الجمعة، 12 أكتوبر 2018

حرب أكتوبر

الجمعة 12 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٦
(حرب أكتوبر)

سألني حفيدي عن سبب عطلة المدرسة يوم الأحد الماضي؛ فكانت مناسبةً للحديث معه عن (حرب أكتوبر) ١٩٧٣م وقتال العدو الصهيوني المغتصب لأراضينا، وكيف كانت هذه الحرب ضرورةً لتحرير الأرض واستعادة الكرامة. ما لم أكن أتوقعه هو سؤاله التالي: "هل شاركت يا جدي في هذه الحرب؟"، قلت له: "شاركت ولم أشارك"، قال: "كيف؟! لم أفهم، أهي فزورةٌ؟"، قلت له: "ليست فزورةً؛ ولكن أنْصِّت إليّ ستعرف كيف أني شاركت ولم أشارك"، قال: "أُنصتُ إليك جدي، وكلي آذانٌ صاغيةٌ". قلت: "فلنبدأ من البداية".

أحبتي في الله .. حكيتُ لحفيدي القصة بدايةً من نكبة فلسطين عام ١٩٤٨م وحرب العرب الأولى مع العصابات الصهيونية التي انتهت بتقسيم فلسطين وإعلان قيام ما يُسمى بدولة إسرائيل، ثم تَوَسُّع هذا الكيان أثناء حرب ١٩٦٧م حين احتل أجزاءَ أخرى من الأراضي العربية، منها شبه جزيرة سيناء كلها من حدودنا الدولية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس؛ حيث أنشأ الإسرائيليون "خط بارليف" وتمترسوا خلفه.
كنا في ذلك الوقت شباباً، وكنا تواقين للقيام بواجبنا الوطني والإسهام في معركة التحرير ودحر العدوان؛ فطالبنا بذلك، كما طالبنا بمحاسبة المسئولين عن هزيمتنا في حرب ١٩٦٧م. واضطررنا إلى الخروج في مظاهراتٍ حاشدةٍ في شهر فبراير ١٩٦٨م تنديداً بما اعتبرناه أحكاماً مخففةً صدرت بحق هؤلاء المسئولين، وللمطالبة بأن يكون لنا دورٌ في تحرير أراضينا المحتلة؛ فصدر بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨م، ثم صدرت بعده توجيهاتٌ بتشكيل ما سُمي "كتائب خدمة الجبهة" وتم فتح باب التطوع فيها أمام من يرغب من طلاب الجامعات والمعاهد العليا. كانت حرب الاستنزاف على أشدها، وهي التي استمرت من ١٩٦٨م إلى ١٩٧٠م، وكان العدو الصهيوني يمتلك حينئذٍ سيطرةً كاملةً على سماء بلادنا وأجوائنا دون رادعٍ، وبدأ في ضرب المدنيين؛ فكانت الغارة على مدرسة بحر البقر بمحافظة الشرقية التي أُستشهد فيها الكثير من أطفال المدرسة، ثم كانت الغارات على مصنع في أبي زعبل وعلى محطة محولات السد العالي بنجع حمادي، الأمر الذي دفع القيادة السياسية للتعاقد على صواريخ روسيةٍ حديثةٍ من طراز "سام" لإنشاء حائط صدٍ يحول دون عربدة الطائرات الإسرائيلية. وصلت الصواريخ وكان لابد من تركيبها في خطوط المواجهة الأمامية مع العدو في سريةٍ تامةٍ وباستخدام كل أساليب الخداع والتمويه اللازمة.
التحقت بكتائب خدمة الجبهة؛ تلقينا تدريباً عسكرياً مكثفاً بالمدينة الجامعية لجامعة عين شمس، وتم استخراج بطاقات هويةٍ لنا من المخابرات الحربية، وارتدينا الزي العسكري الخاص بجنود الجيش المصري، ثم توجهنا في سيارات نقل الجنود إلى كتائب سلاح المهندسين التي توزعنا عليها. شاركت في هذه الكتائب مرتين: مرةً في شهر يناير ١٩٦٩م في منطقة "عجرود" القريبة من مدينة السويس، وأخرى في شهر يناير ١٩٧٠م في منطقة "أبو سلطان" بالقرب من مدينة فايد على طريق الإسماعيلية. كانت ملحمةً وطنيةً رائعةً بدأت قبل (حرب أكتوبر) بهدف بناء شبكة صواريخ حديثةٍ تمثل حائط صدٍ للطائرات، ثم تحولت أثناء الحرب إلى نظام غطاءٍ جويٍ محكمٍ لقواتنا المسلحة وقت أن عبرت قناة السويس، وحين بدأت في تطوير هجومها بعد العبور.
عند وصولنا لكتيبة المهندسين التي التحقنا بها، أُعطي كل واحدٍ منا جاروفاً طويلاً وطُلب منه أن يحفر لنفسه "حفرةً برميليةً"، وهي حفرةٌ بطول الفرد ينزل فيها وقت الغارات مرتدياً خوذته الفولاذية، مما يكفل له أقصى حمايةٍ ممكنة.
عشنا حياة الجنود كما هي على الطبيعة دون أن نتلقى معاملةً خاصةً، كان نومنا في الخيام مثلهم، وأكلنا وشربنا مما يأكلون منه ويشربون، واستخدمنا حماماتهم، وشاركناهم نوبات الحراسة الليلية. أذكر أن أحد الطلبة خرج من خيمته في الليل ليتوجه إلى الحمام فاعترضه الجندي المناوب شاهراً سلاحه في وجهه، طالباً منه كلمة سر الليل، وهي كلمةٌ كانت تتغير كل ليلة ونُخطر بها، وإذا بزميلنا من هول المفاجأة يرتبك فينسى كلمة السر، ولولا مرور أحد الضباط للتفتيش وقتها لكان زميلنا هذا قد ضُرب بالرصاص الحي. وأذكر زميلاً لنا كانت نوبة حراسته "كنجي" وهي الفترة من الساعة الثانية إلى الساعة الرابعة صباحاً؛ فغلبه النوم ووقع سلاحه من يده، وتصادف مرور أحد الضباط للتفتيش فأخذ السلاح وأيقظ زميلنا وأمر بتحويله فوراً للمحاكمة العسكرية، وقام بتكليف زميلٍ آخر بالحراسة، ولما عرفوا في الصباح أن المناوب هو طالبٌ من طلاب كتائب خدمة الجبهة اكتفوا بترحيله إلى القاهرة وإلغاء مشاركته في هذه الكتائب.
كانت التوجيهات لنا جميعاً، جنوداً وطلاباً، أن نلعب في النهار مباريات كرة قدمٍ، غير ملتزمين بارتداء الزي العسكري، بحيث تبدو الوحدات العسكرية في حالة ترهل وخمول أبعد ما تكون عن الاستعداد لمعركة، وكان ذلك جزءاً من خطة التمويه التي تم تنفيذها بنجاحٍ على طول خط المواجهة مع العدو.
أما في الليالي غير القمرية فقد كنا نعمل بمنتهى الحماس والهمة والنشاط في تجهيز الموقع لنصب أحدث أنواع الصواريخ المضادة للطائرات. استطاعت الوحدات العسكرية جميعها إتمام بناء حائط الصد الصاروخي الذي فوجئت به إسرائيل، والذي كان الأساس في استحداث فرعٍ جديدٍ للقوات المسلحة أُطلق عليه اسم "الدفاع الجوي" لعب دوراً متميزاً خلال (حرب أكتوبر).
أذكر أنه كانت تأتينا كل يومٍ قافلة خدماتٍ تتكون من عدة سياراتٍ محملةً بالماء والطعام وكل ما يلزم موقعنا والمواقع المجاورة من أجهزةٍ وأدواتٍ ومواد مطلوبةٍ، وحدث أن طائراتٍ عسكريةً إسرائيليةً ظلت تترصد هذه القافلة وتقصفها على مدى أربعة أيامٍ متتاليةٍ، فبقينا في موقعنا في الصحراء دون طعامٍ أو ماءٍ طوال هذه المدة. كان الوضع صعباً للغاية؛ اُضطر قائد الكتيبة لصرف الأغذية المعلبة لنا كبديلٍ للطعام الذي كان يصلنا في جبهة القتال، أما الماء فلم يكن له بديلٌ؛ فكانت حياة كلٍ منا مرهونةً بما كان متبقياً من ماءٍ في زمزميته؛ منه يشرب ويغتسل، أما الوضوء فكان البديل له التيمم، وأما غسيل الملابس فقد كان ترفاً لم نفكر فيه، خاصةً أننا لم نكن نعلم مع بدء الغارات متى ستنتهي، ولا أتصور الآن كيف كان الأمر لو استمر الوضع لأكثر من تلك الأيام الأربعة.
ذكرياتٌ كثيرةٌ ما تزال حاضرةً في ذهني عن كتائب خدمة الجبهة، وهي بصدقٍ من أجمل وأروع أيام عمري. من ذلك، يوم أبلغتنا قيادة الكتيبة أن سلاح الإشارة سيوفر لنا خطاً هاتفياً كي يتصل كلٌ منا بأسرته، وفي اليوم المشهود، وقفنا في طابورٍ طويلٍ، يحمل كلٌ منا في يده ورقةً كتب فيها رقم الهاتف الذي سيتم بواسطته التواصل مع أسرته. مشاعر مختلطةٌ من السعادة والترقب اجتاحتنا. عندما يصل أحدنا لدوره يقوم الفني من سلاح الإشارة بالاتصال برقم الهاتف وإعطاء السماعة لصاحب الدور ليتحدث فيما لا يزيد عن دقيقةٍ واحدةٍ فقط، عليه ألا يعطي خلالها أية بياناتٍ أو معلوماتٍ لأهله، يكفي أن يخبرهم أنه بخير. كنا نستمع لمكالمات بعضنا البعض، منا من كلم أمه أو أباه، ومنا من لم يكن بجوار الهاتف إلا أخاه الصغير وانتهت مدة الاتصال دون أن يتحدث مع أحد الكبار، ومنا من كلم البقال أو المكوجي وطلب منه أن يطمئن أهله عليه!
وإن أنسى لا أنسى ما حييت يوم أن أغارت طائرةٌ عسكريةٌ إسرائيليةٌ على موقعنا؛ أُطلقت صفارات الإنذار، فقفز كلٌ منا، نحن الطلاب، في حفرته البرميلية مرتدياً خوذته، وأما الجنود فقد توزعوا على المدافع المضادة للطائرات واستعدوا بإحضار القذائف، ووقف جنديٌ مدربٌ على تمييز الطائرات يحمل نظارته المكبرة بكلتا يديه موجهاً نظره نحو السماء، أعلن بصوتٍ جهوريٍ أن الطائرة من طراز سكاي هوك على ارتفاع خمسة كيلومترات؛ فإذا بالجنود يقفزون إلى المدافع ويختارون الذخيرة المناسبة لهذا النوع من الطائرات. ثم عاد في تقديره لنوع الطائرة قائلاً "كما كنت" وأعلن أنها طائرةٌ من طراز فانتوم على ارتفاع ثلاثة كيلومترات؛ فإذا بالجنود بسرعةٍ ومهارةٍ يقومون بالانتقال إلى مدافع أخرى، ويغيرون نوع القذائف لتناسب هذا الطراز من الطائرات. اقتربت الطائرة من الموقع، وبدأ التعامل معها بالقذائف المضادة، وهي ما تزال في حالة انقضاضٍ بمقدمتها. بالنسبة لي كان شكل الطائرة مخيفاً مرعباً، مرت الثواني الخاطفة لهذه الغارة كما لو كانت دهراً، لا يملك أيٌ منا سوى أن يلجأ إلى الله؛ يقرأ ما استطاع أن يتذكره من قرآنٍ وما يخطر على باله من أدعية. وحانت لحظة اقتراب الطائرة من الأرض، حتى أنني ظننت أن قائدها قد أفلت منه الزمام أو أن إحدى قذائفنا قد أصابت الطائرة؛ فهي تتجه نحونا بسرعةٍ عاليةٍ، تكاد تصطدم بالأرض، لم أفهم وقتها لماذا لم يقم الطيار بإطلاق النار حتى هذه اللحظة؟ وإذا بالطائرة تعود للارتفاع بزاوية حادة وبنفس السرعة، وإذا برشاشاتٍ مثبتةٍ في جناحيها تطلق عشرات القذائف وهي تحلق فوق الموقع قبل أن تنهي مهمتها وترجع من حيث أتت. انتهت الغارة، وبدأ إحصاء الخسائر من الشهداء والمصابين والأضرار المادية، وكانت كلها ولله الحمد قليلةً. لكن صورة الطائرة وهي تنقض على الموقع لم يبرح خيالي حتى هذه اللحظة.

أحبتي .. شهدت (حرب أكتوبر) بطولاتٍ كثيرةً؛ هناك من ضحى بروحه، وهناك من أصيب، أما أنا فقد كانت مشاركتي محدودةً جداً ومتواضعةً، لكني أعتز بها؛ لم أشارك في الحرب، لكن كان لي شرف الإعداد لها. ربما رويت هذه الذكريات لأبنائي، أكثر من مرةٍ، لكني أكتبها اليوم ليقرأها أحفادي ليتعلموا، هم وغيرهم، درساً مهماً هو أن حب الوطن الحقيقي لا يكون بمجرد أن نقول "تحيا مصر"، أو نضع العلم في سياراتنا ونزين به شرفات منازلنا، أو نردد النشيد الوطني. حب الوطن هو كل ذلك معاً مضافاً إليه عملٌ صادقٌ ومخلصٌ لخدمة أهدافٍ واضحةٍ ترقى بها بلادنا.

اللهم اهدنا، وألف بين قلوبنا، ووحد صفوفنا، وأعز أوطاننا، وانصرنا على أعدائنا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/yiQsXy

الجمعة، 5 أكتوبر 2018

إلى متى؟!


الجمعة 5 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٥
(إلى متى؟!)

أرسل لي أحدهم النص التالي: "دعاءٌ لتفريج الهم وزوال الغم: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك. يا فارج الهم ويا كاشف الغم فرج همي ويسر أمري وارحم ضعفي وقلة حيلتي وارزقني من حيث لا أحتسب يا رب العالمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أخبر سبعةً من الناس بهذا الدعاء فَرَّج الله همه}، ارسلها بنية الفرج". رددتُ عليه بقولي: "الدعاء جميلٌ عسى الله أن يستجيب. أما ما وَرَد على أنه حديثٌ للرسول عليه الصلاة والسلام فلم تثبت صحته، إنه حديثٌ باطلٌ ومكذوبٌ. أرجو تعميم هذا التوضيح على كل من أرسلت لهم الدعاء، واطلب من كلٍ منهم فعل نفس الشيء حتى لا تتحمل أنت وهم وكل من ينشر هذا الدعاء من بعدكم وزر الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام. مع رجاء عدم نشر أي حديثٍ للرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد التأكد من صحته. أما حجة "كما وردني" أو "كما وصلني" فهي غير مقبولةٍ، نحن محاسبون على كل كلمةٍ نكتبها أو ننطق بها، بل ومحاسبون عن كل من كتبها أو نطق بها نقلاً عنا إلى يوم القيامة، فاستكثروا أحبابي من كلامٍ تُجزون عنه خيراً كثيراً، وتجنبوا أية كلمةٍ تهوي بكم إلى نار جهنم والعياذ بالله. هدانا الله وإياكم وأصلح أحوالنا جميعاً".
وأرسل لي شخصٌ آخر ما يلي: "قال رســول صلى الله عليه وسلم: {من يبارك الـناس بهذا الشهر الفضيل – يعني ربيع الأول- تحرم عليه النار}"، فكتبتُ له رداً مماثلاً، رغم أن هذا الحديث بالذات يتكرر إرساله مع مطلع كل شهرٍ هجريٍ؛ حيث يتم فقط تغيير اسم الشهر في الحديث النبوي المزعوم!
وغير هذين الحديثين الباطلين كثيرٌ وكثيرٌ من أحاديث موضوعةٍ وملفقةٍ لا تنتهي ينسبون قولها افتراءً إلى نبينا الكريم.

أحبتي في الله .. الموضوع قديمٌ متجددٌ .. لا يكاد يمر يومٌ واحدٌ دون أن تصلني رسائل أو أطلع على منشوراتٍ في مواقع التواصل الاجتماعي بها كذبٌ صريحٌ على النبي عليه الصلاة والسلام. الملفت للنظر هو سرعة تعميم ونشر مثل هذه الأكاذيب من قبل أشخاصٍ من فئاتٍ مختلفةٍ متفاوتين في مستوياتهم الثقافية والتعليمية والاقتصادية؛ فالأمر لم يعد مقصوراً على أنصاف المتعلمين أو محدودي الثقافة. والمثير في الأمر أن هؤلاء الناس لا يكلفون أنفسهم عناء البحث للتأكد من صحة ما يعتزمون نشره قبل النشر، رغم أن ذلك لا يستغرق سوى دقائق معدودة.
أندهش حقيقةً لما أعتبره أحد أشد سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي خطورةً وأكثرها ضرراً، ولا أكاد أفهم ما الذي يجبر مثل هؤلاء للمسارعة إلى ارتكاب هذه الجريمة وتحمل وزرها؟ لماذا لا يعطون أنفسهم مهلةً للتأكد من مصداقية ما ينشرون قبل وقوعهم في المحظور؟

وللناس بعد أن تُصَوِّب لهم مثل هذا الخطأ الجسيم حالاتٌ: منهم من يبادر إلى حذف المنشور إذا توفرت إمكانية الحذف وينشر ويعمم فوراً ما يصله من توضيحٍ وتصحيحٍ، ومنهم من يشكر باقتضابٍ ولا يفعل شيئاً، ومنهم من لا يهتم بأي شكلٍ من الأشكال، ومنهم من يُماري ويجادل رغم وضوح ما يصله من أدلةٍ وبراهين تثبت عدم صحة ما ادعى كذباً وزوراً أن الرسول الكريم قد قاله، في الوقت الذي لا يجرؤ فيه أن ينسب لمديرٍ أو وزيرٍ أو مسئولٍ حرفاً واحداً لم يقله. الغريب أن جريمة نشر أخبار ٍكاذبةٍ تصل عقوبتها إلى السجن لعدة سنواتٍ، أما نشر حديثٍ مكذوبٍ ونسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلا أكاد أعرف له عقوبةً في قوانيننا الوضعية، وإن كانت عقوبته في الدنيا الندم؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا أَن تُصيبوا قَومًا بِجَهالَةٍ فَتُصبِحوا عَلى ما فَعَلتُم نادِمينَ﴾، وعقوبته في الآخرة أشد وأخزى، ربما لا يعيها من يتسرع بنشر حديثٍ غير صحيحٍ. لقد حذرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه؛ فقال: [إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِي؛ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار]، وقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ].

يقول العلماء أن السُّنَّةُ هي المصدرُ الثاني للتشريع بعد كتاب الله عزَّ وجلَّ، جاءت لشرح وتفصيلِ وبيَانِ ما جاءَ في القرآن مجملاً؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. وإذا حُرِّفتِ السنةُ، حُرِّفت معاني كتاب الله تبعاً لهوى من ينشرون هذه الأحاديث الكاذبة، والتي تبدو في ظاهرِها جيدة المعنى لكنها في الباطن تؤدى إلى طَمسِّ السُّنَّةِ واختلاطها بما يُشيعونَ ويُروجونَ له من الباطل. ومما يؤسفُ له أنَّ العَوامَ والجُهَّالَ ممن لا علمَ لهم بالسُّنَّةِ، يتلقفونَ هذه الأحاديث الموضوعة والمكذوبَة والمُفتراة، وينشرونها على مواقع شبكة الإنترنت وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وبواسطة برامجه المختلفة، على أنها أحاديث صحيحةٌ، وهم يحسبونَ أنهم مُحسنونَ بل ويقولونَ: "أستحلفك بالله، قُم بإرسالها لعشرةِ أشخاص"، أو "لا تجعلها تقف عندك"، أو "من لا يعممها يعلم أن الشيطان هو الذي منعه"؛ وهكذا تنتشر الخُرافات والبِدعَ انتشار النار في الهشيم.

(إلى متى؟!) نظل ننقل عن غيرنا أحاديث باطلةً ومكذوبةً وموضوعةً عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ (إلى متى؟!) نظل نصدق أن إرسال هذه الرسالة لعددٍ معينٍ من الناس سيحقق لنا الخير؟ (إلى متى؟!) نظل نصدق شخصاً يبدأ كلامه بالقسم بالله العظيم؟ هل من ينقل مثل هذه الأحاديث المكذوبة الموضوعة والباطلة لا يعلم عقوبة الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم؟
كلماتٌ مثل: "كما وردتني" أو "نقلتها كما هي" أو "أعجبني معناها" أو "راقت لي" لن تنفعنا يوم الحساب، ولن ينفعنا يومها حسن النية ولن يشفع لنا طيب المقصد؛ فالعبرة بالعمل وما ينتج عنه من آثار: إذا أنت نقلت وعممت حديثاً شريفاً وهو غير صحيحٍ، فإنك لا تعلم كم من شخصٍ بعدك قرأه وحسبه صحيحاً ثم قام بتعميمه ونشره، ثم يتلقفه غيره فيعيد نشره، وهكذا خلال ساعاتٍ قليلةٍ تكون قد اكتسبت تلالاً من السيئات وجبالاً من الأوزار أنت في غنىً عنها.
أما آن الأوان لأن نتحقق ونتثبت من صحة الأحاديث قبل نشرها؟ فلنتقِ الله في أنفسنا وفي غيرنا فلا ننقل إليهم أحاديث كاذبة. والقول بأننا نعيد نشر ما وصل إلينا كما هو لا يُعفي من المسئولية وتحمل الوزر والإثم، إلا من استغفر الله وتاب وأناب ونَبَّه غيره إلى ما في هذه المنشورات من كذبٍ وافتراءٍ واستخفافٍ بالعقول ومخالفةٍ للعقيدة الصحيحة، ولم يعد إلى ذلك مرةً أخرى أبداً.

أحبتي .. إن كنتم تعلمون كيف تتأكدون بأنفسكم من صحة الحديث فلا تتكاسلوا في عمل ذلك قبل النشر، وإن كنتم لا تعلمون فاسألوا غيركم ممن يعلم، ولا عيب في ذلك ولا ضرر، وإلا فامتنعوا عن إعادة النشر والتعميم؛ فخسارة ثوابٍ محتملٍ أفضل كثيراً من اكتساب وزرٍ مؤكد.
والتقنيات الحديثة سلاحٌ ذو حدين؛ إذا أحسنا استخدامه في نشر الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة نلنا أجوراً مضاعفةً وحسناتٍ جاريةً كثيرةً ومستمرةً إلى يوم الدين؛ فهذا تبليغٌ بصحيح الدين وعلمٌ يُنتفع به، أما نشر حديثٍ واحدٍ مكذوبٍ، فيترتب عليه وزرٌ يكبر ويتضاعف ويتجدد كلما أعاد شخصٌ ما، قد لا نعرفه، نشر الحديث المكذوب نقلاً عنا، أو نقلاً عن شخصٍ نقل عنا، وهكذا تتسع الدائرة ونكتسب مع اتساعها كل يومٍ بل كل لحظةٍ سيئاتٍ جاريةً مستمرةً تتزايد دون أن ندري!
يا ويلتنا أعجزنا أن نكون مثل الهدهد عندما قال لسيدنا سليمان: ﴿أَحَطتُ بِما لَم تُحِط بِهِ وَجِئتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقينٍ﴾
فنلتزم بألا نقول أو نكتب أو ننشر ونعمم إلا النبأ اليقين؛ فنتثبت من صحة ما ننشر قبل النشر والتعميم؟!
اعذروني لانفعالي؛ فقد تكرر هذا الأمر كثيراً. هدانا الله وإياكم، وتجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا، وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/jY4YVz

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟


الجمعة 28 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٤
(مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)

أمضينا الأسبوع الماضي في مرسى مطروح، أجمل شواطئ مصر وأكثرها نظافةً وجمالاً. كنا نستعد لهذه الرحلة قبل شهور؛ أعددنا قائمةً بالأشياء الأساسية كلما توفر الوقت وضعنا شيئاً منها في حقائبنا، إلى أن اقترب موعد السفر، وانتهينا من وضع تلك الأشياء كلها في الحقائب، أضفنا أغراضاً أخرى قد نحتاجها؛ بدأت الرحلة إذن ونحن مستعدون لها استعداداً كاملاً.
غادرنا القاهرة نتطلع إلى الوصول لتلك المدينة الساحرة بفارغ الصبر. مَرَّ علينا الوقت بطيئاً متثاقلاً، ورغم إحساسنا بالتعب والملل فلم يكن يُصَبِّرنُا غير الأمل. عندما وصلنا ووقع نظرنا على بحر مرسى مطروح الذي ليس له مثيلٌ على طول الساحل الشمالي كله، لم يعد لإحساسنا بالتعب أو الملل وجودٌ؛ كأنما قد تبخر، وحل محله نشاطٌ دبَّ في أرواحنا قبل أجسادنا.

أحبتي في الله .. بعد وصولنا بيومين، وفي خطبة الجمعة إذا بالخطيب يذكر حديثاً شريفاً؛ حين سأل أعرابي الرسول: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: [مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟]، قَالَ: حُبُّ اللَّهِ ورسولِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: [أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ].
وإذا بي أتذكر كل ما سبق وأعددناه لرحلة المصيف، فتساءلت بيني وبين نفسي: وماذا أعددنا نحن للرحلة الأخرى، رحلة كل إنسانٍ إلى الدار الآخرة؟ هل استعددنا لهذه الرحلة كما نستعد لرحلاتنا في الحياة الدنيا؟ وهل استعداداتنا لها تتناسب مع كون هذه الرحلة تنقلنا إلى حياةٍ أبديةٍ دائمةٍ وليس إلى أيامٍ معدودات؟ هل جهزنا قائمة الأغراض الأساسية التي نصطحبها معنا في هذه الرحلة؟ وهل اهتمننا بالأغراض الأخرى الإضافية؟
نعلم لرحلات الدنيا مواعيد محددةً للمغادرة ثم العودة، أما الرحلة للدار الآخرة فموعد المغادرة غير معلومٍ لنا، ولا عودة منها، أفلا يكون هذا حافزاً إضافياً للاهتمام بالاستعداد لها؟ وإذا لم نستعد وأتى موعدها فماذا نحن فاعلون؟
عودةً إلى الحديث النبوي الشريف: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) كان سؤال الأعرابي عن الجنة. فليس لهذه الرحلة إلا وجهةٌ واحدةٌ هي الدار الأخرى، ولا مستقر للناس بعد الوصول إلا الجنة جعلنا الله من أصحابها، أو النار نعوذ بالله منها.
الجنة مكان الإقامة الدائم لمن استعد للرحلة فأحسن الاستعداد، أما النار فهي مكان الإقامة الدائم لمن لم يستعد للجنة بعملٍ يوجبها؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.
فمن عرف الطريق إلى الجنة، وعمل لها، واستعد بالأساسيات التي هي الفرائض، وزاد في استعداده بالنوافل وأعمال الخير والبر وحُسن الأخلاق وطيب المعاملات؛ فأولئك يقول عنهم سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَعمَل مِنَ الصَّالِحاتِ مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئِكَ يَدخُلونَ الجَنَّةَ وَلا يُظلَمونَ نَقيرًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئِكَ يَدخُلونَ الجَنَّةَ يُرزَقونَ فيها بِغَيرِ حِسابٍ﴾.

يقول أهل العلم: تزودوا ليوم الميعاد، ولا تُلهكم دار الغرور والهوان، فتنسيكم ما كتبه الله على أهلها من البوار والفناء؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.
ومما يرقق القلوب التفكر في الموت وأحواله، وفي القبر وظلماته، فهلا تفكرنا يوماً ونحن نخرج من بيوتنا في الصباح أننا لن نرجع إليها مرةً ثانيةً؟ هل تفكرنا أن هذا اليوم هو آخر يومٍ لنا في الحياة؟ هل إذا أتانا ملك الموت في هذا اليوم هل نحن راضون عن أنفسنا؟ هل نحن راضون عن أعمالنا التي سنقابل بها الله؟ أم سنكون كالعبد الآبق يطلب الرجعة؟ نحن الآن في مهلةٍ فلنغتنمها؛ ما تزال أمامنا فسحةٌ وفرصةٌ للعمل قبل انقضاء الأجل؛ فلا ينفعنا أن نقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾.
الموت يأتي بغتةً ونحن لا نشعر؛ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ فهلَّا أصلحنا قلوبنا استعداداً للقاء الله؟ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. هلَّا طهرنا قلوبنا من الشرك والرياء؟! هلَّا طهرناه من الظنون الكاذبة والأماني الباطلة، ومن التعلق بغير الله، أو التوكل على غيره؟! هلَّا طهرناه من الخوف سوى من الله؟! هلَّا جردناه من كل محبةٍ سوى محبة الله؟! هلَّا طهرناه من أمراض الحقد والحسد والغل لإخواننا المسلمين؟!
فلنكن من أهل الإيمان الصادقين، الذين سلمت قلوبهم لله، وسلمت قلوبهم لإخوانهم المؤمنين، فنحب لهم ما نحب لأنفسنا، ونظن بهم الخير، ولا نظن بهم السوء، ولنكن من أهل القلوب السليمة، نقابل الإساءة بالإحسان، والخطيئة بالغفران، والغلظة بالرفق، والجهل بالحلم، والعبوس بالابتسامة، ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾. ولنكن من أصحاب النفوس العالية الصابرة، الذين أراد الله لهم سعادة الدارين: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. صلاح القلوب هو أول عملٍ نستعد به لمفارقة هذه الدار، دار الهموم والغموم والأسقام، والرحيل إلى دار بقاءٍ بلا زوال، ودار نعيمٍ بلا هوان.
ثم علينا بالعمل؛ فلا نركن إلى الأمل بغير عملٍ صالحٍ يبلغنا جنات النعيم.
فلنُعِد ليوم الدين عدته، ولنتقي الله ونعمل صالحاً، فإن المولى عزَّ وجلَّ جعل الفوز لأهل التقوى؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾، وقال عز وجلّ: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾. ومن التقوى أن يستعد العبد ليوم القيامة والبعث والنشور والحساب، فالتقوى هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل، فلا يكن الاستعداد ليوم الرحيل بالغفلة والعصيان؛ فالغفلة عن وقفة الحساب تقود أصحابها إلى الاستمرار في المخالفة، والتمادي في التفريط والإهمال، لا يذكرون مقامهم بين يدي الملك الديان؛ يقول سبحانه: ﴿أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، في محكمة الله العادلة، التي لا يخاف المؤمن فيها ظلماً ولا هضماً؛ يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾؛ فلينظر كلٌ منا لحاله، ويسأل نفسه إذا أراد الجنة: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟). وليتذكر قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون﴾.
آن للنائم أن يستيقظ من نومه، وحان للغافل أن ينتبه من غفلته، قبل أن تبدأ الرحلة إلى الدار الآخرة، فمالنا عن ذكر هذه الرحلة مشغولين؟ وعن الاستعداد لها متخاذلين؟ أوليس لمثل هذه الرحلة يعمل العاملون؟ ويستعد ذوو الألباب العاقلون؟ فلنعد الزاد، ونهجر العناد والفساد، ونتقي رب العباد؛ إن أيام العمر قليلةٌ، واللحظات محسوبةٌ، والأنفاس معدودةٌ، ولو أردنا الرجعة إلى هذه الدنيا، أو أن يمد الله في أعمارنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ فيا مضيع الصلوات، ما ظنك بربك إذا لقيته؟ كيف بك إذا حضر ملك الموت لقبض روحك وأنت لست من المصلين؟ لقد ذم الله قوماً فقال: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾. وبعد الصلاة، يكون الحساب عن باقي الأعمال؛ فالصلاة عماد الدين إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدت رُد ما سواها. فلنحذر ونستعد ولا نغتر ونتعلق بالأماني دون العمل؛ قال تعالى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾.

أحبتي .. (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) استراتيجيةٌ نبويةٌ وسُنةٌ شريفةٌ من تمسك بها نجا. من أدرك منا هذه الحقيقة البسيطة الواضحة فأحسن العمل؛ فلا جزاء لعمله إلا الجنة، جعلنا الله من أصحابها، وأما من تغافل عنها أو أدركها ولم يعمل بها، أو أساء العمل واختار لنفسه طريق الشهوات والهوى وتعلق بحبال الأمل؛ فلا يلومن إلا نفسه وقت لا ينفع الندم، عندما يجد نفسه وقد انتهت به الرحلة التي لا عودة منها إلى النار، أعاذنا الله منها.
كلنا مقصرون، وباب التوبة مفتوحٌ دائماً قبل أن يحضرنا الموت، وما أروع البشرى للذين أسرفوا على أنفسهم في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ قال: [إنما الأعمال بالخواتيم]؛ فلنختم أعمالنا وأعمارنا بالعودة إلى الله والتوبة عن كل المعاصي؛ فلا يعرف أيٌ منا موعد رحلته التي لا مناص منها ولا عودة.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قولٍ وعمل.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/bzGxK4

الجمعة، 21 سبتمبر 2018

يُمهِلُ ولا يُهمِل/2


الجمعة 21 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٣
(يُمهِلُ ولا يُهمِل)

من القصص المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي قصة وزيرٍ ظلم امرأةً فأخذ بيتها ومزرعتها؛ فهددته أن تشكوه إلى الله، فقال مستهزئاً: "لا تنسي الثلث الأخير من الليل". فقامت تدعو عليه في الثلث الأخير من الليل؛ فابتلاه الله بحاكمٍ فوقه، أخذه وسجنه وعذبه، وكل يومٍ يخرجه ويضربه ويجلده، فمرت المرأة فرأته فشكرته على وصيته بقيامها الثلث الأخير من الليل، وقالت:
إذا جارَ الوزيرُ وكاتباه ...
وقاضي الأرضِ أجحفَ في القضاءْ
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ ...
لقاضي الأرضِ من قاضي السماءْ

وكتب أحدهم يقول: كنت في عزاء إحدى الأسر، وجلست أواسيهم وأصبرهم وأدعو لميتهم بالرحمة والمغفرة؛ فقام أبو الميت وجلس بجانبي، وأمسك بيدي، وقال: هذا ظلمٌ اقترفته قبل ثلاثين عاماً وما زلت أحصد عقوبته وويلاته ومصائبه إلى يومي هذا؛ فقبل ثلاثين عاماً كنت في ريعان شبابي مزهواً بقوتي، كانت لي سيارةٌ أختال بها على عباد الله. وذات يوم صادفت كلبةً معها جراؤها الصغار، فقلت في نفسي: أصدمُ إحداها؛ لأرى مدى صياح أمها ونباحها. وبالفعل صدمت جرواً منهم بسيارتي؛ فتناثرت دماؤه وأشلاؤه على أمه وهي تعوي وتصيح، وأنا أطالعها وأضحك! منذ ذلك الحين والمصائب تلاحقني دون انقطاع، وكان آخرها البارحة. أوقفت سيارتي على جانب الطريق وطلبت من ابني، ذي الثمانية عشرة عاماً، أحب وأغلى أبنائي إلى قلبي، أرى فيه زهرة شبابي وجميع أحلامي، طلبت منه أن يقطع الشارع ليصور لي بعض الأوراق، ومن شدة حبي له وحرصي عليه نزلت بنفسي ولما تأكدت من خلو الشارع من السيارات قلت له: اعبر، فإذا بسيارةٍ تمر بسرعة البرق تخطفه من أمامي، وتناثرت دماؤه على ثوبي وأنا أطالعه وأبكي وأصيح. وحينها والله تذكرت الكلبة وما فعلتُه بها قبل ثلاثين عاماً.
أحبتي في الله .. إن الله ينتقم للمظلوم ولو بعد حين؛ فهو سبحانه (يُمهِلُ ولا يُهمِل)؛ فهاهو ينتصر للحيوان من إنسانٍ ظلمه، فما بالنا نحن وقد انتشر بيننا ظلم الناس بعضهم لبعض؟! ألم نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾؟ ألم نفهم مقصود قوله سبحانه: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾؟ أم لا ننتبه إلى وعيده عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.
إن الله سبحانه وتعالى يُمهل من عصاه، ويُملي له، فإن تاب إلى ربه ورجع وآب كان ذلك رحمةً من الله تعالى عليه، وإن استمر في طغيانه كان ذلك استدراجاً له، لكن الله لا يهمله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

كتب أحدهم يقول: أيها الظالم إن الله (يُمهِلُ ولا يُهمِل)، اعلم أن دعوة المظلوم مستجابةٌ لا تُرد، مسلماً كان أو كافراً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ]، فالجزاء يأتي عاجلاً من رب العزة تبارك وتعالى، وقد أجاد من قال:
لا تظلمنَ إذا ما كنتَ مُقتدراً ...
فالظلمُ آخرُه يأتيكَ بالندمِ
نامت عيونُك والمظلومُ منتبهٌ ...
يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ
فتذكر أيها الظالم: قول الله عز وجل: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدَىً﴾، وقوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾. وتذكر أيها الظالم الموت وسكرته وشدته، والقبر وظلمته وضيقه، والميزان ودقته، والصراط وزلته، والحشر وأحواله، والنشر وأهواله. تذكر إذا نزل بك ملك الموت ليقبض روحك، وإذا أُنزلت في القبر مع عملك وحدك، وإذا استدعاك للحساب ربُك، وإذا طال يوم القيامة وقوفك. وتذكر أيها الظالم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ]. والاقتصاص يكون يوم القيامة بأخذ حسنات الظالم وطرح سيئات المظلوم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُن لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟]، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: [إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ].
إن الله سبحانه وتعالى (يُمهِلُ ولا يُهمِل)، ولا يحنث في وعده بنصر المظلومين والانتقام لهم ممن ظلموهم أياً كانت ملتهم، طال الزمن أم قصر، لا شيء يُنسى، ولا شيء يُترك، وكل شيءٍ محفوظٌ، صغيره قبل كبيره، وحقيره قبل عظيمه؛ فهذه سُنة الله في خلقه: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا﴾.

أحبتي .. ليتقي كلٌ منا الله سبحانه وتعالى ولا يظلم غيره .. كل واحدٍ منا معنيٌ بهذا الأمر، لا أستثني أحداً؛ فلا يجوز للرجل أن يظلم زوجته، ولا للأب أن يظلم أبناءه، ولا للأخ أن يظلم أخواته، ولا للرئيس أن يظلم مرؤوسيه، ولا للمدير أن يظلم موظفيه، ولا للمعلم أن يظلم طلابه، ولا للتاجر أن يظلم زبائنه. وبالإجمال؛ لا ينبغي لأي مسلمٍ رجلاً كان أو امرأةً أن يظلم إنساناً أو حيواناً أو طائراً، ولا أن يظلم شخصاً أياً كان دينه أو عمره أو لونه أو مكانته الاجتماعية. وليتذكر كلٌ منا أن الله سبحانه وتعالى بِعَدْلِه وقدرته (يُمهِلُ ولا يُهمِل).

اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين، اللهم نسألك أن تتوب علينا، وألا تؤاخذنا بسوء أفعالنا، ولا بما يفعله السفهاء منا. اللهم جَنِّبْنا أن نكون من الظالمين، وأَنِر بصائرنا حتى لا نؤازرهم أو نبرر أفعالهم أو أن نرضى عنهم ونميل إليهم فيشملنا وعيدك: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾. وأَلزِمنا اللهم سبيل العدل واجعلنا من أهله، ومن الداعين للتمسك به ونشره. اللهم امنحْنا التقوى، وارزقنا الرشاد، واهدنا وسَدِّدْ خُطانا على طريق الحق والخير يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/8mE3HV

الجمعة، 14 سبتمبر 2018

شؤم المعصية


الجمعة 14 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٢
(شؤم المعصية)

صديقٌ لي، في أوسط العمر، لا يكاد يخلو لقاءٌ أو مكالمةٌ هاتفيةٌ معه من ذكر مشاكله: فالأمراض قد تكالبت عليه، وسيارته لا تنفك في حاجةٍ إلى إصلاح، علاقته مع زوجته سيئةٌ، وابنه الوحيد متأخرٌ دراسياً، عمله لا هو مرتاحٌ فيه ولا يستطيع أن يتركه، مرتبه لا يسد احتياجاته، حتى ناديه الرياضي الذي يشجعه تسببت هزائمه المتوالية في إصابته بارتفاع في الضغط ويخشى أن تصيبه جلطةٌ من نتائجه السيئة!
ذكَّرني في آخر لقاءٍ جمع بيننا بالمقولة الشهيرة لوليم شكسبير: "المصائب لا تأتي فرادى كالجواسيس، بل سرايا كالجيش!"، فقلتُ له أن شعراء العرب قالوا هذا المعنى قبل أن يُولد شكسبير؛ فقد قال المتنبي:
مَصائِبُ شَتّى جُمّعَتْ في مُصيبَةٍ
ولم يَكفِها حتى قَفَتْها مَصائِبُ
وقال الشافعي:
محنُ الزمانِ كثيرةٌ لا تنقضي
وسرورُها يأتيكِ كالأعيادِ!
وقال كذلك:
تأتي المكارهُ حين تأتي جملةً
وأرى السرورَ يجيءُ في الفلتاتِ!
ثم باغتُّه بسؤالٍ لم يتوقعه مني: "كيف ترى علاقتك باللهِ سبحانه وتعالى؟"، رد باقتضابٍ: "عادية"، لم أرغب في إحراجه أو الضغط عليه؛ فاكتفيت بالقول: "راجع علاقتك بالله سبحانه وتعالى، أصلح ما بينك وبين ربك تنصلح بإذن الله أحوالك. قال بعض السلف: إني لأعصي الله، فأرى ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي، وها أنت تشكو من دابتك التي هي سيارتك، وتشكو من امرأتك التي هي زوجتك، فراجع نفسك وابتعد عن المعاصي والذنوب".
استأذن في الانصراف متعللاً بأن لديه موعداً قد تأخر عنه!

أحبتي في الله .. للمعاصي آثارٌ وخيمةٌ، ولها ما يُسمى (شؤم المعصية) التي أشار العلماء إلى أن من مظاهرها:
حرمان العلم؛ فإن العلم نورٌ يقذفه الله في القلب، والمعصية تُطفئ ذلك النور. وحرمان الرزق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرَجُلَ لَيُحْرَمُ اَلْرِزْقَ بِالْذَنْبِ يُصِيبُه]. ووحشةٌ تحصل للعاصي بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس. وتعسير أموره عليه؛ فلا يتوجه لأمرٍ إلا ويجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه. كما يجد العاصي ظلمةً في قلبه، يُحس بها كما يُحس بظلمة الليل، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سواداً يراه كل أحد. ويُحرم الطاعة؛ إذ تنقطع عنه بالذنب طاعاتٌ كثيرةٌ، كل واحدةٍ منها خيرٌ له من الدنيا وما فيها.
والمعاصي تزرع أمثالها، ويُولِّد بعضها بعضاً، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها. كذلك فإن المعاصي تُضعف القلب عن إرادته، فتقوى إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئاً فشيئاً. ثم ينسلخ من القلب استقباح المعصية فتصير له عادةً، لا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه. والذنوب إذا تكاثرت طُبِعَ على قلب صاحبها، فكان من الغافلين؛ كما في قوله تعالى: ﴿كَلّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

والمصائب التي تصيب الإنسان هي في الغالب نتيجةٌ لمعاصيه؛ قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾.
عندما يبتعد الإنسان عن سبيل الله وعن الطريق المستقيم فإنه يُسَّلِم نفسه للشيطان يقوده إلى أوخم العواقب وهو لا يشعر؛ فيكون من الأخسرين أعمالاً الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وأنهم مهتدون؛ يقول تعالى: ﴿الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾.
يقول العلماء إن الإعراض عن ذكر الله، بعدم الالتزام بالعبادات التي أوجبها علينا وبكثرة الذنوب والمعاصي، سببٌ في معاناة الإنسان وكثرة مشاكله وشقائه؛ فالله سبحانه وتعالى يتوعد أولئك الذين يُعرضون عن ذكره بالمعيشة الضنك في الحياة الدنيا وبالعقوبة في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.
والمعيشة الضنك تكون بأمورٍ كثيرةٍ يشعر بها العاصي في الدنيا؛ فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره؛ تجد صدره ضيِّقاً حَرَجاً لضلاله، وإن تنعَّم ظاهرُه، ولَبِسَ ما شاء وأكلَ ما شاء، وسكنَ حيث شاء؛ فإنَّ قلبه ما لم يَخْلُص إلى اليقين والهُدى فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشَكٍّ، فلا يزال في ريبه يتردَّد، فهذا من ضَنَك المعيشة.
إن آثار المعاصي والسيئات أمرٌ مشهودٌ في القلوب والأبدان والأموال، لا ينكره ذو بصيرة؛ فإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق. وذلك كله من (شؤم المعصية).
وفي المقابل نجد عز الطاعة في وعد الله سبحانه وتعالى من آمن به وعمل الصالحات بالحياة الطيبة في الدنيا وبحسن الجزاء في الآخرة؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾، ويقول عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، وفي هذا كما ذكر المفسرون وعدٌ من الله تعالى لمن عمل صالحاً بأن يحييه الله حياةً طيبةً في الدنيا، فسرها البعض بالرزق الحلال الطيب، وآخرون فسروها بالقناعة، وقال غيرهم أنها هي السعادة، والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله. إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق؛ إنها عز الطاعة التي أشار إليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: "مَنْ أَرَادَ عِزَّاً بِلا عَشِيرَةٍ، وَهَيْبَةً بِلا سُلْطَانٍ، وَغِنىً بِلا مَالٍ، فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَى عِزِّ طَاعَتِهِ".

إنهما طريقان لا ثالث لهما، يختار الإنسان لنفسه أحدهما؛ إما طريق المعصية، وإما طريق الطاعة .. إذا اختار طريق المعصية فليحذر قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسْرَى﴾، وإذا اختار طريق الطاعة فليستبشر بقوله تعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسْرَى﴾، وليعلم أن طريق الطاعة يبدأ بالمشقة والمكاره، لكنها ما تلبث أن تزول ويحل محلها إحساسٌ بالراحة والطمأنينة، على عكس طريق المعصية الذي يبدأ بالشهوات والملذات لكن نهايته الخسران المبين؛ يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ]. وفي هذا المعنى يقول أحد الصالحين: "إن مشقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها، وإن لذة المعاصي تذهب ويبقى عقابها، فانظر أيهما تختار لنفسك". ولأن الصبر مطلوبٌ ومهمٌ فقد قيل:"‏الصبر على الطاعة أعلى مقاماً من الصبر على البلاء؛ لأن الصبر على الطاعة صبر اختيارٍ، والصبر على البلاء صبر اضطرار".

أحبتي .. المسلم الذكي يختار لنفسه طريق الطاعة ويصبر على مشقتها، وهو يعلم يقيناً أنه الطريق إلى مرضاة الله فتكون له المعيشة الطيبة في الحياة الدنيا، ويكون في الآخرة من الفائزين.
علينا أحبتي أن نراجع دائماً علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، فنقلل من ذنوبنا وسيئات أعمالنا؛ لنبعد عن أنفسنا (شؤم المعصية)، ونزيد من طاعاتنا؛ لنضمن الفوز بثمراتها في الدنيا والآخرة؛ فهي السبيل إلى الحياة الطيبة، وهي السبيل إلى تحصيل مرضاة الرب عزَّ وجلَّ والبعد عن سخطه وغضبه والفوز برضوانه ونعيمه المقيم.

هدانا الله وإياكم للبعد عن السيئات، والمحافظة على العبادات، والتقرب إلى الله بالنوافل والأعمال الصالحة والطاعات عسى أن يتقبل الله منا ومنكم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/BUv7Ye

الجمعة، 7 سبتمبر 2018

لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ


الجمعة 7 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥١
(لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ)

كتب يقول: منذ أن بدأت أعفي لحيتي وأنا أعاني من التصنيف ووُضعت في خانة {شيخ}؛ أركب وسيلة المواصلات يسألني السائق: أين تنزل يا {شيخ}؟"، لو أخطأت، فأنا بشرٌ، أجد من يقول لي: "عيبٌ عليك أن تخطئ وأنت {شيخ}"، لو تعصبت وتضايقت أجد من يقول لي: "كيف تتعصب وأنت {شيخ}؟". حتى حُرمت من أن أكون إنساناً يجوز له أن يخطئ ويُذنب ويتوب ويتقبل الله توبته.
أنا لست {شيخاً}، ولا حتى طالب علمٍ، أنا مسلمٌ أعانني الله أن أفعل شيئاً من الدين لا تفعله أنت، وقد تفعل أنت من الدين ما لا أستطيع أنا أن أفعله. قد تكون أنت أفضل مني عند الله مئة مرة،
وقد أفعل ذنوباً لا تفعلها أنت والله يسترني.
علينا أن نتعامل مع الناس بسلوكياتهم وأخلاقهم وليس بمظهرهم، وعلينا أن ننظر إلى أخطاء غيرنا باعتبارهم بشراً وليسوا ملائكةً معصومين.

أحبتي في الله .. عندما قرأت ما كتب هذا الشاب الملتحي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، استدعت ذاكرتي أمثلةً أخرى لتصرفاتٍ تصدر من بعضنا: كعدم الصبر على تجاوزات أو أخطاء بعض الأطفال الصغار أثناء صلاة الجماعة في المسجد، التعليقات غير الحكيمة نقولها لفتاةٍ ربما ترتدي الحجاب لأول مرة، محاسبة شابٍ ملتحٍ على أخطاء بسيطةٍ أو هفواتٍ أو تقصير. رُبَّ كلماتٍ نقولها لهم بقسوةٍ تنفرهم من المسجد، أو من الصلاة، أو من ارتداء الحجاب، أو من إطلاق اللحية. وربما بسبب كلمةٍ غير مناسبةٍ منا أو تصرفٍ غير حكيمٍ ابتعد بعضهم عن طريق الهداية وسبيل الرشاد.
لماذا تسبق كلماتنا القاسية الجارحة أحياناً كلماتنا الحانية المسامحة؟ ولماذا نقسو على غيرنا لمجرد هفواتٍ بسيطةٍ صدرت منهم نتيجة جهلٍ أو قلة فهمٍ أو عدم انتباهٍ أو لظروفٍ خاصةٍ لا ندري عنها شيئاً؟ ماذا إذن لو كان ما صدر منهم أكبر وأعظم من تلك الهفوات البسيطة؟
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ﴾، الله سبحانه وتعالى يغفر لمن فعلوا الفواحش والكبائر، فما بالنا نحن لا نغفر لمن يرتكب الهنات والهفوات والصغائر، ولا نتسامح مع من قصَّر أو زلَّ أو أخطأ؟!

تذكرت موقفاً لرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يُعلم فيه أصحابه رضي الله عنهم، ويوجهنا ويرشدنا؛ فقد أُتِيَ للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، يقول الراوي من الصحابة: فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: "أَخْزَاكَ اللَّهُ"، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ].وفي روايةٍ قال عليه الصلاة والسلام: [وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ]، وفي روايةٍ قال: [لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ، وَلَكِنْ قُولُوا: رَحِمَكَ اللَّهُ]؛ ذلك لأنَّ الشيطان يريد بتَزْيينه المعصية للعاصي أن يحصلَ له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي، فكأنهم قد حَصَّلوا مقصود الشيطان. ولأن العاصي إذا سمع إخوانه يدعون عليه بمثل ذلك ازداد في عتوّه ونفوره، وأخذته العزّة بالإثم، ولربما أيس من رحمة الله فانهمك في المعاصي والموبقات، ولذلك جاء التوجيه النبوي بأن قولوا: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ". هذا التوجيه النبوي للتعامل مع صاحب الكبائر، فأين نحن من هذا التوجيه مع صاحب الصغائر؟!
المؤمن الصادق إذا رأى صاحب معصيةٍ، حمد الله عزَّ وجلَّ في نفسه أن عافاه الله منها، ودعا للمبتلى بها بالتوبة، لا يسبه، ولا يشتمه، ولا يلعنه، ولا يُشهِّر به، فهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فلنساعد الناس ونأخذ بأيديهم ليسلكوا طريق التوبة والمغفرة بالمنهج القرآني العظيم: ﴿ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾، لا نُنَصِّب أنفسنا قضاةً على غيرنا ولا نقسو عليهم، وإنما علينا أن نعفو ونصفح لننال مغفرة الله ورحمته سبحانه وتعالى؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿... وَليَعفوا وَليَصفَحوا أَلا تُحِبّونَ أَن يَغفِرَ اللَّهُ لَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ﴾. ولا ننسى ما كنا نحن عليه قبل أن يمن الله علينا بالهداية؛ يقول عزّ وجلّ: ﴿.. كَذلِكَ كُنتُم مِن قَبلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيكُم فَتَبَيَّنوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعمَلونَ خَبيرًا﴾، ولنتذكر دائماً التوجيه النَّبَوي الكريم (لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ)؛ فهو منهجٌ قويمٌ في التعامُل مع أصحاب المعاصي.
وفي الحديث القدسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلِيَّ أنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"]. فمَنِ الذي يعلم ما يؤول إليه حال ذلك العاصي غير الله؟! فقد يختم له بخيرٍ، ويختم لمن يقسو عليه بشرٍّ؛ ففي الحديث: [فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُه إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا].
ما أجملَ أن يستشعرَ الإنسان حال توجيه اللَّوم لأخيه العاصي أنه مكانه؛ لو كان الناصح هو الشخص المبتَلَى فماذا يحب أن يسمعَ؟ وكيف يريد مَن حوله أن يتعامَلُوا معه؟ ما أجملَ قاعدةَ: "ضع نفسك مكانه" إذا ما اقترنت بتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام (لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ).
صدق الله سبحانه وتعالى حين يقول: ﴿فَبِما رَحمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَليظَ القَلبِ لَانفَضّوا مِن حَولِكَ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغفِر لَهُم ...﴾. هذا هو المنهج للتوجيه والإصلاح: أن نرحم ونلين ونبتعد عن الفظاظة والغلظة في القول أو الفعل، ونعفو ونصفح ونستغفر وندعو للمقصرين والمذنبين بالهداية، ونحنو عليهم؛ وإلا ضاع منا أطفالٌ وفتيةٌ وشبابٌ كانوا في بداية طريق الإيمان فانفضوا من حولنا، وابتعدوا عن جادة الصواب والطريق المستقيم لقسوتنا وكلماتنا الجارحة وتصرفاتنا غير الحكيمة.
يقول أحد الوعاظ: "واجبنا نصح العاصي وليس الازدراء منه أو تحقيره أو الاستهزاء به أو التعالي عليه؛ فربما أوقعك تعاليك عليه في نفس ما وقع هو فيه. كن ناصحاً رفيقاً، ودع عنك الكبر والاستهزاء والتعالي".
علينا إذن بمكارم الأخلاق التي قال الشاعر عنها:
إن المكارمَ أخلاقٌ مطهرةٌ
الدينُ أولها والعقلُ ثانيها
والعلمُ ثالثها والحلمُ رابعها
والجودُ خامسها والفضلُ ساديها
والبرُ سابعها والشكرُ ثامنها
والصبرُ تاسعها واللينُ باقيها

أحبتي .. فلنبدأ نحن بأنفسنا أولاً؛ فنصلح من عيوبنا، ثم نرتقي لنكون المثال والقدوة لغيرنا في القول والعمل. ثم إن علينا أن نُعِين غيرنا وقد بدأوا في وضع أقدامهم على الطريق الصحيح، طريق الإيمان والاستقامة، نساعدهم ونأخذ بأيديهم، ونتعامل معهم بحكمةٍ، ونصبر عليهم، ونتجاوز عن هفواتهم، ولا نعين الشيطان عليهم بلعنهم أو تحقيرهم أو الإساءة إليهم، بل ننصح المقصرين والمذنبين، ملتزمين بالمنهج القرآني، متأسيين في التعامل معهم بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام. تذكروا أحبتي، عندما ترون من أخطأ أو زلَّ أو قصَّر، قول خير البشر (لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ)؛ لا تلعنوه، لا تدعو عليه، وإنما ادعوا له.
ولنعلم أن كل كلمةٍ قاسيةٍ جارحةٍ لها كلمةٌ طيبةٌ رقيقةٌ حانيةٌ مرادفةٌ لها، تؤدي ذات المعنى، فلنتخير كلماتنا، ونتلطف في أقوالنا، امتثالاً لأمر الله: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾، ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؛ فبذلك تتحقق الألفة، وينتشر الخير وتسود المحبة والمودة.

اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا هداةً مهديين. اهدنا إلى أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت سبحانك. وألهمنا اللهم الحِلم والصبر والحكمة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/oh6Xco

الجمعة، 31 أغسطس 2018

عن الصدق والصادقين


الجمعة 31 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٠
(عن الصدق والصادقين)

تقول الأسطورة الروسية أن الصدق والكذب التقيا من غير ميعادٍ، فنادى الكذب على الصدق قائلاً: "طقس اليوم جميل". نظر الصدق حوله، نظر إلى السماء، فوجد الطقس جميلاً حقاً.
قضيا معاً بعض الوقت، حتى وصلا إلى بحيرة ماءٍ، أنزل الكذب يده في الماء ثم نظر للصدق وقال: "الماء دافئٌ وجيدٌ، فإذا أردت يمكننا أن نسبح معاً؟".
ويا للغرابة؛ كان الكذب محقاً هذه المرة أيضاً، فقد وضع الصدق يده في الماء فوجده دافئاً وجيداً.
قاما بالسباحة بعض الوقت، وفجأةً خرج الكذب من الماء، ثم ارتدى ثياب الصدق وولى هارباً واختفى.
خرج الصدق من الماء غاضباً عارياً، وبدأ يركض في جميع الاتجاهات بحثاً عن الكذب لاسترداد ملابسه. الناس الذين رأوا الصدق عارياً أداروا نظرهم من الخجل والعار. أما الصدق المسكين، فمن شدة خجله من نظرات الناس إليه عاد إلى البحيرة واختفى هناك إلى الأبد.
ومنذ ذلك الحين يتجول الكذب في العالم كله لابساً ثياب الصدق، محققاً كل رغبات الناس، والناس لا يريدون بأية حالٍ أن يروا الصدق عارياً.
حقاً أصبح الكذب يتجول في كل مكان بثباتٍ كما لو كان صدقاً!

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه الأسطورة بقول الشاعر:
الكذبُ راقَكَ أنه متجملٌ
والصدقُ ساءكَ أنه عريانُ
من ساءَ من مرضٍ عضالٍ طبعهُ
يستقبحُ الأيامَ وهي حسانُ
وببيت شعرٍ آخر يقول:
والصدقُ يبرزُ في المحافلِ عارياً
والكذبُ لا يكفيهِ ألفُ ستارِ

أثارت الأسطورة في ذهني بعض أسئلةٍ منها: هل اختفى الصدق حقيقةً؟ هل يتشح الكذب بثياب الصدق فعلاً؟ هل لا يريد الناس أن يروا الصدق عارياً؟ وهل يحبون رؤية الكذب الذي يُقدَم إليهم مرتدياً ثياب الصدق؟

(عن الصدق والصادقين) تتفاوت الآراء وتتابين؛ إذا اعتقد البعض أن الصدق قد اختفى، اختلفتُ في الرأي معهم؛ فلا أعتقد أبداً أن الصدق قد اختفى، أو أنه يمكن أن يختفي إلى الأبد. وإذا ظن البعض أنه لا وجود في عالم اليوم للصادقين فأنا لا أشاطرهم الرأي؛ الصادقون كانوا وسيظلوا موجودين، وإن قَلَّ عددهم وخفتت أصواتهم، وخفَّ تأثيرهم.
أما الناس فإن منهم من يميلون مع الهوى ويصدقون الكاذبين؛ فيرتاحون إلى من يُزين لهم أعمالهم، تماماً كما يفعل الشيطان مع الإنسان ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾؛ فيصدقون من يتوهمون أنه يحقق لهم مصالحهم حتى ولو كان كاذباً؛ وما قصة خروج آدم عليه السلام من الجنة إلا مثالٌ على ذلك؛ حينما كذب الشيطان على آدم عليه السلام وقال له: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ﴾. المشكلة ليست في أن يكذب الشيطان، المشكلة في أن هناك من يصدق كذبه ويظنه الصدق؛ فمن الناس من يُخدَع بمن يُحسِن الكلام ويُـشهد الله على ما في قلبه فيصدقونه وهو كاذب؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾.
ومن الناس من أدمن الكذب، هؤلاء لأنهم عودوا أنفسهم على الكذب في الدنيا تراهم يحلفون لله يوم القيامة، وهم وقوفٌ بين يديه عزّ وجلّ، يحلفون له سبحانه بالكذب كما كانوا يحلفون للناس! يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾.

و(عن الصدق والصادقين) يقول أهل العلم إن الصدق من صفات الله عز وجل؛ قال سبحانه: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾. والصدق من صفات الأنبياء والرسل: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾؛ فهذا إبراهيم عليه السلام دعا الله سبحانه وتعالى وقال: ﴿.. اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾، فاستجاب له ربه ووهبه الصدق ووصفه به: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾، ووصف إدريس عليه السلام بذات الصفة: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ..﴾. ووهب سبحانه لكلٍ من إبراهيم وإِسْحَاق وَيَعْقُوب عليهم السلام لسان صدقٍ عليا: ﴿.. وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾. ووصف عزّ وجلّ إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾، أما يوسف عليه السلام فسُمي صديقاً من كثرة وشدة صدقه: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ..﴾.
وأمر الله نبينا الكريم أن يسأله الصدق في المُدخَل والمُخرَج، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم معروفاً بالصدق في قومه، قبل البعثة، فلُقِّب بالصّادق الأمين، حتى إنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما صَعِدَ عَلَى جبل الصَّفَا، للجهر بالدعوة قال لبطون قريشٍ: [أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟]، قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقاً، وفي روايةٍ: ما جربنا عليك كذباً. وبعد البعثة المباركة جاء الوحي ليثبت صفة الصدق فيه عليه الصلاة والسلام؛ قال عزّ وجلّ: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ..﴾.
ولقد أمرنا الله تعالى بالصدق فقال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، وحثنا على الصدق في الشهادة ولو على أنفسنا أو الوالدين أو الأقربين؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ..﴾، وقال: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾، ونهانا عن الكذب؛ فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، وكتب عدم الفلاح على الكاذبين؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: [عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقاً. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً].
ولما للصدق من رابطةٍ قويةٍ بالإيمان، فقد جوّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتصف المؤمن بما لا يُحمد من الصفات إلا أن يكون كاذباً؛ فقد سأل الصحابة فقالوا: يا رسول الله أيكون المؤمن جباناً؟ قال: [نعم]، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: [نعم]، قيل له: أيكون المؤمن كذَّاباً؟ قال: [لا].

يقول الشاعر (عن الصدق والصادقين):
الصدقُ أفضلُ شيءٍ أنت فاعلهُ
لا شيءَ كالصدقِ لا فخرٌ ولا حسبُ
ويقول آخر:
والمرءُ ليس بصادقٍ في قولهِ
حتى يؤيدَ قولهُ بفعالهِ
وهذا ثالثٌ يقول:
الصدقُ من كرمِ الطباعِ وطالما
جاءَ الكذوبُ بخجلةٍ ووجومِ
ويقول رابعٌ:
ألا إن الصدوقَ ينالُ خيراً
ويكتسبُ الفضائلَ والسيادة

أحبتي .. أتأمل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ وأقول في نفسي: "إذا كان أهل الصدق سيُسألون، فيكف يكون السؤال والحساب لأهل الكذب؟!".
تذكروا أحبتي هذه الحكمة ولا تنسوها أبداً: "الصدق في أقوالِنا أقوى لنا، والكذب في أفعالِنا أفعى لنا".
عليكم بالصدق، التزموه قولاً وعملاً، وربوا أبناءكم عليه، فالخير، كل الخير، في اتباعه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾، احذروا الكذب وحَذِّروا أبناءكم منه؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُون﴾. علموهم أن الصدق من صفات المؤمنين؛ قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾، وقال سبحانه:﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾، وأخبروهم أن في الصدق سكينة الروح وراحة النفس وطمأنينة القلب؛ قال عليه الصلاة والسلام: [… فإن الصدق طمأنينةٌ، والكذب ريبةٌ].
واسعوْا واجعلوهم يسعوْن معكم للفوز بثمرة الصدق: الجنة ومرضاة الله، وذلك هو الفوز العظيم؛ يقول تعالى: ﴿هَذَا يَوْم يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

اللهم اجعلنا مع الصادقين، وحبب إلينا الصدق حتى ننال مرتبة الصديقين فنحظى برضاك ورضوانك ونكون من الفائزين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/KhHzAy