الجمعة، 22 يونيو 2018

القابضون على الجمر


الجمعة 22 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٠
(القابضون على الجمر)

لم ألتقِ به منذ تخرجنا من الجامعة، ثم التقيته فجأةً وبغير ترتيبٍ في إحدى ليالي رمضان؛ كنا نصلي التراويح في مسجد الأرقم بمدينة نصر. المسجد كعادته كل عامٍ يمتلأ بالمصلين من قبل وقت صلاة العشاء بأكثر من ساعة، ثم يزداد عددهم بالتدريج كلما اقترب موعد الصلاة، ومن يأتي متأخراً فلن يجد له مكاناً داخل المسجد، رغم اتساعه، فيُضطر للصلاة على حُصرٍ تُفرش في الحدائق المحيطة بالمسجد، ومن لم يجد مكاناً له في هذه الحدائق فليس أمامه سوى فرش سجادته والصلاة في أحد الشوارع المحيطة بالمسجد!
يأتي الناس فرادى وزرافاتٍ يتابعون ختم القرآن مرتين خلال الشهر الكريم: مرةً من الشيخ رضا عبد المحسن أثناء صلاة العشاء وبعدها في صلاة التراويح حيث يختم القرآن ليلة السابع والعشرين، وأخرى من الشيخ هاني الشحات أثناء صلاة التهجد قبيل الفجر حيث يختم القرآن ليلة التاسع والعشرين. وكلاهما: الشيخ رضا والشيخ هاني، ممن أنعم الله عليهما بحفظ القرآن الكريم وإجادة تلاوته بصوتٍ جميلٍ حسن، جزاهما الله عنا خير الجزاء.
أعود لقصة زميلي، ليلة التقيته كنت قد تأخرت قليلاً في التوجه للمسجد، وكنت أحاول أن أجد لنفسي موطئ قدمٍ داخله، فإذا بي أرى أمامي هذا الزميل الذي لم أقابله منذ أكثر من أربعين عاماً! عرفته قبل أن يتعرف عليّ، رغم أن الزمن قد ترك عليه كثيراً من بصماته: شعره صار بلون الأرز الأبيض، كست التجاعيد وجهه، تغلبت السمنة على ما كان عليه من رشاقةٍ، يلبس نظاراتٍ طبية، ظهره منحنٍ قليلاً، ويتكأ على عصاةٍ خشبيةٍ، كل ذلك لم يفلح في إخفاء ملامحه التي بقيت محفورةً في ذاكرتي طوال هذه السنوات! اقتربت منه، دققت النظر، وعندما تأكدت أنه هو نطقت اسمه الرباعي كاملاً بصوتٍ عالٍ، لحظةٌ واحدةٌ كانت كافيةً له لاسترجاع الذاكرة؛ نطق باسمي ووجهه يتهلل سروراً وفرحاً، وتعانقنا وسط دهشة المحيطين. جلست بجواره مكان شابٍ كان يتابع هذا المشهد بتعجبٍ، تنازل لي عن مكانه عن طيب خاطر. سألت زميلي القديم عن أحواله، علمت منه أنه هاجر هو وأسرته إلى إحدى دول أوروبا، وحصلوا على جنسيتها. سألته عن أحوال المسلمين هناك؛ أخبرني أن بعض من هاجروا إلى تلك الدولة قد انسلخوا للأسف من دينهم، كما لو كانوا قد هاجروا من أجل التحرر من تكاليف الدين ومن التزاماتهم نحو خالقهم، هؤلاء، والحمد لله، قلةٌ قليلةٌ، أما الغالبية فإن تمسكهم بإسلامهم ازداد بعد هجرتهم، خاصةً حينما أحسوا بأنهم أقليةٌ، وأن واجب كلٍ منهم أن يكون سفيراً لدينه رغم الكثير من الصعوبات التي يعانون منها. وقال لي إن أكثر صعوبةٍ تواجههم هي تعليم أطفالهم وشبابهم أصول الدين؛ فمعظم مصادر التعليم كالمدارس ووسائل الإعلام لا تهتم بالإسلام ولا تُدَرِّس أصوله، والمساجد قليلةٌ جداً ومتباعدةٌ، أما الأسر فالسعي من أجل كسب الرزق وتأمين العيش يستحوذ على معظم وقتهم؛ فترى الأب والأم كلٌ منهما مشغولٌ بعمله. كما أن المجتمع الذي يعيشون فيه ملئٌ بالمغريات التي تجذب الأطفال والشباب بعيداً عن دينهم. وأخبرني أن تعليم أبنائهم اللغة العربية هو من أكبر المشاكل التي يواجهونها؛ فهي مفتاح تعلم الدين، ومن يجيدها من الأطفال والشباب يصبح بمقدوره الاستفادة من مواقع شبكة الإنترنت سواءً لتنزيل الكتب الإسلامية والاطلاع عليها أو للولوج إلى مواقع إسلاميةٍ مفيدةٍ يتعلم منها أصول الدين ويَطَّلِع من خلالها على الفتاوى الدينية، كما يلتقي عن طريق برامج التواصل الاجتماعي مع مسلمين آخرين يتبادلون الآراء والأفكار ويشكلون مجتمعاً إلكترونياً داعماً ومُثَبِّتاً ومُعيناً.

حكى لي عن مشروعٍ نفذوه نجح وفاقت نتائجه ما كان متوقعاً، فقد أنشأ أحد المسلمين هناك صفحةً خاصةً على الفيس بوك ينضم إليها من يرغب من شباب المسلمين، وجعل أهم أنشطة المجموعة نشر المعلومات الصحيحة عن الإسلام، وفكَّر في طريقةٍ يجذب بها الشباب؛ فأعلن عن مسابقاتٍ دينيةٍ: يختار لكل مسابقةٍ موضوعاً محدداً، ويطلب من كل عضوٍ في المجموعة أن يقرأ شيئاً عن هذا الموضوع ثم يبادر إلى نشره، على أن يلتزم بأن يكون النقل عن أحد الكتب أو أحد مواقع الإنترنت الموثوق فيها، وألا ينشر شيئاً يكون غيره قد سبق ونشره، ويتم توزيع جوائز على أصحاب أفضل المشاركات.
قطع حديثنا صوت مؤذن المسجد وهو يرفع أذان العشاء؛ فقررنا استكمال الحديث بعد الانتهاء من صلاتي العشاء والتراويح.
انتهينا من الصلاة، وخرجنا من المسجد سوياً، سألته عن حياته الخاصة وأسرته وأبنائه، كما سألته عن عمله ووظيفته، وسألني هو نفس الأسئلة تقريباً، وتبادلنا العناوين وأرقام الهواتف، ووعدني قبل أن نفترق أن يرسل لي عن طريق الواتس آب نماذج لما كتبه الشباب وهم يشاركون في إحدى تلك المسابقات الدينية التي أخبرني عنها، وكان موضوعها {الأذان للصلاة}، شكرته لاهتمامه، وقلت له مودعاً: "أعانكم الله؛ فأنتم (القابضون على الجمر) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: [يِأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْقَابِضُ عَلَى دينه كالقابض على الجمر]".
بعد عدة ساعاتٍ وصلتني منه على الواتس آب رسائلُ متتابعةٌ هي بعض مشاركات الشباب المسلم في المسابقة الدينية التي أخبرني عنها.

أحبتي في الله .. أنقل لكم فيما يلي بعضاً من مشاركات الشباب في المسابقة المذكورة، لم أتدخل إلا في ترتيبها والتصحيح اللغوي لبعضها:

- "الأذان هو التعبد لله بالإعلام بدخول وقت الصلاة بذِكرٍ ٍمخصوصٍ".
- "الأذان إعلامٌ بدخول وقت الصلاة، ودعوةٌ إلى صلاة الجماعة التي فيها خيرٌ كثيرٌ".
- "الأذان تنبيهٌ للغافلين، وتذكيرٌ للناسيين لأداء الصلاة التي هي من أجَّل النعم، والتي تُقرب العبد إلى ربه، والأذان دعوةٌ للمسلم حتى لا تفوته هذه النعمة".
- "الأذان والإقامة فرض كفايةٍ على الرجال دون النساء حضراً وسفراً".
- "دلَّ على مشروعية الأذان القرآن الكريم؛ يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة:9]".
- "شُرع الأذان في السنة الأولى من الهجرة".
- "كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتماً بالنداء للصلاة؛ ويفكر مع الصحابة كيف يجمع الناس للصلاة؟ فقيل له: انصب رايةً عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك. فذُكر له القنع {هو الشبور أو البوق}، فلم يعجبه ذلك، وقال: [هو من أمر اليهود]، فذُكر له الناقوس، فقال: [هو من أمر النصارى]، فانصرف الصحابي الجليل عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتمٌ لهمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُريَ الأذان في منامه؛ قال: رأيت رجلاً عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً، فقلت له: يا عبد الله تبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: أنادي به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خيرٍ من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: فلما أصبحت أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: [إنها لرؤيا حقٍ إن شاء الله، فَقُم مع بلالٍ فألْقِ عليه ما رأيتَ فإنه أندى صوتاً منك]، قال: فقمتُ مع بلالٍ فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجرّ رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيتُ مثل الذي أُرِي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فلله الحمد]".
- "قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا].
- "يقول صلى الله عليه وسلم: [عَجِبَ ربُّكَ من راعي غنمٍ في رأس شظية الجبل، يؤذِّن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عزَّ وجلَّ: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذِّن ويقيم الصلاة، يخاف منِّي؛ قد غفرتُ لعبدي وأدخلته الجنة]".
- "صفة أذان بلال رضي الله عنه الذي كان يؤذن به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، هو خمس عشرة جملة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
   يزيد المؤذن في أذان الفجر بعد حي على الفلاح {الصلاة خيرٌ من النوم، الصلاة خيرٌ من النوم}".
- "زيادة {الصلاة خيرٌ من النوم} قالها بلالٌ رضي الله عنه، وأقره عليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن بلالٍ أنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم يؤذنه بالصبح فوجده راقداً، فقال: الصلاة خيرٌ من النوم مرتين، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ما أحسن هذا يا بلال، اجعله في أذانك]".
- "الإقامة هي التعبد لله بالإعلام بالقيام إلى الصلاة بذكرٍ مخصوصٍ".
- "صفة الإقامة الواردة والثابتة في السُنة إحدى عشرة جملةً، وهي إقامة بلال رضي الله عنه التي كان يقيم بها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهي:
الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا
الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي
على الصلاة، حي على الفلاح، قد
قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله
أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله".
- "يُستحب في الأذان الترسُّل والتمهُّل، ويستحب في الإقامةِ الإسراعُ؛ لأن الأذان للغائبين، فكان الترسُّل فيه أنسب، والإقامةُ للحاضرين، فكان الإسراع فيها أنسب".
- "يُستحب الدعاء بين الأذان والإقامة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الدعاء لا يُرَدُّ بين الأذان والإقامة]".
- "يُسن للمؤذن أن يرفع صوته بالأذان، قال عليه الصلاة والسلام: [لا يسمع صوته شجرٌ ولا مَدَرٌ ولا حَجَرٌ، ولا جِنٌّ ولا إنسٌ إلا شهد له]. وقال أيضاً: [المؤذن يُغفَر له مدَّ صوته، ويشهد له كل رَطْبٍ ويابسٍ]، وفي روايةٍ: [وله أجرُ مَنْ صلَّى معه]". وقال كذلك: [المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة]".
- "من دخل المسجد والمؤذن يؤذن يُستحب له أن يتابع المؤذن، ثم يدعو بعد الفراغ من الأذان، ولا يجلس حتى يصلي تحية المسجد ركعتين".
- "إذا أذن المؤذن فلا يجوز لأحدٍ الخروج من المسجد إلا لعذرٍ من مرضٍ، أو تجديد وضوءٍ، ونحوهما".
- "يُسن لمن سمع المؤذن من الرجال أو النساء أن يقول مثله لينال مثل أجره إلا في الحيعلتين، فيقول السامع: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا سمعتم النداءَ، فقولوا مثل ما يقول المؤذن]. ولا يُسَنُّ ذلك عند الإقامة".
- "إذا قال المؤذن في صلاة الصبح: الصلاة خيرٌ من النوم، فإن المستمع يقول مثله".
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة]". كما قال: [من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمدٍ رسولاً وبالإسلام ديناً، غُفر له ذنبه]".
- "بعد انتهاء الأذان يُسن أن يصلي المؤذن والسامع على النبي صلى الله عليه وسلم سراً".
- "الأذان والإقامة يُشرعان للصلوات الخمس المفروضة، أما غيرها مما تسنُّ فيه الجماعة كالعيدين، والكسوف، والجنازة، والاستسقاء، وقيام الليل، والتهجد وما في حكمها فلا يُسن فيها الأذان ولا الإقامة، وإنما يقال فيها: الصلاة جامعة".
- "مؤذنو النبي صلى الله عليه وسلم أربعةٌ: بلال بن رباح، وعمرو بن أم مكتوم في مسجده صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وسعد بن عائذ القَرَظ في مسجد قِباء، وأبو محذورة في المسجد الحرام بمكة".

أحبتي .. نقلت إليكم هذه التجربة المفيدة، وأنا أعلم أن بعض ما نقله الشباب من نصوصٍ معروفٌ ومعلومٌ لكم ولكثيرٍ من المسلمين، لكنها بالنسبة لهؤلاء في بلاد الغربة، خاصةً تلك التي لها دينٌ غير ديننا وثقافةٌ غير ثقافتنا، قد تكون جديدةً، مع الوضع في الاعتبار ضعف هؤلاء الشباب باللغة العربية التي هي وعاء علوم الدين. على كل حالٍ، هؤلاء المغتربون في تلك البلاد هم (القابضون على الجمر)، ندعو لهم بالثبات والتوفيق في تنشئة جيلٍ جديدٍ من المسلمين لديهم القدرة على التعايش مع الحياة العصرية دون التفريط في دينهم وعقيدتهم الإسلامية السمحاء. إنهم أقليةٌ مسلمةٌ، على ثغرٍ من ثغور الإسلام يحرص كلٌ منهم على ألا يُؤتى الإسلام من قِبَلِه؛ فتراهم يعلمون أبناءهم كل شيء عن الإسلام، ويربونهم على إجابة النداء والصلاة مع الجماعة في المسجد، وفي بلادنا ذات الأغلبية المسلمة كم من مسلمٍ يسمع الأذان خمس مراتٍ في اليوم من مسجدٍ يبعد عن بيته خطوات قليلة ولا يفكر في الصلاة مع جماعة المسلمين، ولا يهتم بأن يواظب أبناؤه على الصلاة في المسجد؟!

هدانا الله وإياكم وجميع المسلمين إلى ما فيه الخير، لنا ولأبنائنا، في الدنيا والآخرة، ولما فيه عز الإسلام، ورفعة شأن المسلمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/8jh4Wu

الجمعة، 15 يونيو 2018

شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا؟


الجمعة 15 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٩
(شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا؟)

"كم مرةً ختمتَ القرآن في رمضان؟"، "ختمتُه ثلاث مرات"، "أنا عن نفسي ختمتُه ست مرات". "هل واظبتَ على صلاة التراويح والتهجد؟" "واظبت على التراويح عدا مرةٍ واحدةٍ كان لدينا ضيوفٌ على الإفطار، أما صلاة التهجد فلم أحضرها إلا مرتين فقط"، "أنا عن نفسي، لم أُفَوَّت التراويح ولا التهجد ليلةً واحدةً"، "عسى الله أن يتقبل"، "منا ومنكم".
هذا حوارٌ دار بين اثنين من الشباب كانا يسيران خلفي، استمعت إليه بغير قصد، وأنا في طريق عودتي من مسجد دار الأرقم إلى المنزل ليلة التاسع والعشرين من رمضان.

أحبتي في الله .. انطفأت المصابيح، وانقطعت التراويح، فارقنا شهر العبادة، ورجعنا إلى العادة، وذهب أهل الاجتهاد بأجر اجتهادهم في رمضان.
قال أحدهم مودعاً شهر رمضان: ها هو شهر الخير قد قُوضت خيامه، وتصرمت أيامه، فحق لنا أن نحزن على فراقه، وأن نذرف الدموع عند وداعه. وكيف لا نحزن على فراقه ونحن لا ندري هل ندركه مرةً أخرى أم لا؟ كيف لا تجري دموعنا على رحيله؟ ونحن لا ندري هل رُفع لنا فيه عملٌ صالحٌ أم لا؟ وهل ازددنا فيه قرباً من ربنا أم لا؟ كيف لا نحزن عليه وهو شهر الرحمات، وتكفير السيئات، وإقالة العثرات؟
مضى رمضان بعد أن أحسن فيه أقوامٌ وأساء آخرون، مضى وهو (شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا)؛ شاهدٌ للمشمر بصيامه وقيامه وبره وإحسانه، وشاهدٌ على المقصر بغفلته وإعراضه ونسيانه. رمضان سوقٌ قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، فلله كم سجد فيه مِنْ ساجد؟ وكم ذكر فيه مِن ذاكر؟ وكم شكر فيه مِن شاكر؟ وكم خشع فيه مِن خاشع؟ وكم فرّط فيه مِن مفرِّط؟ وكم عصى فيه مِن عاصٍ؟

انتهى شهر رمضان المبارك، صمنا أيامه وقمنا لياليه، فهل يا ترى كنا من الرابحين؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]، وعنه أيضاً أنه قَالَ: [مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]، فهل كان صومنا نهار رمضان وقيامنا لياليه، وتحرينا وإحياؤنا ليلة القدر بالمزيد من الذكر والعبادة في العشر الأواخر من رمضان، هل كان كل ذلك إيماناً واحتساباً؟ هل يقاس الإيمان والاحتساب بعدد ختمات القرآن؟ أم بعدد ركعات التراويح والتهجد؟ أم بالحرص على الاعتكاف في المسجد؟
ما هو مقياس الربح أو الخسارة عندما ننفرد بأنفسنا بعد انتهاء الشهر الفضيل نريد أن نُقَيِّم أعمالنا وننظر هل كنا من الرابحين أم الخاسرين؟
قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ]. إذن فالعبرة هنا ليست بالأفعال في حد ذاتها، وإنما العبرة بنتائجها، لذلك عندما شرع لنا المولى عزَّ وجل الصيام بيَّن لنا الحكمة منه لتكون هي ما نسعى للوصول إليه وتحقيقه؛ قال سبحانه: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
تعالوا إذن نقَيِّم ما حققناه بصيام أيام هذا الشهر الفضيل وقيام أيامه، لنعرف إلى أي مدى حققنا فيه التقوى، وهل هو (شاهدٌ لنا أم شاهدٌ علينا؟)، وليكن ذلك عن طريق أسئلةٍ يوجهها كلٌ منا لنفسه ويجيب عنها بأمانةٍ ونزاهةٍ:
عن الصلاة مثلاً؛ هل لم أكن أصلي وبدأت الالتزام بالصلاة؟ هل كنت أصلي بشكلٍ متقطعٍ وبدأت في المحافظة على جميع الصلوات؟ هل كنت أصلي في البيت وبدأت الصلاة مع جماعة المسلمين في المسجد؟ هل بدأت ألتزم بصلاة السنن الرواتب؟ هل أضفت لصلواتي صلوات نفل؟ هل تعودت على صلاة قيام الليل؟ هل زاد خشوعي أثناء الصلاة؟
وعن القرآن؛ هل أتممت قراءة القرآن كله لأول مرة في حياتي؟ هل ختمت تلاوة القرآن لأكثر من مرة؟ هل قرأت القرآن الكريم بتدبر؟ هل حفظت منه سوراً أو آياتٍ لم أكن أحفظها من قبل؟ هل أدركت معانيه وعلمت أحكامه؟ هل راجعت تفسير بعض آياته؟ هل حضرت مجالس علم خُصصت لبيان فضل تلاوة القرآن في شهر القرآن؟
وعن الصدقات؛ هل استطعت أن أتغلب على شُح نفسي؟ هل تصدقت على المساكين والفقراء؟ هل وسعت عليهم؟ هل أخرجت زكاة الفطر؟ هل لمست في نفسي ميلاً نحو المزيد من الإنفاق على أوجه الخير المختلفة؟
وعن المعاملات، هل بررت بوالدي خلال شهر رمضان؟ هل أحسنت إلى أهلي وأبنائي؟ هل وصلت رحمي؟ هل ابتعدت عن فحش القول؟ هل صرت أكثر ليونةً وأقل قسوة في تعاملي مع الناس؟ هل أصبحت أقدر ظروف غيري وألتمس لهم الأعذار؟ هل زادت رغبتي في خدمة المعاقين وغير القادرين وأصحاب الاحتياجات الخاصة؟
وهكذا .. لنسأل أنفسنا مثل هذه الأسئلة وغيرها، إذا وجدنا أنفسنا قد تغيرنا نحو الأحسن خلال الشهر الفضيل فقد ربحنا وكسبنا، أما إذا وجد أحدنا نفسه بعد رمضان كما كان قبله فليقف مع نفسه وقفةً حازمةً للحساب؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، وقال عمر الفاروق، رضي الله عنه: "أيها الناس حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾". وقال الفضيل بن عياض: "من حاسَب نفسه قبل أن يُحاسَب خف في القيامة حسابه، وحضر عن السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه. ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته. وأكيس الناس من دان نفسه وحاسبها وعاتبها وعمل لما بعد الموت واشتغل بعيوبه وإصلاحها".
وإذا كنا أذنبنا أو أسأنا أو قصرنا فلنبادر إلى الاستغفار؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون﴾.

ارتحل شهر الصوم، فما أسعد نفوس الفائزين، وما ألذ عيش المقبولين، وما أذل نفوس العصاة المذنبين، وما أقبح حال المسيئين المُفَرِّطين.
لا بُد من وقفة محاسبةٍ جادةٍ مع النفس، ننظر ماذا قدمنا في شهرنا من عمل؟ ما العبادات وأعمال الخير التي قمنا بها؟ وما هي الأمور التي قصَّرنا فيها؟ فمن كان مُحسناً، فليحمد الله، وليزدد إحساناً، وليسأل الله الثبات والقبول والغفران، ومن كان مقصراً فليتُب إلى مولاه قبل حلول الأجل.

مشاعر الختام تبكينا يا رمضان، ‏ما أجمل حضورك، وما أسرع مرورك، وما أعظم أجورك.
قال شاعر:
ترحَّلت يا شهرَ الصيامِ بصومِنا
وقـدْ كنتَ أنواراً بكلِّ مكانِ
عليكَ سلامُ الله كن شاهداً لنا
بخـيرٍ رعاكَ الله مِنْ رمـضانِ
وقال آخر:
رمضانُ قد رحلت فما عسايّ أقولُ
والدمعُ من ألم الفراق يسيلُ؟
فلك التحية ما أقمت بأرضنا
ولك التحية ما احتواك رحيلُ
وقال ثالث:
يا عين جودي بالدموع وودعي
شهر الصيام تشوقاً وحناناً
شهرٌ به غفر الكريم ذنوبنا
وبه المهيمن يستجيب دُعانا
شهرٌ به الرحمن يفتح جنةً
للصائمين ويغلق النيرانَ

أحبتي .. لا تودّعوا رمضان، وإنما استمتعوا به باقي عامكم؛ فرمضان ليس شهراً فقط، بل هو أسلوب حياةٍ وبدايةٌ لتغيير النفوس والسلوك .. لا تودعوا شهر رمضان بل افسحوا له المجال ليحيا معكم وتحيوا به طوال العام بصوم التطوع، وحفظ وتلاوة القرآن، والتصدق على الفقراء والمساكين، وصلة الرحم التي لا يضيعها إلا أحمق أو جاهل أو مَنْ في قلبه كِبرٌ والعياذ بالله، وصلاة الجماعة على وقتها في المسجد، وقيام الليل، وأعمال الخير والبر.
لتكن عبادتنا مستمرةٌ بإذن الله فهي لم تكن لرمضان وإنما هي لرب رمضان ورب وغيره من الشهور؛ قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.
‏أسأل الله العلي القدير أن يكون قد ختم لنا شهر رمضان بذنبٍ مغفور، وسعيٍ مشكور، وعملٍ متقبلٍ مبرور، وأن يجعلنا وأنتم ووالدينا وأهلينا وأحبتنا من عتقائه من النار.
اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، واجعلنا من المقبولين برحمتك وغفرانك وعفوك ورضوانك، وأعده علينا أعواماً عديدة، وأزمنةً مديدة، ونحنُ إليك أقرب.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/iT777o



الجمعة، 8 يونيو 2018

مهلاً رمضان!


الجمعة 8 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٨
(مهلاً رمضان!)

كم كنت أدعو أن يبلغنا الله رمضان، وكم وضعت لنفسي من خطط وبرامج  لهذا الشهر، ومع ذلك أعترف الآن بأني قد فاتني الكثير فيما مضى من أيام  رمضان .. فتمهل أيها الشهر الفضيل عسى أن أتدارك في آخر أيامك ما فاتني!
صدق الله العظيم حين قال عن أيامك: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾، لكن لم نكن، أنا وكثيرون غيري، نتصور أن تمر أيامك المعدودة بهذه السرعة .. فهلَّا تمهلت قليلاً؟

أحبتي في الله .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ]؛ فليسأل كلٌ منا نفسه: هل نحن من الذين رغمت أنوفهم؟ أم من الذين غفر الله لهم؟ هل استفدنا مما انقضى من أيام الشهر الفضيل ولياليه؟ أم كنا من المقصرين الذين غرّهم الأمل فقضينا ما فات من رمضان لاعبين لاهين؟

اقتربت نهاية شهر الخير فماذا نحن فاعلون فيما تبقى من لياليه؟
قال ابن الجوزي: "عباد الله، إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحيةٍ وسلام". وقال: "الليالي والأيام الفاضلة لا يصلح أن يُغفل عنهنّ؛ لأنه إذا غفل التاجر عن موسم الربح، فمتى يربح؟". وقال كذلك: "إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قُصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك! فإنما الأعمال بالخواتيم. فإنك إذا لم تُحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع".
وقال ابن تيمية: "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات".
وقال قتادة: "من لم يُغفر له في رمضان فمتى يُغفر له؟ ومن رُد في ليلة القدر متى يُقبل؟".
وقال الحسن البصري: "أحسِن فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فاغتنم ما بقي فلا تدري متى تُدرَك رحمة الله"!
وقال الشاعر:
فيا شهرَ الصيامِ فدتكَ نفسي
تمهلْ بالرحيلِ والانتقالِ
فما أدري إذا ما العامُ وَلَّىَ
وعُدَتَ بقابلٍ في خيرِ حالِ
أتلقاني مع الأحياءِ حياً
أم أنكَ تلقني في اللحدِ بالي

ما أسرع مرور الأيام، وانقضاء الأعوام؛ وإن في مرورها وسرعتها لعبرةً للمعتبرين، وعظةً للمتعظين؛ قال عز وجل: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ﴾، بالأمس القريب كنا نتلقى التهاني بقدوم شهر رمضان، ونسأل الله بلوغه، وعندما استقبلناه كان لسان حالنا يقول: أهلاً رمضان، واليوم اقتربنا من وداعه بكل أسىً، ونقول له: (مهلاً رمضان!).
يقول الشاعر:
يا خير من نزلَ النفوسَ أراحلُ
بالأمسِ جئتَ فكيفَ كيفَ سترحلُ
بكتِ القلوبُ على وداعك حرقةً
كيف العيونُ إذا رحلتَ ستفعلُ
ما بال شهرِ الصومِ يمضي مسرعاً
وشهورُ باقي العامِ كم تتمهّلُ
عشنا انتظارك في الشهورِ بلوعةٍ
فنزلتَ فينا زائراً يتعجّلُ
فعساكَ ربي قد قبلتَ صيامَنا
وعساكَ كُلَّ قيامِنا تتقبَّلُ
إنْ كانَ هذا العامُ أَعطى مهلةً
هل يا تُرى في كُلِّ عامٍ يُمهِلُ؟
رمضانُ لا أدري أعمري ينقضي
في قادمِ الأيامِ أم نتقابلُ؟!

يقول أهل العلم أن العمر فرصةٌ لا تُمنح للإنسان إلا مرةً واحدةً، فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت، فهيهات أن تعود مرةً أخرى؛ فاغتنم أيام عمرك قبل فواتِ الأوان ما دمتَ في زمن المهلة؛ قال عمر بن عبدالعزيز: "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما"، وقال ابن مسعود: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غَرَبت شمسُه، نَقَصَ فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي".

لقد أكرمنا الله بشهر رمضان بأن ضاعف فيه الأجور، وأعطانا فرصةً لتدارك ما فاتنا من الأعمال الصالحة، فهل كنا على قدر عطاء الله، وهل كنا على قدر كرم الله؟! فطوبى للتائبين في رمضان، وطوبى للعابدين في رمضان، وهنيئاً لمن أقبل على الله في رمضان، والخسارة كل الخسارة، والثبور كل الثبور لمن لم يستثمر هذا الشهر؛ فقد لا يدركه مرةً أخرى. فمن لم يتب في رمضان متى يتوب؟ ومن لم يرجع إلى ربه في رمضان متى يؤوب؟ ومن لم يأخذ بحظٍ وافرٍ من هذه الليالي متى يحصل على المطلوب؟!
قال الشاعر:
غداً تُوفى النفوسُ ما كسبت
ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسِهم
وإن أساءوا فبئسَ ما صنعوا

كتبت إحداهن تقول: منا من يشعر بالحزن لأنه لم ينجز في رمضان ما كان يتمنى من الطاعات وفضائل الأعمال، ولكن هيهات هيهات أن تعود عجلة الزمن إلى الخلف لنحقق لأنفسنا ما كنا نتمنى، وها نحن قبل الحسرة والحزن على فوات فرصة رمضان يظل الأمل وتظل الفرصة أمامنا سانحةً؛ فها هو رمضان ما زال بيننا حياً ومستمراً، ومنحةً ما زالت بين أيدينا. فإن كنت ممن لم يحقق ما يرضي طموحه في الطاعة واغتنام فرص رمضان الكثيرة، فشمر الآن ودون تسويف؛ ما تزال لديك أيامٌ لا تُضَيِّعها، وربك كريمٌ يقبل التوبة، والسباق ما زال قائماً فلا تتأخر، إن ربك ينتظر عودتك إليه؛ فهو يحبك ويريد أن يأخذ بيديك إليه ليرحمك ويغفر لك ويعتقك من النيران، ويمنحك الجنة، فأقْبِل على ربك بقلب المحب المشتاق إلى رحمة ربه وغفرانه والعتق من نيرانه.

أقول لك يا رمضانُ، كما يقول غيري: ترفق، دمع الفراق تدفق، وفؤاد المحبين تمزق، عسى بركب المقبولين نلحق، وعسى من النيران نُعتق، فلا تفارقنا إلا ورضى الرحمن علينا تحقق.
وأقول لنفسي ولكل من غفل عن الأيام والليالي التي انقضت من هذا الشهر الفضيل: أَفِقْ من غفلتك، وبادر إلى خير العمل في خير الشهور لتكون من الفائزين برضوان الله، لا تقنط، لا تؤجل، لا تُسَوِّف، وتأمل قول رب العزة يخاطبك: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾.

وأختمُ بالقول ‏أن الخسران المبين هو أن يمضي شهر رمضان، خاصةً العشر الأواخر منه، وأنت مفلسٌ من صيام الجوارح، ومن تلاوة القرآن، ومن صلاة الجماعة على وقتها في المسجد، ومن القيام، ومن التهجد، ومن الصدقات، ومن صلة الأرحام، ومن أعمال الخير والبر التي تقربك إلى الله، فاغتنم ما بقي من العشر.

أحبتي .. ما تزال أمامنا أغلى ساعاتٍ في العام كله، لو أضعناها نكون قد أضعنا فرصةً لن تعود إلا بعد قرابة عامٍ، وعندما تعود لا نعلم إن كنا سنكون على قيد الحياة وقتها أم لا .. إنها الساعات القليلة المتبقية من العشر الأواخر من أيام رمضان ولياليه، وقد يكون فيها ليلة القدر، وهي ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر؛ فلنقل لرمضان (مهلاً رمضان!)، ولنقتصد في راحتنا، ونقلّل من نومنا، ونتعب أنفسنا في الطاعة، ونتزوّد لآخرتنا.
قال الشاعر:
يا غَافِلاً وَليالِي الصَّومِ قَد ذَهَبَتْ
زادَتْ خَطَايَاكَ قِفْ بِالبَابِ وَابْكِيهَا
وَاغْنَمْ بقيـةَ هذا الشَّهْرِ تَحْظَ
غرستَـهُ مِنْ ثِمَارِ الخيـرِ تَجْنِيـهَا

اللهم اجعل قلوبنا خاشعةً لذكرك، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وتقبل اللهم منا صيامنا وقيامنا وسجودنا وركوعنا وسائر أعمالنا .. واجعل اللهم الصيام والقرآن يشفعان لنا يوم القيامة، كما أخبرنا بذلك رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/ckqkBG

الجمعة، 1 يونيو 2018

ترويض النفس


الجمعة 1 يونيو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٧
(ترويض النفس)

من أجمل ما قرأت خلال الأيام الماضية رسالةٌ انتشرت على كثيرٍ من مواقع التواصل الاجتماعي، هذا نصها: "بعد مرور عدة أيامٍ من رمضان اكتشفنا أننا كنا نستطيع الصّوم كل إثنين وخميس خلال السّنة وأنّ الصّوم ليس بهذه الصّعوبة التي كُنا نتصورها. ظهر لنا جلياً أنّنا كنا نستطيع أن نصلي إحدى عشرة ركعةً كل ليلةٍ في غير رمضان بقيام ليلٍ لا يستغرق منا أكثر من ساعةٍ قبل أن ننام. اتضح لنا أنّ ختم القرآن ولو مرةً واحدةً كل شهرٍ ليس من المعجزات كما كان الشيطان يوهِمُنا. وتعجبنا من أنفُسِنا حين نستيقظ للسّحور في رمضان ونعجز عن القيام لصلاة الفجر في غير رمضان. اتضح لنا أن الفقراء يحتاجون مساعدتنا في كل وقتٍ وأننا قادرون على الإنفاق والصدقة والإطعام طوال العام". فصوم شهر رمضان إلى جانب أنه فريضةٌ ربانيةٌ، هو دورةٌ تدريبيةٌ متجددةٌ تستهدف (ترويض النفس).

أحبتي في الله .. يُعَرِّف المختصون (ترويض النفس) بأنه تهذيبٌ للنفس وإصلاحها، وإجبارها والتحكم بها وقيادتها. وهو تربية النفس، وتطهيرها، وتزكيتها لجعلها قابلةً للسير في الطريق السليم، والسمو بالجسد نحو كمال الروح. إنه أشبه ما يكون بترويض وحشٍ مفترسٍ، أو تربية طفلٍ صغيرٍ تتعهده بالرعاية والوقاية والتوجيه والمتابعة والمثابرة والمشقة والتعب، فإن أحسنت تربيته صار يافعاً نافعاً، وأصبح قدوةً لشباب جيله وأسوةً يتأسى بها غيره، وهكذا (ترويض النفس) كتربية الأطفال، ما أصعبها! خاصةً عندما تكبح جماح شهواتها وتكبت أهواءها حتى تستقيم.
وفي ذلك يقول البوصيري:
والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على
حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
فاصرفْ هواها وحاذرْ أنْ تُوَلِّيَهُ
إنَّ الهوى ما تولَّى يُصمِ أوْ يَصمِ
وَاخْشَ الدَّسائِسَ مِن جُوعٍ وَمِنْ شِبَع
فَرُبَّ مَخْمَصَة ٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ
وخالفِ النفسَّ والشيطانَ واعصهما
وإنْ هُما مَحَّضاكَ النُّصحَ فاتهمِ

يقول أهل العلم أن نفوسنا ملكٌ لله تعالى خلقها وسواها، وجعل طبيعتها العيش في صراعٍ بين الخير والشر، فإما أن ننتصر عليها بالتقوى، أو تهزمنا بالمعاصي والمنكرات؛ قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، خلقها الله عز وجل، وهداها وأرشدها إلى الخير والشر؛ قال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ هذه النفس إذا زكيتها بطاعة الله أفلَحَتْ ونجحَتْ، وإذا دسيتها بمعصية الله خابت وخَسِرت وصارت أعدى الأعداء تُودي بصاحبها إلى المهالك؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، في الوقت الذي يمكن أن تكون مطمئنةً راضيةً تقود صاحبها إلى الجنة؛ قال سبحانه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. وإذا كانت نفسك تلومك على ما فعلت من الشر فهي نفسٌ طيبةٌ لوامةٌ، أَقْسَمَ الله بها؛ قال تعالى: ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾. هذه النفس تحتاج إلى ترويضٍ حتى تزكو فيفلح صاحبها وينجو.
ومن منح الصوم والصبر في سبيل تقوية جهاد النفس أن يكون العبد حراً من سائر العبوديات فيُخلص العبادة والعبودية لله وحده، لا أن يكون عبداً لشهواته وأهوائه؛ قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يُؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به]. وقال الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تُحاسِبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذٍ تُعرضون لا تخفى منكم خافية". وقال الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: "وإنّما هي نفسٌ أروضها بالتقوى؛ لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر".

ويرى أهل الاختصاص أن من وسائل (ترويض النفس) فَطْمُها عن المألوفات، والصوم فريضةٌ تُعَوِّد النفس على ترك المألوفات فتنفطم النفس وتتقي، وهذا يساعد على ترك الحرام؛ لأن المسلم إذا عَوَّد نفسه ترك الحلال كالطعام والشراب لله، يكون أحرى به ترك الحرام.
يقول العلماء أن تغيير أية عادةٍ سلوكيةٍ أو غرسها يستغرق ما بين واحدٍ وعشرين إلى ثلاثين يوماً، فسبحان الله أن تكون أيام هذا الشهر الفضيل كافيةً لتغيير أية عادةٍ سلوكيةٍ سلبيةٍ نود التخلص منها؛ كقطيعة الرحم، أو عدم الانتظام في الصلاة، أو شُح النفس وعدم التصدق، أو هجر القرآن. كما أنها فرصةٌ لزرع وغرس أية عادةٍ سلوكيةٍ إيجابيةٍ؛ كصلة الرحم، والصلاة على وقتها، والتصدق على الفقراء، وقراءة ولو القليل من القرآن يومياً، وقيام الليل، وصوم التطوع يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع وأيام البيض من كل شهر ٍهجريٍ، وغير ذلك من أعمال الخير والبر.

وفي دراسةٍ حديثةٍ نُشِرَت قبل عامين، تم رصد أهم التأثيرات النفسية التالية للصيام لمدة ثماني عشرة ساعةً يومياً: شعور الصائمين بالإنجاز، والرضا عن النفس، والفخر، والقدرة على التحكم بالذات. كما أن ممارسة الصيام تزيد من الثقة بالنفس وتقدير الذات، مما ينعكس إيجاباً على العلاقات الشخصية والحياة العملية. والصيام تدريبٌ متدرجٌ يؤهل الإنسان بصورة أفضل للتعامل مع ضغوط الحياة ومشاكلها وأزماتها. إن الصوم تربيةٌ للنفس، وترويضٌ لها، وإعلاءٌ لشأن الإرادة أمام مطالبها وشهواتها. و(ترويض النفس) ليس بالأمر السهل، ولكن في شهر رمضان نجد من كان لا يمكنه ترك عاداتٍ وأمورٍ أَلِفَها وتعوَّد عليها قد تركها بكل سهولةٍ ويسرٍ؛ فمن كان لا يمكنه ترك التدخين، وكأن الحياة سوف تتوقف إن تركه، وجد نفسه يستطيع أن يستغني عنه فترةً لا تقل عن نصف اليوم وأكثر، فاستغل العزيمة التي وجدها في نفسه والقوة التي اكتسبها نتيجة رغبته في طاعة ربه، فأقلع عن التدخين. فالرغبة في طاعة الله مفتاحٌ لكل من يريد أن يترك عادةً سيئةً اعتادت نفسه عليها. ومن نجح في ترويض نفسه في رمضان يمكنه أن يستمر في ذلك في غير رمضان، فالعزيمة والرغبة في الطاعة لهما مفعول السحر في (ترويض النفس).

يقول علماء النفس أن الصيام امتناعٌ عن إشباع بعض رغبات النفس، وفيه امتناعٌ عن الاستجابة الفورية لبعض شهواتنا، وفي هذا الامتناع تدريبٌ للنفس على "تأجيل الإشباع"، فيكتسب المسلم بذلك قدرةً تُميّزه عن الطفل الصغير، كما تُسهم في نضج شخصيته.
يأتي الصيام في رمضان بمثابة دورةٍ تدريبيةٍ سنويةٍ على الصبر، وبمثابة دفعةٍ جديدةٍ نحو المزيد من نضج الشخصية لدى المؤمن. إنّ استمرار هذا التدريب على ضبط الشهوات والسيطرة عليها مدة شهرٍ من كل عامٍ، لا شك سيعلّم الإنسان قوّة الإرادة، وصلابة العزيمة، لا في التحكم في شهواته فقط، وإنّما في سلوكه العام في الحياة، وفي القيام بمسؤولياته، وأداء واجباته، ومراعاة اللّه تعالى في كل ما يقوم به من أعمال.
وكما يقال: "من شبَّ على شيءٍ شاب عليه"، نلاحظ أن من تعود أن يؤدي الصلاة على وقتها، فإنه يكون من المقدرين لقيمة الوقت، يحافظ عليه ويستثمره ويستفيد منه ولا يتركه يضيع فيما لا فائدة منه، كما يكون من المنضبطين في مواعيده الملتزمين بدقةٍ بإنجاز أي هدفٍ في وقته دون تسويف أو تأجيل. وهكذا الأمر في كل نواحي حياته.

قال شاعرٌ:
ومَنْ يُطعمُ النفسَ ما تشتهي
كمن يُطْعِمُ النارَ جزلَ الحَطبْ
قال آخر:
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها
وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تقنعِ

أحبتي .. يقول خبيرٌ أن الإنسان لحظات ضعفٍ وقوةٍ، تأتي مواسم الخير كي تُثَبِّتَنا وتُعينَنا على التقوى وفعل الخيرات وترك المعاصي والآثام، ومن أهم هذه المواسم والمناسبات شهر رمضان الكريم؛ فيه تُفَتَّح أبوابُ الجنة وتُغلق أبواب النار، لنا فيه أعظم فرصةٍ كي نجاهد النفس ونحثها على عمل الطاعات وترك المنكرات وفعل الخيرات. إن التحكم برغباتنا وترويض شهواتنا، ومنع أجسادنا عن احتياجاتها الأساسية المشروعة لبعض الوقت في رمضان يُساعدنا في اكتشاف قوة إرادتنا وقدرتنا على التحكم بأنفسنا في غير رمضان؛ فيكون تغيير عاداتنا وأساليب حياتنا كلها نحو الأفضل أكثر سهولةً ويسراً.

اللهم اجعلنا ممن صاموا رمضان إيماناً واحتساباً .. وممن ساعدهم الصيام على (ترويض النفس) فكانوا من الفائزين بمكاسبَ كثيرةٍ؛ ما بين عاداتٍ سيئةٍ تركوها، وأخرى إيجابيةٍ اكتسبوها.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
 هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/MyzZ3o


الجمعة، 25 مايو 2018

لعلكم تتقون


الجمعة 25 مايو 2018م

خاطرة الجمعة /136
(لعلكم تتقون)

كان موضوع الحديث الحكمة من صوم شهر رمضان؛ قال أحد الشباب أن الحكمة من ذلك تكمن في أن يحس المسلم الصائم بالجوع فيدرك ما يعانيه الفقراء؛ فيعطف عليهم ويخفف عنهم آلام الجوع بإخراج زكاة ماله لهم والتصدق عليهم وإطعامهم. فرد عليه صديقه بسؤالٍ لم يكن يتوقعه، قال: "إذا كانت هذه فقط هي الحكمة من الصوم فلماذا إذن فرض الله سبحانه وتعالى صوم رمضان على جميع المسلمين ولم يستثنِ منهم الفقراء، رغم أنه جعل الحج فرضاً فقط على من استطاع إليه سبيلا؟!". ساد الصمت للحظاتٍ لم يقطعه إلا صوت ثالثهم وهو يقول: "لِمَ نذهب بعيداً في البحث عن الحكمة من صوم رمضان؟ لقد أوضحها المولى عز وجل في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فالحكمة من الصوم أنه سببٌ من الأسباب التي تؤدي إلى تقوى الله سبحانه وتعالى، وهذه الحكمة واضحةٌ جليةٌ بالنص في نهاية الآية الكريمة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، ومن التقوى الإحساس بالفقراء كما قال صديقنا، فهو جزءٌ من حكمة الصوم لكنه ليس الحكمة كلها".

أحبتي .. يقول علماؤنا عن هذه الآية الكريمة كأن المولى عز وجل يقول للمؤمنين: فرضتُ عليكم الصيامَ لتكونوا به من المتَّقين الذين أثنَيْتُ عليهم في كتابي، ولعلكم تنتَظِمون بسبب هذه العبادة في زُمرَة المتَّقين.
والتقوى في تعريفها الشرعي: حقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً، فيفعل المسلم ما أمر الله به إيماناً بالآمر وتصديقاً بوعده وطمعاً في ثوابه، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالناهي وخوفاً من وعيده واتقاء غضبه وسخطه. فالتقوى إذن هي طاعة الله وعدم معصيته؛ نتَّقِي عِقابَ الله، وغضبَ الله، وسخَط الله، وضَياع الآخرة، نتَّقي غضب الله بالعمل وفْق مرضاته.
قال عنها الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: "التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقَناعة بالقليل، والاستِعداد للرحيل". وقيل أن التقوى أن يُطَاع الله فلا يُعْصَى، ويُذْكَرَ فلا يُنْسَى، ويُشْكَر فلا يُكْفَر.
وهي درجاتٌ خمسٌ: أنْ يتَّقِي العبد الكفر، وهو مقام الإسلام. وأنْ يتَّقي المعاصي والحرمات، وهو مقام التوبة. وأنْ يتَّقي الشبهات، وهو مقام الوَرَع. وأنْ يتَّقي المُباحات، وهو مَقام الزهد. وأنْ يتَّقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة.

وعن التقوى كتب أحد العلماء الأفاضل أنها وصيَّة الله لعباده؛ حيث قال: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾. وهي وصيَّة الله للمؤمنين خاصَّةً؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
والتقوى هي وصيَّة رسول الله لنا حين قال صلَّى الله عليه وسلَّم: [اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأَتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا رَأْسُ الأَمْرِ كُلْهِ]، وقال: [أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ]، وحين قرأ الآيَةَ الكريمة: ﴿هُوَ أَهْلُ التَقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: [قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: "أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى، فَلاَ يُجْعَلُ مَعِي إِلهٌ آخَرُ، فَمَنِ اتَقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلهاً آخَرَ، فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ"].
والتقوى هي وصيَّة الصحابة رضي الله عنهم؛ فقد كتب الخليفة عمر ابن الخطاب إلى ابنه عبد الله، رضي الله عنهما، يقول: "أمَّا بعدُ، فإنِّي أُوصِيك بتَقوَى الله؛ فإنَّه مَن اتَّقَى الله وَقاه، ومَن توكَّل عليه كَفاه، ومَن أقرَضَه جَزاه، ومَن شكَرَه زادَه، ولتكن التقوى نُصبَ عينَيْك، وعماد عملك، وجلاء قلبك".

وللتقوى أهميَّةٌ كبيرةٌ في حياة المسلم سواءً في حياته الدنيا أو بعد مماته: لذلك أمَر الله عِبادَه المؤمنين أنْ يتزوَّدوا بها؛ قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾. والنصر والتمكين لا يكون إلا للمتقين؛ قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وهي دليلٌ على الإيمان؛ قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وفيها صلاح الحال وغفران الذنوب والفوز العظيم؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾. وبها تتحقق محبَّة الله؛ قال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾. كما تتحقق بها ولاية الله؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾. وبها تتنزل رحمة الله ونوره ومغفرته؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. وتكريم الله ومُفاضَلة الخلق وميزان تقويم البشر لا يكون إلا بها؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. والتقوى في كلِّ شيءٍ هي المثل الأعلى كما في بعض القُربات والأعمال؛ قال تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾. وشرْط المساجد التي هي أفضل الأماكن أنْ تُؤسَّس على التقوى؛ قال تعالى: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾. وكذلك صَلاحُ البيوت واستِمرارها هو أنْ تُؤسَّس على التقوى؛ قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾.
ومن ثمرات ما أعَدَّه الله عزَّ وجلَّ للمتَّقِين: الاستِقبال الحافل يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾. ومن أعظم ثمرات التقوى الجنَّة، فأهل الجنَّة هم المتَّقون، الذين اتَّقوا الله في دنياهم؛ فأنعَمَ الله عليهم في أُخراهم وأدخَلَهم الجنَّة؛ قال تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾. كما أن من ثمرات التقوى تجنب النار؛ قال تعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى﴾. وفيها الفلاح في الدنيا والآخِرة؛ قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وبها تُكَفَر السيِّئات ويَعْظُم الأجر؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾. وتتحقق مَعِيَّة الله: قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾. وتقوى الله سببٌ لتفريج الهموم وسعة الرزق؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.

فإذا كنتَ في بيتك وقد غُلِّقَت عليك الأبواب ولا يَراك أحدٌ، وأنت صائمٌ، وبجوارك الطعام الشهي، والماء العذب، وأنت جائعٌ عطشان، فلا تَقرَب الطعام ولا الشراب؛ مخافةَ الله عزَّ وجلَّ فهذه هي التقوى. فالصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه، فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقرباً بذلك إلى الله، راجياً بتركها ثوابه، فهذا من التقوى. ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه. ومنها: أن الصيام يُضَيِّق مجاري الشيطان، وهو الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فبالصيام يَضعُف نفوذه وتقل منه المعاصي. ومنها: أن الصائم في الغالب تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى. ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى. فالصوم فيه تزكيةٌ للبدن، وتضييقٌ لمسالك الشيطان؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: [يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء] أي أن الصوم يضعف شهوته أو يبطلها يوم صومه، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: [الصيام جُنَّة]؛ أي: وقاية تُتَّقى به الآفات والمخاطر.
إنَّنا بالصيام نتَّقِي المعاصي والذنوب؛ لأنَّ امتِلاء البطْن بالطعام والشراب كما قيل هو رأْس البَواعِث على الفَحشاء والمُنكَر، وأنَّ الجائِع العَطشان لا يجد في نفسه من أَثَرِ الشهوات ما يجد المُمتَلِئ. إن الله سبحانه وتعالى يختبر الناسَ في الصوم في ألصَقِ الشهوات بنفوسهم، وألزم الضروريَّات لحياتهم، وأعنَفِ الغرائز والعادات سلطاناً عليهم، فكَفَّهم عن الطعام والشراب وما إليهما أكثر يومهم، ولم يجعل عليهم في ذلك رقيباً إلا أنفسهم، بإيمانهم باطِّلاع الله عليهم، وأيَّةُ رقابةٍ أدق وأَوْفَى من هذه الرقابة؟
إنَّ الصيام فرصةٌ لتحقيق التقوى، وللتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، وللإقلاع عن سائر الذنوب والمعاصي، وطاعة الله.
يقول الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في القياس بديعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيعُ

أحبتي .. ليكن شعارنا في شهر رمضان وفي غيره من الشهور (لعلكم تتقون). وإنها لفرصةٌ عظيمةٌ في شهر رمضان الفضيل أن نُعَوِّد أنفسنا على تقوى الله قدر المستطاع؛ قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾. ومن كمال التقوى البُعد عن الشبهات، وما التبس بالحرام من الأمور؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْب].

اللهم أصلح قلوبنا، وأصلح سرنا وعلانيتنا، وظاهرنا وباطننا. اللهم إنا نسألك الهدى والتُّقَى، والعفافَ والغِنَى. ونسألك اللهم أن نكون ممن خاطبتهم بقولك (لعلكم تتقون) فما كان منهم إلا أن ﴿اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾ وأنت سبحانك تحب المتقين وتحب المحسنين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/7y24AJ