الجمعة، 15 ديسمبر 2017

ليس كل الرزق مالٌ

الجمعة 15 ديسمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١٣
(ليس كل الرزق مالٌ)

حكايةٌ يتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لستُ متأكداً من صحتها، لكني أنقلها لكم كما قرأتُها؛ ففيها موعظةٌ وفيها عِبرةٌ.
تحكي لنا الحكاية قصة موت "روتشيلد" ﺃﺣ ﺃﻛﺒ ﺃﻏﻨﻴﺎﺀ ﺑﺎﻧﻴﺎ، وأغنى أغنياء العالم، ﻛﺎﻥ ﻣ ﻛﺜﻭﺗﻪ ﻳُﻘ ﺍﻟﺤﻜﻣﺔ ﺍﻟﺒﺎﻧﻴﺔ! تخبرنا الحكاية أنه مات من الجوع!
فقد كان الرجل مولعاً بالمال يكاد يعبده، يجد لذته في النظر إليه. بنى قصراً كبيراً، وفي جهةٍ نائيةٍ منه بنى خزانةً هائلةً رتب فيها أمواله وسبائك ذهبه وفضته ومجوهراته من الياقوت والزمرد واللآلئ النادرة التي كان ضوؤها يخطف الأبصار، وكان يحلو له تناول طعام غدائه بجوار ثروته داخل تلك الخزانة ثم يعود إلى أهله ولا يكشف سره لأحد. ذهب ذات مرةٍ إلى الخزانة ولم يعد أبداً، وباءت كل محاولات البحث عنه بالفشل. ﻟ ﻳﻜﺘﺸﻔﺗﻪ ﺇﻻ ﺑﻌ عدة أيام عندما لاحظ أحد الخدم وجود مفاتيح الخزانة في بابها من الخارج فأسرع بفتحها فإذا به يجد جثة سيده "روتشيلد"، ووجد بجوارها ورقةً مكتوباً عليها بالدم "أغنى أغنياء العالم يموت جوعاً"!
أما ما حدث فهو أن الخزانة كانت تُغلق من جانبٍ واحدٍ؛ وحدث أن دخل الرجل ونسي مفاتيح خزانته ببابها الخارجي بعد أن أغلقها، وما إن فرغ من تناول طعامه داخل خزانته وأراد الخروج تذكر أن المفتاح بالخارج، ﺻﺎﺡ ﺑﺄﻋﻠﻰ ﺻﺗﻪ ﻳﺴﻤﻌﻪ ﺃﺣ، أخذ يصرخ وما من مُجيب. بقي داخل خزانته عدة أيام دون أن يشعر أحدٌ بغيابه؛ فقد كان من ﻋﺎﺩﺗﻪ ﺃﻥ ﻳﻐﻴ ﺍﻟﻘﺼ ﻛﺜﻴﺍً، ﻓﻠﻤﺎ ﻏﺎﺏ ﻋ ﺃﻫﻠﻪ ﺃﻧﻪ ﺳﺎﻓ. ظل ﻳﺼﻴﺢ ﻭﻳﺼرخ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺃﺩﺭﻛﻪ ﺍﻟﺠ ﻭﺍﻟﻌﻄﺶ فمات جوعاً وبجواره ثروته التي لا تقدر بمالٍ. لكن عندما أدرك أن مصيره الموت جرح إصبعه وكتب بدمه على ورقة عبارته المشهورة لتكون عظةً لمن يتعظ وعبرةً لمن يعتبر!
وهذا واحدٌ من ﺃﻛﺒ ﺃﻏﻨﻴﺎﺀ ﻟﺒﻨﺎﻥ، إن لم يكن أكثرهم غنىً على الإطلاق، "إيميل البستاني"، ﺃﻧﺸﺄ لنفسه ﻗﺒﺍً ﻓﻲ ﺃﺟﻤﻞ ﻣﻨﻘﺔٍﻠﺔٍ ﻋﻠﻰ ﺑﻴﻭﺕ، ﻭﻟﻪ ﺎﺋﺓٌ ﺧﺎﺻﺔٌ، ﻭﻗﻌ به ﺍﻟﺎﺋ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺤ. ﺩُﻓِﻌَ ﺍﻟﻤﻼﻳﻴ لاﻧﺘﺸﺎﻝ ﺟﺜﺘﻪ، لكنهم لم يعثرﻭﺍ إلا ﻋﻠﻰ حطام ﺍﻟﺎﺋة ﻓﻘ، ﻭﻟ ﻳﺘﻤﻜﻨ أبداً ﻣ ﺍﻟﻌﺜ ﻋﻠﻲ جثته ﻛﻲ ﺗُ ﻓﻲ ﻫ ﺍﻟﻘﺒ ﺍﻟذي بناه!
الأول بنى بماله خزانةً كبيرة، لكنه لم يستطع أن يشتري بماله لحظة حياةٍ واحدة!
والثاني بنى بماله قبراً عظيماً، لكن ماله لم يضمن له أن يُدفن فيه!

أحبتي في الله .. (ليس كل الرزق مالٌ) هذه حقيقة؛ رغم أن كثيراً من الناس يظن أن الرزق مقصورٌ على السعة في المال فقط، وهم واهمون في ذلك، غافلون عن أن الرزق ليس مجرد المال؛ بل إنه يتجاوز ذلك بكثير؛ فالرزق كما عرفه ابن منظور في لسان العرب هو "ما تقوم به حياة كلِّ كائنٍ حيٍّ؛ ماديّاً كان هذا الرزق أو معنويّاً". وهو ما يشير إلى المفهوم الواسع لمعنى الرزق في لغة العرب.
يلاحظ المراقبون أن ما يتبادر إلى ذهن كثيرٍ من الناس اليوم حين يسمعون عن توسعة الله تعالى على فلانٍ في الرزق هو المعنى المادي فحسب، حيث لا يَشُكُّون لحظةً في أن المقصود هو كثرة المال والأمور المادية المشابهة، ولا يخطر ببال أحدهم غير هذا المعنى، إلا من رحم ربي فآتاه علماً وفهماً وفقهاً في الدين؛ فالحقيقة أنه قد يكون المقصود بالرزق، إضافةً للمادي منه، أمورٌ أخرى معنويةٌ هي أهم من المال والمتاع المادي، فلا يرتبط الرزق بالمال فحسب بل يرتبط بكافة مناحي الحياة التي يحتاجها الإنسان؛ فالصِّحة رزقٌ، والأبناء رزقٌ، والصُّحبة الطيبة رزقٌ، والزوجة الصالحة والزوج الصالح رزقٌ، والوالدان رزقٌ، والإيمان رزقٌ، والعمل الصالح الذي يعمله العبد رزقٌ، إلى غير ذلك من الأمور المعنوية. فالفهم الخاطئ يكمن في قصر مفهوم الرزق على المعنى المادي المتمثل في المال أو غيره، بينما الحقيقة التي تشير إليها النصوص الشرعية من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم تؤكد شمول معنى الرزق في الإسلام الأمور المادية والمعنوية؛ فقد ذُكر لفظ الرزق في القرآن الكريم بمعنى الرزق المادي من مالٍ وطعامٍ وغيثٍ، وبمعنى الرزق المعنوي كالثواب كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ أي: يُثابون على ما قدموا من أعمالٍ وتضحياتٍ. كما فسر الشيخ السعدي مفهوم الرزق الوارد في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ برزق القلوب من العلم والإيمان وغير ذلك من الأمور المعنوية؛ فقال في تفسير الآية: الرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ومحبة الله وخشيته ورجائه، ونحو ذلك فلا يعطيها إلا من يحب.
وفي آياتٍ أخرى عن الرزق قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فبيَنّ أنّ من أسباب تحصيل الرزق والبركة فيه، سواءً للفرد أو الجماعة، الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، وأن سبب منع الرزق هو الكفر بالله والإشراك في عبادته، وارتكاب المعاصي. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ يوضح أنّ الاستغفار من أسباب الحصول على الرزق. وقوله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ يؤكد على أنّ الله سبحانه هو الذي يُقدّر الرزق لعباده، فيُعطيه من يشاء ويمنعه عمّن يشاء من باب الابتلاء والامتحان. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ يبين أنّ كلّ من يتّقي الله تعالى ويخافه فلا يعصيه، وكل من يتوكّل عليه فإنّه يجعل له من كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل كربٍ فرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب. وقوله سبحانه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ يوضح أن من أسباب الحصول على الرزق، سواءً في المال أو الأولاد، كثرة الاستغفار، كما يبين أن (ليس كل الرزق مالٌ).
وفي السُنة النبوية ما يشير إلى أن مفهوم الرزق في الإسلام واسعٌ ولا يقتصر على الأمور المادية فحسب؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعود قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: [إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيد]. جاء في شرح العلماء لكلمة "رِزْقه" في الحديث: الرزق هنا ما ينتفع به الإنسان؛ وهو نوعان: رزقٌ يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين. والرزق الذي يقوم به البدن هو الأكل والشرب واللباس والمسكن وما أشبه ذلك، والرزق الذي يقوم به الدين هو العلم، والإيمان، وكلاهما مرادٌ بهذا الحديث. وفي حديثٍ نبويٍ شريفٍ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام للصحابة رضي الله عنهم: [... وجئتم تسألوني عن الرِّزقِ يجلِبُهُ الله على العبدِ، الله يجلبُهُ عليه فاستنزِلوه بالصَّدقةِ، ...] وفي ذلك بيان أن الصدقات تستنزل الرزق. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً] وفي ذلك بيان أهمية التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب لتحصيل الرزق.

والرزق ليس كما يظنُّ الناس، يأتي للفرد بطريق العمل أو الاستثمار أو نحو ذلك، بل هو ما يَقسِمُ الله تَعالى لعباده من النعم المادية والمعنوية، أما السعي والعمل والاستثمار فهي أسبابٌ لابد من الأخذ بها لاستنزال الرزق، فقد حثَّ الله سبحانه عباده على السعي لطلب الرزق؛ فقال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾، وهذه دعوةٌ صريحةٌ للسَّعي إلى الرِّزق، فلا بُد للإنسان أن يسعى حتى يحصل على ما قدره الله له من رِزق.
ومن أهمّ ما يجب على المؤمن أن يعتقده أنّ الله هو الرزَّاق، وهو الذي خَلَقَ الخَلْقَ وتولَّى أرزاقهم؛ قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ﴾.
ومن أصول الإيمان أن يعلم الجميع أن رزقَ الله تعالى الذي قدَّره لا يَفُوتُ العبدَ، بل لا بد من تحصيله، وقد قال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما ترَكت شيئاً مما أمرَكم الله به إلا وقد أمرتُكم به، ولا شيئاً مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتُكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقَها]؛ فلو أن الناس آمَنوا بذلك، لَما كان هناك سرقةٌ ولا نهبٌ، ولا غصْبٌ ولا اختلاسٌ، ولا تحايُلٌ على قضية الرزق، فما قدَّر الله تعالى آتٍ لا محالة، وما لم يُقدِّر فلن يستطيعَه العبدُ، ولو بذل في سبيل ذلك الدنيا وما فيها.
وكثرة الرزق لا تدلُّ على محبة الله؛ فالله سبحانه وتعالى يرزق الجميع، ولكنه قد يزيد أهلَ الضلال والجهل في الرزق، ويوسِّع عليهم في الدنيا، وقد يَقتُر على أهل الإيمان، فلا يُظَن أن العطاء والزيادة دليلُ المحبَّة والاصطفاء؛ قال عز وجل: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وقال سبحانه: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. والله يعطي الدنيا مَن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب؛ قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾؛ فليس كلُّ مَن وسَّعتُ عليه أكرَمتُه، ولا كل من قَدَرتُ عليه أكون قد أهنتُه، بل هذا ابتلاءٌ؛ ليشكر العبد على السرَّاء، ويصبر على الضرَّاء، فمَن رُزِق الشكر والصبر، كان كل قضاءٍ يَقضيه الله خيراً له؛ كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم حين قال: [لا يقضي الله للمؤمن من قضاءٍ إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكَر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبَر، فكان خيراً له].
ومن أصول الإيمان التسليم بأن الله سبحانه وتعالى متصرِّفٌ في أرزاق العباد، يجعل من يشاء غنيّاً كثيرَ الرزق، ويَقدِر على آخرين، وله في ذلك حِكمٌ بالغةٌ؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾، قال ابن كثير: أي خبيرٌ بصيرٌ بمَن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر، فمن العباد من لا يَصلُحُ حالُه إلا بالغنى، فإن أصابه الفقرُ فسَد حالُه، ومنهم بضدِّ ذلك. وقال في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ ولو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحمَلهم ذلك على البغي والطُّغيان بعضهم على بعضٍ؛ أشراً وبطراً، ثم قال: ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾.
والرزق يُبارَك فيه بالطاعة، ويُمحَق بالمعصية، فتَذهب بركتُه وإن كان كثيراً ظاهراً؛ لأن ما عند الله تعالى لا يُنال إلا بطاعته؛ قال سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. وفي المسند: [إن الرجل لَيُحرمُ الرزق بالذنب يُصيبه]. وكما أن تقوى الله مَجلبةٌ للرزق، فترْك التقوى مَجلبةٌ للفقر، فما استُجْلِب رزقٌ بمثْل ترْك المعاصي، وضرب الله المثل لذلك في القرآن؛ قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.
إن من استعجَل الرزقَ بالحرام، مُنِع الحلالَ؛ رُوِي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه دخل مسجد الكوفة، فأعطى غلاماً دابَّته حتى يُصلي، فلما فرَغ من صلاته، أخرج ديناراً ليُعطيه الغلام، فوجده قد أخذ خِطام الدابَّة وانصرَف، فأرسل رجلاً؛ ليشتري له خِطاماً بدينار، فاشترى له الخِطام، ثم أتى به، فلمَّا رآه رضي الله عنه قال: "سبحان الله! إنه خِطام دابَّتي"، فقال الرجل: اشتريتُه من غلامٍ بدينار، فقال علي رضي الله عنه: "سبحان الله، أردتُ أن أُعطيه إياه حلالاً، فأبى إلا أن يأخذه حراماً!".

أحبتي .. كتب أحد العارفين يقول:
إن من أهم آثار قصر مفهوم الرزق على الأمور المادية، والمال بشكلٍ خاصٍ، هو غفلة كثيرٍ من المسلمين عما رزقهم الله تعالى من أرزاقٍ معنويةٍ ظنوا بسبب فهمهم الخاطئ أنها لا تدخل في مفهوم الرزق، فظنوا أن الله حرمهم الرزق ومنحه لآخرين، بينما الحقيقة أن ما مَنَّ الله به عليهم من رِزقٍ في الإيمان والعلم وصلاح الولد وراحة البال وغير ذلك مما هو باقٍ يفوق بأضعاف مضاعفةٍ رِزق غيرهم من مالٍ ومتاعٍ ماديٍ زائلٍ، وهذا يؤكد أن (ليس كل الرزق مالٌ). وبالمقابل فإن إدراك المسلمين للمفهوم الإسلامي الشامل للرزق له نتائجه وآثاره الإيجابية؛ حيث يسود الرضى عن الله تعالى، وتلهج الألسنة والأفئدة بشكره على نعمه الظاهرة والباطنة، ورزقه الواسع في جميع المجالات المادية والمعنوية.
قال الشاعر:
توكلت في رزقي على الله خالقي
وأيقنت بأن الله لا شك رازقي
وما يك من رزقٍ فليس يفوتني
ولو كان في قاع البحار العوامق
سيأتي به الله العظيم بفضله
ولو لم يكن مني اللسان بناطق
ففي أي شيءٍ تذهب النفس حسرةً
وقد قسَّم الرحمن رزق الخلائق
وقال:
عليك بتقوى الله إن كُنت غافلاً
يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري
فكيف تخاف والله رازقاً
فقد رزق الطير والحوت في البحر
ومن ظن أن الرزق يأتي بقوةٍ
ما أكل العصفور شيئاً مع النسر

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/SMiDGk

الجمعة، 8 ديسمبر 2017

موت الظالم عبرة لمن يعتبر

الجمعة 8 ديسمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١٢
(موت الظالم عبرة لمن يعتبر)

كان يا ما كان، في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، عاش أهل قريتنا يوماً مشهوداً؛ فقد مر بأزقة البلدة وحواريها منادٍ ينادي أن قد مات فلانٌ. وما أداركم مَنْ فلانٌ، ندعو له بالرحمة فهو الآن في ذمة الرحمن إن شاء عذَّبه لما اقترفت يداه من خطايا وآثام، وإن شاء غفر له وهو الغفور الرحيم المنان. فلانٌ هذا هو ابن قريةٍ مجاورةٍ لقريتنا، رجلٌ ظالمٌ جبارٌ تلوثت يداه بدماء كثيرٍ من أهل قريته، روَّع الناس، وهدد أمنهم، وأخرس ألسنتهم من كل كلامٍ  غير الإشادة به ومدحه وتقديس شخصه وشيطنة من يحاولون نصحه، وسلَّط شيخ الغفر والغفر جميعاً على كل من تُسول له نفسه أن ينتقده، وبدعم شيخ مسجد القرية له ظن أنه مبعوث العناية الإلهية؛ فهو يرى ما لا يراه الآخرون ولا رأي إلا رأيه، زيَّن له شيطانه أنه قد دانت له الدنيا واستسلم له العباد؛ فعاث في الأرض فساداً هو وزمرةٌ من المنتفعين التفوا حوله، استخف بقومه فأطاعوه وألغوا عقولهم فأيدوه وساندوه خوفاً أو طمعاً، وأقنعوا أنفسهم أنهم يحسنون صنعاً!
استغرب أهل قريتنا ما سمعوه من المنادي؛ كأن هذا الذي مات مخلدٌ لن يقترب الموت منه، فهم، وأهالي القرى المجاورة، يهابونه كما يهابون الموت نفسه، فهل لمن له كل هذه المهابة أن يستسلم للموت هكذا بسهولةٍ فجأةً؛ دون مقاومة وبلا مقدماتٍ وبغير إنذار؟!
انقسم أهل قريتنا الطيبون:
فمنهم من فرح بموته وابتهج ولم يُخفِ سعادته وسروره بموت هذا الرجل باعتبار (موت الظالم عبرة لمن يعتبر).
ومنهم من اعتبر هذا الفرح وذلك الابتهاج شماتةً في موت رجلٍ مسلمٍ، فيها تجاوز مهما كانت أفعاله، فهو الآن بين يدي ربه لا تجوز عليه سوى الرحمة، فضلاً عن أن تجاوزاته الرهيبة كانت، كما روَّج أنصاره، لمصلحة قريته!
ومنهم من فضَّل القول بأنه ابن قريةٍ غير قريتنا ليس لنا أن نفرح أو نحزن لموته؛ فهذا أمرٌ يخصهم ولا يخصنا، كما لو كان من قتلهم ذلك الظالم ومن تسبب في الأذى لهم ولأهاليهم لم يكونوا مسلمين!

أحبتي في الله .. لا أدري ما الذي دعاني بعد كل هذه السنين إلى تذكر ذلك اليوم المشهود، وكيف كان اختلاف الناس حول ما حدث فيه مثار حديث أهل قريتنا الطيبين لشهورٍ وربما لسنوات!
لم تتوفر لي الفرصة من قبل للتفكير فيما استوقفني في ذاك المشهد؛ وهو سؤالٌ كان يخطر على ذهني وأتجاهله أو اصرف النظر عنه: هل الفرح بموت مسلمٍ ظالمٍ شماتة؟ وهل نأثم إذا ابتهجنا لموت أمثال ذلك الرجل؟ ألا نفرح، ونحن نقرأ القرآن، بموت فرعون وهامان وجنودهما غرقاً، وبموت قارون خسفاً؟ ألا نعتبر ذلك عدالةً إلهيةً يستحقها كل ظالمٍ في أي عصرٍ وفي كل مكان؟ ألم يخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن ما ورد من قصص هؤلاء الظالمين في القرآن الكريم هو عبرةٌ علينا أن نعتبر بها وعظةٌ يتوجب علينا أن نتعظ بها؛ فيكون (موت الظالم عبرة لمن يعتبر)؟ بل كنت أذهب إلى أبعد من ذلك؛ فأسأل نفسي ألا يُعَد الفرح بموت فرعون وهامان وجنودهما وموت قارون عبادةً يتعبد بها المسلم؟ ألم يكن ذلك استجابةً لدعاء كليم الله موسى عليه السلام على فرعون وقومه: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِم وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِم فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ﴾؟ ألم يدعُ نوحٌ عليه السلام فقال: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾؟
هذه الأسئلة وغيرها ظلت تُلح عليّ حتى جاء اليوم الذي أحاول فيه البحث عن إجاباتٍ لها.
 يقول أهل العلم أن الشماتة هي أن يُسَرّ المرء بما يصيب عدوه من المصائب، قال الله تعالى على لسان هارون وهو يخاطب أخاه موسى عليهما السلام: ﴿فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ﴾.
والشماتة مجلبةٌ للشر ومفسدةٌ للدين، وهي سلوكٌ شائنٌ وخُلقٌ قبيحٌ يدل على نفسٍ غير سويةٍ وقلبٍ مريضٍ. وحقيقة الشماتة هي إظهار الفرح والسرور بما ينزل بالآخرين من مصائب وما يحل بهم من كوارث وما يلحقهم من أقدار الله عز وجل من مرضٍ  أو موتٍ. وقد نهانا النبى عن الشماتة بالغير؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لا تُظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ".

أما حصول هذا السرور لما يصيب العدو المحارب ومثله المنافقون والطاعنون في الدين والمعادون لعباد الله المسلمين فهو محمودٌ غير مذمومٍ، وهو من باب قوله تعالى: ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ فإن في قلوب المؤمنين من الحنق والغيظ عليهم ما يكون هلاكهم وحصول البلاء بهم شفاءً لما في قلوب المؤمنين من الغم والهم؛ إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين للّه ولرسوله وللمؤمنين، ساعين في إطفاء نور اللّه، ومعاداة عباد الله.
فالفرح بمهلك أعداء الإسلام وأهل البدع المغلظة وأهل المجاهرة بالفجور أمرٌ مشروعٌ، وهو من نِعَم الله على عباده التي تستوجب الشكر؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ وفي الآية بيان أن إهلاك أعداء الله تعالى من نِعَم الله على المسلمين التي تستوجب ذِكراً وشكراً.
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ﴾؛ لذا فقد اتفق السلف أهل الحديث على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم.
والذين يسخرون من الإسلام وشعائره وأهله يقعون في الكفر المخرج من الملة، باتفاق أهل السنَّة، وتسقط حرمتهم، ويجوز معاملتهم بالمثل بالسخرية منهم، ومن بدعهم وضلالهم؛ قال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾، والاستدلال بالآية الكريمة وهي قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ استدلالٌ صحيحٌ في هذا المجال؛ فهؤلاء من الظالمين الذين ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾.
وعن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَجَبَتْ]، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: [وَجَبَتْ]، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: [هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ]. ومع التسليم بحُرمة سب الأموات؛ فإن المنافق والكافر والمجاهر بالفسق أو بالبدعة، هؤلاء لا يحرُم ذكرُهم بالشر بعد موتهم للتحذير من طريقهم ومن الاقتداء بهم؛ فإن (موت الظالم عبرة لمن يعتبر).
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: [مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: [الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ]؛ فاستراحة العباد من الفاجر معناه اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوهٍ منها ظلمه لهم، ومنها ارتكابه للمنكرات.
وفي زاد المعاد: "سجد أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما جاءه خبر قتل مسيلمة الكذاب".
وقاتل عليّ بن أبى طالب رضي الله عنه الخوارجَ، وسجد لله شكراً لما رأى أباهم، وهو ذو الثُّدَيَّة، مقتولاً.
وبُشِّر الحسن بموت الحجاج فسجد. وعن ابن طاووس عن أبيه أنه أُخبر بموت الحجاج فقال: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
وروى ابن سعد في طبقاته؛ قال: أخبرنا عبدالحميد بن عبدالرحمن الحِماني، عن أبي حنيفة عن حماد قال: بَشَّرْتُ إبراهيم النخعي بموت الحجاج، فسجد، ورأيته يبكي من الفرح.
قيل للإمام أحمد بن حنبل: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد "الضال المبتدع"، عليه في ذلك إثمٌ؟ قال: ومن لا يفرح بهذا؟!
ولما جاء نعي وهب القرشي "وكان ضالاً مُضلاً" لعبد الرحمن بن مهدي قال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه.
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية عن أحد رؤوس أهل البدع: "أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودُفن بداره، ثم نُقل إلى مقابر قريش فلله الحمد والمنة، وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحاً شديداً، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله".
وعلى ذلك يقول العلماء إن الفرح بهلاك الظالمين جائزٌ، وعلى هذا جرى عملُ أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين، والأئمة التابعين لهم بإحسان، ولا عبرة بقول الجاهلين.

أحبتي .. الفرح بموت الظالم الفاجر لأجل ما يحصل من زوال مفسدته، مشروعٌ ولا يُعد من قبيل الشماتة، فإن (موت الظالم عبرة لمن يعتبر)؛ قال تعالى حين قَصَّ علينا في القرآن الكريم قصص الطغاة الظالمين ونهاياتهم المحتومة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾.
فلنكن أحبتي من أولي النهى والألباب ولنتعظ ولنعتبر بأمثال هؤلاء الظالمين وعاقبة ظلمهم، وإذا فرحنا بموت أحدهم فلا يكون فرحَ شماتةٍ أبداً، وإنما يكون فرحاً بنعمةٍ مَنَّ الله بها علينا لنا فيها عظةٌ واعتبار.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/7jxFqm

الجمعة، 1 ديسمبر 2017

لا أكذب؛ أنا مسلم

الجمعة 1 ديسمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١١
(لا أكذب؛ أنا مسلم)

مُعلقاً على خاطرة الجمعة الماضية قال لي: "من يقرأ ما كتبتَ يعتقد أن الغيبة هي أشد آفات اللسان"، قلت له مصححاً: "بل هي مِنْ أشد آفات اللسان"، سألني: "ما الفرق؟"، أجبته: "ألم تنتبه إلى {مِنْ}؟ إنها كما يقول اللغويون حرف تبعيض يُقصد به الدَّلالة على جزءٍ مِنْ كُلٍّ؛ والمعنى عزيزي أن الغيبة هي واحدةٌ من أشد آفات اللسان، لكن يوجد غيرها كذلك". سَكَتَ لحظة ثم استطرد: "لعلك تشير إلى ما سميته في خاطرتك بالبهتان"، قلت: "نعم فالبهتان هو من أشد آفات اللسان، وكذلك النميمة، والافتراء، وقول الزور ، والقذف، واللعن، والشتم والسب، والسخرية، والحلف بغير الله؛ فهذه كلها وغيرها من آفات اللسان وقانا الله منها"، سألني: "ألا تعتقد أن الكذب يمحق الحسنات أكثر من الغيبة؟"، قلت له: "كل آفة من تلك الآفات ماحقةٌ للحسنات؛ تذهب بالأجور وتلتهم كل ثواب، لكنها متفاوتةٌ في ذلك بحسب نية صاحبها، وبقدر ما تحدثه من ضرر. أما عن الكذب تحديداً ومقارنته بالغيبة، فدعني أوضح لك أن الكذب لا يتم إلا بإرادةٍ واعيةٍ من الفرد، وأنه يحدث غالباً بهدف تحقيق مصلحةٍ آنيةٍ، على عكس الغيبة فهي تجري على ألسنة الكثير منا وكأنها فعلٌ لا إرادي، كما أن المقصود منها في غالب الأحوال ليس النفع الشخصي بقدر ما يكون هدفها الانتقاص من الآخرين والحط من شأنهم"، وأنهيت كلامي معه بالقول: "أعدك بأن تكون خاطرة الجمعة القادمة عن الكذب"، شَكَرَ لي اهتمامي وانصرف مذكراً بموعد لقاءٍ قريبٍ يجمع بيننا.

أحبتي في الله .. ها أنا ذا أفي بوعدي له، وأكتب عن الكذب. الْكَذِبُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ فيه على وجه العلم والتعمد، وهو ضِدُّ الصِّدق، وكُلّ إخبارٍ بخِلاف الواقع يُعَدُّ كَذِبَاً.
والكذب من آفات اللسان؛ يقول أهل العلم: اللسان وما أدراك ما اللسان، هو نعمةٌ من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، هو ترجمان القلوب والأفكار؛ فهو آلة البيان وطريق الخطاب. له في الخير مجالٌ كبيرٌ وله في الشر باعٌ طويلٌ؛ فمن استعمله للحكمة والقول النافع وقضاء الحوائج وقيده بلجام الشرع فقد أقر بالنعمة ووضع الشيء في موضعه، ومن أطلق لسانه وأهمله سلك به الشيطان كل طريق؛ فلا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، بل إن جوارح الإنسان كلها مرتبطةٌ باللسان في الاستقامة والاعوجاج تُذَكِر صاحبها صباح كل يومٍ (لا أكذب؛ أنا مسلم)؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ـ أي تخضع له ـ فتقول: اتقِ الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا]. من هنا جاء التأكيد على حفظ اللسان؛ قال تعالى: ﴿ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد﴾. ولعظم هذا الأمر فقد ضرب السلف أروع الأمثلة في حفظهم لألسنتهم؛ فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: "هذا أوردني الموارد". وهذا عليٌ رضي الله عنه يقول: "أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب، وشر الندامة ندامة يوم القيامة". وكان ابن عباس يأخذ بلسانه ويقول: "ويحك قل خيراً تغنم، أو اسكت عن سوءٍ تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم". وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: "ما على الأرض شيءٌ أحوج إلى طول سجنٍ من لسانٍ".
هكذا إذن الكلام؛ هو أسيرك طالما لم تنطق به، فإذا خرج من فمك صرت أنت أسيره.
والكذب من أشد آفات اللسان، يودي بصاحبه إلى نار جهنم والعياذ بالله.
يقول المختصون أن الكذب يكون إما بتزييف الحقائق جزئياً أو كلياً، أو خلق رواياتٍ وأحداثاً جديدةً، بنية وقصد الخداع لتحقيق هدفٍ معينٍ قد يكون مادياً أو نفسياً أو اجتماعياً. وهو عكس الصدق. والكذب فعلٌ محرمٌ قد يقترن بعددٍ من الجرائم مثل الغش والنصب والسرقة.
لقد حَرَّمَ اللهُ سبحانه وتعالى الكذب واعتبره ذنباً عظيماً وكبيرةً من الكبائر، وذَمَّ الكاذبين في كتابه الكريم وتَوَعَّدَهم بالعذاب؛ قال عَزَّ وجَلَّ: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾، وقال جَلَّ جَلالُه: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب﴾، وقال سبحانه: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾.
كما أن الكذب كان أبغض الأخلاق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن ‏السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ‏"ما كان خلقٌ أبغض إلى النبي عليه الصلاة والسلام ‏من الكذب، ولقد كان الرجل يُحَدِّث عند النبي ‏بالكذبة فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبةً"‏‏.
 ويُعد الكذب من خصال المنافقين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أربعٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلةٌ منهن، كانت فيه خصلةٌ من نفاقٍ حتَّى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر]. وسُئل الرسول عليه الصلاة والسلام: أيكون المؤمن جباناً؟ قال: [نعم]. فقيل له: أيكون بخيلاً؟ فقال: [نعم]. فقيل له: أيكون المؤمن كذَّاباً؟ فقال: [لا].
ومن الكذب أنواعٌ أعظمها الكذب على الله سبحانه وتعالى؛ قال عز وجل: ﴿ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾، ومن ذلك التحليل والتحريم بحسب الأهواء، لا بحسب الشرع المنزل من عند الله؛ قال عز وجل: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾.
كما أن الكذب على النبي صلوات الله وسلامه عليه هو من أشد أنواع الكذب يُورِد صاحبه النار؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ]، وقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ].
ولا تهاون في الكذب، قليله ككثيره؛ فعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في بيتنا، فقالت: ها، تعال أُعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وما أردت أن تعطيه؟]، قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كُتبت عليك كذبة].
حتى في المزاح، لا يجوز أن يمزح الإنسان بالكذب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وَيْلٌ لِلّذِي يُحَدّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ألا هل عسى رجلٌ منكم أن يتكلم بالكلمة يضحك بها القوم، فيسقط بها أبعد من السماء، ألا هل عسى رجلٌ منكم أن يتكلم بالكلمة يضحك بها أصحابه، فيسخط الله بها عليه، لا يرضى عنه حتى يدخله النار]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويقابلهم بالابتسامة، لكنه لم يكن يقول إلا حقاً وإن كان مازحاً؛ أتت عجوزٌ إليه فقالت: يا رسول الله، ادعُ الله أن يدخلني الجنة. فقال: [يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز]، فولت تبكي، فقال عليه الصلاة والسلام: [أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوزٌ؛ إن الله تعالى يقول: ﴿إنا أنشأناهن إنشاء . فجعلناهن أبكارا . عُرباً أترابا﴾] أي أنها حين تدخل الجنة سيعيد الله إليها شبابها وجمالها.

ومع كل ما تقدم فإن الإسلام يبيح الكذب في حالاتٍ خاصةٍ؛ تقول أم كلثوم بنت عقبة: ما سمعت رسول الله ‏‏ يرخص في شيءٍ من الكذب إلا في ثلاثٍ فكان يقول: [لا أعده كاذباً الرجل يصلح بين الناس يقول القول ولا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها].

والصدق نقيض الكذب؛ من صدق مصيره إلى الجنة، ومن كذب فمسيره إلى النار؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا].
ومن الإيمان أن تُؤْثِر الصِّدق حتَّى لو كان يضرُّك، على الكذب حتَّى لو كان ينفعك.
كان أحد الصالحين إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له: "اطلبه في المسجد"، ولا تقولي له: "ليس ها هنا"؛ كيلا يكون كذباً، تطبيقاً عملياً لمبدأ (لا أكذب؛ أنا مسلم).

يقول أحد العلماء: من سَبَر أحوال الناس اليوم وجد بعضهم يرى الكذب من الذكاء والدهاء وحُسن الصنيع؛ ونتج عن هذا عدم الثقة بين الناس حتى أن بعضهم لا يثق بأقرب الناس إليه إذا كان الكذب ديدنه ومغالطة الأمور طريقته.
ومن عُرف بالكذب فإنه لا يكاد يُصَدَّق في شيءٍ أبداً وإن صَدَق، بل إن سَمِعَ الناس بكذبةٍ ربما خرجت من غيره فإنهم ينسبونها إليه؛ وفي ذلك يقول الشاعر:
حسب الكذوب من البلية
بعضُ ما يُحكى عليه
فمتى سمعت بكذبةٍ من غيره
نسبت إليه
والكاذب إذا تعود الكذب، ولم يجد من يكذب عليه كذب على نفسه؛ قال تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾.
ولا يكون عقاب الكاذب في الآخرة ويوم الحساب فقط، بل إنه يُعاقب في الدنيا أيضاً، ومن ذلك قصة بائع البرتقال؛ حيث يُحكى أنه في يومٍ من الأيام كان هناك بائع برتقالٍ يجلس على جانب الطريق يبيع للناس ما معه من ثمارٍ، فمرت به عجوزٌ سألته إن كانت هذه الثمار حامضةً أم لا، فظن البائع أن العجوز لا تأكل البرتقال الحامض فرد عليها: لا يا سيدتي أنه حلوٌ، كم يلزمك؟ أجابت العجوز: لا أريد؛ فأنا أرغب أن أشتري البرتقال الحامض لزوجة ابني الحامل فهي تشتهي أكل الحامض. هكذا خسر البائع هذه الصفقة بسبب كذبه، لكنه لم يتعلم الدرس. بعد يومين اقتربت منه امرأة حاملٌ تسأله: هل هذا البرتقال حامض؟ تذكر البائع فوراً كلام العجوز وظن أن السيدة الحامل تريد الحامض، فأجابها؛ نعم إنه حامض، كم تريدين منه؟ فأجابته السيدة؛ لا أريد منه شيئاً؛ فقد أرسلتني أم زوجي لأشتري لها برتقالاً حلواً، وأخبرتني أنه يوجد لديك فجئت أشتري منك. حينها أدرك البائع أن هذه هي زوجة ابن العجوز، وخسر أيضاً هذه البيعة بسبب كذبه!.
ولعل أبلغ عقوبة للكاذب في دنياه ليست أنّ الناس لا يصدقونه، بل أنهُ هو لا يستطيع أن يصدق الناس!.
والكاذب من الخاسرين؛ لن يفلح أبداً مهما استمر في كذبه؛ فهو يستطيع أنّ يخدع كل الناس بعض الوقت، ويستطيع أن يخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنه لا يستطيع أنّ يخدع كل الناس كل الوقت.

أحبتي .. الكذب خسارة؛ فليكن شعارنا (لا أكذب؛ أنا مسلم) فلا نكذب ولا نصاحب الكاذبين؛ قال حكيمٌ: اجتنب صحبة الكذاب فإنّه مثل السراب يلمع ولا ينفع، ولا تجعل نفسك مهينة وأنت ترى أنّه في قرارة نفسه استطاع بذكائه أن يوهمك ويدلس عليك. بل انفر منه ولا تدعه يلوث سمعك ويخطِّيء معلوماتك ويفسد عليك صفاءك.
وقال الشاعر:
الصِّدْقُ فِي أَقْوَالِنَا أَقْوَى لَنَا
وَالكِذْبُ فِي أَفْعَالِنَا أَفْعَى لَنَا

جعلني الله وإياكم ممن يُقال لهم في ذلك اليوم المشهود والموقف العظيم: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/qtQUcm

الجمعة، 24 نوفمبر 2017

ماحقة الحسنات

الجمعة 24 نوفمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١٠
(ماحقة الحسنات)

رُوي أن أحد الصالحين قيل له: "إن فلاناً اغتابك"، فبعث إليه رطباً على طبقٍ وقال: "بلغني أنك أهديت إليّ من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام".
وقال رجلٌ لأحد العلماء: "إن فلاناً يغتابني"، قال: "قد جلب لك الخير جلباً".
وقال أحد الصالحين: "إن العبد ليُعطَى كتابه يوم القيامة فيرى فيه حسناتٍ لم يكن قد عملها، فيقول يا ربِ: من أين لي هذا؟ فيقول: هذا بما اغتابك الناس وأنت لا تشعر".
وقال واحدٌ من العارفين: "لولا أني أكره أن يُعصى الله لتمنيت ألا يبقى في هذا العصر أحدٌ إلا وقع فيّ واغتابني؛ فأيُ شيءٍ أهنأ من حسنةٍ يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها".
ومصداقاً لهذا قال الشاعر:
يُشَارِكُكَ الْمُغْتَابُ فِي حَسَنَاتِهِ
وَيُعْطِيكَ أَجْرَيْ صَوْمِهِ وَصَلاَتِهِ
وَيَحْمِلُ وِزْراً عَنْكَ ضَنَّ بِحَمْلِهِ
عَنْ النَّجْبِ مِنْ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ
فَكَافِئْهُ بِالْحُسْنَى وَقُلْ رَبِّ جَازِهِ
بِخَيْرٍ وَكَفِّرْ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ
فَيَا أَيُّهَا الْمُغَتَابُ زِدْنِي فَإِنْ بَقِي
ثَوَابُ صَلاَةٍ أَوْ زَكَاةٍ فَهَاتِهِ
ورُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه دخل عليه رجلٌ فذكر له عن رجلٍ شيئاً، فقال له عمر: "إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾، وإن شئت عفونا عنك؟"، فقال: "العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً".
وعن الغيبة قال أنس بن مالك: "أدركت بهذه البلدة – المدينة – أقواماً لم يكن لهم عيوبٌ، فعابوا الناس؛ فصارت لهم عيوبٌ، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوبٌ فسكتوا عن عيوب الناس؛ فَنُسِيَت عيوبهم".

أحبتي في الله .. يقول العلماء عن الغيبة أنها عادَةٌ قبيحةٌ تَفَشَّتْ في مجتمعاتنا، ومرضٌ هدّامٌ يفتِك بصاحبه ويُفَرِّقُ بين الأهل ويُباعد بين الأحباب ويقطع الأرحام؛ لما يسبّبه من التشاحن والبغضاء. وصور أحد الأفاضل مجالس الناس اليوم بأنها "لا تطيب إلا بتناول وجبةٍ دسمةٍ من لحم أحد المسلمين، ينهش الجالسون في لحمه، كلٌ منهم يتناول قطعةً منه، فلا يشبعون ولا يملُّون من تَكرار تناولها كُلَّما اجتمعوا، حتَّى أصبحت رائحة الغيبة المُنْتِنَة تفوح من المجالس".

الغيبة لغةً: من الغَيْب "وهو كل ما غاب عنك"؛ وسُميت الغيبة بذلك لغياب المذكور حين يذكره الآخرون. قال ابن منظور: "الغيبة من الاغتياب، أن يُتكلم خلف إنسانٍ مستورٍ بسوءٍ". وقال النووي: "الغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره".
والغيبة في الاصطلاح: قد عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟]، قَالُوا: "اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"، قَالَ: [ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ] أي: ذكر المرء بما يكرهه سواءً كان ذلك في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خَلْقه أو خُلُقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواءً ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز. ومن صور الغيبة التي لا ينتبه لها الناس قولهم عند ذكر شخصٍ غائب: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة، ونحو ذلك. هذه من صور الغيبة التي ألفها الناس إلى درجة أنهم يتعجبون إذا قلت لهم أن هذه غيبة!

وحُكْم الغيبة في الشَّرْع الحنيف؛ أنَّها حرامٌ بالكتاب والسُنَّة وإجْماع عُلماء الأمَّة.
قال تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾، يأكل لحوم الناس: أي يطعن عليهم. وقال تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ﴾، أي لا تلمزوا الناس. والهماز واللماز من الرجال مذمومٌ ملعونٌ كما قال الله: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾. فالهمز بالفعل كالغمز بالعين احتقاراً أو ازدراءً، واللمز بالقول ويكون باللسان والكلام؛ وتدخل فيه الغيبة. وقال عز وجل: ﴿لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ . هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾، الهماز: المغتاب للناس.
وقال صلى الله عليه وسلم في خِطبة الوداع: [فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا]؛ فحرم النبي الغيبة، وقرن تحريمها إلى تحريم الدماء والأموال، ثم زاد في تأكيد التحريم بإعلامه بأن ذلك كحرمة البلد الحرام في الشهر الحرام.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا، الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية أنها قصيرة"، فقال: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ]، والمعنى أن الغيبة لو كانت مما يُمزج بالبحر لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته.
ولما رجم الصحابة ماعزاً رضي الله عنه سمع النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابِه يقول أحدهما لصاحبِه: "انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِى سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ". فسكتَ عنهما ثُمَّ سار ساعةً حتَّى مرَّ بجيفةِ حِمَارٍ شَائِلٍ برِجْلِه فقال: [أَيْنَ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ ؟]، فقالا: "نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ"، قال: [انْزِلاَ فَكُلاَ مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ]، فقالا: "يَا نَبِىَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟"، قال: [فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفاً أَشَدُّ مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ ..].
وبّين النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة والبهتان؛ ففي الحديث قيل: "أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟"، قال: [إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ]. وفي حديث عبد الله بن عمرو أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: "لا يَأْكُلُ حَتَّى يُطْعَمَ، وَلا يَرْحَلُ حَتَّى يُرْحَلَ لَهُ"، فقال لهم النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: [اغْتَبْتُمُوهُ]، فقالوا: "إِنَّمَا حَدَّثْنَا بِمَا فِيهِ"، قَالَ: [حَسْبُكَ إِذَا ذَكَرْتَ أَخَاكَ بِمَا فِيهِ].
قال الحسن البصري: "الغيبة ثلاثة أوجهٍ كلها في كتاب الله: الغيبة والإفك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه، وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه".
يقول أهل العلم أنه وكما تحرمُ الغيبة فإنه يحرُمُ سماعُها أيضاً؛ فمن حضر مجلساً يشتغِلُ أهلُه بالغيبة والوقوع في أعراض الناس وجب عليه الإنكار، فإن لم يستطع وجب عليه مفارقة مجلس الغيبة مُنْكِراً ذلك بقلبه ليسلم من الإثم.
ويقولون أن الغيبةَ، وإن كانت محرمةً، فإنَّها تُباح في أحوالٍ استثنائيةٍ للمصلحة: كما في حالة التظلُّم؛ فيجوز للمتظلم أنْ يقولَ: فَعَل بي فلانٌ كذا وكذا لمن يتظلم إليه. وكما في حالة الاستعانة في تغيير المنكر وردِّ العاصي إلى الصواب؛ فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلانٌ يعملُ كذا فازجرْه عنه. وكما في الاستفتاء؛ بمعنى أنْ يذهبَ المستفتي إلى المفتي، فيقول: لقد ظلمني فلانٌ بكذا أو كذا، فماذا أفعلْ لرد الظُّلم عن نفسي؟ والأسلم التعريض بأنْ يقولَ: ما قولك في رجلٍ ظلمه أخوه؟. وكذلك لتحذير المسلمين من الوقوع في أيِّ شرٍ؛ كأن يقول للنصح فلانٌ مبتدعٌ، وكذلك جرح المجروحين من رُّواة الحديث، وأيضاً المشاورة في مصاهرة إنسانٍ أو مُجاورته. كما تجوز غيبة الفاسق الذي شهر بفسقه؛ كالمجاهر بشرب الخمر. وأيضاً تجوز للتعريف؛ فإذا كان الشخص معروفاً بلقبٍ كالأعمش أو الأعرج ونحوها، جاز تعريفه بها، ويحرم ذكره بها تنقصاً.

وينبغي إذا عرضت الغيبة للشخص المسلم أن يتفكر في عيوب نفسه ويشتغل بإصلاحها، ويستحي أن يعيب وهو مَعيبٌ؛ فعلى الإنسان أن يتذكر قُبح هذه المعصية وما مَثَّل الله به أهلها بأنهم مثل آكلي لحوم البشر، ويتذكر أنه يُعرِّض حسناته إلى أن تُسلب منه بالوقوع في أعراض الآخرين، فإنه تُنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه، فالغيبة (ماحقة الحسنات)؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟]، قَالُوا: "الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ"، فَقَالَ: [إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ].

والمغتاب قد جنى جنايتين:
إحداهما في حق الله تعالى؛ إذ فعل ما نهاه عنه، فكفارة ذلك التوبة والندم.
والثانية في حق المخلوق، فإن كانت الغيبة قد بلغت الذي اغتيب؛ جاء إليه فاستحله وأظهر له الندم على فعله، وإن كانت الغيبة لم تبلغه جعل مكان استحلاله الاستغفار له والثناء عليه بما فيه من خيرٍ أمام من اغتابه أمامهم لإصلاح قلوبهم؛ فحقوق الله عز وجل مَبْنِيَّةٌ على المُسامَحَة، بينما حُقوق العِباد مَبْنِيَّةٌ على المُشاحَحَة.
أحبتي .. الغيبة تورث بين الناس الشحناء والبغضاء، وتنشُرُ أجواء الكراهية وعدم الثقة؛ فعندما تكون بين أُناسٍ يغتاب بعضهُم بعضاً فلا شكّ أنهم سيغتابونك وأنت لستَ حاضراً معهم، وهذا يقتل الثقة بالآخرين ويُطفىءُ الودّ ويجعل الكراهية في صدرك لمن حولك.
فمن الواجب على كل مسلمٍ أن يحفظَ لسانه عما حرَّمَ الله؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وفي حديثه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟]، قُلْتُ: "بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ"، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وقَالَ: [كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا]، فَقُلْتُ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟"، فَقَالَ: [ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ؛ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟]. وقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ سبعين خريفاً].
يقول الشاعر طلال الدرويش:
كم لفظةٍ تَهوي بِقائِلِها
في النّارِ أو تُبْقيهِ مَدْحُورا
أو لفظةٍ تَرْقَى بهِ أَبداً
في جنّةٍ فتراهُ مَحبُورا
فاللسان أحبتي كما قال الغزاليّ: "نعمةٌ عظيمةٌ، جِرمُه صغيرٌ وجُرمُه كبيرٌ"، أي أن حجمه صغيرٌ إلا أن كثيراً من الذنوب هي حصيلة ما ينطق به، فلَزِمَ مراقبته؛ لأن كثرة الكلام في المباح قد تجرّ إلى المكروه أو الحرام، فما بالنا بغير المباح من الكلام كالغيبة؟!
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
إذا رُمتَ أنْ تَحيا سَليماً مِن الأذى
وَدينُكَ مَوفورٌ وعِرْضُكَ صَيِنُّ
لِسانُكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئٍ
فَكُلُّكَ عَوراتٌ وللنّاسِ ألسُنُ
وعَيناكَ إنْ أبدَتْ إليكَ مَعايِباً
فَدَعها وَقُلْ يا عَينُ للنّاسِ أعيُـنُ
وعاشِرْ بِمَعروفٍ وسامِحْ مَن اعتَدى
ودَافع ولكن بالتي هِيَ أحسَنُ
ولنعلم أحبتي أن ضَبْطُ اللِّسان أحد أرْكان الاسْتِقامة؛ فلنستقم ونُقَوِّم ألسنتنا ونعفَّها عن الوقوع في الغيبة (ماحقة الحسنات) بكل وسيلةٍ ممكنةٍ، ومن ذلك ما وصفه الشاعر إذ قال:
وإذا هممتَ بالنطقِ في الباطلِ
فاجـعـلْ مكـانَـه تسـبيحـاً
فاغتنامُ السكوتِ أفضلُ من
خوضٍ وإن كنتَ في الحديثِ فصيحاً

وقانا الله شر الغيبة التي انتشرت بيننا انتشار النار في الهشيم؛ في بيوتنا ومجالسنا وأماكن عملنا، مع أهلنا وأصدقائنا ومعارفنا وزملائنا، وفي وسائل إعلامنا. صرنا للأسف نتعاطاها ببساطةٍ بغير تدبرٍ أو تفكرٍ في مدى إثمها وخطرها ومحقها حسناتنا دون أن نشعر. 
أحبتي، ليكن مبدأنا بشكلٍ عامٍ: "قل خيراً أو اصمت"، وبشكلٍ خاصٍ عند الحديث عن الآخرين في حالة غيابهم: "اذكر أخاك بخيرٍ، أو أمسك عليك لسانك".

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/C2mwm2