الجمعة، 5 يناير 2018

الغنيمة الباردة

الجمعة 5 يناير 2018م

خاطرة الجمعة /١١٦
(الغنيمة الباردة)

لم تغادر ذاكرتي إلى اليوم علامات الدهشة التي أبداها أحد أصدقائي، وكنا نتحدث عن قلة مرتادي المساجد لصلاة الفجر، حين سألني: "كم يستوعب الصف الأول في مسجدكم من المصلين؟"، فسألته: "في الصيف أم في الشتاء؟"، هنا ارتفع حاجباه وسألني: "وهل يوجد للشتاء أو الصيف تأثيرٌ في ذلك؟!"، تجنبت الإجابة بنعم، وفضلت أن أجيبه بسؤالٍ آخر أكثر غرابةً: "ألم تسمع بتأثير الحرارة فيما يُعرف بقانون التمدد والانكماش؟"، أجاب: "بلى سمعت. أتريد أن تقول أن الصف الأول في مسجدكم يتمدد بالحرارة في فصل الصيف وينكمش بالبرودة في فصل الشتاء؟!"، قلت مراوغاً قاصداً المداعبة بالإمعان في الغموض: "اقتربت عزيزي مما أريد أن أقوله!". تعمدت الصمت للحظة كانت كافيةً لأن تتسع حدقتا عينيه انتظاراً لتوضيحٍ مني؛ فاستطردت قائلاً: "الصف الأول بمسجدنا يستوعب في الصيف عشرة مصلين، أما في الشتاء فلا يستوعب إلا تسعة!"، ومع استمرار علامات الدهشة التي لم يكن يستطيع إخفاءها، أكملت: "في الصيف يتخفف الناس من ملابسهم لحرارة الجو، لكنهم في الشتاء يلبسون أثقل ما يمتلكون من ملابس طبقةً فوق طبقةٍ؛ فتنتفش ملابسهم وتزداد أحجامُهم فيشغلون حيزاً من المكان أكبر مما يشغلونه في شهور الصيف!".
زال تعجب صديقي واندهاشه بهذا التوضيح، وانتقلنا لمناقشة أسباب قلة عدد من يواظبون على صلاة الجماعة في المساجد بشكلٍ عامٍ، وندرة من يواظب منهم على صلاة الفجر تحديداً، وفي فصل الشتاء على وجه الخصوص؛ ففي شارعنا الصغير، على سبيل المثال، يسكن قرابة ألف مسلمٍ تكتظ بهم المساجد وقت صلاة الجمعة حتى أن بعضَهم يُضطر للصلاة على حُصُرٍ تُفرش خارج هذه المساجد، أما صلاة الفجر مع الجماعة بالمسجد في يومٍ من أيام الشتاء الباردة فلا يكاد عددهم يزيد عن اثني عشر رجلاً، إلا في رمضان أو قبل امتحانات آخر العام!
ومن بين ما قلت لصديقي: "لو يعلم هؤلاء الأحبة كم يُفَوِّتون على أنفسهم من غنيمة الشتاء؛ لأتوْا للمساجد حبواً"، فاستوقفني ليستوضح مني ما أقصد بعبارة غنيمة الشتاء، وكما يحلو لي أن أزيد الأمر غموضاً قبل توضيحه؛ قلت له: "إنها (الغنيمة الباردة) يا عزيزي!"،
فعاد حاجباه للارتفاع من جديد وعادت حدقتا عينيه للاتساع مترقباً أن أوضح له معنى ما أقول!

أحبتي في الله .. مع اشتداد برودة الجو في أشهر الشتاء نتذكر دائماً مقولاتٍ مشهورةً عن ربيع المؤمن وعن غنيمة الشتاء وعن (الغنيمة الباردة) فلنلقِ نظرةً سريعةً عما قال أهل العلم في هذا الموضوع؛ قالوا جزاهم الله خيراً:

الدهور والأعوام والليالي والأيام، سنن الله تتعاقب في هذه الدنيا، وبتعاقبها وسيرها تتعاقب الفصول على الناس، فهذا فصلٌ للصيف وذا للشتاء وذاك للخريف وذا للربيع، والمؤمن يقف مع هذه النعمة يتدبرها حق التدبر ويشكر الله لأجلها، قولاً وعملاً. فإنَّ تقلُّبَ الأحوال الكونية مِن صيفٍ وشتاءٍ، وليلٍ ونهارٍ، وجفافٍ وأمطارٍ، وسكونٍ ورياحٍ، يُعزِّز إيمانَ المؤمن بأنَّ الله سبحانه وتعالى خالِقُ الكون ومدِّبره؛ فيتذكر قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾، كما يتذكر قوله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
إن مصالح العباد وحياتهم لا تنصلح إلا بهذا التعاقب، فالله حكيمٌ عليمٌ، لم يوجِد شيئاً عبثاً ولم يخلق شيئاً بغير حكمةٍ؛ فَتَقَلُّبُ الزمان وتَصَرُّفُ الأحوال من حرٍ إلى قَرٍ، ومن صيفٍ إلى شتاءٍ، إنما هو بحكمته وتصريفه، فهو سبحانه أعلم بما يُصلِح عباده، حتى لو كرهنا حرارة الصيف أو برودة الجو في الشتاء؛ يقول عز وجل: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾.
إن فصول السنة تُذَكِّر بالآخرة؛ فشدة حر الصيف يذكر بِحَرِّ جهنم، وهو من سمومها، وشدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم، وهو من نَفَسِها. وإن المؤمن ليتميز عن غيره بجميل صبره عند الضراء، وبحسن شكره عند السراء، وإن ما نجدُه ونُحِسُّه من شدة البرودة في الشتاء إنما هو نفسٌ من الزمهرير، كما جاء في الحديث؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [اشتكَتِ النارُ إلى ربها فقالت: يا ربِّ، أَكَل بَعضِي بعضاً، فأَذِنَ لها بنَفَسيْن: نفَس بالشتاء، ونفَس في الصيف، فهو أشدُّ ما تَجِدون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون مِن الزمهرير - وهو شِدَّة البَرْد]؛ فإذا ما وَجَد المرءُ لَسْعَة البرد تذكَّر زمهريرَ جهنَّم، فاستعاذ منها، وسأل الله تعالى برْدَ الجنَّة ونعيمَها؛ ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾. ما أوقع ذلك في نفوس المتقين! وما أشد تأثيره على قلوب المخبتين! حين يتذكرون الزمهرير؛ فيزيدهم ذلك إيماناً وتوبةً وإقبالاً على رب العالمين. وهكذا حال المؤمنين الصادقين؛ كل ما حولهم يذكرهم فيتذكرون، وبدقيق صنعة الله يتفكرون، ثم لربهم يشكرون، ولذنوبهم يستغفرون، وعلى تقصيرهم يحزنون.

والشِّتاءُ ربيعُ المؤمِن يستغلُّ حلولَه فيما يُقرِّبه إلى الله تعالى؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [الشِّتاء ربيعُ المؤمِن؛ طال ليلُه فقامَه، وقصُر نهارُه فصامَه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء].
وكأن عمر بن الخطاب يشرح حديث النبي عليه الصلاة والسلام حين قال رضي الله عنه: "الشتاء غنيمة العابدين". أما الحسن البصري فيمدح الشتاء بقوله: "ونِعمَ زمان المؤمن الشتاء؛ ليله طويلٌ يقومه، ونهاره قصيرٌ يصومه". وكذا فعل ابن مسعود حين قال: "مرحباً بالشِّتاء؛ تتنزَّل فيه البَرَكة، ويطول فيه الليلُ للقيام، ويقصُر فيه النهار للصِّيام".

والشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزِّه قلبَه في رياض الأعمال الميسَّرة فيه، يَصلح دينُ المؤمن في الشتاء؛ بما يسَّر الله فيه منَ الطاعات؛ فإن المؤمن يَقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقَّةٍ ولا كلفةٍ تحصل له من جوعٍ ولا عطشٍ؛ فإن نهاره قصيرٌ باردٌ، فلا يحس فيه بمشقَّة الصيام.
يقول ابن رجب في معنى (الغنيمة الباردة): "أنها غنيمةٌ تحصل بغير قتالٍ ولا تعبٍ ولا مشقةٍ، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفواً صفواً بغير كلفةٍ، وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم". وقال السندي: "(الغنيمة الباردة) هي الحاصلة بلا تحمل كلفة المحاربة، وصوم الشتاء له أجرٌ بلا تحمل مشقة الجوع؛ لقصر الأيام، والعطش؛ لبرودتها، فيه ترغيبٌ للناس في صوم الشتاء". وقال المناوي: "الصوم في الشتاء (الغنيمة الباردة) أي: الغنيمة التي تحصل بغير مشقةٍ". وعن عبيد بن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء قال: "يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم، فاقرؤوا، وقَصُر النهار لصيامكم، فصُومُوا" .
قال الله تعالى: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وممَّا يَعتني به المسلِمُ في الشتاء إسباغُ الوضوء وإتمامه، فلا يُعجله الشعورُ بالبرد عن إكمالِ الوضوء لأعضائه وإتمامِها، بل إنَّ ذلك الإتمامَ والإسباغ وقتَ المكارِه هو ممَّا يُكفِّر الله به الخطايا، والمكاره تكون بشدَّة البرْد أو الحرِّ أو الألَم، فيحتسب المسلِمُ تلك الشدَّةَ وهو يتوضَّأ بأنَّها مِن مُكفِّرات الخطايا، ورافعات الدَّرَجات؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [ألاَ أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرْفَع به الدرجاتِ؟] قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: [إسْباغُ الوضوءِ على المكارِه، وكَثْرة الخُطَى إلى المساجِد، وانتظار الصلاة بعدَ الصلاة، فذَلِكُم الرِّباط].
والشتاءُ هو ربيعَ المؤمِن؛ ففيه كثيرٌ من الأعمال الميسَّرة: فإذا ما نزَل الغيثُ والأمطار أقَرَّ المؤمن بفضْلِ الله ونعمته، ودعَا بما سَنَّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام: [مُطِرْنا بفضْل الله ورحمتِه]، وتحرَّى الدعاءَ حين نُزُول المطر، فهو مِن الأوقات الفاضلة؛ فعنِ النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: [ثِنتان ما تُرَدَّان: الدعاء عند النِّداء وتحتَ المطَر].
وممَّا سَنَّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام من الأدعية والأذكار، ما يَكثُر احتياجُه في الشتاء خاصَّةً، كالدُّعاء عند هُبوبِ الرِّياح؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [الرِّيح مِن رَوْح الله، تأتي بالرَّحْمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها، واسألوا الله خيرَها، واستعيذوا بالله من شرِّها]. كما سَنَّ عليه الصلاة والسلام الدعاءَ عندَ سماعِ الرَّعد بقوله: [سُبْحانَ الذي يُسبِّح الرعدُ بحمدِه والملائكةُ مِن خِيفته]. وسَنَّ عليه الصلاة والسلام الاستسقاءَ، وهو طلبُ السُّقيا والمطَر مِن الله سبحانه وتعالى بصلاة الاستسقاءِ، أو بالدعاء المجرَّد، أو بالدعاء على مِنبرِ صلاة الجُمُعة.
كما أن من أعمال الخير التي تزداد أهميتها في فصل الشتاء الاهتمام بالفقراء؛ فلا شك أن إيثارهم بما يدفع عنهم غائلة البرد خلال ذلك الفصل له فضلٌ عظيمٌ، وأجرٌ كبيرٌ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ فَرَّجَ عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ]، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرَى مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَجْوَعَ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَظْمَأَ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَنْصَبَ مَا كَانُوا قَطُّ، فَمَنْ كَسَا لِلَّهِ كَسَاهُ اللهُ، وَمَنْ أَطْعَمَ لِلَّهِ أَطْعَمَهُ اللهُ، وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ سَقَاهُ اللهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ أَغْنَاهُ اللهُ، وَمَنْ عَفَا لِلَّهِ أَعْفَاهُ اللهُ].
فَهَمُّ المساكين والفقراء في الشتاءِ يقضُّ مضاجعَنا، حين نتذكرُ مبيَتهم في العراءِ بلا مأوى يسترُهم، أو لباسٍ يُدفئُهم، أو طعامٍ يسدُّ جَوعتَهُم، فنحمدُ الله الذي أنعمَ علينا بمأوىً آمنٍ، وفراشٍ دافئٍ، وطعامٍ زكيٍّ، فنسارعُ لنتصدّقَ عليهم، ونقومُ بذلك لأننا قرأنا قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾؛ فما أعظمه من ثواب!
جميلٌ هو الشتاء، على الرغمَ من تقلُبنا فيهِ، ما بين صحةٍ ومرضٍ، وبين عافيةٍ وحُمّى وزُكامٍ و بردٍ، إلا أننا نوقِن أنّ المؤمنَ يؤجرُ على الشوكةِ يُشاكُها فيهونُ علينا ألمُ المرضُ وإنْ كان ثقيلاً. شتاؤنا يعيشُه المؤمنون كروح ٍ واحدةٍ، إنْ مرِضَ أحدنُا دعا له الآخر، وإنْ ضجِرتْ نفسٌ ذكّرتها نفوسٌ أخرى بأجرِ الاحتساب: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، فمرضُ المؤمن هو تكفيرٌ لذنوبه ورفعةٌ لدرجاته. وحينَ مرضتْ أمُ السائب؛ سألها النبيُ صلى الله عليه وسلم: [ما لكِ يا أمَّ السائب؟] فقالتْ: الْحُمَّى، لا بارك الله فيها، فقال لها عليه الصلاة والسلام: [لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ].

وفي فصلِ الشِّتاء تشتدُّ الحاجة إلى بعضِ الرُّخَص التي شرَعَها الإسلام بسماحته ويُسْره؛ ففي الشتاء، وكذا في الصيف، يُرخَّص للمسلم أنْ يمسحَ على الجواربِ؛ درءاً للمشقَّة.
كما يُرخَّص للمسلمين في الجمْعِ بين الصلوات وقتَ اشتداد المطر، وحدوثِ البَلل أو الوحل، أو عند هبوب الرياح المؤذية، ونزول الثلوج أو البَرْد، وإنْ حدثتْ مشقَّةٌ في الاجتماع للصلاة، جازَ للمرء أنْ يُصلِّي في بيته؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام يُنادي منادِيه في الليلةِ الباردة أو المَطيرة: "صَلُّوا في رِحالِكم". لكن لا ينبغي التساهل في ذلك والأمر ميسَّرٌ في زماننا؛ فالطُّرُق معبَّدَةٌ، والسيَّارات متوفِّرةٌ، والمساجد قريبةٌ، ولكن هذا مِن يُسْر الإسلام وسماحتِه، والرُّخْصةُ سَعَةٌ وتسهيلٌ متى ما تحقَّقتْ شروطُها.

وهذا رجلٌ صالحٌ كتب عن (الغنيمة الباردة) يقول: "دخلَ الشتاءُ، وعادتْ لياليهُ الطِوال. عادتْ ليالي الأُنس ِبمناجاةِ الربّ، ففي أيامٍ خلتْ كانت وجوهُ الصحابة رضوانُ اللهِ عليهم تتهللُ فرحاً بمقدمِ الشتاء؛ فلطالما انتظرَهُ المُشمِّرون، واشتاقَ إليهِ المشتاقون، فإذا خلد البشرُ إلى منامِهم، وسكنَتْ الأرواحُ من حولِهم، قاموا مُنسلِّينَ خفية، مودّعينَ فُرَشَهَم الدافئة الوثيرة إلى حيث الماء الباردِ، ليُسبغوه على أبدانِهم متطهرين، يرجون به نوراً يستضيؤون به يومَ القيامة، ويتميّزون به عن المنافقين، وما خففَ عنهم ألم الماء البارد إلا ما استيقنوه مِن بشارةِ نبيهم صلى الله عليه وسلم بأن إسباغَ الوضوءِ على المكارهِ هو مِن كفاراتِ ذنوبِهم. ثم يمضون إلى مصلياتهم، فيقفون طويلاً بين يدي ربِّهم مناجين مخبتين، بعدما علِموا أنّ مَن أطال الوقوف في الليل مناجياً الله سبحانه وتعالى؛ هوّنَ الله عليه طولَ الوقوفِ يومَ القيامة. حينها تبدأُ تراتيل السحر، وتتنزل ملائكةٌ تستمعُ التلاوات، وتصعدُ صلواتٌ وكلماتٌ طيباتٌ، وتُسْكَبُ دموعٌ وعَبَراتٌ، وتنطرحُ بين يدي ربِّنا الأمنيات، والربُّ عزّ وجلّ يتنزلُ ويسمعُ تلك المناجاة، وهو سبحانه ينادي في تلك الساعاتِ الأخيرةِ من الليل ويقولُ: {من يَدعوني فأستَجيبَ لَهُ؟ مَن يسألُني فأُعْطيَهُ؟ مَن يَستَغفرُني فأغفِرَ لَهُ}. أيُّ لحظاتِ قُرْبٍ! أيُّ لحظاتِ نقاءٍ وطُهرٍ! أيُّ سكينةٍ وراحةِ قلبٍ! تمضي الأوقاتُ خفيفةً لذيذةً على من قام الليل، يجلسُ في مصلاهُ في بيته حتى قبيل الفجر؛ فيتسحر ناوياً صيام يومه، ثم يخرج في البرد والمطر ليصلي الفجر مع جماعة المسلمين في المسجد".

أحبتي .. هذا هو نهارُ الشتاءِ القصير، وهذهِ هي لياليهِ الطِوال، فالشتاء هو (الغنيمة الباردة)؛ فللِه ما أسهلَ صيام أيامه، وللهِ ما ألذَّ قيامَ لياليه.
ولابد لِمن لم يعتدْ على ذلك أن يتحلّى بـالصبرِ والمجاهدةِ، وقهرِ شيطانِهِ الذي ما اعتادَ أن يقهرَه، فقد وعدَنا الله سبحانهُ وتعالى على مجاهدةِ أنفسِنا أجراً عظيماً فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، فكمْ فوّت علينا الشيطانُ مِن طاعةٍ حين خيّلَ إلينا أنها ثقيلة. وكم فوَّت علينا مِن غنائم، حينَ أغرانا في ليلِ الشتاء بملءِ بطونِنا بالطعام، وأشغلَ فكرَنا بالدنيا حتى خلدْنا إلى النوم ثم ثقُلَ علينا قيامُ الليل للعبادة وللسحور بعد ذلك!"
سُئل أحد السلف ما بالنا لا نقوم الليل؟ قال: "كبلتكم معاصيكم". إننا لم نُحرم صلاة الليل إلا بذنوبنا وإسرافنا على أنفسنا، ذلك الثلث الأخير الذي تتنزل فيه الرحمات، وتُقسم فيه الهبات من لدن رب الأرض والسموات باسطاً يده سخاءً، يغفر ذنوب المذنبين، ويكشف الضر عن الملهوفين، وينفس كرب المكروبين، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه. كرمٌ وتفضلٌ منه نحن عنه معروضون، وبلذيذ المنام نحن مشتغلون. لو دُعي أحدنا في كل ليلةٍ في الثلث الأخير ليُعطىَ مالاً لما تأخر أبداً، فما بالنا نتخلف عن أمرٍ هو خيرٌ من الدنيا وما فيها؟ أخشى أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . والآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، أو ممن قال الشاعر لهم:
قُم الليلَ يا هذا لعلك ترشدُ
إلى كم تنامُ الليلَ والعمرُ يَنفدُ
أراك بطولِ الليلِ ويحَكَ نائماً
وغيرُك في محرابِه يتهجدُ
ولو عَلِمَ البَطَّالُ ما نالَ زاهدٌ
من الأجرِ والإحسانِ ما كان يَرقدُ
أترقدُ يا مغرورُ والنارُ تُوقدُ؟
فلا حرُها يُطفأُ ولا الجمرُ يُخمدُ
فيا راكبَ العِصيانِ ويحكَ خَلِها
ستُحشرُ عطشانَ ووجهُك أسودُ
فكمْ بَيْن مشغولٍ بطاعةِ ربِهِ
وآخرُ بالذنبِّ الثقيلِ مُقْيَّدُ
فهذا سعيدٌ في الجِنانِ مُنَعَّمٌ
وهذا شقيٌ في الجحيمِ مُخَلَّدُ
أحبتي .. قيام الليل وصيام النهار في فصل الشتاء نعمتان فَرَّط فيهما كثيرٌ منّا، رغم كونهما يسيرتين. فليحاسب كل واحدٍ منا نفسه كم ليلةً قامها وكم يوماً صامه؟ ألا ما أعظم تقصيرنا! وسلفُ هذه الأمةِ كانوا من المتقين ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، فقوي إيمانهم وصدَّقه يقينهم، فاجتهدوا وقاموا، قدوتهم في ذلك الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه. لا شك في أن قيام ليل الشتاءِ شاقٌّ على بعض النفوس حين تألُّمُ لتركها الفراشِ الوثيرِ في شدةِ البرد، وحين تسكب الماء شديد البرودة في آخرِ الليل على الأطرافِ الدافئة للوضوء، لكن اليقين بأنَ الأجرَ يعظُمُ مع المشقة يجعل لترك الفراش وصبِّ الماء الباردِ على الأطرافِ لذةً لا تضاهيها لذةٌ أخرى؛ فيهونُ كلُّ ألم ٍ وتعبٍ، وتزول كل مشقةٍ، ويحل الرضى وتسكن النفس.
فالحمدُ للهِ على أجورٍ ليست إلا لمؤمنٍ، والحمدُ لله على ثوابٍ عظيمٍ يُقابلُ عملاً يسيراً، والحمدُ لله على الشتاءِ الذي يُسهّلُ لنا عبادةَ قيامَ الليل وصوم النهار، وأعمال خيرٍ كثيرةٍ. في الشتاءِ غنائمُ وأجورٌ لِمن جدّ وسعى إليها وأقبل عليها؛ فلنعزمْ النيةَ مِن لحظتِنا هذه سعياً إلى إسباغِ الوضوء، وقيام الليل، وصوم النهار، والتصدق على الفقراء والمساكين، وفعل الخيرات، وإتمام العبادات، فإنّ أحدَنا لا يدري متى ستنتهي فرصته في جمع ِ الأجور ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾؛ فلنتسابقْ في قيام الليل وفي صيام النهار لنكون من المقربين فَهُم ﴿السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾، ولنتنافسْ فيما بيننا ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾، لنكون من الفائزين بهذه (الغنيمة الباردة).
اللهم اجعلنا ممن وصفهم الشاعر بقوله:
يمشون نحو بيوتِ اللهِ إذ سمعوا الله أكبر
في شوقٍ وفي جَذلْ
أرواحُهم خشعت للهِ في أدبٍ
قلوبُهم من جلالِ اللهِ في وَجلْ
نجواهم: ربنا جئناك طائعةً نفوسُنا
وعَصَيْنا خادعَ الأملْ
إذا سجى الليلُ قاموه
وأعينُهم من خشيةِ اللهِ مثلُ الجائدِ الهَطلْ
هُم الرجالُ فلا يُلهيهم لَعبٌ عن الصلاةِ
ولا أكذوبةُ الكسلْ

طابت أيام وليالي شتائنا عامرةً بقيام الليل وصوم النهار والعبادات وذكر الله وفعل الخيرات.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/xfTzPx

الجمعة، 29 ديسمبر 2017

خُلُق الحياء

الجمعة 29 ديسمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١٥
(خُلُق الحياء)

أرسل لي أحدهم على الواتس آب الرسالة التالية:
"‏لازلت أحاول أن أفهم! ماذا رأى موسى عليه السلام من ابنة شعيب عليه السلام لينفق عشر سنواتٍ من عمره مهراً لها؟ تستحق أن نقف عندها! الجواب في قوله تعالى: ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾؛ فما أجمل الحياء". كتبت له رداً سريعاً قلت له فيه: "أولاً؛ يا سيدي لم يثبت أن الرجل الصالح الذي تزوج سيدنا موسى ابنته هو نبي الله شعيب، ثانياً؛ من أدراك أن الذي تزوجها موسى عليه السلام هي التي كانت ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾؟ ألا يُحتمل أن يكون قد تزوج أختها؟ فالرجل الصالح بمدين قال لسيدنا موسى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾، ولم يحدد السياق القرآني هل هي من كانت ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾، أم التي قالت ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾، كما لم توضح الآيات الكريمة إن كانت من قالت هذه العبارة هي التي مشت على استحياء أم أختها." وأنهيت ردي بالقول: "من حكمة المولى عز وجل أنه يبين لنا التفاصيل بكل دقةٍ عندما تكون لنا مصلحةٌ في ذلك، ويتجاوز عن التفاصيل التي ليس لها نفعٌ، فلا يترتب عليها حكمٌ شرعيٌ ولا يمكن الإفادة منها بالاعتبار والعظة، كما في عدد أهل الكهف؛ حيث لا فرق بين إن كان الفتية ﴿ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ أو ﴿خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ أو ﴿سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾".

أحبتي في الله .. من أهم ما ينبغي أن نقف عنده في تلك الآيات هو (خُلُق الحياء)؛ قيل في وصفه أنه خلقٌ يبعث على فعل كل مليحٍ وترك كل قبيحٍ، فهو من صفات النفس المحمودة. وهو رأس مكارم الأخلاق، وزينة الإيمان، وشعار الإسلام؛ كما في الحديث: [إن لكل دينٍ خُلقاً، وخُلُقُ الإسلام الحياء]. فالحياء دليلٌ على الخير. وقيل هو خصلةٌ من خصال الإيمان، وخلقٌ من أخلاق الإسلام، من اتصف به حسُن إسلامه، وعلت أخلاقه، وهجر المعصية خجلاً من ربه، وأقبل على طاعته بوازع الحب والتعظيم، إنه خصلةٌ تُبعِد عن فضائح السيئات وقبيح المنكرات، تكسو المسلم وقاراً واحتراماً. وهو أمارةٌ على كرم السجية وطيب النفس، بل هو صفةٌ من صفات الأنبياء والصالحين. إنه صفةٌ جميلةٌ في الرجال، وفي النساء أجمل، كَسْبُها يجعل القبيح جميلاً، وفقدها يجعل الجميل قبيحاً.

ونظراً لما للحياء من فضائل؛ فقد أمر الشرع بالتخلق به وحث عليه، بل جعله من الإيمان.
والله سبحانه وتعالى حييٌ يحب الحياء؛ وصف نفسه فقال: ﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾. ويقول النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْراً خَائِبَتَيْنِ]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ].
قال الشاعر عن المولى سبحانه وتعالى:
وَهُوَ الحَيِيُّ فَلَيْسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ
عِنْدَ التَّجَاهُرِ مِنْهُ بِالعِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ
فَهُوَ السَّتِيرُ وَصَاحِبُ الغُفْرَانِ

و(خُلُق الحياء) شريعة جميع الأنبياء؛ يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: [إنَّ ممَّا أدرك النَّاس من كلام النبُّوَّة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت]، والمعنى: أنّ الرَادع عن القبيح إنَّما هو الحياء، وبغياب الحياء: تتدمَّر الأخلاق، وتُرتكب الفواحش والموبقات، فمن لم يستحِ فإنَّه يصنع ما شاء.
وفي هذا المعنى قال الشاعر:
إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي
وَلَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
فَلا وَاللَّهِ مَا فِي العَيْشِ خَيْرٌ
وَلا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ
يَعِيشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ
وَيَبْقَى العُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

وعن (خُلُق الحياء) يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ].
ويقول صلى الله عليه وسلم: [الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنَّة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النَّار].
ويقول عليه الصلاة والسلام: [الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعاً، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ]. ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: [ما كان الفُحش في شيءٍ إلا شانه، وما كان الحياء في شيءٍ إلا زانه].
ويقول عَلَيْهِ الصلاة وَالسَلام: [الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ]. وفي روايةٍ: [الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ]. وفي أخرى: [الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ].
وعن أشج عبد القيس رضي الله عنه قال: قال لي النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: [إنَّ فيكَ لخُلُقَيْن يحبهما الله] قلت: وما هما يا رسول الله؟ قال: [الحِلمُ والحياء]. 
ومَرَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [دَعْهُ، فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ].
وعن قُرَّة بن إياس رضِي الله عنْه: قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذُكِرَ عِنْدَهُ الْحَيَاءُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ الْحَيَاءُ مِنَ الدِّينِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [بَلْ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ]؛ لذلك يقول أحد العلماء: لا بد من تصحيح العبارة التي تروج على الألسن "لا حياء في الدين" بعبارةٍ أدق وأصح "لا حياء في تعلم الدين".

ومع الأقوال تأتي الأفعال؛ فها هو رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يُمثل لنا النموذج والقدوة والأسوة الحسنة، لقد كان المثل الأعلى في الحياء؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ".
وها هي السيدة عائشة رضي الله عنها تضرب لنا هي الأخرى مثالاً عملياً للحياء؛ فعنها أنها قَالَتْ: "كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِى دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي، فَأَضَعُ ثَوْبِي فَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلاَّ وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَىَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ". وهي رضي الله عنها التي قالت: "رأس مكارم الأخلاق الحياء"، كما قالت: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ في الدِّينِ".
وها هو الصحابي الجليل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول عنه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ عُثْمَانَ حَيِيٌّ سَتِيرٌ، تَسْتَحْييِ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ]. وقيل: "كان يستحي حتى من حلائله، وفي خلوته، ولشدة حيائه كانت تستحي منه ملائكة الرحمن".
والحياء في أسمى منازله وأكرمها يكون من الله سبحانه وتعالى؛ يقول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ]. وعن سعيدِ بنِ يَزيدَ الأزديِّ أنَّه قال للنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أوْصني، قال: [أُوصيك أن تستحْييَ من الله عزَّ وجلَّ كما تستحيي منَ الرَّجل الصَّالح من قومك].
إن من أعظم بواعث الحياء من الله حب العبد له؛ فهل هناك أحب إلى المؤمن من الله؟ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾، فإذا كان يحب الله حقاً فهل من المحبة أن يعصيه؟ هل من المحبة أن يُقصر في حقه؟
تعصي الإلهَ وأنت تزعمُ حبَه
هذا لعمري في القياسِ شَنيعُ
لو كان حبُك صادقاً لأطعتَه
إن المحبَ لمن يُحبُ مُطيعُ

ومن بواعث الحياء من الله كذلك عِلْمُ العبد بنظر الله سبحانه وتعالى إليه، فيدفعه ذلك إلى مجاهدة النفس، وتَحَّمُل أعباء الطاعة واستقباح الإثم والمعصية، والعبد إذا علم أن الله ناظرٌ إليه أورثه هذا حياءً منه. كيف لا يستحي العبد من ربه وهو يعلم أنه يسمع ويرى؟ قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾. وقال تعالى: ﴿وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾. وهو سبحانه يعلم سرنا وعلانيتنا؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾. وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾. وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. وقال تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً﴾. يقول أحد الصالحين: "فأين الحياء من الله؛ الحاضر الذي لا يغيب، الحي الذي لا يموت، الشهيد الذي لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، السميع الذي يسمع جميع الأصوات على اختلاف اللغات وتعدد الحاجات، البصير الذي يُبصر النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء؟".

ومما يبعث على الْحَيَاءِ مِن الله تَعَالَى أن يتذكر العبد تقَلُّبَه فِي نِعَمِ الله وآلائه، فَيَسْتَحِي أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَة خالقه المتفضل عليه بهذه النعم، وما أكثرها؛ قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾.

فكيف يكون الحياءُ من الله؟ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ: [اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ]. قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: [لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ؛ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ].
يقول علماؤنا الأجلاء: "الحياء من الله عز وجل، يكون بمقابلة نِعَمِه بالشُّكْر، وأوامره بالامتِثال، ونواهيه بالاجتناب. الحياء من الله ألا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك؛ فالمسلم يستحي من ربه أن يراه على معصيةٍ، وإذا فعل ذنباً، فإنه يخجل من الله ويستحي منه؛ فيعود سريعاً إلى ربه طالباً منه العفو والغفران".

وبعد الحياء من الله سبحانه وتعالى يكون الحياءُ من الملائكة؛ قال بعض الصحابة: "إن معكم مَن لا يفارقكم، فاستحيوا منهم، وأكرموهم". قال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَاماً كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾، قال ابن القيم: "أي استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام، وأكرموهم، وأجلُّوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه مَنْ هو مثلكم، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم".

ثم يكون الحياء من الناس؛ فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "لا خير فيمن لا يستحي من الناس". ويبين رسولنا الكريم ما ينبغي أن نستحي منه من الناس؛ فيقول: [ما كرهتَ أن يراه الناس فلا تفعله إذا خلوت].

ويكون الحياءُ من النفس من باب أولى؛ يقول أحد الصالحين: "من استحيا من الناس ولم يستحِ من نفسه، فنفسه أخس عنده من غيره".

أحبتي .. أُحَدِثُ نفسي فأقول لها كما قال أحد الصالحين: "إذا كنتِ تعتقدين أن الله لا يراكِ؛ فما أعظمَ كفرُكِ بالله. وإذا كنتِ تعتقدين أن الله يراكِ وأنتِ مصرةٌ على معصيته؛ فما أعظمَ جُرأتُكِ على الله، وما أقلَ حَياؤكِ منه". وأتذكر قول الشاعر:
وإذا خلوتَ بريبةٍ في ظُلمةٍ
والنفسُ داعيةٌ إلى الطغيانِ
فاستحي من نظرِ الإلهِ وقُلْ لها
إن الذي خلقَ الظلامَ يراني

ومِنَ الناس مَنْ يمتنع عن بعض الخير، وعن قول الحق، وعن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بزعم الحياء، وهذا فهمٌ خاطئٌ لمعنى الحياء؛ فخير البشر محمدٌ صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس حياءً، ولم يمنعه حياؤه عن قول الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بل والغضب لله إذا اُنتهكت محارمه. فلنتأسى أحبتي برسولنا الكريم، ولنَعُد إلى (خُلُق الحياء)، ونُرَبي أنفسنا وأبناءنا وأهلنا عليه. فما أجمل التخلق به، إنه السبيل إلى السعادة في الدارين: الدنيا والآخرة.

رزقنا الله وإياكم كمال الحياء، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/S1vtuj

الجمعة، 22 ديسمبر 2017

فضل الاستغفار

الجمعة 22 ديسمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١٤
(فضل الاستغفار)

جاء رجلٌ إلى الحسن البصري فقال له: إن السماء لم تُمطر، فقال له الحسن البصري: "اِستغفرْ الله". ثم جاء رجلٌ آخر فقال له: أشكو الفقر، فقال له الحسن البصري: "اِستغفرْ الله". ثم جاء ثالثٌ فقال له: امرأتي عاقرٌ لا تلد، فقال له الحسن البصري: "اِستغفرْ الله". ثم جاء رابعٌ فقال له أجدبت الأرض فلم تُنبت، فقال له الحسن البصري: "اِستغفرْ الله". فقال الحاضرون للحسن البصري: عجبنا لك؛ أوكلما جاءك شاكٍ قلت له "اِستغفرْ الله"؟ فقال لهم الحسن البصري: "ما قلتُ شيئاً من عندي" وقرأ قوله تعالى من سورة نوح: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾.
ومسنٌ حكيمٌ ينصح ابنه فيقول: "هل تعلم يا ولدي أن دخولك الجنة لا يكلفك شيئاً، أما ورودك النار، والعياذ بالله يكلفك كثيراً؟"، قال الولد: "وكيف ذلك يا أبي؟!"، قال الأب: "ورود النار مكلفٌ؛ فمن يلعب القمار يدفع، ومن يشرب خمراً يدفع، ومن يزني يدفع!"، ثم أردف قائلاً: "أما دخول الجنة فلا يكلف شيئاً؛ تصلي دون أن تدفع شيئاً، تصوم دون أن تدفع شيئاً، تستغفر ربك دون أن تدفع شيئاً، تغض بصرك دون أن تدفع شيئاً". ثم سأل المسن ابنه: "انظر ماذا تريد: تدفع وتَرِد النار، أم تدخل الجنة دون أن تدفع شيئاً؟ اختر لنفسك!".

أحبتي في الله .. هذا هو الاستغفار، وهذه بعض ثماره؛ فلا شك في أن (فضل الاستغفار) عظيمٌ. إنه عبادةٌ سهلةٌ ميسورةٌ، لا توجد لمسلمٍ حجةٌ لتركها، فلا هي تتطلب جهداً جسمانياً كالحج، ولا هي تكلف الفرد مالاً كالزكاة، ولا يُشترط لأدائها طهارةٌ واستقبال قبلةٍ ووقتٌ محددٌ معلومٌ كالصلاة، ولا هي كالصوم لا يقدر عليه المريض والذي على سفر!
الاستغفار من أسهل العبادات؛ ومع ذلك يغفل عنها الكثيرون؛ كم من ساعٍ في الأرض، راكباً أو ماشياً، لديه متسعٌ من وقتٍ لا يفعل فيه شيئاً؟ وكم من واقفٍ في طابور أو جالسٍ في انتظار طبيبٍ أو مسافر ٍيترقب ركوب القطار أو الطائرة؟ كم من هؤلاء وأمثالهم لديهم وقت فراغٍ يغفلون عن استثماره في أكثر العبادات يُسراً؛ عبادة الاستغفار رغم أننا جميعاً نعلم (فضل الاستغفار)؟

وَرَدَ ذِكر الاستغفار في مواضع كثيرة في القرآن الكريم:
منها ما هو أمرٌ من المولى عز وجل لرسوله الكريم بالاستغفار: ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾، ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾.
ومنها ما يُبين أن الملائكة يستغفرون لأهل الأرض: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾.
ومنها ما هو دعاءٌ من أنبياء الله عليهم السلام؛ كدعاء آدم: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، ودعاء نوح: ﴿إلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾، ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾، ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا﴾، ودعاء إبراهيم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾، ودعاء موسى: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، واستغفار داود: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾، ودعاء سليمان: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾.
ومنها دعاء المؤمنين الصالحين: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾، ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾، ﴿لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، ﴿فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾، ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا﴾، ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا﴾.
ومنها مَدْحُ الله سبحانه وتعالى المستغفرين: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾، ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾.
ومنها حضٌ للمؤمنين على الاستغفار: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾.
ومنها ما هو أمرٌ من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالاستغفار: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾، ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ﴾، ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾، ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾، ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
ومنها ما هو تقريرٌ من العزيز الحكيم بفضل الاستغفار: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.

وفي السُنة المشرفة، جاءت أحاديث كثيرةٌ للرسول عليه الصلاة والسلام لتوضح أهمية الاستغفار؛ منها:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي؛ فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ]، قَالَ: [وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ].
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: [يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ].
وعنه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: {  ..... يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ...}.
وفي صحيح مسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: [ اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ].
وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ] وقال: [مَا أَصْبَحْتُ غَدَاةً قَطُّ إِلا اسْتَغْفَرْتُ الله فِيهَا مِائَةَ مَرَّةٍ].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً].
وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}].
وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ تُسُرَّهُ صَحِيفَتهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: [... إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فإن التوبة من الذنب: الندم والاستغفار].

وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه عن (فضل الاستغفار): "ما ألهم الله سبحانه عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه". كما قال رضي الله عنه: "العجب ممن يهلك ومعه النجاة!" قيل: وما هي؟ قال: "الاستغفار".
وقيل للحسن البصري: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود، فقال: "وَدَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تَمِّلُوا من الاستغفار". ورُوي عنه أنه قال: "ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين" يعني: أن المؤمن كلما أذنب تاب.
قال قتادة: "إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار ".

وقال الشاعر:
أستغفر  الله   من   سري  ومن  علني
ومن  تقلب  قلبي  ومن  ابتسام  فمي
أستغفر  الله  من سمعي ومن  بصري
ومن  ضميري ومن فكري ومن كلمي
أستغفر  الله  من  جُرمي  ومن  زللي
ومن   كبائر  إثمـــي   ومـــــــن   لممي
أستغفر  الله   مما  قد   جنته  يــــــــدي
من   الخطايا   وما  قدمتُ   بالقـــــــدمِ

أحبتي .. علينا أن ندرك أن ذنوبنا مهما كثرت فإن الله تعالى يغفرها جميعاً، إذا استغفرنا ربنا وتُبنا إليه بصدق؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاتَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾.
ومما يشجعنا على المداومة على الاستغفار وعدم التغافل عنه أن ندرك (فضل الاستغفار) علينا، وهل من فضلٍ يفوق الأمان من عذاب النار؟ تأملوا معي أحبتي قول عليٍ رضي الله عنه "وقيل عمر رضي الله عنه، وقيل أبي موسى" : كان في الأرض أمانان من عذاب الله، فرُفع أحدهما فدونكم الآخر، فتمسكوا به. أما المرفوع، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الباقي منهما فالاستغفار قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾، ﴿وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، أو يمكن لعاقلٍ أن يُفَوِّت هذا الوعد الرباني الكريم بالأمان من العذاب؟

اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .. اغفر لنا مغفرةً من عندك، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/tnPufE

الجمعة، 15 ديسمبر 2017

ليس كل الرزق مالٌ

الجمعة 15 ديسمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١٣
(ليس كل الرزق مالٌ)

حكايةٌ يتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لستُ متأكداً من صحتها، لكني أنقلها لكم كما قرأتُها؛ ففيها موعظةٌ وفيها عِبرةٌ.
تحكي لنا الحكاية قصة موت "روتشيلد" ﺃﺣ ﺃﻛﺒ ﺃﻏﻨﻴﺎﺀ ﺑﺎﻧﻴﺎ، وأغنى أغنياء العالم، ﻛﺎﻥ ﻣ ﻛﺜﻭﺗﻪ ﻳُﻘ ﺍﻟﺤﻜﻣﺔ ﺍﻟﺒﺎﻧﻴﺔ! تخبرنا الحكاية أنه مات من الجوع!
فقد كان الرجل مولعاً بالمال يكاد يعبده، يجد لذته في النظر إليه. بنى قصراً كبيراً، وفي جهةٍ نائيةٍ منه بنى خزانةً هائلةً رتب فيها أمواله وسبائك ذهبه وفضته ومجوهراته من الياقوت والزمرد واللآلئ النادرة التي كان ضوؤها يخطف الأبصار، وكان يحلو له تناول طعام غدائه بجوار ثروته داخل تلك الخزانة ثم يعود إلى أهله ولا يكشف سره لأحد. ذهب ذات مرةٍ إلى الخزانة ولم يعد أبداً، وباءت كل محاولات البحث عنه بالفشل. ﻟ ﻳﻜﺘﺸﻔﺗﻪ ﺇﻻ ﺑﻌ عدة أيام عندما لاحظ أحد الخدم وجود مفاتيح الخزانة في بابها من الخارج فأسرع بفتحها فإذا به يجد جثة سيده "روتشيلد"، ووجد بجوارها ورقةً مكتوباً عليها بالدم "أغنى أغنياء العالم يموت جوعاً"!
أما ما حدث فهو أن الخزانة كانت تُغلق من جانبٍ واحدٍ؛ وحدث أن دخل الرجل ونسي مفاتيح خزانته ببابها الخارجي بعد أن أغلقها، وما إن فرغ من تناول طعامه داخل خزانته وأراد الخروج تذكر أن المفتاح بالخارج، ﺻﺎﺡ ﺑﺄﻋﻠﻰ ﺻﺗﻪ ﻳﺴﻤﻌﻪ ﺃﺣ، أخذ يصرخ وما من مُجيب. بقي داخل خزانته عدة أيام دون أن يشعر أحدٌ بغيابه؛ فقد كان من ﻋﺎﺩﺗﻪ ﺃﻥ ﻳﻐﻴ ﺍﻟﻘﺼ ﻛﺜﻴﺍً، ﻓﻠﻤﺎ ﻏﺎﺏ ﻋ ﺃﻫﻠﻪ ﺃﻧﻪ ﺳﺎﻓ. ظل ﻳﺼﻴﺢ ﻭﻳﺼرخ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺃﺩﺭﻛﻪ ﺍﻟﺠ ﻭﺍﻟﻌﻄﺶ فمات جوعاً وبجواره ثروته التي لا تقدر بمالٍ. لكن عندما أدرك أن مصيره الموت جرح إصبعه وكتب بدمه على ورقة عبارته المشهورة لتكون عظةً لمن يتعظ وعبرةً لمن يعتبر!
وهذا واحدٌ من ﺃﻛﺒ ﺃﻏﻨﻴﺎﺀ ﻟﺒﻨﺎﻥ، إن لم يكن أكثرهم غنىً على الإطلاق، "إيميل البستاني"، ﺃﻧﺸﺄ لنفسه ﻗﺒﺍً ﻓﻲ ﺃﺟﻤﻞ ﻣﻨﻘﺔٍﻠﺔٍ ﻋﻠﻰ ﺑﻴﻭﺕ، ﻭﻟﻪ ﺎﺋﺓٌ ﺧﺎﺻﺔٌ، ﻭﻗﻌ به ﺍﻟﺎﺋ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺤ. ﺩُﻓِﻌَ ﺍﻟﻤﻼﻳﻴ لاﻧﺘﺸﺎﻝ ﺟﺜﺘﻪ، لكنهم لم يعثرﻭﺍ إلا ﻋﻠﻰ حطام ﺍﻟﺎﺋة ﻓﻘ، ﻭﻟ ﻳﺘﻤﻜﻨ أبداً ﻣ ﺍﻟﻌﺜ ﻋﻠﻲ جثته ﻛﻲ ﺗُ ﻓﻲ ﻫ ﺍﻟﻘﺒ ﺍﻟذي بناه!
الأول بنى بماله خزانةً كبيرة، لكنه لم يستطع أن يشتري بماله لحظة حياةٍ واحدة!
والثاني بنى بماله قبراً عظيماً، لكن ماله لم يضمن له أن يُدفن فيه!

أحبتي في الله .. (ليس كل الرزق مالٌ) هذه حقيقة؛ رغم أن كثيراً من الناس يظن أن الرزق مقصورٌ على السعة في المال فقط، وهم واهمون في ذلك، غافلون عن أن الرزق ليس مجرد المال؛ بل إنه يتجاوز ذلك بكثير؛ فالرزق كما عرفه ابن منظور في لسان العرب هو "ما تقوم به حياة كلِّ كائنٍ حيٍّ؛ ماديّاً كان هذا الرزق أو معنويّاً". وهو ما يشير إلى المفهوم الواسع لمعنى الرزق في لغة العرب.
يلاحظ المراقبون أن ما يتبادر إلى ذهن كثيرٍ من الناس اليوم حين يسمعون عن توسعة الله تعالى على فلانٍ في الرزق هو المعنى المادي فحسب، حيث لا يَشُكُّون لحظةً في أن المقصود هو كثرة المال والأمور المادية المشابهة، ولا يخطر ببال أحدهم غير هذا المعنى، إلا من رحم ربي فآتاه علماً وفهماً وفقهاً في الدين؛ فالحقيقة أنه قد يكون المقصود بالرزق، إضافةً للمادي منه، أمورٌ أخرى معنويةٌ هي أهم من المال والمتاع المادي، فلا يرتبط الرزق بالمال فحسب بل يرتبط بكافة مناحي الحياة التي يحتاجها الإنسان؛ فالصِّحة رزقٌ، والأبناء رزقٌ، والصُّحبة الطيبة رزقٌ، والزوجة الصالحة والزوج الصالح رزقٌ، والوالدان رزقٌ، والإيمان رزقٌ، والعمل الصالح الذي يعمله العبد رزقٌ، إلى غير ذلك من الأمور المعنوية. فالفهم الخاطئ يكمن في قصر مفهوم الرزق على المعنى المادي المتمثل في المال أو غيره، بينما الحقيقة التي تشير إليها النصوص الشرعية من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم تؤكد شمول معنى الرزق في الإسلام الأمور المادية والمعنوية؛ فقد ذُكر لفظ الرزق في القرآن الكريم بمعنى الرزق المادي من مالٍ وطعامٍ وغيثٍ، وبمعنى الرزق المعنوي كالثواب كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ أي: يُثابون على ما قدموا من أعمالٍ وتضحياتٍ. كما فسر الشيخ السعدي مفهوم الرزق الوارد في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ برزق القلوب من العلم والإيمان وغير ذلك من الأمور المعنوية؛ فقال في تفسير الآية: الرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ومحبة الله وخشيته ورجائه، ونحو ذلك فلا يعطيها إلا من يحب.
وفي آياتٍ أخرى عن الرزق قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فبيَنّ أنّ من أسباب تحصيل الرزق والبركة فيه، سواءً للفرد أو الجماعة، الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، وأن سبب منع الرزق هو الكفر بالله والإشراك في عبادته، وارتكاب المعاصي. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ يوضح أنّ الاستغفار من أسباب الحصول على الرزق. وقوله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ يؤكد على أنّ الله سبحانه هو الذي يُقدّر الرزق لعباده، فيُعطيه من يشاء ويمنعه عمّن يشاء من باب الابتلاء والامتحان. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ يبين أنّ كلّ من يتّقي الله تعالى ويخافه فلا يعصيه، وكل من يتوكّل عليه فإنّه يجعل له من كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل كربٍ فرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب. وقوله سبحانه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ يوضح أن من أسباب الحصول على الرزق، سواءً في المال أو الأولاد، كثرة الاستغفار، كما يبين أن (ليس كل الرزق مالٌ).
وفي السُنة النبوية ما يشير إلى أن مفهوم الرزق في الإسلام واسعٌ ولا يقتصر على الأمور المادية فحسب؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعود قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: [إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيد]. جاء في شرح العلماء لكلمة "رِزْقه" في الحديث: الرزق هنا ما ينتفع به الإنسان؛ وهو نوعان: رزقٌ يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين. والرزق الذي يقوم به البدن هو الأكل والشرب واللباس والمسكن وما أشبه ذلك، والرزق الذي يقوم به الدين هو العلم، والإيمان، وكلاهما مرادٌ بهذا الحديث. وفي حديثٍ نبويٍ شريفٍ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام للصحابة رضي الله عنهم: [... وجئتم تسألوني عن الرِّزقِ يجلِبُهُ الله على العبدِ، الله يجلبُهُ عليه فاستنزِلوه بالصَّدقةِ، ...] وفي ذلك بيان أن الصدقات تستنزل الرزق. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً] وفي ذلك بيان أهمية التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب لتحصيل الرزق.

والرزق ليس كما يظنُّ الناس، يأتي للفرد بطريق العمل أو الاستثمار أو نحو ذلك، بل هو ما يَقسِمُ الله تَعالى لعباده من النعم المادية والمعنوية، أما السعي والعمل والاستثمار فهي أسبابٌ لابد من الأخذ بها لاستنزال الرزق، فقد حثَّ الله سبحانه عباده على السعي لطلب الرزق؛ فقال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾، وهذه دعوةٌ صريحةٌ للسَّعي إلى الرِّزق، فلا بُد للإنسان أن يسعى حتى يحصل على ما قدره الله له من رِزق.
ومن أهمّ ما يجب على المؤمن أن يعتقده أنّ الله هو الرزَّاق، وهو الذي خَلَقَ الخَلْقَ وتولَّى أرزاقهم؛ قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ﴾.
ومن أصول الإيمان أن يعلم الجميع أن رزقَ الله تعالى الذي قدَّره لا يَفُوتُ العبدَ، بل لا بد من تحصيله، وقد قال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما ترَكت شيئاً مما أمرَكم الله به إلا وقد أمرتُكم به، ولا شيئاً مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتُكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقَها]؛ فلو أن الناس آمَنوا بذلك، لَما كان هناك سرقةٌ ولا نهبٌ، ولا غصْبٌ ولا اختلاسٌ، ولا تحايُلٌ على قضية الرزق، فما قدَّر الله تعالى آتٍ لا محالة، وما لم يُقدِّر فلن يستطيعَه العبدُ، ولو بذل في سبيل ذلك الدنيا وما فيها.
وكثرة الرزق لا تدلُّ على محبة الله؛ فالله سبحانه وتعالى يرزق الجميع، ولكنه قد يزيد أهلَ الضلال والجهل في الرزق، ويوسِّع عليهم في الدنيا، وقد يَقتُر على أهل الإيمان، فلا يُظَن أن العطاء والزيادة دليلُ المحبَّة والاصطفاء؛ قال عز وجل: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وقال سبحانه: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. والله يعطي الدنيا مَن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب؛ قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾؛ فليس كلُّ مَن وسَّعتُ عليه أكرَمتُه، ولا كل من قَدَرتُ عليه أكون قد أهنتُه، بل هذا ابتلاءٌ؛ ليشكر العبد على السرَّاء، ويصبر على الضرَّاء، فمَن رُزِق الشكر والصبر، كان كل قضاءٍ يَقضيه الله خيراً له؛ كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم حين قال: [لا يقضي الله للمؤمن من قضاءٍ إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكَر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبَر، فكان خيراً له].
ومن أصول الإيمان التسليم بأن الله سبحانه وتعالى متصرِّفٌ في أرزاق العباد، يجعل من يشاء غنيّاً كثيرَ الرزق، ويَقدِر على آخرين، وله في ذلك حِكمٌ بالغةٌ؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾، قال ابن كثير: أي خبيرٌ بصيرٌ بمَن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر، فمن العباد من لا يَصلُحُ حالُه إلا بالغنى، فإن أصابه الفقرُ فسَد حالُه، ومنهم بضدِّ ذلك. وقال في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ ولو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحمَلهم ذلك على البغي والطُّغيان بعضهم على بعضٍ؛ أشراً وبطراً، ثم قال: ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾.
والرزق يُبارَك فيه بالطاعة، ويُمحَق بالمعصية، فتَذهب بركتُه وإن كان كثيراً ظاهراً؛ لأن ما عند الله تعالى لا يُنال إلا بطاعته؛ قال سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. وفي المسند: [إن الرجل لَيُحرمُ الرزق بالذنب يُصيبه]. وكما أن تقوى الله مَجلبةٌ للرزق، فترْك التقوى مَجلبةٌ للفقر، فما استُجْلِب رزقٌ بمثْل ترْك المعاصي، وضرب الله المثل لذلك في القرآن؛ قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.
إن من استعجَل الرزقَ بالحرام، مُنِع الحلالَ؛ رُوِي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه دخل مسجد الكوفة، فأعطى غلاماً دابَّته حتى يُصلي، فلما فرَغ من صلاته، أخرج ديناراً ليُعطيه الغلام، فوجده قد أخذ خِطام الدابَّة وانصرَف، فأرسل رجلاً؛ ليشتري له خِطاماً بدينار، فاشترى له الخِطام، ثم أتى به، فلمَّا رآه رضي الله عنه قال: "سبحان الله! إنه خِطام دابَّتي"، فقال الرجل: اشتريتُه من غلامٍ بدينار، فقال علي رضي الله عنه: "سبحان الله، أردتُ أن أُعطيه إياه حلالاً، فأبى إلا أن يأخذه حراماً!".

أحبتي .. كتب أحد العارفين يقول:
إن من أهم آثار قصر مفهوم الرزق على الأمور المادية، والمال بشكلٍ خاصٍ، هو غفلة كثيرٍ من المسلمين عما رزقهم الله تعالى من أرزاقٍ معنويةٍ ظنوا بسبب فهمهم الخاطئ أنها لا تدخل في مفهوم الرزق، فظنوا أن الله حرمهم الرزق ومنحه لآخرين، بينما الحقيقة أن ما مَنَّ الله به عليهم من رِزقٍ في الإيمان والعلم وصلاح الولد وراحة البال وغير ذلك مما هو باقٍ يفوق بأضعاف مضاعفةٍ رِزق غيرهم من مالٍ ومتاعٍ ماديٍ زائلٍ، وهذا يؤكد أن (ليس كل الرزق مالٌ). وبالمقابل فإن إدراك المسلمين للمفهوم الإسلامي الشامل للرزق له نتائجه وآثاره الإيجابية؛ حيث يسود الرضى عن الله تعالى، وتلهج الألسنة والأفئدة بشكره على نعمه الظاهرة والباطنة، ورزقه الواسع في جميع المجالات المادية والمعنوية.
قال الشاعر:
توكلت في رزقي على الله خالقي
وأيقنت بأن الله لا شك رازقي
وما يك من رزقٍ فليس يفوتني
ولو كان في قاع البحار العوامق
سيأتي به الله العظيم بفضله
ولو لم يكن مني اللسان بناطق
ففي أي شيءٍ تذهب النفس حسرةً
وقد قسَّم الرحمن رزق الخلائق
وقال:
عليك بتقوى الله إن كُنت غافلاً
يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري
فكيف تخاف والله رازقاً
فقد رزق الطير والحوت في البحر
ومن ظن أن الرزق يأتي بقوةٍ
ما أكل العصفور شيئاً مع النسر

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/SMiDGk