الجمعة، 17 فبراير 2017

قصة وعبرة


الجمعة 17 فبراير 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧١
(قصة وعبرة)

كان يا ما كان، في قديم العصر والزمان، كان هناك ملك يعيش في أمان، مع ابنته الوحيدة في قصر كبير يحيط به بستان، وكان باله دائماً مشغولاً بابنته فقد كان يحبها حباً شديداً، وعندما وصلت الأميرة سن الزواج، أخذ يفكر الملك كل ليلة: لمن سيزوج ابنته الأميرة الجميلة فيصبح زوجها أميراً وولياً للعهد يجلس علي العرش من بعده؟ كان الملك مشغولاً كثيراً بمستقبل ابنته وبالشاب المناسب لها الذي يسعدها ويحافظ عليها ويكون صهره الوفي العزيز.
وفي ليلة من الليالي نادى الملك أحد وزرائه وطلب منه الذهاب ليلاً إلى المسجد الكبير بالمدينة ليبحث بين المصلين عن شابٍ يصلح لأن يكون زوجاً لابنته، شابٍ فضل الدعاء والمناجاة والتقرب إلي الله عز وجل على النوم، فهذا هو أمير المستقبل الجدير بالزواج من ابنته. خرج الوزير من القصر متجهاً إلى المسجد ليبحث عن شابٍ بهذه المواصفات التي ذكرها له مولاه الملك ليكون زوج المستقبل لابنته الأميرة. في هذه الليلة تحديداً، قرر لصٌ أن يدخل إلى المسجد حتى يتمكن من سرقة المصلين أثناء انشغالهم بالصلاة، فوصل إلى المسجد قبل وصول الوزير وجنوده، لكنه وجد باب المسجد مغلقاً، فتسلق الجدران وقفز داخل المسجد، وبدأ يبحث عن أي شيءٍ ثمينٍ من محتويات المسجد يبيعه ويستفيد بثمنه، وخلال ذلك سمع صوتاً وكأن أحداً يحاول فتح باب المسجد، تحير كثيراً حينها أين يذهب؟ وكيف يتصرف؟ فكر سريعاً وقرر أن يمثل كأنه يصلي. في هذه اللحظة فتح الجنود الباب ووجدوا هذا الشاب يصلي، فقال الوزير في تعجبٍ شديد: "سبحان الله، من شدة شوق هذا الشاب للصلاة ورغبته في المحافظة عليها، دخل المسجد متسلقاً الجدران عندما وجد الباب مقفلاً ليؤدي صلاته!"، وأمر الجنود أن يحضروه بمجرد أن ينتهي من صلاته، كان اللص من شدة خوفه ما إن ينتهي من صلاةٍ حتى يبدأ أخرى كي لا يمسكون به، والجنود ينظرون إليه في تعجب من شدة تقواه وإيمانه وتعبده لله تعالى!، عندما طال انتظارهم أمرهم الوزير أن ينتظروا لانتهائه من صلاته ويمسكوا به بسرعة قبل البدء بصلاة جديدة، وبالفعل هذا ما حصل. أحضر الوزير والجنود اللص إلى قصر الملك، وعندما سمع الملك عن صلواته ومناجاته وعبادته المتواصلة قال له في فخر: "لعلك الشخص الذي أبحث عنه منذ مدة، ولتقواك وإيمانك سأزوجك ابنتي الوحيدة لتصبح أميراً!"، بُهت الشاب ولم يُجب من شدة المفاجأة وهو لا يصدق ما تسمعه أذناه. عندما انتهى الملك من كلامه عن إعجابه به وبإيمانه الشديد وصفاته الرائعة، أنزل اللص رأسه في خجل وهو يقول في نفسه: "إلهي، جعلتني أمیراً وزوجتني ابنة الملك لصلاةٍ مزيفةٍ تصنعتها .. فكيف كانت هديتك لي لو أني عبدتك مؤمناً مخلصاً؟"، ومن لحظتها عاهد الله سبحانه وتعالى على أن يعبده مؤمناً مخلصاً ويؤدي جميع العبادات على أتم وجه، شكراً وعرفاناً، وطمعاً في أن يغفر الله له ذنوبه وسيئاته. وَفَّىَ الشاب التائب بعهده وصار من الصالحين، وتزوج الأميرة الجميلة وعاشوا في سعادة.

هذه قصةٌ من القصص التي تُروى للأطفال قبل النوم، فيها عناصر التشويق المعهودة: ملك، أميرة، وزير، جنود، لص، أمير، ثم انتهاء القصة بزواج الأمير والأميرة. حبكة القصة محببةٌ للأطفال وهم يتصورون بخيالهم البكر هؤلاء الأشخاص الذين تتحدث القصة عنهم، فتراهم يستمعون منصتين كأن على رؤوسهم الطير، يعيشون القصة بتفاصيلها مشدودين إلى وقائعها، وفي ذهن كلٍ منهم ملامح وملابس خاصة بكل شخصٍ من شخوص القصة، ويذهب خيالهم إلى تصور مكان هذه الوقائع والأحداث، ويسعدون بالخاتمة السعيدة للقصة، ويستفيدون مما فيها من عبرة التوبة إلى الله؛ فهي (قصة وعبرة) في ذات الوقت.

أحبتي في الله .. بعد أن انتهيت من حكاية هذه القصة على أحفادي كي يناموا، وأنهيتها كما نُنهي حواديت قبل النوم بالعبارة المشهورة: "وعاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات"، نام الأحفاد سعداء بهذه الخاتمة، أما أنا فقد وجدت نفسي أفكر في تلك القصة من منظورٍ آخر مختلف، منظور الكبار:
فهذا رجلٌ أتاه الله الملك، فاتقى الله وكان صالحاً، لا نزكيه على الله، لكن أن يختار لابنته زوجاً مؤمناً فيشترط أن يكون من عُمَّار المساجد المصلين الورعين، فكأني به وقد التزم بحديث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام [إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ...]، بل إنه لم ينتظر أن يأتي إليه الخاطب فاتبع نهج سيدنا شعيب رضي الله عنه بأن بادر بعرض ابنته للزواج من الشاب الصالح؛ يقول تعالى على لسان نبيه شعيب: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾. كما أن هذا الملك الذي نحسبه صالحاً لم يسعَ لتزويج ابنته كما جرت العادة من ابن ملك آخر أو وزير أو من شخص ذي جاه أو مال وإنما اختار لابنته الشاب ذا الدين، وكأن هذا الملك قد اتخذ من خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدوةً حسنةً عندما كان يعس [يتفقد أحوال الرعية] بالمدينة؛ فإذا به يسمع امرأة تقول لابنتها: "يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه [اخلطيه] بالماء"، قالت: "يا أماه! أَوَ ما علمتِ بما كان من عزمة [أمر] أمير المؤمنين؟"، قالت: "وما كان من عزمته يا بنية؟"، قالت: "إنه أمر مناديه فنادى: لا يُشاب اللبن بالماء"، فقالت لها: "يا بنية قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك بموضعٍ لا يراك عمر ولا منادي عمر"، فقالت الصبية: "والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء". وكان عمر رضي الله عنه يسمع كل ذلك، فقال لمرافقه أسلم: "يا أسلم! عَلِّم الباب، واعرف الموضع"، ثم مضى في عسسه. فلما أصبح قال: "يا أسلم امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها، وهل لهم بعل؟"، فأتى أسلم الموضع فنظر فإذا الجارية أيِّمٌ لا بعل لها، وإذا هاتيك أمها ليس لها رجل، فأتى عمر فأخبره. وكأني بعمر رضي الله عنه يتذكر حينئذ حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ]؛ فها هو قد دعى أبناءه فقال لهم: "هل فيكم من يحتاج إلى امرأة فأزوِّجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحدٌ إلى هذه الجارية". فقال عبد الله: "لي زوجة"، وقال عبد الرحمن: "لي زوجة"، وقال عاصم: "يا أبتاه لا زوجة لي، فزوجني". فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم فأنجبا ليلى.
أتدرون أحبتي مَن هي ليلى؟
إنها أم خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز!
انظروا إلى معيار الاختيار، إنه الدين، إنه ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، انظروا إلى ثمرة هذا الزواج المبارك: عمر بن عبد العزيز، الذي كانت سيرته مثالاً عظيماً، ومضرباً للمثل، في عدله، وزهده، وحُسن خلقه. قالت عنه زوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان: "دخلتُ يوماً عليه وهو جالس في مصلاه واضعاً خدَّه على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمتُ نفسي، فبكيت"!. وقالت: "ما رأيتُ أحداً أكثر صلاة وصياماً منه، ولا أحد أشد فرقاً من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها"!.
وهذا وزيرٌ أمين، لم ينتهز فرصة أمر الملك له للبحث عن شابٍ يصاهره فطمع في تزويج الأميرة بأحد أبنائه أو أقاربه أو معارفه، وإنما كان أميناً والتزم بالمواصفات التي حددها له الملك في صهره؛ وكأني بهذا الوزير يتمثل قول الله فيما يتعلق بالأمانة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، وقوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾.
وهؤلاء جندٌ مخلصون مطيعون لأولي الأمر، ملتزمين بالأمر الرباني: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾، ينفذون أوامر قائدهم فيما لا معصية فيه للخالق سبحانه، منفذين أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: [لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق].
وهذا شابٌ دخل المسجد سارقاً وخرج منه أميراً، قادته فطرته النقية الصادقة إلى التوبة، وجعلته يشكر الله سبحانه وتعالى ويعاهده على الاستقامة. لقد استدرك ما فات في حياته من سيئات وأراد أن تكون توبته عن ذنوبه توبةً نصوحاً فاستجاب له المولى عز وجل، كأني به وقد فعل مثل ما فعل كثيرٌ من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام حينما كانوا قبل الرسالة في جاهليةٍ تجعل ارتكابهم للذنوب والخطايا أمراً عادياً فلما أن هداهم الله للإسلام تابوا عن كل ذنب وأقلعوا عن كل معصية وتحولوا في لحظات صدق مع النفس إلى مصلحين مجاهدين نشروا دين الإسلام في جميع أنحاء الأرض تاركين ملذات الدنيا وراء ظهورهم فنفعوا أنفسهم ودينهم وانتفعنا نحن من سيرهم العطرة وتعلمنا منهم الدروس والعبر.
وهذه ابنةٌ وثقت بأبيها ورضيت بمن اختاره لها زوجاً، وكأنها في ذلك تتمثل سلوك بنات الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. حرصت على طاعة والدها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد]. لقد أنعم الله عليها بالأب الصالح، وصلاح الأب سببٌ للخير لأبنائه كما تخبرنا الآية الكريمة: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾، ولأنها كانت ابنةً طيبةً أطاعت والدها الصالح أنعم الله عليها بزوجٍ طيبٍ يرعى الله فيها؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾.
وهذا مسجدٌ، هو بيتُ الله، مكانُ الخير، يدخله العاصي فيخرج منه تائباً، ويدخله المذنب فيخرج منه وقد غُفرت له ذنوبه. إنه مكانٌ يُبحث فيه عن الناس الصالحين، فهم من يعمرون تلك المساجد، وهم الذين قلوبهم معلقةٌ بها، هم المؤمنون، وهم المتطهرون، فهي أحب الأماكن إلى الله سبحانه وتعالى؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [أحب البقاع إلى الله مساجدها ...]، فهي أول الأماكن التي يبحث فيها أولو الأمر عن الشباب الصالحين ويسعون إلى مصاهرتهم.

أحبتي .. كانت تلك (قصة وعبرة)، العبرة منها أنه لو أن كل بلد من بلادنا الإسلامية وُجد فيها الحاكم الصالح، والوزير الأمين، والجنود المخلصون، والعصاة الذين يبادرون بالتوبة ويتحولون إلى رجالٍ صالحين، والبنات اللاتي يثقن في آبائهن ولا يخالفونهن، والمساجد التي يعمرها ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّه﴾، لصلح الحال، وسعد الناس، حين يسيرون على نور الله وهدي شريعته الغراء، ولأهدوا البشرية جمعاء النموذج الذي يُقتدى به والمثال الذي يُحتذى لدولة الحق والعدل والسلام.
ومن العبر كذلك أحبتي ألا نتسرع في الحكم على العصاة منا؛ بل علينا أن نساعدهم على التوبة ونأخذ بأيديهم، ففي قلب كلٍ منهم بذرة خير، لنبحث عنها معهم ونساعدهم على أن يرْونها بدموع الندم والتوبة الصادقة ويرعونها بإخلاص النية لله سبحانه وتعالى ويتعهدونها بالعمل الصالح لتثمر إيماناً قد يكون في ميزان المولى أفضل من إيماننا نحن، فالله سبحانه وتعالى يفرح بعودة التائب كما أخبرنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: [لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةً عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح]. وما أجمل شعور الإنسان المسلم حينما يوفقه الله سبحانه وتعالى في أن يكون سبباً في هداية عاصٍ؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُـمر النعم]. ثم إن علينا أن نتذكر دائماً الآية الكريمة: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾.
أحبتي .. لم تكن هذه مجرد (قصة وعبرة)، بل كانت قصةً واحدةً وعدة عبر ..
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واهدنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، وتقبل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/8YpYAv

الجمعة، 10 فبراير 2017

الصحة

الجمعة 10 فبراير 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٠
(الصحة)

"أين أنتِ؟ لماذا تأخرتِ؟ أخبريني متى الوصول؟"، كانت هذه أسئلة وجهتها بلهفةٍ إلى (الصحة)!
نعم وجهت هذه الأسئلة إلى (الصحة) التي يبدو إما أنها قد ضلت طريقها إليّ أو أنها تسير ببطء لا أعلم له سبباً؛ لهذا كنت أسألها.
إنها (الصحة) التي كان يسأل عنها كل من يتصل بي خلال الشهر الأخير حيث أُصبت بنزلة بردٍ كانت شديدةً في أعراضها، تركت لدي إحساساً بأن لها رغبةً في أن تكون نزلةَ بردٍ متفردةً مبدعةً حين أصرت على أن تترك بصمةً خاصةً في إنهاك بدني بكل ما تستطيع من حِيَل، ثم أسلمت الراية لسعالٍ  أبىَ إلا أن يرافقني لأسبوعين كاملين مستهزئاً بجميع أنواع الأدوية التي كنت أتناولها للتخفيف من حدته، رغم أنه سلم في النهاية ورفع الراية البيضاء أمام مشروب ورق الجوافة الساخن المُحَلىَ بعسل النحل، مسلماً عهدته إلى نوعٍ من عِرق النَسا والتهابٍ شديدٍ في العضلات ما زال يقاوم حتى الآن جميع الحقن والحبوب التي أوصى بها الطبيب الاستشاري.
طوال هذه الفترة لم أكن أفكر سوى في شيءٍ واحدٍ فقط هو متي يَمُّن الله عليّ بالعافية و(الصحة)، وكان كل من يتصل بي يسألني عن (الصحة)، فكان من الطبيعي أن أحلم بها.
هكذا، وفي غفوةٍ من غفوات الظهيرة كانت بداية الحُلْم، حين سألت (الصحة) تلك الأسئلة: "أين أنتِ؟ لماذا تأخرتِ؟ أخبريني متى الوصول؟!".
ردت (الصحة) قائلةً بخبث: "لم العجلة؟"، قلت: "لو تبادلنا الأدوار لكنتِ أحسستِ بما أحس به الآن، المهم متى تأتين يا عزيزتي؟ أنا وجميع أحبتي في انتظارك"، قالت: "لكل شيء سبب، فهل أخذت بالأسباب؟"، قلت: "نعم"، سألتني: "هل أنت متأكد من إجابتك؟"، قلت بثقة: "نعم، هل لديك شكٌ في ذلك؟"، قالت: "لعلك تركت الأمر في بدايته بغير تداوٍ، ثم لما اشتد عليك المرض سألت أصدقاء لك عن العلاج المناسب ولم تذهب إلى طبيبٍ متخصص"، قلت وأنا مُحْرَج: "هذا بالفعل ما حدث"، تابعت كلامها: "وكلُ واحدٍ منهم أعطاك وصفةً مختلفة"، سكت ولم أعلق، استمرت تقول: "ثم بدأت تأخذ هذا العلاج مرةً وذلك العلاج مرةً ثم تعود فتجمع بين أكثر من علاج"، قلت بصوت منخفض: "صدقتِ"، قالت: "وتريد بعد كل هذا أن أصل إليك؟"، قلت: "أتمنى هذا"، قالت: "لقد اقتربتُ منك قليلاً عندما كنتُ أسمعك تدعو الله سبحانه وتعالى بالشفاء"، قلت مقاطعاً: "تقصدين عندما كنت أقول: {بسم الله} ثلاثاً، و{أعوذ بالله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر} سبع مرّات؟"، قالت: "نعم، ولو أنك كنت قد أخذت مع الدعاء بالأسباب وذهبت من البداية إلى طبيبٍ متخصص لكانت سرعة وصولي إليك أكبر. ألا تعلم أن على المريض أن يبحث عن العلاج لدى أهل الاختصاص؟ انظر ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة عندما سألوه: يا رسول الله، هل علينا جُناحٌ أن لا نتداوى؟ قال: [تداووا عباد الله، فإن الله سبحانه لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً إلا الهرم]، فالمريض عليه أن يأخذ بالأسباب ثم يتوكل على الله لأنه هو وحده الشافي، ولا يجوز للمريض أن يهمل التداوي باسم التوكل، لأن التوكل يعني الأخذ بالأسباب لقوله عليه الصلاة السلام: [اعقلها وتوكل]، والله سبحانه وتعالى يأمر بسؤال أهل الاختصاص في كل علم؛ قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، إن إهمال العلاج أو التداوي حرامٌ شرعاً وخطرُه عظيمٌ على المريض نفسه؛ فقد يؤدي بنفسه إلى الهلاك، والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾". قلت في نفسي لماذا لا أسأل (الصحة) عن الحكمة من المرض؟ قالت كما لو كانت قد قرأت أفكاري: "يبدو لي عزيزي أنك لا تعرف حكمة الله سبحانه وتعالى من مرض الإنسان؛ دعني أوضح لك ذلك؛ الحكمة من ابتلاء الله عباده بالمرض: استخراج عبودية الضراّء وهي الصبر؛ إذا كان المرء مؤمناً حقاً فإن كل أمره خير، كما قال عليه الصلاة والسلام: [عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له]. وتكفير الذنوب والسيئات؛ فالمرض سببٌ في تكفير الخطايا التي يقترفها الإنسان بقلبه وسمعه وبصره ولسانه، وسائر جوارحه. كما أن المرض قد يكون عقوبةً على ذنبٍ وقع من العبد؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ما يصيب المؤمن من وَصبٍ، ولا نصبٍ، ولا سقَمٍ، ولا حزنٍ حتى الهمّ يهمه، إلا كفر الله به من سيئاته]. والصبر على المرض يُكسب العبد الحسنات ويرفع له الدرجات؛ فقد تكون للعبدِ منزلةٌ عظيمةٌ عند الله سبحانه وتعالى، لكن العبد لم يكن له من العمل ما يبلغه إياها، فيبتليه الله بالمرض وبما يكره، حتى يكون أهلاً لتلك المـنزلة ويصل إليها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إن العبد إذا سبقت له من الله منـزلةٌ لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبّره على ذلك، حتى يبلغه المنـزلة التي سبقت له من الله تعالى]. والمرض سببٌ في دخول الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطىَ أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قُرِّضت بالمقاريض]. وهو سببٌ للنجاة من النار؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمريضٍ يعوده: [أبْشر فإن الله عز وجل يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة]. وفي المرض ردٌّ للعبد إلى ربه وتذكيره بمعصيته وإيقاظه من غفلته؛ فمن فوائد المرض أنه يرد العبد الشارد عن ربه إليه، ويذكره بمولاه بعد أن كان غافلاً عنه، ويكفه عن معصيته بعد أن كان منهمكاً فيها. وأخيراً فإن البلاء يشتد بالمؤمنين بحسب إيمانهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط]". قلت: "ومع الأخذ بالأسباب لابد من مواصلة الدعاء"، قالت: "هذا صحيح؛ على المريض أن يتسلح بالدعاء والتوجه إلى الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، وكم من مريضٍ توجه إلى الله ودعاه في أوقاتٍ يُستجاب فيها الدعاء فشفاه الله تعالى، والقَصص في هذا المقام كثيرةٌ، فالله تعالى يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، وهو القائل: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾"، قلت: "لكن الصبر على آلام المرض وأوجاعه صعب، أليس كذلك؟"، قالت: "بلى، لكن الثواب كما تعلم بقدر المشقة، لا بد أن يتحلى المؤمن المبتلىَ بالمرض بالصبر؛ فقد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار امرأةً مريضةً فوجدها تلعن الداء وتسب الحمى فكره منها هذا المسلك وقال لها مواسياً: [إنها - أي الحمى - تُذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد]، فالمؤمن يصبر ويحتسب أجره عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [ما من مسلمٍ يصيبه نصبٌ ولا همٌ حتى الشوكة يشاكها إلا كُتب له بها أجر]. ولو أنك تدبرت قصة أيوب عليه السلام لوجدته يشكو لربه يقول: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ فيستجيب له المولى عز وجل لأنه كان صابراً ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾، وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام قد ابيضت عيناه من الحزن على فقدانه ولده يوسف عليه السلام لكنه كان صابراً ولم يشكُ حاله إلا لله ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾، وهذا يونس عليه السلام يدعو الله وهو في بطن الحوت ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. ثم هذا المصطفى عليه الصلاة والسلام لما تُوفي عمه أبو طالب خرج إلى الطائف ماشياً على قدميه يدعو أهلها إلى الإسلام فلم يجيبوه ولقى الكثير من أذاهم وقد أرسلوا صبيانهم يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه الشريفتان فانصرف فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: [اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك]. هؤلاء يا عزيزي خير البشر قد تعرضوا للمرض وما هو أكثر من المرض فصبروا ودعوا الله فاستجاب لهم"، قلت: "ونعم بالله، لكن دعيني أسأل: هل يكون المرض عذراً لعدم أداء العبادات؟". قالت: "لقد جاءت التشريعات الاسلامية تراعي أحوال المريض في صلاته وصيامه ونحو ذلك؛ فمن مراعاة الشريعة في فريضة الصوم، قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، وفي فريضة الصلاة، بإمكان المريض أن يصلي على الحالة التي يستطيعها لقوله عليه الصلاة والسلام: [صلِ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فصلِ على جنبك، فإن لم تستطع فمستلقياً]، ثم إن على المريض أن يقوم بواجباته الدينية قدر استطاعته، من تلاوة القرآن الكريم والذكر الحكيم، حيث ينشرح الصدر ويطمئن القلب، قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾". قلت منبهراً بما عرضته (الصحة) من معلومات مفيدة وما قدمته من نصائح قيمة: "زادك الله علماً"، ردت دون إبطاء: "إنما أنا أنقل لك ما قاله أهل العلم بارك الله فيهم".
قلت مستعطفاً: "المهم أن تأتي سريعاً، فقد تعبت. لم أعد أحتمل"، قالت: "لن آتي قبل موعدي ولا بعده، فأنا جندي من جنود ربك؛ لا آتي إلا بميعاد، ما عليك صديقي سوى الدعاء والأخذ بالأسباب مع الصبر والشكر"، سألتها راغباً في الاستزادة من علمها: "أأشكر على المرض؟"، قالت مستنكرةً سؤالي: "بالتأكيد! كأنك نسيت ما حدثتك به عن حكمة الله سبحانه وتعالى من ابتلاء العباد بالمرض. ثم إن عليك أن تشكر الله عز وجل أنك لم تُصَب بأكثر مما أُصبتَ به؛ انظر حولك أو قم بزيارة لأية مستشفى تعرف مدى رحمة ربك بك وتدرك كم كان رؤوفاً معك. ثم إنك لو تعلم ما يدخره لك ربك من ثوابٍ على دعائك له وعلى صبرك على ما ابتلاك به لطلبت مني أن أتأخر في الوصول إليك لا أن أسرع!". سكتت (الصحة) لحظة ثم قالت: "أنا عاتبةٌ عليكم معشر البشر، لا تتذكروني وأنا معكم، بل وقليلٌ منكم من يشكر الله سبحانه وتعالى على عدم مفارقتي له، لكن ما أن أغيب لفتراتٍ تقصر أو تطول إذا بكم تتذكروني وتلحون علي في العودة إليكم وتدَّعون أنكم تحبونني ولا تستطيعون الاستغناء عني أو العيش بدوني، هذا أمرٌ غريب. والأغرب منه، أني إذا جئتكم بعد غيابٍ تعودون لنسياني مرةً أخرى! أهكذا تتعاملون مع من تحبون؟!"، قلت وأنا أكاد أذوب خجلاً مما تقول: "معك كل الحق في عتابك، لكن هذه هي طبيعة الإنسان فُطر عليها؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾، ويقول عز وجل: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾، وفي ذات المعنى يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ] وقدم (الصحة) على الفراغ كما تَرَيْن، ثم هل نسيتِ القولة المشهورة: {(الصحة) تاجٌ فوق رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى}".
أردت تغيير مجرى الحديث فسألتها عسى أن أسمع منها ما أتمنى سماعه: "المهم الآن عزيزتي، متى سوف تشرفينني بحضورك؛ فآلام المرض مبرحة؟"، قالت بدلال: "لن آتي إلا بشروطٍٍ ثلاثة"، قلت دون تردد: "موافقٌ عليها سلفاً؛ فلم أعد أطيق الانتظار"، قالت موضحةً شروطها: "أن تكون ثقتك كاملة وبلا أي شكٍ في أن الشفاء هو بيد الله سبحانه وتعالى وحده، وأن تستمر في الدعاء، وأن تأخذ بالأسباب من علاجٍ يصفه لك الطبيب المختص وراحةٍ لابد منها"، قلت: "أوافق على جميع شروطك، فقط دعيني أعود لسؤالي الأول: أخبريني متى الوصول؟"، قالت بتمهل وهي تحس لهفتي: "دعني أراجع مواعيدي وارتباطاتي!"، فتحت حقيبةً كانت في يدها، وأخرجت منها سجلاً، وبدأت تقلب صفحاته .. لحظاتٌ من الصمت مرت متثاقلةً .. ثم تابعَتْ ببطء وكأنها تتعمد حرق أعصابي: "حرف الميم .. حرف الميم .. ها هو حرف الميم .. وها قد وجدت اسمك .. دعني أنظر في خانة تاريخ الوصول"، قلت وقد أوشك صبري على النفاد: "هيا أسرعي، أخبريني، متى تاريخ الوصول؟ أقريبٌ هو أم بعيد؟ أرجوك .. أكاد أُجن"، قالت بأعصابٍ باردة: "طالما تلتزم بالشروط الثلاثة سأصل إليك عزيزي يوم ..."، لم تكمل الجملة الأخيرة، إلا وزوجتي توقظني من غفوتي وتسألني: "كيف هي (الصحة) الآن؟"، أجبتها: "كانت معي منذ لحظات"، نظرت زوجتي إليّ باستغرابٍ سائلةً: "من هي تلك التي كانت معك منذ لحظات؟"، قلت وأنا نصف نائم: "(الصحة)!"، وأضفت: "لو كنتِ تركتيني لثوانٍ لكنتُ عرفت الآن متى تصل وأُشفىَ من مرضي!"، قالت زوجتي وهي تنظر إليّ أريد النزول من سريري ولا أستطيع: "سلامة عقلك! يبدو أن الغطاء قد انكشف عنك وأنت نائم، أو أنك بدأت تعاني من آثار حمى أصابتك!".

أحبتي في الله ..  كان هذا حُلم ليلةٍ من ليالي المرض .. أبعده الله عنا وعنكم وعافانا وعافاكم من كل أشكاله وألوانه .. فقد كنت أحلم ب(الصحة) وأنا مريضٌ كما يحلم الجائع برغيف الخبز!

أحبتي .. فلندعو الله سبحانه وتعالى لأنفسنا وأهلينا وأحبائنا بالشفاء من كل داءٍ نعلمه أو لا نعلمه: "اللهم اذهب البأس ربَ الناس، اشفِ وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً. بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك من عظيم لطفك وكرمك وسترك الجميل أن تشفينا وتمدنا ب(الصحة) والعافية. ربنا لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، إنك على كل شيء قدير".

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/HpxMAk

الجمعة، 3 فبراير 2017

عمارة الوقت

الجمعة 3 فبراير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٩
(عمارة الوقت)

مع بداية العطلة الدراسية لنصف العام تُعلَن حالة الطوارئ في البيوت؛ فكم تخفف المدارس أيام الدراسة عن الوالدين عبء رعاية الأبناء طوال الفترة الصباحية. كلُ أسرة قد تعودت على نظامٍ محددٍ يتكرر يومياً طوال أيام الأسبوع عدا أيام الإجازات الأسبوعية والرسمية، ومع ذلك تبدو بعض الأسر وكأنها فوجئت بعطلة منتصف العام الدراسي.
على هذه الخلفية دار حوار بين اثنين من ركاب حافلة نقل عام كنت أستقلها قبل عدة أيام، أهم ما لفت النظر في هذا الحوار عبارة قالها أحدهما: "احترت مع الأولاد، ولا أدري كيف يمكن قتل وقت فراغ هؤلاء الشياطين"، وكان يقصد بالشياطين أبناءه الذين يظهر من حديثه أنهم في مراحل الدراسة الأولى. دعك من لفظ "الشياطين" المستخدم مجازاً للتعبير عن شقاوة هؤلاء الأبناء، لكن توقف معي يا رعاك الله عند كلمة "قتل" التي استخدمت للتعامل مع وقت الفراغ!
يا لها من كلمة صادمة .. "قتل" الوقت؟! .. أهكذا يتعامل بعضنا مع نعمة وقت الفراغ؟
لعقودٍ طويلةٍ استخدم الناس للتساؤل عما يمكن عمله في أوقات الفراغ ألفاظاً مثل "شغل" أو "استثمار" وقت الفراغ .. أو ما سماه ابن القيم قبل عدة قرون (عمارة الوقت) أي بناء الوقت كما لو كان عمارةً تُبنى وتعميره بكل ما هو مفيد، وإلا فعكس ذلك "خراب" الوقت. أما استخدام لفظ "قتل" الوقت فهذا مما لا يمكن استساغته ولا ينبغي استخدامه.
إن وقت الفراغ يُنظر إليه من الاتجاه الغربي المادي على أنه مرادفٌ لمفهوم البطالة؛ فهو وقتٌ خالٍ من أي عمل، أما شريعتنا الإسلامية الغراء فهي تنظر إلى الوقت على أنه هو العمر، والعمر مِلكٌ لله والإنسان مسؤولٌ عنه مستأمنٌ عليه في هذه الدنيا التي حدد الله عز وجل فيها دور الإنسان بوضوح وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾.

أحبتي في الله .. "الوقت" هو مقدارٌ من الزمن، وأما "الفراغ" فهو الخلو من الشغل. ومن هنا فوقت الفراغ لُغوياً يعني: الزمن الذي يخلو فيه الإنسان من الشغل أو العمل. ويعرفه أهل الاختصاص بأنه: "فائض الوقت الذي يحتار الإنسان في كيفية شغله، فقد تكون الكيفية سلبية؛ فتقود إلى نتائج وخيمة، أو إيجابية فتؤدي إلى فائدة الفرد ومحيطه".
أما في المفهوم الإسلامي فإن وقت الفراغ هو نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، على الإنسان أن يُحسن استخدامها؛ قال تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْت فَانْصَبْ وَإِلَى رَبّك فَارْغَبْ﴾، والمقصود إذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك. إن نعمة الوقت من النعم العظيمة التي امتن الله بها على عباده، حتى أقسم الله تعالى ببعض الوقت فقال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَالْفَجْرِ﴾، وقال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾، وقال تعالى: ﴿وَالضُّحَى*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾، فأقسم سبحانه وتعالى بهذه الأوقات في كتابه الكريم، لأهمية الوقت وبركته.
وهذا حديث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: [نعمتانِ مغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصِّحَّة والفراغ] والمغبون هو الخاسر في بيعه أو شرائه. فالفراغ هو وعاء الزمن الذي يمكن للإنسان أن يستفيد منه في أشياء كثيرة ومتعددة وإلا ظل هذا الوعاء فارغاً ومضت أيامه وساعاته ودقائقه دون الاستفادة منها.
يلخص الحسن البصري هذه الحقيقة بكلماتٍ بليغةٍ فيقول: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، إذا ذهب يومٌ ذهب بعضُك".
قد يتساءل أحدهم قائلاً: "هذا وقتي وأنا حرٌ أفعل فيه ما أشاء، هل هناك من يحاسبني عليه؟"، الإجابة واضحةٌ بينةٌ في حديثٍ شريفٍ يوضح أن جميع البشر سيحاسبون عن أعمارهم، التي هي مجموع أوقاتهم، فيما أفنوها؛ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: [لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ]. وفي رواية: [.. وعن شبابه فيما أبلاه ..].  
يقول أهل العلم أن الأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ، بمعنى عدم العمل، لا للدنيا ولا للآخرة، فحياة المسلم كلها عبادة، فهو مطالبٌ بملء الوقت كله في عبادة الله، بمعناها الشمولي العام لجميع جوانب الحياة. ولعل أبلغ من عرَّف العبادة بمعناها الشامل ابن تيمية حيث قال: "العبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة لا بمعناها الضيق، أو كما يفهمه بعض الناس بقصرها على أداء بعض العبادات، كالصلوات والصيام والزكاة والحج والعمرة، ونحو ذلك من الأفعال التعبدية الظاهرة فقط". ومن هنا تصبح جميع جوانب حياة المسلم تعبدية إذا اقترنت بالنية الصالحة، في العمل، أو الفكر، أو السكون، أو الحركة، أو الجد، أو المرح، أو القتال، أو اللهو، أو الأكل، أو الشرب، أو النوم، أو العِلم، أو غيرها من الأعمال، حتى في الجماع مع الزوجة، فقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: [وَفِي بِضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ يَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: [أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ]. وهذا ما عبر عنه ابن القيم في معرض حديثه عن كيفية عمارة المسلم لوقته، فقال: "إن (عمارة الوقت) تكون بالاشتغال في جميع آناء الوقت بما يقرب إلى الله، أو يعين على ذلك من مأكل، أو مشرب، أو منكح، أو منام، أو راحة، فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه، كانت من (عمارة الوقت)، وإن كان له فيها أتم لذة، فلا تُحسب (عمارة الوقت) بهجر اللذات والطيبات". وقال: "إن السَنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة؛ فثمرته شجرة طيبة، ومن كانت أنفاسه في معصية؛ فثمرته حنظل". وقال أحد الصالحين: "إن الليل والنهار رأس مال المؤمن، ربحها الجنة، وخسرانها النار".
كسب الوقت إذن والاستفادة منه بدلاً من تضييعه فريضةٌ دينيةٌ لا تتم إلا بمحاسبة النفس؛ كتبَ عمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه إلى بعضِ عمُّاله: "حاسب نفسكَ في الرخاء قبلَ حسابِ الشدة، فإن من حاسبَ نفسهُ في الرخاءِ قبلَ حساب الشدة، عادَ أمرُه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلتْـهُ أهواؤه عادَ أمرُه إلى الندامة والخسارة". وقال ابنُ القيّم: "وتركُ المحاسبة والاسترسالُ وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُـها، فإنَّ هذا يقوده إلى الهلاكِ، وهذه حالُ أهلِ الغرور، يُغْمضُ عينيهِ عن العواقبِ ويُمَشّي الحال، ويتكلُ على العفو، فيهملُ محاسبةَ نفسهِ والنظرَ في العاقبة، وإذا فعلَ ذلكَ سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوبِ وأنِسَ بها". وقال: "وهلاكُ القلبِ من إهمالِ النفسِ ومن موافقتها واتباع هواها".
المسلم الحق ليس عنده ما يسميه الآخرون وقت فراغ؛ فهو ما بين عبادة يؤديها، أو نافلة يَجبر بها ما قَصَّر فيه من عبادات، أو تعليم أو تعلم في مجال الدين، وخيرُ ما يتعلمه ويعلمه الإنسان المسلم هو القرآن الكريم؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [خيركم من تعلم القرآن وعلمه]، وكما أن تعلم العلوم الشرعية مطلوبٌ كذلك تعلمُ علومِ الدنيا نحن مطالبون به؛ فالحضارة الإسلامية نمت وتوسعت وازدهرت لأنها حلقت بجناحين: علوم الدين، وعلوم الدنيا. والبعض يخصص جزءاً من وقته للدعوة لدين الله امتثالاً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً]. وباقي وقت المسلم للراحة والنوم ولتناول الطعام وللترويح عن النفس بما هو مباح، وهذه كلها أمورٌ تتحقق بها (عمارة الوقت) إذا نوى المسلم أن يتقوى بها على العبادة كان له ثوابٌ عظيم؛ فهذا الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: "إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"، وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق".
إن وقت الفراغ إذا لم تشغله شغلك؛ بمعنى أنك قادرٌ على أن تشغله بما يفيد، فإن لم تفعل جرك وسحبك إلى ما يشغلك ويفسد عليك حياتك وآخرتك؛ وصدق الشاعر حين قال:
إن الشبابَ والفـراغَ والجـِدة  **  مفسدةٌ للمـرءِ أيُ مَـفـسـدة
{الجدة أي الغنى}
فإلى هؤلاء الذين يضيعون أوقاتهم وأيامهم وهي أعمارهم، فيما لا يفيد، ثم يشعرون بالخُواء والفراغ والتوتر الداخلي والاكتئاب، أقول لهم اقرأوا الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ تدبروا معانيها، لا تضيعوا على أنفسكم فرصةً أكيدةً ومضمونةً لطمأنينة قلوبكم، ولا تكونوا ممن يخسرون ثواباً كثيراً هم أحوج ما يكونون إليه يوم الحساب، يوم ﴿لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾؛ فاحرصوا يا أولي الألباب على أن تكسبوا خيراً في كلِ فرصةٍ تُتاح لكم، واغتنموا فراغكم الآن قبل أن تذهب ساعاته ودقائقه؛ قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: [اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك].
يقول أحد الصالحين: "لا يمكن أن يوجد الفراغ في قلبٍ عامرٍ بذكر الله، ولا في روحٍ متعبدةٍ لله، مشغولةٍ بالذكر والعبادة التطوعية بعد أداء الفرائض، مشغولةٍ بحفظ القرآن وتلاوته تعبداً إلى الله، مشغولةٍ في زيارة الأصحاب والأحباب وعيادة المرضى من المعارف والأصدقاء، ومشغولةٍ في ساعةِ مرحٍ نظيفةٍ مع الزوجة والأولاد ومع الأحبابِ المؤمنين في أي مكان".

أحبتي يعرض بعض المتخصصين أنشطة لاستثمار أوقات الفراغ، هي أفكار تساعدنا على (عمارة الوقت) يمكن الاختيار من بينها:
قراءة وحفظ القرآن الكريم والتفقه في الدين والعقيدة لمعرفة الواجبات وطُرق كسْب الأجر والحسنات؛ فكل مسلمٍ مكلّف بالتفقّه في أمور دينه ومعرفة الأحكامِ الشرعيّةِ التي تدله على طريق الخير والصلاح.
أخذ دوراتٍ متخصصةٍ لتنمية قدراته ومواهبه في المجالات المختلفة وخاصةً الحاسوب، فالحياة صارت مرتبطةً بعلوم الحاسوب والإنترنت، ولا يمكن القيام بمختلف الأعمال بمعزلٍ عنها، ولكن يجب أن يتم استخدام هذه التكنولوجيا بطريقةٍ صحيحةٍ وفي مواضيع مفيدة.
العمل على تطوير المهارات المتعلّقة بمجال العمل؛ فوقت الفراغ من أنسب الأوقات لزيادة الخبرة في العمل وتطوير النفس في مواطِن الضعف.
قراءة الكتب المُفيدة التي من شأنها زيادة المعرفة والقدرات.
القيام بالزيارات الاجتماعية للأهل والأصدقاء، فطريقةُ الحياةِ العصريةِ جعلت من الصعب زيارة الأقارب والأصدقاء في كل الأوقات، فيستطيع الشخص استغلال وقت الفراغ لتأدية هذه الزيارات.
الاشتراك بالنوادي الثقافيّة والرياضيّة؛ بحيث يتمّ إشغال الكثير من وقت الفراغ والتعرّف على ناسٍ جدد وشخصيّاتٍ مختلفة فتزيد معارف الشخص وخبراته بالحياة.
ممارسة الهوايات المختلفة والأعمال المحببة؛ فوقت الفراغ هو الوقت المناسب للقيام بالهوايات المرغوبة.
الاسترخاء ومحاولة تنظيم المهام والأعمال، وتقييم الأعمال السابقة، فأحياناً يجب مراجعة ما سبق من أعمالٍ لتقييمها ومعرفة مواطِن الخلل إذا وجِدت.
المشاركة بأعمال الخير؛ فهي تجلب إلى النفس الكثير من السرور والفرح، ويمكن المشاركة بهذه الأعمال من خلال الجمعيّات الخيريّة أو الأعمال المنفردة.
تنظيم برنامج للسفر، فالسفر يروِّح عن النفس ويُكسِب الخِبرات والمعارِف الجديدة.

أحبتي .. العمر وإن طال فهو قصير، والوقت وإن بدا للغافلين طويلاً مملاً فهو بالنسبة للمسلم صادق الإيمان قليل؛ قال أهلُ السيرِ: حضرت الوفاةُ نوحاً عليه السلام، فقيل له: يا نوحُ كم عشت؟ قال: ألف سنة. قالوا: كيف وجدت الحياة؟ قال: والذي نفسي بيدِه ما وجدتُ الحياةَ إلا كبيتٍ له بابان دخلتُ من هذا وخرجتُ من الآخر.
ما أحوج الإنسان إلى الاستفادة من كلِ دقيقةٍ وكلِ ثانيةٍ من وقته في عملٍ صالحٍ تبقى آثاره خالدةً فتكون ذِكْراً له بعد موته؛ يقول الشاعر:
دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلة ٌ له:     **    إنَّ الحياة َ دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها  **  فالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثاني
وما أصعب أن يكون الإنسان في الدنيا غافلاً فيكون في الآخرة من الخاسرين الذين يتحسرون على أعمارهم أفنوها فيما لا يفيد، تأملوا معي قول الله عز وجل وهو يخاطب هؤلاء القوم: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ أي أولم نمهلكُم، أولم نترككُم، أولم نمد لكم فترةً تتذكرون فيها وتعملون فيها وتتدبرون فيها، ومرت عليكم الأوقات والأزمان ومر العمر كله لكنكم أهدرتم أوقاتكم وظلمتم أنفسكم وها أنتم الآن من الخاسرين لا نصير لكم. وتأملوا مدى حسرة هؤلاء القوم حين أيقنوا أنهم من الخاسرين: ﴿قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ أي في الدنيا التي هي دار اختبار وابتلاء وعمل، تقاعسوا وركنوا إلى فراغٍ يقتلون به أوقاتهم التي هي أعمارهم، ثم يتحسرون ويندمون وقت لا ينفع الندم.
جاء في الأثر: "ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادَى فيه: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد وأنا فيما تعمل عليك غداً شهيد، فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً؛ فإني لو قد مضيت لم ترني أبداً".

اللهم ألهمنا الصواب والسداد واهدنا إلى سبيل الرشاد واجعلنا ممن تشهد لهم أوقاتهم وأعمارهم فنفوز فوزاً عظيماً، ولا تشهد عليهم فيكونوا من الخاسرين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/6n8nDX

الجمعة، 27 يناير 2017

هل أنا حرامي؟!

الجمعة 27 يناير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٨
(هل أنا حرامي؟!)

انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقالٌ للسيد/ مؤمن غالي، الصحفي السوداني، بعنوان (هل أنا حرامي؟!) يذكر فيه موقفين:
الموقف الأول يرويه طبيب سوداني يقول: كان عندي امتحانات للطب في أيرلندا، وكانت رسوم الامتحان 309 جنيهاً ولم يكن لدي فكة فدفعت 310 جنيهاً، امتحنت وانتهيت من الامتحان ومضت الأيام ورجعت إلى السودان وإذا برسالة تصلني من أيرلندا جاء فيها "أنت أخطأت عند دفع رسوم الامتحانات حيث أن الرسوم كانت 309 وأنت دفعت 310، وهذا شيك بقيمة واحد جنيه؛ فنحن لا نأخذ أكثر من حقنا"، مع العلم أن قيمة الظرف والطابع أكثر من هذا الجنيه!!
أما الموقف الثاني فحدث مع الصحفي نفسه حينما كان يدرس في بريطانيا عام ١٩٨٧م ويسكن بمنطقة بادنجتون؛ يقول: كنت ما بين الكلية والسكن أمُر على كُشكٍ تبيع فيه سيدةٌ إنجليزيةٌ عجوز فأشتري منها لوح شيكولاتة بسعر 18 بنساً وأمضي، وفي مرةٍ من المرات رأيتها قد وضعت رفاً آخر لنفس نوع الشيكولاتة ومكتوبٌ عليه السعر 20 بنساً؛ فاستغربت وسألتها: "هل هناك فرق بين الصنفين؟"، قالت: "لا، نفس النوع ونفس الجودة". فقلت: "إذاً ما القصة؟! لماذا السعر بالرف الأول 18 وبالرف الثاني السعر 20؟"، قالت: "حدث مؤخراً في نيجيريا التي تصدر لنا الكاكاو مشاكل فارتفع سعر ألواح الشيكولاتة، وهذا من الدفعة الجديدة نبيعها ب 20 والقديم ب 18"، فقلت لها: "إذاً لن يشتري منك أحدٌ سوى بسعر 18 حتى نفاد الكمية وبعدها سيأخذون بسعر 20"، قالت: "نعم، أعلم ذلك"، قلت لها: "اخلطيهم ببعض وبيعيهم بالسعر الجديد 20، ولن يستطيع أحدٌ التمييز بينهم". فجحظت عينا المرأة .. وبات وجهها في صُفرة الموت .. ثم مالت نحوي .. وهي تهمس في فزع .. "هل أنت حرامي؟!".
اختتم الصحفي مقاله بالقول: "استغربت لما قالته، ومضيت ومازال السؤال يتردد في أذني ..(هل أنا حرامي؟!). أي أخلاق هذه؟! الأصل أنها أخلاقنا نحن، أخلاق ديننا .. أخلاق مبادئنا .. أخلاق عَلَّمَنا إياها نبيُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم".

 أحبتي في الله .. عندما انتهيت من قراءة ما نُشر من المقال قلت في نفسي تعليقاً على كلا الموقفين: "هذه هي الأمانة، هذه بضاعتنا رُدت إلينا، فهلا قمنا باستردادها والاحتفاظ بها والعمل بمقتضاها؟".
ثم وجدت نفسي أتساءل: (هل أنا حرامي؟!). فكرتُ في السؤال ملياً قبل أن أبدأ في الإجابة؛ فقلت لنفسي لابد أن أحدد أولاً مفهوم السرقة؛ الأمر الذي جعلني أرجع إلى تعريف السرقة.
تُعَرَّف السرقة بأنها "أخذ أموال وممتلكات الغير خُفيةً أو عُنوةً دون وجه حق"، أي أنها "اعتداء على الأموال بالغصب أو الاختلاس أو النهب أو خيانة الأمانة أو الجحد". فهل يا تُرى أنا حرامي بهذا المعنى؟ كانت الإجابة قاطعةً لا شك فيها: بالتأكيد لا والحمد لله.
لكني، وما زلت أعايش فكرة (هل أنا حرامي؟!)، تذكرت حديثاً شريفاً للحبيب المصطفى لا يتحدث فيه عن السرقة فقط بل يوضح فيه أسوأ أنواع السرقة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق من صلاته لا يُتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها]، وهذا حديثٌ صحيحٌ يقول أهلُ العلم عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام بَيَّنَ فيه حقيقة السرقة؛ إذ أن السرقة نوعان: نوعٌ متعارفٌ عليه ونوعٌ غيرُ متعارفٍ عليه، فنبه على الثاني وأنه أسوأ من الأول. وحاصل معنى الحديث: أن المصلي قد يُصلي ولكنه لا يطمئن في صلاته فيخل بالركوع والسجود، أو لا يُلقي لها بالاً فيخون تلك الأمانة ويسرق حق نفسه؛ فلا يحصل له الخشوع الذي هو روح الصلاة، فيخرج من صلاته ولم تتأثر جوارحه، ولم تخالطها بشاشة ولذة مناجاة الله في الصلاة.
إذن السرقة في معناها العام أوسعُ كثيراً من مجرد الاستيلاء على أموالِ وممتلكاتِ الغير بغيرِ وجهِ حق، إنها تتعدى هذا المفهومَ الضيقَ لتصل إلى ما هو أبعدُ من ذلك .. يتسع مفهومها ويمتد ليشمل السرقةَ من النفس .. وهذا من وجهة نظري يعني الانتقاص من أيِ شيء ينبغي أن يؤديه الإنسان كاملاً وهو قادرٌ على ذلك ..
فعدتُ إلى نفسي متسائلاً: (هل أنا حرامي؟!) بهذا المعنى الواسع الممتد؟
كنت أميناً مع نفسي صادقاً مخلصاً في تشخيصي لمجمل أحوالي؛ فاكتشفت أنني كنت بالفعل أسرقُ من نفسي في عدةِ أمور، أخطرها هو أنني كنت أسرقُ من صلاتي! .. نعم كنت أسرقُ من صلاتي؛ لم أكن، على سبيل المثال، لسنوات عديدة أبدأ الصلاة بدعاء الاستفتاح، ولم أكن أدعو بالأدعية المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام عند الرفع من الركوع وبين السجدتين وقبل ختام الصلاة، بل ولم أكن أخشع في صلاتي كما ينبغي أن يكون الخشوع، كل ذلك وأنا قادر عليه.
بذات المفهوم وجدت نفسي أسرقُ في مجالاتٍ أخرى كان يمكن لي بمجهودٍ بسيط أن أتمها على خير وجه.
تفكرت في الأمر وتدبرت معنى السرقة من النفس؛ فوجدت السارقَ من نفسه يحرمُها كثيراً من الحسنات ويبخلُ عليها بخيرٍ وفيرٍ يمكن أن يحصل عليه لو أنه ألزم نفسه إتمامَ العبادات والمعاملات على أتم وجه يستطيعه؛ فلا يتركُ نفسَه تتبع هواها ثم يتمنى على الله الأماني.

أحبتي .. لو أن كلَ واحدٍ منا سألَ نفسه (هل أنا حرامي؟!)، وأجاب بصدقٍ لاكتشف مجالاً أو أكثر قَصَّرَ فيه ولم يُعطه حقه كاملاً وهو يستطيع.
ربما تكون سرقته: في صلاته؛ فيؤخر أداءها على أوقاتها أو يصليها في بيته بعيداً عن جماعة المسلمين بغير عذرٍ أو لا يوفيها حقها في الطمأنينة والخشوع.
أو في زكاة ماله؛ فيخرجها أقل من قيمتها أو يعطيها لمن لا يستحقونها أو يخطئ في الحساب فيعتبر العام الميلادي هو الحول بدلاً من العام الهجري.
أو في صومه؛ فيصوم عن الطعام والشراب ومباشرة النساء ولا يصوم عن الكذب والغش والغيبة والنميمة وأكل المال الحرام.
أو في بره بوالديه؛ فلا يهتم بهما كما ينبغي أن يكون الاهتمام أو أن يهتم بزوجته أكثر من اهتمامه بأمه.
أو في صلة رحمه؛ فلا يتصل بهم أو يتواصل معهم أو يتفقد احتياجاتهم أو أنه لا يتصل بأحدهم إلا وقت أن يحتاج خدمةً أو يطلب مساعدة.
أو في معاملته للناس؛ فتجده فظاً غليظ القلب عبوساً أو قد تراه يتقاعس عن مساعدة الناس أو إعانتهم أو قضاء مصالحهم وهو قادرٌ على ذلك.
أو في أي مجال آخر، والأمثلة كثيرة.
لكن، هل يكفي أن يسأل كلٌ منا نفسه (هل أنا حرامي؟!) ثم يجيب بصدقٍ عن هذا السؤال؟ بالتأكيد لا، هذا لا يكفي، هذا أشبه ما يكون بمريضٍ اجتهد ليعرف تشخيصَ مرضه ثم توقف بعد ذلك ولم يبدأ رحلة العلاج.
على كلٍ منا أن يعزم على ألا يعود لهذا النوع من السرقة أبداً، والعزمُ هنا هو النية بإخلاص، ثم يبدأ بإصلاح ما يمكن إصلاحه بِرَّدِ الحقوق إلى أصحابها إن كانت هناك حقوق، أما إذا لم تكن للغير حقوقٌ فليبادر دون تراخٍ أو تأجيلٍ أو تسويف إلى تحسين وتجويد ما يقوم به من عملٍ وَجَدَ نفسه مُقصراً فيه أو مُقلاً في أدائه أو متراخياً عنه؛ فيؤديه على وجهه الأكمل كما لو كان سيموت بعد ساعة؛ ولينظر ويتمعن فيما ورد في الأثر: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". ولا ينسى الدعاء لله بأن يساعده ويوفقه، والدعاء كما هو معلومٌ عبادةٌ، وهو سبيلٌ للحصول على رضا الله سبحانه وتعالى وتوفيقه.
 إن محاسبةَ النفس كما ذكرَ ابنُ القيم تكون "أولاً بالبدء بالفرائض فإذا رأى فيها نقصاً تداركهُ، وثانياً بالنظر في المناهي فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية، وثالثاً بمحاسبة النفس على الغفلةِ ويَتَدَاركُ ذلِك بالذكرِ والإقبالِ على ربِ السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم، ثم رابعاً بمحاسبة النفس على حركاتِ الجوارح وكلامِ اللسان ومشيِ الرجلين وبطشِ اليدين ونظرِ العينين وسماعِ الأذنين، ماذا أردتُ بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجهٍ فعلته؟".

أحبتي .. إذا كانت السرقة من النفس سيئةً من السيئات؛ فعلينا ألا ننسى قولَ الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وقولَه تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
أما إذا كانت السرقة من النفس ذنباً؛ فلنتذكر قولَ المولى عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وقولَه سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾،
وأما إن كانت السرقة من النفس ظلماً من الإنسان لنفسه؛ فلنتذكر قولَه تعالى:
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، وقولَه: ﴿فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، وقولَه سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ...﴾ ثم لنسارع إلى رفع الظلم عن أنفسنا بالمبادرة إلى عمل الخير بكل أشكاله وأنواعه وبقدر ما نستطيع؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرات‏﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُون‏﴾، هذا هو مجال التنافس الشريف المرغوب فيه.
تأملوا أحبتي قول الشاعر:
إنا لنفـرحُ بالأيـامِ نقطعُـها        **        وكـلَّ يومٍ يُدني من الأجـلِ
فاعمل لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهداً ** فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ

نسأل الله أن يرزقنا جميعاً ذكره وشكره وحسن عبادته.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.



https://goo.gl/V7xXVl

الجمعة، 20 يناير 2017

ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه

الجمعة 20 يناير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٧
(ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه)

في مكانٍ عام كنت موجوداً فيه بالصدفة خلال الأسبوع الماضي، رأيته وقد انتفض كما لو كان ثعبانٌ قد لدغه، وقال بصوتٍ عالٍ مستنكراً مَنْ نادىَ عليه بكلمة أستاذ: "دكتور، لو سمحت".
التفت كل من كان في المكان وتابعوا في دهشة ردة فعل هذا الشخص الذي رأيته، والذي من المفترض فيه أنه بحكم مؤهله الدراسي سواءً كان طبيباً أو حاصلاً على درجة الدكتوراه، أن يكون مثقفاً يتمتع بصحةٍ نفسيةٍ عالية، تجعله يتقبل هذا الخطأ غير المقصود، ولا ينفعل بهذه الطريقة الفجة!
واتتني الفرصة فيما بعد لمناقشة هذا الموقف مع صديقٍ لي يحمل درجة الدكتوراه في مجال تخصصه، سألته: "ما رأيك؟"، قال لي: "أنا شخصياً يناديني بواب عمارتنا وزوجته بالحاج، ويناديني بواب العمارة المجاورة لنا بعم الحاج، ويناديني مقيم الشعائر بالمسجد الذي أصلي فيه بعم محمد، ويناديني صبي الفرارجي القريب من المسجد بعم الشيخ، في حين يناديني صديق لي بأبو حميد، وصديق آخر لا يناديني إلا بلقب باشا، وصديق ثالث لم يناديني قط إلا بأبي التُوم {يقصد التوأم}، وكثيرٌ من الناس ينادونني بأستاذ، أما القريبون مني خاصةً في مجالات العمل وفي مواقع التواصل الاجتماعي فإنهم يستخدمون عادةً لقب دكتور، وكثير من البدو الذين تعاملت معهم في دولة الإمارات حيث كنت أعمل كانوا ينادونني باسمي فقط مجرداً من أي لقب .. كل ذلك وأنا هو هو نفس الشخص"، واختتم كلامه بقوله: "تسألني عن رأيي؛ أنا أرى أن لا لقب دكتور إذا نوديت به يزيد من مكانتي، ولا إذا لم أنادَ به تقل قيمتي، على كل حال الأمر يتعلق من وجهة نظري بمدى تواضع الشخص"، واستكمل حديثه: "يشهد الله أني لا أزكي نفسي، لكن سؤالك هو الذي اضطرني للحديث عن ذاتي"، قلت مبدياً شعوري بتفهم موقفه: "معك حق، لا عليك .."، قاطعني بالقول: "لا تنس يا صديقي قول النبي عليه الصلاة والسلام (ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه)"، قلت موافقاً: "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم".

أحبتي في الله .. التواضع لغةً مأخوذٌ من تواضعت الأرض، أي انخفضت عمّا يليها، فالتواضع يدل على خفض الشيء. أمّا التواضع عند علماء الأخلاق، فهو لين الجانب والبُعد عن الاغترار بالنفس، حيث قالوا إنّ التواضع هو اللين مع الخَلْق والخضوع للحق وخفض الجناح.
ويقول أهل العلم أن التواضع دليلٌ على طهارةِ النفس وسلامةِ القلب من أمراض التكبّر والخُيلاء، ويمثل خُلُق التواضع ركناً مهماً في تكوين شخصية المسلم وسلوكه، لأنّ التواضع في جوهره دعوةٌ عمليةٌ إلى المحبّة والمودّة والترابُط، ووسيلةٌ لتحرير القلوب من أغلال الحسد والكراهية.
التواضع هو لين الجانب، وقالوا هو أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً. وقيل عن المتواضع أنه هو الذي يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله، ولو سمعه من صبي أو من أجهل الناس.
والمسلم يعرف مقدار نفسه، ويعلم علم اليقين أنه عبدٌ لله ناصيته بيده والخَلْق كلهم عيال الله، فإذا تكبر لقوةٍ في بدنه فإن بعوضةً تُرديه وقد أهلكت النمرود، وإذا تكبر لمالٍ فإن قارون كان أغنى منه فخسف الله به وبداره الأرض، وإذا تكبر لمنصب فلينظر ما كان مآل فرعون، وإذا تكبر لعلمٍ فليتدبر قصة موسى عليه السلام مع الخضر.
التواضع إذن صفةٌ محمودةٌ وسبيلٌ لنيل رضا الله سبحانه وتعالى، وقد جعل الله سبحانه وتعالى سنّةً جاريةً في خلقه أن يَرفع المتواضعين لجلاله، وأن يُذل المتكبرين المتجبرين.
لم ترد كلمة التواضع في القرآن الكريم بلفظها، إنّما وردت كلماتٌ تشير إليها وتدل عليها؛ يقول الله سبحانه تعالى في كتابه الكريم مخاطباً رسوله الأمين: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾، ويقول سبحانه على لسان لقمان ينصح ابنه: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ الصعر هو الميل، أي لا تُمِل خدك للناس كبراً عليهم وإعجاباً بنفسك واحتقاراً لهم، ولا تمشِ متبختراً متكبراً، أي لا تتكبّر فتحتقر عباد الله وتُعرض عنهم بوجهك إذا كلموك. ويوجهنا عز وجل إلى نفس الأمر فيقول تعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾ فهذا نَهىٌ عن الخُيلاء وأمرٌ بالتواضع، والمرح شدة الفرح وقيل التكبر في المشي وقيل تجاوز الإنسان قدره وقيل هو الخيلاء في المشي وهو البطر والأشر؛ فإنك لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها، ولن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك. ويصف المولى عباده فيقول:﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾ والهَوْن السكينة والوقار، والمعنى: أن عباد الله هم الذين يمشون على الأرض حُلماء متواضعين من غير تجبُّرٍ ولا استكبار. ويأمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بقوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وبقوله:﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ أي: ألن جانبك للمؤمنين وارفق بهم. ويقول سبحانه واصفاً القوم الذين يحبهم ويحبونه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ﴾، وهذا لعمري قمة التواضع؛ أن يكون المؤمن ذليلاً خاضعاً ليناً سهلاً بسيطاً متواضعاً مع إخوانه من المؤمنين.  ويقول عز وجل: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عنكم جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ*أَهؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ فأصحاب الأعراف {وهو السُّوْرُ المضروب بين الجنة والنار، وأصحابه مَنْ تساوت حسناتهم وسيئاتهم} يقولون لأهل النار ما أغنى عنكم مالكم ولا تكبركم وعدم تواضعكم، ولا منعكم ذلك عن دخول النار، وهؤلاء الضعفاء الذين كنتم تسخرون منهم وتحتقرونهم في الدنيا وأقسمتم أن الله لن يُدخلهم الجنة، أدخلهم الله إيَّاها برحمته. ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ هذا يبين أن التقوى هي معيار التفاضل بين الناس، فقد جعلنا الله شعوبًا وقبائل لنتعارف لا لنتفاخر ويتعالى بعضنا على بعض. ويقول العزيز الحكيم: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ أي: لا تمدحوها ولا تفخروا بأعمالكم، وهذا هو التواضع المُوَصِل للتقوى.

أحبتي .. عن خُلُق التواضع قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن ترك اللِّباس تواضعًا للَّه، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيِّره مِن أيِّ حُلل الإيمان شاء يلبسها]. وقال المصطفى: [طُوبَى لمن تواضع في غير منقصة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة].
وكان عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للتواضع بأقواله وأفعاله، فكان يجالس الفقراء والمساكين ويُصغي إليهم، ويجيب دعوة العبد وينصت للأَمَة، فلا ينصرف عنها حتى تنصرف، وكان يجلس في أصحابه كأحدهم، بل يشاركهم العمل ما قل منه أو كثر؛ شارك أصحابه في بناء أول مسجد بالمدينة بعد الهجرة إليها، وفي غزوة الخندق حمل التراب أثناء حفر الخندق يوم الأحزاب وقام بنقله مع صحابته بلا كلل أو تأفف.
وعن تواضُع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ومع زوجاته؛ قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه". لقد كان بالفعل قدوةً حسنةً لنا في تواضعه ولينه ورفقه وبساطته؛ قال عن نفسه، وهو سيد ولد آدم، حين أتاه رجلٌ فقام بين يديه فأخذته رِّعْدَةٌ، فقال صلَّى الله عليه وسلم: [هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ]، إنه التطبيق العملي لقوله عليه الصلاة والسلام (ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه). حقاً كان لنا في نبينا المختار أسوةٌ حسنة؛ وصدق الله العظيم في قوله: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، وهو الذي وصفه المولى عز وجل بقوله: ﴿وَإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم﴾.

وعن فضيلة التواضع يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع"، ومما يُروى عن تواضعه قال علماء السير: كان أبو بكر رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم، فلما بُويع بالخلافة، قالت جارية من الحي: "الآن لا يحلب لنا منائحنا"، فسمعها أبو بكر فقال: "بلى، لعمري لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيِّرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه"، فكان يحلب لهم.
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد جاء في الأثر عنه أن رسول كسرى الذي جاء إلى المدينة لمقابلة خليفة المسلمين، فسأل عن قصره المنيف، أو حصنه المنيع، فدلوه على بيته، فرأى ما هو أدنى من بيوت الفقراء، ووجده نائماً في ملابس بسيطة تحت ظل شجرة قريبة، فقال مقولته الشهيرة: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر". وقال الشاعر عن هذا الموقف:
وراعَ صاحبَ كِسرى أنْ رأى عُمراً ** بين الرعيَّةِ عَطلاً وهوَ راعيها
وعَهدُهُ بِمُلوكِ الفُرسِ أنَّ لها  **  سوراً مِن الجُند والأحراس يحميها
رآهُ مُستَغرِقاً في نَومِهِ فرأى    **    فيه المهابةَ في أسمى معانيها
فوقَ الثرى تَحت ظِلِّ الدَّوحِ مُشتملاً ** بِبُردَةٍ كادَ طُولُ العهدِ يُبليها
فهان في عينيهِ ما كان يُكبِرُهُ     **    مِنَ الأكاسرِ والدُّنيا بأيديها
وقال قولةَ حَقٍّ أصبحت مَثلاً  ** وأصبحَ الجيلُ بعدَ الجيلِ يَرويها
أَمِنتَ لمّا أقمتَ العَدلَ بَينَهُمُ    **    فَنِمتَ نَومَ قَريرِ العينِ هانيها

ومن مواقف التواضع موقف مشترك بين كلٍ من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما: كان عمر بن الخطاب يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها مرة مبكراً كي يعرف من يسبقه إليها فإذا الذي يأتيها هو أبو بكر الصديق، وهو خليفة المسلمين.

وعن التواضع قال أحد الشعراء:
تواضع تكن كالنجمِ لاح لناظرٍ ** على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ
ولا تكُ كالدخانِ يعلو بنفسهِ   **   إلى طبقاتِ الجوِ وهو وضيعُ
وقال آخر:
تواضع إذا ما نِلتَ في الناسِ رفعةً ** فإن رفيعَ القومِ من يتواضعُ

اللهم اجعلنا ممن يلتزمون هديك في التواضع ولين الجانب والحنو خاصةً على الضعفاء ..
اللهم اجعلنا ممن يتأسون بنبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم الذي كان مثالاً للتواضع .. وكان المعلم الأول لنا للتواضع حين قال (ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه).
اللهم اجعلنا من المتواضعين .. وانزع من قلوبنا الكِبْر والعُلو والعُجب والخُيلاء .. ونقِ أعمالنا من كل سوء، وارزقنا اللهم حلاوةَ الذلِ لك والتواضع لعبيدك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/bbMM8b

الجمعة، 13 يناير 2017

هجر القرآن

الجمعة 13 يناير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٦
(هجر القرآن)

اقترب بهدوء من الإمام بعد انتهاء صلاة العشاء وقال له: "أتأذن لي فضيلتك بسؤال؟"، قال الإمام: "تفضل"، سأله: "هل ما قرأت بعد الفاتحة كان من القرآن الكريم؟"، اندهش الإمام من السؤال وحاول جاهداً ألا يشي وجهه باندهاشه، حملق في السائل ليتأكد من جديته، فرأى أمامه رجلاً كبيراً في السن وقوراً سَمْتُه يدل على أنه من ذوي المكانة الرفيعة، علامات الجدية الظاهرة على وجهه لا تخطئها عين، رد عليه بسرعة وحزم: "بالتأكيد؛ ما قرأته في الركعتين كان آيات من القرآن الكريم"، سأل الرجل بهدوء: "من أي سورة؟"، أخبره الإمام باسم السورة التي كان يقرأ آيات منها، فانصرف السائل شاكراً!
هذه ليست طرفة سخيفة، وليست قصة مختلقة، بل هذا موقف حدث بالفعل منذ عدة شهور في مُصَلى واحدٍ من أندية النخبة بالقاهرة، والموقف رواه لنا من كان يؤم المصلين يومها.
تذكرت هذا الموقف وأنا أقرأ قوله تعالى في سورة الفرقان: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾.
لا أقسو على الرجل ولا أتهمه في دينه ولا أحكم عليه؛ فقد يكون عند الله سبحانه وتعالى أفضل منا، أما الموقف فقد أثار في ذهني عدة ملاحظات، ثلاث منها عن الرجل، وواحدة عن الإمام، والأخيرة عن الشأن العام:
فالرجل كان أميناً مع نفسه صادقاً مع غيره ولم يستحِ أن يسأل رغم الحرج البين في السؤال. وقد ورد في الأثر أن "الْعِلْمُ خَزَائِنُ وَمِفْتَاحُهُ السُّؤَالُ، فَسَلُوا يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ: السَّائِلُ وَالْمُسْتَمِعُ، وَالْمُعَلِّمُ، وَالْمُجَابُ لَهُمْ".
ثم إن الرجل قد ترك ما يستمتع به في النادي حتى يتمكن من أداء فريضة الصلاة على وقتها مع جماعة المسلمين، رغم أن وقت صلاة العشاء متسعٌ كما هو معلوم.
فضلاً عن أن تقدم الرجل في العمر وكبر سنه لم يحولا بينه وبين أن يكون في موضع طالب علمٍ ومعرفة. وهذه كلها ملاحظات تُحسب للرجل ولا تُحسب عليه.
أما عن الإمام فقد كان رد فعله رائعاً؛ لم يُشْعِر السائل باستهجانه السؤال، وأخفى قدر إمكانه ما يمكن أن يبدو للسائل على أنه استغراب أو استنكار، ثم إن كلماته كانت حاسمة وقاطعة.
وفيما يتعلق بالشأن العام، تساءلت بيني وبين نفسي: هل يمكن لمسلمٍ أن تنقضي حياته، أو جزءٌ كبير منها، ولم يقرأ القرآن الكريم كاملاً ولو لمرة واحدة؟ كم يا تُرى عدد المصاحف في بيت كلٍ منا؟ وكم منها نفتحه ونقرأ فيه؟ وكم مسلم يقرأ في مصحف يضعه في سيارته أو على مكتبه أو في مكتبته؟ وكم من مرةٍ لا نجد أفضل من المصحف هديةً في العديد من المناسبات؟ هل منا من توقفت علاقته بالقرآن الكريم عند حدود ما درسه منه أيام الدراسة؟ وكم من المسلمين لا يستمع إلى القرآن يُتلىَ إلا عند حضوره سرادقات العزاء مجاملاً؟ هذه الأسئلة وغيرها توالت على ذهني وأرقتني وأنا أتلو الآية الكريمة في سورة الفرقان عن شكوى الرسول عليه الصلاة والسلام لرب العزة عن (هجر القرآن).

أحبتي في الله .. القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، المعجز المنزّل على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، المُتَعَبدُ بتلاوته، المبدوءُ بسورة الفاتحة والمختتمُ بسورة الناس، والمُتَحدىَ بأقصر سورةٍ منه. هو مرشدُ الأمة ودليلها إلى خيري الدارين. نُقل إلينا متواتراً عن جبريل أمين الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحابته الكرام عن التابعين وأئمة القراءة، حتى وصل إلينا كما أنزله الله، تصديقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾.
والقرآن الكريم مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مسموع بالآذان، له أسماءٌ وصفاتٌ كثيرة وردت بنص الآيات الكريمة حتى أن الإمام الفيروزبادي ذكر للقرآن مائة اسمٍ وصفة. فمن أسمائه: القرآن، الذكر، الفرقان، التنزيل، الكتاب، وكلام الله. أما صفاته فمنها: الكريم، المجيد، العظيم، الحق، المبارك، المبين، والنور.
القرآن الكريم الذي نتحدث عنه هو معجزة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو خير الكلام وأحسنه وأصدقه وأنفعه، وهو وحي الله وتنزيله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أفضل كتاب أنزله الله تبارك وتعالى على أفضل رسول؛ على عبده ومصطفاه وخير خلقه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى عن القرآن الكريم: ﴿الَم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾.
هو كتاب الله رب العالمين، وكلام خالق الخلق أجمعين، فيه نبأُ ما قبلنا، وخبرُ ما بعدنا، وحُكْمُ ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جَبَّارٍ قَصَمَه الله، ومن ابتغى الهُدَى في غيره أضله الله، وهو حبلُ الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تَزيغُ به الأهواء، ولا تلتبسُ به الألسن، ولا يَشبعُ منه العلماء، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبُه، من قال به صَدَق، ومن عَمِلَ به أُجِر، ومن حَكَمَ به عَدَل، ومن دَعا إليه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم.
حتى أعتى أعداء الإسلام من كفار قريش، وهم أهل اللغة والبلاغة والفصاحة، لم يروا في القرآن الكريم إلا معجزةً ليست من صنع بشر؛ فهذا الوليد بن المغيرة يصف القرآن بقوله: "واللَّه إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، وما يقول هذا بشر".
نَزَّل الله القرآن الكريم وتكفل بحفظه؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، يقول عنه المولى عز وجل: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ*لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، وتحدى الله سبحانه الإنس والجن أن يأتوا بمثله؛ قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾، تتجلى عظمته في أثر مجرد السماع إليه عند نزوله حيث كان هادياً إلى الحق والطريق المستقيم؛ يقول تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، أما الاستماع إليه فقد كان أثره عجيباً؛ يقول جل وعلا على لسان نبيه الأمين: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا﴾، ويكفي شهادةً بعظمة القرآن الكريم الصفة التي وصفه بها المولى سبحانه وتعالى حيث يقول: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ﴾. والله سبحانه ما أنزل كتابه إلا ليتدبَّره قارئوه، ويفقهه تالُوهُ، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وعن فضل القرآن الكريم قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ: رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ: لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثلُ المُنَافِقِ الَّذِي يقرأ القرآنَ كَمَثلِ الرَّيحانَةِ: ريحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثلِ الحَنْظَلَةِ: لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ]، وقال: [إنَّ الَّذِي لَيْسَ في جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالبَيْتِ الخَرِبِ]، وقال كذلك: [إنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أقْوَاماً وَيَضَعُ بِهِ آخرِينَ]، وقال لأبي ذر: [عليك بتلاوة القرآن؛ فإنه نور لك في الأرض، وذخر لك في السماء]، وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: [هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده]، وقال: [مَنْ قَرَأ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، لاَ أقول: {ألم} حَرفٌ، وَلكِنْ: ألِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ].وقال: [اقْرَؤُوا القُرْآنَ؛ فَإنَّهُ يَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ]، وقال أيضاً: [يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فَإنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آية تَقْرَؤُهَا] .. فهل من عاقلٍ يُضَيِّع على نفسه كل ذلك الثواب؟
أحبتي .. إذا كان الجماد الذي نفترض فيه عدم الإحساس يخشع ويتصدع من خشية الله لو أُنزل عليه القرآن؛ يقول عز وجل: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، فما بال البعض منا لا تخشع قلوبهم له ولا تلين جلودهم لذكر الله؟ أليسوا ممن قال عنهم الله عز وجل: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه﴾؟ متى نصل لأن نكون من بين من مدحهم الله سبحانه بقوله: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾؟
وإذا كان المسلمون، من غير العرب، يبذلون الغالي والنفيس ليتعلموا لغة القرآن حتى يستطيعون قراءته وتلاوته وفهم معانيه، آملين حصول الأجر الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: [الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران]، فأولى بنا نحن العرب أن نحرص على قراءة القرآن الذي نزل بلغتنا، وتلاوته على الوجه الصحيح؛ يكفينا تشريفاً أن يقول المولى عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. لقد أمر الله رسوله بتلاوة القرآن في أول نزول القرآن، في قوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا﴾، وكل أمرٍ للرسول صلى الله عليه وسلم هو أمرٌ لجميع المسلمين إلى قيام الساعة ما لم يكن أمراً خاصاً بالرسول؛ فتلاوة القرآن وقراءته عبادةٌ يُؤْجَر المسلم عليها مثل سائر العبادات، ويتضاعف أجره أكثر بتلاوته مع التدبر.

أحبتي .. إن (هجر القرآن) تقصيرٌ كبيرٌ في حق أنفسنا؛ فالله سبحانه وتعالى غنيٌ عن عبادتنا، غنيٌ عنا، وغنيٌ عن العالمين .. تَعَّبُدُنا بالقرآن لأنفسنا .. فلنتواصى بتعهد القرآن وتلاوته ولتكن البداية بعدة دقائق كل يوم، هل من الصعب أن يقرأ المسلم منا مهما كانت مشاغله صفحة واحدة أو صفحتين اثنتين يومياً من المصحف الشريف؟ كم يحتاج إلى وقتٍ لذلك؟ خمس دقائق؟ عشر دقائق؟ من أصل أكثر من ألف وأربعمائة دقيقة في اليوم الواحد؟!!! يقضي معظمنا أضعاف هذه الدقائق المعدودة فيما هو أقل شأناً بكثير: مشاهدة تلفاز، دردشات على مواقع التواصل الاجتماعي، وغير ذلك، حتى إن البعض لو اتصل به رئيسه في العمل أو مديره ساعةً كاملةً كل يوم ما اشتكى ولا مَلَّ بل تراه سعيداً مستبشراً يتفاخر ويتباهى ..أخشى أن يكون هؤلاء ممن تشير إليهم الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾. ألا يخجل أحدنا أن تمر الأيام والأسابيع والشهور دون يقرأ في مصحفه؟ ألا يستحي أن يكون أجله قد اقترب ولم يُتِم قراءة القرآن الكريم كاملاً ولو مرةً واحدةً في حياته كلها؟

يا من فاتته هذه الأوقات الثمينة، ما تزال أمامك فرصةٌ لتدارك الأمر .. هل تعلم أنك لو قرأت صفحتين اثنتين فقط من القرآن الكريم كل يوم يمكنك إتمام قراءة المصحف كاملاً في قرابة عشرة أشهر؟ أبشرك .. ستحس وقتها بالسكينة، وتلمس بنفسك بركة قراءة القرآن، ومع كثرة قراءتك للقرآن يتولد لديك حس الاستمتاع بقراءته ولذة تلاوته، وتغشاك راحةٌ نفسيةٌ واطمئنانٌ في القلب، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ .. ابدأ اليوم .. لا تُسَوِف ولا تؤجل .. انضم لركب الأتقياء ولا تتخلف عن اللحاق به؛ فوجهته رضا الله سبحانه وتعالى وجائزته الكبرى الجنة بإذن الله .. واعلم أننا كنا مثلك فَمَنَّ الله علينا، ولعل الآية الكريمة تصف لك حالنا: ﴿كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا. اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، ووفقنا لتلاوته والعمل به آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا. اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه. اللهم اجعل القرآن لنا هدى ونوراً ورحمة، ولا تجعله علينا وبالاً وحُجَّة ونقمة. اللهم اجعل القرآن العظيم لقلوبنا ضياءًَ. اللهم اجعله لأبصارنا ضياءً، ولأسقامنا دواءً، ولقلوبنا شفاءً، ولذنوبنا ممحِّصاً، وعن النار مخلِّصاً، وفي القبر مؤنساً، وعند الصراط نوراً، وإلى الجنة رفيقاً، وبيننا وبين النار حجاباً وستراً، واجعله شاهداً لنا لا علينا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/G2KVG2