الجمعة، 12 أغسطس 2016

المستوى الرفيع

الجمعة 12 أغسطس 2016م
خاطرة الجمعة /٤٤

(المستوى الرفيع)

"في أسبوع واحد مرت عائلتنا بموقفين، كلاهما حبس الأنفاس، وكلاهما كان بمثابة نهاية مرحلة وبداية أخرى، كان كلا الموقفين فارقاً ومؤثراً .. الموقف الأول كان وفاة أحد شيوخ العائلة رحمه الله .. وأما الموقف الثاني فكان ظهور نتيجة امتحان الثانوية العامة لأحد شباب العائلة حفظه الله". كانت تلك عبارات صديقٍ لي واصفاً ما حملته الأيام له ولأسرته خلال أسبوع مضى.
استمر هو في حديثه، ووجدت نفسي أعطيه جوارحي كلها مُظهراً اهتماماً بما يزال يقول، أما ذهني فكان قد شرد بعيداً وتوقفت بي أفكاري عند تلك العبارة التي بدأ حديثه بها؛ تأملت كلا الموقفين الذَيْن مرت بهما عائلته، وتساءلت بيني وبين نفسي: هل يا تُرى يوجد ما يجمع بينهما؟ هل هناك أمورٌ يتشابهان فيها؟ أم أنهما مختلفان تمام الاختلاف؟
فكرتُ ملياً فوجدتُ في هذين الموقفين أموراً مشتبهة وأخرى غير متشابهة.
فمن أوجه التشابه: أن كلاً منهما اختبارٌ وابتلاء، يقول الله سبحانه وتعالى عن الموت: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. وكلاهما فيه مفارقةُ معلومٍ إلى مجهول، وانتقالٌ من حالٍ ألفه صاحبه إلى آخر لم يألفه. وفي كلٍ منهما أملٌ ورجاءٌ قد يتحقق وقد لا يتحقق. وفي الحالتين لم ولن ينفع صاحب الموقف إلا عمله هو ولن ينفعه عمل حتى أقرب الناس إليه وأكثرهم حباً له. كما أن في الموقفين انتظاراً وترقباً لشئٍ أهمٍ انتظاراً لتقرير مصير وترقباً لمستقبلٍ لم تتحدد ملامحه النهائية بعد.
أما عن وجوه الاختلافٍ بين كلا الموقفين فمنها: أن امتحان الثانوية العامة اختبارٌ بشريٌ دنيويٌ موضوعه مدى اجتهاد طالبٍ في دراسته في سنواتٍ محددة، أما الوفاة فهي اختبارٌ إلهيٌ أُخرويٌ موضوعه مدى اجتهاد الفرد في جميع مجالات حياته على امتداد عمره كله طال أو قصر. للطالب فرصةٌ أخرى في دورٍ ثانٍ أو إعادة الامتحان، وأما الفرد فقد انتهى الزمن الذي خصصه المولى له للاختبار والابتلاء بغير زيادةٍ ولا نُقصان؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، ودون عودةٍ أو رجعة؛ يقول عز وجل: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا﴾. الطالب يعلم موعد الامتحان مسبقاً ويستعد له ويعمل على تحقيق أفضل نتيجةٍ ممكنة ويحرص على تحسين المجموع بالحصول على درجات (المستوى الرفيع)، أما الفرد فلا يعلم موعد انتهاء أجله وتَغُّرُه الحياة الدنيا بالأماني فيغفل عن الاستعداد للآخرة ويوم الحساب ويُلهه الأمل؛ يقول سبحانه: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الْأَمَل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾. الطالب يقوم على ملاحظته وقت الامتحان وفي مكان أدائه ملاحظٌ أو أكثر يلاحظون الظاهر فقط من أعماله، وأما الفرد منا فيقوم على ملاحظةِ أفعاله ونوايا قلبه وخائنة عينه وما يُخفي صدره وكل قولٍ يلفظه رقيبٌ عتيد وملائكةٌ يحفظونه ويكتبون أقواله وأفعاله في كل مكانٍ وزمان لا يفارقونه حتى ينتهي أجله؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ*مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، ويقول: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ*كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾. كما يلاحظ كلاً منا ويراقبه ويشهد عليه يوم الحساب من لم يكن يتوقع شهادتهم: سمعنا وأبصارنا وجلودنا وألسنتنا وأيدينا وأرجلنا؛ يُنطقهم الله سبحانه وتعالى بالحق؛ يقول المولى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
ومن أعجب أوجه الاختلاف بين الموقفين أن الامتحان أسئلته سريةٌ ومجهولة وإجاباته النموذجية لا يعلمها إلا المصححون، أما الأسئلة التي سوف تُوجه لكل فردٍ منا بعد الموت ووقت الحساب فهي معلنةٌ معلومةٌ سلفاً لنا جميعاً ونموذج إجاباتها مذكورٌ بالتفصيل في القرآن الكريم وتوضحه بجلاء سنة نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام! ليس هذا فحسب بل في تقدير الدرجات يحصل الطالب على درجة معينة لا يتجاوزها مهما كانت صحة إجابته، أما احتساب الحسنات على أعمال الخير والبر فللفرد على كل عمل استوفى شرط الإخلاص لله سبحانه وتعالى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء!
هناك بالتأكيد أوجه تشابهٍ وأوجه اختلافٍ أخرى، لكن المهم في الأمر كيف يتعامل الكثير منا مع كلا الموقفين؟ في امتحان الثانوية العامة نهتم بمجموع الدرجات والنسبة المئوية وهل تؤهل الطالب للالتحاق بالكلية التي يرغبها؟ وما هي الفرص المتاحة له من أجل تحسين المجموع والحصول على درجات (المستوى الرفيع)، أما في حالة الوفاة لا تجد من يسأل هل كان المتوفَىَ صالحاً؟ هل كان تقياً؟ هل كان ملتزماً بفروضه الدينية؟ هل كان يضيف لتلك الفروض نوافل من صلاة وصوم وصدقة يجبر بها ما انكسر من فروضه ويرفع بها درجته؟ هل كان يقرأ القرآن؟ هل كان حافظاً له؟ هل كان يقوم الليل؟ هل كان يسعى في خدمة المحتاجين؟ هل كان يقول الحق لا يخشى لومة لائم؟ هل كان ينتصر للمظلومين؟ هل كان عادلاً؟ هل كان ليناً؟ هل بلَّغ آية؟ هل كان باراً بوالديه؟ هل كان يصل رحمه؟ هل كان أميناً؟ هل كان صادقاً؟ هل .. وهل .. وهل؟ أسئلةٌ كثيرة لا يسألها أحدٌ عن المتوفى .. حياءً، أو خوفاً من معرفة الإجابات عنها، أو رُعباً وهلعاً من طرح هذه الأسئلة على ذواتنا نحن وعلى أنفسنا؛ ونحن أول من يعرف كم نحن مقصرون.
أحبتي في الله .. تمضي بنا الحياة .. وتطول بنا حبال الأمل وهي أوهى من خيوط العنكبوت .. لا يفكر الكثير منا في تحسين المجموع أو الحصول على درجات (المستوى الرفيع) قبل أن تأتي لحظة انتهاء الأجل .. وهي آتيةٌ لا شك فيها ولا رادَ لها؛ يقول العلي القدير: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ .. إنه وقت انتهاء الابتلاء والاختبار بغير فرصةٍ لدورٍ ثانٍ ولا إعادة امتحان ولا تنفعنا وقتئذ إلا أعمالنا .. إنها بداية مرحلة جديدة هي الانتقال لحياة البرزخ؛ يقول عز وجل: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، نبقى فيه بغير رجعةٍ إلى يوم الحساب .. والحسابُ يومئذ هو العدل المطلق الذي لا ظلم فيه؛ يقول المولى عز وجل: ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ .. إنه حساب من نطمع في أن يعاملنا برحمته وغفرانه وبما هو أهلٌ له، وليس بعملنا وما نحن أهلٌ له ..
أحبتي .. الموت حقيقةٌ لا مفر منها، يأتينا في أي زمان ومكان؛ يقول العزيز العليم: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾، فلو أنَّا تعاملنا معه كما نتعامل مع أي اختبار دنيوي، ولله المثل الأعلى، لأحْسَّنا الاستعداد، ولَحَرِصْنا على الحصول على أعلى الدرجات وتحقيق أفضل النتائج، ولكان حرصنا مضاعفاً على تحسين المجموع وكسب درجات (المستوى الرفيع) ما أمكنا ذلك. فلِمَ لا نبدأ الآن؟ ومن هذه اللحظة، دون تأخيرٍ أو إبطاءٍ أو تأجيلٍ أو تسويف، ولتكن بدايتنا بتخصيص وقت محدد في جدول أعمالنا اليومي: خمس دقائق، عشر دقائق، ربع ساعة، ساعة أو أكثر كلٌ حسب ما تسمح به ظروفه، نُسميه وقت (المستوى الرفيع) نشغله بتسبيحٍ وذكرٍ ودعاء، بمحاسبةِ نفس، بصلاةِ نفل، بصدقةٍ، بعيادةِ مريض، ببرِ والدَيْن، بصلةِ رحم، بإماطةِ أذي عن الطريق، بسعيٍ في قضاء حوائج الناس، بشهادةِ حق، بإصلاحٍ بين متخاصمين، بكفالةِ يتيم، برعايةِ أرملة أو فقير أو مسكين، بإغاثةِ ملهوف، بإعانةِ جار، وبأيِ عملٍ من أعمال الخير والبر والتقوى، مهما كان بسيطاً؛ كمسحٍ باليد على شعر يتيم، أو تبسمٍ في وجه الآخرين.
أحبتي .. ما دمتُ أنا، ولله الحمد، ما زلتُ أستطيع أن أكتب .. وما دمتم أنتم، والحمد لله، ما تزالون قادرين على أن تقرأوا فإن فرصة تحسين المجموع والحصول على درجات (المستوى الرفيع) لم تُهدر أو تضيع بعد فلننتهزها، ولننشر هذه الفكرة على أوسع نطاق ممكن بين أفراد أسرنا وأصدقائنا وأحبائنا وجيراننا وزملائنا، ولنستعد لأن نكون من الصالحين قبل أن تأتي لحظة الندم التي تصفها الآية الكريمة: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.
أحبتي .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، اللهم زحزحنا عن النار، واكتب لنا الفوز بالفردوس الأعلى من الجنة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/k86tp6

الجمعة، 5 أغسطس 2016

عميلنا العزيز

الجمعة 5 أغسطس 2016م
خاطرة الجمعة /٤٣

(عميلنا العزيز)

بيب .. بيب .. بيب .. "(عميلنا العزيز) تم خصم نقطة واحدة من رصيدكم"، رسالة sms وصلتني على هاتفي المحمول لم أعرف لها سبباً، قابلت جاري صدفةً فسألته عنها، رد على سؤالي بسؤال: "هل فعلت اليوم سيئة؟"، قلت مندهشاً: "وما علاقة ذلك برصيدي حيث أُخطرت بالخصم منه؟!"، سألني مرة أخرى: "ألم يخبرك مصرف الأخلاق بسياسته الجديدة؟"، قلت: "لا"، قال: "راجع رسائل المصرف السابقة، بالتأكيد وصلتك رسالتهم وأهملت قراءتها"، قلت: "ربما، لكن اسمح لي أن أعود لردك الأول، سألتني إن كنت قد فعلت اليوم سيئة، لا أذكر سوى أني كنت أتحدث مع زوجتي عن قريب لنا لا تتذكره فكنت أصفه لها فقلت ذلك الأعرج وو ...بيب .. بيب .. بيب .. "(عميلنا العزيز) تم خصم نقطة واحدة من رصيدكم"، رسالة أخرى وصلتني على الهاتف مقاطعةً حديثي مع جاري وأنا أصف له ما حدث، هكذا الأمر إذن، كلما فعلنا سيئة (غيبة، نميمة، سب، قذف، سوء ظن، ...) يقوم نظام المصرف بالخصم الفوري من رصيدنا لديه. سألت جاري سؤالاً أخيراً: "متى تم تفعيل هذا النظام؟"، رد: "من أول هذا الشهر، انتبه يا عزيزي لكلامك وسلوكك".
فهمت الآن السر وراء ما أشاهده مع بداية هذا الشهر من تحسن في معاملات الناس، ومن ابتساماتهم في وجوه غيرهم، ومن مسارعتهم إلى معاونة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، وإماطتهم الأذى عن الطريق. فهمت الآن لماذا كل تلك الاتصالات الهاتفية من أقاربي وأصدقائي تسأل عني وعن أحوالي وترتب معي لعيادة المرضى من الأقارب والأصدقاء. وفهمت لماذا تحسنت معاملات الموظفين مع المراجعين في المصالح الحكومية والمدارس والمستشفيات وأقسام الشرطة وغيرها من مؤسسات. كما تذكرت ذلك التقرير الغريب الذي شاهدته  في التلفاز عن الانخفاض الملحوظ في معدلات الجريمة كالقتل العمد والسرقة والاغتصاب والتحرش من أول الشهر وحتى اليوم، وتناقص أعداد القضايا في المحاكم وانتهاء معظمها بالصلح والتراضي بين الخصوم. فهمت الآن فقط أن ذلك كله كان بسبب تفعيل آليات  مصرف الأخلاق .. بل وتذكرت الإعلانات التي ملأت شوارع المدينة ووسائل المواصلات العامة وشاهدناها في قنوات التلفاز وفي الصحف والمجلات تطل علينا بخط عريض: "(عميلنا العزيز) انتبه لنقاطك، زدها ولا تنقصها، نعاملك بالعدل فلا تظلم نفسك! مع تحيات مصرف الأخلاق". لم أكن أتصور أنهم سوف يقومون بتطبيق هذه الفكرة الرائعة بالسرعة التي طبقوها بها، حمدت الله بيني وبين نفسي على أن هناك أناساً طيبين جديرين بالاحترام والتقديرررررر بيب .. بيب .. بيب .. "(عميلنا العزيز) تم إضافة عشر نقاط إلى رصيدكم" .. تبسمت حين وصلتني الآن هذه الرسالة؛ وفهمت أن هذه النقاط أضيفت لرصيدي لاحترامي وتقديري لمن فكر وخطط لهذا العمل المفيد!.
فجأة ظهر أمامي قريبنا الذي كنت أصفه لزوجتي، فاجأني بقوله: "شكراً لك لتحويلك نقطتين لي من حسابك اليوم، النقطة الأولى ربما بسبب السهو عن الآليات الجديدة للمصرف، لكن ماذا وراء تحويل النقطة الثانية؟"، قلت مازحاً: "لن أخبرك، لو أخبرتك لصارت النقطتان ثلاثاً"!.

"هيا، استيقظ، ستتأخر عن عملك .. هيا لا تكن كسولاً"، إنه صوت زوجتي .. إنها توقظني .. يا إلهي .. لقد كنت نائماً .. ما هذا الذي كنت أفكر به؟ لابد أنه حُلم .. أسرعت إلى هاتفي المحمول .. أدخلت الرقم السري لفتحه .. ضغطت على أيقونة الرسائل sms .. لم أجد أية رسالة تحوي عبارة (عميلنا العزيز) .. حمدت الله أنه لم يتم خصم نقاط من رصيدي .. ثم انتبهت لنفسي .. أية نقاط؟ وأي رصيد؟ في الأساس لا يوجد مصرف للأخلاق حتى يكون هناك رصيد أو نقاط! ما كان ذاك إلا حُلماً!

قابلت جاري الذي كنت أتحدث معه في الحُلم، أخبرته عن حُلم ليلة أمس، قال لي مداعباً: "غطي نفسك جيداً قبل النوم"!

بعدها بعدة أيام .. كنت في جلسة سمر مع بعض الأصدقاء .. نتجاذب أطراف الأحاديث .. فإذا بي أتذكر ذلك الحُلم .. أخبرتهم به .. ضحكوا جميعاً إلا واحد .. أدهشنا عندما عَقَّب على ما حدثتهم به بقوله: "هذا ليس حُلماً .. إنه رؤية"، قاطعته باستنكار: "رؤية؟! عن أية رؤية تتحدث؟!"، قال: "نعم، إنها رؤية؛ إنها تذكير لك ولنا بأن هذا المصرف موجود بالفعل، لكننا لا نراه، وهل كونه غير مرئي لنا يعني أنه غير موجود؟"، ألجمت الدهشة ألسنتنا فسكتنا، لم يرد أحدٌ منا على سؤاله، فاستكمل حديثه موضحاً: "الواقع أن كثيراً مما لا نراه موجودٌ بالفعل .. فمصرف الأخلاق في رؤياك موجود ولا نراه، وما أسعد من تعامل معه واستفاد منه وزاد رصيده فيه .. إنه كنزٌ لا يقدر بثمن غفلنا عنه"، وتابع وسط اندهاشنا: "اسمعوا معي حديث النبِي عن هذا الكنز العظيم، قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: "إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرَ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ"]"، ثم أنهى حديثه بسؤالي: "أهكذا كان مصرفك؟"، أجبته: "كأنه هو!".

أحبتي في الله .. ما أروع ديننا الحنيف .. وما أرحم الله سبحانه وتعالى بعبيده وإحسانه إليهم وتفضله عليهم .. وما أكرمه في معاملته لنا؛ كرماً يفوق عدله .. فلو أعطانا ما نستحق فهذا عدل .. أما أن يعطينا فوق ما نستحق فهذا كرم وفضل .. وعندما يضاعف لنا العطاء أضعافاً كثيرة فهذه رحمة وإحسان.

أحبتي .. هلا اهتممنا بزيادة أرصدتنا في مصرف الأخلاق الإسلامي الموجود ولا نراه، كما نحرص على زيادة أرصدتنا المالية في المصارف والبنوك؟ .. هلا رتبنا أولويات أعمالنا ترتيباً صحيحاً؟ 
فلتكن أحبتي الأولوية المطلقة لأن نعمل الخير بكل أشكاله وأنواعه وفي جميع مجالاته فتُكتب لنا عشر حسنات عن كل عمل إلى سبعمائة ضعف، يليها أن ننوي عمل الخير ونشرع فيه حتى إذا حال بيننا وبين فعله حائل كُتبت لنا حسنة، يليها أن نمتنع عن عمل سيئة كنا اعتزمنا عملها خشيةً من الله سبحانه وتعالى فتُكتب لنا حسنة، يليها أن نتجنب عمل السيئات قدر الإمكان حتى لا تُكتب علينا سيئات نحن في غنىً عنها، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://goo.gl/1Nc8s5

الجمعة، 29 يوليو 2016

حسن الظن بالله

الجمعة 29 يوليو 2016م
خاطرة الجمعة /٤٢

(حسن الظن بالله)

حدث هذا الموقف قبل سنوات عندما كانت شركات توظيف الأموال منتشرة في مصر .. هو صديق لنا .. أكبر منا في السن .. كنا نرجع له في معظم شئوننا نستشيره ونأخذ بما ينصحنا به في معظم الأحوال. أخبرنا ذات يوم عن وجود شركة تعطي أرباحاً عالية؛ يصل العائد منها إلى ٢٢٪‏، وقال إنه قرر أن يسحب جميع مدخراته من البنوك ويُسَيِّل شهادات استثمار ويبيع ذهب زوجته ليساهم في هذه الشركة. فاجأنا جميعاً بأنه اتخذ قراره ونفذه بالفعل .. وضع كل ما يملك هو وزوجته في هذا المشروع .. وكنا، نحن أصدقاؤه، ما بين مندهش ومذهول وغير مصدق .. لكن كما يقال "سبق السيف العذل".
مرت شهور .. وإذا بموضوع شركات توظيف الأموال يحتل العناوين الأولى في جميع وسائل الإعلام: المكتوبة والمسموعة والمرئية، كانت هذه الشركات قد أفلست وانهارت بعد أن ذهب ضحايا لها مئات الآلاف من المواطنين، وكان صديقنا للأسف واحداً منهم.
اتصل بي وقتها ورتبنا للقاء .. لم يكن هو صديقنا الكبير الخبير الذي نرجع له ليحل لنا مشاكلنا، بل على العكس؛ رأيت أمامي رجلاً منهاراً، دموعه تسابق كلماته، أسمع ما يقول بصعوبة وأحاول أن أتبين كلماته التي تبدو خافتة وسط بحر الدموع الذي ينهمر من عينيه ليغطي خدوده .. استطعت بالكاد أن أفهم كلمات مثل : "هل هذا معقول؟"، "لا يمكن"، "لا أصدق ما حدث"، "هذا لا يرضي الله سبحانه وتعالى" .. وكلمات أخرى مشابهة .. حاولت أن أهدئ من روعه، دون جدوى؛ لم يكن يسمعني، كان كأنه يعيش مع نفسه فقط ويتحاور معها، حتى أنه كان يسأل السؤال ويرد على نفسه.
بدأ بالتدريج الخروج من حالة الذهول التي كانت تتملكه، نظر إلي، وربما أحس بالخجل من أن أراه على الحال التي كان عليها. محاولاً التخفيف عنه قلت: "ليست نهاية الكون"، رد وهو يحاول أن يمسح بقايا الدموع من على وجهه: "في لحظة، ضاع حلم حياتي، راحت تحويشة العمر، لقد انتهيت"، قلت مشجعاً: "ليس هذا أول موقف صعب يمر عليك في حياتك، تماسك، واترك للزمن فرصة إخراجك مما أن أنت فيه"، لم يعجبه ما أقول فرد بجملة تقريرية قاطعة: "أنت لا تحس بما أعانيه".
امتدت جلستنا إلى قرب الفجر، هو يتحدث عن مشكلته وآثارها على نفسيته وعلى علاقاته الاجتماعية خاصة علاقته بزوجته، وكيف أن آماله كلها قد تبخرت في لحظات، ورأى حلم الغنى والثراء يتهاوى أمام عينيه، وأنه لا يتحمل أبداً ذلك، ولا يعرف كيف ستكون حياته بعد كل ما حدث. وأنا من ناحيتي أحاول أن أخفف عنه وأواسيه وأبين له تفهمي لمشاعره وإحساسي بما هو عليه في هذه اللحظات الصعبة.
لاحظت أن لا شئ مما أقول قد أثر فيه قدر تأثره بقولي له "أحسِن الظن بالله"، حيث رد علي بالقول: "يعلم الله أني قد أحسنت الظن به قبل أن أودع أموالي كلها في تلك الشركة"، قلت له: "إحسان الظن يستلزم إحسان العمل، وهذا يتطلب التفكير السليم والتخطيط الجيد ودراسة الأمر من جميع جوانبه قبل اتخاذ القرار، كل ذلك من إحسان العمل. لأوضح الأمر لك أكثر؛ دعني أسألك سؤالاً، أرجو أن يتسع صدرك له ولا تغضب مني"، قال بكلمات لا تخلو من السخرية: "لم تعد لدي أية طاقة لغضب جديد! لقد استنفدت رصيدي من الغضب! إسأل ما شئت ولن أغضب"، سألته: "إذا وقفت أمام قطار منطلق بسرعة، هل تتوقع ألا يدهسك القطار، ثم تقول إن كنت ما زلت حياً، كنت أحسن الظن بالله؟!"، واستطردت: "هذا يا عزيزي ما فعلته أنت بالضبط مع تلك الشركة، أعماك حلم الثراء السريع عن التفكير الصحيح والنظر في العواقب، لقد حثنا ديننا الحنيف على ألا نكتفي بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وإحسان الظن به وإنما يجب علينا أن نُتبع ذلك بالأخذ بالأسباب". وأردفت قائلاً: "على كل حال، عليك أن تعلم أن في بعض المنع نعمة وفي بعض العطاء نقمة؛ قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾، كما أن عليك أن تعلم أن من (حسن الظن بالله) أن المؤمن إذا أصابه ما يكره أحسن الظن بربه وعلم أنه لم يكتب له إلا الخير حتى لو لم تظهر حكمته أو تستبين؛ يكفي المؤمن أن يثق في أن الذي ابتلاه هو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين". قال مُعقباً: "ونعم بالله"، ختمت حديثي معه بالقول: "احمد الله أنك ما زلت بصحتك، غيرك قلبه لم يتحمل الصدمة فتُوفي، وآخرون ما بين مصاب بجلطة أو شلل؛ فاحمد الله حمداً كثيراً. واللهِ لو خيرت بين مالك كله وصحتك لاخترت صحتك"، قال: "صدقت"، قلت: "هذا من فضل الله عليك، وهذا هو رأس مالك حافظ عليه، وبالعمل الجاد و(حسن الظن بالله) والأخذ بالأسباب يفتح الله عليك ويرزقك من حيث لا تحتسب".

أحبتي في الله .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له].
وقال أحد العارفين: "إنه سبحانه لم يرسل إلى المؤمن البلاء إلا ليمتحن إيمانه وصبره ورضاه، وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه واقفاً ببابه، لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعاً الشكوى إليه".
إن معنى (حسن الظن بالله) توقُّع الجميل منه سبحانه، وتوقع الخير في السراء والضراء، والإيمان بأن الله يريد بنا الخير في الحالين. (حسن الظن بالله) هو من العبادات القلبية التي يغفل عنها كثير منا، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ﴾، ويقول في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء}، ويقول: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني}. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حُسن الظن من حسن العبادة]، وقال عليه الصلاة والسلام: [لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ].
لذلك أحبتي علينا أن نستشعر أن الله تعالى هو فارج الهم وكاشف الغم، وأننا متى أحسنا الظن بالله، فتح علينا من بركاته من حيث لا نحتسب.

أحبتي .. إياكم وسوء الظن بالله، فإنه من المهلكات؛ قال تعالى: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، وقال  عن سوء ظن قوم من الكفار: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ﴾، ويقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله}.
قبل أن أختم، أطمئنكم، عاد صاحبنا إلى سابق عهده، مليئاً بالحيوية والنشاط، وكان مرجع ذلك (حسن الظن بالله) الذي جعله راضياً بقضاء الله وقدره، سعيداً بما هو عليه، وهو الآن والحمد لله يعيش مع أسرته حياة مستقرة هادئة، بعيداً عن أحلام الثراء الفاحش والسريع.
جعلنا الله من الفائزين برضاه سبحانه وتعالى، الظانين به الظن الحسن، ظن الخير.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 22 يوليو 2016

شيطانٌ أخرس

الجمعة 22 يوليو 2016م
خاطرة الجمعة /٤١

(شيطانٌ أخرس)

"لا، ليس من الحكمة أن تظل صامتاً"، هذا كان ردي على سؤال صديقٍ لي حدثني عن فسادٍ كبيرٍ يراه في مكان عمله .. حكى لي وهو متأثر عن حكايات فسادٍ شاهد بنفسه بعضها، وعرف بعضها الآخر من زملائه في العمل، بعد أن انتهى من حديثه سألني: "أليس من الحكمة أن أسكت وأغض الطرف عما يحدث؟"، فكان ردي كما أوضحت حاسماً: "لا، ليس من الحكمة أن تظل صامتاً"، واتبعت ذلك بالقول: "عليك عزيزي أن تتكلم؛ لكن من المهم أن تحدد بدقة متى تتكلم، وكيف تتكلم، ومع من تتكلم"، قال: "هلَّا أفصحت وشرحت؟"، قلت: "أما متى تتكلم، فهذا أمر لا يمكن التكهن به مسبقاً، فهو يتوقف على نوعية الفساد وخطورته ومدى انتشاره، ويرتبط بالوقت الذي تكون فيه قد تمكنت من الحصول على أدلة واضحة وقوية لا تقبل الدحض أو التأويل"، قال: "وماذا عن كيفية التكلم؟"، قلت: "هذه لها أساليب مختلفة منها الشكاوى الكتابية، والشكاوى الشفوية، وإن كان الغالب هو الشكاوى الكتابية، حتى وإن سبقها تقديم الشكوى شفاهةً فسُيطلب منك كتابة ما أخبرت به شفوياً"، قال: "ومع من أتكلم؟"، قلت: "ابدأ بالشخص أو الزميل الذي تراه يرتكب ما تعتبره فساداً، ابدأ معه بالنصيحة بينك وبينه، عسى أن يتوقف عن ذلك الفساد"، قال: "وإن لم يستجب لكلامي؟"، قلت: "حاول مرةً تلو أخرى .. اصبر عليه قدر ما ترى أن الصبر سيصل بك إلى مبتغاك، وحاول أن تساعده وتقدم له نصائح عملية تساعده على الخروج مما أوقع نفسه فيه، فإن لم يفلح ذلك، ربما كان من المناسب بعد تجاوز مرحلة النصيحة أن تنتقل إلى مرحلة التهديد بالشكوى ورفع الأمر إلى المسئولين؛ فبعض الناس لا يستجيبون إلا للتهديد إذا أحسوا وأدركوا أن الأمر جاد ولا تراجع عنه"، قال: "لعل آخر مرحلة، إذا لم يستجب للنصيحة، ولا يخاف من التهديد، هو رفع الشكوى بالفعل لجهة الاختصاص مشفوعةً بالمستندات والوثائق"، قلت: "ذلك صحيح"، قال متوجساً: "لكن ذلك سيجلب عليه ضرراً مؤكداً"، قلت: "تركه على ما هو عليه أشد ضرراً من محاولة إصلاحه وتقويمه بكل الطرق الممكنة، واعلم أنك تدافع عن الحق؛ والساكت عن الحق (شيطان أخرس)"، واستطردت قائلاً: "للأمانة يتوجب علي أن أنبهك أخي إلى ثلاثة أمور"، قاطعني قائلاً: "هاتها؛ كلي أذن صاغية"، قلت: "أولها أن تكون نيتك خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى وأن يكون هدفك هو الإصلاح ما استطعت .. ثانيها أن تُشعر زميلك المخطئ بأنك تريد مصلحته، فلا تتعالى عليه، ولا تستفزه، واجعله يحس أنك لا ترفضه لشخصه وإنما ترفض سلوكه .. ثالثها أن تترك له الفرصة ليصلح بنفسه ما أفسده، وأن يكون أسلوبك معه مزيجاً من الحكمة والصبر والتدرج". سكت قليلاً كأنما يراجع نفسه قبل أن يتكلم، ثم قال:
"أصارحك القول، أخشى على نفسي، فقد يطالني أذى"، قلت مُطَمْئِناً: "لو حدث لكان ثوابك عظيماً، ألا تحب أن تكون على حال كليم الله موسى عليه السلام مع فرعون؟ إذ نال موسى ومن تبعه من المؤمنين أذىً كثيراً عندما أراد أن يخلص قومه من فساد فرعون الذي وصفه الله بأنه ﴿كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ وبأنه ﴿كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾، فإذا بفرعون يقلب الحقائق ويزيفها ويخاطب قومه بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ﴾!؛ فكان زعيمُ المفسدين هو من يرفع راياتِ الإصلاح بدعوى أن موسى عليه السلام يريد أن يُظهر في الأرض الفساد! ومن العجب أن يستجيب القوم لهذا الزيف ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾، ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾،﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾، فكانت النتيجة هلاكه وهلاكهم ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾. فلتصبر عزيزي ولتحتسب وثِقْ بوعد الله بنصرك طالما أنك على الحق". سأل بعد أن استمع إلى ما قلته: "هل هناك في ديننا الحنيف ما يرشدنا إلى التعامل مع مثل هذه المواقف؟"، أجبته: "بالطبع؛ فالإسلام دين حياة، وشريعتنا الغراء تنظم لنا جميع شئوننا من أقلها وأصغرها إلى أهمها وأعظمها"، قال: "وماذا عن الفساد تحديداً؟"، قلت له: " اقرأ ما شئت قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ﴾، وقوله: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾، وقوله: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، وقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ*الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾، وقوله: ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وقوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، عزيزي لقد وردت لفظة الفساد ومشتقاتها خمسين مرة في القرآن الكريم لعل خلاصتها في قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾".

أحبتي في الله .. يتحدد واجب كلٍ منا إزاء الفساد في أمرين واضحيين جليين: الأول، أن نكون دائماً من المصلحين وألا نكون من المفسدين أبداً حتى لو بدا لنا أن لنا مصلحة في أن نقترف بعض أفعال الفساد أو في فسادٍ يقترفه الآخرون .. الثاني، ألا نترك الفساد يتمادى وينتشر كالوباء بين الناس؛ بالسكوت عنه أو التستر عليه أو تبرير اقترافه بأية حجة، أو مجاملة من يقوم به خاصةً إذا كان من الأقارب أو المعارف؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، بل علينا جميعاً أن نتصدى له ونحاربه بالحكمة والموعظة الحسنة فإن لم يفلح ذلك فبالقانون؛ حيث يُروى عن عثمان  بن عفان، رضي الله عنه، ويُروى أيضاً عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، القول المشهور: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". 
أحبتي .. البعض في محاربة الفساد يتردد، يفضل الابتعاد ويختار أن يكون سلبياً، ويعتقد أن في ذلك الحكمة وإيثار السلامة .. لكن هذا خطأٌ كبير، وتقاعسٌ عما يجب أن يكون عليه موقف المسلم من هذا الأمر؛ ألا نتدبر قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾؟، [لوى لسانه: أخبر بالكذب]، [أعرض: سكت وكتم الحق، والساكت عن الحق (شيطانٌ أخرس)].

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 15 يوليو 2016

العبادة الصامتة


15 يوليو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٤٠

 (العبادة الصامتة)

ما أجمل لحظات ما بعد الفجر .. لحظات الشروق .. عندما تنظر إلى السماء وتطيل النظر إذا بسواد الليل ينسحب بالتدريج ليحل محله بياض النهار .. تترك الظلمة مكانها بهدوء ليعم ضوء النهار وجه الأرض ويكسوها نوراً .. وما بين السواد والبياض درجاتٌ وألوان .. يشدك اللون الأحمر وهو يتوسط هذين اللونين .. كأنه وسيطٌ بينهما .. يتسلم الأمانة من اللون الأسود ويسلمها إلى اللون الأبيض .. لوحةُ بكورٍ قبل الضحى خلابةٌ ساحرة .. تتكرر كل يوم .. كثيرٌ من الناس يحرمون أنفسهم من رؤيتها ..
وما أروع لحظات ما قبل الغروب .. لحظات الشفق .. وأنت ترى الشمس في الأفق وقد تحول لونها من الأصفر المتوهج إلى الأحمر المشوب بالبياض .. وتأتي لحظات الغسق حيث تلملم الشمس أشعتها وتقل حرارتها ويخفت ضياؤها وتستعد لمغادرة المشهد الذي نراه كل يوم .. يغادر اللون الأبيض رويداً رويداً ليدخل اللون الأسود ويتحول إلى عتمةٍ تغطي سماء الليل شيئاً فشيئاً .. هادئاً صامتاً كأنما يمشي على أطراف أصابعه .. مصحوباً بدرجاتٍ متفاوتةٍ من اللون الفضي الجميل لنورٍ يغزله القمر غزلاً .. ويستمر على هذا الحال إلى وقت السحر حين يستعد الكون كله لاستقبال صباحِ يومٍ جديد.
سبحان الله .. ثم سبحان الله .. ثم سبحان الله .. جمالٌ ما بعده جمال .. ولوحتان إحداهما في الصباح والأخرى في المساء .. ما أروعهما .. لوحتان لا تخلوان من لمساتِ جمالٍ تشبعُ الأنظار وتغذي الوجدان وتريح القلوب وتُبهج النفوس.
إنها معجزةُ النهار والليل، معجزةُ الشمس والقمر، وتتابعهما، معجزةٌ إلهيةٌ لو تَفَكَّرَ فيها الإنسان لاهتدى من تلقاء نفسه إلى أن من خلق الشمس والقمر وأوجد النهار والليل هو الإله الواحد الأحد المستحق للعبادة وحده دون سواه .. أولم يكن هذا ما خطر على قلب أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما نظر إلى السماء متفكراً في ملكوت الله سبحانه وتعالى؟ قال تعالى:  ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾.
الليل والنهار من سنن الله خلقها سبحانه وتعالى وسخرها لخدمة البشر .. لم تتعطل يوماً منذ أن خلق الله الكون .. ولن تتوقف يوماً إلى أن يشاء الله أمراً كان مفعولاً.
انظر يا رعاك الله إلى دقة الوصف القرآني المحكم للغشيان والتجلي: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾، وانظر إلى روعة وصف الشمس والقمر وهما "يَسْبَحان" في هذا الفضاء الهائل وهذا الكون العظيم: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، وانظر إلى هذا النظام الدقيق المبهر: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، وكل ذلك بحساب: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾، ثم انظر إلى إظلام الليل وهو يلحق بالنهار سريعاً: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾.
إنها من آيات الله عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾، قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾، أوجدهما من عدم ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾، وهما رحمة من الله جل وعلا ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ لماذا؟ ﴿لِتَسْكُنُوا فِيه..﴾ أي: في الليل، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ أي: في النهار.
أقسم بهما عز وجل:﴿وَالضُّحَى*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾، وأوضح الحكمة من خلقهما وهي تبَيَّنَ الحق ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، وابتغاء فضل الله، ومعرفة عدد السنين والحساب ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾، وعَرَّفَنا السبيل إلى ذلك ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾.

أحبتي في الله .. إنه التفكر في خلق الله، إنه (العبادة الصامتة)؛ فالتفكر عبادة تتعلق بالقلب ولا يُستعمل فيها اللسان، وإنما هي من أعمال الفؤاد والوجدان، إنها "إِعمال العقل في أسرار ومعاني الآيات الشرعية والكونية عن طريق التأمل والتدبر وملاحظة وجه الكمال والجمال ومشاهدة الدقة وحسن التنظيم والسنن الكونية والتماس الحكمة والعبرة من وراء ذلك".
وقد ورد في التفكر فضلٌ عظيم؛ قال تعالى في مدح المؤمنين: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وقال عز وجل: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
وعن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال بن عمير: "حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فبكت وقالت: "قام ليلةٌ من الليالي فقال: [يا عائشة ذريني أتعبد لربي]، قالت: "قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك"، قالت: "فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بَلَّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: [أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت علي الليلة آياتٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾]". وقال أحد الصالحين: "تَفَّكُرُ ساعةٍ خيرٌ من قيامِ ليلة".
أحبتي .. التَفكرُ والتأمل في ملكوت الله وفي هذا الكون العظيم يزيد من إيمان المسلم ويقوي يقينه؛ فما أروع هذا الكون الواسع الفسيح، وما أحكم اللطيف الخبير، وما أعظم الله أحسن الخالقين، فهو ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾، وهو المتقن لكل ما صنع وخلق وأوجد وأنشأ ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾، وصدق من قال: "الكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق".
ومع فضل (العبادة الصامتة) وعظيم أثرها في زيادة الإيمان واليقين إلا أن كثيراً من الناس غافلون عنها معرضون عن العمل بها لاشتغالهم بالدنيا وقلة علمهم وطول أملهم وغلبة الأماني الكاذبة على نفوسهم، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾. اللهم لا تجعلنا من الغافلين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 8 يوليو 2016

حلاوة الإيمان


8 يوليو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٩

(حلاوة الإيمان)

في ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، كان يقف بجانبي في صلاة الوتر، كنا في الصف الثاني خلف الإمام نؤمن على دعائه، فإذا بي أسمع صوت نهنهة مكتومة تبينت أنها صادرة منه، وتتحول النهنهة بالتدريج إلى بكاء، ويرتفع صوت البكاء فيصير نشيجاً ونحيباً، وكلما علا صوت الإمام وازداد تباكيه وهو يدعو بالعتق من النار، كلما ازداد تأثر جاري بما يسمع. بعد انتهاء الصلاة نظرت إليه؛ فإذا هو شاب في الثلاثينات من عمره، لاحظت أن عينيه مغرورقتان بدموع تسيل بقاياها على خديه، أعطيته منديلاً ورقياً ليمسح دموعه، أخذ مني المنديل ومسح به دموعه بصمت. بادرته بالقول: "دعاء الشيخ مؤثر"، أجابني بصوت متهدج: "لا تتصور كيف حرك مشاعري"، قلت مخففاً عنه: "واضح طبعاً!"، ابتسم ابتسامة خفيفة، وسألني: "هل صحيح أن الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة من كل الذنوب؟"، قلت له: "ومَنْ غير الله يقبل توبة عباده؟"، ثم أردفت: "المهم الإخلاص في التوبة والصدق فيها، ورد المظالم إلى أهلها كلما أمكن ذلك"، قال وكأنما يحدث نفسه: "اللهم أنت تشهد على صدق نيتي وإخلاصي في توبتي"، قلت له: "أبشر، فقد قبل الله توبتك"، رد متسائلاً: " وما أدراك أنه قبلها؟"، قلت: "ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾؟"، تغير شكل وجهه وبدا متهللاً، سألني بصوت منخفض: "وماذا لو كانت هذه الذنوب من الكبائر؟"، قلت له: "يقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾"، ظهرت على وجهه علامات السكينة والطمأنينة، وقال: "ما أكرمه سبحانه وتعالى وما أحلمه، آهٍ لو تعلم ما كنت عليه من المعاصي والذنوب. كم زين لي الشيطان سبل الغواية والانحراف ولا أدري كيف كنت مستسلماً له، هل تتصور يا أخي أني لم أكن أصلي، وكان صيامي نوماً طوال النهار حتى موعد الإفطار، لم أفكر يوماً في قيام الليل فقد كنت مدمناً على مشاهدة الأفلام أنتقل من قناة إلى أخرى لأشاهدها طوال الليل وحتى قرب الفجر، ولا تسألني عن نوعها، فالقمر الأوروبي والقنوات المشفرة تعرض تلك الأفلام التي كنت أشاهدها، فإذا حدث وسألت نفسي ولو للحظات هل ما أنا عليه يرضي الله سبحانه وتعالى؟ كان رد الشيطان جاهزاً: <الدين المعاملة، وربك رب قلوب وأنت لا تؤذي أحداً بما تفعل، وإن كان ضميرك يؤنبك لعدم الصلاة ففي العمر متسع، استمتع بوقتك الآن ثم تُب فيما بعد، والله تواب رحيم، أما عن تلك الأفلام التي تشاهدها فأنت لست ملاكاً وكثير من الشباب يفعل مثلك>. هكذا كان الشيطان يزين لي. الأسوأ هم أصدقائي؛ الذين كانوا يسخرون مني لو أردت أن أمتنع عن طريق الحرام"، قلت مقاطعاً: "هذه أمور أصبحت من الماضي، اتركها وراء ظهرك، انظر لحياتك الجديدة كم هي نظيفة طاهرة"، قال مؤكداً: "لم أحس في حياتي كلها براحة وطمأنينة إلا بعد أن مَنَّ الله علي بالهداية"، قلت له: "صدق الله العظيم إذ يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِـحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، فهنيئاً لك الحياة الطيبة، وهنيئاً لك الأجر الرباني العظيم الذي يدخره لك الله سبحانه وتعالى في الآخرة، المهم الثبات، وعدم الانتكاس"، قال بثقة: "لا تخش علي، فقد انشرح صدري وتذوقت (حلاوة الإيمان) وأحسست بلذة لا تعادلها لذة أخرى، لست على استعداد أن أخسر نفسي بعد أن عرفت طريق الحق. أرجوك، لا تحرمني من دعواتك الطيبة"، قلت: "لك ذلك، لكنك لم تكلمني عن السبب المباشر لهدايتك"، قال وهو ينصرف: "فليكن هذا موضوع حديثنا في لقاء قادم إن قدر الله وشاء"، وتركني ومضى دون أن نتبادل أرقام هواتفنا، بل ومن غير أن يعلم أي منا اسم الآخر!.
أحبتي في الله .. ما أروع تلك اللحظة الإيمانية الصافية الصادقة التي تبدل حياة الإنسان تبديلاً كاملاً، وتنتقل به من حال إلى حال، وتجعله فرحاً سعيداً بعد أن كان مكتئباً ذليلاً مما يحمل من أوزار وآثام.
أحبتي .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً]، كما قال: [ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يَكْرَهَ الْعَبْدُ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الإِسْلاَمِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ، وَأَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ الْعَبْدَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ ِللهِ، عَزَّ وَجَلَّ].
و(حلاوة الإيمان) لا يحسها ولا يعايشها أي أحد، إلا من تاب توبة نصوحاً؛ يقول أحدهم من شدة سروره بتلك النعمة: "لو يعلم الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف". وقال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبَّة الله تعالى ومعرفته وذكره". يقول ابن تيمية: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة". وقال أيضاً: "ليس للقلوب سرور ولا لذَّة تامة إلا في محبة الله والتقرُّب إليه بما يحبه، والإعراض عن كلِّ محبوبٍ سواه".
إنها (حلاوة الإيمان)، أدعو إخواننا في الدين، اللاهية قلوبهم عن ذكر الله، أن يبادروا بالعودة إلى طريق الحق ولا يُسَوِّفوا فيطول عليهم الأمد فتقسوا قلوبهم، وليتدبروا الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾. اللهم اكتب لهم (حلاوة الإيمان)، كذلك كنا من قبل فمَنَّ الله علينا، إنها حلاوة لا توصف، وهي لذة في القلب لا تدانيها لذة من لذات الدنيا الحسية.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/h95aX4



الجمعة، 1 يوليو 2016

ليلة القدر


1 يوليو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٨

(ليلة القدر)

جمعتنا مشية رمضانية طيبة، كنا عائدين من صلاة التراويح، وفتح صاحبنا موضوع (ليلة القدر) بالتساؤل: "هل يا ترى هي ليلة ٢٧ من رمضان أم ليلة غيرها؟"، قال الثاني بثقة: "هي بالتأكيد ليلة ٢٧، ألا تحتفل الدولة بشكل رسمي بها في هذه الليلة من كل عام؟ أما ترون المساجد تمتلأ بالمصلين، والأئمة يحرصون على ختم القرآن في هذه الليلة؟"، رد الثالث معترضاً: "مع احترامي، ليس هذا دليلاً على أنها تأتي بالفعل في تلك الليلة"، وافقه الأول فيما قال، وأضاف: "سألتكم عن هذا الموضوع لأني قرأت لأحد الباحثين ما يؤكد أنها ليلة السابع والعشرين؛ وجد الباحث أن كلمة [القدر] تكررت ثلاث مرات في سورة القدر، ووجد أن ترتيب ورود هذه الكلمة في السورة كان على التوالي: ١٢،١٠،٥ وأن مجموع هذه الأعداد هو ٢٧!"، قال الرابع: "هذا يذكرني بمعلومة أخرى وصلتني عن طريق الواتس آب؛ تقول أن سورة القدر تتكون من ثلاثين كلمة، بعدد أيام الشهر الفضيل، وأن كلمة [هي] التي تشير تحديداً إلى (ليلة القدر) هي الكلمة رقم ٢٧ في السورة!"، قال الأول: "وأنا سمعت من صديق أن عبارة (ليلة القدر) تتكون من ٩ حروف وهي قد تكررت في هذه السورة ٣ مرات، فإذا ضربنا ٩ في ٣ كان الناتج ٢٧!"، أضاف الرابع: "للأمانة، أنا اطلعت على دراسة رقمية عن الموضوع تعتمد على أن لكل حرف من حروف اللغة العربية قيمة حسابية محددة عند العرب، وتوصلت الدراسة إلى نتيجة مفادها أن (ليلة القدر) هي ليلة ٢٣، ثم اطلعت على حديث شريف للصحابي عبد الله بن أنيس وآخر لأبي هريرة لتحري (ليلة القدر) ليلة ٢٣"، عاد الحديث للثاني فقال: "أما أنا فقد شاهدت مقطعاً على اليوتيوب يتحدث فيه أحد المهتمين بالأمر عن أنه وضع كاميرات رقمية وأجهزة قياس أشعة وحرارة ورطوبة في أكثر من موضع في أكثر من دولة وانتهى إلى أن (ليلة القدر) هي ليلة ٢٩، وأن أجهزة القياس توصلت إلى ثبات هذا اليوم في الفترة من عام ٢٠٠٤م حتى٢٠١١م!، كما شاهدت مقطعاً آخر عن آية سورة الدخان التي تتحدث عن إنزال القرآن الكريم في ليلة مباركة توصل الباحث من خلالها بطريقة حسابية إلى أن (ليلة القدر) هي ليلة ٢٩"، أمسك الثالث بطرف الحديث فقال: "وأنا قرأت أن أبا سعيد الخدري، الصحابي الجليل، يعتقد أنها ليلة ٢١، ويستند في ذلك إلى حديث للرسول عليه الصلاة والسلام عندما اعتكف العشر الوسطى من رمضان". أراد صاحبنا الذي فتح الموضوع أن ينهيه فقال: "أخشى أننا نتكلم عن ليال وترية قد تكون في الحقيقة زوجية ونحن لا ندري؛ ألا تذكرون أن هناك بلاداً تشترك معنا في جزء من الليل أعلنت بداية شهر رمضان بعدنا بيوم؟ والله أعلم أَنَحْنُ أم هُم على صواب!".
اكتفيت بالاستماع والتزمت الصمت، وأحمد الله أن أحداً منهم لم يسألني عن رأيي في الموضوع؛ فقد كانت تلح علي طوال الوقت فكرة أن (ليلة القدر) من الغيب الذي أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾؛ فإذا كان الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ يريدها أخفى هذه الليلة فلماذا يجتهد بعض الناس في معرفتها؟ ثم ماذا ينتظر هؤلاء؟ هل ينتظرون أن يصلوا بشكل مؤكد ونهائي إلى تحديد ليلة أراد الله سبحانه وتعالى إخفاءها؟ يا لسقم هذا المنطق وسخافته.
استغرقني التفكير في الأمر؛ وتساءلت بيني وبين نفسي: كم من الناس شغلوا أنفسهم بهذا الأمر؟ وكم استغرق منهم ذلك من وقت وجهد؟ وكم من الناس يُضَيِّع أفضل أوقات العبادة وأغلاها وأثمنها فيما لا طائل منه؟ لو أن أحدنا ضيع فقط خمس دقائق من وقته في ليلة من ليالي الوتر في العشر الأواخر من رمضان لمناقشة هذا الأمر والبحث فيه والحديث عنه، لو استمر في ذلك لخمس دقائق فقط، وتصادف أن هذه الليلة كانت (ليلة القدر) بالفعل فمعنى ذلك أنه أضاع على نفسه ما هو خيرٌ من ٣١٢ يوماً كان الأفضل له أن يشغلها بصلاة أو زكاة أو اعتكاف أو تلاوة قرآن أو دعاء أو صدقة أو بر والدين أو صلة رحم وبغير ذلك من أعمال البر والخير؛ فالشيء المؤكد هو قول الحق سبحانه وتعالى عن (ليلة القدر) أنها: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، وهذا بالحساب معناه أنها خير من ٨٣ سنة و٣ شهور، وبتقسيم ذلك على ساعات الليل بالقاهرة هذه الأيام وهي ٨ ساعات تكون الساعة الواحدة فيها خيراً من ١٢٥ شهراً، والدقيقة خيراً من شهرين كاملين، فتكون الدقائق الخمس خيراً من حوالي ١٠ شهور و١٢يوماً! ولا ننس قوله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
أحبتي في الله .. في موضوع مشابه، وهو موضوع الفتية أصحاب الكهف، اختلف الناس في عددهم، فجاءت الآية الكريمة بالتوجيه الرباني: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ إرشاداً لنا بالبعد عن الخوض في تفاصيل معرفتها لن تفيد والجهل بها لن يضر.
أحبتي .. البعض منا يتمنى لو يعلم (ليلة القدر) ليطلب بها شيئاً لدنياه، والأنفع له والأفضل أن يكون همه الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل؛ يقول الله في كتابه الكريم: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾.
أحبتي .. يقول المفسرون: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ معناه: عملٌ صالحٌ في (ليلة القدر) خيرٌ من عمل ألف شهرٍ ليس فيها (ليلة القدر). إنها ليلة يَقْبَلُ الله التوبةَ فيها من كل تائب، وتُفَّتَحُ فيها أبوابُ السماء، وهي من غروب الشمس إلى طلوعها، وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها ليلة مباركة: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾، وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام في حديث عن شهر رمضان: [... لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ]، كما قال: [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه]. وكان النبي عليه الصلاة والسلام كما قالت السيدة عائشة رضيَ الله عنها: [إذا دخل العشر شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله]، كما قالت أنه: [كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره].
فلنضاعف الجهد التماساً لبركة هذه الليلة، وحتى لا نُحرم خيرها، وكي نكون من الفائزين بالمغفرة، فما أعظمها من جائزة، وما أغلاه من فوز.
لا ندري هل نكون ممن يدركون هذه الليلة المباركة هذا العام أم لا؟ وهل نكون من المقبولين؟ ولا ندري هل ما يزال في العمر متسع لندركها في أعوام قابلة أم لا؟؛ فشمروا أحبتي سواعد الجد والاجتهاد، في الليالي العشر الأواخر من رمضان، وضاعفوا الجهد قدر الإمكان في الوتر منها .. ﻻ‌ تفوتوا الفرصة؛ عسى نكون وإياكم من السعداء الذين يدركون هذه الليلة ويفوزون ببركتها.
وأذكر نفسي وأذكركم بأن أفضل دعاء في (ليلة القدر) هو: [اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني].
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.


الجمعة، 24 يونيو 2016

فلنستعد له


24 يونيو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٧

(فلنستعد له)

زارنا خلال الشهور الماضية عدة مرات مَلَكٌ كريم؛ هو ملك الموت .. الذي قبض أرواح أحبة لنا أعزاء علينا كان آخرهم يوم أمس الخميس.
أعلم أن الكثيرين لا يحبون الحديث عن الموت، يتحاشونه ويتجنبونه، ويعمد البعض إلى ترك المجلس إذا ذُكر فيه شيء عن الموت، رغم أن الرسول عليه الصلاة والسلام يوجهنا إلى ذكر الموت؛ قَالَ: [أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ-يعْنِي الْمَوْتَ]، وقال عندما سئل: [ ... فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الأكْيَاسُ]، كما قال: [الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا].
الموت مصير محتوم قَدَّرَه رب العزة يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمىً﴾، ويقول: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً  وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.
إنها مقادير المولى عز وجل التي كتبها على عباده، تماماً كما كتب لهم أرزاقهم، وكما كتب على كلٍ منهم أشقي هو أم سعيد.
الموت مخلوق من مخلوقات الله، قدره الله بعلمه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾، وبين لنا المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ" فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ. ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ [مَرْيَمَ: 39]، وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يُؤَمِّنُونَ»؛ فالدار الآخرة ليس فيها موت، وإنما هي نعيم مقيم، أو عذاب دائم شديد مهين أليم.
إذا كنا سنموت كلنا جميعاً فما الحكمة إذن من الحياة؟ سؤال يتبادر إلى الذهن، تجيب عنه الآية الكريمة: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾؛ إذن هو الابتلاء والاختبار، هو التمحيص والاختيار؛ ليميز الله الخبيث من الطيب.
ومثل الدنيا، كما ورد في الأثر، مهما طال عمرنا فيها، مثل سوق أقيم ثم انفض، ربح فيها من ربح وخسر من خسر. والعاقل من عمل لحياته الحقيقة بعد الموت واستعد لها، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
سؤال آخر: ماذا نريد لأنفسنا في الدار الآخرة؟ أن نكون من أهل الجنة أم من أهل النار؟ الإجابة واضحة: كلنا نريد الجنة، وربنا سبحانه وتعالى برحمته لا يريد لنا إلا الجنة، يقول عز من قائل: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾. وتعبر الآية القرآنية الكريمة عن رغبة كل إنسان، حتى لو كان عاصياً آثماً مذنباً، في دخول الجنة؛ حيث تقول: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾.
سؤال ثالث نسأله لأنفسنا ونحن نعلم إجابته مسبقاً، هل هناك طريق آخر غير الموت يوصل ما بين حياتنا الدنيوية، القصيرة مهما طالت، وبين النعيم الأبدي في جنات الخلد؟ بالتأكيد لا يوجد غير طريق الموت، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾، فإذا كان الأمر كذلك (فلنستعد له).
هذه هي القضية، العمل والاستعداد للموت، هي قضية كل مسلم مؤمن يعلم أننا لم نُخلق إلا لعبادة الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، والكيس الفطن هو من يعيش في الدنيا كأنه عابر سبيل كما أرشدنا لذلك نبينا الكريم حينما قال:[كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ]، فلا نجعل الدنيا أكبر همنا.
عند الحديث عن الموت يتمنى كل منا أن يعيش لأطول فترة ممكنة، إنها رغبة فطرية طبيعية عند كل البشر، يريد أن يعمر في الأرض، يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ﴾، حتى إن البعض ليقدم أعمال الحياة الفانية على أعمال الآخرة الباقية؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. وتصف الآية الكريمة الكافرين والمشركين وتبين مدى حبهم لطول البقاء في الدنيا: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ﴾.
أحبتي في الله .. الطريق واضح وجلي، يقول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام: [كلُّ النَّاس يغدو، فبائع نَفْسَهُ فمعتقُها، أو مُوبِقها]؛ فماذا اخترنا لأنفسنا؟ كلنا يريد الجنة، فهل أعددنا أنفسنا للفوز بها؟ هل عملنا لنكون من أهلها؟ يقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا﴾. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [... أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ].
فلنحذر أن نترك أنفسنا لأمل كاذب وخادع، ونحذر من التمني الذي لا يصاحبه عمل؛ قال الحسن البصري: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً غرتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا: "نحسن الظن بالله" وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل).
وقال أحد العارفين: (إِنَّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ كَكَفَّتَيِ الْمِيزَانِ، بِقَدْرِ مَا تَرْجَحُ إِحْدَاهُمَا تَخِفُّ الأُخْرَى).
أحبتي .. كما يُقال: "عرفت فالزم"؛ الموت حق علينا جميعاً .. لا مهرب منه ولا مفر .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ .. (فلنستعد له) لنكون، ومن نحب، من أهل الجنة التي يصفها عليه الصلاة والسلام بقوله: [قال الله تعالى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ "، واقرأوا إن شئتم قوله تعالى: ﴿فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بما كانوا يَعْمَلون﴾]. اللهم ارحم أمواتنا واغفر لهم وبدل سيئاتهم حسنات واجعلنا معهم من أهل الجنة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/8UHIij


الجمعة، 17 يونيو 2016

الوزر الجاري!


17 يونيو‏، 2016م
خاطرة الجمعة/ ٣٦

(الوزر الجاري!)

كلنا يعرف معنى الصدقة الجارية، وهي الصدقة التي يستمر ثوابها طوال حياة الإنسان وبعد موته. ولا أظن أن أحداً منا لا يعرف أهميتها ويحرص عليها ويجتهد في زيادتها، فهي رصيده المتجدد في الحياة الحقيقية التي إليها معادنا، حياة الخلود؛ قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، وَعَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: [إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ]، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ]. ومن أنواع الصدقات الجارية: بناء المساجد، وغرس الأشجار، وحفر آبار المياه، وطباعة المصحف وتوزيعه، ونشر العلم النافع بطباعة الكتب والأشرطة وتوزيعها، والوقف الخيري، وغير ذلك. كل هذا معلوم ومفهوم وواضح.
تعالوا نفكر معاً في الحالة العكسية؛ هل هناك يا ترى ما يُسمى (الوزر الجاري)؟
نعم! إنه الوزر الذي يستمر إثمه وجزاؤه طوال حياة الإنسان وبعد موته. ولما كان الإنسان يستفيد من ثواب الصدقة الجارية، فإنه يتضرر من آثام (الوزر الجاري). إنه العدل بعينه. والجزاء من جنس العمل. في حالة الصدقة الجارية أنت تستفيد منها في حياتك، وبعد وفاتك إلى يوم الدين كلما استفاد منها غيرك، تتسع الدائرة، وتتزايد، وتكبر؛ فيثقل ميزان حسناتك، ويستمر هذا الأمر إلى ما شاء الله، ويصل ثواب ذلك لك حتى بعد وفاتك. أما في حالة (الوزر الجاري) فيتحمل صاحب الوزر إثم وذنب كل من يأتي من بعده ويسير على دربه، عرفه أو لم يعرفه، وكلما قلده أحدهم، يستمر عداد الذنوب في العمل؛ فصاحب الوزر يتحمل إلى جانب وزره أوزار كل من قلدوه كاملة حتى بعد موته، إذا مات على هذا الوزر ولم يتب عنه.
أحبتي في الله .. نعلم جميعاً تأثير الشخص القدوة على سلوك الآخرين ممن يقتدون به، من هنا كان من أخطر الأمور أن يكون الآباء قدوةً سيِّئة لأولادهم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾؛ فإذا كان الأب يدخن، أو يتعاطى المسكرات، أو يرتكب الفواحش، أو لا يتورَّع عن كسْب المال الحرام، أو يكذب، أو يغش، أو يغتاب، فكيف يكون حال أولاده الذين يقتدون به ويتربون على ذلك ويألفون تلك الأوزار والمفاسد؟، سيكونون في الغالب كما قال الشاعر:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا            عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
كيف نتصور حال أبناء ألِفُوا من آبائهم ترك الصلاة، وعدم ارتياد المساجد، وهجر القرآن؟ وبنات عشن مع أمهات لا تصلين، متبرجات بزينة أمام الأغراب، كاسيات عاريات؟ لا نتصور حالهم إلا كما تصفه الآية الكريمة: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ﴾.
والأمر ليس قاصراً على الآباء والأمهات فحسب، بل يمتد ليشمل كل من هو قدوة لغيره كالمعلم والصديق. ويزداد تأثير الشخص القدوة بارتفاع مكانته (رجل دين، أستاذ جامعة، إعلامي مشهور، كاتب معروف، رياضي محبوب، ...). الأمر جد خطير فهو يشملنا جميعاً دون استثناء؛ فكلٌ منا في الواقع هو قدوة لغيره دون أن يدري، فعلينا جميعاً أن نضبط سلوكنا وتعاملاتنا وأقوالنا وأفعالنا ولبسنا ومظهرنا وأكلنا وشربنا واغتسالنا وكل أمور حياتنا بما يتمشى مع شرع الله، وعلينا جميعاً أن نحذر من (الوزر الجاري).
أحبتي .. يقول المولى عز وجل: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ  وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ  أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ  وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾. ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: [مَنْ سَنَّ سُنَّةَ ضَلَالٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ...]، كما قال: [ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً]؛ فلنبتعد عن (الوزر الجاري) ونفر منه فرارنا من قَسْوَرة، ولنشرع فوراً في توبة صادقة من كل وزر، لننال المغفرة؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾.
اعلم أخي العزيز أنك مسئول ومحاسب عن أفعالك وأقوالك، كما أنك مسئول ومحاسب عن كل من انتهج نهجك وتأسى بعملك وسار على خطاك، خيراً كان أو شراً. راجع نفسك، اعرض أفعالك وأقوالك على ميزان الشرع، استمر فيما تجده صحيحاً، أما ما تجده لا يتوافق وأحكام الإسلام فامتنع عنه فوراً وبادر بالاتصال بكل من تستطيع أن تبين له الصواب وتدله على طريق الرشد وتبعده عن طريق الغي الذي كنت تسلكه، ابذل ما في وسعك لإزالة كل أثر لوزرك حتى لا يستمر جارياً، وجهدك في هذا المجال مقيد بالممكن. واعلم أن التوبة تجُّب ما قبلها، فإن التائب من الذنب، كمن لا ذنب له.
تقبل الله توبتنا وتوبتكم من كل وزر، ونفعنا من كل عمل خير نقوم به أو يقوم به آخرون تأسياً بنا.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/MBZMIU


الجمعة، 10 يونيو 2016

رؤية هلال رمضان

10 يونيو، 2016م
خاطرة الجمعة/ ٣٥

(رؤية هلال رمضان)

في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، يكون محور الحديث بين معظم المسلمين عن موعد بداية شهر الصوم، شهر رمضان المبارك.
في الأسبوع الماضي جمع بيننا لقاء بعد صلاة العشاء، كنا أربعة، بدأ أولنا الحديث بالأمنية التي يحلم بها كل مسلم قائلاً: "أتمنى أن يتفق المسلمون على بداية موحدة لشهر رمضان؛ وأن نبدأ جميعاً صيامنا هذا العام في يوم واحد".
ما إن انتهى من حديثه حتى بدأ حوار حول مسألة الرؤية الخاصة بتحديد بدايات الشهور الهجرية خاصة (رؤية هلال رمضان):
عرض واحد منا وجهة نظره فقال: "مع تطور العلم الحديث، واختراع أدوات وأجهزة للرصد والرؤية، وتطور الحسابات الفلكية وما تتسم به من دقة متناهية أوصلت البشرية إلى سطح القمر، فلا مجال للاعتماد على العين المجردة لرؤية الهلال وفيها ما فيها من ظن واحتمال وتوهم. توجد الآن النظارات العادية، العدسات المكبرة، المناظير المقربة، المجاهر (الميكروسكوبات)، والتليسكوبات الفضائية، وكلها أدوات لا تنشئ رؤية من عدم وإنما تساعد على تحسين رؤية شيء إذا كان موجوداً بالفعل، تقرب صورته وتكبرها؛ فكيف لا نستخدمها ونعتمدها أساساً للرؤية بدلاً من العين المجردة؟ ثم كيف لا نأخذ بالحسابات الفلكية والمسلمون في شتى بقاع الأرض يعتمدون عليها في معرفة أوقات الصلوات الخمس يومياً ولمدة عام قادم، وهي حسابات ذات دقة متناهية، تحظى باتفاق لا خلاف عليه". واختتم عرض وجهة نظره بقوله: "أنا مع اعتماد الحساب الفلكي؛ فإذا دلت الحسابات الفلكية على وجود القمر بعد غروب الشمس بوضع يسمح برؤيته كهلال؛ فإنه يؤخذ بالحسابات الفلكية، ويكون اليوم التالي هو أول أيام الشهر الهجري دون اشتراط رؤيته بالعين المجردة".
قال آخر: "اسمح لي عزيزي أن أختلف معك في الرأي تماماً؛ فأنا مع الرؤية بالعين المجردة لما ورد بذلك من أمر صريح في القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿‌فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وفي السنة المشرفة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته]، وقال صلى الله عليه وسلم: [إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا]. فهل بعد ذلك نترك الرؤية ونأخذ بالحسابات الفلكية؟ علماً بأن الفلك هو علم من العلوم، ويغلب على معظم العلوم أنها ظنية تتغير بتغير الزمان، فهل نترك المطلق ونأخذ بما يغلب عليه الظن؟ وأخيراً، هل يجوز إذا قال أحدنا قال الله وقال الرسول أن يُقال قال العلم الحديث؟".
قال الثالث: "ولماذا لا نأخذ بالرؤية بالعين، فلا جدال أننا مأمورون بها، لكن مع وجود ضابط نضمن معه صحة الرؤية؛ فإذا أثبتت الحسابات الفلكية أن القمر لن يكون موجوداً في السماء في ذلك الوقت، سواءً لم يولد بعد أو أنه وُلد ولكن تستحيل رؤيته، وقتها لا يمكننا الأخذ برأي شاهد يدعي رؤية الهلال، وعلى القاضي الشرعي أو المفتي رد شهادته"، واستطرد يقول: "لا أرى تصادماً بين الدين والعلم، بل إننا كلما زاد علمنا زاد إيماننا؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾".
سألني ثلاثتهم، "ما رأيك أنت في هذه المسألة؟"، قلت لهم: "أنا أضع نفسي موضع الإنسان المسلم البسيط غير المتخصص؛ واجبٌ عليّ أن أتبع ولي الأمر، وأن ألتزم بما تعلنه السلطات المعنية في بلدي عن ثبوت أو عدم ثبوت الرؤية وما يترتب على ذلك من أحكام فقهية وشرعية"، وأردفت: "ومع ذلك، فأنا أرى أن ما يجمع بين وجهات نظركم رغم ما يبدو بينها من تباين، هو حرصكم على تحقيق مصلحة المسلمين، وإن اختلفت زاوية رؤية كلٍ منكم".
أحبتي في الله .. نتمنى كلنا أن تكون رؤية هلال شهر رمضان الكريم مناسبة لتوحيد الأمة الإسلامية، بدلاً من أن تكون مظهراً من مظاهر تفرقها.
أحبتي .. ما عرضته مختصراً وملخصاً لآراء متباينة فيما يتعلق بموضوع (رؤية هلال رمضان) ليس الهدف منه إحداث فتنة - لا قدر الله - وإنما الهدف هو لفت نظر الجهات المعنية بشئون المسلمين للاتفاق على رأي واحد في هذا الموضوع المهم الذي يشغل بالنا جميعاً مع اقتراب شهر رمضان كل عام.
الحمد لله أن بلغنا رمضان، تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.