الجمعة، 2 نوفمبر 2018

جهاد النفس



خاطرة الجمعة /١٥٩
(جهاد النفس)

لطالما تحدثت مع زميلٍ لي عن أهمية المشي إلى المسجد والصلاة فيه مع جماعة المسلمين، وكيف تتحول الصلاة مع الجماعة، مع الوقت، من التزامٍ ثقيلٍ على النفس إلى إحساسٍ بلذة الإيمان تُذاق بالقلب كما تُذاق لذة الطعام باللسان، ففيها سعادة القلب، وراحة النفس، وسعة البال، وانشراح الصدر. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجد راحته فيها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا]. من ذاق حلاوة الإيمان وأحسها في قلبه ينتظر الصلاة إلى الصلاة انتظار المحب الذي يَعُّد الثواني قبل الساعات يتعجل لقاء محبوبه، أو كالمشتاق تحرق أحشاءه لوعة الشوق فلا يطفئها سوى أن يلقى معشوقه!
كان زميلي هذا يتحجج، في كل مرةٍ أفتح معه هذا الموضوع، بأن المشي يتعبه!
أقعده المرض فألزمه داره لفترةٍ، ثم رأيته يوماً وهو يمشي قريباً من منزله، فهنأته بأنْ أصبح المشي سهلاً عليه دون مشقة، أخبرني أنه مضطرٌ لذلك لأن هذه تعليمات الطبيب؛ فعاودتني الرغبة في أن أحدثه مرةً أخرى في ذات الموضوع، خاصةً وأن المسجد قريبٌ من منزله؛ فقلت له إنها فرصةٌ ذهبيةٌ طالما أنه مضطرٌ للمشي؛ فليكن مشيه إلى المسجد وليجاهد نفسه فيضبط مواعيد المشي مع مواعيد الصلاة ليكسب ثواباً عظيماً. رد عليّ بأن المشكلة في دَرَج المسجد؛ فصعود الدَرَج يتعبه! فوجئ بي أسأله: "وماذا أنت فاعلٌ لو طلب منك الطبيب صعود الدَرَج خمس مراتٍ في اليوم؟!".

ولأنه عزيزٌ عليّ أكملت حديثي معه بنصيحةٍ؛ قلت له: "لندخل المسجد عمودياً قبل أن ندخله أفقياً"، قال لي: "ماذا تقصد؟"، قلت له: "أقصد: ندخل المسجد بأقدامنا نصلي مع جماعة المسلمين فيه، قبل أن ندخله محمولين على الأكتاف يُصلى علينا فيه!".

أحبتي في الله .. ذكرني هذا الموقف بجيرانٍ يسكنون في شارعنا أراهم، وأنا ذاهبٌ إلى المسجد لصلاة الفجر، عائدين إلى منازلهم، وما أن يصلون إليها حتى تكون أصوات المؤذنين من أكثر من مسجدٍ مجاورٍ عاليةً تملأ الأفق تصدح بأذان الفجر؛ فأتمنى في قرارة نفسي لو أنهم غيروا اتجاههم وذهبوا إلى المسجد فصلوا الفجر ثم عادوا إلى بيوتهم أو توجهوا إلى أعمالهم لكان خيراً لهم، وأسأل نفسي: ألا يستمعون إلى عبارة "الصلاة خيرٌ من النوم" تصل إلى آذانهم؟ إنها عبارةٌ تحرك همة المؤمنين وتستحث عزيمتهم لمجاهدة النفس فيتركوا في ليالي الشتاء الباردة فُرُشَهم الدافئة الوثيرة، ويتوضأون بماءٍ كاد أن يكون ثلجاً مذاباً، وينزلون يمشون في الظلام، وربما تحت المطر، هؤلاء صدق إيمانهم، وأدركوا أن الأذان نداءٌ من الله سبحانه وتعالى لهم ليذهبوا إلى بيته. هم يعلمون أنه شرفٌ لأي إنسانٍ أن يدعوه رئيسه في العمل لزيارته في بيته، ويزداد الشرف إذا كان من يدعوه هو المدير، فإذا كان من يدعوه هو الوزير فلن يستطيع أن ينام الليل في انتظار تلبية الدعوة، وهو يباهي غيره بهذه الدعوة، كما أنه يتوقع أن يكرمه الداعي إكراماً يليق بمكانته ومنزلته؛ هذه دعوة بشرٍ لبشر، فما بالنا بدعوة رب البشر لمخلوقٍ ضعيف! يدرك المؤمنون أنهم، عندما يستمعون للأذان فهم يتلقون دعوةً من أكرم الأكرمين لزيارته في بيته، وهم يوقنون أن أبواب كرمه قد فُتحت أمامهم بلا حدود، وعندما يستمعون إلى عبارة "الصلاة خيرٌ من النوم"، وهي خصوصيةٌ لصلاة الفجر ليست لغيرها، تخشع قلوبهم وتلين جلودهم وتدمع عيونهم وتستكين جوارحهم، وهم يعلمون أنهم سيكونون في ذمة الله وضمانه وأمانه طوال اليوم طالما صلوا الفجر مع جماعة المسلمين بالمسجد.
قلت لأحدهم مرةً أن يأتي معنا للصلاة في المسجد، فقال إنه ذاهبٌ إلى العمل وطلب مني أن أدعو له بأن يهديه الله، قلت له منبهاً إياه بأن عليه أن يأخذ بالأسباب: "لا تذهب للعمل إذن"، سألني متعجباً: "ولمَ؟!"، قلت له: "سأدعو الله لك أن يرزقك"!

وسألت واحداً ممن يحرصون على الذهاب إلى المسجد قبل الأذان للصلاة عن مواظبته على ذلك، فقال لي: "جاهدت نفسي كثيراً حتى أقنعتها أن الأذان هو تنبيهٌ للغافلين؛ فلا تكوني منهم!".

يقول أهل العلم أن صلاة الجماعة واجبةٌ؛ فمن تعمد تركها كان آثماً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: [بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ]. وأن صلاة الصبح ذاتُ فضلٍ عظيمٍ، وهي مع العشاء أثقل الصلاة على المنافقين، فالمداومة على تركها من علامات النفاق والعياذ بالله، ووقتُ الصبح ينتهي بطلوع الشمس بإجماع العلماء، وليس لأحدٍ أن يتعمد تأخيرها حتى تطلع الشمس، فإن فعل فقد ارتكب إثماً عظيماً.
وعن (جهاد النفس) يقول العلماء أن الناس صنفان: صِنفٌ اتخذ إلهه هواه، كلما هوت نفسه شيئاً طاوعها فأصبح كالعبد لهذا الهوى، وأصبح أسيراً لنفسه ولشهواته وملذاته؛ فهذا تصدق عليه هذه الآية: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾.
وصِنفٌ آخر جاهد نفسه أشد المجاهدة، حتى قهرها فصارت مطيعةً لله، منقادةً تعمل الأعمال الصالحة بيسرٍ وسهولة.
وهؤلاء عاملوا أنفسهم كطفلٍ رضيعٍ كما قال الشاعر:
 والنفسُ كالطفلِ إنْ تُهملْهُ شَبَّ علىٰ
حبِ الرَضاعِ وإنْ تَفطمْهُ يَنفطمِ 

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مصير هذين الصنفين من الناس في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.
إن (جِهاد النّفس) يعني بذل الوُسع والطّاقة لإبعاد النفس عن المعاصي والذّنوب، ومُدافعَتها للصّبر على الطّاعات، وتحمُّل المشاقّ. 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ]. وقال عليه الصلاة والسلام في فضل من يدافع هواه ويُجاهدُه: [لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعَاً لِمَا جِئْتُ بِهِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ]؛ فطريق الجنة محفوفٌ بالمكاره، والنفس بطبعها تميل عن هذا الطريق، فتحتاج إلى نهيٍ حتى تسلك الطريق الموصل للفلاح، وأما طريق النار فإنه محفوفٌ بالشهوات، فالنفس بطبعها تميل إليه، فتحتاج إلى نهيٍ حتى تترك الطريق المؤدية إلى الخسران.
و(جهاد النفس) يكون بمقاومة شهوات النّفس ونزواتها بحيث يقوم المسلم بالتّحكم بها بدلاً من أن تتحكّم فيه؛ حيث ينبغي أن تكون محاسبة النفس منهجاً للمسلم في حياته ممتثلاً لأمر ربه في قوله: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾.
يقول الشاعر واصفاً من نجح في جهاد نفسه:
بملء إرادتي وبملء بأسي
عصيتُ بعالم الشهَوات نفسي
وعصياني لها رضوانُ ربي
وعزّةُ حاضري وغدي وأمسي
إذا أسلمتُ للنفسِ انقيادي
جرعتُ الذُّل كأساً بعد كأسِ

أحبتي في الله .. (جهاد النفس) أمرٌ عظيمٌ، خلقنا الله سبحانه وتعالى ولدينا جميعاً القدرة عليه، لكنه لحكمته سبحانه وتعالى، لم يجبرنا عليه رغم قدرته على ذلك، بل ترك الأمر لاختيارنا الحر، اختباراً لإخلاصنا وقوة عزيمتنا وثبات إيماننا؛ فمن نجح في الاختبار استحق الأجر والثواب، ومن فشل فلا يلومن إلا نفسه.

ألا يستحي مسلمٌ أن يسمع الأذان ولا يلبي دعوة الله سبحانه وتعالى لصلاة الجماعة في المسجد؟ ولو أنه اتصل بشخصٍ ما هاتفياً ولو مرةً واحدةً فلم يرد عليه غضب منه، وحين يدعوه الله سبحانه وتعالى خمس مراتٍ كل يومٍ لزيارة بيته يتجاهل دعوته ولا يلبيها، ألا يخاف من غضب المولى عزَّ وجلَّ عليه؟!

اللهم اشرح صدورنا لطاعتك، ويسِّر لنا طريق مرضاتك، وأعنِّا على أنفسنا. يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/KBK1hw


الجمعة، 26 أكتوبر 2018

من آفات اللسان


الجمعة 26 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٨
(من آفات اللسان)

من المرات القليلة التي أشاهد فيها التلفاز، شد انتباهي حديث خبيرٍ استراتيجيٍ ومحللٍ سياسيٍ انبرى بحماسٍ لا نظير له لإثبات صحة وجهة نظره حول واحدةٍ من أهم القضايا التي تشغل الناس حالياً وتكاد تكون محور كل أحاديثهم وحواراتهم. لا يعنيني موضوع المناقشة، ولا يعنيني مدى صحة وجهة نظر هذا الخبير، قدر ما يعنيني نمط التفكير وأسلوب الحوار وطريقة تناول الموضوع. ساءني كثيراً المستوى الذي انحدر إليه، والمستنقع الذي سقط فيه كثيرٌ ممن يعتبرون أنفسهم قادة الفكر وصفوة المثقفين في مجتمعاتنا، وشجعهم عليه، وعلى التنافس فيه، إعلامٌ يقوم معظمه على الإثارة وكسب المشاهدين بأي ثمنٍ، ولو على حساب القيم الفاضلة.
عن مستنقع الغيبة أتحدث، وهي (من آفات اللسان) التي كادت، مع الألم والأسف والأسى، أن تكون من الأمور العادية والمقبولة من مقدمي البرامج وضيوفهم وجمهور المشاهدين؛ فتسمع وتشاهد في البرامج الحوارية الكثير من التطاول على أشخاصٍ غائبين، وصار هذا التطاول مألوفاً ومقبولاً، وأصبح كل وصفٍ لغائبٍ مستباحاً، بغض النظر عن مدى صدق هذا الوصف أو عدم صدقه. ومن الخسة ألا تُعطى للمستغاب فرصةٌ للدفاع عن نفسه، وأشد من ذلك وطأةً عندما تكون الغيبة لشخصٍ قد مات وأصبح في ذمة الله؛ فتجتمع الغيبة إلى ذكر الأموات بغير الخير، بكل ما في ذلك من دناءةٍ وانحطاطٍ أخلاقيٍ. وهكذا كانت عنترية سيادة الخبير وبطولته اللفظية منحصرةً في وصف ذلك الميت بكل صفةٍ سيئةٍ، لم يترك خبيرنا مفردةً واحدةً من مفردات الإساءة إلا واستخدمها! ثم يتصل أحد المشاهدين ليقول لضيف البرنامج أنه يرفع له قبعته؛ إن كان يرفعها له لموافقته على رأيه وتحليله فهذا حقه، أما إن كان يرفعها له تجاوباً معه على ما قدمه من غيبةٍ فاضحةٍ في حق الميت فقد صار، دون أن يدري، شريكاً في جريمة القذف، وفي إثم الغيبة.

أحبتي في الله .. رغم ضعف ما نُسب للرسول صلى الله عليه وسلم كحديث: [اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ] إلا أن هذا القول يبقى كحكمةٍ، صحيح المعنى. فهل من المروءة ذكر ميتٍ مسلمٍ، أصبح في ذمة الله سبحانه وتعالى، بما يسيء إليه؟ إذا كان ذكر صفةٍ صحيحةٍ موجودةٍ في شخصٍ يكره ذكرها أو تسيئ إليه وهو حيٌ منهياً عنه، ويُعد غيبةً، فهل وصل بنا الحال إلى إطلاق الأوصاف والصفات السيئة، بالحق وبالباطل، بغير تحفظٍ، على الأموات؟
لقد كان من نُبل العرب وكمال أخلاقهم التي يحرصون عليها، حتى في أيام جاهليتهم، أنه عند المبارزة بالسيوف إذا وقع سيف عدوهم على الأرض لم يسارعوا إلى الإجهاز على العدو بل ينتظرون حتى يلتقط سيفه فيعودون لمبارزته!
فهل ضاعت منا الأخلاق والقيم وفقدنا المروءة حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ العجيب أننا بغيبة الأموات لم نتخلَ فقط عن قيم الإسلام، بل الأدهى أننا تخلينا حتى عن قيم الجاهلية!

يقول المولى عز وجل عن الغيبة: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾. ويقول عز من قائل: ﴿وَلا تَلمِزوا أَنفُسَكُم وَلا تَنابَزوا بِالأَلقابِ بِئسَ الِاسمُ الفُسوقُ بَعدَ الإيمانِ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾، ويقول في موضعٍ آخر: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾. ويشير سبحانه إلى الغيبة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟] قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: [ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ]، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: [إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ].
يقول العلماء أن الغيبة محرمةٌ سواءً أكانت في بدن أخيك؛ شكله، طوله، لونه، أو في دينه، أو في دنياه؛ بيته، دخله، وظيفته، أو في نفسه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجته، أو ثوبه، أو مشيته، أو حركته، أو عبوسه، أو طلاقته. كل شيءٍ يكره الإنسان أن يُتداول عنه يدخل ضمن الغيبة وهي (من آفات اللسان).
لم تقل السيدة عائشة رضي الله عنها شيئاً حين ذكرت السيدة صفية رضي الله عنها فأشارت هكذا، أي قصيرة، قال لها عليه الصلاة والسلام: [لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ].
الغيبة هي غيبةٌ، سواءً ذكرتها بلسانك، أو كتبتها بقلمك، أو رمزت إليها بإشارةٍ، أو أشرت بعينيك، أو يدك، أو رأسك، أو نحو ذلك تلميحاً أو تصريحاً، كل هذا من الغيبة.
حكم الغيبة أنها حرامٌ بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، ولو انتشرت بين الناس؛ انتشارها لا يلغي حرمتها. 
لم يكن إعلامنا، ولا مثقفينا، بهذا القدر من التفلت، وإنما بدأ الأمر صغيراً ثم كبر وازداد حتى قويَ وسيطر؛ وأصبحت المنافسة بين القنوات الفضائية وبين البرامج وبين المذيعين على جذب المشاهدين تتم بأساليب لا يحكمها ميثاق شرفٍ أخلاقي، وصارت تتجاوز كثيراً من الخطوط الحمراء؛ خاصةً في مجال القيم والأخلاق؛ فترى الكثير من مقدمي البرامج وهم يستحثون ضيوف برامجهم للإمعان في الغيبة، ويتسابقون في ذلك جرياً وراء نسبة مشاهدةٍ أعلى ومكاسب ماديةٍ أكثر نتيجةً لتدفق الإعلانات عليهم!
الأمر كله ككرة الثلج؛ ما إن بدأت تتدحرج حتى أصبحت اليوم جبلَ جليدٍ شامخاً يزداد، للأسف، رسوخاً وتجذراً. ككل صفةٍ سيئةٍ: تبدأ متواريةً باستحياءٍ ثم تكتسب قوة دفعٍ بالتدريج حتى يألفها صاحبها ويعتاد عليها الناس، ثم نصل إلى مرحلة التهاون؛ يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾.
قيل إن أصعب الحرام أوله، ثم يَسهل، ثم يُستساغ، ثم يُؤْلَف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يَبحث القلب عن حرامٍ آخر! لذا قال بعض الصالحين: "إذا دعتك نفسك إلى معصيةٍ فحاورها حواراً لطيفاً بهذه الآية: ﴿قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾".
ما أحوجنا للتأمل في ذلك في زمنٍ كثرت فيه الجرأة على المحرمات، وكثرت الغيبة والنميمة، وازداد الافتراء على الناس وبهتانهم والخوض في أعراضهم وتفتيش ضمائرهم والبحث عما في قلوبهم أحياءً وأمواتاً. وكل هذا من أعمال القلوب و(من آفات اللسان)؛ ورد في الحديث الشريف أن معاذاً سأل النبي عليه الصلاة والسلام: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: [ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِم؟].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِين يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ].

أحبتي .. ليس هذا دفاعاً عن رجلٍ مات، إنما هو غيرةٌ على بقايا أخلاقٍ أخشى أن تموت. وصدق الشاعر حينما قال:
وإنِّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ
فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ؛ ذَهَبُوا
لنتذكر أحبتي قبل أن تجرنا شهوة الكلام أو الكتابة إلى طريق الغيبة، مقدار الخسارة التي نخسرها من حسناتنا ونهديها لمن نغتابهم من أعدائنا وأحبابنا على سواء؛ قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟] قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: [إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ].

اللهم باعد بيننا وبين سيئاتنا كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم طهر قلوبنا من النفاق والحقد والحسد والغل والكبر، وألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة والافتراء على الناس وبهتانهم أحياءً وأمواتاً، وطهر اللهم أعمالنا من الرياء، وأنر بصائرنا ﴿فَإِنَّها لا تَعمَى الأَبصارُ وَلكِن تَعمَى القُلوبُ الَّتي فِي الصُّدورِ﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/fGSsSz

الجمعة، 19 أكتوبر 2018

أحجارنا الكريمة


الجمعة 19 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٧
(أحجارنا الكريمة)

تقول القصة أن رجلاً جلس ﻋﻠﻰ شاطئ ﺍﻟﺒﺤ في ظلام الليل قبل ﺍﻟﻔﺠ كـيساً قد مُلء ﺑﺎﻟﺤﺠﺎﺭة، ﻓﻤه ﻭأﺧ ﺣﺠراً ﻣﺍ ﺍﻟﻜﻴ ﻭأﻟﻘﺎه ﻓﻰ اﻟﺒﺤ ﻓـأعجبه ﺻﺕ ﺍﻟﺤﺠﺎﺭة ﻭﻫـي ﺗُﻘَﻑ ﻓﻰ ﺍﻟﺒﺤ؛ فأعاد ﺍﻟﻜَة ﻣةً بعد مرةٍ، وظل يقذف الحجارة ﻓـي ﺍﻟﺒﺤ؛ ﻷنَّ ﺻﺕ ﺍﻟﺤﺠﺎﺭة ﻋﻨﻣﺎ تسقط ﻓﻰ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻛﺎﻥ ﻳُﺴﻌِه. حينما أﺷ ﺍﻟﺸﻤأ ﻳﺘﻀﺢ ﺍﻟﻜﻴ وما فيه، واكتشف الرجل أنه لم يبق ﻓـي ﺍﻟﻜﻴ إلّا ﺣﺠرٌ ﻭﺍﺣٌ، ﻓﻨﻈﺮ الرجل إﻟﻰ ﻫا ﺍﻟﺤﺠر ، ﻓه حجراً كريماً، واكتشف أن ﻛﻞ ﻣﺎ أﻟﻘﺎه ﻣ ﻗﺒﻞ في البحر ﻛﺎﻧ أحجاراً كريمةً وﺟﺍﻫ ﻭليست ﺣﺠﺎرةً، فأخذ ﻳﻘﻝ ﺑﻨﺒة ﻧﻡ: ﻳﺎ ﻟﻐﺒﺎﺋـي ﻛﻨ أﻗﻑ ﺍﻟﺠﺍﻫ ﻋﻠﻰ أنها ﺣﺠﺎﺭةٌ ﻷﺳﺘﻤﺘﻊ ﺑﺼﺗﻬﺎ ﻓﻘ!! ﻭﺍﻟﻠﻪِ ﻟ ﻛﻨ أﻋﻠ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﻣﺎ ﻓﺮﻃﺖ ﻓﻴﻬﺎ هكذا.
كلنا هذا الرجل: كيس ﺍﻟﺠﺍﻫ العمر الذي نُلقي به ساعةً وراء ساعةً دون فائدة، وﺻﺕ ﺍﻟﻤﺎﺀ هو متاع الدنيا الزائل وشهواتها، وظلام الليل هو الغفلة، وشروق الشمس هو ظهور الحقيقة عند الموت حيث لا رجعة!

أحبتي في الله .. وردت الألفاظ الدالة على الزمن في القرآن الكريم بصيغة "الاسم" كثيراً: كالقرن والسنة والعام والشهر واليوم، وكالليل والنهار والفجر والعصر، وكشهر رمضان ويوم الجمعة، كما ورد ذكر الزمن بأسلوبٍ آخر مختلفٍ هو صيغة "فعل الأمر" يوجهنا به المولى عزَّ وجلَّ، ويرشدنا إلى كيفية التعامل مع الزمن؛ قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعمَلوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ﴾. وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولًا فَامشوا في مَناكِبِها وَكُلوا مِن رِزقِهِ وَإِلَيهِ النُّشورُ﴾. وقال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا نودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ فَاسعَوا إِلى ذِكرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيعَ ذلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمونَ﴾. وقال تعالى: ﴿فَاستَبِقُوا الخَيراتِ إِلَى اللَّهِ مَرجِعُكُم جَميعًا فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم فيهِ تَختَلِفونَ﴾. وقال تعالى: ﴿سابِقوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُها كَعَرضِ السَّماءِ وَالأَرضِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَسارِعوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّماواتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقينَ﴾. وقال تعالى: ﴿فَفِرّوا إِلَى اللَّهِ إِنّي لَكُم مِنهُ نَذيرٌ مُبينٌ﴾. ومن بلاغة القرآن الكريم أن هذه الآيات تحدد لنا سرعة انطلاق الفعل على قدر الهدف؛ ففي: الحث على المبادرة إلى العمل قال: ﴿اعملوا﴾. وفي طلب الرزق قال: ﴿امشوا﴾. وللصلاة قال: ﴿اسعوا﴾. ولعمل الخيرات قال: ﴿استبقوا﴾، وللمغفرة وللجنة قال: ﴿سابقوا﴾، وقال: ﴿سارعوا﴾. وأما إليه سبحانه وتعالى فقال: ﴿فروا﴾؛ سبحانك ربي إنك أنت العليم الخبير.

ثم إن المولى عزَّ وجلَّ قد حذرنا من إضاعة (أحجارنا الكريمة) وجواهرنا، التي هي أوقاتنا وأعمارنا، بغير عملٍ صالحٍ ينفعنا يوم الحساب ويُثقِّل موازيننا، مستخدماً صيغة التحذير من مغبة نفاد الوقت وانقضاء الأجل وعَبَّر عن ذلك بقوله ﴿مِن قَبلِ﴾؛ قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَنفِقوا مِمّا رَزَقناكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ﴾، وقال تعالى: ﴿قُل لِعِبادِيَ الَّذينَ آمَنوا يُقيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقوا مِمّا رَزَقناهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فيهِ وَلا خِلالٌ﴾، وقال عز وجل: ﴿فَأَقِم وَجهَكَ لِلدّينِ القَيِّمِ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، كما قال: ﴿وَأَنيبوا إِلى رَبِّكُم وَأَسلِموا لَهُ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذابُ ثُمَّ لا تُنصَرونَ﴾، وقال: ﴿وَاتَّبِعوا أَحسَنَ ما أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذابُ بَغتَةً وَأَنتُم لا تَشعُرونَ﴾، وقال كذلك: ﴿استَجيبوا لِرَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، وقال أيضاً: ﴿وَأَنفِقوا مِن ما رَزَقناكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَني إِلى أَجَلٍ قَريبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصّالِحينَ﴾. فماذا نحن فاعلون بعد كل هذه التحذيرات؟ هل نظل على حالنا، نضيع (أحجارنا الكريمة) وجواهرنا، فيضيع العمر منا ونكون والعياذ بالله ممن قال عنهم الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَهُم يَصطَرِخونَ فيها رَبَّنا أَخرِجنا نَعمَل صالِحًا غَيرَ الَّذي كُنّا نَعمَلُ أَوَلَم نُعَمِّركُم ما يَتَذَكَّرُ فيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذيرُ فَذوقوا فَما لِلظّالِمينَ مِن نَصيرٍ﴾؟ أم نكون ممن يتحسرون على ما فرطوا في جنب الله؛ قال تعالى: ﴿أَن تَقولَ نَفسٌ يا حَسرَتا عَلى ما فَرَّطتُ في جَنبِ اللَّهِ﴾؟

(أحجارنا الكريمة) هي أوقاتنا، هي أعمارنا، إنها هبةٌ من الله لكل إنسان، تجلى فيها عدله سبحانه وتعالى؛ فقد أعطى ووهب ومنح جميع الناس أحجارهم الكريمة، أربعةً وعشرين ساعةً في اليوم الواحد، لا تزيد لغنيٍ وتقل لفقير، ولا تزيد لرجلٍ وتقل لامرأة، ولا تزيد لكبيرٍ وتقل لصغير، لا تزيد لأبيض وتقل لأسود.
فماذا يفعل الناس بأحجارهم الكريمة وجواهرهم؟
صنفٌ من الناس حرصوا عليها وأحسنوا الاستفادة منها؛ منهم زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً". لقد حسب الزمن بالآيات! ومنهم شخصٌ سأله صديقه: كم يبعد عملك من البيت؟ فقال: 800 تسبيحة في وقت الازدحام، و250 تسبيحة في الأيام العادية. جوابٌ رائعٌ؛ حسب وقته بالطاعات!
وصنفٌ آخر من الناس، انظر كيف يتعاملون مع أحجارهم الكريمة وجواهرهم: يجدون وقتاً لقراءة رسائل الواتس آب ومنشورات الفيس بوك، ولا يجدون وقتاً لصلة الرحم ولو بالهاتف!
يجدون وقتاً لمشاهدة مباراة كرة قدم، ولا يجدون وقتاً لقراءة بعض صفحاتٍ من القرآن الكريم! يجدون وقتاً للنزول بكلابهم لأداء الحاجة، ولا يجدون وقتاً لذكر الله أو قيام الليل ولو بركعتين! يستيقظون مبكرين في يوم سفرٍ أو لرحلة، ولا يستطيعون الاستيقاظ لصلاة الفجر! يخرجون لشراء احتياجاتهم من الأسواق أو أداء مصالح دنيوية، ويتعبهم المشي خطواتٍ للصلاة في المسجد القريب! ينفقون مئات الآلاف على شراء بيتٍ في مصيفٍ أو سيارةٍ جديدةٍ، لكنهم لا يستطيعون سبيلاً لأداء فرض الحج! يخصصون الكثير من وقتهم لزيادة أرزاقهم، وينسون ذكر الرازق وشكره وحسن عبادته والصلاة له بضع دقائق!

لا يُضيِّع الناس ويوردهم المهالك سوى التسويف والأمل الكاذب؛ وفي الحديث الشريف عظةٌ وعبرةٌ؛ فقد خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ: [هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ - أَوْ: قَدْ أَحَاطَ بِهِ - وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا].

أحبتي .. ما تزال الفرصة أمامنا؛ فمع مطلع كل يومٍ جديدٍ يهب لنا الله سبحانه وتعالى، بكرمه ولطفه وإحسانه، أحجاراً كريمةً وجواهر ولآلئ جديدةً، علينا ألا نضيعها أو نسيء استخدامها. إنها نعمةٌ متجددةٌ تستوجب الشكر باستثمارها في العبادات والطاعات وأعمال الخير والبر والتقوى، ولنحذر من أن نكون ككثيرٍ من الناس، غافلين ومغبونين فيها كما قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: [نِعمَتَانِ مَغبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ والفَرَاغ].
من الآﻥ أحبتي؛ فلنعاهد الله سبحانه وتعالى، ونعاهد أنفسنا، ألا نُضَيِّع أوقاتنا و(أحجارنا الكريمة)، ولا يأخذنا الأمل وتُلهنا الدنيا بمتاعها الزائل وشهواتها؛ فيضيع منا العمر وتفلت أيامه وساعاته بلا فائدةٍ فنندم حيث لا ينفع الندم.
ولمن يحس أنه يصعب عليه أن يلتزم بالطاعات كأداء الصلوات في مواعيدها، والحرص على صلاة الجماعة في المسجد، وغير ذلك، أنقل كلمةً طيبةً قالها ابن القيم رحمه الله؛ قال: "لا يزال المرء يعاني الطاعة حتى يألفها ويحبها، فيُقيض الله له ملائكةً تؤزه إليها أزاً، توقظه من نومه إليها، ومن مجلسه إليها؛ قال تعالي: ﴿وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ﴾؛ فاستعينوا بالله أحبتي وابدأوا صفحةً جديدةً في علاقتكم برب العالمين، المجتهد يزيد من اجتهاده، والمقصر يبادر ويسرع لأوبةٍ لا ينكث عنها؛ (أحجارنا الكريمة) لا ندري متى تنفد!

اللهم نبهنا من غفلتنا، اللهم ارشدنا إلى سبيلك السوي وصراطك المستقيم، واهدنا إلى طريق الحق، لا يهدينا إليه إلا أنت سبحانك، وأنت اللطيف الحليم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


الجمعة، 12 أكتوبر 2018

حرب أكتوبر

الجمعة 12 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٦
(حرب أكتوبر)

سألني حفيدي عن سبب عطلة المدرسة يوم الأحد الماضي؛ فكانت مناسبةً للحديث معه عن (حرب أكتوبر) ١٩٧٣م وقتال العدو الصهيوني المغتصب لأراضينا، وكيف كانت هذه الحرب ضرورةً لتحرير الأرض واستعادة الكرامة. ما لم أكن أتوقعه هو سؤاله التالي: "هل شاركت يا جدي في هذه الحرب؟"، قلت له: "شاركت ولم أشارك"، قال: "كيف؟! لم أفهم، أهي فزورةٌ؟"، قلت له: "ليست فزورةً؛ ولكن أنْصِّت إليّ ستعرف كيف أني شاركت ولم أشارك"، قال: "أُنصتُ إليك جدي، وكلي آذانٌ صاغيةٌ". قلت: "فلنبدأ من البداية".

أحبتي في الله .. حكيتُ لحفيدي القصة بدايةً من نكبة فلسطين عام ١٩٤٨م وحرب العرب الأولى مع العصابات الصهيونية التي انتهت بتقسيم فلسطين وإعلان قيام ما يُسمى بدولة إسرائيل، ثم تَوَسُّع هذا الكيان أثناء حرب ١٩٦٧م حين احتل أجزاءَ أخرى من الأراضي العربية، منها شبه جزيرة سيناء كلها من حدودنا الدولية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس؛ حيث أنشأ الإسرائيليون "خط بارليف" وتمترسوا خلفه.
كنا في ذلك الوقت شباباً، وكنا تواقين للقيام بواجبنا الوطني والإسهام في معركة التحرير ودحر العدوان؛ فطالبنا بذلك، كما طالبنا بمحاسبة المسئولين عن هزيمتنا في حرب ١٩٦٧م. واضطررنا إلى الخروج في مظاهراتٍ حاشدةٍ في شهر فبراير ١٩٦٨م تنديداً بما اعتبرناه أحكاماً مخففةً صدرت بحق هؤلاء المسئولين، وللمطالبة بأن يكون لنا دورٌ في تحرير أراضينا المحتلة؛ فصدر بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨م، ثم صدرت بعده توجيهاتٌ بتشكيل ما سُمي "كتائب خدمة الجبهة" وتم فتح باب التطوع فيها أمام من يرغب من طلاب الجامعات والمعاهد العليا. كانت حرب الاستنزاف على أشدها، وهي التي استمرت من ١٩٦٨م إلى ١٩٧٠م، وكان العدو الصهيوني يمتلك حينئذٍ سيطرةً كاملةً على سماء بلادنا وأجوائنا دون رادعٍ، وبدأ في ضرب المدنيين؛ فكانت الغارة على مدرسة بحر البقر بمحافظة الشرقية التي أُستشهد فيها الكثير من أطفال المدرسة، ثم كانت الغارات على مصنع في أبي زعبل وعلى محطة محولات السد العالي بنجع حمادي، الأمر الذي دفع القيادة السياسية للتعاقد على صواريخ روسيةٍ حديثةٍ من طراز "سام" لإنشاء حائط صدٍ يحول دون عربدة الطائرات الإسرائيلية. وصلت الصواريخ وكان لابد من تركيبها في خطوط المواجهة الأمامية مع العدو في سريةٍ تامةٍ وباستخدام كل أساليب الخداع والتمويه اللازمة.
التحقت بكتائب خدمة الجبهة؛ تلقينا تدريباً عسكرياً مكثفاً بالمدينة الجامعية لجامعة عين شمس، وتم استخراج بطاقات هويةٍ لنا من المخابرات الحربية، وارتدينا الزي العسكري الخاص بجنود الجيش المصري، ثم توجهنا في سيارات نقل الجنود إلى كتائب سلاح المهندسين التي توزعنا عليها. شاركت في هذه الكتائب مرتين: مرةً في شهر يناير ١٩٦٩م في منطقة "عجرود" القريبة من مدينة السويس، وأخرى في شهر يناير ١٩٧٠م في منطقة "أبو سلطان" بالقرب من مدينة فايد على طريق الإسماعيلية. كانت ملحمةً وطنيةً رائعةً بدأت قبل (حرب أكتوبر) بهدف بناء شبكة صواريخ حديثةٍ تمثل حائط صدٍ للطائرات، ثم تحولت أثناء الحرب إلى نظام غطاءٍ جويٍ محكمٍ لقواتنا المسلحة وقت أن عبرت قناة السويس، وحين بدأت في تطوير هجومها بعد العبور.
عند وصولنا لكتيبة المهندسين التي التحقنا بها، أُعطي كل واحدٍ منا جاروفاً طويلاً وطُلب منه أن يحفر لنفسه "حفرةً برميليةً"، وهي حفرةٌ بطول الفرد ينزل فيها وقت الغارات مرتدياً خوذته الفولاذية، مما يكفل له أقصى حمايةٍ ممكنة.
عشنا حياة الجنود كما هي على الطبيعة دون أن نتلقى معاملةً خاصةً، كان نومنا في الخيام مثلهم، وأكلنا وشربنا مما يأكلون منه ويشربون، واستخدمنا حماماتهم، وشاركناهم نوبات الحراسة الليلية. أذكر أن أحد الطلبة خرج من خيمته في الليل ليتوجه إلى الحمام فاعترضه الجندي المناوب شاهراً سلاحه في وجهه، طالباً منه كلمة سر الليل، وهي كلمةٌ كانت تتغير كل ليلة ونُخطر بها، وإذا بزميلنا من هول المفاجأة يرتبك فينسى كلمة السر، ولولا مرور أحد الضباط للتفتيش وقتها لكان زميلنا هذا قد ضُرب بالرصاص الحي. وأذكر زميلاً لنا كانت نوبة حراسته "كنجي" وهي الفترة من الساعة الثانية إلى الساعة الرابعة صباحاً؛ فغلبه النوم ووقع سلاحه من يده، وتصادف مرور أحد الضباط للتفتيش فأخذ السلاح وأيقظ زميلنا وأمر بتحويله فوراً للمحاكمة العسكرية، وقام بتكليف زميلٍ آخر بالحراسة، ولما عرفوا في الصباح أن المناوب هو طالبٌ من طلاب كتائب خدمة الجبهة اكتفوا بترحيله إلى القاهرة وإلغاء مشاركته في هذه الكتائب.
كانت التوجيهات لنا جميعاً، جنوداً وطلاباً، أن نلعب في النهار مباريات كرة قدمٍ، غير ملتزمين بارتداء الزي العسكري، بحيث تبدو الوحدات العسكرية في حالة ترهل وخمول أبعد ما تكون عن الاستعداد لمعركة، وكان ذلك جزءاً من خطة التمويه التي تم تنفيذها بنجاحٍ على طول خط المواجهة مع العدو.
أما في الليالي غير القمرية فقد كنا نعمل بمنتهى الحماس والهمة والنشاط في تجهيز الموقع لنصب أحدث أنواع الصواريخ المضادة للطائرات. استطاعت الوحدات العسكرية جميعها إتمام بناء حائط الصد الصاروخي الذي فوجئت به إسرائيل، والذي كان الأساس في استحداث فرعٍ جديدٍ للقوات المسلحة أُطلق عليه اسم "الدفاع الجوي" لعب دوراً متميزاً خلال (حرب أكتوبر).
أذكر أنه كانت تأتينا كل يومٍ قافلة خدماتٍ تتكون من عدة سياراتٍ محملةً بالماء والطعام وكل ما يلزم موقعنا والمواقع المجاورة من أجهزةٍ وأدواتٍ ومواد مطلوبةٍ، وحدث أن طائراتٍ عسكريةً إسرائيليةً ظلت تترصد هذه القافلة وتقصفها على مدى أربعة أيامٍ متتاليةٍ، فبقينا في موقعنا في الصحراء دون طعامٍ أو ماءٍ طوال هذه المدة. كان الوضع صعباً للغاية؛ اُضطر قائد الكتيبة لصرف الأغذية المعلبة لنا كبديلٍ للطعام الذي كان يصلنا في جبهة القتال، أما الماء فلم يكن له بديلٌ؛ فكانت حياة كلٍ منا مرهونةً بما كان متبقياً من ماءٍ في زمزميته؛ منه يشرب ويغتسل، أما الوضوء فكان البديل له التيمم، وأما غسيل الملابس فقد كان ترفاً لم نفكر فيه، خاصةً أننا لم نكن نعلم مع بدء الغارات متى ستنتهي، ولا أتصور الآن كيف كان الأمر لو استمر الوضع لأكثر من تلك الأيام الأربعة.
ذكرياتٌ كثيرةٌ ما تزال حاضرةً في ذهني عن كتائب خدمة الجبهة، وهي بصدقٍ من أجمل وأروع أيام عمري. من ذلك، يوم أبلغتنا قيادة الكتيبة أن سلاح الإشارة سيوفر لنا خطاً هاتفياً كي يتصل كلٌ منا بأسرته، وفي اليوم المشهود، وقفنا في طابورٍ طويلٍ، يحمل كلٌ منا في يده ورقةً كتب فيها رقم الهاتف الذي سيتم بواسطته التواصل مع أسرته. مشاعر مختلطةٌ من السعادة والترقب اجتاحتنا. عندما يصل أحدنا لدوره يقوم الفني من سلاح الإشارة بالاتصال برقم الهاتف وإعطاء السماعة لصاحب الدور ليتحدث فيما لا يزيد عن دقيقةٍ واحدةٍ فقط، عليه ألا يعطي خلالها أية بياناتٍ أو معلوماتٍ لأهله، يكفي أن يخبرهم أنه بخير. كنا نستمع لمكالمات بعضنا البعض، منا من كلم أمه أو أباه، ومنا من لم يكن بجوار الهاتف إلا أخاه الصغير وانتهت مدة الاتصال دون أن يتحدث مع أحد الكبار، ومنا من كلم البقال أو المكوجي وطلب منه أن يطمئن أهله عليه!
وإن أنسى لا أنسى ما حييت يوم أن أغارت طائرةٌ عسكريةٌ إسرائيليةٌ على موقعنا؛ أُطلقت صفارات الإنذار، فقفز كلٌ منا، نحن الطلاب، في حفرته البرميلية مرتدياً خوذته، وأما الجنود فقد توزعوا على المدافع المضادة للطائرات واستعدوا بإحضار القذائف، ووقف جنديٌ مدربٌ على تمييز الطائرات يحمل نظارته المكبرة بكلتا يديه موجهاً نظره نحو السماء، أعلن بصوتٍ جهوريٍ أن الطائرة من طراز سكاي هوك على ارتفاع خمسة كيلومترات؛ فإذا بالجنود يقفزون إلى المدافع ويختارون الذخيرة المناسبة لهذا النوع من الطائرات. ثم عاد في تقديره لنوع الطائرة قائلاً "كما كنت" وأعلن أنها طائرةٌ من طراز فانتوم على ارتفاع ثلاثة كيلومترات؛ فإذا بالجنود بسرعةٍ ومهارةٍ يقومون بالانتقال إلى مدافع أخرى، ويغيرون نوع القذائف لتناسب هذا الطراز من الطائرات. اقتربت الطائرة من الموقع، وبدأ التعامل معها بالقذائف المضادة، وهي ما تزال في حالة انقضاضٍ بمقدمتها. بالنسبة لي كان شكل الطائرة مخيفاً مرعباً، مرت الثواني الخاطفة لهذه الغارة كما لو كانت دهراً، لا يملك أيٌ منا سوى أن يلجأ إلى الله؛ يقرأ ما استطاع أن يتذكره من قرآنٍ وما يخطر على باله من أدعية. وحانت لحظة اقتراب الطائرة من الأرض، حتى أنني ظننت أن قائدها قد أفلت منه الزمام أو أن إحدى قذائفنا قد أصابت الطائرة؛ فهي تتجه نحونا بسرعةٍ عاليةٍ، تكاد تصطدم بالأرض، لم أفهم وقتها لماذا لم يقم الطيار بإطلاق النار حتى هذه اللحظة؟ وإذا بالطائرة تعود للارتفاع بزاوية حادة وبنفس السرعة، وإذا برشاشاتٍ مثبتةٍ في جناحيها تطلق عشرات القذائف وهي تحلق فوق الموقع قبل أن تنهي مهمتها وترجع من حيث أتت. انتهت الغارة، وبدأ إحصاء الخسائر من الشهداء والمصابين والأضرار المادية، وكانت كلها ولله الحمد قليلةً. لكن صورة الطائرة وهي تنقض على الموقع لم يبرح خيالي حتى هذه اللحظة.

أحبتي .. شهدت (حرب أكتوبر) بطولاتٍ كثيرةً؛ هناك من ضحى بروحه، وهناك من أصيب، أما أنا فقد كانت مشاركتي محدودةً جداً ومتواضعةً، لكني أعتز بها؛ لم أشارك في الحرب، لكن كان لي شرف الإعداد لها. ربما رويت هذه الذكريات لأبنائي، أكثر من مرةٍ، لكني أكتبها اليوم ليقرأها أحفادي ليتعلموا، هم وغيرهم، درساً مهماً هو أن حب الوطن الحقيقي لا يكون بمجرد أن نقول "تحيا مصر"، أو نضع العلم في سياراتنا ونزين به شرفات منازلنا، أو نردد النشيد الوطني. حب الوطن هو كل ذلك معاً مضافاً إليه عملٌ صادقٌ ومخلصٌ لخدمة أهدافٍ واضحةٍ ترقى بها بلادنا.

اللهم اهدنا، وألف بين قلوبنا، ووحد صفوفنا، وأعز أوطاننا، وانصرنا على أعدائنا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/yiQsXy

الجمعة، 5 أكتوبر 2018

إلى متى؟!


الجمعة 5 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٥
(إلى متى؟!)

أرسل لي أحدهم النص التالي: "دعاءٌ لتفريج الهم وزوال الغم: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك. يا فارج الهم ويا كاشف الغم فرج همي ويسر أمري وارحم ضعفي وقلة حيلتي وارزقني من حيث لا أحتسب يا رب العالمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أخبر سبعةً من الناس بهذا الدعاء فَرَّج الله همه}، ارسلها بنية الفرج". رددتُ عليه بقولي: "الدعاء جميلٌ عسى الله أن يستجيب. أما ما وَرَد على أنه حديثٌ للرسول عليه الصلاة والسلام فلم تثبت صحته، إنه حديثٌ باطلٌ ومكذوبٌ. أرجو تعميم هذا التوضيح على كل من أرسلت لهم الدعاء، واطلب من كلٍ منهم فعل نفس الشيء حتى لا تتحمل أنت وهم وكل من ينشر هذا الدعاء من بعدكم وزر الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام. مع رجاء عدم نشر أي حديثٍ للرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد التأكد من صحته. أما حجة "كما وردني" أو "كما وصلني" فهي غير مقبولةٍ، نحن محاسبون على كل كلمةٍ نكتبها أو ننطق بها، بل ومحاسبون عن كل من كتبها أو نطق بها نقلاً عنا إلى يوم القيامة، فاستكثروا أحبابي من كلامٍ تُجزون عنه خيراً كثيراً، وتجنبوا أية كلمةٍ تهوي بكم إلى نار جهنم والعياذ بالله. هدانا الله وإياكم وأصلح أحوالنا جميعاً".
وأرسل لي شخصٌ آخر ما يلي: "قال رســول صلى الله عليه وسلم: {من يبارك الـناس بهذا الشهر الفضيل – يعني ربيع الأول- تحرم عليه النار}"، فكتبتُ له رداً مماثلاً، رغم أن هذا الحديث بالذات يتكرر إرساله مع مطلع كل شهرٍ هجريٍ؛ حيث يتم فقط تغيير اسم الشهر في الحديث النبوي المزعوم!
وغير هذين الحديثين الباطلين كثيرٌ وكثيرٌ من أحاديث موضوعةٍ وملفقةٍ لا تنتهي ينسبون قولها افتراءً إلى نبينا الكريم.

أحبتي في الله .. الموضوع قديمٌ متجددٌ .. لا يكاد يمر يومٌ واحدٌ دون أن تصلني رسائل أو أطلع على منشوراتٍ في مواقع التواصل الاجتماعي بها كذبٌ صريحٌ على النبي عليه الصلاة والسلام. الملفت للنظر هو سرعة تعميم ونشر مثل هذه الأكاذيب من قبل أشخاصٍ من فئاتٍ مختلفةٍ متفاوتين في مستوياتهم الثقافية والتعليمية والاقتصادية؛ فالأمر لم يعد مقصوراً على أنصاف المتعلمين أو محدودي الثقافة. والمثير في الأمر أن هؤلاء الناس لا يكلفون أنفسهم عناء البحث للتأكد من صحة ما يعتزمون نشره قبل النشر، رغم أن ذلك لا يستغرق سوى دقائق معدودة.
أندهش حقيقةً لما أعتبره أحد أشد سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي خطورةً وأكثرها ضرراً، ولا أكاد أفهم ما الذي يجبر مثل هؤلاء للمسارعة إلى ارتكاب هذه الجريمة وتحمل وزرها؟ لماذا لا يعطون أنفسهم مهلةً للتأكد من مصداقية ما ينشرون قبل وقوعهم في المحظور؟

وللناس بعد أن تُصَوِّب لهم مثل هذا الخطأ الجسيم حالاتٌ: منهم من يبادر إلى حذف المنشور إذا توفرت إمكانية الحذف وينشر ويعمم فوراً ما يصله من توضيحٍ وتصحيحٍ، ومنهم من يشكر باقتضابٍ ولا يفعل شيئاً، ومنهم من لا يهتم بأي شكلٍ من الأشكال، ومنهم من يُماري ويجادل رغم وضوح ما يصله من أدلةٍ وبراهين تثبت عدم صحة ما ادعى كذباً وزوراً أن الرسول الكريم قد قاله، في الوقت الذي لا يجرؤ فيه أن ينسب لمديرٍ أو وزيرٍ أو مسئولٍ حرفاً واحداً لم يقله. الغريب أن جريمة نشر أخبار ٍكاذبةٍ تصل عقوبتها إلى السجن لعدة سنواتٍ، أما نشر حديثٍ مكذوبٍ ونسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلا أكاد أعرف له عقوبةً في قوانيننا الوضعية، وإن كانت عقوبته في الدنيا الندم؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا أَن تُصيبوا قَومًا بِجَهالَةٍ فَتُصبِحوا عَلى ما فَعَلتُم نادِمينَ﴾، وعقوبته في الآخرة أشد وأخزى، ربما لا يعيها من يتسرع بنشر حديثٍ غير صحيحٍ. لقد حذرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه؛ فقال: [إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِي؛ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار]، وقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ].

يقول العلماء أن السُّنَّةُ هي المصدرُ الثاني للتشريع بعد كتاب الله عزَّ وجلَّ، جاءت لشرح وتفصيلِ وبيَانِ ما جاءَ في القرآن مجملاً؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. وإذا حُرِّفتِ السنةُ، حُرِّفت معاني كتاب الله تبعاً لهوى من ينشرون هذه الأحاديث الكاذبة، والتي تبدو في ظاهرِها جيدة المعنى لكنها في الباطن تؤدى إلى طَمسِّ السُّنَّةِ واختلاطها بما يُشيعونَ ويُروجونَ له من الباطل. ومما يؤسفُ له أنَّ العَوامَ والجُهَّالَ ممن لا علمَ لهم بالسُّنَّةِ، يتلقفونَ هذه الأحاديث الموضوعة والمكذوبَة والمُفتراة، وينشرونها على مواقع شبكة الإنترنت وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وبواسطة برامجه المختلفة، على أنها أحاديث صحيحةٌ، وهم يحسبونَ أنهم مُحسنونَ بل ويقولونَ: "أستحلفك بالله، قُم بإرسالها لعشرةِ أشخاص"، أو "لا تجعلها تقف عندك"، أو "من لا يعممها يعلم أن الشيطان هو الذي منعه"؛ وهكذا تنتشر الخُرافات والبِدعَ انتشار النار في الهشيم.

(إلى متى؟!) نظل ننقل عن غيرنا أحاديث باطلةً ومكذوبةً وموضوعةً عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ (إلى متى؟!) نظل نصدق أن إرسال هذه الرسالة لعددٍ معينٍ من الناس سيحقق لنا الخير؟ (إلى متى؟!) نظل نصدق شخصاً يبدأ كلامه بالقسم بالله العظيم؟ هل من ينقل مثل هذه الأحاديث المكذوبة الموضوعة والباطلة لا يعلم عقوبة الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم؟
كلماتٌ مثل: "كما وردتني" أو "نقلتها كما هي" أو "أعجبني معناها" أو "راقت لي" لن تنفعنا يوم الحساب، ولن ينفعنا يومها حسن النية ولن يشفع لنا طيب المقصد؛ فالعبرة بالعمل وما ينتج عنه من آثار: إذا أنت نقلت وعممت حديثاً شريفاً وهو غير صحيحٍ، فإنك لا تعلم كم من شخصٍ بعدك قرأه وحسبه صحيحاً ثم قام بتعميمه ونشره، ثم يتلقفه غيره فيعيد نشره، وهكذا خلال ساعاتٍ قليلةٍ تكون قد اكتسبت تلالاً من السيئات وجبالاً من الأوزار أنت في غنىً عنها.
أما آن الأوان لأن نتحقق ونتثبت من صحة الأحاديث قبل نشرها؟ فلنتقِ الله في أنفسنا وفي غيرنا فلا ننقل إليهم أحاديث كاذبة. والقول بأننا نعيد نشر ما وصل إلينا كما هو لا يُعفي من المسئولية وتحمل الوزر والإثم، إلا من استغفر الله وتاب وأناب ونَبَّه غيره إلى ما في هذه المنشورات من كذبٍ وافتراءٍ واستخفافٍ بالعقول ومخالفةٍ للعقيدة الصحيحة، ولم يعد إلى ذلك مرةً أخرى أبداً.

أحبتي .. إن كنتم تعلمون كيف تتأكدون بأنفسكم من صحة الحديث فلا تتكاسلوا في عمل ذلك قبل النشر، وإن كنتم لا تعلمون فاسألوا غيركم ممن يعلم، ولا عيب في ذلك ولا ضرر، وإلا فامتنعوا عن إعادة النشر والتعميم؛ فخسارة ثوابٍ محتملٍ أفضل كثيراً من اكتساب وزرٍ مؤكد.
والتقنيات الحديثة سلاحٌ ذو حدين؛ إذا أحسنا استخدامه في نشر الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة نلنا أجوراً مضاعفةً وحسناتٍ جاريةً كثيرةً ومستمرةً إلى يوم الدين؛ فهذا تبليغٌ بصحيح الدين وعلمٌ يُنتفع به، أما نشر حديثٍ واحدٍ مكذوبٍ، فيترتب عليه وزرٌ يكبر ويتضاعف ويتجدد كلما أعاد شخصٌ ما، قد لا نعرفه، نشر الحديث المكذوب نقلاً عنا، أو نقلاً عن شخصٍ نقل عنا، وهكذا تتسع الدائرة ونكتسب مع اتساعها كل يومٍ بل كل لحظةٍ سيئاتٍ جاريةً مستمرةً تتزايد دون أن ندري!
يا ويلتنا أعجزنا أن نكون مثل الهدهد عندما قال لسيدنا سليمان: ﴿أَحَطتُ بِما لَم تُحِط بِهِ وَجِئتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقينٍ﴾
فنلتزم بألا نقول أو نكتب أو ننشر ونعمم إلا النبأ اليقين؛ فنتثبت من صحة ما ننشر قبل النشر والتعميم؟!
اعذروني لانفعالي؛ فقد تكرر هذا الأمر كثيراً. هدانا الله وإياكم، وتجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا، وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/jY4YVz

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟


الجمعة 28 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٤
(مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)

أمضينا الأسبوع الماضي في مرسى مطروح، أجمل شواطئ مصر وأكثرها نظافةً وجمالاً. كنا نستعد لهذه الرحلة قبل شهور؛ أعددنا قائمةً بالأشياء الأساسية كلما توفر الوقت وضعنا شيئاً منها في حقائبنا، إلى أن اقترب موعد السفر، وانتهينا من وضع تلك الأشياء كلها في الحقائب، أضفنا أغراضاً أخرى قد نحتاجها؛ بدأت الرحلة إذن ونحن مستعدون لها استعداداً كاملاً.
غادرنا القاهرة نتطلع إلى الوصول لتلك المدينة الساحرة بفارغ الصبر. مَرَّ علينا الوقت بطيئاً متثاقلاً، ورغم إحساسنا بالتعب والملل فلم يكن يُصَبِّرنُا غير الأمل. عندما وصلنا ووقع نظرنا على بحر مرسى مطروح الذي ليس له مثيلٌ على طول الساحل الشمالي كله، لم يعد لإحساسنا بالتعب أو الملل وجودٌ؛ كأنما قد تبخر، وحل محله نشاطٌ دبَّ في أرواحنا قبل أجسادنا.

أحبتي في الله .. بعد وصولنا بيومين، وفي خطبة الجمعة إذا بالخطيب يذكر حديثاً شريفاً؛ حين سأل أعرابي الرسول: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: [مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟]، قَالَ: حُبُّ اللَّهِ ورسولِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: [أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ].
وإذا بي أتذكر كل ما سبق وأعددناه لرحلة المصيف، فتساءلت بيني وبين نفسي: وماذا أعددنا نحن للرحلة الأخرى، رحلة كل إنسانٍ إلى الدار الآخرة؟ هل استعددنا لهذه الرحلة كما نستعد لرحلاتنا في الحياة الدنيا؟ وهل استعداداتنا لها تتناسب مع كون هذه الرحلة تنقلنا إلى حياةٍ أبديةٍ دائمةٍ وليس إلى أيامٍ معدودات؟ هل جهزنا قائمة الأغراض الأساسية التي نصطحبها معنا في هذه الرحلة؟ وهل اهتمننا بالأغراض الأخرى الإضافية؟
نعلم لرحلات الدنيا مواعيد محددةً للمغادرة ثم العودة، أما الرحلة للدار الآخرة فموعد المغادرة غير معلومٍ لنا، ولا عودة منها، أفلا يكون هذا حافزاً إضافياً للاهتمام بالاستعداد لها؟ وإذا لم نستعد وأتى موعدها فماذا نحن فاعلون؟
عودةً إلى الحديث النبوي الشريف: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) كان سؤال الأعرابي عن الجنة. فليس لهذه الرحلة إلا وجهةٌ واحدةٌ هي الدار الأخرى، ولا مستقر للناس بعد الوصول إلا الجنة جعلنا الله من أصحابها، أو النار نعوذ بالله منها.
الجنة مكان الإقامة الدائم لمن استعد للرحلة فأحسن الاستعداد، أما النار فهي مكان الإقامة الدائم لمن لم يستعد للجنة بعملٍ يوجبها؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.
فمن عرف الطريق إلى الجنة، وعمل لها، واستعد بالأساسيات التي هي الفرائض، وزاد في استعداده بالنوافل وأعمال الخير والبر وحُسن الأخلاق وطيب المعاملات؛ فأولئك يقول عنهم سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَعمَل مِنَ الصَّالِحاتِ مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئِكَ يَدخُلونَ الجَنَّةَ وَلا يُظلَمونَ نَقيرًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئِكَ يَدخُلونَ الجَنَّةَ يُرزَقونَ فيها بِغَيرِ حِسابٍ﴾.

يقول أهل العلم: تزودوا ليوم الميعاد، ولا تُلهكم دار الغرور والهوان، فتنسيكم ما كتبه الله على أهلها من البوار والفناء؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.
ومما يرقق القلوب التفكر في الموت وأحواله، وفي القبر وظلماته، فهلا تفكرنا يوماً ونحن نخرج من بيوتنا في الصباح أننا لن نرجع إليها مرةً ثانيةً؟ هل تفكرنا أن هذا اليوم هو آخر يومٍ لنا في الحياة؟ هل إذا أتانا ملك الموت في هذا اليوم هل نحن راضون عن أنفسنا؟ هل نحن راضون عن أعمالنا التي سنقابل بها الله؟ أم سنكون كالعبد الآبق يطلب الرجعة؟ نحن الآن في مهلةٍ فلنغتنمها؛ ما تزال أمامنا فسحةٌ وفرصةٌ للعمل قبل انقضاء الأجل؛ فلا ينفعنا أن نقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾.
الموت يأتي بغتةً ونحن لا نشعر؛ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ فهلَّا أصلحنا قلوبنا استعداداً للقاء الله؟ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. هلَّا طهرنا قلوبنا من الشرك والرياء؟! هلَّا طهرناه من الظنون الكاذبة والأماني الباطلة، ومن التعلق بغير الله، أو التوكل على غيره؟! هلَّا طهرناه من الخوف سوى من الله؟! هلَّا جردناه من كل محبةٍ سوى محبة الله؟! هلَّا طهرناه من أمراض الحقد والحسد والغل لإخواننا المسلمين؟!
فلنكن من أهل الإيمان الصادقين، الذين سلمت قلوبهم لله، وسلمت قلوبهم لإخوانهم المؤمنين، فنحب لهم ما نحب لأنفسنا، ونظن بهم الخير، ولا نظن بهم السوء، ولنكن من أهل القلوب السليمة، نقابل الإساءة بالإحسان، والخطيئة بالغفران، والغلظة بالرفق، والجهل بالحلم، والعبوس بالابتسامة، ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾. ولنكن من أصحاب النفوس العالية الصابرة، الذين أراد الله لهم سعادة الدارين: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. صلاح القلوب هو أول عملٍ نستعد به لمفارقة هذه الدار، دار الهموم والغموم والأسقام، والرحيل إلى دار بقاءٍ بلا زوال، ودار نعيمٍ بلا هوان.
ثم علينا بالعمل؛ فلا نركن إلى الأمل بغير عملٍ صالحٍ يبلغنا جنات النعيم.
فلنُعِد ليوم الدين عدته، ولنتقي الله ونعمل صالحاً، فإن المولى عزَّ وجلَّ جعل الفوز لأهل التقوى؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾، وقال عز وجلّ: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾. ومن التقوى أن يستعد العبد ليوم القيامة والبعث والنشور والحساب، فالتقوى هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل، فلا يكن الاستعداد ليوم الرحيل بالغفلة والعصيان؛ فالغفلة عن وقفة الحساب تقود أصحابها إلى الاستمرار في المخالفة، والتمادي في التفريط والإهمال، لا يذكرون مقامهم بين يدي الملك الديان؛ يقول سبحانه: ﴿أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، في محكمة الله العادلة، التي لا يخاف المؤمن فيها ظلماً ولا هضماً؛ يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾؛ فلينظر كلٌ منا لحاله، ويسأل نفسه إذا أراد الجنة: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟). وليتذكر قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون﴾.
آن للنائم أن يستيقظ من نومه، وحان للغافل أن ينتبه من غفلته، قبل أن تبدأ الرحلة إلى الدار الآخرة، فمالنا عن ذكر هذه الرحلة مشغولين؟ وعن الاستعداد لها متخاذلين؟ أوليس لمثل هذه الرحلة يعمل العاملون؟ ويستعد ذوو الألباب العاقلون؟ فلنعد الزاد، ونهجر العناد والفساد، ونتقي رب العباد؛ إن أيام العمر قليلةٌ، واللحظات محسوبةٌ، والأنفاس معدودةٌ، ولو أردنا الرجعة إلى هذه الدنيا، أو أن يمد الله في أعمارنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ فيا مضيع الصلوات، ما ظنك بربك إذا لقيته؟ كيف بك إذا حضر ملك الموت لقبض روحك وأنت لست من المصلين؟ لقد ذم الله قوماً فقال: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾. وبعد الصلاة، يكون الحساب عن باقي الأعمال؛ فالصلاة عماد الدين إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدت رُد ما سواها. فلنحذر ونستعد ولا نغتر ونتعلق بالأماني دون العمل؛ قال تعالى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾.

أحبتي .. (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) استراتيجيةٌ نبويةٌ وسُنةٌ شريفةٌ من تمسك بها نجا. من أدرك منا هذه الحقيقة البسيطة الواضحة فأحسن العمل؛ فلا جزاء لعمله إلا الجنة، جعلنا الله من أصحابها، وأما من تغافل عنها أو أدركها ولم يعمل بها، أو أساء العمل واختار لنفسه طريق الشهوات والهوى وتعلق بحبال الأمل؛ فلا يلومن إلا نفسه وقت لا ينفع الندم، عندما يجد نفسه وقد انتهت به الرحلة التي لا عودة منها إلى النار، أعاذنا الله منها.
كلنا مقصرون، وباب التوبة مفتوحٌ دائماً قبل أن يحضرنا الموت، وما أروع البشرى للذين أسرفوا على أنفسهم في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ قال: [إنما الأعمال بالخواتيم]؛ فلنختم أعمالنا وأعمارنا بالعودة إلى الله والتوبة عن كل المعاصي؛ فلا يعرف أيٌ منا موعد رحلته التي لا مناص منها ولا عودة.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قولٍ وعمل.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/bzGxK4