الجمعة، 18 مايو 2018

الحكمة من الصوم


الجمعة 18 مايو 2018م

خاطرة الجمعة /135
(الحكمة من الصوم)

دُهشت من خبرٍ تناقلته وكالات الأنباء العالمية الأسبوع الماضي، لم أصدقه إلا بعد أن شاهدت ما يتحدث عنه الخبر بأم عينيّ في مقطعٍ بالصوت والصورة منشورٍ على الإنترنت. يقول الخبر أن نائباً برلمانياً كندياً غير مسلمٍ سيصوم هذا العام شهر رمضان، وأن هذه هي المرة الثانية التي يقوم فيها بذلك. قال النائب إنه "يريد بذلك أن يفهم كيف يحس الفقراء حول العالم بالجوع". وأضاف موضحاً أنه "يدعم من خلال صيامه منظمةً خيريةً غير ربحية". وأشار إلى أنه "يجمع أموال الطعام التي يقتصدها في شهر رمضان ليمنحها للمحتاجين". ووفقاً لقوله، فإن تجربته مع الصيام في العام الماضي جعلته "يحس الجوع الذي يعيشه الفقراء والمحتاجون يومياً حول العالم". وحول لذة الإفطار، قال: "بالنسبة لأعدادٍ كبيرةٍ من الأطفال، فإن تلك اللذة لا تأتيهم أبداً، حيث يتوجب عليهم العيش مع الجوع، إنهم يحاولون التعلم لضمان مستقبل أفضل ببطونٍ فارغةٍ". وهنأ الجميع بحلول شهر رمضان المبارك، وأعلن أنه سينضم إلى المسلمين في صومهم هذا العام، وأن الطعام الذي سيقتصده سيذهب ثمنه لأغراضٍ خيريةٍ. وقد رحب البرلمان الكندي بهذه المبادرة بحفاوةٍ كبيرةٍ.

ذكرني هذا الخبر بقصةٍ واقعيةٍ حدثت لشخصٍ نصرانيٍ في شهر رمضان المبارك، يحكيها بنفسه فيقول: كنت أتعجَّب من المسلمين في بلدتي، كيف كانت وجوهُهُم تتقلَّب في السماء، عندما يقترب شهر رمضان، كأنهم ينتظرون إشارةً من خالق الكون من فوقهم ليقوموا بشيءٍ ما، فلما يروا الهلال، يفرحوا فرحاً عظيماً، كأنهم بُشـِّروا بأعظم البشرى، ولم أتوقّع أن يكون فرحهم بأنهم سيمتنعون طواعيةً عن كل الشهوات على مدى شهـرٍ كاملٍ طيلة النهار كلِّه، هذه الشهوات التي يتقاتل بنو البشر عليها وتُخاض الحروب التي تفتك بالملايين من أجلها! بل وأنهم سيقومون أيضاً بالسهر طوال الليل للصلاة ومناجاة ربهم!. لقد أخذ هذا الموضوع بلبِّي، واستحوذ على قلبي، فقررت أن أصوم معهم، وأنا لا أعرف من الإسلام سوى اسمه! كنت أمتنع عن الأكل والشرب وإتيان زوجتي إذا ذهب المسلمون لصلاة الصبح، وكنت أفطر إذا سمعت أذان المسجد لصلاة المغرب، بل وكنت أذهب فأصلي معهم في الليل صلاة التراويح؛ وأصنع مثل ما يصنعون قياماً وركوعاً وسجـوداً، غير أنني لا أتكلم بشيءٍ، فأجـد راحةً عجيبةً، وسكينةً لم تعرفها روحي من قبل، حتى إذا انتصف الشهر، لاحظ أحد المصلين أنني غريبٌ عن القوم، فسألني عن أمري، فدُهش من قصتي اندهاشاً حمله على أن يجمع الناس ليسمعوا مني، فلما سمعوا قصتي علموني الإسلام، فنطقت بالشهادتين، فكبَّروا وقالوا أنت أسلمت على يد رمضان، وسموني رمضان!

وهذه قصةٌ أخرى لشخصٍ مسلمٍ استقبل شهر رمضان بكثيرٍ من الذنوب والآثام: نظرٌ للحرام، وأكلٌ للأموال بالباطل، وفعلٌ للفواحش والآثام، وتضييعٌ للصلوات، وتفريطٌ في الطاعات، وغفلةٌ ما بعدها غفلةٌ عن ربه ومولاه. استقبل شهر رمضان وفي قلبه قسوةٌ وفي نفسه وحشةٌ، يعيش في ضيقٍ وهمومٍ لما يغشاه من المعاصي والآثام، لكنه ما إن أدرك رمضان إلا وتذكر قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وسمع أحد الوعاظ يروي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ لِلَّهِ عُتَقَاءَ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ - يعني في رمضان- لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ]؛ فتحركت في نفسه الرغبة في التوبة، وعلم أن ربه يغفر الذنوب ويستر العيوب ويقيل العثرات ويمحو السيئات.. كيف لا؟! والرسول الكريم يخبرنا: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا]. كيف لا؟! وهو الذي يتنزل إلى سمائه الدنيا كما أخبرنا الحبيب المصطفى بقوله: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِلُ حَتَّى يَذْهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ، ثُمَّ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: "هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ"، حَتَّى يَنْشَقَّ الْفَجْرُ]. أعلنها توبةً لله؛ وبكى بين يدي ربه ومولاه، وأقلع عن ذنوبه واستغفر ربه وناجاه وقال:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً
فلقد علمتُ بأن عفوك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ
فبمن يلوذ ويستجير المجرمُ
أدعوك ربي كما أمرتَ تضرعاً
فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
يا من يُرجَّى للشدائد كلها
يا من إليه المشتكى والمفزعُ
يا من خزائن ملكه في قول كن
امنن فإن الخير عندك أجمعُ
ما لي سوى فقري إليك وسيلةٌ
فبالافتقار إليك فقري أدفعُ
ما لي سوى قرعي لبابك حيلةٌ
فلئن رُددتُ فأي باب أقرعُ
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه
إن كان فضلك عن فقيرك يُمنعُ
فإذا به يجد راحةً وانشراح صدرٍ ولذةً؛ يبكي لقراءة القرآن، يسعد بالصيام سعادةً ما عهدها من قبل، ويتلذذ بالقيام. همومٌ كثيرةٌ زالت عنه، ومازال يرجو رحمة ربه ومولاه!

أحبتي في الله .. إنه شهر رمضان الذي حرك في هؤلاء فطرتهم السليمة النقية فأدركوا (الحكمة من الصوم) فصاموا. إنه شهرٌ وصفه بعض العارفين بأنه آيةٌ من آيات الله؛ ذلك أنه لو بذل فلاسفة البشرية ومفكروها كلهم مجتمعين طلاع الأرض ذهباً على أن يجعلوا أكثر من خُمس سكان الكرة الأرضية يجتنبون الشهوات، ويتنزهون عن متاع الدنيا، ويتركون بطونهم خاويةً، ويلتفتون إلى أرواحهم ليطهروها من التعلق بعالم المادة، إلى السمو الأخلاقي الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ] ليومٍ واحدٍ فقط، وليس لشهرٍ كاملٍ، لأعلنوا عجزهم، فيما نجح فيه هذا الدين العظيم!
إنه حقاً دينٌ عظيمٌ، وإن شهر رمضان المبارك لهو خير الشهور؛ فقد نزل جبريل بالقرآن فأصبح أفضل الملائكة، ونزل القرآن على محمدٍ صلى الله عليه وسلم فصار سيد الخلق، وجاء القرآن إلى أمة محمدٍ فأصبحت خير أمةٍ، ونزل القرآن في شهر رمضان فأصبح خير الشهور وأفضلها، ونزل القرآن في ليلة القدر فأصبحت خير الليالي.

ومما يجعل شهر رمضان خير الشهور وأفضلها أن من صامه إيماناً بالله وامتثالاً لأوامره وتصديقاً لما ورد في فضله محتسباً الأجر عند الله غُفر له ما تقدم من ذنبه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]. وكذلك فإن الصوم يشفع للمسلم يوم القيامة، وكذلك القرآن، يوم يكون في أمس الحاجة إلى الشفاعة؛ يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ]. كما أن الصائم يفرح بما يلاقي من الأجر والنعيم عند ملاقاة الله بسبب صيامه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ]. وأن في الجنة باباً يقال له الريان لا يدخل منه إلا الصائمون؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ]. ويكفي أن الله سبحانه وتعالى نسب جزاء الصيام والمثوبة عليه إلى نفسه، ومن كانت مثوبته وجزاؤه من كريمٍ عظيمٍ جوادٍ رحيمٍ فليستبشر بما أُعد له؛ قال صلى الله عليه وسلم: [قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصَّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ].

أحبتي .. فلنغتنم هذا الشهر الفضيل بالاستكثارِ من الطاعاتِ والقرباتِ، والبعد عن مواقعة السيئاتِ، فإن السيئة في رمضان أعظمُ عند الله من السيئة في غيرِه. ولنبادر بالأعمالِ الصالحاتِ، ونحذر التسويف والتأجيل، ونحذر الفتور والملل؛ فهم أصلُ كل عجزٍ وبلاءٍ.

إن إدراك (الحكمة من الصوم) واضحٌ لكل ذي بصيرةٍ؛ فقد فرض الله تعالى علينا الصيام لغايةٍ كبرى، ولمقصدٍ سامٍ، ألا وهو تحقيقُ التقوى في قلوبِنا وأقوالِنا وأعمالِنا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فليس مقصود الشرعِ من الصومِ الجوعُ والعطشُ، ولا ترك اللذةِ والشهوةِ فحسب، بل مقصودُه الأعظمُ استقامة القلب والجوارح على الطاعة، فطوبى لمن أدرك أن تقوى الله عز وجل هي الحكمة البالغة من الصوم فظَّل بحبلِ الله معتصماً.
أعيذ نفسي وأعيذكم أحبتي أن نكون ممن منع نفسه الطعام والشراب وما أحل اللَّهُ، ثم أسرف على نفسِه بارتكاب المعاصي ومقارفة السيئاتِ؛ فيصدق فينا قول النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَالنَّصَبُ].

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/TizWdf



الجمعة، 11 مايو 2018

أهلاً رمضان/2


الجمعة 11 مايو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٤
(أهلاً رمضان)

اقتربت بداية الشهر الفضيل، وبدأت الفوانيس والأضواء تُطل علينا من كثيرٍ من شرفات المنازل ونراها على مداخل العمارات. يتسابق الناس، وكذلك المحلات التجارية، لتكون الزينات التي يعلقونها هي الأكبر والأجمل والأكثر جذباً للأنظار. وبدأت التهاني بقرب بداية هذا الشهر تنهال على الجميع من خلال حساباتهم على برامج التواصل الاجتماعي.

أحبتي في الله .. عن شهر رمضان الكريم أتحدث، قال الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
يقول أهل العلم أن هذا الشهر المبارك موسمٌ للخير والبركة والعبادة والطاعة؛ فهو شهرٌ عظيمٌ، وموسمٌ كريمٌ، تُضاعَف فيه الحسنات، وتَعظُم فيه السيئات، وتُفَتَّح فيه أبواب الجنات، وتُقفل فيه أبواب النيران، وتُقبل فيه التوبة إلى الله من ذوي الآثام والسيئات؛ فعلينا أن نستعد له، وأن نحرص على فعل ما يرضي الله، وبما يُسعدنا يوم نلقاه.
إن الاستعداد لشهر رمضان يبدأ بمحاسبة النفس؛ فقبل أن يقول المسلم (أهلاً رمضان) عليه أن يُقَوِّم سلوكه ليكون في رمضان على درجةٍ عاليةٍ من الإيمان؛ فنمتنع عن كل ما يناقض تحقيق الشهادتين، وذلك بالابتعاد عن البِدَع والإِحداث في الدين، وبأن نوالي المؤمنين ونعادي الكافرين والمنافقين، ونفرح بانتصار المسلمين على أعدائهم، ونستن بسُنة النبي صلى الله عليه وسلم وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ونحبها ونحب من يتمسك بها ويدافع عنها في أي أرضٍ وبأي لونٍ وجنسيةٍ كان. بعد ذلك نحاسب أنفسنا على التقصير في فعل الطاعات؛ كالتقصير في أداء الصلوات جماعةً، وذِكر الله عز وجل، وأداء الحقوق للجار وللأرحام وللمسلمين، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق. ثم تكون المحاسبة على المعاصي واتباع الشهوات بمنع أنفسنا من الاستمرار عليها، صغيرةً كانت أو كبيرةً، بالعين أو بالسمع كانت أو بالمشي أو البطش باليدين فيما لا يرضي الله عز وجل، أو بأكل ما حرم الله من الربا أو الرشوة، أو غير ذلك من المعاصي. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ].
بهذه المحاسبة وبالتوبة والاستغفار يجب علينا أن نستقبل رمضان ونحن مستبشرون برحمة الله ومغفرته؛ قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾.

وشهر رمضان خير الشهور: ففيه خير ليلةٍ من ليالي السنة، وهي ليلة القدر؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، والعبادة في هذه الليلة خيرٌ من عبادة ألف شهرٍ. وفيه أُنزلت أفضل الكتب على أفضل الأنبياء عليهم السلام؛ قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾. وفيه تُفتح أبواب الجنة وتُغلق أبواب جهنم وتُصفَّد الشياطين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَاب، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَاب، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ]. وفيه كثيرٌ من العبادات، بعضها لا توجد في غيره؛ كالصيام والقيام وإطعام الطعام والاعتكاف.

يقول أهل العلم أن فهم كثيرٍ من الناس لحقيقة الصيام قد انحرف؛ فراحوا يجعلون من شهر رمضان موسماً للأطعمة والأشربة والحلويات والسهرات والفضائيات، واستعدوا لذلك قبل شهر رمضان بفترةٍ طويلةٍ؛ خشيةً من نقص بعض الأطعمة؛ أو ارتفاع أسعارها، فاستعد هؤلاء بشراء الأطعمة، وتحضير الأشربة، والبحث في دليل القنوات الفضائية لمعرفة ما يتابعون وما يتركون من مسلسلاتٍ، وقد جهلوا حقيقة الصيام في شهر رمضان، فسلخوا العبادة والتقوى عنه، وجعلوه لبطونهم وعيونهم. وانتبه آخرون لحقيقة صيام شهر رمضان ولمعنى (أهلاً رمضان) فراحوا يستعدون له من شعبان، بل بعضهم من قبل ذلك.

ومن أوجه الاستعداد المحمود لشهر رمضان:
التوبة الصادقة:
وهي واجبةٌ في كل وقتٍ، لكن بما أن المسلم سيُقْدِم على شهرٍ عظيمٍ مباركٍ فإن من الأحرى له أن يسارع بالتوبة مما بينه وبين ربه من ذنوبٍ، ومما بينه وبين الناس من حقوقٍ؛ ليدخل عليه الشهر المبارك فينشغل بالطاعات والعبادات بسلامة صدرٍ، وطمأنينة قلبٍ. قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وعَنْ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ].
الدعاء:
وقد ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهرٍ أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه خمسة أشهرٍ بعدها حتى يتقبل منهم. فيدعو المسلم ربَّه تعالى أن يبلِّغه شهر رمضان على خيرٍ في دينه وفي بدنه، ويدعوه أن يعينه على طاعته فيه، ويدعوه أن يتقبل منه عمله.
الفرح ببلوغ هذا الشهر:
فإن بلوغ شهر رمضان من نِعَم الله العظيمة على العبد المسلم؛ لأن رمضان موسمٌ للخير تُفتح فيه أبواب الجنان وتُغلق فيه أبواب النيران، وهو شهر القرآن، والغزوات الفاصلة في ديننا. قال الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
إبراء الذمة من الصيام الواجب:
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ أنها قالت: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ". ويؤخذ من ذلك أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر.
التزود بالعلم:
ليقف المسلم على أحكام الصيام، ويعرف فضل رمضان، ويجلس مع أهل بيته من زوجةٍ وأولادٍ لإخبارهم بأحكام الصيام، ويشجع الصغار على الصيام. ويُعِّد بعض الكتب التي يمكن قراءتها في البيت، ويقوم بإهداء بعضها لمكتبة المسجد ليقرأها غيره من الناس.
المسارعة في إنهاء الأعمال:
والمقصود بها الأعمال التي قد تشغل المسلم في رمضان عن العبادات.
الصيام من شهر شعبان:
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ".
قراءة القرآن:
يقال عن شعبان أنه شهر القراء. وكان بعضهم إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن. وقيل: رجبٍ شهر الزرع، وشعبان شهر سقي الزرع، ورمضان شهر حصاد الزرع. وقيل أيضاً: مثل رجب كالريح، ومثل شعبان كالغيم، ومثل رمضان كالمطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسقِ في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟

أنقل لكم أحبتي فيما يلي، بتصرفٍ، جدولاً اقترحه بعض علمائنا الأفاضل ليكون نموذجاً ليوم المسلم في شهر رمضان:
يبدأ المسلم يومه بالسحور قبل صلاة الفجر، والأفضل أن يؤخر السحور إلى آخر وقتٍ ممكنٍ من الليل. ثم بعد ذلك يستعد لصلاة الفجر، فيتوضأ في بيته، ويخرج إلى المسجد قبل الآذان، فإذا دخل المسجد صلى ركعتين تحية المسجد، ثم يجلس ويشتغل بالدعاء أو بقراءة القرآن أو بالذكر حتى يؤذن المؤذن فيردد معه، ثم يقول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الأذان، ثم بعد ذلك يصلي ركعتين راتبة الفجر، ثم يشتغل بالذكر والدعاء وقراءة القرآن إلى أن تُقام الصلاة، وهو في صلاةٍ ما انتظر الصلاة. بعد أن يؤدي الصلاة مع الجماعة يأتي بالأذكار التي تُشرع عقب السلام من الصلاة، ثم بعد ذلك إن أحب أن يجلس إلى أن تطلع الشمس في المسجد مشتغلاً بالذكر وقراءة القرآن فذلك أفضل؛ وهو ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر. ثم إذا طلعت الشمس وارتفعت ومضى على شروقها نحو ربع ساعةٍ فإن أحب أن يصلي صلاة الضحى، وأقلها ركعتان، فذلك حسنٌ، وإن أحب أن يؤخرها إلى وقت ارتفاع الشمس فهو أفضل. ثم إن أحب أن ينام ليستعد للذهاب إلى عمله، فلينوي بنومه ذلك التَّقوِّي على العبادة وتحصيل الرزق؛ كي يُؤجر عليه إن شاء الله تعالى. ثم يذهب إلى عمله، فإذا حضر وقت صلاة الظهر، ذهب إلى المسجد إذا أمكنه ذلك، مبكراً قبل الأذان أو بعده مباشرةً، وليكن مستعداً للصلاة مُسبقاً فيصلي أربع ركعاتٍ بسلامين، راتبة الظهر القبلية، ثم يشتغل بقراءة القرآن إلى أن تُقام الصلاة، فيصلي مع الجماعة، ثم يصلي ركعتين راتبة الظهر البعدية. ثم بعد الصلاة يعود إلى إنجاز ما بقي من عمله، إلى أن يحضر وقت الانصراف من العمل، فإذا انصرف من العمل فإن كان قد بقي وقتٌ طويلٌ على صلاة العصر يمكنه أن يستريح فيه فليأخذ قسطاً من الراحة، وإن كان الوقت غير كافٍ ويَخشى إذا نام أن تفوته صلاة العصر فليشغل نفسه بشيءٍ مناسبٍ حتى يحين وقت الصلاة فيصلي العصر. ثم بعد العصر إن كان بإمكانه أن يجلس في المسجد ويشتغل بقراءة القرآن فهذه غنيمةٌ عظيمةٌ، وإن كان يشعر بالإرهاق فعليه أن يستريح كي يستعد لصلاة التراويح في الليل. وقبل أذان المغرب يستعد للإفطار، وليشغل نفسه في هذه اللحظات بشيءٍ يعود عليه بالنفع؛ إما بقراءة قرآنٍ أو دعاءٍ أو حديثٍ مفيدٍ مع الأهل والأولاد. ومن أحسن ما يشغل به هذا الوقت المساهمة في تفطير الصائمين؛ إما بإحضار الطعام لهم أو المشاركة في توزيعه عليهم وتنظيم ذلك، ولذلك لذةٌ عظيمةٌ لا يذوقها إلا من جرب. ثم بعد الإفطار يذهب للصلاة في المسجد مع الجماعة، وبعد الصلاة يصلي ركعتين راتبة المغرب، ثم يعود إلى البيت ويأكل ما تيسر له مع عدم الإكثار، ثم يحرص على أن يبحث عن طريقةٍ مفيدةٍ يملأ بها هذا الوقت بالنسبة له ولأهل بيته كالقراءة من كتابٍ أو مسابقةٍ، أو حديثٍ مباحٍ أو أية فكرةٍ أخرى مفيدةٍ تتشوق النفوس لها وتصرفها عن المحرمات التي تُبث في وسائل الإعلام، والتي يُعد هذا الوقت بالنسبة لها وقت الذروة؛ فتجدها تبث أكثر البرامج جذباً وتشويقاً، وإن حَوَت ما حَوَت من المفاسد والمنكرات. ثم استعِد لصلاة العشاء، واتجِه إلى المسجد، فاشتغِل بقراءة القرآن. ثم بعد ذلك أدِ صلاة العشاء، ثم صلِ ركعتين راتبة العشاء، ثم صلِّ التراويح خلف الإمام بخشوعٍ وتدبرٍ وتفكرٍ، ولا تنصرف قبل أن ينصرف الإمام؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ]. ثم اجعل لك برنامجاً بعد صلاة التراويح يتناسب مع ظروفك وارتباطاتك الشخصية، وعليك مراعاة البعد عن جميع المحرمات ومقدماتها، ومراعاة تجنيب أهل بيتك الوقوع في شيءٍ من المحرمات أو أسبابها بطريقة حكيمةٍ، وأن تشتغل بالفاضل عن المفضول، ثم احرص على أن تنام مبكراً، مع الإتيان بالآداب الشرعية للنوم، وإن قرأت قبل النوم شيئاً من القرآن أو من الكتب النافعة فهذا أمرٌ حسنٌ، لا سيما إن كنت لم تنهِ وردك اليومي من القرآن؛ فلا تنم حتى تُنهه. ثم استيقظ قبل السحور بوقتٍ كافٍ للاشتغال بالدعاء؛ فهذا الوقت، وهو ثلث الليل الأخير، وقت النزول الإلهي، وقد أثنى الله عز وجل على المستغفرين فيه، كما بَشَّرَ الداعين فيه بالإجابة ووعد التائبين بالقبول، فلا تَدَع هذه الفرصة العظيمة تفوتك.

أحبتي .. هذا جدولٌ مقترحٌ مرنٌ يمكن لكل فردٍ أن يُعَدِّل فيه بحسب ظروفه الخاصة. أهم ما فيه الالتزام بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
واعلموا أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلَّ، فالإنسان في أول الشهر قد يتحمس للطاعة والعبادة، ثم يُصاب بالفتور، فاحذروا من ذلك، واحرصوا على المداومة على جميع الأعمال التي تؤدونها في هذا الشهر الكريم، وحولوا شعار (أهلاً رمضان) إلى سلوكٍ وعملٍ واجتهادٍ.

نسأل الله عز وجل أن يُنعم علينا بإدراك رمضان، وإتمام صيامه وقيامه، وأن يتقبل منا جميع أعمالنا، ويتجاوز عن تقصيرنا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/KLtiSd

الجمعة، 4 مايو 2018

إعجاز إلهي، وعجز بشري


الجمعة 4 مايو 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٣
(إعجاز إلهي، وعجز بشري)

يبدو أن شهر إبريل الماضي كان مُصِّراً على أن يترك بصماته قبل أن يغادر ويسلم الراية إلى شهر مايو؛ فلم تكد تمضي ساعاتٌ على انتهاء أعنف موجةٍ شهدتها البلاد من الأمطار الرعدية والسيول المصحوبة بقطعٍ من البَرَد جرفت أمامها كل شيءٍ وخلفت وراءها خسائر بشريةً محدودةً وخسائر ماديةً فادحةً، إلا والأرصاد الجوية تحذر من موجةٍ جديدةٍ من عدم استقرار الأجواء حيث من المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة بشكلٍ كبير، ويسود البلاد طقسٌ متقلبٌ نتيجةً لعاصفةٍ ترابيةٍ قادمةٍ من جهة الغرب. لأكثر من ثلاثة أيامٍ لم يكن لأحدٍ في بلدي من حديثٍ إلا عن العاصفة الترابية المتوقعة. انتشرت بكثافةٍ غير مسبوقةٍ أخبار العاصفة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث تناقل الناس منشورات تحذيرٍ تحدد اتجاه الرياح والأماكن التي يُعتقد أنها ستكون الأكثر تضرراً، فضلاً عن التعليمات والإجراءات التي ينبغي اتخاذها لتخفيض الآثار السلبية لتلك العاصفة إلى الحد الأدنى الممكن. كثرت الصور ومقاطع الفيديو التي رصدت بداية العاصفة والتي تبين شدتها وضراوتها، وصار الناس مستعدين للأمر استعدادهم لحربٍ قادمةٍ، حتى أن بعض من أعرف سارع لشراء كمامات أنفٍ له ولجميع أفراد أسرته! وأثَّرَت أنباء العاصفة على جميع مظاهر الحياة؛ حتى كادت العاصمة أن تتحول إلى مدينة أشباح!
ورغم أن العاصفة لم تكن قد بدأت بعد، فقد اُستنفرت جميع أجهزة الدولة: أُلغيت رحلات طيرانٍ، قُفلت موانئ بحرية، أُغلقت طرقٌ صحراويةٌ رئيسيةٌ حيويةٌ. واستعد الناس للأسوأ فظلوا في حالة ترقبٍ، واتخذوا الاحتياطات المناسبة: أجلوا الكثير من المواعيد، ألغوا خطط السفر، أحكموا إغلاق أبواب ونوافذ مساكنهم، ومنعوا أطفالهم من اللعب في الشوارع أو أمام البيوت.
إذن فقد حُبست الأنفاس انتظاراً للعاصفة العاتية القادمة. كنت أنظر لشوارع عاصمة بلدي ذلك اليوم فأحس أن الأشباح تسكنها، فلم يعد يمشي في الشارع إلا صاحب حاجةٍ مضطرٍ أو مغامرٍ أهوج!
لا يكاد ينقطع رنين أجهزة الهاتف من كثرة ما استخدمها الناس للتواصل والسؤال عن أخبار العاصفة والاطمئنان على الأهل والأحباب.
يمر الوقت ولا تصل العاصفة! الناس يتابعون أخبارها من خلال شاشات التلفاز التي تسمرت أعينهم أمامها، ومحطات الإذاعة التي تتابعها آذانهم، ثم عندما لا يجدون ما يُشبع فضولهم ويروي تعطشهم للمعرفة ينتقلون إلى مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، فتسمع صوت لمسات أناملهم على لوحات مفاتيح الحاسوب والهواتف الذكية يكسر حاجز الصمت، حين تتواصل الكتابة لمعرفة آخر الأخبار والاطمئنان على الأحبة.
تمر ساعات الترقب بحذرٍ، تمضي ثقيلةً بطيئةً. الهدوء التام هو سيد الموقف، هدوءٌ ممزوجٌ بإحساس أن هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، ليس كمثلٍ يُقال، وإنما كواقعٍ يعيشه الجميع أو يتعايشون معه، والجميع مستسلمٌ لا يملك من أمر نفسه شيئاً سوى الانتظار والدعاء! إننا حقاً أمام حالة (إعجاز إلهي، وعجز بشري).
انتهى اليوم ولم تصل العاصفة بعد، تُرى هل غيرت اتجاهها؟ أم أجلت موعد وصولها، أم ضعفت قوتها وتحولت إلى ريحٍ عاديةٍ؟
خرج على شاشات التلفاز التي تعلقت عيون الناس بها من يطمئنهم أن الأمر بالنسبة لوصول العاصفة إلى العاصمة قد انتهى، وأن العاصفة في طريقها الآن إلى مواقع ومحافظاتٍ أخرى! تنفس سكان العاصمة الصُعداء، وبدأت مظاهر الحياة العادية للعودة تدريجياً كما في أحوالها العادية! وعاد الناس، كطبيعتهم، بعضهم يشكر الله سبحانه وتعالى أن كشف الضُر عنهم، وبعضهم ساخطٌ لما سببه الاستعداد لاستقبال العاصفة من إهدار الوقت وضياع الفرص وتأجيل المواعيد وتعطل الأعمال!

أحبتي في الله .. تلك كانت ليلة رعبٍ وصفتها بدقةٍ قدر ما استطعت. لكن أهم ما استوقفني حقاً هو حقيقة أن هذه الريح هي جنديٌ من جنود الله، يستبشر الناس بها تارةً، ويتخوفون منها تارةً أخرى! وأن هذه الريح آيةٌ يثبت لنا في كل مرةٍ تهب فيها بشدةٍ أنها (إعجاز إلهي، وعجز بشري).
سبحان الله فيما خلق، والريح خلقٌ مما خلق، مأمورةٌ مجندةٌ، مثلها مثل الملائكة ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.

يقول العلماء عن الريح أنها آيةٌ من آيات الله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. قال المفسرون في قوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾: باردةً وحارةً، وجنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً وبين ذلك، تارةً تثير السحاب، وتارةً تؤلف بينه، وتارةً تلقحه، وتارةً تدره، وتارةً تمزقه وتزيل ضرره، وتارةً تكون رحمةً، وتارةً تُرسَل بالعذاب؛ فتصريفها تقلُّبها بين هذه الأمور. والرياح من الآيات التي تُدخل السرور على النفس، ويُستبشر بها، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا﴾، وقال تعالى: ﴿أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، وقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. يقول ابن الجوزي عند تأويل هذه الآية أنّ هذه الجُمَل كلها تتعلق بالرياح: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ فتفرح النفوس بالرياح، ﴿وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ﴾ بالمطر الذي تحمله الرياح، ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ والفلك تحركها الرياح، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ بتجارة البحار التي تحرك الرياح بواخرها، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ تشكرون الله على نعمة الرياح.
الريح من جند الله، يعز الله بها أولياءه، ويذل بها أعداءه؛ أكرم الله تعالى بها سليمان عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾، وقال: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ِ﴾.
كما نصر الله سبحانه وتعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بالريح؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾.
والريح عذابٌ يسلطه الله على من شاء من أعدائه، توعد بها الكافرين؛ فقال:﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ . أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾. وتوعد بها سبحانه المعرضين، الذين يعرفونه في الشدة دون الرَّخاء، أن يُسلِّط عليهم الريح فيغرقهم بها، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا . أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً . أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾، قاصفاً: الريح الشديدة تقصف ما تأتي عليه. وأهلك الله بها عاداً قوم هودٍ عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾، عقيمٌ أي لا خَير فيها ولا بَرَكة، لا تُلْقِح شجراً ولا تَحْمِل مطراً، وإنما هي للإهلاك. وقال تعالى عنهم: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ﴾، والصرصر: الشديدة العاتية، ويوم نحسٍ: شديد الشقاء. وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾، أي كأن جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته الريح فسقط على الأرض. وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ . تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾. حقاً ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾، وصدقاً ﴿مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾.

أحبتي .. أختم بما قرأته لأحد العلماء كتب يقول إن الله عز وجل أمرنا بالتفكر في آياته الكونية التي يجريها سبحانه وتعالى بقدرته لتحقيق مراده في كونه، ومن آيات الله تعالى في الكون، الريح، وهي من الآيات التي تتجلى فيها طلاقة القدرة الإلهية، ويقف الإنسان مهما أُوتى من علمٍ، أمامها مشدوهاً مذهولاً عاجزاً عن الوصول إلى حقيقة هذه الآيات من حيث طبيعتها وتكوينها وقوتها وآثارها وتوقيت حدوثها ومكان حدوثها، وكلها أمورٌ تترك أسئلةً واستفساراتٍ لدى الإنسان تجعله دائماً في حالة تفكرٍ وتدبرٍ للوصول إلى حقيقة هذه الآيات ومقصودها؛ وهذه هي قمة الإعجاز في الخلق والكون، وقمة العجز العقلي أمام هذا الإعجاز لأنه سيظل إلى أن تقوم الساعة يسمع قول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...﴾. وكلما بحث واجتهد وفكر ووصل إلى بعض الحقائق وظن أنه قد وصل إلى مبتغاه ينتبه على قول الله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾. وهذه الآية الكريمة ستظل تدفع العقل البشري إلى البحث والنظر والاجتهاد للوصول إلى حقيقة ما يحدث في الكون العظيم، كما أنها ستظل واقفةً موقف التحدي الأبدي لتؤكد للإنسان أنه مهما بلغ من العلم وحقق من اكتشافاتٍ، فإنه ما جمع ولا وعى إلا قليلاً من علم الله الذي ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ﴾.

إذا عصفت الريح فلا نقول إلا كما كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ]، فهذه الريح آيةٌ ربانيةٌ وجنديٌ من جنود الله سبحانه وتعالى؛ نُسَلِّم جميعاً بأنها، هي والسيول من قبلها وغيرهما، (إعجاز إلهي، وعجز بشري) يستوجب الحمد والشكر، فاللهم لك الحمد والشكر على جميع نعمك وأفضالك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.  

https://t.co/3H3jVKLAwk

الجمعة، 27 أبريل 2018

الطريق إلى السلام العائلي


الجمعة 27 إبريل 2018م

خاطرة الجمعة /١٣٢
(الطريق إلى السلام العائلي)

بمناسبة زفاف إحدى بنات العائلة العزيزات، وقرب موعد زفاف أحد شباب العائلة الأعزاء، فكرت في هديةٍ غير تقليديةٍ يمكن أن أقدمها لكلٍ منهما.
هذه هي هديتي؛ كلماتٌ موجزةٌ طيبةٌ ومفيدةٌ، خلاصة حكمةٍ وخبرةٍ بالحياة، وجدتها في ثلاث وصايا؛ الأولى قَدَّمَتْها، منذ زمنٍ بعيدٍ لابنتها ليلة زفافها، امرأةٌ عربيةٌ واعيةٌ حكيمةٌ، هي في واقع الأمر خبرة حياةٍ مصاغةً في أجمل قالبٍ، حتى أن أجيالاً من العرب توارثتها جيلاً بعد جيلٍ. والوصية الثانية كتبتها لابنها ليلة زفافه أمٌ معاصرةٌ أستاذةٌ جامعيةٌ خبيرةٌ ومتخصصةٌ في اللغة العربية. أما الوصية الثالثة فصاغتها شعراً أمٌ مصريةٌ أنعم الله عليها بموهبةٍ في الشعر فَقَدَّمَت به وصيتها لكلٍ من ابنتها وابنها قبيل زفافهما.

أحبتي في الله .. أبدأ بعرض وصية بنت الحارث لابنتها أم إياس بنت عوف بن ملحم الشيباني ليلة زفافها إلى عمرو بن حجر ملك كِندة، أوصتها وصيةً تُبين لها فيها أسس الحياة الزوجية السعيدة، وما يجب عليها لزوجها. نَقَلْتُ لكم الوصية عن كتاب (الطريق إلى السلام العائلي) لوالدي إبراهيم عبد الله الوليلي، رحمه الله وغفر له. قالت الأم في وصيتها:
أي بُنية: إن الوصية لو تُرِكَتْ لفضل أدبٍ لتَرَكْتُ ذلك لك، ولكنها تذكرةٌ للغافل، ومعونةٌ للعاقل، ولو أن امرأةً استغنت عن الزوج لغنىٰ أبويها، وشدة حاجتهما إليها لكنتِ أغنىٰ الناس عنه، ولكن النساء للرجال خُلقن، ولهن خُلق الرجال.
أي بُنية: إنك فارقتِ الجو الذي منه خرجتِ، وخلَّفتِ العُش الذي فيه درجتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيباً ومليكاً، فكوني له أمَةً يكن لك عبداً وشيكاً، واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً:
أما الأولى والثانية: فالخشوع له بالقناعة، وحُسن السمع والطاعة.
أما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على القبيح، ولا يشم منك إلا أطيب الريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن غرائز الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
أما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء {الرعاية} على حَشَمه {خدمه} وعياله، ومِلاك الأمر في المال: حُسن التقدير، وفي العيال: حُسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سراً، فإنكِ إن خالفتِ أمره أوغرتِ صدره، وإن أفشيتِ سره لم تأمني غدره.
ثم بعد ذلك اتقِ الفرح عنده إن كان تَرِحاً {حزيناً}، والحزن بين يديه إن كان فَرِحاً؛ فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير. وأشد ما تكونين له إعظاماً، أشد ما يكون لك إكراماً، وأشد ما تكونين له موافقةً، يكن أطول ما تكونين له مرافقةً. ولن تَصِلي إلى ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاكِ، وهواه على هواكِ، فيما أحببتِ أو كرهتِ .. والله يصنع لك الخير، واستودعتك الله.

ووصية الأم لابنها ليلة زفافه تبين له (الطريق إلى السلام العائلي) كَتَبَتْها أميرة بنت علي الصاعدي الحربي، أنقلها إليكم بتصرفٍ اختصاراً وتعديلاً، قالت الأم:
أولاً: هنيئاً لك الزواج فهو سكنٌ وراحة بالٍ:
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
ثانياً: بالمودة والرحمة تدوم الحياة:
قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، فالله هو الذي جعل بينكما المودة والرحمة، والمودة تنمو بالكلمة الطيبة والخُلُق الحسن والثناء الجميل، وإدخال السرور على الزوجة.
ثالثاً: كُنْ راعياً أميناً ومسؤولاً بحقٍ:
قال صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مسئولٌ عنْ رعِيَّتِهِ، والإِمَامُ رَاعٍ ومسئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ ومسئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، ...].
رابعاً: الأم حقٌ أعظم وخطٌ أحمر:
فعَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَيّ النَّاس أَعْظَم حَقًّا عَلَى الْمَرْأَة؟" قَالَ: [زَوْجهَا]، قُلْت: "فَأَيّ النَّاس أَعْظَم حَقًّا عَلَى الرَّجُل؟" قَالَ: [أُمّه].
خامساً: أحسن عِشرة زوجتك:
قال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾. وسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: [أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، أَوْ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ]. وتذكر يا بُني وصية الرسول صلى الله عليه وسلم: [لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ].
سادساً: كُنْ حكيماً في القوامة، رفيقاً في الولاية:
قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ...﴾.
وقوامة الرجل على زوجته تكون بقيامه بحُسن التدبير لها وحفظها والنفقة عليها، وهذا يوجب عليه التعقّل والرَويّة والأَناة وعدم التسرع في القرار، وهي ليست تعسفاً واستبداداً، بل قيادةٌ ومسؤوليةٌ.
سابعاً: قَوِّم الخطأ، وعالج الأمور برويةٍ:
قال صلى الله عليه وسلم: [مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ]، وقال: [يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ].
ثامناً: احرص على الطاعة تسعد، واترك المعصية تُحمد:
أقم أمر الله في نفسك وأهلك، والتزم بطاعة الله والوقوف عند أوامره ونواهيه، واتقِ الله؛ يحفظ الله أهلك وولدك، فالمعصية شؤمٌ يرى المرء أثرها في زوجه وولده. واستكثر من الحسنات، وكن لأهلك قدوةً في المحافظة على مرضاة الله، واغتنام فضائل الأعمال، وتتبع السنن النبوية، والتزام الأخلاق الحميدة، واختيار أطيب الأقوال، وجميل الفعال.
تاسعاً: عليك بأمر أهلك بالمعروف ونهيهم عن المنكر:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾. وقال مادحاً إسماعيل عليه السلام: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾.
عاشراً: التزم يا ولدي بالمحافظة على الصلاة، والصوم، والزكاة، وحفظ وتلاوة القرآن، والدعاء، والذِكر.

أما الوصية الثالثة؛ فهي التي عَبَّرَت بها الشاعرة لورا الأسيوطي في قصيدة "أخلاقيات الزواج" عن بعض هذه المعاني شعراً؛ ومما قالت لابنتها "أحلام":
كوني لزوجِك مثلما هو يَشتهي
ولْيبقَ بينكُما رضاً ووئامُ
أنتِ الرعيةُ كلُّها في مُلكِهِ
والطاعةُ العمياءُ منكِ لزامُ
وله القيادةُ كلُّها وبكفِّه
لكِ يا رعيَّةُ في الحياةِ زمامُ
كوني له زوجاً تُريه حَنانَها
إنَّ الحنانَ بغيرِها أوهامُ
ومما قالته الشاعرة لابنها "أشرف" في ذات القصيدة:
كنْ زوجَها وصديقَها وشقيقَها
وأباً حنوناً كله إكرامُ
كنْ راعياً للبيتِ يُصلحُ أمرَه
باللِّينِ لا عنَتٌ ولا إرغامُ
كنْ حامياً ومربِّياً ومواسياً
وبه يتمُّ لما تريدُ تَمامُ
ونضيف إلى ذلك تفصيل الوصية العاشرة من وصية الأم لابنها ليلة زفافه، وبتصرفٍ لتكون الوصية موجهةً لكلا الطرفين؛ الزوج والزوجة على سواءٍ:
التزما بأداء الصلاة على وقتها، ففيها نجاتكما، وحافظا على صلاة الفجر؛ جاء في الحديث: [مَن صَلَّى الصُّبحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ ...] ومن كان في ذمة الله كفاه الله همه ويَسَّر له جميع أمره. واستكثرا من السنن والنوافل خاصةً قيام الليل ما استطعتما.
صوما شهركما، واجبُرا ما يشوب صومكما من تقصيرٍ بصيام التطوع كلما كان ذلك ممكناً.
أخرجا زكاة مالكما في وقتها، واجعلا جزءاً من دخلكما للصدقات وأعمال الخير والبر.
ادخرا ما يكفي لأن تؤديا فريضة الحج، ما استطعتما إلى ذلك سبيلاً، وأديا العمرة إن تيسرت لكما.
قرآنكما ربيع قلبكما، وسعادة روحكما، فاحفظا منه ما تيسر، ولا يخلو يومكما من وردٍ تتلواه؛ حتى لا تكونا من هاجري القرآن الكريم.
دعاؤكما هو التجارة الرابحة والغنيمة الباردة، والحبل الممدود إلى السماء لا ينقطع؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.
ذِكْرُكما هو حصنكما، لا تنسَيا أذكار الصباح والمساء، وغيرها من أذكارٍ، فهي درعٌ واقيةٌ وحصنٌ حصينٌ؛ من فوائدها انشراح الصدر وطمأنينة القلب بمعية الله تعالى، وذكره للعبد في الملأ الأعلى، قال صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ].
بالتزامكما هذه الوصية، وتنشئة أبنائكما عليها تكونوا بإذن الله من أسعد الناس، وتعيشوا حياةً هنيئةً طيبةً؛ يقول عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.

أحبتي في الله .. الأسرة أساس المجتمع واللبنة الأولى في بنيانه، إذا صلحت صلح المجتمع كله، وإذا سعدت سعد كل المجتمع. وإن كان الزواج شركةً بين الزوج وزوجته، فإن قائدها والمسؤول الأول عنها هو الزوج، فليكن له في الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي].

أحبتي .. المتأمل في هذه الوصايا الثلاث يجد أنها نبراسٌ يضيء (الطريق إلى السلام العائلي)، وهي تصلح لجميع النساء والرجال؛ سواءً منهم المقبلين على الزواج أو المتزوجين بالفعل؛ فكل عبارةٍ وردت فيها تحمل الكثير من الحكمة وبُعد النظر والفطنة والكياسة يمكن أن نستفيد كلنا منها.
بادروا أحبتي إلى إهدائها لمن تحبون من المقبلين على الزواج، ومن المتزوجين حديثاً، وأرسلوها إلى كل زوجٍ وزوجةٍ حتى لو مرت على زواجهما سنواتٌ طوال. وليقرأها كلٌ منا لنفسه بتدبرٍ عسى أن يتدارك بعضنا ما قد يكون فاته من خيرٍ!

اللهم أصلحنا، وأصلح لنا أزواجنا، واجعلنا وأبناءنا وأحباءنا من الصالحين والسعداء.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/7sC1PR

الجمعة، 20 أبريل 2018

شياطين الإنس


الجمعة 20 إبريل 2018م

خاطرة الجمعة /١٣١
(شياطين الإنس)

يُحكى أنه في حروب أوروبا في القرن الثامن عشر دخل الجنود قريةً واغتصبوا كل نسائها، إلا واحدةً من النساء قاومت الجندي وقتلته وقطعت رأسه! وبعد أن أنهى الجنود مهمتهم ورجعوا لثكناتهم ومعسكراتهم، خرجت كل النساء من بيوتهن يلملمن ملابسهن الممزقة ويبكين بحرقةٍ، إلا هي خرجت من بيتها وجاءت حاملةً رأس الجندي بين يديها وكل نظراتها عزة نفسٍ واحتقارٍ للأخريات، وقالت: هل كنتن تظنون أن أتركه يغتصبني دون أن أقتله أو يقتلني؟! فنظرت نساء القرية لبعضهن البعض وقررن أنه يجب قتلها حتى لا تتعالى عليهن بشرفها ولكي لا يسألهن أزواجهن عندما يعودون لِمَ لم تقاومن مثلها؟! فهجموا عليها على حين غفلةٍ وقتلوها؛ قتلوا الشرف ليحيا العار.
وهكذا هو حال الفاسدين في كل مكانٍ وزمانٍ؛ يحاربون كل شريفٍ إلى حد القتل كي ﻻ يكون شاهداً على فسادهم؛ إنهم (شياطين الإنس).

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه الحكاية بالآية الكريمة التي نزلت في المنافقين: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾. يقول المفسرون أن المنافقين يتمنون أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم، وتصديقَ نبيِّكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما كفروا هم، فتكونون سواءً؛ أي فتكونون كفّاراً مثلهم، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله. يقول الشيخ الشعراوي: ﴿وَدُّوا﴾ من عمل القلب، وعمل القلب تخضع له جميع الجوارح، فما داموا يودون أن يكون المسلمون كافرين، إذن سيقفون في سبيل انتصار المسلمين، وسيضعون العقبات التي تحقق مطلوبات قلوبهم. فأصحاب الباطل إن كانت لهم قوةٌ يجعلون لسانهم مع قلوبهم في الجهر بالباطل، وإن كان عندهم ضعفٌ يجعلون قلوبهم للباطل ولسانهم للحق؛ فهم يتمنون إزالة طائفة الحق حتى لا يكون هناك أحدٌ أفضل من أحدٍ. وقوله سبحانه عن أمنية المنافقين الكافرين بقلوبهم هو أن يكون المؤمنون مثلهم ﴿فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾، فإذا ما حاول أحدٌ من أصحاب الرذيلة (شياطين الإنس) أن يشد صاحب الفضيلة إلى خطأٍ، فهو يسعى إلى إضلاله، إنهم لا يقفون من الإيمان موقف الحياد، ولكنهم يقفون منه موقف العناد والعداوة، وفي هذا تحذيرٌ واضحٌ للمؤمنين هو: إياكم أن تأمنوهم على شيءٍ يتعلق بمصالحكم وإيمانكم. وهذه الآية الكريمة توضحها آيةٌ أخرى في كتاب الله؛ يقول المولى عز وجل: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾.

يقول أهل العلم أن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن من الجن والإنس شياطين يريدون أن يضلونا وأن يبعدونا عن صراط الله المستقيم، ويريدون أن يسببوا لنا الأذى النفسي والبدني، فهم يوسوسون، وينفثون سمومهم بين بني آدم، ويرسلون عليهم أعوانهم ليؤذوهم وليلبسوا عليهم دينهم؛ قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ﴾، فهذه الآية تبين شدة عداوة الشيطان لبني آدم وخصوصاً عباد الله المؤمنين، فهو حريصٌ على كل ما يضرهم من الكفر والبدع والمعاصي وتعليق قلوبهم بغير الله، والشرك به والاستعانة بغيره، وغير ذلك مما ينال من إيمانهم وعقيدتهم، ولكن الله تعالى، رحمةً منه بنا، أنار لنا الطريق بالبرهان الساطع والكلام الواضح المبين، فحذرنا من الشيطان وأعوانه؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، وحذرنا منه أيضاً النبي، صلى الله عليه وسلم، في كثيرٍ من الأحاديث، كي نتجنب وسوسته وأذاه.
فالشياطين من الجن هم المتمردون منهم وأشرارهم، و(شياطين الإنس) هم متمردو الإنس وأشرارهم. فالجن والإنس منهم شياطين؛ وهم متمردوهم وأشرارهم من الكفرة والفسقة. وشيطان الإنس لا يوسوس كما يفعل شيطان الجن، وإنما يأتي عياناً ويدعو إلى المعاصي؛ فشيطان الجن يوسوس بنا لنقتل أو نزني أو نسرق وليس له سطوةٌ وتحكم فينا، أمّا شيطان الإنس، فهو يسرق بيديه ويعلّمنا سبل السرقة، وإذا كان شيطان الجن يزيّن لنا شرب الخمر، فشيطان الإنس يصنعه ويحضره لنا.
قال مالك بن دينار: "إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً".
فكل إنسانٍ مفسدٍ يأمر بالسوء والفحشاء والمنكر وينهى عن الصلاح والاستقامة ويشغل عن ذكر الله وعن الصلاة هو شيطانٌ، لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ﴾.
إن هؤلاء المفسدين ينقمون من كل مؤمنٍ بالله شريفٍ مستقيمٍ؛ يقول عنهم المولى عز وجل: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، لكن سطوتهم تكون أظهر وأقسى وأشد بأساً عندما يتحول الإنسان الطاهر النظيف من شخصٍ صالحٍ يهتم بأمور نفسه فقط إلى شخصٍ مصلحٍ يهتم بأحوال غيره وينبههم ويفضح لهم خطط ومشاريع المفسدين ويبين لهم أهدافهم ومآربهم.
إن أكثر ما يضايق (شياطين الإنس) المفسدين ويقض مضاجعهم هو وجود المصلحين الذين يكشفونهم، ويحاربون فسادهم، ما يعني تجريدهم مما هم فيه، وتنغيص تمتعهم بشهواتهم وملذاتهم التي يغرقون فيها، ما يستفزهم ويدفعهم لمحاربة أولئك المصلحين بشتى الطرق الممكنة، وتظهر شراسة المفسدين بوجهها السافر حينما يستشعرون أن المصلحين باتوا يهددون وجودهم المرتبط بمشروعهم الإفسادي، أو يمنعونهم من ارتكاب المعاصي العلنية الظاهرة، لذا فإنهم يسعون بكل ما أوتوا من قوةٍ لإقصاء أولئك المصلحين عن مواقع الحضور والتأثير.
ويبين الله سبحانه وتعالى لنا علاقة التحالف بين (شياطين الإنس) وشياطين الجن؛ يقول سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾، أي: يُزين بعضهم لبعضٍ الأمر الذي يدعون إليه من الباطل، ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورةٍ، ليغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء، الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة، والعبارات المموهة المنمقة، فينخدعون بقدرة أهل الباطل على التزييف وقلب الحقائق وتمثيل أدوار المصلحين، وينقادون وراءهم يعتقدون الحق باطلاً والباطل حقاً. وفي الآية بيانٌ واضحٌ بأن هناك (شياطين الإنس) وهم غير شياطين الجن، بل هم مقدمون عليهم؛ إنهم أعوانٌ لهم، تكمن خطورتهم في أنهم بشرٌ منا؛ من الأهل أو الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء أو الزملاء أو المعارف أو من الغرباء، تجدهم في الأسرة والجيرة وأماكن العمل وفي مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي وفي شبكة الإنترنت والقنوات التلفزيونية؛ شغلهم الشاغل أن يزينوا للناس الباطل ويوحون بالقول المزخرف المنمق عمل السوء، إنهم يسعون في الأرض فساداً ويتمنون لو أنَّا أطعناهم، منهم من يسعى لتعليم الشباب التدخين أو تناول المخدرات أو الخمر والمسكرات، ومنهم من يحاول أن يجر الناس إلى أماكن لعب القمار أو أماكن الفسق والفجور واللهو المحرم، ومنهم من يزينون للناس كل عمل مشين يعرضون عليهم مشاركتهم فيما هم متورطون فيه من فسادٍ على اختلاف صوره وأشكاله؛ من قتلٍ وزنا وظلمٍ وبغيٍ واعتداءٍ على الغير بغير حقٍ ونصبٍ وأكل أموالٍ بالباطل وكذبٍ وافتراءٍ واجتراءٍ على الله ورسوله، ويسوقون بضاعتهم الرديئة على أنها شطارةٌ أو تجارةٌ أو إثبات نفوذٍ أو فرض هيبةٍ؛ أو صورةٌ من صور التحضر والحداثة ومجاراة الحياة العصرية؛ فهم حقاً قد ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾!

وقد بين الله ما على المسلم أن يعامل به كلاً من (شياطين الإنس) والجن؛ قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ . وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، حيث يتبين من هذه الآية الكريمة ما ينبغي أن يُعامَل به الجهلة من (شياطين الإنس) والجن؛ فشيطان الإنس يُعامل باللين وأخذ العفو والإعراض عن جهله وإساءته. أما شيطان الجن فلا منجى منه إلا بالاستعاذة بالله منه.

أحبتي .. فلنَحْذر من (شياطين الإنس)، ولنُحَذِّر أهلينا وأبناءنا وجميع أحبائنا منهم، ولنعلم أنه من علامات ﴿زُخْرُف الْقَوْلِ﴾ أنه يعجبنا قولهم، ويقسمون بالله وهم كاذبون، حَذَّرنا الله منهم؛ قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ؛ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾.
ولنسأل الله الثبات على الدين وعلى الحق وعلى اتباع سبيل المؤمنين ولو قَلَّ سالكوه؛ حتى نقي أنفسنا الانزلاق إلى طريق الحرام وسبل الفساد ونبتعد عن سبيل الله ونصد عنه فتنطبق علينا، والعياذ بالله، الآية الكريمة: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾.

وقانا الله وإياكم شر أصدقاء السوء (شياطين الإنس) الذين يودون لو كفرنا كما هم كافرون، ويتمنون لو فسدنا كما هم فاسدون، الذين يحاربون أصحاب القلوب الطاهرة والضمائر الحية والأيادي النظيفة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://goo.gl/RohRL6