الجمعة، 20 أكتوبر 2017

مروءة بطل

الجمعة 20 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٥
(مروءة بطل)

إلى أي مدى تدنت أخلاق الناس؟ لماذا تغيرت إلى الأسوأ؟ وما هو السبيل للارتقاء بالأخلاق إلى ما يجب أن تكون عليه؟
هذه الأسئلة الثلاثة كانت محل حوارٍ في لقاءٍ عائليٍ ممتعٍ احتسينا خلاله الشاي مصحوباً بالكعك وقطعٍ من الحلوى اللذيذة، تبادلنا في هذا اللقاء، إخوةً وأخوات، الأفكار والخواطر حول أحوال الناس هذه الأيام.
انتهى حوارنا إلى أن أخلاق الناس في بلدنا قد وصلت إلى درجةٍ غير مسبوقةٍ من الهبوط والتدني والانحدار، فالناس، إلا من رحم ربي، قد أعمتهم المادة، وصارت معاملاتهم قائمةً على المنفعة، وأصبحت معظم علاقاتهم توزن بميزان المصالح. كما اتفقنا على أن ما وصلنا إليه راجعٌ بالأساس إلى البعد عن أخلاق الإسلام، وضعف التربية الأخلاقية، وتقصير الأسرة في دورها في تنشئة الأبناء تنشئةً صالحة، والضعف المتزايد لدور المدارس في ذلك، وانحراف وسائل الإعلام بل وابتعادها عن النهوض بالدور التربوي الذي ينبغي أن تكمل به دور كلٍ من الأسرة والمدرسة. وكان من المنطقي أن نخلص إلى أن لا فكاك مما نحن فيه إلا بالرجوع إلى أصل كل خُلقٍ قويم وإلى منبع كل قيمةٍ طيبةٍ وإلى المَعين الذي لا ينضب من التوجيهات التي ترشدنا إلى طريق الصواب وإلى سواء السبيل، وذلك بغرس وتعزيز الوازع الديني في نفوس النشء.

أحبتي .. يقول أهل العلم أن الإسلام جاء بتحصيل كل فضيلةٍ ونبذ كل رذيلةٍ، ومن أهم ما جاء به الإسلام لتمييز شخصية المسلم الأخلاق والآداب والعقائد والأحكام، حسبنا ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ]. وجِماع الأخلاق الإسلامية التي ينبغي أن نتحلى بها ويتحلى بها أبناؤنا في المروءة؛ فهي خلقٌ جليلٌ وأدبٌ رفيعٌ، وهي خُلَّةٌ كريمةٌ وخَصْلَةٌ شريفةٌ تحمل الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات. فالمروءة صدقٌ في اللسان، واحتمال للعثرات، وبذلٌ للمعروف، وكفٌ للأذى، وكمالٌ في الرجولة.
وهي خلقٌ من أخلاق الإسلام لها أثرٌ كريمٌ فى جلب المودة والألفة بين أبناء المجتمع، وهي شاهدٌ من أعمال أهل الفضل، ودعامةٌ من دعائم أهل العزائم القوية والأخلاق الندية، وهى مجمع الفضائل ورأس المكارم، وعنوان الشرف وأساس الاستقامة. وهي التحلي بكل خلقٍ حسن، والتخلي عن كل خلقٍ قبيح. تتطلب المروءة علو الهمة؛ فكلما علت الهمة ازدادت المروءة التي أساسها شرف النفس واستعفافها ونزاهتها. وفيها لذةٌ تفوق كل لذةٍ في هذه الحياة، رغم ما تحتاج إليه من صبر النفوس ومجاهدة الهوى. وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: [مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ، وَوَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ، فَهُوَ مَنْ كَمُلَتْ مُرُوءَتُهُ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ، وَحُرِّمَتْ غَيْبَتُهُ].
قيل لأحد العلماء: قد أكثر الناس في ذكر المروءة فَصِفْها لنا وأوجز. فقال: هي في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾..
وقيل لآخر: قد استنبطت من القرآن كل شيءٍ، فأين المروءة فيه؟ فقال: في قول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ ففيه المروءة، ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق.

لقد جاء الإسلام فأقر ما كانت عليه العرب من قيمٍ ومبادئ وأخلاقٍ حسنةٍ، ونهى عن السيئ منها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا]. وكان النبل وكانت المروءة من أفضل خصال وأحسن صفات العرب في الجاهلية فأبقى عليها الإسلام وأشاد بها وحث عليها؛ فما كان الفارس ليقاتل راجلاً، فإن عُقر حصانه، أو قُتل فرسه، فإن مبارزه يترجل من على صهوة جواده، فيقاتل خصمه راجلاً مثله، أو ينتظر حتى يأتي خصمه بفرسٍ أخرى، يمتطيها ويواصل القتال من على ظهرها، فالمبارزةُ نِدٌ لندٍ، وفارسٌ يواجه فارساً، وإلا فراجلٌ مقابل راجلٍ. أما إن كُسِرَ سيف المبارز، أو سقط من يد حامله؛ فإن منافسه ينتظر حتى يحمل خصمه سيفاً آخر، أو يلتقط سيفه من الأرض، ولا يبادره في هذه الحالة غدراً بضربةٍ من سيفه، أو طعنةٍ من رمحه، حتى وإن سقط على الأرض، فإنه ينتظر نهوضه، ويستعد لمبارزته من جديد، لينال شرف الانتصار عليه بقوة.

ومن أروع القصص الواقعية التي تُظهر مروءة الشخص المسلم في أجمل مظاهرها قصة بطل الجودو المصري محمد على رشوان الذي أدهش العالم بأخلاقه؛ كان ذلك في أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984م، فلحظة تحقيق حُلم الفوز بميداليةٍ ذهبيةٍ والصعود إلى منصة الشرف ورفع علم مصر كانت قد اقتربت، كانت هذه اللحظة تتويجاً لما عاش رشوان يحلم به ويعمل جاهداً من أجل الوصول إليه، فيما كان الأولمبياد قد أشرف على الانتهاء، ورشوان قد فاز على جميع منافسيه حتى وصل للمباراة النهائية أمام البطل الياباني ياسوهيرو ياماشيتا، وهو بطل العالم في الجودو آنذاك، وجدَ رشوان نفسه أمام منافسةٍ قويةٍ، لكنه عزم على الفوز. وقبل أن تبدأ المباراة، ومن غرفته التى كانت تسمح لهُ برؤية صالة التسخين، كانت المفاجأة التي لم يتوقعها أبداً، ولم تكن لتخطر على باله ولا في الخيال؛ فقد رأى رشوان ومدربه البطل الياباني وهو يُعالَج من إصابةٍ في قدمه وقطعٍ في رباط رُكبته اليمنى. أيقن مُدرب رشوان آنذاك أن فرصة الفوز بالبطولة جاءت لرشوان على طبقٍ من ذهب، لم يتحدّث رشوان وقتها، وخاض المباراة النهائية بنزاهةٍ، لم يستغل نقطة ضعف ياماشيتا ويضربه في قدمه المُصابة، وعندما أمره المدرب بتوجيه الضربات المتتالية في القدم المصابة، رفض رشوان، بل تراجع أمام خصمه وتركه يفوز بالمباراة، ليحصل البطل الياباني على الميدالية الذهبية والمركز الأول في البطولة ويحصل رشوان على الميدالية الفضية والمركز الثاني في البطولة. بعد انتهاء المباراة، حضرَ رشوان مؤتمراً صحفيّاً عادةً ما يُعقد للفائزين، وواجه اندهاش جميع الحاضرين من تراجع مستواه في تلك المباراة تحديداً وكأنّ شخصاً آخر هو من خاضها، حتى قام صحفيٌ يابانيٌ وسأل رشوان: «هل كُنت تعلم بإصابة ياماشيتا؟»، فرد عليه بنعم، وهو ما دفع الصحفي لسؤاله عن سر عدم استغلال إصابة البطل الياباني لصالحه، أجاب رشوان قائلاً: «لا ديني ولا أخلاقي تسمح لي بذلك». وبمُجرد أنّ انتهى رشوان من الإجابة، وقف الجميع إجلالاً واحتراماً له، لتخرج بعدها وسائل الإعلام العالمية تشيد بمحمد على رشوان وبأخلاقه الرفعية؛ حيث توقع كل من شاهد المباراة أن يستغل رشوان إصابة منافسة بضربه في ركبته المصابة إلا أن رشوان لم يفعل ذلك وتعمد الخسارة أمامه. أصدرت اليونسكو بياناً أشادت فيه بهذا البطل وامتدحت أخلاقه ومنحته جائزة اللعب النظيف عام 1985م. كما فاز بجائزة أحسن خلقٍ رياضيٍ في العالم من اللجنة الأولمبية الدولية للعدل ومقرها فرنسا.
أما الشعب الياباني فقد أصر على تكريمه في طوكيو فسافر رشوان إليها واستقبله عشرات الآلاف من اليابانيين وكبار المسئولين اليابانيين والرياضيين لأنه حافظ على صورة يامشيتا كبطلٍ رياضيٍ وقوميٍ عندهم.
لكن الجائزة الكبرى أتت من حيث لا يحتسب؛ فقد أعلن مئاتٌ من اليابانيين إسلامهم لجملةٍ عابرةٍ قالها رشوان وصارت عنواناً رئيسياً وهي: "ديني لا يسمح لي إلا بالخلق الحسن"، فأقبل اليابانيون على معرفة الإسلام واعتناقه.
هذه (مروءة بطل) دفعته إلى أن يخسر الميدالية الذهبية بشرفٍ عن أن يفوز بالمركز الأول بالخسة؛ فوضعه العالم في المكان الذي يستحقه.

قال الشاعر عن المروءة:
ويَهُزُّني ذكْرُ المروءةِ والندى
بين الشمائلِ هزةَ المشتاقِ
فإِذا رُزقتَ خَليقةً محمودةً
فقد اصطفاكَ مُقسِّمُ الأرزاقِ
والناسُ هذا حظُّه مالٌ
وذا علمٌ وذاكَ مكارمُ الأخلاقِ

أحبتي .. مَن يريد نصرة الإسلام، ومن يرغب في تقديمه في صورته الحقيقية، ومن يسعى إلى تصحيح الصورة الذهنية المغلوطة عنه، عليه أن ينصره بالأعمال لا بالأقوال، عليه أن يقتدي بأخلاق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي مدحه الله سبحانه وتعالى بقوله: :﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، عليه أن يتأسى به في أخلاقه وفي معاملاته مع الناس. وعلى كلٍ منا أن يقوم بعمله على أكمل وجه، ويراعي ضميره في كل تفاصيل حياته، عليه أن يكون نموذجاً للإسلام الحقيقي، فكل مسلمٍ يجب أن يكون سفيراً لدينه، قدوةً بأخلاقه وسلوكياته كما فعل بطل الجودو المصري محمد علي رشوان. يكفينا درساً أن (مروءة بطل) كانت سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجاً.

اللهم اجعلنا دعاةً للإسلام بأخلاقنا وأفعالنا وسلوكنا ومعاملاتنا، وأَعِنَّا على أن نحول الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ إلى واقعٍ يلمسه الجميع فيرون في كلٍ منا (مروءة بطل) تمشي على قدمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/qcDXZP

الجمعة، 13 أكتوبر 2017

مكر الله

الجمعة 13 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٤
(مكر الله)

كانت مناسبة الاحتفال بيوم عاشوراء منذ عدة أيام موضوع الحديث بيننا، ونحن عائدون من المسجد بعد صلاة العشاء، فقال أحدنا: "مناسبة هذا الاحتفال أنه ذكري اليوم الذي نجى الله سبحانه وتعالى نبيه موسى عليه السلام ومن آمن معه من الغرق وأغرق فرعون وجنوده"، قال الصديق معقباً: "صحيحٌ كلامك؛ فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ورأى اليهود تصوم يوم عاشوراء قال: [ما هذا؟] قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: [فأنا أحق بموسى منكم]، فصامه وأمر بصيامه". أما صديقنا الثالث فقال: "صدق الله العظيم؛ إذ يقول في كتابه الكريم: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، فهذا فرعون يقود جنوده ويطارد نبي الله موسى والمؤمنين الذين أسلموا معه ويمكر بهم فيضطرهم إلى التوجه نحو البحر موقناً بأن ليس بينه وبين التخلص منهم سوى وقتٍ قصيرٍ ومسافةٍ قريبةٍ يموتون بعدها إما غرقى في البحر أو قتلى برماح وسيوف جنوده. ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ ظن أصحاب موسى أنهم هالكون لا محالة: البحر من أمامهم وفرعون وجنوده من خلفهم. أما نبي الله فلم يساوره شكٌ في أن الله سوف يكون معه وأنه سيهديه؛ فقال لأصحابه بثقة: ﴿كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾؛ فأوحى الله سبحانه وتعالى لنبيه: ﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾، أصبح أمام موسى وأصحابه ممرٌ يابسٌ في البحر جفت مياهه وتجمد موجه شاهق العلو فصار وكأن جبلين عظيمين على جانبي هذا الممر، فسار موسى ومن معه، وأتبعهم فرعون وجنوده، لكنهم وبعد أن تقدموا جميعاً على نفس الممر، إذا بالبحر يرجع إلى طبيعته وإذا بأمواجه تبتلعهم، فيكون الموت الذي خطط له فرعون لأن يكون مصير موسى وأصحابه مآله هو ومآل قومه. إنه (مكر الله)".

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم عن معنى الآيةِ الكريمةِ ﴿ومكرُوا ومكَر اللهُ واللهُ خَيرُ الماكِرينَ﴾ أن (مكر الله) ليسَ بالمعنى الذي يُنسبُ المكرُ فيه إلى العَبد، المكرُ بالنّسبَة للعَبد نَقصٌ، أمّا (مكر الله) بالماكرين فهو دليلٌ على كمَال قُدرتِهِ سبحانه وتعالى على عباده؛ فهو يوصِلُ إليهمُ الضّررَ مِن حيثُ لا يَشعُرون. فمَكْرُ الإنسانِ أن يُحاولَ إيصَالَ الضّررِ إلى غيره بطريقةٍ خفِيّةٍ يحتاجُ فيها إلى استعمالِ بعضِ الحِيَل، أما (مكر الله) فهو إيصالُ الضّرر إلى مَن يشَاءُ من عبادِه مِن حيثُ لا يَعلَمُ ذلكَ العبدُ ولا يظنُّ ولا يَحتسِب. فمَكرُ العِبادِ مذمومٌ، أما (مكر الله) لا يُذَمُّ فهو ليس ظلماً وإنما هو من تمام العدل لأنه انتقامٌ منه سبحانه مِن عبادِه الظّالمين.
بعبارةٍ أخرى: مكر الإنسان يتمثل في إرادة الشر بالآخرين، وهو ظلمٌ لهم، اعتماداً على القوة والسلطان أو على الذكاء أو المال أو الجاه، وقد يكون بأن يُظهر الفرد الخير ويُبطن الشر ويحيك المؤامرات في الخفاء ليحصل على مكاسبَ وأطماعٍ دنيويةٍ دون وجه حق، وأما (مكر الله) فإنه يعني أن الله يُحق الحق ويُبطل الباطل ويستدرج الظلمة والعصاة ويملي لهم ثم يأخذهم بذنوبهم.
والقرآن الكريم قد حذر من هذا الخُلُق وبَيَّن صفات أصحابه وبَيَّن أن عاقبة مكرهم سيئةٌ ونهايتهم وخيمةٌ في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾. والمكر السيئ ظلمٌ للنفس وظلمٌ للآخرين ناتجٌ عن ضعف الإيمان وخبث النفس ودناءة الخلق، ويؤدي إلى انطماس البصيرة، وفساد العمل، وعقوبة صاحبه عاجلةٌ غير آجلةٍ قال تعالى: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ . وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ . فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾.

فهذا يوسف عليه السلام قد مكر به أخوته وخططوا لقتله ثم رموه في البئر، فكيف حفظه الله؟ ثم امرأة العزيز صاحبة المكانة والجاه والسلطان تراوده عن نفسه وتمكر له عند زوجها ومع صاحباتها، ويكون مكرها سبباً لدخوله السجن مظلوماً، ومكَرَ الله له فخرج معززاً مكرماً يحكم في الأرض وبيده خزائن الأموال وجاء أخوته يطلبون ويسألون ويستجدون، أين ذهب مكرهم؟ وأين خططهم وظلمهم لأخيهم؟ ذهبت وعادت عليهم وبالاً؛ فالله عز وجل يقول: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السيئ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾.

وكثيرٌ من آيات القرآن الكريم تحدثت عن قصص المكر السيئ، وبينت آثاره ونتائجه ليتعظ الناس ويعتبروا حتى لا يغتروا بقوتهم أو أموالهم ويظلموا غيرهم فيعرضوا أنفسهم لمكر الله وعقابه الذي وقع على مَن قبلهم.
لقد اقتضَتْ حكمة الله تعالى أنْ جعل في هذه الدُّنيا خيراً وشرّاً، وحقّاً وباطلاً، ولا رادَّ لحِكمته، وجعل في كلِّ زمانٍ ومكانٍ أناساً يعيثون في الأرض الفساد، وينشرون الرذيلة، ويُحاربون الفضيلة، ويظلمون غيرهم، وابتلى بعض الناس ببعض؛ ليمحص الله عباده: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، والأكابر هم أصحاب النفوذ والجاه والمال والسلطان الذين فسدت حياتهم وساءت أخلاقهم وتملك حب الدنيا من قلوبهم ونسوا فضل الله ونعمه عليهم خوفاً على نفوذهم ومكانتهم ومصالحهم وأطماعهم فهم أكثر الناس مكراً وأكثرهم جرأةً على ذلك.

وحتى لا يظن البعض أن المكر السيء لا يقوم به إلا أصحاب النفوذ والجاه والمال والسلطان دون غيرهم من الناس، أسوق لكم القصة الواقعية التالية التي تبين أن بعض الأفراد يعميهم الطمع فيطمس فطرتهم الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، ويمكرون بغيرهم من الناس، خاصةً الضعاف منهم، فيظلمونهم، وهم في الحقيقة يظلمون أنفسهم.
يُحكى أن عجوزاً فرنسية اسمها أوجيني بلانشار، كانت أرملةً بلغت من العمر تسعين عاماً، ولم يبقَ أحدٌ من العائلة غيرها. كانت تعيش في شقةٍ في منطقةٍ حيويةٍ في وسط باريس، وكان ذلك في عام ١٩٦٥م، ولم تجد أحداً يعيلها ويصرف عليها، كما أنها لا تستطيع العمل، وكان لها دخلٌ قليلٌ جداً لا يكفيها.
لاحظ أحد المحامين ذلك فأراد استغلال الوضع لصالحه؛ فمكر بها وعرض عليها أن يدفع لها مبلغ ألفين وخمسمائة فرنك فرنسي شهرياً طيلة حياتها مقابل أن تعطيه الشقة بعد مماتها. وافقت العجوز من دون تردد ٍخصوصاً بعد أن وضع المحامي ضماناتٍ لها أنه لن يتراجع عن ذلك العقد ولا يمكن لأي طرفٍ إلغاؤه. اعتقد المحامي أن امرأةً في هذه السن لن تعيش لأكثر من سنتين أو ثلاث، وهو بذلك سيحصل على الشقة بسعرٍ زهيدٍ، لكن ما حدث كان غير ذلك تماماً فقد عاشت العجوز حتى بلغ سنها المائة وأربع عشر، ومات المحامي قبلها بسنواتٍ بسبب مرض السرطان، أما هي فقد عاشت واحتفظت بالشقة بعد أن دفع المحامي طيلة ثلاثين عاماً أضعاف قيمة الشقة ولم يحصل على شيءٍ في النهاية.
سبحان الله قد يظن الإنسان أحياناً أنه أطول عمراً من غيره وأنه قد يستفيد من غيره بالمكر والحيلة لكنه لا يدري أن الله علم بمكره فمكر له؛ سَخَّر الله هذا المحامي الماكر لتعيش هذه المرأة على حسابه ويموت هو بحسرته. فسبحان من سَخّر لها إنساناً ينفق عليها حتى يموت هو وتعيش محتفظةً بشقتها!

وهذه قصةٌ أخرى توضح مكر واحدٍ من الناس أراد أن يهرب من قصاصٍ مستحقٍ، وتُبين طمع فردٍ آخر، وكيف كانت عاقبة كلٍ من المكر والطمع!
فقد أُدين رجلٌ وحُكم عليه بالإعدام قصاصاً لجريمة قتلٍ قام بها، وأُودع في سجنٍ بجزيرةٍ نائيةٍ، كان ذلك الرجل غنياً واسع الثراء فقرر رشوة حارس السجن ليقوم بتهريبه من هذا السجن بأية طريقة وأي ثمن!  أخبره الحارس أن الحراسة مشددةٌ جداً وأنه لا يغادر الجزيرة أحدٌ إلا في حالةٍ واحدة، هي الموت! لكن إغراء الملايين الموعودة جعل حارس السجن يبتدع طريقةً غريبةً للهرب، وأخبر المليونير السجين بها فقال له: "الشيء الوحيد الذي يخرج من جزيرة السجن بلا حراسةٍ هي توابيت الموتى، يضعونها على سفينةٍ، وتُنقل مع بعض الحراس إلى اليابسة ليتم دفنها بالمقابر هناك بسرعةٍ وبطقوس بسيطةٍ ثم يرجعون، تُنقل التوابيت يومياً في العاشرة صباحاً في حالة وجود موتى، فيكون الحل الوحيد هو أن تُلقي بنفسك في أحد هذه التوابيت مع الميت الذي بداخل التابوت وحين تصل اليابسة ويتم دفن التابوت سآخذ هذا اليوم إجازةً طارئةً وآتي بعد نصف ساعةٍ لإخراجك، بعدها تعطيني ما اتفقنا عليه، وأرجع أنا للسجن وتختفي أنت، ويظل اختفاؤك لغزاً، ما رأيك؟".
فكر السجين الغني في الخطة فوجد فيها مجازفةً مجنونةً، لكنها تظل أفضل من الإعدام بالكرسي الكهربائي! فوافق، واتفقا على أن يتسلل لدار التوابيت في اليوم التالي فإذا وجد به تابوتاً واحداً يرمي نفسه فيه، وإن وجد أكثر من تابوت يرمي نفسه في أول واحدٍ منها من جهة اليسار، هذا إن كان محظوظاً وحدثت حالة وفاة! في اليوم التالي، ومع فسحة المساجين الاعتيادية، توجه السجين إلى دار التوابيت فوجد من حسن حظه تابوتين. أصابه الهلع من فكرة الرقود فوق ميتٍ لمدة ساعةٍ تقريباً، لكن غريزة البقاء جعلته يفتح التابوت الذي من جهة اليسار ويرمي نفسه مغمضاً عينيه حتى لا يُصاب بالرعب. أُغلق التابوت بإحكامٍ ثم سمع السجين صوت الحراس يهمون بنقل التوابيت لسطح السفينة، شم رائحة البحر وهو في التابوت وأحس بحركة السفينة فوق الماء، حتى وصلوا اليابسة، ثم شعر بحركة التابوت وتعليق أحد الحراس على ثقل هذا الميت، شعر بتوترٍ تلاشى عندما سمع الحارس الآخر يطلق سبابه ويتحدث عن هؤلاء المساجين ذوي السمنة الزائدة؛ فارتاح قليلاً، وها هو الآن يشعر بنزول التابوت وصوت الرمال تتبعثر على غطائه، وبدأت ثرثرة الحراس تخفت شيئاً فشيئاً. هو الآن وحيدٌ مدفونٌ على عمق ثلاثة أمتار مع جثة رجلٍ غريبٍ في ظلامٍ حالكٍ. أصبح تنفسه يزداد صعوبةً مع كل دقيقةٍ تمر. لا بأس، فهو يثق بحب الحارس للملايين الموعودة. انتظر، حاول السيطرة على تنفسه حتى لا يستهلك الأوكسجين بسرعة؛ فأمامه نصف ساعةٍ تقريباً قبل أن يأتي الحارس لإخراجه بعد أن تهدأ الأمور. بعد عشرين دقيقة تقريباً بدأت أنفاسه تتسارع وشعر بأن صدره يضيق كما أن الحرارة خانقةٌ لا تُحتمل، لكن لا بأس، عشرة دقائق تقريباً، بعدها سيتنفس الحرية ويرى النور مرة أخرى. بعد لحظاتٍ قليلةٍ بدأ يسعل، ومرت عشر دقائق أخرى. الأوكسجين على وشك النفاد، والحارس لم يأتِ بعد. سمع صوتاً بعيداً جداً .. تسارع نبضه .. اقترب الصوت .. لا بد أنه الحارس قد وصل أخيراً .. ! لكن الصوت تلاشى .. شعر بنوبةٍ من الهستيريا تجتاحه .. تُرى هل تحركت الجثة؟ صور له خياله أن الميت يبتسم بسخريةٍ، تذكر أنه يمتلك ولاعةً في جيبه .. ربما الوقت لم يحن بعد، ورعبه هو الذي هيأ له أن الوقت قد مرّ بسرعة .. أخرج الولاعة ليتأكد من الوقت في ساعة يده .. لابد أنه لا يزال هناك وقت .. قدح الولاعة وخرج بعض النور رغم قلة الأوكسجين .. قرب الشعلة من الساعة، لقد مرت أكثر من خمسٍ وأربعين دقيقة .. شعر بالرعب والهلع، وقبل أن يطفئ الولاعة وقع بصره على وجه الميت .. التفت برعبٍ وقرب القداحة ليرى آخر ما كان يتوقعه في حياته .. رأى وجه الحارس ذاته .. ! الوحيد الذي يعلم أنهُ هنا .. في تابوتٍ تحت الأرض بثلاثة أمتار!

أحبتي .. فلنحسن العمل ونقوم بواجباتنا ومسئولياتنا تجاه ديننا ومجتمعاتنا وأوطاننا، ونعمل على بذر الخير ونشر ثقافة التسامح والعفو، وندعو بأفعالنا وأقوالنا وسلوكياتنا إلى التآلف والأخوة والتعاون، ولنحفظ دماءنا وأموالنا وأعراضنا؛ فنأمر بالمعروف وننهي عن المنكر ونقول كلمة الحق وننصر المظلوم ونأخذ على يد الظالم حتى يرتدع ويكف عن ظلمه، وننتصر للمظلومين والمستضعفين، ولنتق (مكر الله) الذي لا يصيبن الذين مكروا وظلموا خاصةً بل يشمل ﴿قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ كما تشير الآية الكريمة.

اللهم لا تجعلنا من الماكرين الظالمين، ولا من المناصرين لهم، ولا من الساكتين عنهم .. ولا تجعلنا اللهم من الخاسرين الذين يأمنون مكرك؛ قال تعالى: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، ولا تجعلنا اللهم من الذين أجرموا بالمكر والظلم فيصيبنا منك عذابٌ شديد مصداق قولك سبحانك: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾، وقولك: ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/fuomDi

الجمعة، 6 أكتوبر 2017

صنائع المعروف

الجمعة 6 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٣
(صنائع المعروف)

من أغرب القصص الواقعية التي اطلعت عليها هذه القصة التي وقعت أحداثها في بريطانيا حيث كان حفلٌ أقامته نقابة الأطباء سنة 1920م لتخريج دفعةٍ من أطباء جدد، قد ضمّ رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الحين، وتقدم نقيب الأطباء لإلقاء النصائح الواجبة للخريجين الجدد؛ فقال في كلمته: "طرقَتْ بابي بعد منتصف ليلةٍ عاصفةٍ سيدةٌ عجوزٌ، وقالت: الحقني يا دكتور، طفلي مريضٌ وفي حالةٍ خطيرةٍ جداً أرجوك افعل أي شيء لإنقاذه، فأسرعْتُ غير مبالٍ بالزوابع العاصفة والبرد الشديد والمطر الغزير، حيث كان منزلها في إحدى ضواحي لندن، وبعد رحلةٍ شاقةٍ وصلنا المنزل، فوجدتُها تعيش في غرفةٍ صغيرةٍ هي وابنها، ووجدت الطفل في زاويةٍ من الغرفة وهو يئن ويتألم بشدة". وتابع نقيب الأطباء: "بعد أن أديتُ واجبي نحو الطفل المريض ناولتني الأم كيساً صغيراً فيه نقود، فرفضت أن آخذ الكيس، ورددته إليها بلطفٍ معتذراً، وتعهدت الطفل حتى مَنّ الله عليه بالشفاء". ومضى نقيب الأطباء يقول: "هذه هي مهنة الطب، إنها أقرب المهن إلى الرحمة، بل ومن أقرب المهن إلى الله".
ما كاد نقيب الأطباء ينهي كلمته حتى قفز رئيس الوزراء من مقعده واتجه إلى منصة الخطابة وقال: "اسمح لي سيدي النقيب أن أقبل يدك!  .. منذ عشرين عاماً وأنا أبحث عنك! فأنا ذلك الطفل الذي ذكرته في حديثك الآن، فلتسعد أمي الآن وتهنأ فقد كانت وصيتها الوحيدة لي هي أن أعثر عليك لأكافئك على ما أحسنت به علينا في فقرنا فأنقذت حياتي".
والطفل الفقير الذي أصبح رئيس وزراء إنجلترا كان ديفيد لويد جورج الذي شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا للفترة 1916 - 1922م إبان الحرب العالمية الأولى حيث قاد بلاده إلى النصر على الألمان.

وقصةٌ ثانيةٌ، واقعيةٌ هي الأخرى، حدثت في بريطانيا كذلك، وبالتحديد في اسكتلندا، ولا تقل غرابةً عن القصة الأولى؛ حيث كان يعيش فلاحٌ فقيرٌ يدعى فلمنج، كان يعاني من ضيق ذات اليد والفقر المدقع، لم يكن يشكو أو يتذمر لكنه كان خائفـاً على ابنه، فلذة كبده، فهو قد استطاع تحمل شظف العيش ولكن ماذا عن ابنه؟ وهو مازال صغيراً والحياة ليست سهلةً، إنها محفوفةٌ بالمخاطر، كيف سيكون مستقبله يا ترى؟
ذات يومٍ وبينما كان فلمنج يتجول في أحد المراعي، سمع صوت كلبٍ ينبح نباحاً مستمراً، فذهب بسرعةٍ ناحية الكلب فوجد طفلاً يغوص في بركةٍ من الوحل وعلى محياه الرقيق ترتسم علامات الرعب والفزع، يصرخ بصوتٍ غير مسموعٍ من هول الرعب.
لم يفكر فلمنج، بل قفز بملابسه في بحيرة الوحل، أمسك بالصبي، أخرجه، وأنقذ حياته. في اليوم التالي، جاء رجلٌ تبدو عليه علامات النعمة والثراء في عربةٍ مزركشةٍ تجرها خيولٌ مطهمةٌ ومعه حارسان، اندهش فلمنج من زيارة هذا اللورد الثري له في بيته الحقير، لكنه أدرك إنه والد الصبي الذي أنقذه من الموت. قال اللورد الثري: "لو ظللتُ أشكرك طوال حياتي، فلن أوفي لك حقك، أنا مدينٌ لك بحياة ابني، اطلب ما شئت من أموالٍ أو مجوهراتٍ أو ما يقر عينك"، أجاب فلمنج: "سيدي اللورد، أنا لم أفعل سوى ما يمليه عليّ ضميري، وأي فلاحٍ مثلي كان سيفعل مثلما فعلت، فابنك هذا مثل ابني والموقف الذي تعرض له كان من الممكن أن يتعرض له ابني أيضاً"، أجاب اللورد الثري: "حسنـاً، طالما تعتبر ابني مثل ابنك، فأنا سآخذ ابنك وأتولى مصاريف تعليمه حتى يصير رجلاً متعلماً نافعاً لبلاده وقومه". طار فلمنج من السعادة؛ أخيراً سيتعلم ابنه في مدارس العظماء. وبالفعل تخرج فلمنج الصغير من مدرسة سانت ماري للعلوم الطبية، وأصبح الصبي الصغير رجلاً متعلماً بل عالماً كبيراً .. نعم؛ فذاك الصبي هو نفسه السير ألكسندر فلمنج 1881 ــ 1955م، مكتشف البنسلين في عام 1929م، أول مضادٍ حيويٍ عرفته البشرية على الإطلاق، ويعود له الفضل في القضاء على معظم الأمراض الميكروبية. كما حصل ألكسندر فلمنج على جائزة نوبل في عام 1945م.
لم تنته القصة بعد؛ بل حينما مرض ابن اللورد الثري بالتهابٍ رئويٍ، كان البنسلين هو الذي أنقذ حياته.
لكن من يا تُرى ابن الرجل الثري الذي أنقذ فلمنج الأب حياته مرةً وأنقذ ألكسندر فلمنج الابن حياته مرةً ثانيةً بفضل البنسلين؟ إنه رجلٌ شهيرٌ للغاية؛ فالثري يُدعى اللورد راندولف تشرشل، وابنه يُدعى ونستون تشرشل، أعظم رئيس وزراء بريطاني على مر العصور، الرجل الذي قاد الحرب ضد هتلر النازي أيام الحرب العالمية الثانية 1939 ــ 1945م، ويعود له الفضل في انتصار قوات الحلفاء: انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي على قوات المحور: ألمانيا واليابان.

سبحان الله، كأن التاريخ يعيد نفسه؛ فتقع أحداث القصتين في نفس الدولة،
ويكون طرفاها رئيسي وزراء هذه الدولة، ويكون كلاهما قد تم إنقاذه وهو صغير، ثم يكون لكليهما دور القائد المنتصر في حربٍ، ليست عاديةً، وإنما حربٌ عالمية!

أحبتي في الله .. أهم ما نستفيده من هاتين القصتين أن (صنائع المعروف) لا تضيع أبداً .. إنها عمل الخير بكل أشكاله، صغيراً كان أو كبيراً، مع فقيرٍ أو غني، في وقت شدةٍ أو رخاء، مع من نعرفه أو من لا نعرفه .. هكذا هو عمل الخير الذي نبتغي به وجه الله سبحانه وتعالى، نفعله ولا ننتظر مقابله شيئاً .. إنه نوعٌ من العبادة يغفل عنه الكثير من الناس؛ فكثيرٌ منا يطلق معنى العبادة على ما يتعلق بحقوق الله فحسب، ويغفل عن بابٍ آخر عظيم، وهو حسن المعاملة مع العباد والإحسان إليهم، إنه  (صنائع المعروف).
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾، فقوله ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ أمرٌ يشمل كل خيرٍ. وقال تعالى: ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، وقال سبحانه:﴿وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلمٍ أو تكشف عنه كربةً أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً (في مسجد الرسول بالمدينة المنورة) ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشي مع أخيه في حاجةٍ حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام].
كما قال عليه الصلاة والسلام: [إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه].
وقال صلى الله عليه وسلم: [كل معروفٍ صدقة]، وفي رواية: [كل معروفٍ صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك].
وقال عليه الصلاة والسلام: [إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وإن صلة الرحم تزيد في العمر وتقي الفقر، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنزٌ من كنوز الجنة وإن فيها شفاءٌ من تسعةٍ وتسعين داءً ـ أدناها الهم]، وفي رواية: [صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادةٌ في العمر، وكل معروفٍ صدقةٌ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف].

و(صنائع المعروف) لا تتم إلا بصانعٍ لها، ولله در الشاعر حين وصف صانع المعروف معن ابن زائدة، وكان شديد الكرم، بأبياتٍ بليغةٍ قال فيها:
يقولون معنٌ لا زكاةَ لمالِه
وكيف يُزكي المالَ مَنْ هو باذلُه
إذا حالَ حولٌ لم يكن في ديارِه
من المالِ إلا ذكرُه وجمائلُه
تراه - إذا ما جئتَه - متهللاً
كأنك تُعطيه الذي أنت آملُه
هو البحرُ من أيِ النواحي أتيتَه
فلجتُه المعروفُ والبِرُ ساحلُه
تَعَوَّدَ بسطُ الكفِ حتى لو أنه
أرادَ انقباضاً لم تُطِعُه أناملُه
فلو لم يكن في كفِه غيرُ نفسِه
لجادَ بها فليتقِ اللهَ سائلُه

أحبتي .. فلنكثر من (صنائع المعروف) ما استطعنا، ولا نستصغر منها شيئاً؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا]، وقال صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا النَّارَ وَلوْ بِشقِّ تَمْرةٍ]. فلنكثر من الصدقات وإن صَغُرت فأقل منها الحرمان، ومن بر الوالدين، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، والإحسان إلى الناس، وتقديم العون للمحتاجين، ومساعدة الغير، والتبرع بالمال والوقت والجهد والعلم، وعمل الخير بصفة عامة.
ثم علينا أن نشكر من أسدوا لنا معروفاً ونكافئهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ].
 قال تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. اللهم أعنا على فعل الخير، وقنا شُح أنفسنا، واجعلنا اللهم من عبادك المفلحين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/CUSg74

الجمعة، 29 سبتمبر 2017

تبينوا

الجمعة 29 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٢
(تبينوا)

يُروى أن طبيباً جراحاً دخل إلى المستشفى على عجلٍ بعد أن تم استدعاؤه لإجراء عمليةٍ فوريةٍ لأحد المرضى، وقبل أن يدخل غرفة العمليات واجهه والد المريض وصرخ في وجهه: "لِمَ التأخر؟ إن حياة ابني في خطر، أليس لديك إحساس؟"، فابتسم الطبيب ابتسامةً فاترةً وقال: "أرجو أن تهدأ وتدعني أقوم بعملي"، فرد الأب: "ما أبردك يا أخي! لو كانت حياة ابنك على المحك هل كنت ستهدأ؟ ما أسهل موعظة الآخرين". تركه الطبيب ودخل غرفة العمليات، ثم خرج بعد ساعتين على عجلٍ وقال لوالد المريض: "لقد نجحت العملية، والحمد لله، وابنك بخيرٍ، واعذرني فأنا على موعدٍ آخر" ثم غادر فوراً دون أن يعطي والد المريض فرصةً لأي سؤالٍ أو تعليق. ولما خرجت الممرضة سألها الأب: "ما بال هذا الطبيب المغرور؟" فقالت: "لقد تُوفي ولده في حادث سيارة، ومع ذلك فقد لبى الاستدعاء عندما علم بالحالة الحرجة لولدك، وبعد أن أنقذ حياة ولدك كان عليه أن يُسرع ليحضر دفن ولده".

وهذا شخصٌ مرضت ابنته وعندما ذهب بها إلى المستشفى كتب له الأطباء العديد من الأدوية التي لم يقدر على شرائها لغلاء ثمنها فاتصل بأخيه على الهاتف المحمول وطلب منه أن يحضر له مئتي جنيه في البيت للضرورة، فأجاب الأخ طلبه قائلاً: "أعطني من الوقت ساعةً لأحضر لك المال". وبينما الأب ينتظر اتصل بأخيه ليتأكد من حضوره لكنه وجد هاتفه مغلقاً، حاول أكثر من مرة لكن النتيجة لم تتغير. أخذ يحدث نفسه كيف يخذلني أخي ويتهرب مني، لن أسامحه على فعلته. وبينما هو في قمة الحزن والغضب من موقف أخيه دق جرس الباب، فتح الباب والغضب يسيطر عليه، فوجد أخاه على الباب مقدماً له المال قائلاً: "أعتذر عن تأخري فلم أستطع بيع هاتفي المحمول بالسرعة التي توقعتها".

ويُروى كذلك أن رسّاماً عجوزاً كان يعيش في قريةٍ صغيرةٍ وكان يرسم لوحاتٍ غايةً في الجمال ويبيعها بسعرٍ جيّد، أتاه فقيرٌ من أهل القرية في يومٍ من الأيام وقال له: "أنت تكسب مالاً كثيراً من أعمالك، فلماذا لا تساعد فقراء القرية؟! انظر لجزار القرية الذي لا يملك مالاً كثيراً ومع ذلك يوزّع كل يوم قطعاً من اللحم المجّانية على الفقراء، وانظر إلى خبّاز القرية برغم أنه رجلٌ فقيرٌ ذو عيال إلا أنه يعطي الفقراء خبزاً مجانياً كل يوم". لم يردّ عليه الرسام وابتسم بهدوء،
خرج الفقير منزعجاً من عند الرسّام وأشاع في القرية بأنّ الرسام ثريٌ يكتنز الأموال لكنّه بخيلٌ جداً ولا يساعد الفقراء؛ فنقم عليه أهل القرية وقاطعوه وهجروه. وبعد مدّةٍ مرض الرسّام العجوز ولم يُعره أحدٌ من أبناء القرية اهتماماً، ثم مات وحيداً. مرّت الأيّام ولاحظ أهل القرية بأنّ الجزار لم يعد يرسل للفقراء لحماً مجّانياً، وكذلك الخباز صار لا يمنح الفقراء خبزاً مجانياً، وعندما سألوهما عن سبب توقّفهما، قالا: "كان الرسّام العجوز يعطينا كل شهرٍ مبلغاً من المال لنعطي الفقراء اللحم والخبز، وبعد أن مات توقّف ذلك كله!".

هناك أناسٌ لهم قلوبٌ تتألم ولا تتكلم، وهناك أناسٌ يبادرون إلى فعل الخير لكن ظروفاً قد تمنعهم أو تؤخرهم، وهناك أناسٌ لا يريدون إظهار أعمالهم والمجاهرة بها؛ فلا تتسرعوا في الحكم على غيركم و(تبينوا)، فأنتم لا تعلمون ظروف الناس، ومن منا يعلم الغيب؟!.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الإسلام يدعو إلى عدم التسرع وإلى التبين والتثبت، فهو خلقٌ رفيعٌ من أخلاق الإسلام، أمر به رب العالمين، وحثت عليه سنّة سيد المرسلين؛ ففيه حفظٌ للأرواح، وصيانةٌ للدّماء، وحمايةٌ لحقوق الأفراد والجماعات، وقطعٌ لدابر الفتنة والصراعات، به يُعرف الحق من الباطل فيما يُروج من أخبارٍ وإشاعات؛ فما أحوجنا إلى هذا الخلق الكريم؛ في زمنٍ تُرمى فيه التهم جزافاً، وتُنقل فيه الإشاعات دون تثبتٍ ولا تبين.
والتبين علمٌ يحصل بعد التباسٍ وغموض. يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي: أي تثبّت وتأنّى فيه، ولم يَعجَل.
أما التثبت فهو التحري والتأكد من صحة الخبر قبل قوله أو نقله أو نشره.
فالمراد بالتبيّن والتثبّت هو التأني والتريّث والبحث عن صحة الخبر، وعدم العجلة في نقله أو بناء الحكم عليه قبل تيقن صحته. فالتثبت من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش. ومنهج (تبينوا) فضيلةٌ، بخلاف النقل عن الناس بتسرعٍ ومن غير تثبّتٍ فهو رذيلةٌ تورد صاحبها الندامة.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، في قراءة الجمهور ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، وفي قراءةٍ أخرى: ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾، من التثبّت، وهو الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر. إن في هذه الآية بياناً لمنهج التعامل مع الأخبار، كيف نتلقاها، وكيف نتصرف عند سماعها، وفيها الأمر بالتأني وعدم التسرع بالعمل بمقتضى ما يُتلقى من أخبارٍ­ تأتي من شخصٍ أو جهةٍ ­حتى يتم التأكد من صحتها، وإلا كان الندم للاستعجال في اتخاذ المواقف، وللتسرع في ردود الفعل مما يُضطر معه المرء إلى الاعتذار. وقديماً قالوا: «إياك وما يُعتذر منه». 
قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: [التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ]، التأني من اللّه أي التثبت في الأمور مما يحبه الله ويأمر به لما فيه من وقايةٍ للعبد من الزلل والخطأ. والعجلة من الشيطان أي من إغوائه ووساوسه. قال ابن القيم: "إنما كانت العجلة من الشيطان لأنها خفةٌ وطيشٌ وحِدةٌ في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور وتمنع الخيور".
ولخص أحد علمائنا الأفاضل هذا الأمر بقوله: "تبين الأمر والتثبت منه منهجٌ علميٌ أصيلٌ، ينطق به كتاب ربنا، من شأنه أن يبني العقلية المسلمة المتفحصة الناقدة"، وأضاف أن هذا المنهج "يحمي المرء من تصديق كل ما يُنقل إليه، إنه منهجٌ نما وتطور مع اهتمام المسلمين بالحديث النبوي الشريف، يصلح لأن يعمم على جميع المجالات التي تعتمد في فلسفتها على تلقي الأخبار لإصدار الأحكام والقرارات بناءً عليها".
وقال حكيمٌ للتأكيد على أهمية منهج (تبينوا): "إياك والعجلة، فإنّ العرب كانت تكنّيها أمّ الندامة؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكّر، ويقطع قبل أن يقدّر، ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحدٌ إلّا صحب الندامة، واعتزل السلامة".
والتحري في صحة خبرٍ لا يعني بالضرورة تكذيب من نقله، خاصةً إذا كان من أهل العدالة والديانة، وإنما يعني الاحتياط لما قد يُبنى عليه من مواقف سيئةٍ بجهالةٍ. ولو لم يكن التسرع وعدم التثبت على درجةٍ عظيمةٍ من الخطورة والأهمية في إضعاف روح الموالاة بين المؤمنين لما أكد الباري عز وجل على ذلك في كتابه الكريم وحثت عليه السنة المشرفة.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْۗ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: [كفى بالمرء إثماً، أن يُحدّث بكل ما سمع]. ويُستفاد من الآية الكريمة ومن الحديث الشريف أن للتبين بعداً آخر لا يقل أهميةً عن التأكد من صدق وصحة ما يصلنا من أخبار ، ألا وهو الحرص على التزام الحكمة وتبين هل من المناسب إذاعة أو إشاعة الخبر أم لا حتى لو تأكدنا من صحته وصدقه ودقته، فهي دعوةٌ إذن لوزن الأمور بميزان المصلحة: الخاصة منها والعامة، وتغليب الحكمة فيما يُنقل ويُعمم ويُنشر من الأخبار أو الأقوال.

أحبتي .. أعجبني استنباط أحد علمائنا الأجلاء من آيات سورة النمل، حيث لاحظ أن سليمان عليه السلام قال للهدهد عندما أخبره عن ملكة سبأ: ﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ أي سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت، أو وهمت، لعل في الأمر التباساً أو غموضاً. واستطرد موجهاً نصيحةً قيمةً: يا ليت الناس اتخذوا هذا شعاراً لهم، كلما جاءنا رجلٌ يقول: فلانٌ قال، وفلانٌ فعل، وفلانٌ متهم، وفلانةٌ وقع لها كذا أو وقع منها كذا، لو أجبنا كل واحدٍ يسعى بين الناس بالقيل والقال بهذه الكلمة: سننظر، سنبحث، سنتأكد، لقطعنا الطريق على أصحاب النميمة والوشايات الكاذبة الذين يسعون بين الناس بالفساد والإفساد، ولانتهت أكثر الخصومات والنزاعات بين الناس، لأن معظم النزاعات والخصومات التي تقع بين الناس مبنيةٌ على إشاعاتٍ تتناقلها الألسن دون تثبتٍ ولا تبين، فتَنتُج عنها الكراهية والقطيعة والخصومات.
ومع إضافة البعد الخاص بتبين المصلحة والتزام الحكمة فيما ننقل وننشر ونذيع من حقائق يكون قد اكتمل لدينا منهج (تبينوا)، فهلا انتبهنا لهذا المنهج واهتممنا به دراسةً وتدريساً وتطبيقاً؟ وهلا استفدنا منه وعملنا به في بيوتنا مع أبنائنا وفي مجتمعنا ومع غيرنا؟".
اللهم اجعلنا من الذين هديت ف(تبينوا)
من كل ما يسمعون ويقرأون ويشاهدون ليتأكدوا ويتثبتوا ويكونوا من الموقنين بدلاً من التسرع الذي قد يجعلهم من النادمين. وأنعم علينا بالحكمة لنتبين ما يمكن أن يُقال، ومتى يُقال، ولمن يُقال، وكيف يُقال.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/Gy8RB2

الجمعة، 22 سبتمبر 2017

اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ

الجمعة 22 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠١
(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)

من أحب الأشياء إلى نفسي الحديث مع أحفادي؛ يفكرون بنقاء، يتحدثون بتلقائية، يجيبون بصدق، ويستجيبون بحماس.
الأسبوع الماضي، وكنا أنا وحفيدي عبد الله في طريقنا لصلاة العصر في مسجد رحمة الله المجاور لمنزلنا، سألته ما هي أحب صفةٍ يحبها في والده، فقال لي أنه يحب أشياء كثيرةً فيه، فطلبت منه تحديد شئٍ واحدٍ أو صفةٍ واحدةٍ هي أكثر ما يحبه فيه. قال دون تردد أن أكثر ما يحبه في أبيه أنه يسمح له بالذهاب للمحلات القريبة من البيت لشراء بعض الأغراض. قلت له: "حسناً" ثم سألته نفس السؤال عن والدته فكانت إجابته كما أخبرني عن والده، بأن هناك صفاتٍ كثيرةً، وأنه محتارٌ أيها يحبه أكثر من غيره، سألته عن أحبها إلى نفسه، ففكر ملياً ثم قال لي: "العدل"!
فوجئت برده، كيف لطفلٍ سنه ثماني سنواتٍ فقط أن يدرك مفهوماً مجرداً كمفهوم العدل؟ ثم ذهب تفكيري إلى اتجاه آخر: حمدت الله أن وفق والدته إلى تطبيق هذا المفهوم مع أبنائها مع وجود عاطفة الأمومة الجياشة لديها تجاههم، فقد تقود العاطفة صاحبها إلى التعامل بالهوى فهو أسهل من التعامل بالعدل الذي يتطلب تغليب العقل والمنطق أكثر من العاطفة والحب! إن الجمع بين عاطفة الأمومة وتعامل الأم بالعدل مع أبنائها للدرجة التي يحسونها ويلمسونها ويدركونها رغم صغر سنهم هي نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى وتوفيقٌ منه، وهي دليل تقوى؛ حيث تقول الآية الكريمة: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ).

أحبتي في الله .. العَدلُ لُغةً هو: التَّوسُّطُ بَين الِإفراطِ والتَّفريط، من غير إجحافٍ ولا تَفضيل. هو الاعتدالِ في الأمور، وهو الإنصاف وإعطاء كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. وهو استِعمال الأُمور في مَواضِعها، وأوقاتِها، ووجوهِها، ومَقاديرها، من غير سَرَفٍ، ولا تقصيرٍ، ولا تقديمٍ، ولا تأخيرٍ. نَقيضُهُ الظُّلم والجوْر.
ولأهمية العدل وأثره في حياة الناس فقد بَيَّنَ الله لنا في كتابه الكريم أن نبينا الكريم مأمورٌ بالعدل؛ قال سبحانه على لسان النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾، وأمرنا المولى عز وجل بما أمر به رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ﴾، كما أمرنا أن نحكم بين الناس بالعدل؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾، ووصف سبحانه من يأمر بالعدل بأنه على صراطٍ مستقيم؛ قال: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وعند اقتتال طائفتين من المسلمين يكون العدل هو عماد المصالحة بينهما؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، وعلى المسلمُ أن يقوم بتطبيق العدل على نفسه أو الوالدين أو الأقربين فيقرَّ بالخطأ ويعتذرَ لمن أساء إليه ويسارع بالإحسان؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾. وأوجب الله سبحانه وتعالى علينا أن إذا حكمنا بين الناس أن نلتزم بقول الحق ونعدل وننصف ولا نجور، ولو كان الذي يتوجب الحق عليه ذا قرابة، ولا تحملنا قرابة قريبٍ أو صداقة صديقٍ أن نقول غير الحق؛ قال سبحانه: ﴿إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ﴾. وفي المعاملات الخاصة فإن العدل مطلوبٌ، ففي حالة تداين الأفراد يكون العدل هو أساس كتابة الديْن؛ قال عز وجل: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾، وهو شَرْطٌ عند تعدد الزوجات إن خفنا ألا نقدر عليه ونلتزم به فزوجةٌ واحدةٌ فقط؛ فقال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾. والبعد عن العدل هو اتباعٌ للهوى وقد نهانا سبحانه عن اتباع الهوى؛ قال عز وجل: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا﴾. ومن صور العدل العظيمة أن يقوم المسلمُ بتبنِّي قيم العدل مع الأعداء، فلا يجورَ عليهم، ولا يبخسَهم حقوقَهم، فهذا الأمر من أسس التقوى في دين الإسلام العظيم؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
ومِن سِمات العَدل في الإسلام أنّهُ لا عاطفةٌ فيه؛ فلا يتأثَّر بمالٍ أو عرقٍ أو نَسَب، ومِن ذلكَ حادِثةُ المرأةِ المخزوميَّةِ التي سَرقَت في عَهدِ رَسولِ اللهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلام في غَزوةِ الفتحِ، فَفَزِع قومُها إلى أسامَةَ بن زيدٍ يَستشفِعونَه، فلمَّا كَلَّمَ أسامةُ رسول الله فيها تَلوَّن وَجهُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وقال: [أتكلِّمُني في حدٍّ من حدودِ اللهِ؟]. قال أسامة: "استغفِرْ لي يا رسولَ اللهِ"، فلمَّا كان العَشيُّ قامَ رسولُ اللهِ خطيباً، فأَثنى على اللهِ بِما هو أهله، ثم قال: [أمَّا بَعدُ، فإنَّما أهلَكَ النَّاس قبلَكم أنَّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهِم الشَّريفُ تركوهُ، وإذا سَرَق فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليهِ الحدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أنَّ فاطِمةَُ بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدَها]. ثم أمَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بتلك المرأةِ فقُطعت يدُها، فَحَسُنت توبتُها بعد ذلك.
وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين حريصين على إقامة العدل بين الناس؛ فهذا ابنٌ لعَمرو بن العاص قد اشترك مع غلامٍ من أقباط مصر في سباقٍ للخيول، فضرب ابن الأمير الغلام القبطي اعتماداً على سلطان أبيه، وكان عَمرو بن العاص رضي الله عنه واليًّاً على مصر في خلافة أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسافر والد الغلام القبطي المضروب صحبة ابنه إلى المدينة المنورة، وأتى أمير المؤمنين عُمر رضي الله عنه، وبَيَّن له ما وقع، فكتب أمير المؤمنين إلى عَمرو بن العاص أن يحضر إلى المدينة المنورة صحبة ابنه، فلما حضر الجميع عند أمير المؤمنين، ناول عُمر الغلام القبطي سوطاً وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عَمرو بن العاص، فضربه حتى رأى أنه قد استوفى حقه. ثم قال له أمير المؤمنين: "لو ضربت عَمرو بن العاص ما منعتك؛ لأن الغلام إنما ضربك لسلطان أبيه"، ثم التفت إلى عَمرو بن العاص قائلاً: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".
ولله در شاعر النيل وهو يقول عن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وراعَ صاحبُ كسرى أن رأى عُمَراً
بين الرعيةِ عُطلاً وهو راعـيها
وعهده بملوكِ الفرسِ أن لـــها
سوراً من الجندِ والأحراسِ يحميها
رآه مستغرقاً في نومِه فــــرأى
فيــه الجلالةَ في أسمى معانيها
فوقَ الثرى تحت ظلِ الدوحِ مشتملاً
بــبردةٍ كاد طولُ العهدِ يبليها
فهان في عينِه ما كان يُكـــبره
مــن الأكاسرِ والدنيا بأيديها
وقال قولةَ حقٍ أصبحت مثلاً
وأصـبح الجيلُ بعد الجيلِ يرويها
أَمِنْتَ لما أقمـــتَ العدلَ بينهمُ
فنمــتَ نومَ قريرِ العينِ هانيها

وفي خلافة أمير المؤمنين عُمر بن عبد العزيز كان قتيبة بن مسلم الباهلي يفتح المدن والقرى ينشر دين الله في الأرض. بدأ قتيبة القتال وافتتح مدينة سمرقند دون أن يدعوَ أهلها للإسلام أو الجزية ودون أن يمهلهم ثلاثة أيام قبل أن يبدأ القتال كعادة المسلمين. فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالفٌ للإسلام كتب كهنتها رسالةً وأرسلوها إلى عُمر بن عبد العزيز فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها "من عبد الله عُمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا"، فذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند فنصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم، قالوا للقاضي: "اجتاحنا قتيبة ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا". فقال القاضي لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة: "أنت ما تقول؟"، قال: "لقد كانت أرضهم خصبةً وواسعةً فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه". قال القاضي: "لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً". ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين من سمرقند على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية؛ فما إن غربت شمس ذلك اليوم إلا وقد رحل الجيش الإسلامي كله عن أرض سمرقند، ثم دعا قائد الجيش أهل سمرقند إلى الإسلام أو الجزية أو القتال. فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالةٍ تنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا: "هذه أمةٌ حُكمُها رحمةٌ ونعمة"، فدخل أغلبهم في دين الله وفُرضت الجزية على الباقين.
يقول العلماء أنه لا شك أن إقامة العدل وأداء الحقوق لأهلها من أسباب بقاء الدول وتفوقها وغلبتها؛ ولهذا يُروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنةً". والمقصود أن الأمم الكافرة إن توفرت على معالم قيام الدول ونهضتها أقامها الله وجازاها بجنس عملها، ولا يظلم ربك أحداً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يظلم مؤمناً حسنةً، يُعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناتِ ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنةٌ يجزى بها]، فالله تعالى يعطيهم في الدنيا، أفراداً ودولاً، ما يستحقونه باعتبار ما عندهم من خيرٍ وما يبذلونه من حق. وهناك جانبٌ آخر لا يصح إغفاله، وهو أن الله تعالى قد ينصر أمةً كافرةً على أمةٍ مسلمةٍ عقوبةً لها على معاصيها، وهذا ما حصل في غزوة أُحد؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾.

أحبتي .. الصغار يتعلمون منا، هذا صحيحٌ، لكن صحيحٌ أيضاً أننا نحن الكبار نتعلم منهم؛ فقبل حديثي مع حفيدي عبد الله كنت أظن أن جميع القيم المجردة سواء، وأنها جميعها صعبةٌ عصيةٌ على إدراك الطفل، لكني تعلمت من عبد الله أن ليست جميع القيم المجردة كذلك؛ فقيمٌ مثل العدل والكرم والأمانة يمكن أن يعايشها الطفل في مواقف عمليةٍ في حياته اليومية هي بلا شك أسهل في إدراكها من قيمٍ مثل الشرف والنبل والكرامة قد لا تتوافر لها مواقف عمليةٌ في حياة الطفل اليومية ليستوعبها.
أحبتي .. عودة إلى موضوع العدل .. الأمر جد خطير .. فالعدل ليس أساساً للملك فقط وإنما هو أساسٌ لمجمل حياة البشر، هو ميزانٌ لو اختل ضاع من حياتنا كل معنىً للحق والخير والجمال .. أحبتي (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) .. فليعدل الوالدان مع أبنائهما، ويعدل المعلمون مع طلابهم، ويعدل الرؤساء مع مرؤوسيهم. ليعدل كلٌ منا في مجاله وفي محيطه وفي جميع معاملاته. ولنبادر إلى رد الحقوق إلى أصحابها ورفع المظالم وإشاعة العدل بين الناس في جميع مجالات الحياة لتستقيم أمورنا ونكون بحق أمةً وصفها المولى عز وجل بقوله: ﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.

ليكن لنا في الغامديَّة أسوةٌ حسنةٌ، وهي امرأةٌ من جهينة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله، إني قد زنيتُ فطهِّرني"، وكانت متزوِّجةً محصنةً، وتعلم أن عقابها هو الرجم حتى الموت، فردَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُقِم عليها الحدَّ، ثم جاءت إليه فيما بعد وقالت: "إني لحُبْلَى من الزنا"، فطلب منها الرسول عليه الصلاة والسلام أن تذهب حتى تلد، فرجعت وبقيت شهوراً، فلما ولدت أتته بالصبي وقالت: "يا رسول الله، هذا ولدي قد ولدتُه"، فطلب منها أن تذهب فتُرضِع الطفل حتى تفطمه، فبقيت تُرضِعه حتى أصبح قادراً على أكل الطعام، فلمَّا فطمته أتته بالصبي في يده كسرةُ خبز، فقالت: "يا نبي الله، هذا ولدي بالزنا فطمتُه، وقد أكل الطعام"، حينذاك لم يبقَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقيم عليها حدَّ الرجم، فأمر فحُفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه بحجرٍ فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه فسبَّها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبَّه إيَّاها، فقال: [مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مكسٍ {المرتكب أشنع المعاصي} لغُفِر له]، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودُفِنت، فقال له عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال: [لقد تابت توبةً لو قُسِّمت بين سبعين من أهل المدينة لوَسِعَتْهم، وهل وجدتَ توبةً أفضلَ من أن جادت بنفسها لله تعالى؟].

هلَّا أقمنا العدل على أنفسنا فتطهرنا كالغامدية؟ هلَّا تطهر من أراق دم مسلم بغير حقٍ، أو سرق أو نهب أو عاث في الأرض فساداً؟ هلَّا تطهر من افترى وقال الزور وأغرق نفسه في مستنقعات الغيبة والنميمة؟ هلَّا تطهر كلٌ منا من ذنوبه صغيرةً كانت أو كبيرةً؟ هلَّا تُبنا من معاصينا قبل أن يوافينا الأجل؟
اللهم أَعِنَّا على أن نقيم العدل، وأَعِنَّا على أن نكون من التوابين ونكون من المتطهرين لنكون ممن تحبهم مصداقاً لقولك سبحانك: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/AeGPir