الجمعة، 3 نوفمبر 2017

الدعاء المستجاب

الجمعة 3 نوفمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٧
(الدعاء المستجاب)

خلافٌ وقع بين طرفين من عائلةٍ واحدةٍ كبيرةٍ وعريقةٍ، استولى كل طرفٍ منهما على ما ليس من حقه ظلماً وعدواناً، لم يتمكن الطرفان من الوصول إلى تفاهمٍ مشتركٍ فحدث بينهما خلافٌ علنيٌ شديدٌ تبادلا فيه الاتهامات وأظهرا كل أشكال الفجور في الخصومة. باقي أفراد العائلة إما منحاز ٌلهذا الطرف فرحٌ له وشامتٌ في الفريق الثاني، أو داعمٌ للطرف الآخر فرحٌ له وشامتٌ في الفريق الأول، أو متفرجٌ على ما يحدث ربما لأنه غير مهتمٍ ولا يبالي بما يحدث حوله من صراعٍ طالما أنه بعيدٌ عنه ولا يمس مصالحه، أو مترقبٌ في انتظار معرفة مَن مِن الطرفين سيخرج منتصراً فينحاز إليه، أو مغلوبٌ على أمره لا يُسمح له بإبداء رأيه أو التعبير عما يعتقد أنه صواب!
أحد أفراد الفريق الأخير كتب لي بواسطة أحد برامج التواصل الاجتماعي تعليقاً على هذا الموقف: "اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بين أيديهم سالمين"، فكتبت له أسأله: "هل تعلم رأي الشيخ الغزالي رحمه الله في هذا الدعاء؟"، قال: "لا، لا أعلم، تُرى ماذا كان رأيه؟"، فرويت له أنه صلى الجمعة مرةً خلف إمامٍ دعا في خطبته بهذا الدعاء، فقال له الشيخ بعد انتهاء الصلاة: "إذا أهلك الله الظالمين بالظالمين، فما هو دورنا نحن إذن؟!". ثم كتبت لصديقي أن هذا الموقف يذكرني بطرفةٍ تنتشر في موسم ظهور نتائج الامتحانات كل عامٍ، حيث رسب أحد الطلاب فذهب لأمه يعاتبها بقوله: "أيعجبك الآن أني رسبت؟ تقصرين في الدعاء لي طوال العام الدراسي ولا تدعين لي بالنجاح إلا وقت الامتحانات فقط؟!".

أحبتي في الله .. هنا تكمن مشكلة فهمنا لحقيقة (الدعاء المستجاب) .. الكثير من المسلمين يدعون الله ولا يعملون كل ما في وسعهم ثم يتوقعون إجابة الدعاء بلا عمل! وهذا ما سماه أحد العلماء خداع النفس؛ فيكون الدعاء كالمخدر الذي يوهم الشخص أنه فعل كل ما عليه فقد دعا الله وتوكل عليه، وهذا خداعٌ تلجأ له النفس البشرية حتى لا تشعر بالتقصير نتيجة عدم الأخذ بالأسباب، ومن يخدع نفسه بتلك الطريقة إنما تغره الأماني ويحلم فقط بأن تنصلح الأحوال دون أن يحاول الإصلاح. قال تعالى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾. إن العمل والأخذ بالأسباب واجبٌ مع الدعاء؛ فقد خلق الله الكون وجعل له سنناً وأمر الإنسان بالتفكر في الكون ورزقه العلم كي يُسَخِّر به هذه السنن لمنفعته، وعليه أن يُتِم عمله بالدعاء لله الذي بيده كل شيءٍ، أما أن يترك تلك السنن عن عمدٍ أو إهمالٍ أو كسلٍ وتراخٍ وهو قادرٌ على استخدامها فهو كمن يهزأ بحكم الله في خَلقه ويريد أن يخرق الله له تلك السنن!

كتب أحد الدعاة يروي قصته مع شابٍ استوقفه وسأله: لماذا لم يستجب الله لدعاء المسلمين بأن يخلصهم من الظالمين ومن أعداء الدين؟ ، فقال له: إن للنصر والتمكين أسباباً، والدعاء لا يأتي في المرتبة الأولى وإنما هو في المرتبة الثانية بعد العمل. قال الشاب ولكن الدعاء هو الأساس؛ فقد قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، قال له: نعم، لكن الله لا يستجيب لعبده الكسلان أو النائم أو الذي لا يأخذ بأسباب العمل والإنجاز، وقد رأى الإمام الحسن البصري رحمه الله رجلاً يلعب بالحصى بيده ويدعو الله أن يرزقه الحور العين، فقال له: "يا هذا تدعو الله الحور العين وتلعب كما يلعب المجانين؟".

لقد ظللنا ولعقودٍ من الزمن ندعو الله أن يحرر أراضينا المحتلة، ويخلصنا من أعدائنا، وما زلنا نكرر هذه الدعوات حتى حفظناها كما نحفظ أسماءنا: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، اللهم جمد الدم في عروقهم، ويبس أوصالهم، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم شتت شملهم، ويتم أطفالهم، وفرق جمعهم، وفرط تدبيرهم، وخرب بنيانهم، وبدل أحوالهم، وقرب آجالهم، واقطع أعمارهم، واشغلهم بأبدانهم. سنواتٌ كثيرةٌ ونحن ندعو بمثل هذه الدعوات، فأين نحن من (الدعاء المستجاب)؟ وهل قدمنا العمل الذي ينبغي تقديمه قبل كل هذه الأدعية؟ لقد قال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ ولم يقل "إن تدعوا الله ينصركم"، وقال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ إنها دعوةٌ للعمل والأخذ بأسباب القوة. الدعاء يأتي في المرتبة الثانية، فالمرتبة الأولى هي للعمل والتخطيط والحركة، ثم يأتي الدعاء مكملاً ومتمماً.
والقرآن الكريم تكثر فيه الآيات التي تحث على أن يكون الدعاء مقروناً بالعمل، عندما دعا نوحٌ عليه السلام ربه وقال: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾، وقال: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ أمره الله سبحانه وتعالى ببناء السفينة ﴿اصْنَعْ الْفُلْك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْينَا﴾، وكان قادراً سبحانه على نصرته ونصرة المؤمنين من غير أن يبني نوحٌ تلك السفينة. كذلك قال الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ وكان سبحانه قادراً على إنفاذ مشيئته بغير أن يضرب موسى بعصاه البحر. وأيضاً مع السيدة مريم بعد الولادة مباشرة وهي في أشد حالات الضعف والوهن قال لها الله سبحانه وتعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً . فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً﴾ وكان قادراً سبحانه على أن يجعلها تأكل وتشرب وتقر عينها من غير أن تهز جذع النخلة. لكن في كل تلك الحالات والمواقف، وفي مثلها، تعليمٌ لنا بألا نكتفي بالدعاء، وتوجيهٌ ربانيٌ بضرورة العمل والأخذ بالأسباب.
وهذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في غزواته جميعها، لم يكن يدعو الله طلباً للنصر إلا بعد أن يستعد بالتخطيط والتجهيز وإعداد كل ما يلزم لمواجهة الكفار والمشركين. ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر؟ بعد أن حدد الموقع وأخذ بالأسباب ونظم الجيش وحمسهم للنصر، توجه إلى الله بالدعاء. وكذلك فعل في غزوة الخندق بعد أن حفر الخندق ونظم الجيش ووضع الخطة توجه إلى الله بالدعاء. وهكذا في كل المواقف والأحداث كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام سابقاً أو لاحقاً أو متزامناً مع العمل والأخذ بالأسباب.
لماذا ينتصر غير المؤمنين على المؤمنين؟ لأنهم يحسنون التعامل مع سنن الكون وقوانين النجاح وقيادة الناس وتوجيههم والتخطيط وتوفير العتاد وتدريب الجنود، ولا يواجههم المؤمنون إلا بالدعاء فقط تاركين الأخذ بالأسباب.

إن المعنى الحقيقي للآية الكريمة: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ هو أن الله عز وجل يستجيب لمن يأخذ بالأسباب ويعمل ويجتهد ويستفيد من سنن الله في الكون ثم يدعو فيكون دعاؤه هو (الدعاء المستجاب) بإذن الله. إنها سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول إلا إذا شاء؛ قال سبحانه: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾.
فلا يجوز لمسلمٍ ظُلِم أو رأي غيره يُظْلَم أن يقف مكتوف الأيدي ويكتفي بالدعاء على الظالمين، بل عليه أن يأخذ بأسباب مقاومة الظلم ابتداءً من تقديم النصح للظالم وانتهاءً برفع الظلم عن نفسه وعن غيره من المسلمين بكل ما هو متاحٌ له من الأسباب مع مراعاة الضوابط الشرعية، لكن أن يرضى بالظلم ويكتفي بالدعاء فقط فهذا هوانٍ لا يليق بمؤمن؛ يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، ويقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: [انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً]، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنصرُه إذا كان مظلوماً، أفرأيتَ إذا كان ظالماً كيف أنصرُه؟ قال: [تحجِزُه، أو تمنعُه من الظلمِ فإنَّ ذلك نصرُه]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان]، وواضحٌ من الحديث أن مقاومة المنكر لا تكون فقط بالدعاء والتوسل إلى الله، بل لابد من حركةٍ وعملٍ وجهدٍ من أجل تغيير المنكر سواء كان ظلماً أو طغياناً أو عدواناً أو تجاوزاً للحدود أو انتقاصاً من حقوق. يقول أهل العلم: يجب إنكار المنكر باليد على كل من تمكّن من ذلك ولم يُؤدّ إنكاره إلى مفسدةٍ أكبر. فإذا عجز عن التغيير باليد، فإنه ينتقل إلى المرتبة الثانية وهي الإنكار باللسان فيذكّر العاصي بالله ويخوّفه من عقابه على الوجه الذي يراه مناسباً لطبيعة المنكر وطبيعة صاحبه. وإن عجز القائم بالإنكار عن إبداء استنكاره فعلاً وقولاً فلا أقل من إنكار المنكر بالقلب، وهذه هي المرتبة الثالثة، وهي واجبةٌ على كل أحدٍ، ولا يُعذر شخصٌ بتركها؛ لأنها مسألةٌ قلبيّةٌ لا يُتصوّر الإكراه على تركها، أو العجز عن فعلها، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد: جهادٌ بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمتى لم يعرف قلبه المعروف وينكر قلبه المنكر انتكس". وإذا ضيعت الأمة هذا الواجب بالكلية، وأهملت العمل به، عمت المنكرات، وشاع الفساد، وعندها تكون الأمة مهددةً بنزول العقوبة الإلهية عليها، واستحقاق الغضب والمقت من الله؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

قيل لأحد الصالحين: ما بالنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟! قال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس!

ومع كل ما سبق، فإن الله سبحانه وتعالى، لحكمةٍ قد ندركها وقد لا ندركها، يوقف سننه الكونية أو يعطلها استجابةً لدعوةٍ صادقةٍ مخلصةٍ عبرت السموات وتجاوزت السحب ووصلت إلى الملك العزيز الحكيم فاستجاب لها ﴿وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

أحبتي .. الدعاء أمر ٌمهمٌ فهو عبادةٌ، أمرنا الله أن ندعوه سبحانه ووعدنا أن يستجيب لنا، لكن يجب علينا مع الدعاء أن نعمل ونجتهد ونبذل ما استطعنا من جهد؛ فلا معنى لأن يدعو طالبٌ لنفسه بالنجاح وهو لا يذاكر دروسه، ولا أن يدعو مريضٌ لنفسه بالشفاء ولا يذهب لطبيبٍ متخصصٍ يشخص حالته ويصف له الدواء، ولا أن يدعو مالك أرضٍ أن يمكنه الله من بنائها ولا يذهب لمهندسٍ ذي خبرة لإتمام البناء الذي يتمناه. هكذا الأمر مع الظالمين ومع المعتدين ومع كل من يحارب الإسلام جهاراً نهاراً ويقتل المسلمين بغير حقٍ لا يجوز ولا ينبغي أن نكتفي بالدعاء فقط وننتظر أن تأتي معجزةً من السماء لتهلكهم!
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ علينا أن نغير ما بأنفسنا؛ فواجبٌ علينا أن نتخذ منهجاً وسطاً في التعامل مع السنن الكونية؛ فلا نكون ممن لا يلقون لها بالاً ويعتمدون على الدعاء فقط دون العمل، ولا نكون من الذين يقدسون السنن الكونية فقط ويُرجعون كل الأحداث لقوانين الطبيعة دون أن يهتموا بالدعاء، واجبٌ علينا أن يكون منهجنا هو الجمع بين الحسنيين: الأخذ بالأسباب والاستعداد المادي، مع طلب العون من الله بالتضرع والدعاء فكل ما يحدث في هذا الكون هو بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى.

ومع العمل والأخذ بالأسباب فلنستمر أحبتي في الدعاء؛ فلا نعلم في أية لحظة يقول لنا فيها الله سبحانه وتعالى كما قال لموسى عليه السلام: ﴿قَد أُوتِيتَ سُؤلَكَ﴾، فلا نمل من الدعاء، ولنرفع كل حاجاتنا ورغباتنا إلى أكرم الأكرمين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما من مسلمٍ يدعو الله بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثٍ: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها]، قالوا: إذن نكثر، قال: [الله أكثر وأطيب]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ]، ما أكرمك يا الله.

اللهم ألهمنا حسن الدعاء، وارزقنا حسن العمل، وتفضل علينا بالاستجابة لدعائنا فضلاً منك وكرماً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/NdhCSh


الجمعة، 27 أكتوبر 2017

أدب الحوار

الجمعة 27 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٦
(أدب الحوار)

علم صديقي أني أكاد أقاطع التلفزيون فلا أشاهد برامجه ولا أحرص على متابعة أيٍ من مقدمي ما يُسمى Talk Show وهي تلك البرامج التي تقوم أساساً على الحوار، تعجب، فقلت له: "لا عجب يا صديقي، فأنا لا أرتاح أبداً لطريقتهم في إدارة الحوار".

أحبائي في الله .. من عاش مستمتعاً بما تعلمه من (أدب الحوار) في الإسلام لا يستطيع أن يتقبل أو يتحمل أو يصبر على تلك الحوارات الرديئة التي أصبحت للأسف سمةً مميزةً لأغلب البرامج التي تستضيف ضيوفاً لتحاورهم؛ فترى التعالي، والعُجب بالنفس، وتسفيه الآخر، وتخوين المخالفين في الرأي، وإعلاء لوجهات نظر لا لصحتها وإنما لمكانة صاحبها، وتسمع عن خطوطٍ حمراء للحوار إذا أغضب أشخاصاً بعينهم أو اقترب من مؤسساتٍ معينةٍ وكأن هؤلاء معصومون فلا يجوز الحديث عنهم أو نقدهم أو توجيههم أو مساءلتهم. كما ترى أن ما يختارون من موضوعاتٍ ليست لتوعية وتثقيف الناس ولا لتعليمهم شيئاً مفيداً بقدر ما هي إلهاءٌ لهم وتضييعٌ لأوقاتهم فيما لا يفيد، فحواراتهم فيها حتى لو كان بعضها مقبولاً من حيث الشكل فهي هابطةٌ وساقطةٌ من حيث الموضوع والمضمون والمحتوى، إلا ما رحم ربي.. والأدهى والأمر عندما تبدأ وصلات السباب والبذاءة والفحش والتطاول في الكلام، فضلاً عن النفاق والمداهنة لطرفٍ يتواجد ممثلوه في جميع القنوات وفي كل البرامج بدون استثناء، والكذب والافتراء على طرفٍ غائبٍ لا يملك فرصةً لعرض رأيه أو الدفاع عن وجهة نظره.
يشعرني ذلك بالتقزز ويصيبني ما يشبه الغثيان عندما أشاهد صدفةً أو اضطراراً أحد هؤلاء المناط بهم إدارة الحوار بشكلٍ ذكي ومسئول. وأقول في نفسي كم يبعد هؤلاء عن (أدب الحوار) في بلدٍ دينه الإسلام؛ الدين الذي ضبط كل شيء في حياة الأمة لتكون ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، وكم هم قريبون من منهج الإسلام أولئك الذين يقدمون برامج مشابهةً في بلادٍ لا تدين بالإسلام!

لقد بَيَّن الله سبحانه وتعالى القواعد العامة والأسس الصحيحة ل(أدب الحوار)؛ قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وقال عز وجل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، وغير ذلك من آياتٍ توجه المسلم إلى التزام الأدب وعفة اللسان والنزاهة والأمانة والحكمة واللين في حياته العامة وعند حواره مع الغير وجداله معهم.

أين نحن من ذلك الحوار الراقي الذي دار بين رسول الله ﷺ وعُتبة بن ربيعة من سادة قريش، يقول عتبة وهو يساوم رسول الله على ترك الإسلام: «يا ابن أخي، إنك منَّا حيث قد علمت من السِّطة {الشرف والمنزلة الرفيعة} في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمرٍ عظيمٍ فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به مَن مضى مِن آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها». فقال له رسول الله ﷺ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ». قال: «يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا؛ حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا {جعلناك سيدنا}؛ حتى لا نقطع أمراً دونك، وإنْ كنت تريد به مُلكاً ملَّكناك علينا، وإنْ كان هذا الذي يأتيك رِئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبْرِئك منه؛ فإنَّه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوى منه».
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله ﷺ يستمع منه قال: [أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟] قال: نعم. قال: [فَاسْمَعْ مِنِّي]. قال: أفعل. فقرأ ﷺ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم . تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ . وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾. ثم مضى رسول الله ﷺ فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله ﷺ إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: [قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْتَ وَذَاكَ]. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعضٍ: «نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به». فلما جلس إليهم قالوا: «ما وراءك يا أبا الوليد؟» قال: «ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشِّعْر ولا بالسِّحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني، واجعلوها بي، وخَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليَكُونَنَّ لقوله الذي سمعتُ منه نبأٌ عظيم، فإن تُصِبْهُ العرب فقد كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وعِزُّه عِزُّكُمْ، وكنتم أسعدَ الناس به». قالوا: «سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه!!». قال: «هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم».
وهذا الحوار في غاية الأهمية؛ فعلى الرغم أن عتبة بن ربيعة كان قد قدَّم كلامه بمجموعة من التُّهَم الموجَّهة لرسول الله ﷺ إلا أن رسول الله ظل على هدوء أعصابه، ولم ينفعل، إنما واصل الاستماع في أدبٍ واحترامٍ، مع أن عتبة عرض عليه التنازل عن دعوته مقابل ما يعرضه عليه من مغريات الدنيا، فقَبِلَ النبيُّ ﷺ أن يستمع إليه، بل قال له: [قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ]، فهو يُكَنِّيه بِكُنْيَتِهِ، أي يُناديه بأحب الأسماء إليه ويلاطفه ويرقِّق قلبه، ولما عرض عتبة بن ربيعة الأمور التي جاء بها لم يقاطعه النبي ﷺ مع سفاهة العروض وتفاهتها، بل إنه صبر حتى النهاية وأعطاه الفرصة كاملةً لكي يتكلم ويعرض وجهة نظره، وبعد انتهائه تماماً بدأ رسول الله في الكلام؛ ليضرب لنا بذلك أروع الأمثلة في (أدب الحوار) مع الآخرين، وإن كانوا مخالفين تماماً لنا في العقيدة والدين.

هذا كان دأبه ﷺ في حواراته مع الكبار، أما مع الشباب فالموقف التالي يبين ويوضح كيف كان الرسول يحاور الشباب؛ فهذا فتىً شابٌّ أتى النبيَّ ﷺ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: [ادْنُهْ]، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً. قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: [أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ]. قَالَ: [أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟] قَالَ: لَا. وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: [وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ]. قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ] فلم يكن بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. إنه حوارٌ هادئٌ يستند إلى المنطق، وينتهي بدعاءٍ طيبٍ استجاب له المولى عز وجل، حوارٌ لا يكون إلا من حليمٍ رؤوفٍ رحيم.

وحواراته ﷺ مع النساء كثيرةٌ، خاصةً مع زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ومن ذلك ما كان من لطفه ﷺ مع عائشة رضي الله عنها بالكلام ومداعبته لها، حيث قال مرةً: [إني لأعلم إذا كنت عنّي راضيةً، وإذا كنت عليّ غَضبى]. قالت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: [أما إذا كنتِ عني راضيةً فإنك تقولين: لا وربِّ محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا وربِّ إبراهيم]. قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك..
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بعضاً من أحاديث الرسول ﷺ وحواراته مع النساء ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ عندما كان يتحاور مع الصحابية خولة بنت ثعلبة.

أما (أدب الحوار) مع الأطفال فيظهر جلياً من خلال ما يرويه سهل بن سعد، رضي الله عنه، قال: "أُتي النبي ﷺ بقدح فشَرِب منه، وعن يمينه غلامٌ أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: [يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟]، قال: ما كنتُ لأوثر بفضلي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه". فالغلام جالسٌ عن يمين النبي، والشيوخ عن يساره، ومن السُّنة البدء باليمين، وأيضاً من المتعارف عليه احترام الكبار، وتقديمهم في كل شيءٍ، فاستأذن النبيُّ الغلامَ أن يبدأ بتقديم الماء للكبار؛ ولكن الغلام رفض أن يتنازل عن حقه، يريد أن يفوز بشرف الشرب من يد الرسول، فأعطاه النبي ﷺ الماء بادئاً به.
أي احترامٍ للحقوق هذا الذي وجهنا إليه ﷺ؛ فلا تجاوز لها إلا بإذن صاحبها وتنازلٍ منه برضىً وقناعة؟ وأيُّ أدبٍ في الحوار هذا الذي علمنا إياه نبينا الكريم؟ نعم إنه (أدب الحوار) في الإسلام.

أحبتي .. لسنا كبشر نعيش في جزرٍ منفصلةٍ متباعدين بعضنا عن بعضٍ، وإنما نعيش مجتمعين معاً جنباً إلى جنبٍ، تربط بيننا علاقات ومعاملات ومصالح يمثل الحوار جوهرها؛ فهو أداة التواصل بيننا، وهو ناقل الأفكار، وهو وسيلةٌ لا غنى عنها للتفاعل والتفاهم فلا تستقيم الحياة بدون حوار. ولقد حدد لنا ديننا الذي ارتضاه الله لنا (آداب الحوار) التي ينبغي أن نلتزم بها لنسعد في دنيانا، ولنكون أصحاب دعوةٍ لأعظم دينٍ لا تقوم على الكلام بقدر ما يكون سلوكنا هو الأساس فيها. دعونا ننشر قيم ديننا، فيعرف الناس الإسلام من أخلاقنا ومن آدابنا في كل مجال خاصةً فيما يتعلق بالحوار.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، واجعلنا اللهم من الراشدين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/o43P51

الجمعة، 20 أكتوبر 2017

مروءة بطل

الجمعة 20 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٥
(مروءة بطل)

إلى أي مدى تدنت أخلاق الناس؟ لماذا تغيرت إلى الأسوأ؟ وما هو السبيل للارتقاء بالأخلاق إلى ما يجب أن تكون عليه؟
هذه الأسئلة الثلاثة كانت محل حوارٍ في لقاءٍ عائليٍ ممتعٍ احتسينا خلاله الشاي مصحوباً بالكعك وقطعٍ من الحلوى اللذيذة، تبادلنا في هذا اللقاء، إخوةً وأخوات، الأفكار والخواطر حول أحوال الناس هذه الأيام.
انتهى حوارنا إلى أن أخلاق الناس في بلدنا قد وصلت إلى درجةٍ غير مسبوقةٍ من الهبوط والتدني والانحدار، فالناس، إلا من رحم ربي، قد أعمتهم المادة، وصارت معاملاتهم قائمةً على المنفعة، وأصبحت معظم علاقاتهم توزن بميزان المصالح. كما اتفقنا على أن ما وصلنا إليه راجعٌ بالأساس إلى البعد عن أخلاق الإسلام، وضعف التربية الأخلاقية، وتقصير الأسرة في دورها في تنشئة الأبناء تنشئةً صالحة، والضعف المتزايد لدور المدارس في ذلك، وانحراف وسائل الإعلام بل وابتعادها عن النهوض بالدور التربوي الذي ينبغي أن تكمل به دور كلٍ من الأسرة والمدرسة. وكان من المنطقي أن نخلص إلى أن لا فكاك مما نحن فيه إلا بالرجوع إلى أصل كل خُلقٍ قويم وإلى منبع كل قيمةٍ طيبةٍ وإلى المَعين الذي لا ينضب من التوجيهات التي ترشدنا إلى طريق الصواب وإلى سواء السبيل، وذلك بغرس وتعزيز الوازع الديني في نفوس النشء.

أحبتي .. يقول أهل العلم أن الإسلام جاء بتحصيل كل فضيلةٍ ونبذ كل رذيلةٍ، ومن أهم ما جاء به الإسلام لتمييز شخصية المسلم الأخلاق والآداب والعقائد والأحكام، حسبنا ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ]. وجِماع الأخلاق الإسلامية التي ينبغي أن نتحلى بها ويتحلى بها أبناؤنا في المروءة؛ فهي خلقٌ جليلٌ وأدبٌ رفيعٌ، وهي خُلَّةٌ كريمةٌ وخَصْلَةٌ شريفةٌ تحمل الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات. فالمروءة صدقٌ في اللسان، واحتمال للعثرات، وبذلٌ للمعروف، وكفٌ للأذى، وكمالٌ في الرجولة.
وهي خلقٌ من أخلاق الإسلام لها أثرٌ كريمٌ فى جلب المودة والألفة بين أبناء المجتمع، وهي شاهدٌ من أعمال أهل الفضل، ودعامةٌ من دعائم أهل العزائم القوية والأخلاق الندية، وهى مجمع الفضائل ورأس المكارم، وعنوان الشرف وأساس الاستقامة. وهي التحلي بكل خلقٍ حسن، والتخلي عن كل خلقٍ قبيح. تتطلب المروءة علو الهمة؛ فكلما علت الهمة ازدادت المروءة التي أساسها شرف النفس واستعفافها ونزاهتها. وفيها لذةٌ تفوق كل لذةٍ في هذه الحياة، رغم ما تحتاج إليه من صبر النفوس ومجاهدة الهوى. وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: [مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ، وَوَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ، فَهُوَ مَنْ كَمُلَتْ مُرُوءَتُهُ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ، وَحُرِّمَتْ غَيْبَتُهُ].
قيل لأحد العلماء: قد أكثر الناس في ذكر المروءة فَصِفْها لنا وأوجز. فقال: هي في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾..
وقيل لآخر: قد استنبطت من القرآن كل شيءٍ، فأين المروءة فيه؟ فقال: في قول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ ففيه المروءة، ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق.

لقد جاء الإسلام فأقر ما كانت عليه العرب من قيمٍ ومبادئ وأخلاقٍ حسنةٍ، ونهى عن السيئ منها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا]. وكان النبل وكانت المروءة من أفضل خصال وأحسن صفات العرب في الجاهلية فأبقى عليها الإسلام وأشاد بها وحث عليها؛ فما كان الفارس ليقاتل راجلاً، فإن عُقر حصانه، أو قُتل فرسه، فإن مبارزه يترجل من على صهوة جواده، فيقاتل خصمه راجلاً مثله، أو ينتظر حتى يأتي خصمه بفرسٍ أخرى، يمتطيها ويواصل القتال من على ظهرها، فالمبارزةُ نِدٌ لندٍ، وفارسٌ يواجه فارساً، وإلا فراجلٌ مقابل راجلٍ. أما إن كُسِرَ سيف المبارز، أو سقط من يد حامله؛ فإن منافسه ينتظر حتى يحمل خصمه سيفاً آخر، أو يلتقط سيفه من الأرض، ولا يبادره في هذه الحالة غدراً بضربةٍ من سيفه، أو طعنةٍ من رمحه، حتى وإن سقط على الأرض، فإنه ينتظر نهوضه، ويستعد لمبارزته من جديد، لينال شرف الانتصار عليه بقوة.

ومن أروع القصص الواقعية التي تُظهر مروءة الشخص المسلم في أجمل مظاهرها قصة بطل الجودو المصري محمد على رشوان الذي أدهش العالم بأخلاقه؛ كان ذلك في أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984م، فلحظة تحقيق حُلم الفوز بميداليةٍ ذهبيةٍ والصعود إلى منصة الشرف ورفع علم مصر كانت قد اقتربت، كانت هذه اللحظة تتويجاً لما عاش رشوان يحلم به ويعمل جاهداً من أجل الوصول إليه، فيما كان الأولمبياد قد أشرف على الانتهاء، ورشوان قد فاز على جميع منافسيه حتى وصل للمباراة النهائية أمام البطل الياباني ياسوهيرو ياماشيتا، وهو بطل العالم في الجودو آنذاك، وجدَ رشوان نفسه أمام منافسةٍ قويةٍ، لكنه عزم على الفوز. وقبل أن تبدأ المباراة، ومن غرفته التى كانت تسمح لهُ برؤية صالة التسخين، كانت المفاجأة التي لم يتوقعها أبداً، ولم تكن لتخطر على باله ولا في الخيال؛ فقد رأى رشوان ومدربه البطل الياباني وهو يُعالَج من إصابةٍ في قدمه وقطعٍ في رباط رُكبته اليمنى. أيقن مُدرب رشوان آنذاك أن فرصة الفوز بالبطولة جاءت لرشوان على طبقٍ من ذهب، لم يتحدّث رشوان وقتها، وخاض المباراة النهائية بنزاهةٍ، لم يستغل نقطة ضعف ياماشيتا ويضربه في قدمه المُصابة، وعندما أمره المدرب بتوجيه الضربات المتتالية في القدم المصابة، رفض رشوان، بل تراجع أمام خصمه وتركه يفوز بالمباراة، ليحصل البطل الياباني على الميدالية الذهبية والمركز الأول في البطولة ويحصل رشوان على الميدالية الفضية والمركز الثاني في البطولة. بعد انتهاء المباراة، حضرَ رشوان مؤتمراً صحفيّاً عادةً ما يُعقد للفائزين، وواجه اندهاش جميع الحاضرين من تراجع مستواه في تلك المباراة تحديداً وكأنّ شخصاً آخر هو من خاضها، حتى قام صحفيٌ يابانيٌ وسأل رشوان: «هل كُنت تعلم بإصابة ياماشيتا؟»، فرد عليه بنعم، وهو ما دفع الصحفي لسؤاله عن سر عدم استغلال إصابة البطل الياباني لصالحه، أجاب رشوان قائلاً: «لا ديني ولا أخلاقي تسمح لي بذلك». وبمُجرد أنّ انتهى رشوان من الإجابة، وقف الجميع إجلالاً واحتراماً له، لتخرج بعدها وسائل الإعلام العالمية تشيد بمحمد على رشوان وبأخلاقه الرفعية؛ حيث توقع كل من شاهد المباراة أن يستغل رشوان إصابة منافسة بضربه في ركبته المصابة إلا أن رشوان لم يفعل ذلك وتعمد الخسارة أمامه. أصدرت اليونسكو بياناً أشادت فيه بهذا البطل وامتدحت أخلاقه ومنحته جائزة اللعب النظيف عام 1985م. كما فاز بجائزة أحسن خلقٍ رياضيٍ في العالم من اللجنة الأولمبية الدولية للعدل ومقرها فرنسا.
أما الشعب الياباني فقد أصر على تكريمه في طوكيو فسافر رشوان إليها واستقبله عشرات الآلاف من اليابانيين وكبار المسئولين اليابانيين والرياضيين لأنه حافظ على صورة يامشيتا كبطلٍ رياضيٍ وقوميٍ عندهم.
لكن الجائزة الكبرى أتت من حيث لا يحتسب؛ فقد أعلن مئاتٌ من اليابانيين إسلامهم لجملةٍ عابرةٍ قالها رشوان وصارت عنواناً رئيسياً وهي: "ديني لا يسمح لي إلا بالخلق الحسن"، فأقبل اليابانيون على معرفة الإسلام واعتناقه.
هذه (مروءة بطل) دفعته إلى أن يخسر الميدالية الذهبية بشرفٍ عن أن يفوز بالمركز الأول بالخسة؛ فوضعه العالم في المكان الذي يستحقه.

قال الشاعر عن المروءة:
ويَهُزُّني ذكْرُ المروءةِ والندى
بين الشمائلِ هزةَ المشتاقِ
فإِذا رُزقتَ خَليقةً محمودةً
فقد اصطفاكَ مُقسِّمُ الأرزاقِ
والناسُ هذا حظُّه مالٌ
وذا علمٌ وذاكَ مكارمُ الأخلاقِ

أحبتي .. مَن يريد نصرة الإسلام، ومن يرغب في تقديمه في صورته الحقيقية، ومن يسعى إلى تصحيح الصورة الذهنية المغلوطة عنه، عليه أن ينصره بالأعمال لا بالأقوال، عليه أن يقتدي بأخلاق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي مدحه الله سبحانه وتعالى بقوله: :﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، عليه أن يتأسى به في أخلاقه وفي معاملاته مع الناس. وعلى كلٍ منا أن يقوم بعمله على أكمل وجه، ويراعي ضميره في كل تفاصيل حياته، عليه أن يكون نموذجاً للإسلام الحقيقي، فكل مسلمٍ يجب أن يكون سفيراً لدينه، قدوةً بأخلاقه وسلوكياته كما فعل بطل الجودو المصري محمد علي رشوان. يكفينا درساً أن (مروءة بطل) كانت سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجاً.

اللهم اجعلنا دعاةً للإسلام بأخلاقنا وأفعالنا وسلوكنا ومعاملاتنا، وأَعِنَّا على أن نحول الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ إلى واقعٍ يلمسه الجميع فيرون في كلٍ منا (مروءة بطل) تمشي على قدمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/qcDXZP

الجمعة، 13 أكتوبر 2017

مكر الله

الجمعة 13 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٤
(مكر الله)

كانت مناسبة الاحتفال بيوم عاشوراء منذ عدة أيام موضوع الحديث بيننا، ونحن عائدون من المسجد بعد صلاة العشاء، فقال أحدنا: "مناسبة هذا الاحتفال أنه ذكري اليوم الذي نجى الله سبحانه وتعالى نبيه موسى عليه السلام ومن آمن معه من الغرق وأغرق فرعون وجنوده"، قال الصديق معقباً: "صحيحٌ كلامك؛ فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ورأى اليهود تصوم يوم عاشوراء قال: [ما هذا؟] قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: [فأنا أحق بموسى منكم]، فصامه وأمر بصيامه". أما صديقنا الثالث فقال: "صدق الله العظيم؛ إذ يقول في كتابه الكريم: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، فهذا فرعون يقود جنوده ويطارد نبي الله موسى والمؤمنين الذين أسلموا معه ويمكر بهم فيضطرهم إلى التوجه نحو البحر موقناً بأن ليس بينه وبين التخلص منهم سوى وقتٍ قصيرٍ ومسافةٍ قريبةٍ يموتون بعدها إما غرقى في البحر أو قتلى برماح وسيوف جنوده. ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ ظن أصحاب موسى أنهم هالكون لا محالة: البحر من أمامهم وفرعون وجنوده من خلفهم. أما نبي الله فلم يساوره شكٌ في أن الله سوف يكون معه وأنه سيهديه؛ فقال لأصحابه بثقة: ﴿كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾؛ فأوحى الله سبحانه وتعالى لنبيه: ﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾، أصبح أمام موسى وأصحابه ممرٌ يابسٌ في البحر جفت مياهه وتجمد موجه شاهق العلو فصار وكأن جبلين عظيمين على جانبي هذا الممر، فسار موسى ومن معه، وأتبعهم فرعون وجنوده، لكنهم وبعد أن تقدموا جميعاً على نفس الممر، إذا بالبحر يرجع إلى طبيعته وإذا بأمواجه تبتلعهم، فيكون الموت الذي خطط له فرعون لأن يكون مصير موسى وأصحابه مآله هو ومآل قومه. إنه (مكر الله)".

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم عن معنى الآيةِ الكريمةِ ﴿ومكرُوا ومكَر اللهُ واللهُ خَيرُ الماكِرينَ﴾ أن (مكر الله) ليسَ بالمعنى الذي يُنسبُ المكرُ فيه إلى العَبد، المكرُ بالنّسبَة للعَبد نَقصٌ، أمّا (مكر الله) بالماكرين فهو دليلٌ على كمَال قُدرتِهِ سبحانه وتعالى على عباده؛ فهو يوصِلُ إليهمُ الضّررَ مِن حيثُ لا يَشعُرون. فمَكْرُ الإنسانِ أن يُحاولَ إيصَالَ الضّررِ إلى غيره بطريقةٍ خفِيّةٍ يحتاجُ فيها إلى استعمالِ بعضِ الحِيَل، أما (مكر الله) فهو إيصالُ الضّرر إلى مَن يشَاءُ من عبادِه مِن حيثُ لا يَعلَمُ ذلكَ العبدُ ولا يظنُّ ولا يَحتسِب. فمَكرُ العِبادِ مذمومٌ، أما (مكر الله) لا يُذَمُّ فهو ليس ظلماً وإنما هو من تمام العدل لأنه انتقامٌ منه سبحانه مِن عبادِه الظّالمين.
بعبارةٍ أخرى: مكر الإنسان يتمثل في إرادة الشر بالآخرين، وهو ظلمٌ لهم، اعتماداً على القوة والسلطان أو على الذكاء أو المال أو الجاه، وقد يكون بأن يُظهر الفرد الخير ويُبطن الشر ويحيك المؤامرات في الخفاء ليحصل على مكاسبَ وأطماعٍ دنيويةٍ دون وجه حق، وأما (مكر الله) فإنه يعني أن الله يُحق الحق ويُبطل الباطل ويستدرج الظلمة والعصاة ويملي لهم ثم يأخذهم بذنوبهم.
والقرآن الكريم قد حذر من هذا الخُلُق وبَيَّن صفات أصحابه وبَيَّن أن عاقبة مكرهم سيئةٌ ونهايتهم وخيمةٌ في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾. والمكر السيئ ظلمٌ للنفس وظلمٌ للآخرين ناتجٌ عن ضعف الإيمان وخبث النفس ودناءة الخلق، ويؤدي إلى انطماس البصيرة، وفساد العمل، وعقوبة صاحبه عاجلةٌ غير آجلةٍ قال تعالى: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ . وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ . فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾.

فهذا يوسف عليه السلام قد مكر به أخوته وخططوا لقتله ثم رموه في البئر، فكيف حفظه الله؟ ثم امرأة العزيز صاحبة المكانة والجاه والسلطان تراوده عن نفسه وتمكر له عند زوجها ومع صاحباتها، ويكون مكرها سبباً لدخوله السجن مظلوماً، ومكَرَ الله له فخرج معززاً مكرماً يحكم في الأرض وبيده خزائن الأموال وجاء أخوته يطلبون ويسألون ويستجدون، أين ذهب مكرهم؟ وأين خططهم وظلمهم لأخيهم؟ ذهبت وعادت عليهم وبالاً؛ فالله عز وجل يقول: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السيئ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾.

وكثيرٌ من آيات القرآن الكريم تحدثت عن قصص المكر السيئ، وبينت آثاره ونتائجه ليتعظ الناس ويعتبروا حتى لا يغتروا بقوتهم أو أموالهم ويظلموا غيرهم فيعرضوا أنفسهم لمكر الله وعقابه الذي وقع على مَن قبلهم.
لقد اقتضَتْ حكمة الله تعالى أنْ جعل في هذه الدُّنيا خيراً وشرّاً، وحقّاً وباطلاً، ولا رادَّ لحِكمته، وجعل في كلِّ زمانٍ ومكانٍ أناساً يعيثون في الأرض الفساد، وينشرون الرذيلة، ويُحاربون الفضيلة، ويظلمون غيرهم، وابتلى بعض الناس ببعض؛ ليمحص الله عباده: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، والأكابر هم أصحاب النفوذ والجاه والمال والسلطان الذين فسدت حياتهم وساءت أخلاقهم وتملك حب الدنيا من قلوبهم ونسوا فضل الله ونعمه عليهم خوفاً على نفوذهم ومكانتهم ومصالحهم وأطماعهم فهم أكثر الناس مكراً وأكثرهم جرأةً على ذلك.

وحتى لا يظن البعض أن المكر السيء لا يقوم به إلا أصحاب النفوذ والجاه والمال والسلطان دون غيرهم من الناس، أسوق لكم القصة الواقعية التالية التي تبين أن بعض الأفراد يعميهم الطمع فيطمس فطرتهم الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، ويمكرون بغيرهم من الناس، خاصةً الضعاف منهم، فيظلمونهم، وهم في الحقيقة يظلمون أنفسهم.
يُحكى أن عجوزاً فرنسية اسمها أوجيني بلانشار، كانت أرملةً بلغت من العمر تسعين عاماً، ولم يبقَ أحدٌ من العائلة غيرها. كانت تعيش في شقةٍ في منطقةٍ حيويةٍ في وسط باريس، وكان ذلك في عام ١٩٦٥م، ولم تجد أحداً يعيلها ويصرف عليها، كما أنها لا تستطيع العمل، وكان لها دخلٌ قليلٌ جداً لا يكفيها.
لاحظ أحد المحامين ذلك فأراد استغلال الوضع لصالحه؛ فمكر بها وعرض عليها أن يدفع لها مبلغ ألفين وخمسمائة فرنك فرنسي شهرياً طيلة حياتها مقابل أن تعطيه الشقة بعد مماتها. وافقت العجوز من دون تردد ٍخصوصاً بعد أن وضع المحامي ضماناتٍ لها أنه لن يتراجع عن ذلك العقد ولا يمكن لأي طرفٍ إلغاؤه. اعتقد المحامي أن امرأةً في هذه السن لن تعيش لأكثر من سنتين أو ثلاث، وهو بذلك سيحصل على الشقة بسعرٍ زهيدٍ، لكن ما حدث كان غير ذلك تماماً فقد عاشت العجوز حتى بلغ سنها المائة وأربع عشر، ومات المحامي قبلها بسنواتٍ بسبب مرض السرطان، أما هي فقد عاشت واحتفظت بالشقة بعد أن دفع المحامي طيلة ثلاثين عاماً أضعاف قيمة الشقة ولم يحصل على شيءٍ في النهاية.
سبحان الله قد يظن الإنسان أحياناً أنه أطول عمراً من غيره وأنه قد يستفيد من غيره بالمكر والحيلة لكنه لا يدري أن الله علم بمكره فمكر له؛ سَخَّر الله هذا المحامي الماكر لتعيش هذه المرأة على حسابه ويموت هو بحسرته. فسبحان من سَخّر لها إنساناً ينفق عليها حتى يموت هو وتعيش محتفظةً بشقتها!

وهذه قصةٌ أخرى توضح مكر واحدٍ من الناس أراد أن يهرب من قصاصٍ مستحقٍ، وتُبين طمع فردٍ آخر، وكيف كانت عاقبة كلٍ من المكر والطمع!
فقد أُدين رجلٌ وحُكم عليه بالإعدام قصاصاً لجريمة قتلٍ قام بها، وأُودع في سجنٍ بجزيرةٍ نائيةٍ، كان ذلك الرجل غنياً واسع الثراء فقرر رشوة حارس السجن ليقوم بتهريبه من هذا السجن بأية طريقة وأي ثمن!  أخبره الحارس أن الحراسة مشددةٌ جداً وأنه لا يغادر الجزيرة أحدٌ إلا في حالةٍ واحدة، هي الموت! لكن إغراء الملايين الموعودة جعل حارس السجن يبتدع طريقةً غريبةً للهرب، وأخبر المليونير السجين بها فقال له: "الشيء الوحيد الذي يخرج من جزيرة السجن بلا حراسةٍ هي توابيت الموتى، يضعونها على سفينةٍ، وتُنقل مع بعض الحراس إلى اليابسة ليتم دفنها بالمقابر هناك بسرعةٍ وبطقوس بسيطةٍ ثم يرجعون، تُنقل التوابيت يومياً في العاشرة صباحاً في حالة وجود موتى، فيكون الحل الوحيد هو أن تُلقي بنفسك في أحد هذه التوابيت مع الميت الذي بداخل التابوت وحين تصل اليابسة ويتم دفن التابوت سآخذ هذا اليوم إجازةً طارئةً وآتي بعد نصف ساعةٍ لإخراجك، بعدها تعطيني ما اتفقنا عليه، وأرجع أنا للسجن وتختفي أنت، ويظل اختفاؤك لغزاً، ما رأيك؟".
فكر السجين الغني في الخطة فوجد فيها مجازفةً مجنونةً، لكنها تظل أفضل من الإعدام بالكرسي الكهربائي! فوافق، واتفقا على أن يتسلل لدار التوابيت في اليوم التالي فإذا وجد به تابوتاً واحداً يرمي نفسه فيه، وإن وجد أكثر من تابوت يرمي نفسه في أول واحدٍ منها من جهة اليسار، هذا إن كان محظوظاً وحدثت حالة وفاة! في اليوم التالي، ومع فسحة المساجين الاعتيادية، توجه السجين إلى دار التوابيت فوجد من حسن حظه تابوتين. أصابه الهلع من فكرة الرقود فوق ميتٍ لمدة ساعةٍ تقريباً، لكن غريزة البقاء جعلته يفتح التابوت الذي من جهة اليسار ويرمي نفسه مغمضاً عينيه حتى لا يُصاب بالرعب. أُغلق التابوت بإحكامٍ ثم سمع السجين صوت الحراس يهمون بنقل التوابيت لسطح السفينة، شم رائحة البحر وهو في التابوت وأحس بحركة السفينة فوق الماء، حتى وصلوا اليابسة، ثم شعر بحركة التابوت وتعليق أحد الحراس على ثقل هذا الميت، شعر بتوترٍ تلاشى عندما سمع الحارس الآخر يطلق سبابه ويتحدث عن هؤلاء المساجين ذوي السمنة الزائدة؛ فارتاح قليلاً، وها هو الآن يشعر بنزول التابوت وصوت الرمال تتبعثر على غطائه، وبدأت ثرثرة الحراس تخفت شيئاً فشيئاً. هو الآن وحيدٌ مدفونٌ على عمق ثلاثة أمتار مع جثة رجلٍ غريبٍ في ظلامٍ حالكٍ. أصبح تنفسه يزداد صعوبةً مع كل دقيقةٍ تمر. لا بأس، فهو يثق بحب الحارس للملايين الموعودة. انتظر، حاول السيطرة على تنفسه حتى لا يستهلك الأوكسجين بسرعة؛ فأمامه نصف ساعةٍ تقريباً قبل أن يأتي الحارس لإخراجه بعد أن تهدأ الأمور. بعد عشرين دقيقة تقريباً بدأت أنفاسه تتسارع وشعر بأن صدره يضيق كما أن الحرارة خانقةٌ لا تُحتمل، لكن لا بأس، عشرة دقائق تقريباً، بعدها سيتنفس الحرية ويرى النور مرة أخرى. بعد لحظاتٍ قليلةٍ بدأ يسعل، ومرت عشر دقائق أخرى. الأوكسجين على وشك النفاد، والحارس لم يأتِ بعد. سمع صوتاً بعيداً جداً .. تسارع نبضه .. اقترب الصوت .. لا بد أنه الحارس قد وصل أخيراً .. ! لكن الصوت تلاشى .. شعر بنوبةٍ من الهستيريا تجتاحه .. تُرى هل تحركت الجثة؟ صور له خياله أن الميت يبتسم بسخريةٍ، تذكر أنه يمتلك ولاعةً في جيبه .. ربما الوقت لم يحن بعد، ورعبه هو الذي هيأ له أن الوقت قد مرّ بسرعة .. أخرج الولاعة ليتأكد من الوقت في ساعة يده .. لابد أنه لا يزال هناك وقت .. قدح الولاعة وخرج بعض النور رغم قلة الأوكسجين .. قرب الشعلة من الساعة، لقد مرت أكثر من خمسٍ وأربعين دقيقة .. شعر بالرعب والهلع، وقبل أن يطفئ الولاعة وقع بصره على وجه الميت .. التفت برعبٍ وقرب القداحة ليرى آخر ما كان يتوقعه في حياته .. رأى وجه الحارس ذاته .. ! الوحيد الذي يعلم أنهُ هنا .. في تابوتٍ تحت الأرض بثلاثة أمتار!

أحبتي .. فلنحسن العمل ونقوم بواجباتنا ومسئولياتنا تجاه ديننا ومجتمعاتنا وأوطاننا، ونعمل على بذر الخير ونشر ثقافة التسامح والعفو، وندعو بأفعالنا وأقوالنا وسلوكياتنا إلى التآلف والأخوة والتعاون، ولنحفظ دماءنا وأموالنا وأعراضنا؛ فنأمر بالمعروف وننهي عن المنكر ونقول كلمة الحق وننصر المظلوم ونأخذ على يد الظالم حتى يرتدع ويكف عن ظلمه، وننتصر للمظلومين والمستضعفين، ولنتق (مكر الله) الذي لا يصيبن الذين مكروا وظلموا خاصةً بل يشمل ﴿قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ كما تشير الآية الكريمة.

اللهم لا تجعلنا من الماكرين الظالمين، ولا من المناصرين لهم، ولا من الساكتين عنهم .. ولا تجعلنا اللهم من الخاسرين الذين يأمنون مكرك؛ قال تعالى: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، ولا تجعلنا اللهم من الذين أجرموا بالمكر والظلم فيصيبنا منك عذابٌ شديد مصداق قولك سبحانك: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾، وقولك: ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/fuomDi

الجمعة، 6 أكتوبر 2017

صنائع المعروف

الجمعة 6 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٣
(صنائع المعروف)

من أغرب القصص الواقعية التي اطلعت عليها هذه القصة التي وقعت أحداثها في بريطانيا حيث كان حفلٌ أقامته نقابة الأطباء سنة 1920م لتخريج دفعةٍ من أطباء جدد، قد ضمّ رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الحين، وتقدم نقيب الأطباء لإلقاء النصائح الواجبة للخريجين الجدد؛ فقال في كلمته: "طرقَتْ بابي بعد منتصف ليلةٍ عاصفةٍ سيدةٌ عجوزٌ، وقالت: الحقني يا دكتور، طفلي مريضٌ وفي حالةٍ خطيرةٍ جداً أرجوك افعل أي شيء لإنقاذه، فأسرعْتُ غير مبالٍ بالزوابع العاصفة والبرد الشديد والمطر الغزير، حيث كان منزلها في إحدى ضواحي لندن، وبعد رحلةٍ شاقةٍ وصلنا المنزل، فوجدتُها تعيش في غرفةٍ صغيرةٍ هي وابنها، ووجدت الطفل في زاويةٍ من الغرفة وهو يئن ويتألم بشدة". وتابع نقيب الأطباء: "بعد أن أديتُ واجبي نحو الطفل المريض ناولتني الأم كيساً صغيراً فيه نقود، فرفضت أن آخذ الكيس، ورددته إليها بلطفٍ معتذراً، وتعهدت الطفل حتى مَنّ الله عليه بالشفاء". ومضى نقيب الأطباء يقول: "هذه هي مهنة الطب، إنها أقرب المهن إلى الرحمة، بل ومن أقرب المهن إلى الله".
ما كاد نقيب الأطباء ينهي كلمته حتى قفز رئيس الوزراء من مقعده واتجه إلى منصة الخطابة وقال: "اسمح لي سيدي النقيب أن أقبل يدك!  .. منذ عشرين عاماً وأنا أبحث عنك! فأنا ذلك الطفل الذي ذكرته في حديثك الآن، فلتسعد أمي الآن وتهنأ فقد كانت وصيتها الوحيدة لي هي أن أعثر عليك لأكافئك على ما أحسنت به علينا في فقرنا فأنقذت حياتي".
والطفل الفقير الذي أصبح رئيس وزراء إنجلترا كان ديفيد لويد جورج الذي شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا للفترة 1916 - 1922م إبان الحرب العالمية الأولى حيث قاد بلاده إلى النصر على الألمان.

وقصةٌ ثانيةٌ، واقعيةٌ هي الأخرى، حدثت في بريطانيا كذلك، وبالتحديد في اسكتلندا، ولا تقل غرابةً عن القصة الأولى؛ حيث كان يعيش فلاحٌ فقيرٌ يدعى فلمنج، كان يعاني من ضيق ذات اليد والفقر المدقع، لم يكن يشكو أو يتذمر لكنه كان خائفـاً على ابنه، فلذة كبده، فهو قد استطاع تحمل شظف العيش ولكن ماذا عن ابنه؟ وهو مازال صغيراً والحياة ليست سهلةً، إنها محفوفةٌ بالمخاطر، كيف سيكون مستقبله يا ترى؟
ذات يومٍ وبينما كان فلمنج يتجول في أحد المراعي، سمع صوت كلبٍ ينبح نباحاً مستمراً، فذهب بسرعةٍ ناحية الكلب فوجد طفلاً يغوص في بركةٍ من الوحل وعلى محياه الرقيق ترتسم علامات الرعب والفزع، يصرخ بصوتٍ غير مسموعٍ من هول الرعب.
لم يفكر فلمنج، بل قفز بملابسه في بحيرة الوحل، أمسك بالصبي، أخرجه، وأنقذ حياته. في اليوم التالي، جاء رجلٌ تبدو عليه علامات النعمة والثراء في عربةٍ مزركشةٍ تجرها خيولٌ مطهمةٌ ومعه حارسان، اندهش فلمنج من زيارة هذا اللورد الثري له في بيته الحقير، لكنه أدرك إنه والد الصبي الذي أنقذه من الموت. قال اللورد الثري: "لو ظللتُ أشكرك طوال حياتي، فلن أوفي لك حقك، أنا مدينٌ لك بحياة ابني، اطلب ما شئت من أموالٍ أو مجوهراتٍ أو ما يقر عينك"، أجاب فلمنج: "سيدي اللورد، أنا لم أفعل سوى ما يمليه عليّ ضميري، وأي فلاحٍ مثلي كان سيفعل مثلما فعلت، فابنك هذا مثل ابني والموقف الذي تعرض له كان من الممكن أن يتعرض له ابني أيضاً"، أجاب اللورد الثري: "حسنـاً، طالما تعتبر ابني مثل ابنك، فأنا سآخذ ابنك وأتولى مصاريف تعليمه حتى يصير رجلاً متعلماً نافعاً لبلاده وقومه". طار فلمنج من السعادة؛ أخيراً سيتعلم ابنه في مدارس العظماء. وبالفعل تخرج فلمنج الصغير من مدرسة سانت ماري للعلوم الطبية، وأصبح الصبي الصغير رجلاً متعلماً بل عالماً كبيراً .. نعم؛ فذاك الصبي هو نفسه السير ألكسندر فلمنج 1881 ــ 1955م، مكتشف البنسلين في عام 1929م، أول مضادٍ حيويٍ عرفته البشرية على الإطلاق، ويعود له الفضل في القضاء على معظم الأمراض الميكروبية. كما حصل ألكسندر فلمنج على جائزة نوبل في عام 1945م.
لم تنته القصة بعد؛ بل حينما مرض ابن اللورد الثري بالتهابٍ رئويٍ، كان البنسلين هو الذي أنقذ حياته.
لكن من يا تُرى ابن الرجل الثري الذي أنقذ فلمنج الأب حياته مرةً وأنقذ ألكسندر فلمنج الابن حياته مرةً ثانيةً بفضل البنسلين؟ إنه رجلٌ شهيرٌ للغاية؛ فالثري يُدعى اللورد راندولف تشرشل، وابنه يُدعى ونستون تشرشل، أعظم رئيس وزراء بريطاني على مر العصور، الرجل الذي قاد الحرب ضد هتلر النازي أيام الحرب العالمية الثانية 1939 ــ 1945م، ويعود له الفضل في انتصار قوات الحلفاء: انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي على قوات المحور: ألمانيا واليابان.

سبحان الله، كأن التاريخ يعيد نفسه؛ فتقع أحداث القصتين في نفس الدولة،
ويكون طرفاها رئيسي وزراء هذه الدولة، ويكون كلاهما قد تم إنقاذه وهو صغير، ثم يكون لكليهما دور القائد المنتصر في حربٍ، ليست عاديةً، وإنما حربٌ عالمية!

أحبتي في الله .. أهم ما نستفيده من هاتين القصتين أن (صنائع المعروف) لا تضيع أبداً .. إنها عمل الخير بكل أشكاله، صغيراً كان أو كبيراً، مع فقيرٍ أو غني، في وقت شدةٍ أو رخاء، مع من نعرفه أو من لا نعرفه .. هكذا هو عمل الخير الذي نبتغي به وجه الله سبحانه وتعالى، نفعله ولا ننتظر مقابله شيئاً .. إنه نوعٌ من العبادة يغفل عنه الكثير من الناس؛ فكثيرٌ منا يطلق معنى العبادة على ما يتعلق بحقوق الله فحسب، ويغفل عن بابٍ آخر عظيم، وهو حسن المعاملة مع العباد والإحسان إليهم، إنه  (صنائع المعروف).
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾، فقوله ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ أمرٌ يشمل كل خيرٍ. وقال تعالى: ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، وقال سبحانه:﴿وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلمٍ أو تكشف عنه كربةً أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً (في مسجد الرسول بالمدينة المنورة) ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشي مع أخيه في حاجةٍ حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام].
كما قال عليه الصلاة والسلام: [إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه].
وقال صلى الله عليه وسلم: [كل معروفٍ صدقة]، وفي رواية: [كل معروفٍ صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك].
وقال عليه الصلاة والسلام: [إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وإن صلة الرحم تزيد في العمر وتقي الفقر، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنزٌ من كنوز الجنة وإن فيها شفاءٌ من تسعةٍ وتسعين داءً ـ أدناها الهم]، وفي رواية: [صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادةٌ في العمر، وكل معروفٍ صدقةٌ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف].

و(صنائع المعروف) لا تتم إلا بصانعٍ لها، ولله در الشاعر حين وصف صانع المعروف معن ابن زائدة، وكان شديد الكرم، بأبياتٍ بليغةٍ قال فيها:
يقولون معنٌ لا زكاةَ لمالِه
وكيف يُزكي المالَ مَنْ هو باذلُه
إذا حالَ حولٌ لم يكن في ديارِه
من المالِ إلا ذكرُه وجمائلُه
تراه - إذا ما جئتَه - متهللاً
كأنك تُعطيه الذي أنت آملُه
هو البحرُ من أيِ النواحي أتيتَه
فلجتُه المعروفُ والبِرُ ساحلُه
تَعَوَّدَ بسطُ الكفِ حتى لو أنه
أرادَ انقباضاً لم تُطِعُه أناملُه
فلو لم يكن في كفِه غيرُ نفسِه
لجادَ بها فليتقِ اللهَ سائلُه

أحبتي .. فلنكثر من (صنائع المعروف) ما استطعنا، ولا نستصغر منها شيئاً؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا]، وقال صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا النَّارَ وَلوْ بِشقِّ تَمْرةٍ]. فلنكثر من الصدقات وإن صَغُرت فأقل منها الحرمان، ومن بر الوالدين، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، والإحسان إلى الناس، وتقديم العون للمحتاجين، ومساعدة الغير، والتبرع بالمال والوقت والجهد والعلم، وعمل الخير بصفة عامة.
ثم علينا أن نشكر من أسدوا لنا معروفاً ونكافئهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ].
 قال تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. اللهم أعنا على فعل الخير، وقنا شُح أنفسنا، واجعلنا اللهم من عبادك المفلحين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/CUSg74