الجمعة، 9 ديسمبر 2016

وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ

الجمعة 9 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦١
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)

سألني حفيدي الذي لم يتجاوز عمره أربع سنوات: "جدي، ما معنى كلمة عظيم؟"، أجبته باختصار: "عظيم تعني كبير جداً"، ليتأكد من فهم المعنى سألني: "إذن عشرة جنيهات مبلغ عظيم، أليس كذلك يا جدي؟"، قلت موضحاً: "بالنسبة لك هي كذلك، لكن الأمر يختلف من شخص لآخر حسب عمره ومدى غناه أو فقره" .. أردت أن أبسط له مفهوم النسبية قدر إمكاني.
تذكرت هذا الموقف قبل أيام، وكنت أتلو سورة القلم، حينما وصلت للآية الكريمة:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، التي يصف بها المولى سبحانه وتعالى خُلُق رسوله الكريم، استوقفتني كلمة "عظيم"، قلت في نفسي إذا كان الله سبحانه وهو "العظيم" يصف خُلُق الرسول بأنه "عظيم"، فكيف تكون حقيقة هذه العظمة؟ وكيف لنا أن نتصور مقدارها؟
إذا كانت الأوصاف نسبية تختلف باختلاف البشر، وتختلف من زمان لزمان ومن مكان لآخر، فكيف إذا كان الواصف هو خالق البشر المتحكم في الزمان والمكان كيفما شاء؟ وكيف إذا كان الموصوف هو سيد البشر؟ فكيف لنا بمقاييسنا البشرية القاصرة أن نقارن بين صفة "عظيم" إذا أطلقها العباد، وصفة "عظيم" عندما يطلقها رب العباد ؟! مهما اجتهدنا كبشر فلن نصل إلى فهم وتصور واستيعاب صفة "عظيم" التي وصف بها العظيم سبحانه وتعالى خُلُق المصطفى عليه الصلاة والسلام، يكفي أنه سبحانه هو من خلق العظمة ذاتها وأوجدها من عدم!
﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، لم يكتفِ العزيز الحكيم بوصف خُلُق رسوله الكريم بالعظمة، بل ووضع نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام  فوق كل خُلُق عظيم، جعله أعلى من كل خُلُق عظيم، وكأنما أُوتي بكل خُلُق عظيم فجُمع بعضه فوق بعض ثم جيء برسولنا الكريم ليكون فوق كل هذا الخُلُق. لم يقل المولى سبحانه: إن خُلُقُك يا محمد عظيم، بل قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، بمعنى أنك يا محمد تعلو وترتفع وترقى عن كل خُلُق عظيم يعلمه البشر أو لا يعلمونه! لست فوق أي خُلُق وإنما فوق ما هو عظيم منها بمقياسنا الإلهي الذي لا يمكن لبشرٍ أن يدرك حدوده وأبعاده، إلا كما يدرك طفل صغير أن الجنيهات العشرة مبلغ عظيم!
﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ حقاً وصدقاً، فرسولنا الكريم معلم الأخلاق والقيم؛ قال المولى سبحانه وتعالى فيه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّه أُسْوَة حَسَنَة﴾، إنه رسولنا وأسوتنا الحسنة، وأن يصفها الله سبحانه وتعالى بأنها "حسنة" فهي كل الحُسن كما نتصور وكما لا نتصور، إنها الحُسن كله تَجَمَّع في حبيبنا وشفيعنا وسيدنا رسول الله.
لِمَ لا وقد نشأ الحبيب صلى الله عليه وسلم متحلياً بكل خلقٍ كريم، مبتعداً عن كل وصفٍ ذميم، يُضرب به المثل في الصدق والأمانة فكانت قريش قبل الرسالة تطلق عليه لقب "الصادق الأمين"، أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكان أرجح الناس عقلاً، وأكثرهم أدباً، وأوفرهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأكثرهم حياءً، وأوسعهم رحمةً وشفقةً، وأكرمهم نفساً، وأعلاهم منزلةً؛ فكلُ خُلُقٍ محمودٍ له منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكلُ وصفٍ مذمومٍ هو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه، شهد له بذلك القاصي والداني، والعدو قبل الصديق.

أحبتي في الله .. اختص الله سبحانه وتعالى نبينا الكريم بكل السمات الطيبة والصفات الكريمة، وصفه هو والمؤمنين معه بالرحمة؛ قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قبَّل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: "إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا"، فنظر إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم قال: [من لا يَرحم لا يُرحم]. وقال صلوات الله وسلامه عليه للمشركين يوم فتح مكة: [أقول كما قال يوسف: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين"]. هذه بعض صور رحمته بالبشر، أما رحمته بالحيوان، فمنها قوله: [عُذبت امرأةٌ في هرةٍ حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض].
اختصه الله سبحانه وتعالى بصفتين من صفاته لم يصف بهما أحدًا غيره من البشر أو الأنبياء، "رؤوف" و"رحيم"، كان رحيماً بالمؤمنين حريصاً على ألا يشق عليهم أو يعنتهم؛ قال عز وجل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾. وامتدت رحمته عليه الصلاة والسلام لتشمل غير المؤمنين، فقد كان يشق عليه كُفر مَن كَفَر، وإعراض من أعرض؛ قال سبحانه: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾، أي أنك تُهلك نفسك متأسفًا على كفرهم وإعراضهم.
أرسله الله عز وجل رحمةً لجميع البشر مؤمنهم وكافرهم؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
ووصفه الله سبحانه وتعالى بأوصاف أخرى منها أنه شاهدٌ ومبشرٌ ونذيرٌ، وأنه داعٍ إلى الله وأنه سراجٌ منير؛ يقول عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا*وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾، ونفى عنه المولى الضلال؛ قال سبحانه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ﴾، وأثبت له السداد والرشاد وأنه على صراط مستقيم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ*عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
كرمه ربه فلم يُخاطبه بشخصه ولم يناده باسمه وإنما كانت مناداته بالنبوة والرسالة، بخلاف ما خاطب به تعالى أنبياءه السابقين؛ فقال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، بينما نادى سبحانه وتعالى أنبياءه بأسمائهم؛ قال لآدم: ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾، وقال لنوح: ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ﴾، وقال لإبراهيم: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾، وقال لموسى: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، وقال لعيسى: ﴿يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾.
ومن تكريم المولى عز وجل لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه يبعثه يوم القيامة مقامًا محمودًا؛ قال تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾، والمقام المحمود الذي اُختص به رسولنا الكريم هو مقام الشفاعة، وهو مقام لم ينله أحدٌ غيره؛ فالناس يكونون يوم القيامة جالسين على ركبهم، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع ! يا فلان اشفع ! حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يومَ يبعثه الله المقام المحمود.
وهل من تكريمٍ أكثر من أن يصلي الله سبحانه وتعالى وملائكته على النبي المصطفى ويأمرنا بالصلاة عليه وأن نسلم تسليماً؟ قال تعالى: ‏﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏﴾.
وهل من تكريمٍ أكثر من أن نؤمر بأن نأخذ بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وننتهي عما نهى عنه؟ قال عز وجل: ‏﴿‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا‏﴾، وجعل طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام من طاعته؛ قال سبحانه: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾.
وهل من تكريمٍ له أكثر من تكون محبة الله جل جلاله وغفرانه لذنوبنا في اتباعه عليه الصلاة والسلام؟ قال سبحانه:﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

أحبتي في الله .. هذا هو رسولنا المختار المصطفى عليه الصلاة والسلام، سيد ولد آدم، خير الخلق كلهم، خاتم الأنبياء والرسل، النبي الكريم محمد بن عبد الله، زكاه ربه فأحسن تزكيته؛ زكَّاه في كل شيء: زكَّاه في عقله فقال جل وعلا: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾، وزكَّاه في بصره فقال جل وعلا: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾، وزكاه في فؤاده فقال جل وعلا: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾، وزكَّاه في صدره فقال جل وعلا:﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، وزكَّاه في ذِكْره فقال جل وعلا: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾، وزكَّاه في طُهره فقال جل وعلا: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾، وزكَّاه في صِدقه فقال جل وعلا: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾،وزكَّاه في عِلمه فقال جل وعلا:﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾، وزكَّاه في حِلمه فقال جل وعلا: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، وزكَّاه في خُلُقِه كلِه فقال جل وعلا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. وقال هو عن نفسه: [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق].
هذا هو نبينا المصطفى الذي وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: "كَانَ خُلُقُهُ القُرآنُ، يَرضَى لِرِضَاه، وَيَسخَطُ لِسَخَطِهِ"، وفي ذلك يقول أهل العلم: "يعني أنه كان يتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه، فما مدحه القرآن كان فيه رضاه، وما ذمه القرآن كان فيه سخطه".

قال في وصفه شاعره حسان بن ثابت:
أَغرّ عليه للنبوةِ خاتمٌ
من اللهِ مشهودٌ يلوحُ ويشهدُ
وضَمَّ الإلهُ اسمَ النبيِ إلى اسمِه
إذا قالَ في الخمسِ المؤذنُ أشهدُ
وشَقَّ له من اسمِه ليُجِّلَه
فـذو العرشِ محمودٌ وهذا محمدُ
وقال فيه الإمام البوصيري قصيدته الشهيرة "البردى"، ومن أبياتها:
محمدٌ سيدُ الكونين والثقلين
والفريقين مِن عُرْبٍ ومِنْ عَجمِ
هو الحبيبُ الذي تُرجى شفاعتُه
لكلِ هولٍ مِنَ الأهوالِ مُقتحمِ
فاقَ النبيين في خَلْقٍ وفي خُلـُقٍ
ولم يدانوه في علمٍ ولا كَرمِ
وقال فيه أحمد شوقي قصيدته "نهج البردى"، ومن أبياتها:
محمدٌ صفوةُ الباري، ورحمتُه
وبُغيَةُ اللهِ من خَلْقٍ ومن نَسَمِ
البدرُ دونكَ في حُسنٍ وفي شَرفٍ
والبحرُ دونك في خيرٍ وفي كرمِ
يا ربِّ، أَحسنتَ بَدءَ المسلمين به
فتمِّم الفضلَ وامنحْ حُسنَ مُخْتَتَمِ
ونظم فيه شوقي قصيدة "وُلِدَ الهُدى"، قال فيها:
وُلِدَ الهُدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ
يا خَيرَ مَن جاءَ الوُجودَ تَحِيَّةً
مِن مُرسَلينَ إِلى الهُدى بِكَ جاؤوا
بِكَ بَشَّرَ اللَهُ السَماءَ فَزُيِّنَت
وَتَضَوَّعَـت مِسكاً بِكَ الغَبراءُ
وفي قصيدة "سلوا قلبي" قال شوقي:
أَبا الزَهراءِ قَد جاوَزتُ قَدري
بِمَدحِكَ بَيدَ أَنَّ لِيَ انتِسابا
فَما عَرَفَ البَلاغَةَ ذو بَيانٍ
إِذا لَم يَتَّخِذكَ لَهُ كِتابا
مَدَحتُ المالِكينَ فَزِدتُ قَدرًا
فَحينَ مَدَحتُكَ اقتَدتُ السَّحابا
وقال الحلاج مادحاً إياه:
واللهِ ما طلعت شمسٌ ولا غَرُبت
إلا وحُبّـك مقرونٌ بأنفاسي
ولا خَلوتُ إلى قومٍ أُحدّثهم
إلا وأنتَ حديثي بين جُلاسي
ولا ذكرتُك مَحزوناً ولا فَرِحاً
إلا وأنتَ بقلبي بين وسْواسِي

أحبتي .. هذا هو رسولنا المصطفى، الوحيد من البشر في هذا الكون، منذ الأزل وإلى الأبد، الذي دُوِّنَ له كل قولٍ قاله ووُصف عنه كل فعلٍ فعله أو امتنع عن فعله، وهذه بعضٌ من أخلاقه العظيمة وشمائله الكريمة .. علينا أن نتأسى به ونقتدي بأخلاقه وصفاته؛ فهو نبينا وقدوتنا وأسوتنا الحسنة، وهو من نزل فيه وصف المولى عز وجل (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وليكن حبنا له في طاعته والالتزام بسنته؛ فكما قال الإمام الشافعي:
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ
إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

عذراً سيدي رسول الله كيف أوفيك حقك وقد اضطررت إلى التقصير؟ وعذراً أحبتي على الإطالة!

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إن أَذِن الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.


https://goo.gl/Tdw1Ut

الجمعة، 2 ديسمبر 2016

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ

الجمعة 2 ديسمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٦٠
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)

يُروى أن الإمام أحمد ابن حنبل كان في مدينة غريبة لا يعرفه أهلها، وقرر بعد أن بلغ به التعب مبلغه بعد صلاة العشاء أن ينام في المسجد، فرآه حارس المسجد ورفض أن يمكث فيه، فقال الإمام سوف أنام موضع قدمي فقط، ونام الإمام موضع قدمه، فقام الحارس بسحبه من قدميه وأخرجه من المسجد، وكان الإمام أحمد شيخاً وقوراً تبدو على وجهه ملامح التقوى والصلاح، فلما رآه خباز بهذه الهيئة عرض عليه أن يحضر لينام في منزله، فذهب معه، ولاحظ الإمام أحمد أن الخباز وهو يقوم بعمله في عجن العجين لا يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فاستأذنه أن يسأله سؤالاً، فقال له هل وجدت لهذا الذكر من ثمرة؟، أجابه الخباز: نعم .. أنا والله كلما دعوت الله دعوة استجابها لي، ما عدا دعوة واحدة، قال له الإمام أحمد وما هي هذه الدعوة التي لم تُستجب؟ قال الخباز: دعوت الله أن يريني الإمام أحمد بن حنبل، فقال الإمام: أنا الإمام أحمد بن حنبل، والله إني جُررت إليك جراً!
تنتشر هذه القصة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة رغم عدم التأكد من مدى صدقها، وسواءً وقعت بالفعل أو كانت مختلقة، فإنها توجهنا إلى أهمية ذكر الله، وإلى أن وعد الله سبحانه وتعالى حق حين قال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

أحبتي في الله .. يقول العارفون أن الذكر هو كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرِّب إلى الله. وهو يُقال لحضور الشيء القلب أو القول، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان. ويكون الذكر بالقلب واللسان تارةً، وذلك أفضل الذكر، وبالقلب وحده تارةً، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارةً، وهي الدرجة الثالثة. وذِكرُ الله عز وجل هو خير الأعمال وأزكاها وأفضلها، وهو من أجلّ الطاعات، وباب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته، وروح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه. والذكر منه ما هو حمدٌ، ومنه ما هو ثناءٌ، ومنه ما هو تمجيدٌ.
وذكر الله حياةٌ للقلب، وسبيلٌ لانشراح الصدر، به تُجلى الكروب، وتزول الهموم، وتُطرد الشياطين، به تُستدفع الآفات، وتُستكشف الكربات، وتهون المصائب والملمات، به يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار، زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين.
حثنا ديننا الحنيف على ذكر الله وأن يتصل المسلم بربه؛ فيحيا ضميره وتزكو نفسه ويتطهر قلبه، ويستمد من ربه العون والتوفيق.
أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالإكثار من ذكره في كل وقت؛ قال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً*وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾، وطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام خفض الصوت وعدم الجهر به عند ذكره؛ قال تعالى: ﴿وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ﴾، ومَدَح أصحاب العقول السليمة الذين يذكرونه في كل أحوالهم؛ في حال قيامهم أو قعودهم أو على جنوبهم؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَـٰتٍ لأوْلِى ٱلألْبَـٰبِ*ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وحث المؤمنين ألا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم، لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق؛ قال تعالى: ﴿لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَاء ٱلزَّكَـوٰةِ﴾، ووعد سبحانه الذين يكثرون من ذكره بالمغفرة والأجر العظيم؛ فقال: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾، وأخبر المؤمنين أن الذكر يجعل قلوبهم مطمئنة؛ قال تعالى:﴿الذين آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وبيَّن جل شأنه أن الذكر الكثير سبب من أسباب الفلاح؛ فقال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، كما قال سبحانه واعداً من يذكرونه بذكره لهم: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، وأكد ذلك في الحديث القدسي؛ فقال سبحانه وتعالى: {أنا مع عبدي إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم}يعني بهم الملائكة؛ فكيف لعبد منا أن يستغني عن الذكر الذي يقربه إلى الله، ويجعل الله يذكره ويثني عليه في الملأ الأعلى؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى: {من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين}.
وفي السنة المطهرة قال النبي عليه الصلاة والسلام: [ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيراً لكم من إعطاء الذهب والورق، وخيراً لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل]. كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم]، وقال عليه الصلاة والسلام: [من قال سبحان الله وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة]، وقال صلى الله عليه وسلم: [أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله]، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم العبد مع ذكر الله بالذي خرج في طلبه أعداءٌ يريدون قتله فأوى إلى حصن حصين فنجا منهم، قال: [وكذلك ذكر الله عز وجل هو حصن المسلم] الذي يتحصن به من أعدائه من شياطين الإنس والجن، فينبغي للمسلم أن يلازم ذكر الله بلسانه وبقلبه وبأفعاله.
وأعظم الذكر ما كان في الصلاة، ولهذا فرضها الله في اليوم والليلة خمس مرات لحاجة العباد إليها؛ فهي تجمع من الأذكار ما لا يجتمع في غيرها، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.

أحبتي .. في حال الغفلة عن ذكر الله عز وجل ينشط الشيطان وتزيد ذنوب الإنسان، كبائرها وصغائرها؛ فالتارك للذكر الناسي له ارتضى لنفسه أن يتخذه الشيطان قريناً، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، أما المعرض عن ذكر الله فهو يعاني من ضنك العيش في الحياة الدنيا، وفي الآخرة يُحشر أعمى؛ قال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾. إن الغفلة عن ذكر الله عز وجل تبعد المسلم عن كمال الإيمان؛ قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾.
يقول أهل العلم أن ذكر الله تعالى يمنح الإنسان قوةً واطمئناناً في عمل القلب، وشفاءً من معظم الأمراض التي سببها القلب، وتنشيطاً للخلايا، وقدرةً أفضل على التنفس، وتخفيفاً للإجهاد عن أعضاء الجسد وبخاصة الدماغ، وتخلصاً من الخوف والقلق والتوتر والاضطرابات النفسية وهموم الحياة والغم والحزن، ومساعدةً على النوم لمن يعاني من الأرق واضطرابات النوم، وزيادةً في الثقة بالنفس، ومزيداً من السعادة، فتمتلأ نفسه فرحاً برحمة الله تعالى، وتفاؤلاً واستبشاراً وأملاً كبيراً يملأ حياته لما يجده في الحياة الدنيا من راحة نفس وما ينتظره في الآخرة من المغفرة والأجر العظيم.
أحبتي .. علينا أن نتذكر دوماً وعد الصدق الذي وعدنا الله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) .. علينا ألا نغفل عن ذكر الله، فهو أكبر من أي شيء وأكبر من كل شيء؛ قال تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، عسى أن نكون من الذين قال الله فيهم: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾، وخاطبهم بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ولا نكون من الذين قال الله فيهم: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/MQkh9e


الجمعة، 25 نوفمبر 2016

لا تقنطوا من رحمة الله

الجمعة 25 نوفمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٩
(لا تقنطوا من رحمة الله)

اتصل بي هاتفياً بعد أن قرأ خاطرة الأسبوع الماضي بعنوان "تزودوا" .. قال لي أن فقرة استوقفته كثيراً في نهاية الخاطرة .. سألته عن اسمه، رد متهرباً من الإجابة: "وهل يهم الاسم؟"، قلت: "أبداً، أردت فقط أن أخاطبك باسمك، المهم أخبرني ما هي الفقرة التي استوقفتك في خاطرة الأمس؟"، قال: "تلك التي قلت فيها: {أما أحبتنا الذين ما تزال حقائبهم خاوية أو قليلة المتاع، فبادروا أعزتنا إلى توبةٍ نصوحٍ أخلصوا فيها النية وصححوا مسيرة حياتكم، ارجعوا إلى قائمة التحقق، نفذوا ما تستطيعون تنفيذه منها، فلا يعلم أحدٌ منا موعد سفره أو تاريخ رحلته!}"، قلت: "لعلك ممن تزال حقائبهم قليلة المتاع"، قال: "يا ليت حقيبتي قليلة المتاع، بل يا ليتها كانت خاوية، أنا يا سيدي ليس لدي حقيبة من الأساس!"، سألته: "أليس لديك قلب ينبض؟"، قال: "بلى"، قلت: "فذلك هو الحقيبة .. قلبك هو حقيبتك، لا تعتقد أنها خاوية؛ اتصالك بي الآن يعني أن بذرة الإيمان في قلبك صالحة للنمو"، قال معقباً: "أحمد الله أنني في أعماق قلبي أشهد وأؤمن بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، قلت: "هذه بداية طيبة، علينا أن نعبر عنها بالعمل"، قاطعني قائلاً: "هذه هي المشكلة: {العمل}، ما يؤلمني أن كثيراً من أعمالي سيئة"، وبصوتٍ أحسست الصدق في نبراته قال: "لن أقول لك كما يقول غيري: {الشيطان شاطر}، لكني أعترف لك بأني كنت أختار العمل السئ عن عمدٍ أستمتع وأتلذذ به"، قلت له: "وما الذي جعلك الآن تفكر في التغيير وترك ما كنت عليه من مُتعٍ وملذات؟"، قال: "شئٌ ما في داخلي طالما قال لي أنني أسير في الطريق الخطأ، لكني كنت أتجاهله حتى خَفَتَ وصار همساً، ثم إن الهمس بدأ هو الآخر يخفت شيئاً فشيئاً، إلى أن قرأت خاطرتك فراودني شعورٌ بأنها ربما تكون الفرصة الأخيرة لي لتوبةٍ نصوح، لكن لا أدري هل يقبل الله توبتي بعد كل ما فعلت؟"، رددت بحسم: "إن الله غفورٌ رحيم"، وقلت له: "ألم تقرأ قول الله عز وجل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؟"، سكت برهة ثم أجاب: "للأسف لم أقرأ القرآن الكريم ولا مرة واحدة في حياتي"، قلت مخففاً عنه: " كذلك كنا من قبل فَمَنَّ الله علينا، فأنت لست وحدك مَن عَبَرَ هذا الطريق من الظلمات إلى النور"، قال وكأنه وجد ضالته: "تماماً، هذا هو ما أبحث عنه: {طريق النور}، هذا هو الذي أرغب في السير فيه، كفاني ما عشت في الظلمات"، قلت ملاطفاً: "أعاذنا الله من الظلمات وجعلنا من أهل النور".
استمرت المكالمة الهاتفية مع هذا الشخص، الذي لا أعرفه، فيها من الوضوح والصدق والرغبة في التطهر ما لم أُحسه أو ألمسه في غيره، وكانت الآية التي أَثَّرَت فيه كثيراً طوال هذه المكالمة (لا تقنطوا من رحمة الله)، قال لي أنه يُحس أن هذه الآية تخاطبه هو شخصياً، وأنها قد أيقظت ذلك الشئ في داخله الذي كان دوماً يحدثه بأنه يسير في الطريق الخطأ.

أحبتي في الله .. كثيرٌ ممن يعيشون معنا في محيط الأسرة أو الجيرة أو العمل ما زالوا في طريق الظلمات يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم إلى طريق النور .. يزين لهم الشيطان أعمالهم، فإذا أرادوا التوبة والعودة إلى طريق الحق والاستقامة وسوس لهم الشيطان أن الله لن يقبل توبتهم بعد كل ما فعلوه من سيئات واقترفوه من آثام .. هؤلاء يحتاجون إلى من يذكرهم بأرجى آية في كتاب الله: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ .. يقول العلماء أن فيها نَهْيٌ عن القنوط من رحمة الله تعالى، وإنْ عَظُمَت الذنوب وكثرت، فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يقنط من رحمة الله وإن عَظُمَت ذنوبه. والقنوط هو اليَأْس، واليَأْس نقيض الرجاء،
أمرنا الله عز وجل بعدم اليأس من روحه ووصف من يفعل ذلك بأنه من القوم الكافرين؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، ووصف مَن يقنط مِن رحمته بأنه من الضالين؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾.
 القنوط يكون بأن يعتقد أحدنا أن الله لن يغفر له، وأنه إذا تاب لن يقبل الله توبته ويمحو ذنوبه، رغم أن الله سبحانه أخبرنا أنه يقبل التوبة؛ قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾، وقال إن الاستغفار من الذنوب يوجب المغفرة والرحمة؛ قال عز وجل: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ثم وصف نفسه في كتابه الكريم بالقول: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾، وبالقول: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾.
ما أكرمك يا الله، طلبتَ من نبيك المصطفى عليه الصلاة والسلام أن يُنبئ عبادك بأنك أنت الغفور الرحيم؛ فقلتَ: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وأكدتَ على أن رحمتك وسعت كل شئ؛ بقولك: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، حتى مع ظلم الناس تفضلتَ عليهم بالمغفرة؛ فقلتَ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾، تغفر كل شيء إلا أن يُشرك بك: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.

أحبتي .. (لا تقنطوا من رحمة الله).. كلنا مقصرون .. وجميعنا مذنبون .. ليس منا من لم يظلم نفسه .. فماذا نحن فاعلون يا تُرى؟ حدد لنا عز وجل الطريق وبيَّن السبيل بالاستغفار وعدم الإصرار على المعصية، ووعدنا سبحانه بالمغفرة والجنة في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.
ومن كرم المولى عز وجل ورحمته أنه ألزم نفسه ليس فقط بأن يغفر لنا، بل بأن يبدل سيئاتنا حسنات، شرط أن نُتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح، فهل هناك كرمٌ ورحمةٌ أكثر من ذلك؟ قال تعالى: ﴿إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾، وفي الحديث القدسي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغَتْ ذنوبك عَنَان السماء، ثم استغفرتَني غفرْتُ لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشركُ بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرة]، وقال عليه الصلاة والسلام: [لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكُمُ السَّمَاءَ ثُمَّ تُبْتُمْ لَتَابَ عَلَيْكُمْ]، أي كرمٍ ورحمةٍ أكثر من ذلك؟ وأي توبةٍ أوسع من ذلك؟.
أحبتي .. كثيرٌ منا، وأنا منهم، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فإذا اعترفوا بذنوبهم شملهم الله بغفرانه ورحمته؛ قال تعالى: ﴿وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآَخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فاللهم تُب علينا وأنت الغفور الرحيم.
هلم أحبتي إلى التوبة و(لا تقنطوا من رحمة الله)، وليكن لسان حالنا كما قال الشاعر:
إلهي أتيتُ بصدقِ الحنين .. يناجيكَ بالتوبِ قلبٌ حزين
إلهي أتيتكَ في أضلعي ... إلى ساحةِ العفوِ شوقٌ دفين
إلهي أتيتُ لكم تائباً ....... فألحق طريحَكَ في التائبين
أعنه على نفسهِ والهوى ..... فإن لم تُعنه فمَن ذا يُعين
أتيتُ وما لي سوى بابِكم ... فرحماكَ يا ربِ بالمذنبين

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/toShZV

الجمعة، 18 نوفمبر 2016

تزودوا

الجمعة 18 نوفمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٨
(تزودوا)

أخيراً وصلته تأشيرة دخول تمهيداً لسفر كان يتوقعه .. كان قد أعد نفسه للسفر قبل وصول التأشيرة .. أحضر الكثير من الكتب التي تتحدث عن المكان الذي ينوي السفر إليه.. واستمع إلى كثير ممن كانوا يتكلمون عن هذا المكان .. وكلما خطر على ذهنه سؤال أو استفسار كان يسارع للبحث عن إجابات عن أسئلته .. باختصار، كان قد استعد نفسياً استعداداً كاملاً لهذه الرحلة.
وكان عليه أن يستعد بشكل عملي؛ رجع إلى قائمة تحقق check list مدون فيها كل ما يحتاج إليه المسافر في رحلته إلى هذا المكان .. وضع القائمة في مكان محدد على مكتبه ووضع بجوارها قلماً ليضع علامة على كل شيء يكون انتهى من تحضيره وإنجازه.
ومع كل هذا الاستعداد فقد انتابته بعض هواجس خوف، لكنه أقنع نفسه بأن الخوف من المجهول ظاهرة إنسانية وأنه إنسان .. برر لنفسه هذا الخوف الذي أحس به.
وفي خطوة عملية أخيرة جهز حقيبة سفره واستعد لبدء الرحلة .. لاحظ أن هناك أشياء في القائمة لم يتسع وقته لتجهيزها ووضعها في حقيبة السفر .. لم يكن يستطيع تدارك الأمر فالوقت كان قد نفد .. وحان وقت انتقاله إلى المطار للسفر .. وصل إلى المطار محاطاً بعدد كبير من أهله وأصدقائه ومحبيه الذين حضروا خصيصاً لوداعه .. لم يبخلوا عليه بدعواتهم الطيبة أن ييسر الله سبحانه وتعالى له رحلته ويوفقه في حياته الجديدة في ذلك المكان البعيد.
هذا سيناريو يحدث بشكل اعتيادي مع أي شخص منا يسافر تاركاً مكاناً تعَوَّد أن يعيش فيه إلى مكان جديد لم يألفه بعد .. ربما أهم ما في هذا السيناريو هو الاستعداد الجيد للرحلة، فكلما كان الاستعداد جيداً ومخططاً له كلما كانت النتائج مُرضية، وإذا سألك بعضهم عن كلمة السر لنجاح الرحلة قلت لهم: (تزودوا)!
هذا فيما يتعلق برحلة عادية من مكان إلى آخر لا يختلفان كثيراً إلا في تفاصيل بسيطة وصغيرة نسبياً .. فما بالنا برحلة غير عادية .. رحلة من مكان ألفناه واعتدنا عليه إلى آخر مختلف تمام الاختلاف في كل شيء .. ما أقصده هو تلك الرحلة التي لا مفر منها لكلٍ منا، رحلة الموت، وهو حقٌ علينا جميعاً؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾، ويقول: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾، ويقول: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾، ويقول: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، ويخاطب حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾، ولا مجال للهروب من الموت؛ يقول عز وجل: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾، ويقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾، ويقول: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾، بمعنى هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص.
يا لها من رحلة؛ تأشيرة الدخول فيها هي قرب انتهاء الأجل، والمكان الذي نغادره هو دار الدنيا، والمكان الذي نسافر إليه هو الدار الآخرة، وقائمة التحقق check list هي الأعمال التي ينبغي علينا أن نؤديها من عبادات ومعاملات، أما حقائب السفر فغير مسموح لنا أن نحمل فيها سوى أعمالنا التي قمنا بها بالفعل في حياتنا الدنيا؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله]، والمطار هو القبر الذي يوماً ما سيدخله كلٌ منا ليصل إلى الدار الآخرة فلا طريق آخر ولا بديل، والأهل والأحبة والأصدقاء المودعون هم المشيعون لنا إلى آخر مكان لنا في دار الدنيا ينظرون إلينا ولا يملكون لنا أي شيء سوى الدعاء؛ يقول سبحانه: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ*وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ*وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ*فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ*تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وتبقى كلمة واحدة هي الأهم في الاستعداد لهذه الرحلة، هي كلمة السر: (تزودوا)!

أحبتي في الله .. أعلم أن حديث الموت لا يحبه الكثيرون، بل ويهربون من مجرد ذكره .. وأعلم أن الكثيرين لن يكملوا قراءة هذه الخاطرة إلى نهايتها! .. والسبب أننا مقصرون وغافلون، أعمالنا قليلة وأمانينا كثيرة وقلوبنا لاهية، ينطبق على أغلبنا قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ*مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ*لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ..﴾، ومع ذلك فعلينا أن نتذكر الموت دائماً ونستعد له لنكون "أكيس المؤمنين"، تأمل رد الرسول عليه الصلاة والسلام على رجل من الأنصار سأله: أي المؤمنين أكيس؟، قال: [أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الأكياس]، والكَيِّسُ هو العاقل المتبصر في الأمور، الناظر في العواقب، كما أن العاقل من يتعظ بالموت؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا ..].

أحبتي .. كلنا يعلم أن وجودنا في الدنيا هو ابتلاء واختبار، إنه امتحان لنا ليرى المولى عز وجل أينا أحسن عملاً؛ قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، فهل انتبهنا وأفقنا من غفلتنا وأحسنا العمل؟ وهل اتعظنا من كل تلك الآيات الكريمة وتدبرنا معانيها؟ أم نحن كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟
وبلغة العصر نقول أن أي طالب مقبل على امتحان يكون منتهى أمله أن يعلم أسئلة الامتحان قبل أن يبدأ، فما بالنا في امتحان الدنيا، جميع الأسئلة معلومةٌ لنا مسبقاً ويعلم كلٌ منا ما سيُسأل عنه عند وقوفه بين يدي ربه سبحانه وتعالى يوم الحساب، ولا نعمل لهذا اليوم، بل والبعض يرسب في الامتحان رغم أن الأسئلة مكشوفة ومعلومة ومعروفة وتم تسريبها عمداً؟!

لنحذر أحبتي من التسويف، ولنبادر إلى العمل لما بعد الموت، ولنطرد الهوى والأمل الكاذب والأماني الخادعة التي تجعلنا عاجزين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ]، ولتكن الكلمة التي نتواصى بها فيما بيننا هي (تزودوا)، فإذا سأل سائل: "ما هو الزاد الذي علينا أن نتزود به؟" جاءت الإجابة واضحة ومحددة لا لبس فيها: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، إذن فالزاد هو تقوى الله سبحانه وتعالى، والتقوى هي أن يأخذ العبد وقايته من سخط الله عز وجل وعذابه؛ وذلك بامتثال المأمور، واجتناب المحظور، ونلاحظ في هذه الآية الكريمة التأكيد على التقوى بلفظين مختلفين: المصدر وفعل الأمر، كما نلاحظ أن الآية انتهت بتوجيه هذا الأمر للعقلاء ذوي الأفهام والألباب.

هيا أحبائي نقتنص كل فرصةٍ ولا نضيع دقيقةً واحدةً حتى نملأ حقائب سفرنا بخير زادٍ لرحلةٍ آتيةٍ لا شك فيها، ندعو الله سبحانه وتعالى أن تكون وجهتنا الأخيرة فيها الفردوس الأعلى من الجنة، وهذا هو الفوز العظيم.
أما أحبتنا الذين ما تزال حقائبهم خاوية أو قليلة المتاع، فبادروا أعزتنا إلى توبةٍ نصوحٍ أخلصوا فيها النية وصححوا مسيرة حياتكم، ارجعوا إلى قائمة التحقق، نفذوا ما تستطيعون تنفيذه منها، فلا يعلم أحد منا موعد سفره أو تاريخ رحلته!
اجعلنا اللهم ربنا من المسارعين إلى مغفرةٍ منك، واجعلنا من المتقين؛ لنكون من أصحاب الجنة مصداقاً لوعدك، ووعدك حق: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/3MkSbm


الجمعة، 11 نوفمبر 2016

وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ

الجمعة 11 نوفمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٧
(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)

دعانا إلى حضور حفل أقامه بمناسبة انتهائه من بناء وتجهيز داره الصيفي الجديدة المطلة مباشرةً على واحدٍ من أجمل شواطئ البحر في مرسى مطروح، لبينا الدعوة، فرأينا داره في أبهى حلة وكأنما قد تزينت وتهيأت لاستقبالنا .. قدمنا التهاني وتمنينا طيب الإقامة والعيش فيها لصاحبنا وأسرته.
جلسنا في الحديقة الأنيقة لتلك الدار لا تفصلنا عن البحر إلا خطواتٌ قليلة .. منظر البحر من أمامنا خلابٌ يسحر ألبابنا بمياهٍ شفافةٍ صافيةٍ تتدرج ألوانها من الأزرق الغامق في خط الأفق إلى الأزرق الفاتح فالأخضر الفيروزي يليه التركواز لتنتهي إلى الأبيض الشفاف عندما يلامس رمال الشاطئ لترسم لوحة بصرية مبهجة بديعة في حُسنها! .. وأمواجٍ هادئةٍ تلقي بنفسها على رمال الشاطئ تغشاها برقةٍ كأنما هما في عناق ثم تتراجع على استحياء فتظل الرمال في اشتياقٍ إلى عناقٍ جديد! .. ونسيمٍ عليلٍ نقيٍ بكرٍ لم تدنسه أجواء المدن وعوادم سياراتها ينعش الأرواح ويطهر النفوس! .. وشمسٍ ساطعةٍ حانيةٍ تبثُ الدفء في أجسام من رموا بأنفسهم في ماء البحر لعباً ومرحاً بعد غياب شهورٍ وتُشاغبُ من استظلوا من أشعتها تحت الشماسي! .. ومن حولنا، في الحديقة التي نجلس فيها، بضع شجيراتٍ خضراء مزهرة بألوان تسر الناظرين، رائحة زهورها الزكية تداعب أنوفنا بعطرٍ فواحٍ يملأ صدورنا بهجةً وانشراحاً، وتحت أقدامنا حشائشُ ممتدةٌ كأنها بساطٌ مُسجى يحمل أقدامنا بحنان ويستقبل خطواتنا بحبٍ وشوق!
جلسنا نمتع أنفسنا بكل هذه النعم التي حبانا الله بها، ورحنا نتسامر معاً حتى ينتهي صاحب الدعوة مالك الدار من إعداد طعام الغداء .. ويا له من غداء .. سمكٌ يُشوىَ على الفحم أمامنا!
سرحت قليلاً مع كل هذا الجمال .. وتركت العنان لأفكاري .. قلت في نفسي: "إذا كان ما نراه ونستمتع به الآن ليس إلا شيئاً قليلاً من نعيم الدنيا، وهو زائل مهما عشنا في الأرض، فما بالنا بنعيم الآخرة؟"، وتذكرت وصف الجنة كما ورد في الحديث القدسي الذي يرويه النبي عليه الصلاة والسلام عن رب العزة: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. واقرؤوا إن شئتم: فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون}، وقلت لنفسي: لمثل هذا فليعمل العاملون (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)، فأين نحن من ذلك النعيم المقيم؟
وعندما عاودت النظر إلى هذه الدار التي نحتفل اليوم بمناسبة الانتهاء من عمارتها تداعى إلى ذهني بيتان من قصيدةٍ للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول فيهما:
لا دارٌ للمرءِ بعد الموت يسكُنها * إلا التي كانَ قبل الموتِ بانيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنُـه    *     وإن بناها بشرٍ خاب بانيها

وتذكرت أيضاً قول أحدهم: "رواتب السنين" تبني لك بها داراً في الدنيا، و"السنن الرواتب" يبني لك بها الله بيتاً في الجنة! .. تأملت في هذا المعنى .. كم منا يصرف عمره وماله كله في بناء دار له في الدنيا هو مفارقها وراحل عنها، ويغفل عن بناء دار له في الجنة التي هو خالد فيها بإذن الله؟ .. ألم نقرأ قول المولى سبحانه وتعالى وهو يبين لنا أن الحياة الحقيقية الدائمة والخالدة هي الدار الآخرة: ﴿وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾؟

أحبتي في الله .. الإسلام دين الوسطية والاعتدال؛ لم يأمرنا بالاهتمام بعمارة الآخرة فقط والبعد عن عمارة الدنيا، وإنما أمرنا بالجمع بين الدين والدنيا؛ قال تعالى:  ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، وقال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وبين النبي أن المسكن الواسع "ويقصد مسكن الدنيا" أحد أسباب سعادة الإنسان؛ فقال عليه الصلاة والسلام: [أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء ...]، المهم في هذا الشأن ألا تكون الدنيا في قلب المؤمن تشغله عن عبادة الله وذِكره وأداء ما كُلف به من عبادات. أما مسكن الآخرة، مسكن الخلود في الجنة بإذن الله فقد جعله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾، وأورد في وصف الجنة، جعلنا الله من أهلها، الكثير من الآيات؛ قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾، وقال تعالى: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً.وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ.قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرا.ًوَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً.عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً.وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾، وقال تعالى: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ.لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً.فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ.فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ.وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ.وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ.وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾، وقال تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾، وقال تعالى: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾، وقال تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾، وقال تعالى: ﴿مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ.فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ.كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ.يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ.يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ.فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾، وقال تعالى: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ.فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾، وقال تعالى: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
الله الله على وصف الجنة، الله الله على نعيمها، الله الله على الخلود فيها بغير عمل ولا تعب ولا خوف ولا غل ولا مرض ولا موت .. حقاً لمثل هذا فليعمل العاملون (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).

أحبتي .. إذا سألتكم، ولا أستثني نفسي، "ألا تعلمون أن الفوز بالجنة هو الفوز العظيم؟ ألا تتمنون أن تكون هي داركم؟ ألا تشتاقون لها؟" .. نقول جميعاً: "بلى، علمنا وتمنينا واشتقنا"، .. فإذا سألنا أنفسنا: "ماذا قدمنا من أعمالِ برٍ وتقوى نستحق بها أن نكون من أهل الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى؟"، نكسنا رؤوسنا خجلاً لا ندري كيف نجيب من قلة ما قدمنا من عمل قياساً لما ينبغي أن يكون، ونحن نعلم ما قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: [أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]. 

أحبتي .. هيا نفر إلى الله .. ولنراجع أنفسنا .. ونعيد النظر في أولويات أعمالنا .. فكم هي قصيرة هذه الدنيا .. مهما عشنا فيها فنحن مغادرون إلى دار أخرى .. دار الخلود .. ونحن فيها إما إلى نار جهنم وجحيمها والعياذ بالله .. وإما إلى جنات النعيم، جنات عدن، برحمة الله .. فلنبني دارنا في الجنة بالخير فيما تبقى لنا من عمر .. ولمثل هذا فليعمل العاملون (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) .. الخيار ما يزال أمامنا .. وحبل العمر قد أمده الله لنا .. فكل يوم جديد يشرق علينا هو فرصة جديدة قد لا تتكرر .. منحةً من الله سبحانه وتعالى لنا لنحسن أعمالنا ونصوب مسارنا ونخفف من ذنوبنا ونزيد من حسناتنا ونرفع درجاتنا .. فليس من يومٍ يأتي على ابن آدم إلا يُنادى فيه: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد وأنا فيما تعمل عليك غداً شهيد، فاعمل فيَّ خيراً أشهد لك به غداً فإني لو قد مضيت لم ترني أبداً .. إن كل يوم جديد هو منحة ربانية يستفيد منها كل ذي عقل ليشيد لنفسه وأهله داراً في جنات عدن التي وعد الله عباده المتقين.

جعلنا الله وإياكم ومَن نحب مِن أهل الفردوس الأعلى من الجنة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/gp49Tv

الجمعة، 4 نوفمبر 2016

آن يا رب العالمين


الجمعة 4 نوفمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٦
(آن يا رب العالمين)

تتهادى سفينة أيامنا في بحر الحياة ما بين سعادة وحزن، وسرور وآلام، وأفراح وأتراح .. هكذا هي الحياة، يوم حلو ويوم مر .. فإذا اشتدت الريح يوماً وعلت الأمواج في بحر الحياة نكون إما في قمة سعادةٍ غامرة طاغية تهز كيان الإنسان هزاً فيحس أن قد ولت أيام الأحزان إلى غير رجعة .. أو في قاع حزنٍ شديد غلاب مؤثر يزلزل كيان الإنسان فتعصف به أسوأ الأفكار وتسيطر عليه أسود المشاعر حتى يظن أن لا سعادة أبداً .. فإذا سكنت الريح عاد السرور والفرح إلى حاله يرسم بسمته العادية على الشفاه، ورجعت الآلام والأتراح إلى مآلها وما تعودناه منها أوجاع وشجون تتسرب إلى حياتنا بهدوء ورتابة.
هذه هي الحياة تتباين المشاعر فيها، وتتغير صعوداً وهبوطاً .. وتتبادل مواقفها الأدوار ما بين فرح وأسف، وسرور وأسى .. أما أن يتضمن موقف ما الفرح والأسف، والسرور والأسى، في آنٍ واحد فهذا ما لا يحدث كثيراً. ورغم قلة حدوث مثل هذه المواقف، فقد كنت شاهد عيان على أحدها وأنا في طريق عودتي إلى المنزل قبل أسبوع، مررت بشابٍ يقف أمام إحدى العمارات ينادي على صديق له، فخرج له مطلاً من شرفة منزله وسمعته يقول: "أمهلني دقيقتين؛ أخطف العصر وأنزل لك".
لا أعرف أياً من الشابين، وكنت في الواقع قد تجاوزتهما وأنا في طريق عودتي، لكن ظلت عبارة "أخطف العصر" في ذهني .. كان انطباعي الأول هو الإحساس بالسعادة بأن شاباً في مقتبل حياته يهتم بألا تفوته صلاة العصر مهما كانت إغراءات الخروج مع صديق .. أليس هذا سبباً كافياً لسعادتي؟ .. هو كذلك بالتأكيد، ففي هذه الأيام التي نعيشها أو نتعايش معها يكون حرص هذا الشاب على الصلاة سبباً كافياً لانشراح الصدر والشعور بالسعادة.
أما انطباعي التالي عن نفس الموقف وحول نفس العبارة "أخطف العصر" فقد كان نوعاً من الحزن والأسى على كلمة "أخطف"، عندما استدعت هذه الكلمة إلى خاطري معنى السرعة وعدم التركيز والأداء الصوري .. وكأن أداء الصلاة قد تحول من "الراحة بها" إلى "الراحة منها"!
هذان هما الشعوران اللذان تملكاني عن موقفٍ واحد، شعوران متناقضان التقيا في آنٍ واحد!
لست في موقف الحكم على غيري، فكلنا مهما اجتهدنا نظل مقصرين، لكن ما بقي في ذهني بعد انتهاء هذا الموقف هو موضوع الخشوع، إلى أي مدى نهتم به ونعطيه حقه.

أحبتي في الله .. يقول العارفون أن أصل الخشوع لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، لأنها تابعة له؛ فالخشوع محله القلب ولسانه المعبر هو الجوارح، ومتى اجتمع في القلب صدق المحبة لله والأنس به واستشعار قربه، واليقين في ألوهيته وربوبيته، والتسليم بالحاجة له والفقر إليه، غشيَ قلب المسلم  خشوعٌ يدرك حلاوته ولذته، وإذا بسائر الجوارح وقد هدأت وسكنت .. فترى المصلي الخاشع وقد ترك الدنيا وراء ظهره واستشعر أنه بين يدي الله سبحانه وتعالى .. بين يدي الخالق العظيم .. تراه مستمتعاً بوقوفه في حضرة الرحمن الرحيم .. يطيل القراءة والركوع والسجود والتضرع ويكثر من الدعاء .. تراه حريصاً على أن يمتد لقاؤه بربه لأطول وقت ممكن، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى باقٍ معه لا يدعه إلى أن يتركه هو!
ما أعظم هذا الإحساس عندما يعيشه الإنسان، وما أروع هذا الشعور بالقرب من الله سبحانه وتعالى، حين يتذكر المسلم أنه أقرب ما يكون لربه وهو ساجد، فأي متعةٍ أكثر من أن يطيل الإنسان سجوده ويحس بمعية الله عز وجل. يبدأ الخشوع مع بداية الصلاة فيستقبل المسلم القبلة ويتوجه بجسمه كله نحو البيت الحرام ليكون في حضرة المولى سبحانه، ثم يكبر تكبيرة الإحرام "الله أكبر" تعبيراً عن أن الله أكبر من كل شيء مهما كان، ويدخل في الصلاة تاركاً خلف ظهره الدنيا وكل ما فيها. ثم يبدأ في قراءة فاتحة الكتاب مستحضراً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾ قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: ﴿مالك يوم الدين﴾ قال: مجدني عبدي، فإذا قال: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل] .. أي شعورٍ بالقرب من الله سبحانه وتعالى يعادل هذا الشعور. ويستمر في قراءة ما تيسر من القرآن، ثم يركع ويسجد، حتى تنتهي صلاته، فلا يفارقه أبداً قول الله عز وجل واصفاً المؤمنين في كتابه الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، ويستحضر خشوع زكريا عليه السلام وزوجه الذين قال المولى عز وجل عنهما: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾، أي كانوا متواضعين متذللين لا يستكبرون عن عبادة الله سبحانه وتعالى ودعائه.
لو لم يكن للخشوع في الصلاة إلا فضل الانكسار بين يدي الله، وإظهار الذل والمسكنة له، لكفى بذلك فضلاً؛ فقد خلقنا الله جل جلاله للعبادة؛ قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وأفضل العبادات ما كان فيها الانكسار والذل الذي هو سرها ولبها، ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع. لذلك فقد امتدح الله جل وعلا الخاشعين في آيات كثيرة: منها قوله تعالى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾.

أحبتي .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ]، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: [لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا - أَوْ قَالَ - لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ]؛ فالإخلال بالطمأنينة في الركوع والسجود عدمُ إتمامٍ لهما، وفي ذلك خيانةٌ للأمانة وسرقة، يسرق حق نفسه في الخشوع الذي هو روح الصلاة، فيخرج من صلاته وجوارحه لم تتأثر.
كيف للبعض منا ألا يخشع في صلاته وينقر ركعاتها كنقر الديكة وهو يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد نهى عن ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِثَلَاثٍ وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ ... وَنَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ]؟ وكيف لا يخشع في صلاته وهو يعلم أن المصطفى عليه الصلاة والسلام قال لمن لم يخشع في صلاته: [ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ]؟ بل كيف لا يخشع في الصلاة وهو يعلم قول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: [لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لَا يُقِيمُ فِيهَا صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا]؟ وهل منا من لا يرغب أن يكون من المفلحين الناجحين الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: [إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ]؟
فلنصلي أحبتي بخشوع حتى لا نكون من الخائبين الخاسرين .. نصلي كما كان رسولنا الكريم يصلي؛ فهو القائل: [صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي].

يعاتب الله سبحانه وتعالى بعض المؤمنين من صحابة رسول الله بقوله:  ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾، فما بالنا لا نستشعر هذا العتاب لأنفسنا؟ وأين نحن من الصحابة الكرام؟! أفما آن الأوان لأن تخشع قلوبنا؟ قولوا معي: (آن يا رب العالمين) .. (آن يا رب العالمين) .. واخشعوا في صلواتكم،  يرحمني ويرحمكم الله.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/c3b7pX


الجمعة، 28 أكتوبر 2016

من أركان الإسلام

28 أكتوبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٥
(من أركان الإسلام)

من حوالي شهرين كنت أشاهد برنامجاً دينياً على إحدى القنوات الفضائية يتحدث فيه شيخ وقور عن فريضة الحج .. تحدث وأفاض عن مشروعية الحج وارتباط شعائره بقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام ومحاجاته لأبيه ولقومه، وما فعله بالأصنام، وقصة وضعه في النار وإنقاذ الله سبحانه وتعالى له منها، وإفحامه للنمرود، ثم مفارقته قومه وعشيرته وتركه أهله في صحراء قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، وكيف نبع ماء زمزم لتشرب منه السيدة هاجر وولدها إسماعيل وتتجمع حولهما قبيلة جرهم، ثم عرج على قصة بناء الكعبة برفع سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل القواعد من البيت، وتحدث عن قصة رؤيا سيدنا إبراهيم -ورؤيا الأنبياء حق- أنه يذبح ابنه إسماعيل وامتثاله هو وابنه لأمر الله، وفداء الله سبحانه وتعالى إسماعيل بذبح عظيم في اللحظة التي كان الابن فيها راقداً مستسلماً في انتظار الذبح والسكين في يد أبيه. شدني حديث الشيخ الوقور لسلاسته وربطه بين تلك الأحداث والمواقف وما يحدث في شعيرة الحج كل عام. وكان مما استشهد به الشيخ في هذا المقام قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، بعد أن أتم الشيخ حديثه بدأ في تلقي أسئلة المشاهدين عبر الهاتف، وإذا بإحدى المشاهدات تسأل الشيخ: "لماذا اختص الله سبحانه وتعالى الرجال بهذه العبادة دون النساء، رغم أن الحج هو (من أركان الإسلام) للجميع رجالاً ونساء؟"، في بداية رده استنكر الشيخ ذلك وقال أن الحج فريضة على جميع المسلمين سواءً في ذلك الرجال والنساء .. ثم انتبه لمقصود المشاهدة فسألها: "أتقصدين كلمة *رجالاً* التي وردت بالآية الكريمة؟"، قالت: "نعم، لماذا الرجال فقط؟"، علت ابتسامة على وجه الشيخ كادت أن تخرجه عن وقاره وقال لها: "رجالاً في هذا الموضع لا تعني الذكران من البشر وإنما تعني من يأتون للحج يمشون على أقدامهم؛ فهي ليست جمع رجل وإنما جمع راجل، والمقصود بهم القريبون من البيت الحرام الذين يتوجهون إليه مشياً على أرجلهم، ويبين الجزء الثاني من الآية الشريفة الصنف الآخر من الناس وهم البعيدون عن البيت العتيق الذين يأتونه للحج ركباناً على الرواحل".
وسأل مشاهد آخر عن معنى {السبيل} المذكور في الآية الكريمة: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، أجاب الشيخ بأن السبيل للقريب من البيت الحرام سهل هين، وأما سبيل البعيد فهو كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن السبيل: [الزاد والراحلة]، فقال المشاهد: "أملك ما يكفي من المال لأداء فريضة الحج لكني في حاجة لهذا المال لشراء مسكن، فأيهما أولى؟"، رد الشيخ بذكاء: "هل تضمن لنفسك الحياة بعد أن تنتهي من شراء المسكن، وتضمن أن يتوفر لك مال آخر يكفي للحج؟ إذا كنت تضمن ذلك فلا تذهب للحج واشترِ المسكن"، قال المشاهد: "لا أضمن"، رد الشيخ: "إذن عليك بالحج استكمالاً لدينك ووفاءً لعهدك مع الله سبحانه وتعالى، وهو الرزاق الكريم؛ إذا قبل منك حجك فهنيئاً لك مسكنك الدائم في الجنة، ووفقك الله بإذنه تعالى ويسر لك شراء مسكنك الزائل في الحياة الدنيا".

أحبتي في الله .. استوقفني فيما شاهدته المدى الذي وصل إليه كثير من الناس في فهمهم ووعيهم بأصول دينهم .. فالحلقة كانت مخصصة لعبادة ذكر النبي أنها (من أركان الإسلام) في قوله عليه الصلاة والسلام: [‏بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ ‏ ‏مُحَمَّدًا ‏‏رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ]، أي أن معرفتنا بعبادة الحج وحكمها ومشروعيتها وعلى من تجب هي من الأمور التي ينبغي أن تكون معلومة لنا من الدين بالضرورة .. ومع ذلك فبعض المسلمين معلوماتهم عنها إما خاطئة مغلوطة وإما ضحلة قليلة.
كما استوقفني الحديث عن {السبيل} أو {الاستطاعة}، فكم من شخص مسلم عزيز عليّ من الأقارب والأصدقاء والجيران يفهمون {الاستطاعة} فهماً قاصراً يجعلهم يقدمون الكثير من الأشياء على أداء فريضة الحج! البعض ممن أعرف توفر لديه المال الكافي بالفعل لتأمين الزاد والراحلة لكنه قدم شراء سيارة جديدة أو تملك شاليه على البحر أو السفر في رحلة سياحية إلى أوروبا على أداء فريضة الحج التي هي (من أركان الإسلام) الثابتة والمؤكدة بنص كتاب الله وسنة رسوله والتي لا شك فيها ولا خلاف عليها، حتى إن بعض من أعرف قد تُوفي إلى رحمة الله من غير أن يؤدي هذه الفريضة. وإن تعجب فاعجب لحال من لديهم الاستطاعة بالفعل ولا يفكرون في أمر الحج، حتى تحسب أنهم أسقطوا من حساباتهم تماماً فكرة أداء فريضة الحج وكأنها ليست (من أركان الإسلام)!

أحبتي .. يقول أهل العلم عن الحج  -بفتح الحاء وكسرها- أنه: قَصْدُ بيت الله الحرام؛ إقامةً للنُّسك، وهو فرض عين مرَّة في العمر، ثبتَ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، يجب على كلِّ مسلم حُرٍّ مُكلَّف، سليمٍ، قادرٍ على النفقة، لدَيه ما يكفي أسرتَه ومَن تلزمه نفقتُهم مدَّة الحج، أمَّا المرأة فلا تخرج للحجِّ إلاَّ برفقة زوجها، أو مع مَحْرمٍ لها، أو نسوةٍ ثقات. قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِله﴾، وقال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، وقال كما أسلفنا: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾. وفي الحديث النبوي الشريف عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يا أيُّها الناس قد فرَض الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا]. وقال مبيناً جزاء الحج المبرور: [الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة]، ومبشراً بمحو كل الذنوب والخطايا بقوله صلى الله عليه وسلم: [من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجعَ كما ولدَتْه أمُّه]، فهل من عاقل يضيع على نفسه هذا الجزاء الموعود ويهدر فرصة لا تُعوض لمحو الذنوب والخطايا؟
إلى أحبائي ممن تركوا أداء فريضة الحج وهم مستطيعون أقول: استحضروا وقوفكم بين يدي المولى سبحانه وتعالى للحساب يسألكم عن أركان دينكم، ما أتيتم منها وما تركتم .. لماذا تضيعون على أنفسكم فرصة الحج عاماً بعد عام؟ هل ضمنتم لأنفسكم الحياة حتى تتوفر لديكم إمكانات أخرى؟ وهل إذا أنعم عليكم الله بالحياة والمال هل تضمنون صحة أبدانكم التي تساعدكم على الوفاء بجميع مشاعر الحج وتحمل مشقة السفر والمناسك؟ ثم، هل إذا توافرت لديكم أموال أخرى في المستقبل ألن تحدثكم أنفسكم مرة أخرى بالإنفاق على أغراض أخرى زائلة وإرجاء الحج إلى حين ميسرة قد لا تأتي أبداً؟؛ فالنفس أمارة بالسوء يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، ويقول الرسول الكريم: [مَن أراد الحجَّ فليتعجَّل؛ فإنَّه قد يَمْرض المريض، وتضلُّ الضالَّة، وتَعْرض الحاجة]؛ فعجلوا بالحج أحبتي قبل أن يطرأ ما يَحُول بينكم وبين الحجِّ؛ فتفوت عليكم فرصة أخرى، ويضيع منكم خير كثير. سارعوا إلى أداء فريضة الحج التي هي (من أركان الإسلام)، من قبل أن يأتي يوم يصفه المولى عز وجل في الآية الكريمة: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم


https://goo.gl/S9GYCa