الجمعة، 27 يناير 2017

هل أنا حرامي؟!

الجمعة 27 يناير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٨
(هل أنا حرامي؟!)

انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقالٌ للسيد/ مؤمن غالي، الصحفي السوداني، بعنوان (هل أنا حرامي؟!) يذكر فيه موقفين:
الموقف الأول يرويه طبيب سوداني يقول: كان عندي امتحانات للطب في أيرلندا، وكانت رسوم الامتحان 309 جنيهاً ولم يكن لدي فكة فدفعت 310 جنيهاً، امتحنت وانتهيت من الامتحان ومضت الأيام ورجعت إلى السودان وإذا برسالة تصلني من أيرلندا جاء فيها "أنت أخطأت عند دفع رسوم الامتحانات حيث أن الرسوم كانت 309 وأنت دفعت 310، وهذا شيك بقيمة واحد جنيه؛ فنحن لا نأخذ أكثر من حقنا"، مع العلم أن قيمة الظرف والطابع أكثر من هذا الجنيه!!
أما الموقف الثاني فحدث مع الصحفي نفسه حينما كان يدرس في بريطانيا عام ١٩٨٧م ويسكن بمنطقة بادنجتون؛ يقول: كنت ما بين الكلية والسكن أمُر على كُشكٍ تبيع فيه سيدةٌ إنجليزيةٌ عجوز فأشتري منها لوح شيكولاتة بسعر 18 بنساً وأمضي، وفي مرةٍ من المرات رأيتها قد وضعت رفاً آخر لنفس نوع الشيكولاتة ومكتوبٌ عليه السعر 20 بنساً؛ فاستغربت وسألتها: "هل هناك فرق بين الصنفين؟"، قالت: "لا، نفس النوع ونفس الجودة". فقلت: "إذاً ما القصة؟! لماذا السعر بالرف الأول 18 وبالرف الثاني السعر 20؟"، قالت: "حدث مؤخراً في نيجيريا التي تصدر لنا الكاكاو مشاكل فارتفع سعر ألواح الشيكولاتة، وهذا من الدفعة الجديدة نبيعها ب 20 والقديم ب 18"، فقلت لها: "إذاً لن يشتري منك أحدٌ سوى بسعر 18 حتى نفاد الكمية وبعدها سيأخذون بسعر 20"، قالت: "نعم، أعلم ذلك"، قلت لها: "اخلطيهم ببعض وبيعيهم بالسعر الجديد 20، ولن يستطيع أحدٌ التمييز بينهم". فجحظت عينا المرأة .. وبات وجهها في صُفرة الموت .. ثم مالت نحوي .. وهي تهمس في فزع .. "هل أنت حرامي؟!".
اختتم الصحفي مقاله بالقول: "استغربت لما قالته، ومضيت ومازال السؤال يتردد في أذني ..(هل أنا حرامي؟!). أي أخلاق هذه؟! الأصل أنها أخلاقنا نحن، أخلاق ديننا .. أخلاق مبادئنا .. أخلاق عَلَّمَنا إياها نبيُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم".

 أحبتي في الله .. عندما انتهيت من قراءة ما نُشر من المقال قلت في نفسي تعليقاً على كلا الموقفين: "هذه هي الأمانة، هذه بضاعتنا رُدت إلينا، فهلا قمنا باستردادها والاحتفاظ بها والعمل بمقتضاها؟".
ثم وجدت نفسي أتساءل: (هل أنا حرامي؟!). فكرتُ في السؤال ملياً قبل أن أبدأ في الإجابة؛ فقلت لنفسي لابد أن أحدد أولاً مفهوم السرقة؛ الأمر الذي جعلني أرجع إلى تعريف السرقة.
تُعَرَّف السرقة بأنها "أخذ أموال وممتلكات الغير خُفيةً أو عُنوةً دون وجه حق"، أي أنها "اعتداء على الأموال بالغصب أو الاختلاس أو النهب أو خيانة الأمانة أو الجحد". فهل يا تُرى أنا حرامي بهذا المعنى؟ كانت الإجابة قاطعةً لا شك فيها: بالتأكيد لا والحمد لله.
لكني، وما زلت أعايش فكرة (هل أنا حرامي؟!)، تذكرت حديثاً شريفاً للحبيب المصطفى لا يتحدث فيه عن السرقة فقط بل يوضح فيه أسوأ أنواع السرقة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق من صلاته لا يُتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها]، وهذا حديثٌ صحيحٌ يقول أهلُ العلم عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام بَيَّنَ فيه حقيقة السرقة؛ إذ أن السرقة نوعان: نوعٌ متعارفٌ عليه ونوعٌ غيرُ متعارفٍ عليه، فنبه على الثاني وأنه أسوأ من الأول. وحاصل معنى الحديث: أن المصلي قد يُصلي ولكنه لا يطمئن في صلاته فيخل بالركوع والسجود، أو لا يُلقي لها بالاً فيخون تلك الأمانة ويسرق حق نفسه؛ فلا يحصل له الخشوع الذي هو روح الصلاة، فيخرج من صلاته ولم تتأثر جوارحه، ولم تخالطها بشاشة ولذة مناجاة الله في الصلاة.
إذن السرقة في معناها العام أوسعُ كثيراً من مجرد الاستيلاء على أموالِ وممتلكاتِ الغير بغيرِ وجهِ حق، إنها تتعدى هذا المفهومَ الضيقَ لتصل إلى ما هو أبعدُ من ذلك .. يتسع مفهومها ويمتد ليشمل السرقةَ من النفس .. وهذا من وجهة نظري يعني الانتقاص من أيِ شيء ينبغي أن يؤديه الإنسان كاملاً وهو قادرٌ على ذلك ..
فعدتُ إلى نفسي متسائلاً: (هل أنا حرامي؟!) بهذا المعنى الواسع الممتد؟
كنت أميناً مع نفسي صادقاً مخلصاً في تشخيصي لمجمل أحوالي؛ فاكتشفت أنني كنت بالفعل أسرقُ من نفسي في عدةِ أمور، أخطرها هو أنني كنت أسرقُ من صلاتي! .. نعم كنت أسرقُ من صلاتي؛ لم أكن، على سبيل المثال، لسنوات عديدة أبدأ الصلاة بدعاء الاستفتاح، ولم أكن أدعو بالأدعية المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام عند الرفع من الركوع وبين السجدتين وقبل ختام الصلاة، بل ولم أكن أخشع في صلاتي كما ينبغي أن يكون الخشوع، كل ذلك وأنا قادر عليه.
بذات المفهوم وجدت نفسي أسرقُ في مجالاتٍ أخرى كان يمكن لي بمجهودٍ بسيط أن أتمها على خير وجه.
تفكرت في الأمر وتدبرت معنى السرقة من النفس؛ فوجدت السارقَ من نفسه يحرمُها كثيراً من الحسنات ويبخلُ عليها بخيرٍ وفيرٍ يمكن أن يحصل عليه لو أنه ألزم نفسه إتمامَ العبادات والمعاملات على أتم وجه يستطيعه؛ فلا يتركُ نفسَه تتبع هواها ثم يتمنى على الله الأماني.

أحبتي .. لو أن كلَ واحدٍ منا سألَ نفسه (هل أنا حرامي؟!)، وأجاب بصدقٍ لاكتشف مجالاً أو أكثر قَصَّرَ فيه ولم يُعطه حقه كاملاً وهو يستطيع.
ربما تكون سرقته: في صلاته؛ فيؤخر أداءها على أوقاتها أو يصليها في بيته بعيداً عن جماعة المسلمين بغير عذرٍ أو لا يوفيها حقها في الطمأنينة والخشوع.
أو في زكاة ماله؛ فيخرجها أقل من قيمتها أو يعطيها لمن لا يستحقونها أو يخطئ في الحساب فيعتبر العام الميلادي هو الحول بدلاً من العام الهجري.
أو في صومه؛ فيصوم عن الطعام والشراب ومباشرة النساء ولا يصوم عن الكذب والغش والغيبة والنميمة وأكل المال الحرام.
أو في بره بوالديه؛ فلا يهتم بهما كما ينبغي أن يكون الاهتمام أو أن يهتم بزوجته أكثر من اهتمامه بأمه.
أو في صلة رحمه؛ فلا يتصل بهم أو يتواصل معهم أو يتفقد احتياجاتهم أو أنه لا يتصل بأحدهم إلا وقت أن يحتاج خدمةً أو يطلب مساعدة.
أو في معاملته للناس؛ فتجده فظاً غليظ القلب عبوساً أو قد تراه يتقاعس عن مساعدة الناس أو إعانتهم أو قضاء مصالحهم وهو قادرٌ على ذلك.
أو في أي مجال آخر، والأمثلة كثيرة.
لكن، هل يكفي أن يسأل كلٌ منا نفسه (هل أنا حرامي؟!) ثم يجيب بصدقٍ عن هذا السؤال؟ بالتأكيد لا، هذا لا يكفي، هذا أشبه ما يكون بمريضٍ اجتهد ليعرف تشخيصَ مرضه ثم توقف بعد ذلك ولم يبدأ رحلة العلاج.
على كلٍ منا أن يعزم على ألا يعود لهذا النوع من السرقة أبداً، والعزمُ هنا هو النية بإخلاص، ثم يبدأ بإصلاح ما يمكن إصلاحه بِرَّدِ الحقوق إلى أصحابها إن كانت هناك حقوق، أما إذا لم تكن للغير حقوقٌ فليبادر دون تراخٍ أو تأجيلٍ أو تسويف إلى تحسين وتجويد ما يقوم به من عملٍ وَجَدَ نفسه مُقصراً فيه أو مُقلاً في أدائه أو متراخياً عنه؛ فيؤديه على وجهه الأكمل كما لو كان سيموت بعد ساعة؛ ولينظر ويتمعن فيما ورد في الأثر: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". ولا ينسى الدعاء لله بأن يساعده ويوفقه، والدعاء كما هو معلومٌ عبادةٌ، وهو سبيلٌ للحصول على رضا الله سبحانه وتعالى وتوفيقه.
 إن محاسبةَ النفس كما ذكرَ ابنُ القيم تكون "أولاً بالبدء بالفرائض فإذا رأى فيها نقصاً تداركهُ، وثانياً بالنظر في المناهي فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية، وثالثاً بمحاسبة النفس على الغفلةِ ويَتَدَاركُ ذلِك بالذكرِ والإقبالِ على ربِ السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم، ثم رابعاً بمحاسبة النفس على حركاتِ الجوارح وكلامِ اللسان ومشيِ الرجلين وبطشِ اليدين ونظرِ العينين وسماعِ الأذنين، ماذا أردتُ بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجهٍ فعلته؟".

أحبتي .. إذا كانت السرقة من النفس سيئةً من السيئات؛ فعلينا ألا ننسى قولَ الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وقولَه تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
أما إذا كانت السرقة من النفس ذنباً؛ فلنتذكر قولَ المولى عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وقولَه سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾،
وأما إن كانت السرقة من النفس ظلماً من الإنسان لنفسه؛ فلنتذكر قولَه تعالى:
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، وقولَه: ﴿فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، وقولَه سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ...﴾ ثم لنسارع إلى رفع الظلم عن أنفسنا بالمبادرة إلى عمل الخير بكل أشكاله وأنواعه وبقدر ما نستطيع؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرات‏﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُون‏﴾، هذا هو مجال التنافس الشريف المرغوب فيه.
تأملوا أحبتي قول الشاعر:
إنا لنفـرحُ بالأيـامِ نقطعُـها        **        وكـلَّ يومٍ يُدني من الأجـلِ
فاعمل لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهداً ** فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ

نسأل الله أن يرزقنا جميعاً ذكره وشكره وحسن عبادته.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.



https://goo.gl/V7xXVl

الجمعة، 20 يناير 2017

ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه

الجمعة 20 يناير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٧
(ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه)

في مكانٍ عام كنت موجوداً فيه بالصدفة خلال الأسبوع الماضي، رأيته وقد انتفض كما لو كان ثعبانٌ قد لدغه، وقال بصوتٍ عالٍ مستنكراً مَنْ نادىَ عليه بكلمة أستاذ: "دكتور، لو سمحت".
التفت كل من كان في المكان وتابعوا في دهشة ردة فعل هذا الشخص الذي رأيته، والذي من المفترض فيه أنه بحكم مؤهله الدراسي سواءً كان طبيباً أو حاصلاً على درجة الدكتوراه، أن يكون مثقفاً يتمتع بصحةٍ نفسيةٍ عالية، تجعله يتقبل هذا الخطأ غير المقصود، ولا ينفعل بهذه الطريقة الفجة!
واتتني الفرصة فيما بعد لمناقشة هذا الموقف مع صديقٍ لي يحمل درجة الدكتوراه في مجال تخصصه، سألته: "ما رأيك؟"، قال لي: "أنا شخصياً يناديني بواب عمارتنا وزوجته بالحاج، ويناديني بواب العمارة المجاورة لنا بعم الحاج، ويناديني مقيم الشعائر بالمسجد الذي أصلي فيه بعم محمد، ويناديني صبي الفرارجي القريب من المسجد بعم الشيخ، في حين يناديني صديق لي بأبو حميد، وصديق آخر لا يناديني إلا بلقب باشا، وصديق ثالث لم يناديني قط إلا بأبي التُوم {يقصد التوأم}، وكثيرٌ من الناس ينادونني بأستاذ، أما القريبون مني خاصةً في مجالات العمل وفي مواقع التواصل الاجتماعي فإنهم يستخدمون عادةً لقب دكتور، وكثير من البدو الذين تعاملت معهم في دولة الإمارات حيث كنت أعمل كانوا ينادونني باسمي فقط مجرداً من أي لقب .. كل ذلك وأنا هو هو نفس الشخص"، واختتم كلامه بقوله: "تسألني عن رأيي؛ أنا أرى أن لا لقب دكتور إذا نوديت به يزيد من مكانتي، ولا إذا لم أنادَ به تقل قيمتي، على كل حال الأمر يتعلق من وجهة نظري بمدى تواضع الشخص"، واستكمل حديثه: "يشهد الله أني لا أزكي نفسي، لكن سؤالك هو الذي اضطرني للحديث عن ذاتي"، قلت مبدياً شعوري بتفهم موقفه: "معك حق، لا عليك .."، قاطعني بالقول: "لا تنس يا صديقي قول النبي عليه الصلاة والسلام (ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه)"، قلت موافقاً: "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم".

أحبتي في الله .. التواضع لغةً مأخوذٌ من تواضعت الأرض، أي انخفضت عمّا يليها، فالتواضع يدل على خفض الشيء. أمّا التواضع عند علماء الأخلاق، فهو لين الجانب والبُعد عن الاغترار بالنفس، حيث قالوا إنّ التواضع هو اللين مع الخَلْق والخضوع للحق وخفض الجناح.
ويقول أهل العلم أن التواضع دليلٌ على طهارةِ النفس وسلامةِ القلب من أمراض التكبّر والخُيلاء، ويمثل خُلُق التواضع ركناً مهماً في تكوين شخصية المسلم وسلوكه، لأنّ التواضع في جوهره دعوةٌ عمليةٌ إلى المحبّة والمودّة والترابُط، ووسيلةٌ لتحرير القلوب من أغلال الحسد والكراهية.
التواضع هو لين الجانب، وقالوا هو أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً. وقيل عن المتواضع أنه هو الذي يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله، ولو سمعه من صبي أو من أجهل الناس.
والمسلم يعرف مقدار نفسه، ويعلم علم اليقين أنه عبدٌ لله ناصيته بيده والخَلْق كلهم عيال الله، فإذا تكبر لقوةٍ في بدنه فإن بعوضةً تُرديه وقد أهلكت النمرود، وإذا تكبر لمالٍ فإن قارون كان أغنى منه فخسف الله به وبداره الأرض، وإذا تكبر لمنصب فلينظر ما كان مآل فرعون، وإذا تكبر لعلمٍ فليتدبر قصة موسى عليه السلام مع الخضر.
التواضع إذن صفةٌ محمودةٌ وسبيلٌ لنيل رضا الله سبحانه وتعالى، وقد جعل الله سبحانه وتعالى سنّةً جاريةً في خلقه أن يَرفع المتواضعين لجلاله، وأن يُذل المتكبرين المتجبرين.
لم ترد كلمة التواضع في القرآن الكريم بلفظها، إنّما وردت كلماتٌ تشير إليها وتدل عليها؛ يقول الله سبحانه تعالى في كتابه الكريم مخاطباً رسوله الأمين: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾، ويقول سبحانه على لسان لقمان ينصح ابنه: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ الصعر هو الميل، أي لا تُمِل خدك للناس كبراً عليهم وإعجاباً بنفسك واحتقاراً لهم، ولا تمشِ متبختراً متكبراً، أي لا تتكبّر فتحتقر عباد الله وتُعرض عنهم بوجهك إذا كلموك. ويوجهنا عز وجل إلى نفس الأمر فيقول تعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾ فهذا نَهىٌ عن الخُيلاء وأمرٌ بالتواضع، والمرح شدة الفرح وقيل التكبر في المشي وقيل تجاوز الإنسان قدره وقيل هو الخيلاء في المشي وهو البطر والأشر؛ فإنك لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها، ولن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك. ويصف المولى عباده فيقول:﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾ والهَوْن السكينة والوقار، والمعنى: أن عباد الله هم الذين يمشون على الأرض حُلماء متواضعين من غير تجبُّرٍ ولا استكبار. ويأمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بقوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وبقوله:﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ أي: ألن جانبك للمؤمنين وارفق بهم. ويقول سبحانه واصفاً القوم الذين يحبهم ويحبونه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ﴾، وهذا لعمري قمة التواضع؛ أن يكون المؤمن ذليلاً خاضعاً ليناً سهلاً بسيطاً متواضعاً مع إخوانه من المؤمنين.  ويقول عز وجل: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عنكم جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ*أَهؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ فأصحاب الأعراف {وهو السُّوْرُ المضروب بين الجنة والنار، وأصحابه مَنْ تساوت حسناتهم وسيئاتهم} يقولون لأهل النار ما أغنى عنكم مالكم ولا تكبركم وعدم تواضعكم، ولا منعكم ذلك عن دخول النار، وهؤلاء الضعفاء الذين كنتم تسخرون منهم وتحتقرونهم في الدنيا وأقسمتم أن الله لن يُدخلهم الجنة، أدخلهم الله إيَّاها برحمته. ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ هذا يبين أن التقوى هي معيار التفاضل بين الناس، فقد جعلنا الله شعوبًا وقبائل لنتعارف لا لنتفاخر ويتعالى بعضنا على بعض. ويقول العزيز الحكيم: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ أي: لا تمدحوها ولا تفخروا بأعمالكم، وهذا هو التواضع المُوَصِل للتقوى.

أحبتي .. عن خُلُق التواضع قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن ترك اللِّباس تواضعًا للَّه، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيِّره مِن أيِّ حُلل الإيمان شاء يلبسها]. وقال المصطفى: [طُوبَى لمن تواضع في غير منقصة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة].
وكان عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للتواضع بأقواله وأفعاله، فكان يجالس الفقراء والمساكين ويُصغي إليهم، ويجيب دعوة العبد وينصت للأَمَة، فلا ينصرف عنها حتى تنصرف، وكان يجلس في أصحابه كأحدهم، بل يشاركهم العمل ما قل منه أو كثر؛ شارك أصحابه في بناء أول مسجد بالمدينة بعد الهجرة إليها، وفي غزوة الخندق حمل التراب أثناء حفر الخندق يوم الأحزاب وقام بنقله مع صحابته بلا كلل أو تأفف.
وعن تواضُع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ومع زوجاته؛ قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه". لقد كان بالفعل قدوةً حسنةً لنا في تواضعه ولينه ورفقه وبساطته؛ قال عن نفسه، وهو سيد ولد آدم، حين أتاه رجلٌ فقام بين يديه فأخذته رِّعْدَةٌ، فقال صلَّى الله عليه وسلم: [هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ]، إنه التطبيق العملي لقوله عليه الصلاة والسلام (ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه). حقاً كان لنا في نبينا المختار أسوةٌ حسنة؛ وصدق الله العظيم في قوله: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، وهو الذي وصفه المولى عز وجل بقوله: ﴿وَإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم﴾.

وعن فضيلة التواضع يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع"، ومما يُروى عن تواضعه قال علماء السير: كان أبو بكر رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم، فلما بُويع بالخلافة، قالت جارية من الحي: "الآن لا يحلب لنا منائحنا"، فسمعها أبو بكر فقال: "بلى، لعمري لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيِّرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه"، فكان يحلب لهم.
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد جاء في الأثر عنه أن رسول كسرى الذي جاء إلى المدينة لمقابلة خليفة المسلمين، فسأل عن قصره المنيف، أو حصنه المنيع، فدلوه على بيته، فرأى ما هو أدنى من بيوت الفقراء، ووجده نائماً في ملابس بسيطة تحت ظل شجرة قريبة، فقال مقولته الشهيرة: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر". وقال الشاعر عن هذا الموقف:
وراعَ صاحبَ كِسرى أنْ رأى عُمراً ** بين الرعيَّةِ عَطلاً وهوَ راعيها
وعَهدُهُ بِمُلوكِ الفُرسِ أنَّ لها  **  سوراً مِن الجُند والأحراس يحميها
رآهُ مُستَغرِقاً في نَومِهِ فرأى    **    فيه المهابةَ في أسمى معانيها
فوقَ الثرى تَحت ظِلِّ الدَّوحِ مُشتملاً ** بِبُردَةٍ كادَ طُولُ العهدِ يُبليها
فهان في عينيهِ ما كان يُكبِرُهُ     **    مِنَ الأكاسرِ والدُّنيا بأيديها
وقال قولةَ حَقٍّ أصبحت مَثلاً  ** وأصبحَ الجيلُ بعدَ الجيلِ يَرويها
أَمِنتَ لمّا أقمتَ العَدلَ بَينَهُمُ    **    فَنِمتَ نَومَ قَريرِ العينِ هانيها

ومن مواقف التواضع موقف مشترك بين كلٍ من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما: كان عمر بن الخطاب يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها مرة مبكراً كي يعرف من يسبقه إليها فإذا الذي يأتيها هو أبو بكر الصديق، وهو خليفة المسلمين.

وعن التواضع قال أحد الشعراء:
تواضع تكن كالنجمِ لاح لناظرٍ ** على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ
ولا تكُ كالدخانِ يعلو بنفسهِ   **   إلى طبقاتِ الجوِ وهو وضيعُ
وقال آخر:
تواضع إذا ما نِلتَ في الناسِ رفعةً ** فإن رفيعَ القومِ من يتواضعُ

اللهم اجعلنا ممن يلتزمون هديك في التواضع ولين الجانب والحنو خاصةً على الضعفاء ..
اللهم اجعلنا ممن يتأسون بنبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم الذي كان مثالاً للتواضع .. وكان المعلم الأول لنا للتواضع حين قال (ما تَواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه).
اللهم اجعلنا من المتواضعين .. وانزع من قلوبنا الكِبْر والعُلو والعُجب والخُيلاء .. ونقِ أعمالنا من كل سوء، وارزقنا اللهم حلاوةَ الذلِ لك والتواضع لعبيدك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/bbMM8b

الجمعة، 13 يناير 2017

هجر القرآن

الجمعة 13 يناير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٦
(هجر القرآن)

اقترب بهدوء من الإمام بعد انتهاء صلاة العشاء وقال له: "أتأذن لي فضيلتك بسؤال؟"، قال الإمام: "تفضل"، سأله: "هل ما قرأت بعد الفاتحة كان من القرآن الكريم؟"، اندهش الإمام من السؤال وحاول جاهداً ألا يشي وجهه باندهاشه، حملق في السائل ليتأكد من جديته، فرأى أمامه رجلاً كبيراً في السن وقوراً سَمْتُه يدل على أنه من ذوي المكانة الرفيعة، علامات الجدية الظاهرة على وجهه لا تخطئها عين، رد عليه بسرعة وحزم: "بالتأكيد؛ ما قرأته في الركعتين كان آيات من القرآن الكريم"، سأل الرجل بهدوء: "من أي سورة؟"، أخبره الإمام باسم السورة التي كان يقرأ آيات منها، فانصرف السائل شاكراً!
هذه ليست طرفة سخيفة، وليست قصة مختلقة، بل هذا موقف حدث بالفعل منذ عدة شهور في مُصَلى واحدٍ من أندية النخبة بالقاهرة، والموقف رواه لنا من كان يؤم المصلين يومها.
تذكرت هذا الموقف وأنا أقرأ قوله تعالى في سورة الفرقان: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾.
لا أقسو على الرجل ولا أتهمه في دينه ولا أحكم عليه؛ فقد يكون عند الله سبحانه وتعالى أفضل منا، أما الموقف فقد أثار في ذهني عدة ملاحظات، ثلاث منها عن الرجل، وواحدة عن الإمام، والأخيرة عن الشأن العام:
فالرجل كان أميناً مع نفسه صادقاً مع غيره ولم يستحِ أن يسأل رغم الحرج البين في السؤال. وقد ورد في الأثر أن "الْعِلْمُ خَزَائِنُ وَمِفْتَاحُهُ السُّؤَالُ، فَسَلُوا يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ: السَّائِلُ وَالْمُسْتَمِعُ، وَالْمُعَلِّمُ، وَالْمُجَابُ لَهُمْ".
ثم إن الرجل قد ترك ما يستمتع به في النادي حتى يتمكن من أداء فريضة الصلاة على وقتها مع جماعة المسلمين، رغم أن وقت صلاة العشاء متسعٌ كما هو معلوم.
فضلاً عن أن تقدم الرجل في العمر وكبر سنه لم يحولا بينه وبين أن يكون في موضع طالب علمٍ ومعرفة. وهذه كلها ملاحظات تُحسب للرجل ولا تُحسب عليه.
أما عن الإمام فقد كان رد فعله رائعاً؛ لم يُشْعِر السائل باستهجانه السؤال، وأخفى قدر إمكانه ما يمكن أن يبدو للسائل على أنه استغراب أو استنكار، ثم إن كلماته كانت حاسمة وقاطعة.
وفيما يتعلق بالشأن العام، تساءلت بيني وبين نفسي: هل يمكن لمسلمٍ أن تنقضي حياته، أو جزءٌ كبير منها، ولم يقرأ القرآن الكريم كاملاً ولو لمرة واحدة؟ كم يا تُرى عدد المصاحف في بيت كلٍ منا؟ وكم منها نفتحه ونقرأ فيه؟ وكم مسلم يقرأ في مصحف يضعه في سيارته أو على مكتبه أو في مكتبته؟ وكم من مرةٍ لا نجد أفضل من المصحف هديةً في العديد من المناسبات؟ هل منا من توقفت علاقته بالقرآن الكريم عند حدود ما درسه منه أيام الدراسة؟ وكم من المسلمين لا يستمع إلى القرآن يُتلىَ إلا عند حضوره سرادقات العزاء مجاملاً؟ هذه الأسئلة وغيرها توالت على ذهني وأرقتني وأنا أتلو الآية الكريمة في سورة الفرقان عن شكوى الرسول عليه الصلاة والسلام لرب العزة عن (هجر القرآن).

أحبتي في الله .. القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، المعجز المنزّل على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، المُتَعَبدُ بتلاوته، المبدوءُ بسورة الفاتحة والمختتمُ بسورة الناس، والمُتَحدىَ بأقصر سورةٍ منه. هو مرشدُ الأمة ودليلها إلى خيري الدارين. نُقل إلينا متواتراً عن جبريل أمين الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحابته الكرام عن التابعين وأئمة القراءة، حتى وصل إلينا كما أنزله الله، تصديقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾.
والقرآن الكريم مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مسموع بالآذان، له أسماءٌ وصفاتٌ كثيرة وردت بنص الآيات الكريمة حتى أن الإمام الفيروزبادي ذكر للقرآن مائة اسمٍ وصفة. فمن أسمائه: القرآن، الذكر، الفرقان، التنزيل، الكتاب، وكلام الله. أما صفاته فمنها: الكريم، المجيد، العظيم، الحق، المبارك، المبين، والنور.
القرآن الكريم الذي نتحدث عنه هو معجزة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو خير الكلام وأحسنه وأصدقه وأنفعه، وهو وحي الله وتنزيله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أفضل كتاب أنزله الله تبارك وتعالى على أفضل رسول؛ على عبده ومصطفاه وخير خلقه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى عن القرآن الكريم: ﴿الَم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾.
هو كتاب الله رب العالمين، وكلام خالق الخلق أجمعين، فيه نبأُ ما قبلنا، وخبرُ ما بعدنا، وحُكْمُ ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جَبَّارٍ قَصَمَه الله، ومن ابتغى الهُدَى في غيره أضله الله، وهو حبلُ الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تَزيغُ به الأهواء، ولا تلتبسُ به الألسن، ولا يَشبعُ منه العلماء، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبُه، من قال به صَدَق، ومن عَمِلَ به أُجِر، ومن حَكَمَ به عَدَل، ومن دَعا إليه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم.
حتى أعتى أعداء الإسلام من كفار قريش، وهم أهل اللغة والبلاغة والفصاحة، لم يروا في القرآن الكريم إلا معجزةً ليست من صنع بشر؛ فهذا الوليد بن المغيرة يصف القرآن بقوله: "واللَّه إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، وما يقول هذا بشر".
نَزَّل الله القرآن الكريم وتكفل بحفظه؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، يقول عنه المولى عز وجل: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ*لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، وتحدى الله سبحانه الإنس والجن أن يأتوا بمثله؛ قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾، تتجلى عظمته في أثر مجرد السماع إليه عند نزوله حيث كان هادياً إلى الحق والطريق المستقيم؛ يقول تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، أما الاستماع إليه فقد كان أثره عجيباً؛ يقول جل وعلا على لسان نبيه الأمين: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا﴾، ويكفي شهادةً بعظمة القرآن الكريم الصفة التي وصفه بها المولى سبحانه وتعالى حيث يقول: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ﴾. والله سبحانه ما أنزل كتابه إلا ليتدبَّره قارئوه، ويفقهه تالُوهُ، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وعن فضل القرآن الكريم قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ: رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ: لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثلُ المُنَافِقِ الَّذِي يقرأ القرآنَ كَمَثلِ الرَّيحانَةِ: ريحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثلِ الحَنْظَلَةِ: لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ]، وقال: [إنَّ الَّذِي لَيْسَ في جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالبَيْتِ الخَرِبِ]، وقال كذلك: [إنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أقْوَاماً وَيَضَعُ بِهِ آخرِينَ]، وقال لأبي ذر: [عليك بتلاوة القرآن؛ فإنه نور لك في الأرض، وذخر لك في السماء]، وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: [هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده]، وقال: [مَنْ قَرَأ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، لاَ أقول: {ألم} حَرفٌ، وَلكِنْ: ألِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ].وقال: [اقْرَؤُوا القُرْآنَ؛ فَإنَّهُ يَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ]، وقال أيضاً: [يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فَإنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آية تَقْرَؤُهَا] .. فهل من عاقلٍ يُضَيِّع على نفسه كل ذلك الثواب؟
أحبتي .. إذا كان الجماد الذي نفترض فيه عدم الإحساس يخشع ويتصدع من خشية الله لو أُنزل عليه القرآن؛ يقول عز وجل: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، فما بال البعض منا لا تخشع قلوبهم له ولا تلين جلودهم لذكر الله؟ أليسوا ممن قال عنهم الله عز وجل: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه﴾؟ متى نصل لأن نكون من بين من مدحهم الله سبحانه بقوله: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾؟
وإذا كان المسلمون، من غير العرب، يبذلون الغالي والنفيس ليتعلموا لغة القرآن حتى يستطيعون قراءته وتلاوته وفهم معانيه، آملين حصول الأجر الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: [الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران]، فأولى بنا نحن العرب أن نحرص على قراءة القرآن الذي نزل بلغتنا، وتلاوته على الوجه الصحيح؛ يكفينا تشريفاً أن يقول المولى عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. لقد أمر الله رسوله بتلاوة القرآن في أول نزول القرآن، في قوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا﴾، وكل أمرٍ للرسول صلى الله عليه وسلم هو أمرٌ لجميع المسلمين إلى قيام الساعة ما لم يكن أمراً خاصاً بالرسول؛ فتلاوة القرآن وقراءته عبادةٌ يُؤْجَر المسلم عليها مثل سائر العبادات، ويتضاعف أجره أكثر بتلاوته مع التدبر.

أحبتي .. إن (هجر القرآن) تقصيرٌ كبيرٌ في حق أنفسنا؛ فالله سبحانه وتعالى غنيٌ عن عبادتنا، غنيٌ عنا، وغنيٌ عن العالمين .. تَعَّبُدُنا بالقرآن لأنفسنا .. فلنتواصى بتعهد القرآن وتلاوته ولتكن البداية بعدة دقائق كل يوم، هل من الصعب أن يقرأ المسلم منا مهما كانت مشاغله صفحة واحدة أو صفحتين اثنتين يومياً من المصحف الشريف؟ كم يحتاج إلى وقتٍ لذلك؟ خمس دقائق؟ عشر دقائق؟ من أصل أكثر من ألف وأربعمائة دقيقة في اليوم الواحد؟!!! يقضي معظمنا أضعاف هذه الدقائق المعدودة فيما هو أقل شأناً بكثير: مشاهدة تلفاز، دردشات على مواقع التواصل الاجتماعي، وغير ذلك، حتى إن البعض لو اتصل به رئيسه في العمل أو مديره ساعةً كاملةً كل يوم ما اشتكى ولا مَلَّ بل تراه سعيداً مستبشراً يتفاخر ويتباهى ..أخشى أن يكون هؤلاء ممن تشير إليهم الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾. ألا يخجل أحدنا أن تمر الأيام والأسابيع والشهور دون يقرأ في مصحفه؟ ألا يستحي أن يكون أجله قد اقترب ولم يُتِم قراءة القرآن الكريم كاملاً ولو مرةً واحدةً في حياته كلها؟

يا من فاتته هذه الأوقات الثمينة، ما تزال أمامك فرصةٌ لتدارك الأمر .. هل تعلم أنك لو قرأت صفحتين اثنتين فقط من القرآن الكريم كل يوم يمكنك إتمام قراءة المصحف كاملاً في قرابة عشرة أشهر؟ أبشرك .. ستحس وقتها بالسكينة، وتلمس بنفسك بركة قراءة القرآن، ومع كثرة قراءتك للقرآن يتولد لديك حس الاستمتاع بقراءته ولذة تلاوته، وتغشاك راحةٌ نفسيةٌ واطمئنانٌ في القلب، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ .. ابدأ اليوم .. لا تُسَوِف ولا تؤجل .. انضم لركب الأتقياء ولا تتخلف عن اللحاق به؛ فوجهته رضا الله سبحانه وتعالى وجائزته الكبرى الجنة بإذن الله .. واعلم أننا كنا مثلك فَمَنَّ الله علينا، ولعل الآية الكريمة تصف لك حالنا: ﴿كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا. اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، ووفقنا لتلاوته والعمل به آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا. اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه. اللهم اجعل القرآن لنا هدى ونوراً ورحمة، ولا تجعله علينا وبالاً وحُجَّة ونقمة. اللهم اجعل القرآن العظيم لقلوبنا ضياءًَ. اللهم اجعله لأبصارنا ضياءً، ولأسقامنا دواءً، ولقلوبنا شفاءً، ولذنوبنا ممحِّصاً، وعن النار مخلِّصاً، وفي القبر مؤنساً، وعند الصراط نوراً، وإلى الجنة رفيقاً، وبيننا وبين النار حجاباً وستراً، واجعله شاهداً لنا لا علينا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/G2KVG2

الجمعة، 6 يناير 2017

ربك رب قلوب

الجمعة 6 يناير 2017م

خاطرة الجمعة /٦٥
(ربك رب قلوب)

حينما سألته بود: "لماذا لا تنتظم في صلاتك؟"، أجاب شاب من شباب العائلة قريب من قلبي ويرتاح إليّ: "أود ذلك لكن ظروف عملي لا تسمح"، قلت له: "تجري وراء الرزق وتنسى الرازق"، رد وهو يشعر بالخجل: "تعلم أني أخرج من البيت قبل شروق الشمس ولا أعود إلا مع مغيبها"، قلت: "هذا أدعى لأن أراك تصلي الفجر معنا في المسجد"، حاول أن يبرر موقفه بضيق الوقت، وتحضير الأبناء للمدرسة وتجهيز حقائبهم وإعداد فطورهم وغير ذلك من المبررات، سألته: "وهل يضمن لك ذلك أن تسير كل أمورك بانتظام؟"، سكت برهة فأضفت: "بصلاتك الفجر تكون في ذمة الله، أي في حماية الله وفي عهد الله وفي ضمان الله عز وجل، يسهل لك أمورك كلها، ويسخر لك جنوداً لا تعلمها؛ فينعم عليك بالسكينة والشعور بالرضا والراحة النفسية وتيسير الأعمال وحل المشاكل وإبعاد الشر والأذى وتحقيق الآمال والتوفيق والنجاح وغير ذلك من نِعمٍ لا تعلمها، الله وحده يقدرها لك"، وأنهيت كلامي معه قائلاً: "تشعر بثقة هائلة أثناء يومك إذا كنت مصلياً للصبح؛ تشعر بثبات أمام المحن وأمام المصاعب، أنت في حماية مالك الملك وخالق الأكوان، ماذا تريد أكثر من ذلك؟! وهكذا باقي الصلوات، تشعرك بأنك في معية الله سبحانه وتعالى؛ ومن يكن مع الله يكن الله معه فهو حسبه، إذا أخلصت النية لله أدهشك بعطائه". قال وهو يهم بالانصراف: "ربك رب قلوب، ادعُ الله أن يهديني".

أحبتي في الله .. تلك هي المشكلة .. عبارة (ربك رب قلوب) عبارةُ حقٍ يُقصد بها باطل في بعض الأحيان، عبارةٌ صحيحة يُراد بها التخفف من العبادات والتكاليف الشرعية وعلى رأسها الصلاة. إنها من تلبيس إبليس يوحي بها لنفوس الناس ليخدرهم بها، يعلم من يقولها، غالباً، أنه مقصر .. يكون ضمير الشخص في البداية حاضراً بقوة فإذا استمع لصوت ضميره استطاع أن يتغلب على تأثير هذه العبارة في نفسه، وإلا بدأت مقاومته تخف بالتدريج فيقع ضحيةً للأثر المخدر لهذه العبارة، ثم يصل به الأمر في نهاية المطاف إلى الاقتناع الكامل بها حتى أنه لا يترك مشاهدة مباراة رياضية إذا حان وقت الصلاة فإذا تعجب أحد من هذا السلوك تكون عبارة (ربك رب قلوب) جاهزة على لسانه!
الأمر إذن يبدأ بإقناع الشخص لنفسه بأن الأنسب لظروفه ألا يصلي مع جماعة المسلمين في المسجد فيصلي في بيته، ثم بعد أن يعتاد ذلك يبدأ في مرحلة أخرى هي تأخير صلاته في بيته عن موعدها فيصليها في آخر وقتها، ثم وفي مرحلة تالية يبدأ في تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها فيصليها قضاءً، وقد يقوم بالجمع بين فرضين دون مقتضى من الشرع، ليصل في النهاية إلى إهمال صلاة بعض الفروض بالكامل خاصةً صلاتي الفجر والعصر، فإذا تحرك ضميره وحدثته نفسه اللوامة في ذلك تكون عبارة (ربك رب قلوب) هي البلسم الشافي، من وجهة نظره، لما تسببه له نفسه اللوامة من آلام!
صحيحٌ أن الله سبحانه وتعالى رب قلوب، لكنه في ذات الوقت هو الإله الواحد الأحد الذي لا إله غيره المستحق للعبادة دون سواه، هو الله الذي خلقنا وأنعم علينا بكثير من النعم التي لا تُعد ولا تُحصى، ثم إنا جميعاً إليه راجعون واقفون بين يديه مسئولون .. هو الله الذي شرع لنا عبادته بالكيفية التي يريدها والتي بينها لنا رسوله الأمين. فهل نكتفي بأننا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن قلوبنا سليمة وأخلاقنا رفيعة، وأن معاملاتنا مع غيرنا طيبة، ونترك العبادة؟
الإسلام دين متكامل الأركان: عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات، لا يكمل إسلام أيٍ منا إلا بتوافر جميع هذه الأركان؛ فالعبادات إذن ركن أصيل من أركان الإسلام.
والعبادة لغةً هي التذلل، وهي الطاعة مع الخضوع. أما شرعاً فهي ما يجمع كمال الخضوع والمحبة، والخشية لله تعالى.
يقول ابن تيمية: "والعبادة: أصلٌ معناها الذل. يقال طريق معبد، إذا كان مذللاً، قد وطئته الأقدام. والعبادة المأمور بها المسلم تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له". ويقول ابن القيم: "العبادة: تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته، ولم تكن خاضعاً له لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له، حتى تكون محباً خاضعاً".
ويرى أهل العلم أن مفهوم العبادة شاملٌ ومعناها واسع، ولا يقتصر على بعض الطاعات والأفعال والفرائض، فكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة إذا صحت النية وأحبها الله وارتضاها فهي عبادة، فحركاتك وسكناتك وتعاملاتك إذا أحسنت النية فيها فهي عبادة، وكذلك أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، بل تبسمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، وحسن العشرة، والأخوة في الله، والصدق في الحديث، والتسامح مع الآخرين والصفح عنهم، وحسن الخلق، وتجنب مواطن الشبهة والريبة، إلى غير ذلك من التعاملات والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية تُعد من العبادات. لكن ذلك كله لا يغني أبداً عن أداء ما نحن مأمورون بأدائه كالصلاة والزكاة والصوم والحج لمن استطاع إليه سبيلاً؛ فلا معنى للتحلل من هذه العبادات والتعلل بالقول (ربك رب قلوب)!
ومن بين كل العبادات فإن للصلاة كعبادة منزلةٌ خاصة، أنقل لكم أحبتي ما يبين هذه المنزلة الكبيرة التي تحظى بها الصلاة في الإسلام، منزلةٌ لا تصل إليها أية عبادة أخرى، يدل على ذلك أنها عماد الدين الذي لا يقوم إلا به؛ ففي الحديث الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذروة سنامه؟] قلت: بلى يا رسول الله، قال: [رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد ..]. كما أن منزلة الصلاة تأتي بعد الشهادتين لتكون دليلاً على صحة الاعتقاد وسلامته، وبرهاناً على صدق ما وقر في القلب، وتصديقاً له؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحجِّ البيت، وصوم رمضان]. وإقام الصلاة: أداؤها كاملة بأقوالها وأفعالها في أوقاتها المعينة، كما جاء في القرآن الكريم، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ أي ذات وقت محدد.
وللصلاة مكانةٌ خاصة من بين سائر العبادات لمكان فرضيتها؛ فلم ينزل بها ملكٌ إلى الأرض، ولكن شاء الله أن ينعم على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالعروج إلى السماء وخاطبه ربه بفرضية الصلاة مباشرةً، وهذا شيءٌ اختصت به الصلاة من بين سائر العبادات. فقد فرضت الصلاة ليلة المعراج قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين. وفرضت خمسين صلاة ثم حصل التخفيف في عددها إلى خمس، وبقي ثواب الخمسين في الخمس، وهذا دليل على محبة الله لها وعظيم منزلتها.
كذلك فإن الصلاة يمحو الله بها الخطايا؛ فقد رُوى عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لأصحابه: [أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟]، قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: [فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا].
والصلاة هي آخر ما يُفقد من الدين، فإن ضاعت ضاع الدين كله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة]، وقال عليه الصلاة والسلام: [العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر].
لذا ينبغي للمسلم أن يحرص على أداء الصلاة في أوقاتها، وألا يتكاسل أو يسهو عنها، قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾، وتوعدَّ الله تعالى من ضيَّع الصلاة، فقال: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾، يقول ابن كثير عن هذه الآية: "وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد - وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غياً، أي: خساراً يوم القيامة". وقيل: غياً أي شراً، وقيل: هو وادٍ في جهنم.
ومن المعلوم أن الصلاة أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ].
يقول ابن القيم: "للعبد أمام ربه وقفتان: الأولى في الصلاة، والثانية يوم القيامة، وبقدر إحسانه للوقفة الأولى، تكون نجاته في الوقفة الثانية".
‏ويقول الحسن البصري: "يا بن آدم وماذا يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك؟".

فهل بعد ذلك نترك الصلاة ونتكاسل عن أدائها ثم نقول (ربك رب قلوب)!

أحبتي .. قيل عن الصلاة: مجلبةٌ للرزق، حافظةٌ للصحة، دافعةٌ للأذى، طاردةٌ للأدواء، مقويةٌ للقلب، مبيضةٌ للوجه، مفرحةٌ للنفس، مذهبةٌ للكسل، منشطةٌ للجوارح، ممدةٌ للقوى، شارحةٌ للصدر، مغذيةٌ للروح، منورةٌ للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدةٌ من الشيطان، مقربةٌ من الرحمن.
وقيل: لا تترك صلاتك أبداً فهناك الملايين تحت القبور يتمنون لو تعود بهم الحياة ليسجدوا ولو سجدة واحدة.
وقيل: الأقدام التي لا تقودك إلى الصلاة لن تقودك إلي الجنة.
وقيل: إذا أعطيت الصلاة المكانة الأولى في حياتك، كل الأمور الباقية ستأخذ أماكنها الصحيحة تلقائياً.
كما قيل: لا يحافظ أحدٌ على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين.
جعلنا الله وإياكم من مقيمي الصلاة على وجهها الأكمل ورزقنا الخشوع فيها، وأنعم علينا بألا نكون من الغافلين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وهب لنا قلوباً لا تتكاسل عن الصلاة ولا تؤخرها، فما أعذب السكينة التي تسكبها الصلاة في نفوسنا!

أما آن الأوان أحبتي لكل من يترك الصلاة ويتكاسل عنها ويقول: (ربك رب قلوب)، أن يقول بدلاً من ذلك: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾، أو يقول: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚرَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾؟

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/Bkh0Y9

الجمعة، 30 ديسمبر 2016

حُسن الظن بالناس

الجمعة 30 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٤
(حُسن الظن بالناس)

أرسل لي صديقي العزيز قصةً يتداولها بعض الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، تقول القصة:
{إذ جاء طائر إلى بركة ماء ليشرب منها، وجد أطفالاً بقربها، فخاف منهم حتى غادر الأطفال وابتعدوا. وبالصدفة جاء رجل ذو لحية طويلة إلى البركة، فقال الطير في نفسه: هذا رجل وقور ولا يمكن أن يؤذيني. فنزل إلى البركة ليشرب من الماء، فأخذ الرجل حجراً ورماه به ففقأ عينه. فذهب إلى نبي الله سليمان شاكياً، فاستدعى نبي الله سليمان ذلك الرجل وسأله: ألك حاجة في هذا الطائر حتى رميته؟! قال: لا. عندها أصدر عليه النبي حكماً بأن تُفقأ عينه. غير أن الطائر اعترض قائلاً: يا نبي الله إن عين الرجل لم تؤذيني، بل اللحية هي التي خدعتني، لذا أطالب بقص لحيته عقوبة له، حتى لا يخدع بها أحداً غيري}.
واُختتمت القصة بالتعليق التالي: ‏{ترى إن حضر هذا الطائر زماننا هذا كم لحية سيطالب بقصها؟!!}
كتبت له رداً مختصراً قلت فيه:
{عزيزي، اللحية هي المشكلة، هذا تفكير طائر! أما تفكير الإنسان الذي ميزه ربه بالعقل فيرى أن المشكلة الحقيقية تكمن في قيم الرجل وما يؤمن به من مبادئ .. فهي التي تمنعه أو لا تمنعه من إيذاء غيره طائراً كان أو غير طائر .. فكم من حليقِ لحيةٍ آذى الكثير من البشر .. وكم من طويلِ لحيةٍ كان خيراً على البشرية جمعاء .. وعليه فلا يجب أن نقع في خطأ التعميم .. ولنبتعد عن الحكم على الناس من مظهرهم .. علي الأقل حتى لا نقع في إثم الظن؛ فإن بعضَ الظنِ إثمٌ كما تعلم}.
ويقول أحدهم في مدونته على شبكة الإنترنت تعقيباً على هذه القصة:
{لا يخفى أن هذه القصة كذب سمج وهي مخترعة ولا وجود لها في شيء من الكتب. لا شك أن التدين الظاهر أمرٌ يشترك فيه الصالح والمنافق، ولكن هل يجوز أن نذم الصالحين بزلل المتشبهين بهم؟ هذا منتهى الظلم. من الناس من يصلي نفاقاً ومن يحج نفاقاً ومن يجاهد نفاقاً ومن يتصدق نفاقاً فهل يجوز أن نُمنع من هذه الأمور؟
واتهام أهل الخير بالرياء طريقة المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، فكانوا يقولون عن المتصدقين مرائين، ولما كانوا هم المراءون ظنوا هذا في أهل الإيمان}.

أحبتي في الله .. أحسن الطائر الظن بالرجل الملتحي، لكن الأخير لم يكن عند حسن الظن به، فوقع الطائر في خطأ الحكم على ذلك الرجل من خلال مظهره، وهكذا يفعل كثير من الناس؛ قال أحد العلماء: "كثر كلام الناس بعضهم في بعض بلا زمام ولا خطام؛ وانشغل عدد من الدعاة وطلاب العلم عن العلم والدعوة بالحكم على الناس"، وذكر عدداً من الضوابط الشرعية التي علينا الالتزام بها عند الحكم على واحد من الناس، منها:
أن لا يحكم على الناس إلا عالمٌ خبيرٌ بأحوالهم؛ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، معه شاهد يشهد، قال: ائت بمن يعرفك، فجاء برجل، قال: هل تزكيه؟، هل عرفته؟، قال: نعم، فقال عمر: وكيف عرفته؟، هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟، قال: لا، قال: هل عاملته بالدينار والدرهم التي تُعرف بهما أمانة الرجال؟، قال: لا، قال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟، قال: لا، قال: عمر: فلعلك رأيته في المسجد راكعًا وساجدًا فجئتَ تزكيه، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال عمر: اذهب فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك فهذا لا يعرفك.
ومن الضوابط الشرعية وجوب العدل والإنصاف؛ يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. ومن ضوابط الحكم على الناس ألا يكون بالظن؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾، وقال: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾، وقال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ]. ومن الضوابط الشرعية كذلك: أن الأصل إحسان الظن بالمسلمين، وإساءة الظن لا تكون إلا إذا قامت أسبابها، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ فدلت الآية على أن التبين والتثبت إنما يكون من خبر الفاسق المعروف بالفسق. ومن تلك الضوابط: التبين والتثبت وعدم التسرع؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾. ومن بينها أيضاً النهي عن التجسس والتحسس؛ قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا﴾. وقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [... وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا].

أحبتي .. واجبٌ علينا أن نحسن الظن بالناس .. ولا نتسرع في إصدار أحكام يجانبها الصواب.
عن (حُسن الظن بالناس) يقول أهل العلم: الإسلام دين يدعو إلى حسن الظن بالناس والابتعاد كل البعد عن سوء الظن بهم؛ لأن سرائر الناس ودواخلهم لا يعلمها إلا الله تعالى وحده. وسوء الظن يؤدي إلى الخصومات والعداوات وتقطع الصلات؛ قال تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾. وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ*إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. والمسلم مأمور بأن يُحسن الظن بإخوانه، وأن يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على محملٍ حسنٍ ما لم يتحول الظن إلى يقينٍ جازم. لذا فإنه ينبغي للمسلم ألا يلتفت كثيراً إلى أفعال الناس، يراقب هذا، ويتابع ذاك، ويفتش عن أمر تلك، بل الواجب عليه أن يُقبل على نفسه فيصلحَ شأنها، ويُقوِّمَ خطأها، ويرتقي بها إلى مراتب الآداب والأخلاق العالية، فإذا شغل نفسه بذلك، لم يجد وقتاً ولا فكراً يشغله في الناس وظن السوء بهم.
فالواجبُ على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإنَّ من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنَه ولم يُتعب قلبَه، فكلَّما اطَّلع على عيبٍ لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإنَّ من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه وتعذَّر عليه ترك عيوب نفسه.
و(حُسن الظن بالناس) مندوبٌ ومستحب، مع البعد عن تتبع عورات الناس ورصد معايبهم؛ قال الإمام الشافعي:
لِسَانَكَ لا تَذْكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ  **   فَكلُّكَ عَـوْرَاتٌ وَلِلنَّـاسِ أَلْسُــنُ
وَعَـينكَ إنْ أَبْـدَتْ إَلَيكَ مَعَـايِباً ** فَصُنْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْينُ
علينا أن نحمل الكلام على أحسن المحامل؛ فكما ورد في الأثر عن عمر رضي الله عنه: "ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلمٍ شرًا وأنت تجدُ لها في الخيرِ محملًا".
وعلينا التماس الأعذار للآخرين، قال ابن سيرين: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً، فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لا أعرفه".
ويقول الشاعر:
سَامِحْ أَخَـاكَ إِذَا وَافَاكَ بِالْغَلَــطِ * * وَاتْرُكْ هَوَى الْقَلْبِ لا يُدْهِيْكَ بِالشَّطَطِ
فكم صَدِيْقٍ وفيٍّ مُخْـلِصٍ لَبِــقٍ   * *   أَضْحَى عَدُوًّا بِـــمَا لاقَاهُ مِنْ فُرُطِ
فَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَعْصُوْمٌ سِوَى رُسُلٍ  **   حَمَاهُـمُ اللهُ مِـنْ دَوَّامَـةِ السَّقَـطِ
أَلَسْتَ تَرْجُـوْ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِـرَةً  * *  يَوْمَ الزِّحَـامِ فَسَامِحْ تَنْجُ مِنْ سَخَـطِ

أحبتي .. عودةً إلى القصة المذكورة .. دعونا ننتبه إلى أن (حُسن الظن بالناس) يجب ألا ينسينا ما يخطط له أعداؤنا.. فلننتبه إلى مكائدهم وحربهم المستمرة على الإسلام .. يبدأون بمحاربة المظاهر كاللحية والثوب والنقاب، ثم يشككون في أصح كتب الأحاديث، وينتقلون إلى سُنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ويقولون لا نأخذ إلا بالقرآن، ثم يأتون إلى آيات القرآن الكريم فيفسرونها وفق أهوائهم حتى أن أحدهم تجرأ على القول بأن بعض هذه الآيات لم تعد تصلح لزماننا؛ فهي كانت تصلح فقط للزمن الذي نزلت فيه! .. علينا أن نكون واعين لأمرٍ واضحٍ وضوح الشمس في رابعة النهار؛ أنه من يفعل سوءاً فليس العيب في دينه بل على العكس تماماً العيب في قلة دينه. ليس أيُ فردٍ منا حجةً على الإسلام؛ ذلك الدين الذي أكمله الله لنا وأتمم به علينا نعمته ورضاه لنا ديناً؛ يقول عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، فالإسلام هو الحُجة، إما لنا أو علينا، ولا يجوز لعاقل أن يحكم على الإسلام من واقع المسلمين وسلوكيات بعض أتباعه، بل من الإنصاف أن يكون العكس، ويكون مدى التزام المسلمين بدينهم هو معيار الحكم لهم أو عليهم.
فلنحذر وننتبه لمن يخلطون السم بالعسل ويسوقون أفكاراً يقصدون بها إلصاق التهم جزافاً بالإسلام، والإسلام منها براء، ولنثق في قول المولى عز وجل: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾، ولنتقِ الله في ديننا الذي يصر أعداؤه على الحكم عليه من خلال أقوالنا وأفعالنا، فلنجعلها منضبطة بضوابط الإسلام، ولنكن خير سفراء لهذا الدين القيم بأن نقيم وجوهنا له حنفاء؛ امتثالاً لأمره سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/BKrESv

الجمعة، 23 ديسمبر 2016

حقوق الحيوانات!


الجمعة 23 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٣
(حقوق الحيوانات)!

فوجئنا، أنا وصديقي، عندما رأينا حوذياً يعمل على عربةٍ يجرها حِمار هزيل، يلهب ظهر حِماره بعصا غليظة، غير آبهٍ لصراخ الحِمار، ذلك المسكين الذي ليس أمامه إلا أن يجر عربة تحمل أثقالاً نحو نهاية طريق يرتفع متراً أو أكثر عن المكان الذي كنا فيه.
طلبنا من الحوذي على استحياء أن يوقف ضربه للحِمار، أو أن يخفف من حدة الضرب، نظر إلينا ببلاهة ولم يرد، ولسان حاله يقول: "ما دخلكما أنتما؟ هذا حِماري أعرف كيف أتعامل معه". حمدنا الله أنه لم يرد علينا بوقاحة، واكتفينا بأن بلغناه رأينا، مسبوقاً بعبارة "حرامٌ عليك".
استكملنا أنا وصديقي سيرنا، لكن الحديث بيننا تحول إلى ذلك المشهد الذي ظل مؤثراً فينا نحن الاثنين.
سألني صديقي: "هل كان من المناسب أن نقول له 'حرامٌ عليك'، هذه عبارة لا تُقال إلا إذا كان ما يفعله حراماً بالفعل، فهل لديك دليلٌ على حرمة ذلك"؟، أجبته: "ما يفعله ذلك الحوذي حرامٌ بلا شك؛ فقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من عاقبة سوء معاملة الحيوان؛ بقوله: [دخلت امرأة النار في هرةٍ {قطة} ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض]، مجرد عدم إطعام الحيوان سببٌ كافٍ لدخول النار، فما بالك بمن يعذب الحيوان ويقسو عليه ويعامله بهذه الوحشية التي رأيناها؟ إن هذا حرامٌ بالتأكيد".

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى موضحاً لنا أن جميع مخلوقاته، ومنها هذه الحيوانات، أممٌ مثلنا نحن البشر: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾، ويقول موضحاً التشابه بين الإنسان والحيوان: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا﴾، والأنعام {الإبل والبقر والغنم والمعز} نوعٌ من تلك الحيوانات التي خلقها لنا المولى سبحانه وجعل لنا فيها منافع كثيرة؛ يقول عز من قائل: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ*وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾.
وقد وردت بالقرآن الكريم أسماء العديد من الحيوانات والطيور والحشرات التي هي أممٌ أمثالنا؛ فمن الحيوانات: البقرة، القرد، الذئب، الحمار، الناقة، النعجة، الغنم، الفيل، الحوت، الحية، الثعبان، الخنزير، الجياد، الخيل، الكلب، البغال، السبع، الضأن، الماعز، والإبل. ومن الطيور: الهدهد، والغراب. ومن الحشرات: العنكبوت، النحل، النمل، البعوضة، الذبابة، الجراد، القمل، الضفادع، والفراش. وردت كلها في مواضع مختلفة أمثلةً وآياتٍ لأولي النهى الذين يتفكرون في خلق الله سبحانه وتعالى.
ومن تلك الحيوانات والحشرات ما كُرِّم بأن سميت باسمه سورٌ من القرآن الكريم كالبقرة، الأنعام، النحل، العنكبوت، والفيل.
وقد أوجب علينا ديننا الحنيف أن نتعامل بالرحمة والرفق مع كل مخلوقات الله: الإنسان والحيوان والطيور والحشرات، وحتى الشجر والجماد؛ فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء]، ويقول: [من أُعطي الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة]، ويقول: [الراحمون يرحمهم الرحمن]".
والرحمة بالحيوان عنوانُ حضارتنا الإسلامية التي كان لها قدم السبق في هذا المجال؛ فلدينا نحن المسلمين تراثٌ زاخرٌ عظيم ينطق رحمةً ورفقًا بالحيوانات، فلا توجد أمةٌ من الأمم بلغت هذا المستوى  الذي بلغته أمة الإسلام من الحفاظ على (حقوق الحيوانات) والرحمة والرفق بها، خاصةً في ذلك الزمن البعيد؛ فقد حَرَّم الإسلام تعذيب الحيوان أو الإساءة إليه أو استخدامه في غير منفعة، وجعل ذلك موجباً لعذاب الله تعالى، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى قريةَ نملٍ قد أحرقها بعض الصحابة، قال مستنكراً: [من أحرق هذه؟]، قال الصحابة: "نحن"، قال: [إنه لا ينبغي أن يُعَذِب بالنار إلا ربُ النار]، ويوصينا عليه الصلاة والسلام بالحيوان خيراً حتى ونحن نستعد لذبحه؛ حين قال: [إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته]، ويبين لنا أن إضجاع الحيوان للذبح قبل أن يُعِد المرءُ شفرته قسوةٌ لا تجوز؛ فقد قام رجل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضجع شاته للذبح وشرع يحد شفرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟]. إنها لمشاعر إنسانية تفيض نبلاً ورحمة، ما عرف التاريخ مثيلاً لها؛ انظر حينما دخل رسول الله عليه الصلاة والسلام بستانًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَّ حَنَّ الجملُ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح دموعه ثم قال: [من صاحب هذا الجمل؟] فقال صاحبه: "أنا يا رسول الله"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي مَلَّكَك الله إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تُجيعه وتدئبه {أي تُتعبه}]. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببهيمةٍ قد لصق ظهرها ببطنها {أي ظهر عليها الهزال من قلة الأكل}، فهاله ما رأى، فانتفض غاضبًا وقال: [اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحةً وكلوها صالحةً]. وعن حق آخر من حقوق الحيوان؛ مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم وهم وقوفٌ على دوابَّ لهم ورواحِلَ، فقال لهم: [ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً، وَلا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالأَسْوَاقِ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ]؛ فالجلوس طويلاً على ظهر الحيوان وهو واقفٌ حرامٌ في دين الله تعالى، لأنه اعتداءٌ على بهيمةٍ تُحس لكنها لا تنطق. كما يَحْرم التلهي بالبهيمةِ والطيرِ في الصيدِ عبثًا، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [من قتل عصفورًا عبثًا عج {اشتكى} إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانًا قتلني عبثًا ولم يقتلني منفعة]. ومن (حقوق الحيوانات) الإحسان إليها؛ جاء في الحديث: [بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلبٍ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له]، قالوا يا رسول الله: "وإن لنا في البهائم أجراً؟"، قال: [في كلِ كبدٍ رطبةٍ أجر]. وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: [بينما كلبٌ يطيف بركية {بئر} كاد يقتله العطش إذ رأته بغيٌ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها {خفها} فسقته فغُفر لها به].
 وهذا هو الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: "لو أن بغلةً عثرت بشطِ العراق لخشيتُ أن يسألني اللهُ عنها لِمَ لَمْ تُصلح لها الطريقَ يا عُمر؟".
إن البشر في بعض أنحاء العالم، ممن تعرفوا على (حقوق الحيوانات) في الإسلام، يتمنون أن يحصلوا على مثل هذه الحقوق أو حتى بعضها! رغم أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وكرمه وفضله على غيره من مخلوقاته؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.
إن اهتمام ديننا الإسلامي الحنيف بالحيوان وصيانة حقوقه سبقٌ حضاريٌ رفيعٌ بدأ قبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الحيوان(Universal Declaration of Animal Rights) بخمسة عشر قرنًا؛ حيث لم يبدأ الاهتمام العالمي بهذه الحقوق إلا بعد أن اُعتمد نص الإعلان العالمي لحقوق الحيوان من الجمعية الدولية لحقوق الحيوان في الاجتماع الدولي الذي عقد في لندن في الفترة من 21 إلى 23 أيلول/سبتمبر 1977، وأُعلن رسمياً عن هذا الإعلان في مقر اليونسكو بباريس في 15 أكتوبر 1978، وقُدم النص المنقح من قبل الجمعية الدولية لحقوق الحيوان في العام 1989م إلى المدير العام لليونسكو في العام 1990م، وتم الإعلان عنه في العام ذاته! ومع ذلك فإن (حقوق الحيوانات) في الإسلام تظل أفضل بكثير مما ورد في نصوص ذلك الإعلان العالمي الذي لا يعلم عن وجوده أصلاً إلا القليل!

أحبتي .. لنتواصى بالرحمة بالحيوانات، بكل أنواعها، والترفق بها، وتعهُّدها أثناء حياتها بالطعام والشراب والعلاج وعدم العبث بها أو ترويعها، أو تحميلها فوق طاقتها، فضلاً عن قَوْدها إلى الذبح قَوْدًا جميلاً، لا لأن هذا من الأخلاق والتحضر والمدنية فحسب وإنما لأن كل ذلك هو من (حقوق الحيوانات) التي أمرنا بها الإسلام، نُثاب إن حافظنا عليها، ونُعاقب إن نحن أهملناها.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/to0Q1C

الجمعة، 16 ديسمبر 2016

ها قد عُدتَ يا يوم مولدي

الجمعة 16 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٢
(ها قد عُدتَ يا يوم مولدي)

اتصل بي هاتفياً مهنئاً قال: "كل عام وأنت بخير"، سألته وأنا أعلم جوابه مسبقاً: "ما المناسبة؟"، قال متعجباً: "أوليس اليوم عيد ميلادك؟"، قلت ممازحاً: "نعم، إنه ليس كذلك"، قال: "أنا متأكد من تاريخ ميلادك؛ إنه يوم العاشر من ديسمبر"، قلت له: "هذا صحيح، إنه يوم مولدي، لكنه ليس عيد ميلادي"، قال: "أراك عُدتَ لألاعيبك اللفظية"، قلت: "بدون ألاعيب، أنا لا أحتفل بما يُسمى عيد ميلاد، فلست أرى في يومٍ يذكرني بانقضاء سنة من عمري ويقربني من أجلي المحتوم سبباً يدعو للاحتفال، بل هو أقرب لأن يدعو للحزن"، قال: "أحس في ردك تشاؤماً لا أعهده فيك"، قلت: "لست متشائماً، لكني أفكر بشكل واقعي وعملي بعيداً عن لغة الأماني والأحلام"، سألني: "وهل يمر عليك اليوم كأي يوم عادي؟"، قلت: "لا بالطبع"، وأوضحت له دون أن يسأل: "إنه يومٌ خاصٌ بلا شك، أجد فيه فرصة للاختلاء بنفسي، للتفكر والتأمل والتدبر وحساب النفس، أقول (ها قد عُدتَ يا يوم مولدي)، وأقوم بشيء أشبه ما يكون بعملية جرد سنوي، أراجع حساباتي، أتساءل ماذا يا ترى حققت خلال العام الماضي؟ هل أنجزتُ شيئاً كنت أرغب في إنجازه؟ هل قابلتني صعوبات أبعدتني عن إنجاز ما كنت أرجو؟ وكيف كانت استجابتي لتلك الصعوبات؟ هل كانت استجابات معقولة ومنطقية؟ وفي المحصلة هل أنا راضٍ عن نفسي؟ ثم ماذا عن عامٍ قادم لو قُدر لي أن أعيشه؟ ما هي أهدافي فيه؟ وما هي مشروعاتي لتحقيق هذه الأهداف؟ وهل تتوفر لدي إمكانات تنفيذها؟"، قاطعني قائلاً: "أراك بالغت، وأعطيت للأمر أكثر مما يستحق، إنك تتحدث بلغة التقويم والتخطيط، إنه مجرد عيد ميلاد يا عزيزي!"، قلت له: "ما أردتُ أن أتحدث عن هذا الأمر، لكنك سألت، وكان لزاماً علي أن أكون أميناً في ردي عليك"، أنهى مكالمته بالقول: "على أي حال، كل عام وأنت بخير Happy Birthday to you".

أحبتي .. يحتفل كثير من الناس بأعياد ميلادهم وأعياد ميلاد أبنائهم وأحبائهم رغم أن الفتوى بعدم جواز ذلك واضحة لا لبس فيها، وها أنا أنقلها بنصها لمن لم يسبق له الاطلاع عليها:
دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ولا أصل لها في الشرع المطهر ولا تجوز إجابة الدعوة إليها، لما في ذلك من تأييد للبدع والتشجيع عليها. وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾، وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ*إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾، وقال سبحانه:﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: [من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد] أخرجه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: [خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة]. ثم إن هذه الاحتفالات مع كونها بدعة منكرة لا أصل لها في الشرع هي مع ذلك فيها تَشَبُّه باليهود والنصارى في احتفالهم بالموالد. وقد قال عليه الصلاة والسلام محذراً من سنتهم وطريقتهم: [لتتبعن سنة من كان قبلكم حذو القُذة بالقُذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه]، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟، قال: [فمن؟]. ومعنى قوله [فمن؟] أي هم المعنيون بهذا الكلام وقال صلى الله عليه وسلم: [من تشبه بقوم فهو منهم]. فإن الاحتفال بمناسبة أعياد الميلاد عادةٌ دخيلة على المسلمين، فلا يجوز الاحتفال بها بأي نوعٍ من أنواع الاحتفال، لما في ذلك من التشبه بالمشركين الذين أمرنا الله تعالى بمخالفتهم والابتعاد عن اتباع ما سنّوه من سنن. وواجب على المسلمين تحري الحق والصواب في عاداتهم وتقاليدهم بأن تكون منضبطة بضوابط الشرع الحكيم، لا بالتقليد الأعمى للأمم الكافرة. وأي أمرٍ يحدث في هذا الدين لم يكن على هدي سيد المرسلين فهو أمر مردود على صاحبه، وأعياد الميلاد لم تكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام، ولا عُرفت مثل هذه الأعياد إلا بعد القرون الثلاثة الفاضلة مما يدل على أنها ليس لها أصل في الإسلام.
وقال أهل العلم: ليس في الإسلام عيدٌ لأي مناسبة سوى عيد الأضحى، وعيد الفطر من رمضان، وعيد الأسبوع وهو يوم الجمعة.
ولبعض العلماء رأي آخر في هذا الأمر حيث يرون أن الاحتفال بعيد الميلاد الشخصي ليس له أي بُعدٍ عقائدي؛ فقد جاءت الشريعة بالمنعِ والحذَر والتوقيف للأشياء ذات البُعد الديني، لكن الأشياء الدنيوية والعادات، فإن الأصل فيها الإذن والسماح، إلا إذا اقترن بها شيء يمنع منها مثل التشبُّه، والأصل فيها هو الإذن وليس المنع، والأصل دائمًا أقوى من الشيء الطارئ على الأصل. والاحتفال بأعياد الميلاد ليس تشبهًا، فهو ليس من خصوصيات الأمم الكافرة، وإنما هذا موجود الآن عند معظم، بل كل، شعوب العالم. كما أن دار الإفتاء المصرية أفتت بجوازها كذلك، ورأت أنه لا مانع من ذلك شرعًا؛ لما فيه من تذكر نعمة الله على الإنسان بالإيجاد، على ألا يُعد ذلك عيداً ولا يسميه بذلك، وعلى أن يكون الاحتفال خاليًا من المحرمات كالاختلاط المحرم وكشف العورات ونحو ذلك مما لا يجوز شرعًا، ويُستأنس لذلك بقوله تعالى حكاية عن سيدنا عيسى: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياًّ﴾، وبما رواه صحيح مسلم عن أبى قتادة الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: [ذاك يوم وُلدتُ فيه، ويوم بُعثت - أو أُنزل علي فيه]، فأشار بذلك إلى المعنى الذي يقتضي الحكم أن يوم مولد الإنسان هو يوم نعمة توجب الشكر عليها. ويجوز لأقارب صاحب المناسبة وأصحابه المشاركة في الاحتفال لما فيه من إدخال السرور على قلبه، وذلك من الأمور المستحبة شرعًا، فقد أخرج ابن شاهين في الترغيب بإسناد لا بأس به عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: تُدخل على أخيك المؤمن سروراً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً.

أحبتي في الله .. وضعت بين أيديكم بأمانة رأيين مختلفين حول موضوع واحد هو: الاحتفال بأيام الميلاد. فماذا علينا أن نفعل في مثل هذه الحالة، حالة اختلاف العلماء في الرأي حول المسألة الواحدة؟ إليكم أحبتي ما يقوله أهل العلم في ذلك:
إذا كان المسلم عنده من العلم ما يستطيع به أن يقارن بين أقوال العلماء بالأدلة والترجيح بينها ومعرفة الأصح والأرجح وجب عليه ذلك، لأن الله تعالى أمر برد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة، فقال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ فيرد المسائل المختلف فيها للكتاب والسنة، فما ظهر له رجحانه بالدليل أخذ به، لأن الواجب هو اتباع الدليل، وأقوال العلماء يُستعان بها على فهم الأدلة. وأما إذا كان المسلم ليس عنده من العلم ما يستطيع به الترجيح بين أقوال العلماء، فهذا عليه أن يسأل أهل العلم الذين يُوثق بعلمهم ودينهم ويعمل بما يفتونه به، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾. وقد نص العلماء على أن مذهب العامي مذهب مفتيه، فإذا اختلفت أقوالهم فإنه يتبع منهم الأوثق والأعلم، وهذا كما أن الإنسان إذا أصيب بمرض عافانا الله جميعاً فإنه يبحث عن أوثق الأطباء وأعلمهم ويذهب إليه لأنه يكون أقرب إلى الصواب من غيره، فأمور الدين أولى بالاحتياط من أمور الدنيا. ولا يجوز للمسلم أن يأخذ من أقوال العلماء ما يوافق هواه ولو خالف الدليل، ولا أن يستفتي من يرى أنهم يتساهلون في الفتوى، بل عليه أن يحتاط لدينه فيسأل من أهل العلم من هو أكثر علماً، وأشد خشية لله تعالى.

أحبتي .. حتى في مسألة اختلاف العلماء يوجد اختلاف! فقد اختلف العلماء في الواجب على المسلم إذا وجد اختلافاً حول العلماء، فقيل يتبع الأشد لكونه أحوط ولحصول براءة الذمة به بيقين، وقيل يأخذ بأي الأقوال شاء ما لم يقصد تتبع الرخص، وقيل يأخذ بالأيسر لكون الشريعة مبنية على التخفيف. عن نفسي: قرأت واستخرت الله سبحانه وتعالى واتخذت لنفسي ما أعتقد أنه صواب؛ فبدلاً من أن يحتفل الإنسان بعيد ميلاده، الأولى به أن يقول (ها قد عدتَ يا يوم مولدي) ويتذكر أنه كلما مر عليه يوم من أيام عمره فإنما هو يقترب من النهاية أي الموت والحساب، فما بالنا إذا كان الذي مر عام كامل!! فلتكن له عبرة بانقضاء الأيام والشهور والأعوام، ولتكن فرصة لحساب النفس، والبعد عن الشبهات، وصرف الوقت والجهد في أعمال البر والخير التي تثقل موازيننا يوم القيامة.
وأختم بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/Oc8K2v