي: الاعتراف بالنعمة باطناً، والتحدث بها ظاهراً، والاستعانة بها على طاعة الله". والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح؛ فالقلب للمعرفة والمحبة، واللسان للحمد والثناء، والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه.
إن نعم الله علينا لا تُعد ولا تُحصى؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، لذا وجب علينا الشكر حتى تدوم النعم، والشكر لا يديم النعم فحسب بل ويزيدها أيضاً، كما أن عدم شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه كفرٌ بها يستوجب العذاب الشديد؛ لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ]. ومن أعظم الأدعية: "اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوْذُ بِك من السَّـلْبِ بَعْدَ العَطاءِ، ومِن الشِّدَّةِ بَعْدَ الرَّخَاءِ، ومِن الفَقْرِ بَعْدَ الغِنَى، و مِنَ الضَّلالَةِ بَعْدَ الهُدَى"، فلو زالت نعمةٌ كان يعطيها لنا المولى عزَّ وجلَّ فلا بد أن نكون نحن الذين كفرنا بأنعمه ولم نحمده عليها، ولم نشكره حق شكره.
ولكي تستمر نعم الله علينا ويبارك الله لنا فيها علينا أن نُرجع كل نعمةٍ إلى الله، وننسب كل فضلٍ إليه؛ سواءً في الولد الصالح أو الزوج الطيب أو وفرة المال أو تمام الصحة أو اكتمال العلم أو غير ذلك، ولنقل دائماً: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾، ولنعلم أنه (بالشكر تدوم النعم) وتزداد، ولنا في رسولنا الكريم الأسوة الحسنة؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطَّر قدَماه، فتقول له السيدة عائشة، رضي الله عنها: "يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: [يا عائشة، أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا].
والشكر ينبع من القلب وتصدقه الجوارح؛ فشكر نعمة المال يكون بالصدقة على الفقراء والمساكين، وشكر نعمة العلم يكون بنشره بين الناس وعدم كتمانه، وشكر نعمة الزوجة الصالحة يكون بمعاملتها بإحسان، وشكر نعمة الولد يكون بحسن تربيته وتنشئته التنشئة الصالحة، وشكر نعمة الصحة يكون بتقوى الله في أعضاء أجسادنا وفي جوارحنا فلا نستخدمها فيما يغضب الله؛ فنغض البصر عن الحرام، ونقصر السمع على ما يرضي ربنا، ونُعَوَّد اللسان على ذكر الله والبعد عن الكذب والغيبة والنميمة، ونمنع الأيدي عن البطش بالناس، ونبعد أرجلنا عن السير إلى المعاصي والمحرمات.

وإلى جانب نعم الله الظاهرة، فإن هناك نعماً باطنةً؛ منها على سبيل المثال: كف أذىً كان يمكن أن يصيبنا، أو تخفيف مصيبةٍ ألمت بنا، أو عدم الاستجابة لدعاءٍ لنا فيه ضررٌ نجهله؛ يقول تعالى: ﴿وَيَدعُ الإِنسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالخَيرِ وَكانَ الإِنسانُ عَجولًا﴾، وجميع هذه النعم تستوجب الشكر.

أحبتي .. يصف أحد العلماء حال الكثيرين منا فيقول: للأسف الشديد نجد الناس يحمد بعضهم بعضاً حينما يقدم أحدهم لأخيه عوناً ولو كان صغيراً، ولا نجد الكثير منهم يحمدون الله على نعمه عليهم رغم عظمها وكثرتها، وكأن هذه النعم حقٌ مكتسبٌ لا فضل لله عليهم فيها، بل كثيراً ما يستعملونها في معصيته. إنها الغفلة والجحود والكفران بالنعمة، لا يُقَدِّرون قيمة هذه النعم إلا إذا حُرموا منها أو أُصيبوا فيها، فيجأرون إلى الله بالدعاء. فما أجدرنا أن نشعر بمدى فقرنا وحاجتنا إليه سبحانه في كل لحظةٍ، وبمدى تقصيرنا في واجب الشكر، وبضرورة استعمال هذه النعم في طاعته سبحانه والبعد بها عن معصيته. إن الله سبحانه تعالى لا يزداد ملكه بشكر الناس له ونسبتهم الفضل إليه، كما أنه لا يتضرر بكفرهم، لأنه الغني الحميد، لكنه يحب أن يُحمد ويُشكر؛ قال تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾، فإذا أيقنا أنه (بالشكر تدوم النعم)؛ فإن المستفيد والمنتفع بالشكر هو الإنسان نفسه.

اللهم اجعلنا من الصبورين الشكورين الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا اُبتلوا صبروا. نسألك سبحانك أن تُعيننا على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك.‏

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/Jf5HAA

الجمعة، 21 ديسمبر 2018

أعمال يسيرة ثوابها عظيم


الجمعة 21 ديسمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦٦
(أعمال يسيرة ثوابها عظيم)

سُئل أحد العلماء عن أجمل حكمة قرأها في حياته فقال: لقد قرأت لأكثر من سبعين عاماً، فما وجدت حكمةً أجمل من تلك التي رواها ابن الجوزي رحمه الله: "إن مشقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها، وإن لذة المعاصي تذهب ويبقى عقابها".
قال العالِم: "كُن مع الله ولا تُبالي، ومُدّ يديك إليه في ظُلُمات اللّيالي، وقُل: يا رب ما طابت الدّنيا إلاّ بذكرك، ولا الآخرة إلاّ بعفوك، ولا الجنّة إلاّ برُؤيتك. صافح وسامح، ودع الخلق للخالق؛ فنحن وهم راحلون. افعل الخير مهما استصغرته؛ فإنك لا تدري أية حسنةٍ تدخلك الجنة".

أحبتي في الله .. كثيرةٌ هي الأعمال البسيطة السهلة التي يمكن لأي مسلمٍ أن يقوم بها أو يؤدي بعضها، وفيها ثوابٌ عظيمٌ وأجرٌ كبير؛ قال صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: [مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى] فإن كنا نريد الجنة فيجب أن نطيع أوامر رسول الله، رزقنا الله وإياكم الجنة وأكرمنا برفقة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم.

يقول أهل العلم أن الجنة هي المكان الذي يقصده المؤمنون، ويسعى لدخوله المسلمون حتى يتلذذوا برضوان الله تعالى، ويأنسوا برحمة الله العظيم؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ . فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾؛ فالجنة هي وعد الله عز وجل للمتقين، وفيها ينعمون بأجمل العطايا والمنح من الله الكريم، وهي الراحة الأبدية لكل من تفضل الله تعالى عليه وأذن له بدخولها، فلا موت ولا سقم ولا شيب ولا كدر يعكر صفو النفوس،  بل سعادةٌ صافيةٌ لا بأس فيها ولا خوف، وصفها الرسول الله  صلى الله عليه وسلم فبشرنا بما فيها من نعيم؛ قال صلى الله عليه وسلم: [ينادي منادٍ إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، فذلك قوله عز وجل: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾].

وهذه بعض الأحاديث النبوية الشريفة، ويوجد غيرها كثير، تشير كلها إلى (أعمال يسيرة ثوابها عظيم) وأجرها كبير تُدخل المسلم الجنة بإذن الله:
قول لا إله إلا الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما قالَ عبدٌ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قطُّ مخلِصًا، إلَّا فُتِحَت لَهُ أبوابُ السَّماءِ، حتَّى تُفْضيَ إلى العرشِ، ما اجتَنبَ الكبائرَ].
قراءة سورة الزلزلة، وسورة الكافرون، وسورة الإخلاص؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتْ عُدِلَتْ لَهُ بِنِصْفِ القُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ عُدِلَتْ لَهُ بِرُبُعِ القُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عُدِلَتْ لَهُ بِثُلُثِ القُرْآنِ].
التسبيح والحمد؛ قال صلى الله عليه وسلم لزوجته جويرية وقد خرج من عندها ثم رجع: [لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ].
قول لا إله إلا الله وحمده؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ].
الاستغفار؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ].
الاستغفار للمؤمنين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً].
الأذان؛ قال صلى الله عليه وسلم: [.. والْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ بِمَدِّ صَوْتِهِ وَيُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى مَعَهُ].
قضاء حوائج المسلمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [.. وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا ..].
عزاء المسلم بمصيبته؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلَّا كَسَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ].
السلام على المسلم ومصافحته؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِن الْمُؤمنَ إِذا لَقِي الْمُؤمنَ فَسلمَّ عَلَيْهِ، وَأخذ بِيَدِهِ فصافحه، تناثرت خطاياهما كَمَا يَتَنَاثَر ورقُ الشّجر].
المشي إلى الصلاة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَن مَشَى إلى صلاةٍ مكتوبةٍ في الجماعةِ، فهي كَحَجَّةٍ، ومَن مَشَى إلى صلاةِ تَطَوُّعٍ، فهي كعُمْرَةٍ].
الصلاة مع الجماعة؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ].
الصلاة في المسجد النبوي؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ].
ركعتا سنة الفجر؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا].
حمد الله عند الرفع من الركوع؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [إِذَا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ].
كثرة السجود لله؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً].
قراءة القرآن وعمارة المساجد؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [قال اللهُ عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ أين جيراني؟ فتقولُ الملائكةُ من هذا الَّذي ينبغي له أن يُجاورَك؟ فيقولُ أين قُرَّاءُ القرآنِ وعُمَّارُ المساجدِ؟].
المواظبة على الصلاة واجتناب الكبائر؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [أبشِروا، أبشِروا! مَن صلَّى الصَّلواتِ الخمسَ، واجتنبَ الكبائرَ؛ دخلَ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شاءَ].
صلاة الفجر والعصر؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ].
قول آمين في الصلاة وراء الإمام؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ].
وصل الصفوف وسد الفُرج في الصلاة؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ وَمَنْ سَدَّ فُرْجَةً رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً].
المحافظة على السنن الرواتب؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ].
صلاة أربع ركعاتٍ قبل صلاة الظهر وأربعٍ بعدها؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرُمَ عَلَى النَّارِ].
صلاة ركعتين عقب إسباغ الوضوء؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَغُفِرَ لَهُ].
الصلاة على الميت وحضور دفنه؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِِ] قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: [مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ].
صلاة الضحى؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [إِن الله، عز وَجل، يَقُول: يَا ابْن آدم: اكْفِنِي أول النَّهَار بِأَرْبَع رَكْعَات أكفك من آخر يَوْمك].
الصلاة قبل الخروج من المنزل وبعد الدخول إليه؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [إذا دخلتَ منزلَك فَصَلِّ ركعتين تمنعانِك مدخلَ السوءِ، وإذا خرجتَ من منزلِك فصلِّ ركعتين تمنعانِك مخرجَ السُّوء].
صلاة الفجر في جماعة ثم القعود بالمصلَى لذكر الله حتى طلوع الشمس؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ , تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ].
بناء المساجد؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ].
المشي إلى المسجد لصلاة الفجر؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ].
صلاة العشاء وصلاة الفجر في المسجد؛ قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: [مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ].
الصدقات؛ قال النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: [اتَّقوا النَّارَ ولو بشقِّ تمرةٍ ، فمن لم يجِدْ فبكلمةٍ طيِّبةٍ].
طلاقة الوجه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تحقرَنَّ من المعروفِ شيئًا، ولو أن تلقَى أخاك بوجهٍ طلِقٍ].
إماطة الأذى عن الطريق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لقد رأيتُ رجلًا يتقلَّبُ في الجنَّةِ، في شَجرةٍ قطعَها من ظَهْرِ الطَّريقِ، كانت تؤذي النَّاسَ].

وهذه تمرةٌ أدخلت صاحبتها الجنة؛ دخَلت على أم المؤمنين عائشَةَ رضي الله تعالى عنها امرأةٌ معَها ابنتانِ لَها، فأعطَتها ثلاثَ تمراتٍ، فأعطَت كلَّ واحدةٍ منهما تمرةً، ثمَّ صَدعتِ الباقيةَ بينَهُما، قالت: فأتى النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فحدَّثتُهُ، فقالَ: [ما عجبُكِ، لقد دخلَت بِهِ الجنَّةَ].
وهذه سقيا ماءٍ أدخلت بغياً الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بينما كلبٌ يُطِيفُ برَكيَّةٍ، كاد يقتُلُه العطشُ، إذ رأَتْه بغيٌّ من بغايا بني إسرائيلَ، فنزَعَت مُوقَها، فسَقَتْه فغُفِر لها به].

أحبتي .. تلك بعض (أعمال يسيرة ثوابها عظيم) وأجرها كبيرٌ؛ تُدخل صاحبها بكرم الله الجنة، أعمالٍ غير مكلفةٍ ولا تحتاج إلى كثيرِ وقتٍ أو جهدٍ أو مالٍ؛ فلنحرص على أدائها كلها، أو ما تيسر منها، فليس منا من هو في غنىً عن الثواب والأجر، ولا ندري أيها يثقل كفة الميزان يوم الحساب فنكون من أصحاب الجنة برحمة الله.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/ctbPfH

الجمعة، 14 ديسمبر 2018

أمة اقرأ


الجمعة 14 ديسمبر 2018م

خاطرة الجمعة / ١٦٥
(أمة اقرأ)

كتب أحدهم يقول: أنت لا تقرأ؛ إذن أنت لا تفكر إلا في حاجاتك الضرورية من طعامٍ وشرابٍ ونومٍ وغيرها من مطامحك الدنيا. أنت لا تقرأ؛ إذن لن تتمكن من إنتاج أية فكرةٍ ذات قيمةٍ، وربما سيتساوى وجودك في الحياة مع عدمه. أنت لا تقرأ؛ إذن فحياتك روتينٌ مملٌ مقيتٌ لا جديد فيه ولا إثارة. أنت لا تقرأ؛ إذن أنت تحرم نفسك من أكثر متع الحياة بهجةً، متعة الخوض في بحار الأفكار والغوص في أعماقها والتقاط لآلئها. أنت لا تقرأ؛ إذن أنت كجهازٍ فائق الإمكانات تُرك ليأكله الغبار وينخره الصدأ. أنت لا تقرأ؛ أنت إذن كبيتٍ أُغلقت نوافذه ومنافذه منذ أن بُني إلى أن يُهدَم، غارقٌ في الظلام لا يعرف الضياء ويسكنه العفن. أنت لا تقرأ؛ إذن فأنت اكتفيت بعقلٍ واحدٍ بينما آلاف العقول وأنفَسهَا مفتوحةٌ ومتاحةٌ لك بين طيات الكتب. أنت لا تقرأ؛ إذن فقد اكتفيت بحياةٍ واحدةٍ بينما حيواتٌ وحيواتٌ مبثوثةٌ لك على أجنحة الحروف ومناكب الكلمات. أنت لا تقرأ؛ إذن هل أنت حقاً تعيش؟!

أحبتي في الله .. هذا ما كتبه أحدهم عن القراءة لكل الناس، وهو محقٌ فيما كتب، فما بالنا نحن المسلمين لا نقرأ؟ ما بالنا إذا واظب أحدنا على قراءة صحيفةٍ يوميةٍ يعتبر نفسه قارئاً! ما بالنا قد خاصمنا الكتب وكأنها عدوٌ لدود؟ لماذا لا نقرأ ونحن (أمة اقرأ)؟ حمل أجدادنا مشاعل العلم ونشروا المعارف في العالم كله شرقه وغربه؛ وعلَّموا الشعوب كيف تقرأ، فما الذي حدث لنا؟ هل استقلنا من دورنا في صنع الحضارة؟ هل سلمنا الراية لغيرنا طواعيةً؟ أم خنوعاً وخضوعاً واستسلاماً؟ كيف نرى الناس في معظم دول العالم لا يكاد الكتاب يفارق أيديهم في المواصلات العامة، وكأن بهم نهمٌ أو شرهٌ للقراءة، ونحن نكتفي بالنظر إليهم والتعجب مما يفعلون؟

يقول أهل العلم أن القراءة تُعد من المهارات المهمة المُكتسبة التي يتم من خلالها تحقيق المتعة والنجاح في الحياة فهي جزءٌ من حياة الإنسان، وبالقراءة تتطور العلوم وتزدهر الأمم، فهي ضرورةٌ من ضرورات الحياة، كما أنّها قد لاقت أهمية كبيرة في الإسلام، وذلك لأنّ بها يرتقي العقل ويتفكر في خلق الله.
وللقراءة مكانةٌ عاليةٌ في الإسلام؛ فكانت أول كلمة بدأ بها جبريل عليه السلام كلامه مع النبي صلى الله عليه وسلم هي كلمة اقرأ؛ قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾. هكذا تتجلى أهمية القِراءة في الإِسلام بِشكلٍ واضِحٍ في أولى الآيات الّتي نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام عن طريق الوحي؛ قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، إنه أمرٌ واضحٌ يتبين منه أن القِراءة للمسلم ليست هوايةً، ولا هي ترفٌ، وإنّما هي منهج حياةٍ حدّد الله سبحانه وتعالى لنا فيه ضابطَين أساسيَّين؛ الأول أن القِراءة يجب أن تكون باسم الله، فلا يجوز قِراءة ما ينهى عنه الله أو ما يُغضِب الله عز وجل. والثاني أنّه يجب ألّا يتكبّر الإنسان بما يَحصُل عليه من علمٍ بسبب القِراءة؛ فمهما وصل الإنسان من درجاتٍ عُليا في العلم عليه أن يتذكّر أن الله سبحانه وتعالى هو الّذي علّمه؛ قال تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مواقف تدل على أهمية القراءة؛ منها فداء الأسرى بعد معركة بدر، حيث كان النبي يطلب ممن يُريد تحرير نفسه من أسرى المشركين أن يُعلم عشرة أشخاصٍ من المسلمين القراءة والكتابة، رغم أن المسلمين كانوا وقتئذٍ بحاجةٍ إلى المال، كما أن استبقاء هؤلاء الأسرى كان مهماً من أجل الضغط على قريش لإبدالهم مع أسرى المسلمين، ومع ذلك فقد رأى النبي أنّ تعليم المسلمين القراءة والكتابة أهم من الأمور الأخرى. ونلاحظ أن الصحابة الذين كانوا يُجيدون القراءة والكتابة هم الذين تقدموا على غيرهم؛ ومنهم زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي تم تقديمه على غيره، وكان مُصاحباً للنبي، فكان كاتباً للوحي، وكاتباً للرسائل -مع أنّ عمره لم يتعدَ الثلاثة عشر عاماً- وهو نفسه الذي أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بتعلم لغة اليهود، فتعلمها في خمسة عشر يوماً فقط! كيف فعل ذلك؟ فعل ذلك لأنه حمل هَم أمةٍ كاملةٍ، وحمل هم دين الله فكانت هذه هي النتيجة.

أحبتي .. قال أحد العلماء إن مفتاح قيام هذه الأمة هو كلمة: ﴿اقْرَأْ﴾؛ فلا يمكن أن تقوم لأمة الإسلام قائمةٌ من غير قراءة؛ فهذا أحد أعداء الإسلام يقول: "نحن لا نخشى أمة العرب، لأن أمة العرب أمةٌ لا تقرأ، وإذا قرأت لا تفهم، وإذا فهمت لا تعمل بما فهمت!"؛ فالأمة التي لا يقرأ أبناؤها ويستفيدون مما يقرأون تظل أمةً غير مهيبةٍ ولا مرهوبة.
وحتى تزدهر أمتنا الإسلامية وتُصبح قويةً، فلا سبيل أمامنا إلا العلم الذي أساسه القراءة، وإذا أردنا اليوم اللحاق بركب التقدم -الذي كنا نحن المسلمين قادته فيما مضى- فعلينا البدء، كما بدأ أسلافنا العظام، بالقراءة والتدبر فيما نقرأ!
وأختم بما قاله أحد الفضلاء: "إذا كنت مسلماً حقاً، تريد نصرة الدين وتريد التصدي لمن يعادي المسلمين ويشوه صورة الإسلام، لا بد من الاستعداد الصحيح على بصيرةٍ، لا بد أن ترجع إلى كتاب الله أولاً وتتدبر معانيه وتفهمه جيداً، ثم تخوض في حفظه، ثم تبدأ بالسنة النبوية، ثم التفقه في الدين بصفةٍ عامةٍ وفي التاريخ الإسلامي بصفةٍ خاصةٍ حتى تكون مستعداً جيداً، واعلم أن طلب العلم فريضةٌ على كل مسلمٍ ومسلمة، واعلم أن الله يسهل طريق الجنة لمن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً".

اللهم اجعلنا من (أمة اقرأ) حقاً وصدقاً، واجعلنا ممن يحرصون على القراءة، وممن يتدبرون ما يقرأون، ويستوعبون علوم الدين وعلوم الدنيا؛ فنعيد بناء الحضارة وصنع التاريخ.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/Q6Ah1H

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

جسور المحبة


الجمعة 7 ديسمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦٤
(جسور المحبة)

يُحكى أن أخوين عاشا في الريف لمدةٍ طويلةٍ في اتفاقٍ ومحبةٍ في بيتين منفردين، وفي يومٍ من الأيام نشبت بينهما مشاجرةٌ، وكانت هي الأولى بعد أربعين سنةً عملا فيها معاً في فلاحة الأرض متشاركين في الآلات والأجهزة متقاسمين المحاصيل والخيرات. نشأ الخلاف من سوء تفاهمٍ طفيفٍ وازداد حتى نشبت مشاحنةٌ تبادلا فيها الكلمات المُرَّة، أعقبتها أسابيع من القطيعة والصمت المطبق. ذات صباحٍ قُرِع باب الأخ الكبير، وإذا به أمام رجلٍ يحمل أدوت نجارةٍ يقول له:
"إني أبحث عن عملٍ لبضعة أيام، ورأيت أنك قد تحتاج إلى بعض الترميمات الطفيفة في المزرعة، وقد أكون مفيداً لك في هذا العمل"، فأجابه الأخ الأكبر: "نعم أنظر إلى الطرف المقابل من النهر حيث يعيش جاري، أعني أخي الصغير، حتى الأسبوع الماضي كان هناك مرجٌ بديعٌ بيننا غير أنه حوَّل مجرى النهر ليفصل بيننا، لقد قصد ذلك لإثارة غيظي غير أنني سأدبر له ما يناسبه!! أترى ذلك الخشب المكدَّس هناك قرب مخزن القمح؟ أريدك أن تبني به جداراً ارتفاعه متران كي لا أراه ولا يراني أبداً". أجاب النجار: "يبدو أنني فهمت الوضع". ساعد الأخ الأكبر النجار في كل ما يلزمه لبناء الجدار ومضى ليتبضع في القرية التي تبعد عن المزرعة مسافةً كبيرةً. في المساء، عندما عاد الأخ الكبير إلى المزرعة، وجد أن النجار كان قد أتم عمله، لكنه أُصيب بالدهشة مما رأى؛ لم يكن هنالك أي جدارٍ على النهر، لكنه ما رآه كان جسراً يصل بين المزرعتين عبر النهر. كان عمل النجار في غاية الدقة والإتقان والإحسان.
في تلك اللحظة أتى الأخ الصغير ليرى ما صنع أخوه؛ فرأى الجسر فلم يكن منه إلا أن عانقه قائلاً: "يا لك من أخٍ رائعٍ! لقد بنيتَ هذا الجسر بعد كل القطيعة التي كانت بيننا". وبينما هما يتصالحان أخذ النجار أدواته وهمَّ بالرحيل فقال له الأخ الأكبر: "انتظر، أرجوك أن تبقى فلدي الكثير من العمل الذي أود أن أطلبه منك"، فما كان من النجار إلا أن قال: "كنت أتمنى البقاء لولا كثرة (جسور المحبة) التي تنتظرني"!

أحبتي في الله .. يقول كاتب القصة أننا كثيراً ما ندع سوء الفهم وحِدَّة الكلام تؤثر فينا؛ فيتغلب كبرياؤنا على مشاعرنا. فلنحرص على التسامح فهو لا يُغَيِّر الماضي وإنما يجعل المستقبل أكثر جمالاً وإشراقاً.

ومن القصص الحقيقية التي تُروى عن متانة (جسور المحبة) بين الإخوة، أن أهل قريةٍ كانت لهم بئرٌ عميقةٌ يشربون منها، وحصل أنهم كلما أدخلوا الدلو في البئر أتى الحبل بلا دلو! وتكررت هذه الحادثة حتى كانت مصدر إزعاجٍ لهم لعدم معرفتهم سبب ذلك حتى قالوا أنها بئرٌ مسكونةٌ من الجن! واتفقوا فيما بينهم على أن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو أن يتطوع أحد أبناء القرية بالنزول إلى البئر ليرى ما يحدث بداخله. وبالفعل، تطوع أحدهم لتنفيذ تلك المهمة الخطرة على أن يربطوا حول وسطه حبلاً وينزل البئر، لكنه اشترط عليهم أن يأتوا بأخيه ليمسك معهم الحبل الذي سوف يربط فيه! استغرب أهل القرية من شرطه؛ فهم كثيرون وأقوياء وقادرون على الإمساك بالحبل الذي ربطوه حول وسطه بغير مساعدة من أخيه، حاولوا إقناعه دون جدوى، ولم يكن أخوه وقتئذ حاضراً. وافق أهل القرية على طلبه؛ وأتوا بأخيه، ليمسك معهم الحبل، ودخل الرجل في غيابة البئر ليستشرف الخبر، فوجد قرداً داخل البئر هو الذي يفك الدلو داخل البئر، فحمل القرد على رأسه وقال لهم اسحبوا الحبل، فلما اقترب من سطح البئر رأى الممسكون بالحبل شيئاً غريباً خارجاً من البئر، فظنوا أنه شيطانٌ؛ فتركوا الحبل وولوا هاربين، ولم يبقَ أحدٌ يمسك بالحبل إلا أخوه، ظل ممسكاً بالحبل خوفاً على أخيه. خرج أخوه من البئر، وحينها عرف الجميع أن الله قد جعل أخاه سبباً في نجاته، ولولا ذلك لكان قد سقط داخل البئر ولقى حتفه.

يقول أهل العلم أن لفظ "الإخوة" قد ورد في القرآن الكريم على أنواعٍ؛ منها:
إخوة النسب؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾.
وإخوة الرضاعة؛ قال تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾.

وإخوة القوم أو العشيرة؛ قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾.
وإخوة الإيمان؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا﴾.
وإخوة الكفر؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾.
وإخوة الشياطين؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾.
وإخوة الجنة؛ قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾.
وقال الله تعالى في علاقة الكفار بالمؤمنين: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.

وعن رباط المودة و(جسور المحبة) يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾، لم يختر الله من اﻷقارب لشد العضد، إلا الأخ. وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، فلن يتفقدك ويبحث عنك ليطمئن عليك، مثل أختك. إنه رباط الحب بين الإخوة ذكوراً وإناثاً.

أحبتي ..  أعجبني قول أحدهم عن (جسور المحبة) إذ كتب يقول: لنتذكر أننا نغفل كثيراً عن حقوق الأخ وما يتوجب علينا نحوه، وننسى أنه العضد والسند، وأن الأخ إذا فُقد فلا يمكن تعويضه، وأنه مهما وجدت من الناس خيراً فلن يغنوك عن أخيك.
وكلنا إخوة في الإسلام، فالمسلم أخو المسلم، ولكن أقوى الأواصر والروابط في إخوة الإسلام هي ما بينك وبين أخيك ابن أمك وأبيك.

لا تجعل الحقد يفسد العلاقة بينك وبين إخوانك المسلمين، ولا تسمح أن يفسد حادثٌ بسيطٌ أخوةً ربط بها الله سبحانه وتعالى بينك وبين إخوانك وأخواتك، وتذكر أن الدنيا إلى زوالٍ وأنها متاع الغرور؛ قال المولى عز وجل: ﴿وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا مَتاعُ الغُرورِ﴾. فتحاشى كل ما يوتر علاقة الحب بينك وبين إخوانك وأخواتك، واعمل على بناء (جسور المحبة) بينك وبينهم وتقويتها؛ فلن تجد بالدنيا من يشد عضدك مثل أخيك؛ فاحرص على كسب وده وتعزيز محبته.
تمسكوا أحبتي بإخوانكم وأخواتكم، اهتموا بهم فلا توجد، بعد الوالدين، علاقة حبٍ وودٍ خالصٍ صافٍ أجمل من تلك التي بين الإخوة والأخوات. لا يغرنك كثرة من حولك، ففي وقت الشدة لن تجد إلا إخوانك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/RBVaJe



الجمعة، 30 نوفمبر 2018

عماد الدين


الجمعة 30 نوفمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦٣
(عماد الدين)

بالأمس عدتُ من العمل إلى بيتي متعباً منهكاً؛ فقالت لي زوجتي: "هلَّا بدلت ثيابك وارتحت قليلاً ريثما ينضج الطعام؟". ذهبتُ إلى غرفة نومي وبدلتُ ثيابي وتمددتُ على سريري وأغمضتُ عينيّ، لم أفتحهما إلا على صوت المؤذن يؤذن لصلاة العصر، فخرجتُ من الغرفة متوجهاً إلى المطبخ فوجدتُ زوجتي منهمكةً في إعداد الطعام، سألتها: "ماذا أعددتِ لنا من طعامٍ لنا اليوم يا حبيبة القلب؟"، لكنها لم ترد! فعاودتُ السؤال مرةً أخرى فلم ترد، وكررتُ السؤال للمرة الثالثة فتفاجأت بأنها لم ترد كذلك! كانت دهشتي أكبر من غضبي؛ إذ أنها المرة الأولى منذ عشرين عاماً، هي مدة حياتي الزوجية، أخاطب فيها زوجتي ولا تعيرني أي اهتمام! التفتُ فإذا بابني يدخل المطبخ، فطلبتُ منه إحضار زجاجة ماءٍ من الثلاجة، فلم يرد عليّ هو الآخر؛ فازداد تعجبي منه، وهو الشاب الدمث الذي يُضرب به المثل في الأدب وحُسن الخلق! هممتُ بالخروج من المطبخ فإذا بزوجتي تقول لابني: "اذهب وأيقظ أباك لتناول الغداء"، هنا بلغ مني الذهول مبلغه! اتجه ابني بالفعل إلى غرفتي ليوقظني! صرخت فيه بصوتٍ عالٍ: "أنا هنا"، فلم يلتفت إليّ ومضى مسرعاً وتركني غارقاً في ذهولي. بعد دقيقةٍ أو يزيد عاد إلى المطبخ وقد ارتسم الرعب على وجهه، فسألته أمه: "هل أيقظتَ أباك؟"، فتلعثم قليلاً، ثم قال: "حاولتُ إيقاظه مراراً وتكراراً لكنه لم يُجب!"، فازدادت دهشتي، ماذا يقول هذا الولد؟! وإذا بزوجتي تهرول مسرعةً إلى غرفة نومي وخلفها الأولاد مذعورين، فتبعتُهم لأجدها تحاول إيقاظ شخصٍ آخر في سريري، يشبهني تماماً، ويلبس نفس ثيابي! وما إن يَئِسَتْ من إيقاظه حتى بدأت عيناها تغرورقان بالدموع، وبدأ أولادي في البكاء والنحيب ومناداة ذلك الرجل المُلقىٰ على فراشي والتعلق بثيابه أملاً في أن يرد عليهم. وأنا لا أصدق ما يجري حولي! يا إلهي ما الذي يحدث؟! مَن هذا الرجل الذي هو نسخةٌ مني؟! لماذا لا يسمعني أحد؟! لماذا لا يراني أحد؟! خرج ابني مسرعاً ليعود بعد قليلٍ ومعه أبي وأمي وإخوتي، وأُجهش الجميع بالبكاء، وأمي تعانق ذلك الرجل النائم مكاني وتبكي بكاءً حاراً، فذهبتُ إليها محاولاً لمسها والحديث معها وإفهامها أني مازلتُ بجوارها إلا أنه حِيل بيني وبين ما أردت. التفتُ إلى أبي وإلى إخوتي محاولاً إسماع صوتي لهم، ولكن دون جدوى!
ذهب إخوتي للإعداد للجنازة، وخرَّ أبي على الكرسي يبكي، وأنا في ذهولٍ تامٍ وإحباطٍ شديدٍ من هول ذلك الكابوس المزعج الذي أحاول الاستيقاظ منه.
جاء المغسل وبدأ في تغسيل ذلك الجسد الملقى على فراشي بمساعدة أبنائي، ولفه بالكفن، ووضعه في التابوت. وتوافد الأصدقاء والأحباب إلى البيت والكل يعانق أبي المنهار ويُعَزُّون إخوتي وأبنائي ويدعون لي بالرحمة ولهم بالصبر والسلوان. ثم حملوا التابوت إلى المسجد ليُصَلُّوا عليه، وخلا المنزل إلا من النساء. فخرجتُ مسرعاً خلف الجنازة المتجهة إلى المسجد حيث اجتمع الجيران والأصدقاء واصطفوا خلف الإمام ليصلوا عليّ.
وسط هذا الزحام الشديد وجدتني أخترق الصفوف بيسرٍ وسهولةٍ دون أن ألمس أحداً. كبَّر الإمام التكبيرة الأولى وأنا أصرخ فيهم: "يا أهلي يا جيراني على من تصلون؟! أنا معكم ولكن لا تشعرون! أناديكم ولكن لا تسمعون! بين أيديكم ولكن لا تبصرون!". فلما استيأستُ منهم تركتُهم يُصَلون وتوجهتُ إلى التابوت وكشفتُ الغطاء أنظر إلى ذلك النائم فيه، وما إن كشفتُ عن وجهه حتى فتح عينيه ونظر إليَّ وقال: "الآن انتهى دوري، أنا إلى الفناء أما أنت فإلى البقاء!"، ثم قال: "لازمتُك ما يزيد عن أربعين عاماً واليوم مآلي إلى التراب، ومآلك إلى الحساب!".
لم أشعر بنفسي إلا وأنا ملقىً في التابوت فاقداً السيطرة على كل شيء؛ أطرافي لم تعد تستجيب لي، لم أعد أرى شيئاً، لم أعد أقوى على الحراك، أحاول الكلام فلا أستطيع. فقط أسمع تكبيرات الإمام، ثم غمغمات المصلين، وبعدها بفترةٍ سمعتُ دعوات المشيعين، ثم صوت التراب ينهال عليّ، ثم قرع النعال مبتعدة. أدركت حينها أنها النهاية، ولربما البداية؛ بداية النهاية، هكذا بكل بساطةٍ ودون مقدمات! ما زال لدي الكثير من المواعيد، ما زال لدي الكثير من الأشغال، ما زال لدي الكثير من الديون التي لم أسددها ولم أوصِ بسدادها. أريد أن أوصي بفعل خيرٍ لطالما أجَّلْتُه، أريد أن أَنْهَىٰ عن منكرٍ لطالما رأيتُه. شغلتني الدنيا فكنتُ لا أواظب على الصلاة مواظبتي على مواعيد عملي التي لم أتأخر عنها يوماً واحداً. كنتُ أسمع المؤذن يردد في صلاة الفجر "الصلاة خيرٌ من النوم"، فيُزين لي الشيطان عكس ذلك ويقول لي: "أنت متعبٌ، وفي انتظارك يوم عملٍ طويلٍ، نم الآن ثم صلِ عندما تستيقظ، واللهُ رءوفٌ رحيم"، وكنت أسمع أذان الظهر فلا أذهب إلى المسجد ويقول لي الشيطان: "العمل من الإيمان، وأنت في عملك الآن تُثاب وتُؤْجر، وما يزال أمامك متسعٌ لصلاة الظهر، "، وكنت أسمع أذان العصر فيقول لي الشيطان: "جسمك يحتاج إلى راحةٍ، بعد يوم عملٍ مرهقٍ؛ ماذا لو ارتحتَ قليلاً ثم تصلي قبل صلاة المغرب؟"، وعندما أسمع أذان المغرب أو أذان العشاء كان شيطاني يقول لي: "هذا هو الوقت الوحيد المتاح لك للخروج ومجالسة الأصدقاء أو مشاهدة المسلسل أو برنامجك المفضل في التلفاز، يمكنك الصلاة قبل أن تنام"، مرةً تلو مرةٍ، ويوماً بعد يومٍ وجدت نفسي لا أواظب إلا على صلاة الجمعة. أما عن قيام الليل فهذا أمرٌ لم أعد أفكر فيه منذ همس شيطاني في أذني: "هذا ليس فرضاً، إنه مجرد سُنَّة"! تذكرتُ كل هذا حين أدركتُ أن وقت الحساب قد أزف. وشيئاً فشيئاً بدأتُ أختنق، ثم سمعتُ أصوات أقدامٍ تتجه إليَّ. يا ويلتى سيبدأ الحساب. لا، لا، لا، أنا لستُ مستعداً له! هذا ما كان يُقال لي في الدنيا؛ لابد أنهما الملاكان في طريقهما إليَّ للسؤال. أحسست وكأنني أصرخ في قبري: "ربِ ارجعونِ، ربِ ارجعونِ، ربِ ارجعونِ لعلي أعمل صالحاً فيما تركت!". فلا أسمع صدىً لصراخي سوى: "كلا، كلا، كلا".
لا زلتُ على هذه الحال حتى تدفق إلى مسامعي صوتٌ رقيقٌ يهمس في أذني: "أبي، أبي، الغداء يا أبي". ففتحتُ عينيَّ لأجد ابنتي وفلذة كبدي مبتسمةً كعادتها في وجهي وهي تقول: "هيا يا أبي؛ قبل أن يبرد الطعام"، احتضنتُها بلهفةٍ وقبَّلتُ جبينها ثم تركتُها تذهب، وجلستُ في فراشي برهةً وأنا أشعر بإرهاقٍ شديدٍ وأطرافي ترتعد وجسدي يتصبب عرقاً، لأخاطب نفسي قائلاً: "ها يا نفسُ قد عدتِ؛ فأريني أي عملٍ صالحٍ ستعملين قبل أن يأتي يومٌ تَسألين فيه الرجعى فلا يُستجاب لكِ".
كان ذلك حُلماً، وكم من حُلمٍ غير حياة صاحبه؟

أما هذه فقصةٌ حقيقيةٌ حدثت بالفعل نشرها أحدهم على موقعٍ من مواقع التواصل الاجتماعي، كتب يقول:
كنتُ أسير بسيارتي في أحد الطرق السريعة، رأيتُ عن بُعدٍ سيارةً منقلبةً وتجمعاً من عددٍ كبيرٍ من الناس، اقتربتُ منهم، فإذا بشابٍ عمره حوالي 25 سنةً تقريباً أنزلوه من السيارة. رأيتُه ملطخاً بالدماء وأجزاء من جسمه تقطعت، كان يصرخ ويرتجف بقوةٍ وينظر لشخصٍ أظن أنه أخوه ويقول له: "لا أريد أن أموت .. أخاف من دخول النار .. محمد .. محمد، أنا لا أصلي .. أنا خائف .. أتمنى أن أُشل وأُصبح مُعاقاً .. لكن لا أريد أن أموت .. سأصلي .. واللهِ سأصلي .. لا أريد أن أموت". تجمّع الناس، وكنتُ واقفاً معهم أراقب ما يحدث أمام عيني وأنا خائفٌ .. موقفٌ رهيبٌ ومرعب. نزف الشاب حتى توقف الدم عن النزيف فتحول لون جسمه إلى الأزرق، وصوت صراخه يتلاشى. مَن مع الشاب يبكي ويقول له: "تشهد .. تشهد" فلا يستطيع النطق؛ فلسانه صار ثقيلاً. اختفى صوته، وانتفض ما بقي من جسده بشدةٍ، ثم شهق ثم توقف عن الحركة تماماً وأصبح جثةً هامدةً. لاحول ولا قوة إلاّ بالله. هذه أول مرةٍ في حياتي أرى إنساناً يموت أمام عيني .. حتى الشهادة لم يستطع نطقها! لم أستطع النوم؛ بكيتُ مثل الطفل وأنا أتذكر كلامه قبل موته: "لا أريد أن أموت .. سأصلي .. واللهِ سأصلي .. لا أريد أن أموت".

أحبتي في الله .. الصلاة عمود الإسلام و(عماد الدين)، وهي أعظم الواجبات والفرائض بعد الشهادتين، وقد دلَّ على ذلك آياتٌ كثيراتٌ منها: قوله سبحانه وتعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾، وغير ذلك من آيات.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [بَينَ العَبدِ وَبَينَ الكُفرِ تَركُ الصَّلاةِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [العَهدُ الذِي بَينَنَا وَبَينَهُمُ الصَّلاةُ، فَمَن تَرَكَهَا فَقَد كَفَرَ]، ورُويَ عنه صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاةَ يَوْماً فَقَالَ: [مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلا بُرْهَانٌ وَلا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ].
وتوعد المولى سبحانه وتعالى تاركي الصلاة بقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾، وقال عمن أضاعها: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا﴾، وقال عن المجرمين: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِيْ سَقَرَ، قَالُوْا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ﴾. إنها الصلاة (عماد الدين) من تركها فهو من أصحاب النار والعياذ بالله؛ فترك الصلاة، كما يقول أهل العلم، كُفْرٌ مُخرِجٌ من المِلة، إلا من تركها ناسياً أو نائماً.

أحبتي .. لنسارع بالطاعات والخيرات وبالأعمال الصالحات، وعلى رأسها الصلاة، من قبل أن يأتي الموت بغتةً ونحن لا نشعر؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿هَل يَنظُرونَ إِلَّا السّاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغتَةً وَهُم لا يَشعُرونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. الموت يأتي فجأة؛ فلنحافظ على الصلاة ولا نُسَّوِف ولا نُؤجل ولا نقول غداً، فلا يدري أحدنا متى يحين أجله.
ليراجع كلٌ منا صلاته، هل يصليها على وقتها؟ هل يصليها في جماعة؟ هل يصليها في المسجد؟ هل يصليها بخشوع؟ هل يقضي الفوائت؟ هل يصلي الفروض والسنن الرواتب؟ هل يصلي الضحى؟ هل يصلي التهجد وقيام الليل؟ هل؟ وهل؟ وهل؟ الإجابة عن هذه الأسئلة يراها كل مسلمٍ في كتابٍ يقرأه يوم الحساب؛ يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿اقرَأ كِتابَكَ كَفى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسيبًا﴾ فلنحسن كتابة ما سوف نقرأه أمام الله عزَّ وجلَّ يوم يقوم الأشهاد، وكما قيل: "يوم القيامة تتطاير الصحف لتأخذ كتابك بيمينك أو بشمالك؛ هذا الكتاب هو الوحيد الذي لا يشاركك أحدٌ في تأليفه وصياغته؛ كتابٌ يجمع لحظاتِ ولقطاتِ ومشاهدَ حياتِك التي ربما نسيتَها؛ فأحسِن صياغة محتواه ليومٍ لن تستطيع فيه إضافة جديدٍ ولا تبديل أو محو قديمٍ؛ يومٍ لا ينفع فيه ندمٌ فقد مضى وقت العمل وحان وقت الحساب".

اللهم يَسِّر لنا المحافظة على الصلاة التي هي (عماد الدين)، واجعلنا وذرياتنا ممن يقيمونها حق إقامتها، وممن يخشعون فيها، ربنا وتقبل دعاءنا، إنك أنت السميع العليم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/HEszN9

الجمعة، 23 نوفمبر 2018

هل أنا مؤمنٌ حقاً؟


الجمعة 23 نوفمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦٢
(هل أنا مؤمنٌ حقاً؟)

يُروى عن الشيخ محمد متولي الشعراوي، يرحمه الله، قوله: عندما كنتُ في سان فرانسيسكو سألني أحد المستشرقين: هل كل ما في قرآنكم صحيح؟ فأجبت: بالتأكيد، نعم. فسألني: لماذا إذاً جعل الله للكافرين عليكم سبيلاً؛ رغم قوله تعالى: ﴿وَلَن يَجعَلَ اللَّهُ لِلكافِرينَ عَلَى المُؤمِنينَ سَبيلًا﴾؟ فأجبته: لأننا مسلمين ولسنا مؤمنين! فسألني: وما الفرق بين المؤمنين والمسلمين؟ قلت له: المسلمون اليوم يؤدون جميع شعائر الإسلام من صلاةٍ وزكاةٍ وحجٍ وصومِ رمضان، وغيرها من العبادات، ولكنهم في شقاءٍ تام؛ شقاءٍ علميٍ واقتصاديٍ واجتماعيٍ وعسكريٍ .. إلخ. سألني: لماذا هم في شقاء؟ قلت: لأن المسلمين لم يرتقوا بعد إلى مرتبة المؤمنين؛ فلنتدبر ما يلي: لو كانوا مؤمنين حقاً لَنَصَرَهم الله، بدليل قوله تعالى: ﴿وَكانَ حَقًّا عَلَينا نَصرُ المُؤمِنينَ﴾. لو كانوا مؤمنين لأصبحوا أكثر شأناً بين الأمم والشعوب، بدليل قوله تعالى:
﴿وَلا تَهِنوا وَلا تَحزَنوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾. ولكنهم بَقَوْا في مرتبة المسلمين ولم يرتقوا إلى مرتبة المؤمنين، قال تعالى: ﴿إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكثَرُهُم مُؤمِنينَ﴾.
فمن هم المؤمنون؟ الجواب من القرآن الكريم؛ هم: ﴿التّائِبونَ العابِدونَ الحامِدونَ السّائِحونَ الرّاكِعونَ السّاجِدونَ الآمِرونَ بِالمَعروفِ وَالنّاهونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحافِظونَ لِحُدودِ اللَّهِ﴾. نلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى ربط موضوع النصر والغلبة والسيطرة ورُقي الحال بالمؤمنين وليس بالمسلمين!

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الدين ثلاث مراتبٍ: إسلامٌ ثم إيمانٌ ثم إحسانٌ، وقد دل على ذلك حديث جبريل عليه السلام حين جاء يعلم الصحابة دينهم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرني عن الإسلام؛ فقال: [الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]، قال جبريل فأخبرني عن الإيمانُ؛ فقال: [أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ]، ثم قال فأخبرني عن الإحسان؛ فقال: [أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ]. فإذا دخل الشخص في الإسلام، أو كان مُسلماً لأبوين مسلمين، ثمّ بدأ يُدرك معنى الإسلام فهو في أول مراتب الدين، ولم يصل إلى الإيمان بعد؛ ثمّ إذا ارتقى بإسلامه ليُحقّق بعض القواعد الإيمانية فإنّه يكون في المرتبة الأعلى بعد الإسلام وهي مرتبة الإيمان، ثم إذا وصل إيمانه لدرجةٍ يعبد فيها الله كأنه يراه ويطّلع عليه فقد وصل إلى أعلى مراتب الإيمان؛ وهي مرتبة الإحسان.

وجمهور أهل السُنة على أن المؤمن أعلى مرتبةً من المسلم، والمحسن أعلى منهما؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ فالظالم لنفسه صاحب الذنب، المصر عليه، وإن أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق الباطني، لكن لم يقم بما يجب عليه من متطلبات الإيمان. والمقتصد هو المؤدي للفرائض المتجنب للمحارم، وهذه مرتبة الإيمان. أما السابق بالخيرات فهو المؤدي للفرائض والنوافل، وهذه مرتبة الإحسان.
يقع اللبس عادةً في معنى كلٍ من: الإسلام، والإيمان، والقاعدة عند العلماء عن الفرق بينهما: أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. فإذا ورد الإسلام والإيمان في نصٍ واحدٍ، كان معنى الإسلام الأعمال الظاهرة، ومعنى الإيمان الاعتقادات الباطنة؛ كما في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾. أما إذا ذُكر الإسلام وحده دخل في معناه الإيمان؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ﴾. وإذا ذُكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾.
فكل مؤمنٍ مسلمٌ، وليس كل مسلمٍ مؤمناً، والسؤال الذي ينبغي أن يطرحه كل مسلمٍ على نفسه هو: (هل أنا مؤمنٌ حقاً؟).
يقول أهل العلم أن الإسلام هو استسلام العبد المسلم لله استِسلام خُضوعٍ وانقياد، وذلك يكون بالأعمال والعبادات الظاهرة قولاً وعملاً؛ مثل شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمَّداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحجّ لمن كان مستطيعاً. أما الإيمان فهو من أعمال القلوب غير الظاهرة التي لا يطّلعُ عليها إلا الله سبحانه وتعالى؛ مثل التصديقُ والإقرارُ ومَحبّة الله سبحانه وتعالى، ومحبّة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ومحبّة كلّ ما يُحبّه الله ورسوله، وبغض ما يبغضاه. فالإسلام يُشير إلى قول اللسان وعملِ الجوارح، بينما يُشير الإيمان إلى الاستسلام الباطن وإقرار القلب وتصديقه.
فمن هم المؤمنون؟ و(هل أنا مؤمنٌ حقاً؟)، وردت صفات المؤمنين في كثيرٍ من المواضع في القرآن الكريم؛ منها قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، وفي غير ذلك من آيات.

وللإيمان ثوابٌ عظيمٌ في الدنيا والآخرة؛ قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا . هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾، يقول المفسرون أن من رحمته سبحانه وتعالى بالمؤمنين، أن جعل من صلاته عليهم، وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذه أعظم نعمةٍ أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر اللّه، الذي رحمهم، وجعل الملائكة يستغفرون لهم فيقولون: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ فهذا ثوابه للمؤمنين في الدنيا، كما أن لهم فيها: العزة، ورفع الدرجات، والمغفرة، والرزق الكريم، ودفاع الله عنهم، ونصره لهم؛ قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وقال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وثواب المؤمنين في الآخرة: الفوز بالجنة، ووراثة الفردوس الأعلى منها، ورؤية وجه الله الكريم، والتنعم برضاه سبحانه وتعالى، وتحيته، والاستماع لكلامه، وحصول الأجر الكريم؛ قال سبحانه: ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا . خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾، وقال تعالى: ﴿يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾، كما قال: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقال كذلك: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، وقال أيضاً: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾، وقال سبحانه: ﴿وَبَشِّرِ الَّذينَ آمَنوا أَنَّ لَهُم قَدَمَ صِدقٍ عِندَ رَبِّهِم﴾.

أحبتي .. من نعمة الله سبحانه وتعالى التي لا نحصيها أن أنعم علينا بالإسلام، فهل أدينا جميع أركان مرتبة الإسلام، من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍ، دون إخلالٍ أو تفريطٍ؟ أم اكتفينا بنطق الشهادتين، وبأنه مسجلٌ في شهادة الميلاد أننا مسلمون، ثم عشنا بغير صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ أو حجٍ، أو بتقصيرٍ في أدائها؟ وإذا كنا ممن وفقهم الله فالتزموا بجميع هذه الأركان وأدَوْها على وجهها الأكمل، هل اكتفينا بهذه المرتبة ورضينا بالبقاء فيها؟
أَمَا وقد عرفنا صفات المؤمنين، وعرفنا الثواب العظيم لهم في الدنيا والآخرة؛ فليسأل كلٌ منا نفسه: (هل أنا مؤمنٌ حقاً؟)، ولو كنت في مرتبة الإيمان، ألا أشتاق للارتقاء إلى مرتبة الإحسان؟ ثم، ماذا أنا فاعلٌ للارتقاء إليها فأنال الجائزة الكبرى والثواب العظيم؟
على كلٍ منا أن يعرض نفسه على القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ وينظر في أركان الإسلام، وينظر في صفات المؤمنين، ليعرف أين هو؟ فيحدد موقفه بدقةٍ وأمانةٍ وصدقٍ، ثم يحدد هدفه ببصيرةٍ ووضوحٍ وإخلاصٍ، ثم ينطلق بهمةٍ وعزمٍ وجدٍ، ليستكمل أركان المرتبة التي هو فيها على أكمل وجه، ويستشرف المرتبة الأعلى فيستوفيها، حتى يصل إلى مرتبة الإحسان.
ومهما كان تقصيرنا، فإننا عندما نخلص النية، ونجاهد النفس، ونشمر سواعد الجد، يكون الله سبحانه وتعالى معنا؛ يوفقنا ويعيننا وييسر طريقنا؛ أوليس هو القائل: ﴿فَأَمّا مَن أَعطى وَاتَّقى . وَصَدَّقَ بِالحُسنى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرى﴾؟

اللهم اجعلنا من المحسنين الذين ﴿اتَّقَوا وَآمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنوا ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحسَنوا﴾، واجعلنا برحمتك نعبدك كأننا نراك، ورُدَّنا اللهم إلى دينك رداً جميلاً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/kF6MEE