الجمعة، 24 نوفمبر 2017

ماحقة الحسنات

الجمعة 24 نوفمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١١٠
(ماحقة الحسنات)

رُوي أن أحد الصالحين قيل له: "إن فلاناً اغتابك"، فبعث إليه رطباً على طبقٍ وقال: "بلغني أنك أهديت إليّ من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام".
وقال رجلٌ لأحد العلماء: "إن فلاناً يغتابني"، قال: "قد جلب لك الخير جلباً".
وقال أحد الصالحين: "إن العبد ليُعطَى كتابه يوم القيامة فيرى فيه حسناتٍ لم يكن قد عملها، فيقول يا ربِ: من أين لي هذا؟ فيقول: هذا بما اغتابك الناس وأنت لا تشعر".
وقال واحدٌ من العارفين: "لولا أني أكره أن يُعصى الله لتمنيت ألا يبقى في هذا العصر أحدٌ إلا وقع فيّ واغتابني؛ فأيُ شيءٍ أهنأ من حسنةٍ يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها".
ومصداقاً لهذا قال الشاعر:
يُشَارِكُكَ الْمُغْتَابُ فِي حَسَنَاتِهِ
وَيُعْطِيكَ أَجْرَيْ صَوْمِهِ وَصَلاَتِهِ
وَيَحْمِلُ وِزْراً عَنْكَ ضَنَّ بِحَمْلِهِ
عَنْ النَّجْبِ مِنْ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ
فَكَافِئْهُ بِالْحُسْنَى وَقُلْ رَبِّ جَازِهِ
بِخَيْرٍ وَكَفِّرْ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ
فَيَا أَيُّهَا الْمُغَتَابُ زِدْنِي فَإِنْ بَقِي
ثَوَابُ صَلاَةٍ أَوْ زَكَاةٍ فَهَاتِهِ
ورُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه دخل عليه رجلٌ فذكر له عن رجلٍ شيئاً، فقال له عمر: "إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾، وإن شئت عفونا عنك؟"، فقال: "العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً".
وعن الغيبة قال أنس بن مالك: "أدركت بهذه البلدة – المدينة – أقواماً لم يكن لهم عيوبٌ، فعابوا الناس؛ فصارت لهم عيوبٌ، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوبٌ فسكتوا عن عيوب الناس؛ فَنُسِيَت عيوبهم".

أحبتي في الله .. يقول العلماء عن الغيبة أنها عادَةٌ قبيحةٌ تَفَشَّتْ في مجتمعاتنا، ومرضٌ هدّامٌ يفتِك بصاحبه ويُفَرِّقُ بين الأهل ويُباعد بين الأحباب ويقطع الأرحام؛ لما يسبّبه من التشاحن والبغضاء. وصور أحد الأفاضل مجالس الناس اليوم بأنها "لا تطيب إلا بتناول وجبةٍ دسمةٍ من لحم أحد المسلمين، ينهش الجالسون في لحمه، كلٌ منهم يتناول قطعةً منه، فلا يشبعون ولا يملُّون من تَكرار تناولها كُلَّما اجتمعوا، حتَّى أصبحت رائحة الغيبة المُنْتِنَة تفوح من المجالس".

الغيبة لغةً: من الغَيْب "وهو كل ما غاب عنك"؛ وسُميت الغيبة بذلك لغياب المذكور حين يذكره الآخرون. قال ابن منظور: "الغيبة من الاغتياب، أن يُتكلم خلف إنسانٍ مستورٍ بسوءٍ". وقال النووي: "الغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره".
والغيبة في الاصطلاح: قد عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟]، قَالُوا: "اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"، قَالَ: [ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ] أي: ذكر المرء بما يكرهه سواءً كان ذلك في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خَلْقه أو خُلُقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواءً ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز. ومن صور الغيبة التي لا ينتبه لها الناس قولهم عند ذكر شخصٍ غائب: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة، ونحو ذلك. هذه من صور الغيبة التي ألفها الناس إلى درجة أنهم يتعجبون إذا قلت لهم أن هذه غيبة!

وحُكْم الغيبة في الشَّرْع الحنيف؛ أنَّها حرامٌ بالكتاب والسُنَّة وإجْماع عُلماء الأمَّة.
قال تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾، يأكل لحوم الناس: أي يطعن عليهم. وقال تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ﴾، أي لا تلمزوا الناس. والهماز واللماز من الرجال مذمومٌ ملعونٌ كما قال الله: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾. فالهمز بالفعل كالغمز بالعين احتقاراً أو ازدراءً، واللمز بالقول ويكون باللسان والكلام؛ وتدخل فيه الغيبة. وقال عز وجل: ﴿لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ . هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾، الهماز: المغتاب للناس.
وقال صلى الله عليه وسلم في خِطبة الوداع: [فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا]؛ فحرم النبي الغيبة، وقرن تحريمها إلى تحريم الدماء والأموال، ثم زاد في تأكيد التحريم بإعلامه بأن ذلك كحرمة البلد الحرام في الشهر الحرام.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا، الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية أنها قصيرة"، فقال: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ]، والمعنى أن الغيبة لو كانت مما يُمزج بالبحر لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته.
ولما رجم الصحابة ماعزاً رضي الله عنه سمع النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابِه يقول أحدهما لصاحبِه: "انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِى سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ". فسكتَ عنهما ثُمَّ سار ساعةً حتَّى مرَّ بجيفةِ حِمَارٍ شَائِلٍ برِجْلِه فقال: [أَيْنَ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ ؟]، فقالا: "نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ"، قال: [انْزِلاَ فَكُلاَ مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ]، فقالا: "يَا نَبِىَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟"، قال: [فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفاً أَشَدُّ مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ ..].
وبّين النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة والبهتان؛ ففي الحديث قيل: "أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟"، قال: [إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ]. وفي حديث عبد الله بن عمرو أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: "لا يَأْكُلُ حَتَّى يُطْعَمَ، وَلا يَرْحَلُ حَتَّى يُرْحَلَ لَهُ"، فقال لهم النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: [اغْتَبْتُمُوهُ]، فقالوا: "إِنَّمَا حَدَّثْنَا بِمَا فِيهِ"، قَالَ: [حَسْبُكَ إِذَا ذَكَرْتَ أَخَاكَ بِمَا فِيهِ].
قال الحسن البصري: "الغيبة ثلاثة أوجهٍ كلها في كتاب الله: الغيبة والإفك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه، وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه".
يقول أهل العلم أنه وكما تحرمُ الغيبة فإنه يحرُمُ سماعُها أيضاً؛ فمن حضر مجلساً يشتغِلُ أهلُه بالغيبة والوقوع في أعراض الناس وجب عليه الإنكار، فإن لم يستطع وجب عليه مفارقة مجلس الغيبة مُنْكِراً ذلك بقلبه ليسلم من الإثم.
ويقولون أن الغيبةَ، وإن كانت محرمةً، فإنَّها تُباح في أحوالٍ استثنائيةٍ للمصلحة: كما في حالة التظلُّم؛ فيجوز للمتظلم أنْ يقولَ: فَعَل بي فلانٌ كذا وكذا لمن يتظلم إليه. وكما في حالة الاستعانة في تغيير المنكر وردِّ العاصي إلى الصواب؛ فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلانٌ يعملُ كذا فازجرْه عنه. وكما في الاستفتاء؛ بمعنى أنْ يذهبَ المستفتي إلى المفتي، فيقول: لقد ظلمني فلانٌ بكذا أو كذا، فماذا أفعلْ لرد الظُّلم عن نفسي؟ والأسلم التعريض بأنْ يقولَ: ما قولك في رجلٍ ظلمه أخوه؟. وكذلك لتحذير المسلمين من الوقوع في أيِّ شرٍ؛ كأن يقول للنصح فلانٌ مبتدعٌ، وكذلك جرح المجروحين من رُّواة الحديث، وأيضاً المشاورة في مصاهرة إنسانٍ أو مُجاورته. كما تجوز غيبة الفاسق الذي شهر بفسقه؛ كالمجاهر بشرب الخمر. وأيضاً تجوز للتعريف؛ فإذا كان الشخص معروفاً بلقبٍ كالأعمش أو الأعرج ونحوها، جاز تعريفه بها، ويحرم ذكره بها تنقصاً.

وينبغي إذا عرضت الغيبة للشخص المسلم أن يتفكر في عيوب نفسه ويشتغل بإصلاحها، ويستحي أن يعيب وهو مَعيبٌ؛ فعلى الإنسان أن يتذكر قُبح هذه المعصية وما مَثَّل الله به أهلها بأنهم مثل آكلي لحوم البشر، ويتذكر أنه يُعرِّض حسناته إلى أن تُسلب منه بالوقوع في أعراض الآخرين، فإنه تُنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه، فالغيبة (ماحقة الحسنات)؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟]، قَالُوا: "الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ"، فَقَالَ: [إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ].

والمغتاب قد جنى جنايتين:
إحداهما في حق الله تعالى؛ إذ فعل ما نهاه عنه، فكفارة ذلك التوبة والندم.
والثانية في حق المخلوق، فإن كانت الغيبة قد بلغت الذي اغتيب؛ جاء إليه فاستحله وأظهر له الندم على فعله، وإن كانت الغيبة لم تبلغه جعل مكان استحلاله الاستغفار له والثناء عليه بما فيه من خيرٍ أمام من اغتابه أمامهم لإصلاح قلوبهم؛ فحقوق الله عز وجل مَبْنِيَّةٌ على المُسامَحَة، بينما حُقوق العِباد مَبْنِيَّةٌ على المُشاحَحَة.
أحبتي .. الغيبة تورث بين الناس الشحناء والبغضاء، وتنشُرُ أجواء الكراهية وعدم الثقة؛ فعندما تكون بين أُناسٍ يغتاب بعضهُم بعضاً فلا شكّ أنهم سيغتابونك وأنت لستَ حاضراً معهم، وهذا يقتل الثقة بالآخرين ويُطفىءُ الودّ ويجعل الكراهية في صدرك لمن حولك.
فمن الواجب على كل مسلمٍ أن يحفظَ لسانه عما حرَّمَ الله؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وفي حديثه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟]، قُلْتُ: "بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ"، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وقَالَ: [كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا]، فَقُلْتُ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟"، فَقَالَ: [ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ؛ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟]. وقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ سبعين خريفاً].
يقول الشاعر طلال الدرويش:
كم لفظةٍ تَهوي بِقائِلِها
في النّارِ أو تُبْقيهِ مَدْحُورا
أو لفظةٍ تَرْقَى بهِ أَبداً
في جنّةٍ فتراهُ مَحبُورا
فاللسان أحبتي كما قال الغزاليّ: "نعمةٌ عظيمةٌ، جِرمُه صغيرٌ وجُرمُه كبيرٌ"، أي أن حجمه صغيرٌ إلا أن كثيراً من الذنوب هي حصيلة ما ينطق به، فلَزِمَ مراقبته؛ لأن كثرة الكلام في المباح قد تجرّ إلى المكروه أو الحرام، فما بالنا بغير المباح من الكلام كالغيبة؟!
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
إذا رُمتَ أنْ تَحيا سَليماً مِن الأذى
وَدينُكَ مَوفورٌ وعِرْضُكَ صَيِنُّ
لِسانُكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئٍ
فَكُلُّكَ عَوراتٌ وللنّاسِ ألسُنُ
وعَيناكَ إنْ أبدَتْ إليكَ مَعايِباً
فَدَعها وَقُلْ يا عَينُ للنّاسِ أعيُـنُ
وعاشِرْ بِمَعروفٍ وسامِحْ مَن اعتَدى
ودَافع ولكن بالتي هِيَ أحسَنُ
ولنعلم أحبتي أن ضَبْطُ اللِّسان أحد أرْكان الاسْتِقامة؛ فلنستقم ونُقَوِّم ألسنتنا ونعفَّها عن الوقوع في الغيبة (ماحقة الحسنات) بكل وسيلةٍ ممكنةٍ، ومن ذلك ما وصفه الشاعر إذ قال:
وإذا هممتَ بالنطقِ في الباطلِ
فاجـعـلْ مكـانَـه تسـبيحـاً
فاغتنامُ السكوتِ أفضلُ من
خوضٍ وإن كنتَ في الحديثِ فصيحاً

وقانا الله شر الغيبة التي انتشرت بيننا انتشار النار في الهشيم؛ في بيوتنا ومجالسنا وأماكن عملنا، مع أهلنا وأصدقائنا ومعارفنا وزملائنا، وفي وسائل إعلامنا. صرنا للأسف نتعاطاها ببساطةٍ بغير تدبرٍ أو تفكرٍ في مدى إثمها وخطرها ومحقها حسناتنا دون أن نشعر. 
أحبتي، ليكن مبدأنا بشكلٍ عامٍ: "قل خيراً أو اصمت"، وبشكلٍ خاصٍ عند الحديث عن الآخرين في حالة غيابهم: "اذكر أخاك بخيرٍ، أو أمسك عليك لسانك".

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/C2mwm2

الجمعة، 17 نوفمبر 2017

إكمال الدين وإتمام النعمة

الجمعة 17 نوفمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٩
(إكمال الدين وإتمام النعمة)

في صلاة الفجر قرأ إمامُنا في أول ركعة الآيات الأولى من سورة المائدة، وما إن وصل إلى الآية الكريمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ حتى وجدتُ نفسي وقد انشغلت بهذه الآية وبمعانيها وبكل ما هو مرتبطٌ بها؛ فإذا بالمصلين يرددون خلف الإمام، وأنا أردد معهم، "الله أكبر" ثم ركعنا كلنا. سبحان الله، هل ذهب تفكيري في هذه الآية بعيداً حتى أني لم أنتبه إلى ما بعدها من آيات؟
للأسف يتكرر حدوث هذا الأمر معي، خاصةً مع آياتٍ بعينها أجد نفسي مشدوداً لها. أعترف أن هذا لا ينبغي أن يحدث، وأنه نقصٌ في الصلاة لا يجوز أن يتكرر، لكنه ضعف النفس حين تستمع إلى مثل هذه الآيات من التنزيل الإلهي المعجز فتسرح معها وتتذكر سبب نزولها وتفسيرها وما تتضمنه من معانٍ ساميةٍ وقيمٍ راقيةٍ.
حين انتهينا من الصلاة، كان حديثنا عن هذه الآية فذكر صديقٌ عزيزٌ أنه وصلته رسالة عن طريق برنامج "واتس آب" أخرج هاتفه وقرأها لنا، تقول الرسالة:
"ما الفرق بين كلمتي: أكملت وأتممت في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾؟
أكمل الأمْـرَ: أي أنهاهُ على مـراحل مُتقطّعةٍ بينها فواصلُ زمنيّةٌ؛ فالذي عندهُ أيّام إفطارٍ في رمضان وعليه صيامها فيما بعد، لديه فرصة أحد عشر شـهراً لقضائها، ولو على فتراتٍ متقطّعةٍ، لذلك قال تعالى: ﴿وَلْتُكْـمِلُوُا اَلْـعِدَّةَ﴾. أما أتـمّ الأمـر: أي لا ينقطع العمل حتّى ينتهي؛ فلا يجوز مثلاً الإفطار عند النهار في يوم الصيام، ولو لفترةٍ قصيرةٍ جدّاً، لذلك يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّـوُا اَلْصِـيَامَ إِلَىَ اَلْلَيْلِ﴾ ولم يقل "أكملوا". وكذلك لا يجوز للإنسان أن يتحلّل مِنَ الإحرام في الحجّ حتى ينتهي من شعائره؛ يقول الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوُا اَلْحَجَّ وَاَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ ولم يقل "أكملوا". وفي الآية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ لماذا استخدم مع الدين لفظ "أكملت" بينما مع النعمة استخدم لفظ "أتممت"؟ لأنَّ الدين نزل على فتراتٍ متقطّعةٍ، على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، أما نعمة الله فلم تنقطع أبداً ولا لثانيةٍ واحدةٍ عن هذه الأمّة؛ فقال سبحانه: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾.

أحبتي في الله .. يُروى أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرءون آيةً في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: أي آيةٍ هي؟ قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ فقال عمر:  إني لأعلم حين أُنزلت وأين أُنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أُنزلت يوم عرفة وأنا والله بعرفة.
قال ابن عباس: فإنها نزلت في عيدين اتفقا في يومٍ واحدٍ: يومُ جمعةٍ وافق يومَ عرفة.
نزلت بعد عصر ذلك اليوم في حجة الوداع سنة عشرٍ هجرية، والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعرفات على ناقته العضباء، فلما نزلت بكى أبو بكر الصديق عند سماعها فقالوا له: ما يبكيك يا أبا بكر؟ فقال: "هذا نعي رسول الله". ولما سمعها عمر رضي الله عنه بكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [ما يبكيك؟] قال: "أبكاني أنَّا كنا في زيادةٍ من ديننا، فأما إذا أُكمل فإنه لم يكمل شيءٌ إلا نقص". فقال صلى الله عليه وسلم: [صدقت].
وكأن الشاعر الذي نظم قصيدة "رثاء الأندلس" قد استلهم مقولة عمر حين صاغ أبياته فقال:
لكلِ شيءٍ إذا ما تم نُقصانُ
فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هي الأيامُ كما شاهدتُها دُولٌ
مَنْ سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
وهذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ
ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ
أين الملوكُ ذَوو التيجانِ مِن يَمَنٍ
وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ؟
وأين ما شادَهُ شدَّادُ في إرمٍ
وأين ما ساسَهُ في الفرسِ ساسانُ؟
وأين ما حازهُ قارونُ من ذهبٍ
وأين عادٌ وشدادٌ وقَحطانُ؟
أتى على الكُلِ أمرٌ لا مَردَ له
حتى قَضَوْا فكأن القومَ ما كانوا
وصار ما كان من مُلْكٍ ومن مَلِكٍ
كما حكى عن خيالِ الطّيفِ وَسْنانُ

يقول أهل العلم في الآية الكريمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ أن معناها: اليوم أكملت لكم نصر دينكم؛ بعزه وظهوره، وأتممت نعمتي لكم بزوال الخوف من العدو والظهور عليه.. أو أن معناها: أنه قد رُفع النسخ عن القرآن. أو أن معناها: أن الله سبحانه وتعالى قد أَمَّنَ هذه الشريعة من أن تُنسخ بأخرى بعدها كما نُسخ بها ما تقدمها من شرائع.
قال الطبري في تفسير الآية: "إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينَهم، بإفرادهم بالبلد الحرام وإجلائه عنه المشركين، حتى حجَّه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون".
وعن (إكمال الدين وإتمام النعمة) قال ابنُ كثير: "هذه أكبرُ نِعَم الله تعالى على هذه الأمَّة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينَهم، فلا يحتاجون إلى دينٍ غيره، ولا إلى نبيٍّ غير نبيِّهم صلَوات الله وسلامُه عليه ولهذا جعله الله تعالى خاتمَ الأنبياء، وبعَثَه إلى الإنسِ والجنِّ، فلا حلالَ إلاَّ ما أحلَّه، ولا حرامَ إلاَّ ما حرَّمه، ولا دينَ إلاَّ ما شرعَه، وكلُّ شيءٍ أَخبرَ به فهو حقٌ وصدقٌ لا كذبَ فيه ولا خُلف، كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾؛ أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنَّواهي، فلمَّا أكمل لهم الدّين تمَّت عليهم النِّعْمة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا﴾؛ أي: فارضوه أنتُم لأنفُسِكم، فإنَّه الدّين الَّذي أحبَّه الله ورضِيَه، وبعث به أفضل الرُّسُل الكرام، وأنزل به أشرفَ كتُبِه".
وقال ابنِ عبَّاس: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ وهو الإسْلام، أخبر الله نبيَّه صلَّى الله عليْه وسلَّم والمؤمِنين أنَّه قد أكمل لهم الإيمان فلا يَحتاجون إلى زيادةٍ أبداً، وقد أتمَّه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضِيَه فلا يَسخطه أبداً".
والراجح أن المراد من كمال الدّين في الآية: كمال أصوله، وقواعد الأخلاق، وكليّات الشرع، أما المسائل الجزئية فهي متجددةٌ لا نهاية لها.
قال الشاطبي: "المراد: كلياتها، فلم يبقَ للدّين قاعدةٌ يُحتاج إليها في الضروريات، والحاجيات، أو التكميليات، إلا وقد بُينت غاية البيان. يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولاً إلى نظر المجتهد؛ فإن قاعدة الاجتهاد أيضاً ثابتةٌ في الكتاب والسنّة، فلا بد من إعمالها، ولا يسع الناس تركها، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه".
وقال ابن القيم عن (إكمال الدين وإتمام النعمة): "بيَّن الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه، وكلام رسوله: جميع ما أمره به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله، وجميع ما حرمه، وجميع ما عفا عنه، وبهذا يكون دينُه كاملاً".

يقول العلماء أن من فوائد هذه الآية الكريمة:
أوَّلاً: أنَّ الدين قد كَمُل فلا يحتاج إلى زيادةٍ أبداً، فما يفعله أهل الضَّلالة من البدَع إنَّما هو ابتِداعٌ في دين الله، واتِّهامٌ لهذا الدِّين بالنَّقص؛ قال صلَّى الله عليْه وسلَّم: [مَن أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ].
 ثانياً: أنَّ الله أتمَّ على المؤمنين نِعَمَه الظَّاهرة والباطنة، ومن أعظم هذه النِّعَم بَعْثُ النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.
 ثالثاً: أنَّ الله تعالى رضِي للمؤمنين هذا الدين العظيم، دين الإسلام، بل إنَّ الله لا يقبل من النَّاس غيره؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. فوجب على المؤمنين أن يَرْضَوا بهذا الدّين الَّذي رضِيَه الله لهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَن قال حين يسمع المؤذِّن: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه، رضِيتُ باللَّه ربّاً، وبمحمَّدٍ رسولاً، وبالإسلام ديناً، غُفِر له ذنبُه].
 رابعاً: أنَّ أحكام هذا الدّين وشرائعَه قد كملتْ، فلا تتغيَّر ولا تتبدَّل إلى يوم القيامة، فعلى سبيل المثال ذكَرَ الله في كتابه اليهودَ والنَّصارى وغيرهم من الكفَّار، ونهانا عن موالاتهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾، فلا يأتِي أحدٌ فيقول: إنَّ الزَّمن قد تغيَّر، وإنَّ اليهود والنَّصارى أصدقاء، وبيْننا وبيْنهم مصالح فلا بُدَّ من صداقتهم، وإنَّ هؤلاء ليسوا كأسْلافهم من قبل، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾.

أحبتي .. الفرق بين الإكمال والإتمام هو الفرق بين الفرض والفضل، أدعو نفسي وإياكم إلى إكمال كل نقصٍ في عباداتنا وشعائرنا، ثم أن نُتبع ذلك بإتمام كل ما اكتمل لنكون من أهل الفضل وليس فقط من أهل الفرض، وكما قال أحد الفضلاء:
فأهل الفرض من أصحاب اليمين، أما أهل الفضل فمن المقربين.
أهل الفرض كثيرٌ من المسلمين، أما أهل الفضل فقليلٌ من المحسنين.
أهل الفرض يكتفون في الصوم بصيام شهر رمضان، أما أهل الفضل فيصومون الست من شوال وأيام البيض والإثنين والخميس وتسع ذي الحجة، ويوم عرفة ويوم عاشوراء.
أهل الفرض يصلون الفرائض دون نقصان، أما أهل الفضل فهم الذين ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾.
أهل الفرض ﴿إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون﴾، أما أهل الفضل فإذا ما غضبوا هم يحسنون.
أهل الفرض يقابلون الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة، أما أهل الفضل فيقابلون الحسنة بأحسن منها ويقابلون السيئة بالحسنة..
أهل الفرض يخرجون زكاة المال، أما أهل الفضل فهم الذين ﴿يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾.
أهل الفرض هم الذين "يحب أحدهم لأخيه ما يحبه لنفسه"، أما أهل الفضل فهم الذين ﴿يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.
أهل الفرض قد يتصدقون ويمدون يد العون للمحتاجين، أما أهل الفضل فهم الذين ﴿يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ﴾ وتُقضى على أيديهم حوائج الناس.
أهل الفرض يطمعون في قوله تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، أما أهل الفضل فيتنافسون على قوله تعالى: ﴿فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا﴾.
جعلنا الله وإياكم من أهل الفضل ومن أصحاب الدرجات العلا برحمته وإحسانه، وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأنعم علينا بإكمالها وإتمامها على الوجه الذي يرضيه عنا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/XGMvgC

الجمعة، 10 نوفمبر 2017

يُمهل ولا يُهمل/1

الجمعة 10 نوفمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٨
(يُمهل ولا يُهمل)

هزتني قصةٌ تتناقلها المواقع على شبكة الإنترنت عن رجلٍ كان يعمل جزاراً في أحد المناطق، وكان كل يومٍ يقوم بذبح المواشي ليبيعها للناس، وفي أحد الأيام بينما كان يسير إلى عمله وجد امرأةً في الشارع مطعونةً بسكينٍ في بطنها، فهُرع إليها على الفور يحاول أن يساعدها فأخرج السكين منها حتى تأتي سيارة الإسعاف وتنقلها للمشفى، لكن قبل أن تأتي سيارة الإسعاف تجمع الناس ورأوا السكين في يده ملوثةً بالدماء فاتهموه بقتل هذه المرأة وأبلغوا الشرطة، أخذ الرجل يُقسم لهم أنه ليس الفاعل لكنهم لم يصدقوه. أخذت النيابة تحقق معه واستمعت إلى شهود العيان كما تلقوا من الطب الشرعي تقريراً يفيد بوجود بصماته على سكينٍ وأن هذه السكين هي أداة الجريمة؛ فحُكم عليه بالإعدام. ويوم تنفيذ الحكم قال الرجل: "أريدكم أن تسمعوني فهذا كلامي الأخير قبل أن تعدموني"، وبدأ الرجل يحكى قصته: قال إنه كان يمتلك قارباً يعمل عليه في البحر قبل أن يصبح جزاراً، وفي يومٍ ركبت معه امرأةٌ شابةٌ جميلةٌ أعجبته بشدةٍ وقرر التقدم لخطبتها، وفعلاً ذهب إلى بيتها لكنها رفضت الزواج منه، فظل الحقد داخل قلبه تجاهها، وبعد سنةٍ ركبت هذه المرأة الشابة معه وكان معها طفلها الصغير وكانت لا تتذكره، لكنه تذكرها وعرفها، فحاول أن يعتدي عليها لكنها رفضت وقاومته، فهددها بطفلها فأخذت تبكي وترجوه ألا يؤذي طفلها، وازدادت تمسكاً بالمقاومة، فوضع الرجل رأس الطفل في الماء وهو يصرخ حتى انقطع صوته ومات فرمى به في البحر، وبعد ذلك قام بقتل المرأة وباع القارب واتجه للعمل بالجزارة .. يقول الرجل: "ها أنا ذا ألقى جزائي عن تلك الجريمة، لكن عليكم أن تبحثوا عن القاتل الحقيقي هذه المرة لتقتصوا منه، فإن لم تجدوه فسيلقى جزاءه أيضاً ذات يومٍ؛ فالله عز وجل عادلٌ (يُمهل ولا يُهمل).

أحبتي في الله .. يقول العلماء إن الله تعالى يُمهل مَن عصاه، ويُملي له، فإن تاب إلى ربه ورجع وآب كان ذلك رحمةً من الله تعالى عليه، وإن استمر في طغيانه كان ذلك استدراجاً من الله تعالى له، ولكن الله تعالى لا يُهمله.
قد يغتر الظالم بظلمه سنواتٍ، يظلم عباد الله، والله يُمهله بحلمه عليه، ويستره بستره له، يتمادى الظالم في غِيه وجبروته، وينسى أن الله (يُمهل ولا يُهمل)، ينسى كيف انتهى الجبابرة الطغاة الظالمون، وكيف انتهى الأكاسرة والقياصرة والفراعنة، وكأنه لم يسمع قول الشاعر:
وَأَيْنَ مَنْ دَوَخُوا الدُنْيا بِسَطْـوَتِهم
وذِكرُهم في الوَرَى ظُلمٌ وطُغْيانُ
أَيْنَ الجبـابرةُ الطاغونَ وَيْحَهمُـوا
وَأَيْنَ مَنْ غَــرَّهُم لَهْوٌ وسُلْطانُ
هل خلَّدَ الـمـَوْتُ ذَا عِـزٍ لعِــزَتـِهِ
أَوْ هَلْ نَجَى مِنْه بالسُلْطانِ إنْسانُ
لاَ وَالَذِي خَلَقَ الأَكْوَان مِـنْ عَـدمٍ
الكلُ يَفْنى فَـلا إِنْسٌ وَلاَ جَانُ
إن الله سبحانه وتعالى يُمهل الظالم إلى وقت عذابه لكنه لا يُهمله؛ قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. إن الظلم مرتعه وخيمٌ، ودعاء المظلومين مستجابٌ ولو بعد حينٍ، والله سبحانه وتعالى (يُمهل ولا يُهمل).
يُقال أن الظلم هو مجاوزة الحد، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فكل ذنبٍ عُصي الله به، سواءً كان شركاً بالله أو دون ذلك من المعاصي ومظالم العباد، فهو داخلٌ في هذا الحد. هذا الظلم الذي تفشى في العالم اليوم على مستوى الأمم والأفراد، يتناقض وما أمر الله به: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، فهو سبحانه لا يرضى عن الظلم: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾، بل إنه سبحانه قد حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا»، وبيَّن أن مصير أهل الظلم الحرمان من الفلاح: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، ثم إنه توعدهم بالويل والعذاب فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾، وهددهم بسوء العاقبة: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾، وأبعدهم عن رحمته فقال: ﴿فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، بل إنه سبحانه لعنهم: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، ويكفي في ذم هؤلاء قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾. وقال عليه الصلاة والسلام: [اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة]، ولما بعث حبيبه معاذاً إلى اليمن أوصاه وقال له: [واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب]، وقال صلى الله عليه وسلم: [إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته]، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. وهذا تحذيرٌ من العزيز الجبار لأهل كل قريةٍ أو مدينةٍ تفشى فيها الظلم: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء﴾ وعيدٌ شديدٌ للظالمين، وتسليةٌ للمظلومين، والله عز وجل إليه المآب، ولو تمتع الظالم في الدنيا قليلاً فإن المصير عند الله بئيس: ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾. والله (يُمهل ولا يُهمل)، يُمهل الظالم ولا يُهمله حتى إذا أخذه لم يفلته: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، قال ابن عباسٍ رضي الله عنه عن هذه الآية: "يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاً بسعيه، وسيُعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاً بما يستحقه، وهو المنزه عن الظلم والجور"، فلا يعذب أحداً بغير ذنبٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾.
وهذه الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ تبث السكينة والطمأنينة في قلب كل مسلمٍ، لأنه يثق أن للكون ربٌ يدبِّر الأمر فيه، ويراقب أفعال العباد، ثم يجازيهم عليها في الدنيا قبل الآخرة، وأنه لا يَفلت أحدٌ من العباد من عواقب عمله، فمن عمل خيراً جازاه، ومن بغى واستطال أمهله ثم أخزاه.
يقول أهل العلم أن من اعتبر بأحوال العالم قديماً وحديثاً، وما يُعاقَب به من يسعى في الأرض بالفساد وسفك الدماء بغير حقٍ وأقام الفتن واستهان بحرمات الله؛ علم أن النجاة في الدنيا والآخرة ﴿لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾، وتيقن من عدل الله سبحانه وتعالى؛ مصداقاً لقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمْهُم﴾ أي ما ينبغي ولا يليق به تعالى أن يظلمهم لكمال عدله، ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ فالظالمون أشغلوا أنفسهم بالشهوات والمعاصي، فضروها من حيث ظنوا أنهم ينفعونها.
ومما أورده الفقهاء في عقاب الظالمين أن بعض العقوبات تأتي فرادى، ويأتي غيرها للمجموع، منها ما يطال الظالم في حياته، في نفسه وجسده وما ملك وماله وولده، ومنها ما يدركه بعد مماته، طال الزمن أم قصر، نسي الإنسان أو عجز، فلا شيء يُنسى، ولا شيء يُترك، وكل شيءٍ محفوظٌ. رب العالمين لا يُهمل أحداً، ولا يحنث في وعده، ولا يتخلى عن المظلومين أياً كانت ملتهم، فهذه سُنته في خَلقه، وقانونه بين البشر، إنَّ أمره إذا جاء لا يرده أحدٌ، ولا يقوى على منعه بشرٌ، لا يتأخر عقابه لمن ظَلم، ولا يتأخر ثأره ممن بَغى وتجبر، إنه يُمهل ويزيد في الأمل، ولكنه سبحانه لا يُهمل، ولا ينسى ولا يدع، يترك الإنسان في غِيه سادراً لا يعي ولا يتدبر، يصبر عليه ويتركه، ويحلُم في التعامل معه ولا يعاجله، ولكن إذا جاء وقت العقاب فإن أخذه أليمٌ شديدٌ، وانتقامه انتقام العزيز الجبار.
ومن لطف الله بعبده الظالم أنه يمهله لعله يتوب، ويؤخره لعله يُقلع، فإذا ما تمادى في ظلمه فربما أخَّره ليزداد في الإثم؛ ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدرٍ؛ لأنه قد استحق العقوبة؛ يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ما زلت أسمع عن جماعةٍ من الأكابر وأرباب المناصب أنهم يشربون الخمور، ويفسقون، ويظلمون، ويفعلون أشياء تُوجب الحدود، فبقيت أتفكر أقول: متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حداً؟ فلو ثبت فمن يقيمه؟ وأستبعد هذا في العادة؛ لأنهم في مقام احترامٍ لأجل مناصبهم، فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم؛ حتى رأيناهم قد نُكبوا، وأُخذوا مراتٍ، ومرَّت عليهم العجائب، فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم، وأُخذت منهم الحدود مضاعفةً بعد الحبس الطويل، والقيد الثقيل، والذل العظيم، وفيهم من قُتل بعد ملاقاة كل شدة، فعلمت أنه ما يُهمَل شيءٌ، فالحذر الحذر، فإن العقوبة بالمرصاد".
يقول الشاعر:
لا تَظلِمَن إذا ما كُنتَ مُقتَدِرا
فالظُّلمُ تَرجِعُ عُقباهُ إلى النَدَمِ
تَنامُ عَينُكَ والمَظلومُ مُنتَبِهٌ
يَدعو عَليكَ وعَينُ اللهِ لَم تَنَمِ

أحبتي .. حذر الله سبحانه وتعالى من الظلم وبيَّن عظيم جرمه، وجسامة خطره، وبيَّن عاجل عقوبته، فالله سبحانه يُملي ويُمهل للظالم فإذا أخذه لم يُفلته، وقد بين الحق تبارك وتعالى أن كيده متين، أي قويٌ شديدٌ فلا يُدفع بقوةٍ ولا حيلةٍ؛ يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ﴾. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن عاقبة الظلم وخيمةٌ، وعاقبة العدل كريمةٌ، ولهذا يُروىَ أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنةً". ويقول أيضاً: "إن جِماع الحسنات العدل، وجِماع السيئات الظلم وهذا أصلٌ جامعٌ عظيم". قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. والظالمون مع ممارستهم للظلم قد أمنوا مكر الله، لكن الله عدلٌ ﴿لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. لو عقل هؤلاء الظلمة عاقبة ما هم فيه وكانوا عليه، لما حل بهم ما حل، ولكنها سُنة الله في الظالمين؛ كم من مظلومٍ ظُلم، ومقهورٍ قُهر، وضعيفٍ سُلب، وشريفٍ أُهين، فحاق بالظالمين دعاءُ المظلومين، وتضرُعُ المقهورين، ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
فالحذر الحذر أحبتي من الظلم في كل مجال: في العمل، في الأسرة، في البيع والشراء، في علاقاتنا مع غيرنا، في تعاملاتنا وعقودنا ووعودنا.
الله نسأل أن يتوب علينا، وألا يؤاخذنا بسوء فعالنا، ولا بما فعله السفهاء منا.
ونصيحةٌ للغافلين ممن لا يَظلمون لكنهم يدعمون الظالمين ويؤيدون أفعالهم ويبررونها لهم ويدافعون عنهم ويجعلون من أنفسهم أبواقاً لشرعنة ظلمهم، إلى هؤلاء أذكرهم بقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾، إنه نهيٌ صريحٌ يعقبه تهديدٌ بعقابٍ شديدٍ ووعيدٍ من الله عز وجل، فهلا تداركتم أنفسكم من قبل أن تمسكم النار؟ هلا انتبهتم أنكم تبيعون دينكم وآخرتكم بدُنيا يصيبها غيركم؟ هل منكم من مُتعظٍ أو مُذَّكِر ليتذكر أن الله (يُمهل ولا يُهمل)؟ أفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله.
لله درك يا شيخنا حين قلت: "إن لم تستطع قول الحق فلا تُصفق للباطل".
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/Sqd4Df

الجمعة، 3 نوفمبر 2017

الدعاء المستجاب

الجمعة 3 نوفمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٧
(الدعاء المستجاب)

خلافٌ وقع بين طرفين من عائلةٍ واحدةٍ كبيرةٍ وعريقةٍ، استولى كل طرفٍ منهما على ما ليس من حقه ظلماً وعدواناً، لم يتمكن الطرفان من الوصول إلى تفاهمٍ مشتركٍ فحدث بينهما خلافٌ علنيٌ شديدٌ تبادلا فيه الاتهامات وأظهرا كل أشكال الفجور في الخصومة. باقي أفراد العائلة إما منحاز ٌلهذا الطرف فرحٌ له وشامتٌ في الفريق الثاني، أو داعمٌ للطرف الآخر فرحٌ له وشامتٌ في الفريق الأول، أو متفرجٌ على ما يحدث ربما لأنه غير مهتمٍ ولا يبالي بما يحدث حوله من صراعٍ طالما أنه بعيدٌ عنه ولا يمس مصالحه، أو مترقبٌ في انتظار معرفة مَن مِن الطرفين سيخرج منتصراً فينحاز إليه، أو مغلوبٌ على أمره لا يُسمح له بإبداء رأيه أو التعبير عما يعتقد أنه صواب!
أحد أفراد الفريق الأخير كتب لي بواسطة أحد برامج التواصل الاجتماعي تعليقاً على هذا الموقف: "اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بين أيديهم سالمين"، فكتبت له أسأله: "هل تعلم رأي الشيخ الغزالي رحمه الله في هذا الدعاء؟"، قال: "لا، لا أعلم، تُرى ماذا كان رأيه؟"، فرويت له أنه صلى الجمعة مرةً خلف إمامٍ دعا في خطبته بهذا الدعاء، فقال له الشيخ بعد انتهاء الصلاة: "إذا أهلك الله الظالمين بالظالمين، فما هو دورنا نحن إذن؟!". ثم كتبت لصديقي أن هذا الموقف يذكرني بطرفةٍ تنتشر في موسم ظهور نتائج الامتحانات كل عامٍ، حيث رسب أحد الطلاب فذهب لأمه يعاتبها بقوله: "أيعجبك الآن أني رسبت؟ تقصرين في الدعاء لي طوال العام الدراسي ولا تدعين لي بالنجاح إلا وقت الامتحانات فقط؟!".

أحبتي في الله .. هنا تكمن مشكلة فهمنا لحقيقة (الدعاء المستجاب) .. الكثير من المسلمين يدعون الله ولا يعملون كل ما في وسعهم ثم يتوقعون إجابة الدعاء بلا عمل! وهذا ما سماه أحد العلماء خداع النفس؛ فيكون الدعاء كالمخدر الذي يوهم الشخص أنه فعل كل ما عليه فقد دعا الله وتوكل عليه، وهذا خداعٌ تلجأ له النفس البشرية حتى لا تشعر بالتقصير نتيجة عدم الأخذ بالأسباب، ومن يخدع نفسه بتلك الطريقة إنما تغره الأماني ويحلم فقط بأن تنصلح الأحوال دون أن يحاول الإصلاح. قال تعالى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾. إن العمل والأخذ بالأسباب واجبٌ مع الدعاء؛ فقد خلق الله الكون وجعل له سنناً وأمر الإنسان بالتفكر في الكون ورزقه العلم كي يُسَخِّر به هذه السنن لمنفعته، وعليه أن يُتِم عمله بالدعاء لله الذي بيده كل شيءٍ، أما أن يترك تلك السنن عن عمدٍ أو إهمالٍ أو كسلٍ وتراخٍ وهو قادرٌ على استخدامها فهو كمن يهزأ بحكم الله في خَلقه ويريد أن يخرق الله له تلك السنن!

كتب أحد الدعاة يروي قصته مع شابٍ استوقفه وسأله: لماذا لم يستجب الله لدعاء المسلمين بأن يخلصهم من الظالمين ومن أعداء الدين؟ ، فقال له: إن للنصر والتمكين أسباباً، والدعاء لا يأتي في المرتبة الأولى وإنما هو في المرتبة الثانية بعد العمل. قال الشاب ولكن الدعاء هو الأساس؛ فقد قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، قال له: نعم، لكن الله لا يستجيب لعبده الكسلان أو النائم أو الذي لا يأخذ بأسباب العمل والإنجاز، وقد رأى الإمام الحسن البصري رحمه الله رجلاً يلعب بالحصى بيده ويدعو الله أن يرزقه الحور العين، فقال له: "يا هذا تدعو الله الحور العين وتلعب كما يلعب المجانين؟".

لقد ظللنا ولعقودٍ من الزمن ندعو الله أن يحرر أراضينا المحتلة، ويخلصنا من أعدائنا، وما زلنا نكرر هذه الدعوات حتى حفظناها كما نحفظ أسماءنا: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، اللهم جمد الدم في عروقهم، ويبس أوصالهم، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم شتت شملهم، ويتم أطفالهم، وفرق جمعهم، وفرط تدبيرهم، وخرب بنيانهم، وبدل أحوالهم، وقرب آجالهم، واقطع أعمارهم، واشغلهم بأبدانهم. سنواتٌ كثيرةٌ ونحن ندعو بمثل هذه الدعوات، فأين نحن من (الدعاء المستجاب)؟ وهل قدمنا العمل الذي ينبغي تقديمه قبل كل هذه الأدعية؟ لقد قال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ ولم يقل "إن تدعوا الله ينصركم"، وقال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ إنها دعوةٌ للعمل والأخذ بأسباب القوة. الدعاء يأتي في المرتبة الثانية، فالمرتبة الأولى هي للعمل والتخطيط والحركة، ثم يأتي الدعاء مكملاً ومتمماً.
والقرآن الكريم تكثر فيه الآيات التي تحث على أن يكون الدعاء مقروناً بالعمل، عندما دعا نوحٌ عليه السلام ربه وقال: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾، وقال: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ أمره الله سبحانه وتعالى ببناء السفينة ﴿اصْنَعْ الْفُلْك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْينَا﴾، وكان قادراً سبحانه على نصرته ونصرة المؤمنين من غير أن يبني نوحٌ تلك السفينة. كذلك قال الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ وكان سبحانه قادراً على إنفاذ مشيئته بغير أن يضرب موسى بعصاه البحر. وأيضاً مع السيدة مريم بعد الولادة مباشرة وهي في أشد حالات الضعف والوهن قال لها الله سبحانه وتعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً . فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً﴾ وكان قادراً سبحانه على أن يجعلها تأكل وتشرب وتقر عينها من غير أن تهز جذع النخلة. لكن في كل تلك الحالات والمواقف، وفي مثلها، تعليمٌ لنا بألا نكتفي بالدعاء، وتوجيهٌ ربانيٌ بضرورة العمل والأخذ بالأسباب.
وهذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في غزواته جميعها، لم يكن يدعو الله طلباً للنصر إلا بعد أن يستعد بالتخطيط والتجهيز وإعداد كل ما يلزم لمواجهة الكفار والمشركين. ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر؟ بعد أن حدد الموقع وأخذ بالأسباب ونظم الجيش وحمسهم للنصر، توجه إلى الله بالدعاء. وكذلك فعل في غزوة الخندق بعد أن حفر الخندق ونظم الجيش ووضع الخطة توجه إلى الله بالدعاء. وهكذا في كل المواقف والأحداث كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام سابقاً أو لاحقاً أو متزامناً مع العمل والأخذ بالأسباب.
لماذا ينتصر غير المؤمنين على المؤمنين؟ لأنهم يحسنون التعامل مع سنن الكون وقوانين النجاح وقيادة الناس وتوجيههم والتخطيط وتوفير العتاد وتدريب الجنود، ولا يواجههم المؤمنون إلا بالدعاء فقط تاركين الأخذ بالأسباب.

إن المعنى الحقيقي للآية الكريمة: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ هو أن الله عز وجل يستجيب لمن يأخذ بالأسباب ويعمل ويجتهد ويستفيد من سنن الله في الكون ثم يدعو فيكون دعاؤه هو (الدعاء المستجاب) بإذن الله. إنها سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول إلا إذا شاء؛ قال سبحانه: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾.
فلا يجوز لمسلمٍ ظُلِم أو رأي غيره يُظْلَم أن يقف مكتوف الأيدي ويكتفي بالدعاء على الظالمين، بل عليه أن يأخذ بأسباب مقاومة الظلم ابتداءً من تقديم النصح للظالم وانتهاءً برفع الظلم عن نفسه وعن غيره من المسلمين بكل ما هو متاحٌ له من الأسباب مع مراعاة الضوابط الشرعية، لكن أن يرضى بالظلم ويكتفي بالدعاء فقط فهذا هوانٍ لا يليق بمؤمن؛ يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، ويقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: [انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً]، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنصرُه إذا كان مظلوماً، أفرأيتَ إذا كان ظالماً كيف أنصرُه؟ قال: [تحجِزُه، أو تمنعُه من الظلمِ فإنَّ ذلك نصرُه]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان]، وواضحٌ من الحديث أن مقاومة المنكر لا تكون فقط بالدعاء والتوسل إلى الله، بل لابد من حركةٍ وعملٍ وجهدٍ من أجل تغيير المنكر سواء كان ظلماً أو طغياناً أو عدواناً أو تجاوزاً للحدود أو انتقاصاً من حقوق. يقول أهل العلم: يجب إنكار المنكر باليد على كل من تمكّن من ذلك ولم يُؤدّ إنكاره إلى مفسدةٍ أكبر. فإذا عجز عن التغيير باليد، فإنه ينتقل إلى المرتبة الثانية وهي الإنكار باللسان فيذكّر العاصي بالله ويخوّفه من عقابه على الوجه الذي يراه مناسباً لطبيعة المنكر وطبيعة صاحبه. وإن عجز القائم بالإنكار عن إبداء استنكاره فعلاً وقولاً فلا أقل من إنكار المنكر بالقلب، وهذه هي المرتبة الثالثة، وهي واجبةٌ على كل أحدٍ، ولا يُعذر شخصٌ بتركها؛ لأنها مسألةٌ قلبيّةٌ لا يُتصوّر الإكراه على تركها، أو العجز عن فعلها، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد: جهادٌ بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمتى لم يعرف قلبه المعروف وينكر قلبه المنكر انتكس". وإذا ضيعت الأمة هذا الواجب بالكلية، وأهملت العمل به، عمت المنكرات، وشاع الفساد، وعندها تكون الأمة مهددةً بنزول العقوبة الإلهية عليها، واستحقاق الغضب والمقت من الله؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

قيل لأحد الصالحين: ما بالنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟! قال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس!

ومع كل ما سبق، فإن الله سبحانه وتعالى، لحكمةٍ قد ندركها وقد لا ندركها، يوقف سننه الكونية أو يعطلها استجابةً لدعوةٍ صادقةٍ مخلصةٍ عبرت السموات وتجاوزت السحب ووصلت إلى الملك العزيز الحكيم فاستجاب لها ﴿وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

أحبتي .. الدعاء أمر ٌمهمٌ فهو عبادةٌ، أمرنا الله أن ندعوه سبحانه ووعدنا أن يستجيب لنا، لكن يجب علينا مع الدعاء أن نعمل ونجتهد ونبذل ما استطعنا من جهد؛ فلا معنى لأن يدعو طالبٌ لنفسه بالنجاح وهو لا يذاكر دروسه، ولا أن يدعو مريضٌ لنفسه بالشفاء ولا يذهب لطبيبٍ متخصصٍ يشخص حالته ويصف له الدواء، ولا أن يدعو مالك أرضٍ أن يمكنه الله من بنائها ولا يذهب لمهندسٍ ذي خبرة لإتمام البناء الذي يتمناه. هكذا الأمر مع الظالمين ومع المعتدين ومع كل من يحارب الإسلام جهاراً نهاراً ويقتل المسلمين بغير حقٍ لا يجوز ولا ينبغي أن نكتفي بالدعاء فقط وننتظر أن تأتي معجزةً من السماء لتهلكهم!
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ علينا أن نغير ما بأنفسنا؛ فواجبٌ علينا أن نتخذ منهجاً وسطاً في التعامل مع السنن الكونية؛ فلا نكون ممن لا يلقون لها بالاً ويعتمدون على الدعاء فقط دون العمل، ولا نكون من الذين يقدسون السنن الكونية فقط ويُرجعون كل الأحداث لقوانين الطبيعة دون أن يهتموا بالدعاء، واجبٌ علينا أن يكون منهجنا هو الجمع بين الحسنيين: الأخذ بالأسباب والاستعداد المادي، مع طلب العون من الله بالتضرع والدعاء فكل ما يحدث في هذا الكون هو بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى.

ومع العمل والأخذ بالأسباب فلنستمر أحبتي في الدعاء؛ فلا نعلم في أية لحظة يقول لنا فيها الله سبحانه وتعالى كما قال لموسى عليه السلام: ﴿قَد أُوتِيتَ سُؤلَكَ﴾، فلا نمل من الدعاء، ولنرفع كل حاجاتنا ورغباتنا إلى أكرم الأكرمين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما من مسلمٍ يدعو الله بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثٍ: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها]، قالوا: إذن نكثر، قال: [الله أكثر وأطيب]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ]، ما أكرمك يا الله.

اللهم ألهمنا حسن الدعاء، وارزقنا حسن العمل، وتفضل علينا بالاستجابة لدعائنا فضلاً منك وكرماً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/NdhCSh


الجمعة، 27 أكتوبر 2017

أدب الحوار

الجمعة 27 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٦
(أدب الحوار)

علم صديقي أني أكاد أقاطع التلفزيون فلا أشاهد برامجه ولا أحرص على متابعة أيٍ من مقدمي ما يُسمى Talk Show وهي تلك البرامج التي تقوم أساساً على الحوار، تعجب، فقلت له: "لا عجب يا صديقي، فأنا لا أرتاح أبداً لطريقتهم في إدارة الحوار".

أحبائي في الله .. من عاش مستمتعاً بما تعلمه من (أدب الحوار) في الإسلام لا يستطيع أن يتقبل أو يتحمل أو يصبر على تلك الحوارات الرديئة التي أصبحت للأسف سمةً مميزةً لأغلب البرامج التي تستضيف ضيوفاً لتحاورهم؛ فترى التعالي، والعُجب بالنفس، وتسفيه الآخر، وتخوين المخالفين في الرأي، وإعلاء لوجهات نظر لا لصحتها وإنما لمكانة صاحبها، وتسمع عن خطوطٍ حمراء للحوار إذا أغضب أشخاصاً بعينهم أو اقترب من مؤسساتٍ معينةٍ وكأن هؤلاء معصومون فلا يجوز الحديث عنهم أو نقدهم أو توجيههم أو مساءلتهم. كما ترى أن ما يختارون من موضوعاتٍ ليست لتوعية وتثقيف الناس ولا لتعليمهم شيئاً مفيداً بقدر ما هي إلهاءٌ لهم وتضييعٌ لأوقاتهم فيما لا يفيد، فحواراتهم فيها حتى لو كان بعضها مقبولاً من حيث الشكل فهي هابطةٌ وساقطةٌ من حيث الموضوع والمضمون والمحتوى، إلا ما رحم ربي.. والأدهى والأمر عندما تبدأ وصلات السباب والبذاءة والفحش والتطاول في الكلام، فضلاً عن النفاق والمداهنة لطرفٍ يتواجد ممثلوه في جميع القنوات وفي كل البرامج بدون استثناء، والكذب والافتراء على طرفٍ غائبٍ لا يملك فرصةً لعرض رأيه أو الدفاع عن وجهة نظره.
يشعرني ذلك بالتقزز ويصيبني ما يشبه الغثيان عندما أشاهد صدفةً أو اضطراراً أحد هؤلاء المناط بهم إدارة الحوار بشكلٍ ذكي ومسئول. وأقول في نفسي كم يبعد هؤلاء عن (أدب الحوار) في بلدٍ دينه الإسلام؛ الدين الذي ضبط كل شيء في حياة الأمة لتكون ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، وكم هم قريبون من منهج الإسلام أولئك الذين يقدمون برامج مشابهةً في بلادٍ لا تدين بالإسلام!

لقد بَيَّن الله سبحانه وتعالى القواعد العامة والأسس الصحيحة ل(أدب الحوار)؛ قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وقال عز وجل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، وغير ذلك من آياتٍ توجه المسلم إلى التزام الأدب وعفة اللسان والنزاهة والأمانة والحكمة واللين في حياته العامة وعند حواره مع الغير وجداله معهم.

أين نحن من ذلك الحوار الراقي الذي دار بين رسول الله ﷺ وعُتبة بن ربيعة من سادة قريش، يقول عتبة وهو يساوم رسول الله على ترك الإسلام: «يا ابن أخي، إنك منَّا حيث قد علمت من السِّطة {الشرف والمنزلة الرفيعة} في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمرٍ عظيمٍ فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به مَن مضى مِن آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها». فقال له رسول الله ﷺ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ». قال: «يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا؛ حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا {جعلناك سيدنا}؛ حتى لا نقطع أمراً دونك، وإنْ كنت تريد به مُلكاً ملَّكناك علينا، وإنْ كان هذا الذي يأتيك رِئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبْرِئك منه؛ فإنَّه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوى منه».
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله ﷺ يستمع منه قال: [أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟] قال: نعم. قال: [فَاسْمَعْ مِنِّي]. قال: أفعل. فقرأ ﷺ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم . تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ . وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾. ثم مضى رسول الله ﷺ فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله ﷺ إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: [قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْتَ وَذَاكَ]. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعضٍ: «نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به». فلما جلس إليهم قالوا: «ما وراءك يا أبا الوليد؟» قال: «ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشِّعْر ولا بالسِّحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني، واجعلوها بي، وخَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليَكُونَنَّ لقوله الذي سمعتُ منه نبأٌ عظيم، فإن تُصِبْهُ العرب فقد كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وعِزُّه عِزُّكُمْ، وكنتم أسعدَ الناس به». قالوا: «سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه!!». قال: «هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم».
وهذا الحوار في غاية الأهمية؛ فعلى الرغم أن عتبة بن ربيعة كان قد قدَّم كلامه بمجموعة من التُّهَم الموجَّهة لرسول الله ﷺ إلا أن رسول الله ظل على هدوء أعصابه، ولم ينفعل، إنما واصل الاستماع في أدبٍ واحترامٍ، مع أن عتبة عرض عليه التنازل عن دعوته مقابل ما يعرضه عليه من مغريات الدنيا، فقَبِلَ النبيُّ ﷺ أن يستمع إليه، بل قال له: [قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ]، فهو يُكَنِّيه بِكُنْيَتِهِ، أي يُناديه بأحب الأسماء إليه ويلاطفه ويرقِّق قلبه، ولما عرض عتبة بن ربيعة الأمور التي جاء بها لم يقاطعه النبي ﷺ مع سفاهة العروض وتفاهتها، بل إنه صبر حتى النهاية وأعطاه الفرصة كاملةً لكي يتكلم ويعرض وجهة نظره، وبعد انتهائه تماماً بدأ رسول الله في الكلام؛ ليضرب لنا بذلك أروع الأمثلة في (أدب الحوار) مع الآخرين، وإن كانوا مخالفين تماماً لنا في العقيدة والدين.

هذا كان دأبه ﷺ في حواراته مع الكبار، أما مع الشباب فالموقف التالي يبين ويوضح كيف كان الرسول يحاور الشباب؛ فهذا فتىً شابٌّ أتى النبيَّ ﷺ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: [ادْنُهْ]، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً. قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: [أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ]. قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ] فلم يكن بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. إنه حوارٌ هادئٌ يستند إلى المنطق، وينتهي بدعاءٍ طيبٍ استجاب له المولى عز وجل، حوارٌ لا يكون إلا من حليمٍ رؤوفٍ رحيم.

وحواراته ﷺ مع النساء كثيرةٌ، خاصةً مع زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ومن ذلك ما كان من لطفه ﷺ مع عائشة رضي الله عنها بالكلام ومداعبته لها، حيث قال مرةً: [إني لأعلم إذا كنت عنّي راضيةً، وإذا كنت عليّ غَضبى]. قالت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: [أما إذا كنتِ عني راضيةً فإنك تقولين: لا وربِّ محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا وربِّ إبراهيم]. قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك..
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بعضاً من أحاديث الرسول ﷺ وحواراته مع النساء ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ عندما كان يتحاور مع الصحابية خولة بنت ثعلبة.

أما (أدب الحوار) مع الأطفال فيظهر جلياً من خلال ما يرويه سهل بن سعد، رضي الله عنه، قال: "أُتي النبي ﷺ بقدح فشَرِب منه، وعن يمينه غلامٌ أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: [يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟]، قال: ما كنتُ لأوثر بفضلي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه". فالغلام جالسٌ عن يمين النبي، والشيوخ عن يساره، ومن السُّنة البدء باليمين، وأيضاً من المتعارف عليه احترام الكبار، وتقديمهم في كل شيءٍ، فاستأذن النبيُّ الغلامَ أن يبدأ بتقديم الماء للكبار؛ ولكن الغلام رفض أن يتنازل عن حقه، يريد أن يفوز بشرف الشرب من يد الرسول، فأعطاه النبي ﷺ الماء بادئاً به.
أي احترامٍ للحقوق هذا الذي وجهنا إليه ﷺ؛ فلا تجاوز لها إلا بإذن صاحبها وتنازلٍ منه برضىً وقناعة؟ وأيُّ أدبٍ في الحوار هذا الذي علمنا إياه نبينا الكريم؟ نعم إنه (أدب الحوار) في الإسلام.

أحبتي .. لسنا كبشر نعيش في جزرٍ منفصلةٍ متباعدين بعضنا عن بعضٍ، وإنما نعيش مجتمعين معاً جنباً إلى جنبٍ، تربط بيننا علاقات ومعاملات ومصالح يمثل الحوار جوهرها؛ فهو أداة التواصل بيننا، وهو ناقل الأفكار، وهو وسيلةٌ لا غنى عنها للتفاعل والتفاهم فلا تستقيم الحياة بدون حوار. ولقد حدد لنا ديننا الذي ارتضاه الله لنا (آداب الحوار) التي ينبغي أن نلتزم بها لنسعد في دنيانا، ولنكون أصحاب دعوةٍ لأعظم دينٍ لا تقوم على الكلام بقدر ما يكون سلوكنا هو الأساس فيها. دعونا ننشر قيم ديننا، فيعرف الناس الإسلام من أخلاقنا ومن آدابنا في كل مجال خاصةً فيما يتعلق بالحوار.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، واجعلنا اللهم من الراشدين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/o43P51