الجمعة، 22 يناير 2016

أروع حماة


22 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة / ١٥

(أروع حماة)

قال صديقي المغترب متابعاً ما انقطع من حديث في خاطرة الجمعة قبل الماضية: "لم تسمع الأغرب من ذلك بعد!"، قلت: "وهل أغرب مما سمعت؟!"، قال: "نعم"، وبدأ في رواية ما هو أغرب بالفعل!.
قال لي أنه أنهى المقابلة الشخصية بسفارة دولة الإمارات بالقاهرة، وكانت زوجته التي عقد قرانها من فترة وجيزة قد قدمت طلباً مماثلاً للعمل في نفس الوزارة، وأجرت مقابلة شخصية هي الأخرى، في الوقت الذي كانت لجان المقابلات تفضل استقدام زوجين عن استقدام فردين أعزبين؛ حيث كان العقد ينص على أن للزوجين بدل سكن يعادل ٦٠٪ من مرتب الزوج، ويكون البدل للأعزب ٤٥٪؛ ما يعني أن أعزبين يكلفان جهة التعاقد ٩٠٪ من المرتب، مقابل ٦٠٪ فقط للزوجين!.
واستطرد قائلاً أن نتيجة المقابلات أعلنت بعد أسبوع، وكان هو وزوجته من الناجحين، وعلقت السفارة مع كشوف الناجحين إعلاناً بضرورة استعدادهم للسفر وأنها سوف تعلن في الصحف اليومية متى يمكنهم الحضور لاستلام تذاكر السفر. طار صاحبنا هو وزوجته فرحاً، فها هو حلم حياتهما على بعد خطوة واحدة، وشرعا في السعي للحصول على إجازة بدون مرتب والموافقة على السفر من قبل الجهتين اللتين يعملان بهما.
انتهيا من جميع الإجراءات، وحضرا ما يلزم من أوراق، وجهزا حقيبتين للسفر، ولم يتبق إلا استلام التذاكر من السفارة. وإلى أن تعلن السفارة عن موعد استلام التذاكر اتفقا على أن يبدآ شهر العسل قبل السفر، وبالفعل تم الترتيب لذلك بشكل سريع، استعدا للزفاف بدون حفل، أخبرا أسرتيهما أنهما سوف يسافران من القاهرة إلى الإسكندرية، ولن يُعلما أحداً باسم الفندق الذي سينزلان فيه. وتم ذلك بالفعل، سافرا ونزلا في أحد فنادق عروس البحر الأبيض المتوسط. وفي كل صباح كان يذهب ليشتري الصحف اليومية الثلاث: "الأهرام، الأخبار، والجمهورية" عسى أن يقرأ إعلان السفارة. وبعد عدة أيام، طالع الإعلان المرتقب فإذا به ينص على "التوجه إلى السفارة اليوم قبل الساعة الواحدة ظهراً لاستلام تذاكر الطيران حيث تحدد موعد السفر صباح الغد". كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة صباحاً، كيف يمكن الوصول إلى السفارة خلال ساعتين؟ .. أخبر زوجته، وقاما على عجل بلملمة أغراضهما ومحاسبة الفندق، وركبا سيارة أجرة وتوجها بها مباشرة إلى مقر السفارة بالقاهرة. أخبرا السائق بضرورة الإسراع؛ فكان يسابق الريح ويترك لسيارته العنان فتنهب الطريق نهباً، وهما يدعوان الله أن يصلا في وقت مناسب. يمر الوقت؛ فيزداد القلق، وتتوتر الأعصاب، ويصل توترها مداه متجاوزاً مرحلة الاحتراق. ورغم مهارة السائق وسرعته المتهورة في بعض الأحيان وحرصه على الوصول بأسرع ما يمكن، فها قد حان ما كانا لا يرغبان أن يكون؛ تجاوزا الوقت المحدد في الإعلان، عندها توقف الكلام، وجفت الحلوق، وتجمد الدم في العروق، وزاغت العيون، وأوشك القلب أن يتوقف. وحين اقتربا من مقر السفارة، كانت أنفاسهما تلهث، وعيونهما تكاد تقفز من حدقاتها لترى هل باب السفارة مفتوح أم مغلق؟ ، اليأس يُحكم سيطرته على نفسيهما كلما اقتربا من السفارة لولا جذوة أمل تتلاعب بما تبقى لهما من أعصاب .. وصلت السيارة إلى مقر السفارة بالزمالك، هما الآن أمام باب السفارة، الساعة تشير إلى الثانية ظهراً، باب السفارة مغلق .. نزل من السيارة مسرعاً .. نادى على الحارس وسأله إن كان أحد الموظفين ما زال بالداخل، أجابه بما لم يكن يتمنى أن يسمعه، أجابه بالنفي؛ أحس بجفاف في حلقه، لكنه تابع متسائلاً بانكسار "هل ترك أحد الموظفين معك تذاكر سفر؟"، كانت الإجابة بالنفي كذلك. أُسقط في يده، عندما أخبره الحارس أن عدداً كبيراً من الأشخاص توافدوا في ذلك اليوم لاستلام تذاكر سفرهم، وأن السفر صباح اليوم التالي. ولما أراد أن يعود إلى السيارة أحس بقدميه تخذلانه .. إنه لا يقوى على المشي .. تظاهر بالتماسك؛ استجمع قواه الخائرة ومشى تلك الخطوات إلى السيارة كأنها أميال. دلف إلى السيارة صامتاً .. لم تسأله زوجته عن شيء فما تراه عيناها كان فيه الكفاية .. تبخر حلم السفر وضاعت فرصة العمل بالخارج. طلب من السائق التوجه إلى حيث مسكن أهل زوجته .. طوال الطريق لم ينبس أي منهما ببنت شفة .. صمت مطبق .. وأفكار متلاحقة وأسئلة متسارعة تتسابق دون ترتيب .. هل كان قرار سفرهما إلى الإسكندرية متعجلاً؟ هل يمكن أن يكون موظف السفارة في انتظارهما بالمطار ومعه تذكرتا السفر؟ .. ثم كيف يكون وضعهما الآن؟ حصلا على إجازة من العمل بدون مرتب .. ليس لهما شقة خاصة يقيمان فيها .. لا يملكان مالاً لشراء أثاث .. ماذا يقولان للأقارب والأصدقاء وزملاء العمل؟ .. أحس بأن الدنيا قد أظلمت في عينيه ورأسه توشك أن تنفجر ..
اقتربا من مسكن أهل زوجته، رأيا من بعيد أخاها يمشي أمام باب العمارة جيئة وذهاباً في عصبية لم يعهداها فيه .. توقفت السيارة ونزلا منها .. أعينهم بها دمعات اجتهدا في منعها .. رآهما أخوها فجرى نحوهما بلهفة وقد تحولت عصبيته فجأةً إلى ابتسامة عريضة مُرحباً بهما! .. كان لسان حالهما يقول إنه لا يعرف ماذا حدث .. ثم .. هل هي ثانية أم أكثر أم أقل تلك التي مرت قبل أن ينطق أخوها: "أسرعا .. تسلمنا تذكرتي سفركما" .. ماذا؟ .. ماذا قلت؟ تسلمتم ماذا؟ تذاكر السفر؟ من أين؟ من السفارة؟ هل هذا معقول؟. قال صديقي: قبل أن يجيب أخوها، تصورنا للحظة أن ما سمعناه محض خيال يكمل لنا مشهد الأمل المفقود، وإذا بكلمة واحدة من أخيها تعيدنا إلى الحياة أو كأنها أعادت الحياة إلينا .. قال: "نعم". عادت الروح إلى أوصالنا، وجرى الدم في عروقنا، وانطلقنا نصعد الدرج حتى وصلنا باب الشقة، والسؤال الوحيد الذي يشغلنا "كيف حدث هذا؟". يقول الصديق: صورة لن تُمحى من ذاكرتي ما عشت صورة حماتي واقفةً على باب الشقة ممسكةً بتذكرتي السفر في يدها ووجهها مشرق ضاحك، تقول: ارتاحا من السفر .. ما تزال أمامكما ساعات حتى موعد السفر! جمعتنا جلسة شرب الشاي المعهودة في بيت حماي، لكن شتان بين ما كنا عليه خلال الساعات السابقة وما نشعر به الآن .. يا الله .. كم أنت كريم .. كم أنت لطيف خبير ..
"والآن يا حماتي العزيزة، أخبرينا كيف حدث هذا؟"، يسأل صديقنا، قالت له: "كنت أتابع الصحف اليومية من يوم سفركما إلى الإسكندرية، حتى قرأت الإعلان صباح اليوم، قدَّرت أنكما لن تتمكنا من الوصول إلى السفارة قبل الموعد المحدد، قررت أن أتوجه إلى السفارة لاستلام تذكرتي سفركما بنفسي، أخذت معي كل ما يثبت علاقتي بكما: بطاقتي الشخصية، وصورة عن بطاقة حماك، وتوكيلاً عاماً منه لي وثقه قبل سفره إلى مقر عمله بالسعودية، وصورة عن شهادة ميلاد ابنتي، وعدة صور من حفل عقد القرآن أظهر فيها معكما، توجهت إلى السفارة وقابلت الموظف المختص، وقلت له أنكما مسافران وسوف تصلان في وقت متأخر اليوم وأني أتيت لاستلام تذكرتي السفر، رفض أن يعطيني التذكرتين وقال لي لابد من حضورهما بنفسيهما، طلبت منه مقابلة أحد المسئولين في السفارة، فاتصل من هاتف مكتبه بالقنصل وحكى له ما حدث، ثم طلب مني أن أتبعه حيث مكتب القنصل، استمع لي القنصل باهتمام واطلع على جميع الأوراق التي أحملها، وحينما رأى صور حفل عقد القران تبسم وقال لي: لكن لابد أن تتركي لنا صوراً من هذه الأوراق وتوقعي على إقرار باستلام التذكرتين، ففعلت، وتسلمت تذكرتي السفر، هذا ما حدث معي، أخبراني أنتما ماذا حدث معكما؟" .. نظرتُ إلى زوجتي، ونظرت زوجتي إليّ، وانفجرنا ضاحكين ونحن نقول: "نحن؟ .. لم يحدث معنا أي شيء! .. فقط، كنا أمواتاً فأحيانا الله"!!!.
أحبتي في الله .. هل من حماة أروع من حماة صديقنا هذا؟ اهتمت، وتابعت، وقدرت الموقف تقديراً صحيحاً، وأعدت ما أمكنها من أدلة وبراهين وإثباتات تقليدية وغير تقليدية، واتخذت قراراً صائباً، ونفذته، ولم يثنها رفض طلبها في البداية، وأصرت على مقابلة المسئول، وتمكنت بصدقها وإصرارها من إقناعه، وعادت بعد أن حققت هدفها الذي خططت له .. يا لها من حماة رائعة! ..
اعذروني أن أطلت ..
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 15 يناير 2016

الشريك العاشر

15 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٤

(الشريك العاشر)

تسعة شبان من قرية واحدة من قرى مصر، جمعت بينهم صداقة قوية خلال فترة التجنيد، فاتفقوا عام ١٩٨٢م على أن يبدأوا مشروعاً استثمارياً بقريتهم الصغيرة الهادئة قرية "تفهنا الأشراف" مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، وكان مشروع مزرعة الدواجن من المشروعات الرائجة في تلك الأيام، فقرروا أن يكون هذا هو مشروعهم، وكانوا في حاجة إلى مبلغ ٢٠٠٠ جنيه لتنفيذ المشروع، ساهم كلٌ منهم بمبلغ ٢٠٠ جنيه وظلوا يبحثون عن (الشريك العاشر) لتكتمل ميزانية المشروع، لكنهم لم يجدوا هذا الشريك، إلى أن أخبرهم يوماً المهندس صلاح عطية -وكان صاحب فكرة المشروع- أنه وجد (الشريك العاشر)، تهللت وجوه شركائه الشباب وتساءلوا بلهفة عمن يكون (الشريك العاشر)؟، قال لهم: هو "الله" ندخله معنا شريكاً عاشراً له عُشر الأرباح عسى أن يوفقنا سبحانه وتعالى. وخلال كتابة عقد الشركة قرر الشباب الشركاء التسعة تخصيص نسبة 10% من الربح لإنفاقها في وجوه الخير باسم "سهم الله الأعظم". فإذا بحصيلة الربح في العام الأول كبيرة جدًّا، فزادوا نسبة "سهم الله الأعظم" إلى 20% من الربح، وهكذا كلما زاد الربح زادوا نسبة السهم وزاد المال المخصص لأعمال الخير. وتوسعت أعمالهم: من مزرعة واحدة إلى عشر، ومن مصنع واحد إلى ثلاثة: مصنع لأعلاف الدواجن، وآخر للمركزات، وثالث لأعلاف الماشية، ثم انتقلوا إلى الإتجار في الحاصلات الزراعية فصدروا الموالح والبطاطس والبصل لعدة بلدان خارج مصر. عَمَّ الخير وأصبح حجم الاستثمارات بالملايين. وبعد عامين من بداية المشروع ومع تنامي الأرباح وبمساهمات من أهالي القرية، قام هؤلاء الشباب بإنشاء "مركز إسلامي" بالقرية، بدأ نشاطه بحضانة لتحفيظ الأطفال القرآن الكريم، ثم إنشاء ستة معاهد أزهرية بالقرية بالتتابع: معهد ابتدائي للبنين أعقبه مثله للبنات، معهد إعدادي للبنين أعقبه مثله للبنات، معهد ثانوي للبنين أعقبه مثله للبنات! فهل وقف طموح هؤلاء الشباب عند هذا الحد؟ لا؛ قرروا إنشاء كلية جامعية بالقرية! قدموا طلباً بذلك فرُفض حيث لا توجد بالقرية محطة للقطار، فقاموا بإنشاء محطة قطار بالقرية بالجهود الذاتية، وحصلوا على الموافقة؛ ولأول مرة بتاريخ مصر يتم افتتاح كلية جامعية بقرية صغيرة! ثم أصبحت الكلية الواحدة كليتين، ثم ثلاث، ثم أربع: كلية للشريعة والقانون، تلاها كلية للتجارة بنات ثم كلية لأصول الدين ثم كلية رابعة للتربية. وتوافد على هذه الكليات طلاب من غير أبناء القرية؛ فماذا هم فاعلون؟ قرروا إنشاء مدينتين جامعيتين: واحدة للطلاب المغتربين (تسع ١٠٠٠ طالباً)، وأخرى للطالبات المغتربات (تسع ٦٠٠ طالبة)! وتسبب وجود أربع كليات جامعية بالقرية في حدوث رواج تجاري، وحركة نشيطة للنقل والمواصلات. كما قامت غالبية البيوت ببناء حجرات إضافية لتأجيرها للطلاب.
وفاض الخير، فقام المركز بتجهيز البنات اليتامى عند الزواج، وقام بمساعدة الفقراء والأرامل وغيرهم من الشباب العاطل لعمل مشاريع تغنيهم من بعد فقرهم؛ والنتيجة أنه لم يعد بالقرية عاطل ولا فقير!
وساهمت "لجنة المصالحات" التابعة للمركز الذي يرأس إدارته المهندس صلاح عطية، في حل الخلافات المتنوعة داخل القرية، وكانت نتيجة ذلك أنه لم تصل مشكلة واحدة من القرية إلى مركز الشرطة طوال العشرين عاماً الماضية!
وما كنت لديهم حين اتفق الشركاء على أن يكون المشروع كله لله؛ فتنازلوا عن أرباحهم السنوية وتحولوا من شركاء إلى عمال عند رب العزة يتقاضون أجوراً محددة، مع دعائهم لله سبحانه وتعالى ألا يفقرهم إلا له ولا يحوجهم إلا إليه. الله أكبر، أبصر بهم وأسمع، كأني بهؤلاء الشباب قد انطبق عليهم الوصف القرآني: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.
أحبتي في الله .. أكتب هذه الخاطرة بمناسبة وفاة مؤسس ومدير المشروع المهندس/ صلاح عطية، الذي حول مفهوم التجارة مع الله من عمل فردي إلى عمل مؤسسي متكامل، إنها عبقرية الإبداع، أن يكون الله سبحانه وتعالى هو (الشريك العاشر).
لله درك يا صلاح أنت وصَحْبُك؛ أخلصتم النية لله وأحسنتم العمل فكان الله معكم وأدهشكم بعطائه، كأنكم ممن يشير إليهم قوله تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ  فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، وكأن أهل قريتك الذين شاركوك إخلاص النية وإتقان العمل وصدق التوكل على الله ينطبق عليهم قول المولى عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾، وقوله: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾.
أَمِثْلُكَ يا صلاح يعيش في صمت ويعمل في صمت ولا يُسْمٓع عنه إلا بعد وفاته؟! أين إعلامنا من عرض مثل هذه الإنجازات والتجارب الناجحة؟ لك الله يا صلاح، أراد عز وجل أن يكون لك من اسمك نصيب، اسمك "صلاح" وفي عملك وفعلك "صلاح" لنفسك ولغيرك .. مُتَّ يا صلاح لكن مشروعك مستمرٌ كمثالٍ يُحتذى به، وفكرتك ما تزال متألقة، فكرةٌ طيبةٌ كشجرةٍ طيبةٍ ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾؛ عسى أن تكون إلهاماً لغيرك ليسير على طريق الصلاح والإصلاح.
لقد سار في جنازتك يوم الاثنين الماضي آلاف البشر حباً ووفاءً، أفلا تكون تلك بداية للاهتمام بأمثال هؤلاء الشباب؟ ألا يجب أن يكونوا هم نجوم المجتمع وأن تُعرض قصص نجاحهم في وسائل الإعلام وأن يتم تدريس مثل هذه النماذج لطلبة المدارس؟
هلا فكرنا بإنشاء "جائزة صلاح عطية الإسلامية" على غرار جائزة نوبل، رصداً للتجارب الرائدة في عالمنا الإسلامي وتكريماً لأصحابها وحفزاً لشبابٍ قادرٍ على أن يستلهم من دينه ما يغير به وجه الحياة إلى الأحسن والأفضل والأرقى؟
[وخروجاً عن تقاليد هذه الخواطر الأسبوعية؛ أطلب من كل واحد منكم، رجاءً وليس أمراً، أن ينشر هذه الخاطرة على أوسع نطاق ممكن؛ فقد أصبح قدرنا أن نكون نحن الإعلام البديل. أنشروا وعمموا عسى يفيق الغافلون وينتبه المضللون إلى أن في التمسك بديننا الإسلامي حلاً لجميع مشاكلنا دون استثناء].
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 8 يناير 2016

ويحسبها الجاهل صدفة!

8 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٣

(ويحسبها الجاهل صدفة!)

في سنوات الغربة كان يطيب لنا أن نستمع إلى قصص بعضنا، وكيف جرت مع كلٍ منا المقادير إلى أن وطئت قدماه أرضاً ليست أرضه وبلاداً بعيدة عن بلاده وبات في غربة عن وطنه ودياره وأحبابه.
وكان من أغرب ما سمعت قصة مغترب أمضى معظم عمره في قريته في صعيد مصر، أتم دراسته الجامعية في إحدى المدن القريبة من قريته، وبعد تخرجه عمل بتلك المدينة، وأقسم لنا أنه لم ير القاهرة في حياته إلا يوم سفره من مطارها إلى بلاد الغربة!
لكن كانت هناك قصة أخرى تستحق أن تُروى؛ شاب من سكان القاهرة، قرأ إعلاناً منشوراً في صحيفة لدولة عربية خليجية تطلب عدداً من المتخصصين في مجاله، فأرسل طلبه بالبريد وأرفق به صوراً عن أوراقه الثبوتية .. مرت أيام وأيام ولم يصله شيء حتى ظن أنه لن يحدث إلا كما حدث في مرتين سابقتين في إعلانين مشابهين .. إلى أن قرع قارع جرس بيته صباح أحد أيام شهر أغسطس من عام ١٩٧٤م، فتح الباب فإذا بساعي البريد يحمل في يده برقية لا يريد أن يسلمها له إلا بعد استلام حلاوة التبشير بخبر جيد؛ فهو يعلم يقيناً مصدر البرقية ويستطيع بخبرته أن يخمن مضمونها. تسلم صاحبنا البرقية وأسرع بفضها فوجد أنها مرسلة من سفارة دولة الإمارات بالقاهرة، فتهلل وجهه فرحاً، وبدأ في قراءة محتواها: "نخطركم بقبول طلبكم وتحدد لكم موعد المقابلة الشخصية بمقر السفارة بالزمالك في الساعة الرابعة من عصر يوم ٢٦ أغسطس" .. يا الله ! .. أخيراً اقترب موعد تحقق الحلم، حلم السفر والعمل بالخارج، ما أكرمك يا الله .. لم تبق سوى المقابلة الشخصية .. اللهم يسر أمرها .. متى الموعد؟ عصر يوم ٢٦؟! .. كم تاريخ اليوم؟ .. انتفض يبحث عن النتيجة؛ تجمد في مكانه وهو ينظر إليها .. تاريخ اليوم ٢٧ ! .. فرك عينيه مراراً وأعاد النظر .. ما يزال تاريخ ٢٧ هو ما يراه .. يا إلهي ! هل يعقل هذا؟ .. لا بأس؛ ربما انتزعت والدته صباح اليوم بالخطأ ورقتين من أوراق النتيجة بدلاً من ورقة واحدة، فهي الوحيدة معه في البيت في ذلك الصباح .. وهَمَّ أن يسألها فإذا بها تسأله من غرفة مجاورة: "من كان بالباب؟". روى لها ما حدث، وسألها عما إذا كانت قد نزعت ورقتين من النتيجة صباح اليوم، أجابت بالنفي. أُسقط في يده، وكان واقفاً فانهار على أقرب مقعد ممسكاً بكلتا يديه رأسه كي لا يقع! .. وسؤالٌ لا يريد أن يغادر عقله: "لِمَ يا رب تقربني من الحُلم إلى هذا الحد ثم أفيق على واقع كنت قد سلمت به وتعايشت معه؟".. أحست أمه بما يفكر فيه وأرادت أن تخفف عنه، فقالت له: "اذهب إلى السفارة واحكِ لهم الموقف، ستجد بإذن الله من يتفهم وضعك، وفقك الله وكتب لك الخير يا بني". ضاقت عليه نفسه، وأحس بغصة وشيء من المرارة لم يخفف منها سوى كلمات أمه بصوتها الدافئ الحنون ودعائها له. "كم أنت طيبة يا أمي؛ من ذا الذي يمكن أن يستمع لي في السفارة؟" هذا ما كان يفكر فيه، وكاد أن يرفض اقتراح والدته لكنه تراجع ووافقها، وفي نفسه أن في ذلك براً بها، فهو لم يتعود أن يرفض لها طلباً .. ثم ماذا سوف يخسر؟ .. لا شيء .. فلتكن نزهة يُسَرِّي بها عن نفسه.
توجه إلى السفارة عصراً .. فإذا بعدد كبير من الناس واقفين على بابها .. سأل أحدهم: "هل كل هؤلاء الناس متجمعون لمقابلات اليوم؟!"، رد عليه قائلاً: "هؤلاء لديهم مقابلات اليوم ومعهم من كانت مقابلاتهم بالأمس" .. سأل متلهفاً: "ماذا قلت؟ مقابلات الأمس؟!" رد عليه: "حضرنا أمس للمقابلة لكن الكهرباء كانت مقطوعة عن السفارة فطلبوا منا الحضور اليوم، وهذا هو سبب الازدحام الذي تراه" .. يكاد لا يصدق ما يسمعه! .. سأل مرة أخرى: "هل سجلتم أسماءكم أمس؟ هل سلمتم أوراقكم؟ هل اطلع أحد بالسفارة على برقيات استدعائكم؟" .. وكانت الإجابة هي التي يتمنى أن يسمعها: "لا .. لم يحدث شيء من هذا، فقط قيل لنا تعالوا غداً في نفس الموعد" .. يا الصدفة العجيبة! كاد يطير فرحاً، ولولا الحياء لقبَّل هذا الذي بشره بهذه البشرى .. شكر الله كثيراً، ودعى لأمه كما لم يدعُ لها من قبل، ودخل إلى السفارة بثقة وأجرى المقابلة الشخصية كما لو كان قد حضر بالأمس!
أحبتي في الله .. هل كانت تلك صدفة؟ أم هو قدر الله يسيره كما يشاء؟
لا شك أنها مقادير الله يصرفها كيف شاء يحسبها الجاهل صدفة، اقرأوا إن شئتم قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، واقرأوا: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.
ثم هل يا ترى تتغير مقادير الناس بالدعاء أو ببر الوالدين؟ نعم؛ يمكن تغيير القدر بأمور كالدعاء وبر الوالدين وأعمال البر وصلة الرحم، وأقواها في رد القدر الدعاء كما في الحديث؛ قال عليه صلى الله عليه وسلم: [لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ...].
اللهم اكتب لنا الخير حيثما كان، وقدره لنا، ورضنا به، ويسر لنا سبيل الوصول إليه .. واجعلنا اللهم من البررة بوالديهما أحياءً وأمواتاً ..
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 1 يناير 2016

المطففون


1 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٢

(المطففون)

أخ فاضل تعرفت عليه عندما كنت أعمل بدبي، زميل عمل، ميسور الحال، كريم الخصال، ممن ترتاح إليهم بسرعة، ويدخلون قلبك بسهولة. دعانا لوليمة في بيته يوماً فلبينا الدعوة. لاحظت كثرة تكليفاته لخادم يعمل عنده، بدا لي الأمر كما لو كان زميلنا يتعمد أن يحرم خادمه من أية لحظات للراحة، ومع ذلك كان الخادم ينفذ تكليفات زميلنا بهمة ونشاط، لكن خليطاً من عدم الرضا والإرهاق كان بادياً على قسمات وجهه. في اليوم التالي للوليمة سنحت لي فرصة الانفراد بزميلنا فشكرته على الوليمة وبشكل غير مباشر أشرت إلى تكليفاته الكثيرة لخادمه، فهم قصدي فقال لي: "هو خادم، عليه الطاعة وأداء ما يكلف به"، وأوضح لي أن هذا الخادم يعمل من بعد صلاة الفجر وحتى وقت متأخر من الليل، هو أول من يستيقظ في البيت وآخر من ينام. أخبرني وهو سعيد بهمة ونشاط خادمه، فهو الذي يشتري ما يحتاجه البيت من طعام وشراب، ويساعد في تحضير الطعام وتجهيز المائدة وغسل الصحون، ويكوي ملابس أفراد الأسرة، كما يقوم بتنظيف السيارة، كما أنه ماهر في إصلاح الأعطال البسيطة للأجهزة المنزلية وأعمال السباكة والكهرباء.
سألت زميلنا عما إذا كان يحس بأنه يكلفه فوق طاقته، رد وهو يحاول إقناع نفسه بغير الحقيقة: "لقد تعود على ذلك، ولم يشكُ يوماً من كثرة العمل"، وأردف قائلاً: "لن تصدق إذا قلت لك أنه سعيد بثقتنا فيه واعتمادنا عليه في كل شيء". قلت له: " قال عليه الصلاة والسلام عن حُسن معاملة الخدم: [إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ. ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُمْ]، وفي حديث آخر: [.. وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ (وقيل: أهل السماء)]. فأين أنت أخي من كل ذلك؟"، استجمع أفكاره ليرد عليّ، فلم أترك له فرصة وباغته بالسؤال: "تطلب منه دائماً المزيد من العمل، فهل تزيد له أجره مقابل زيادة العمل؟"، رد باقتضاب: "لا"، قلت له: "أخشى أن تكون ممن وصفهم الله سبحانه وتعالى بالمطففين"، سألني: "ومن هم المطففون؟"، قلت له: هم ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ*وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾، وقد توعدهم الله بقوله: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾، وهم غافلون عن أنهم محاسبون يوم القيامة ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَـئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ*لِيَوْمٍ عَظِيمٍ*يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. قال: "حسبت هذه الآيات قاصرة على الكيل والميزان فقط"، قلت له: "وهل من كيل أو ميزان لأعظم من المعاملات بجميع صورها، والعلاقات بكل أنواعها؟ إنها أهم من شيء تشتريه فيُكال لك أو يُوزن وتمضي في حال سبيلك. واهتمام المولى عز وجل بالوزن والميزان يؤكد هذا المعنى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾، ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾، ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾، ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَان﴾، ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾، ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾، ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾. إنه اهتمام خاص بالوزن والكيل بمعناه الحرفي المعروف، كما أنه اهتمام بالمعنى الأوسع والأشمل لضمان (التوازن) فيما هو لنا وما هو علينا، بين ما هو حق وما هو واجب، بين ما نرضاه لأنفسنا وما نطلبه من غيرنا". رد علي زميلنا وكأنه يستمع إلى هذا المعنى لأول مرة: "إذن إما أن أخفف الأعباء عن خادمي أو أساعده في أدائها"، وأضاف: "وعلينا أن (نوازن) بين حقوقنا وواجباتنا في علاقاتنا الخاصة مع زوجاتنا وأبنائنا وإخواننا، وفي علاقاتنا العامة ومعاملاتنا مع جيراننا وزملائنا في العمل ومرؤوسينا وخدمنا، أليس كذلك؟"، قلت: "بلى، هذا بالضبط ما أردت قوله: (أن تأخذ من غيرك أكثر من حقك فأنت مطفف، وإذا أعطيت غيرك أقل من حقه فأنت مطفف)، اللهم لا تجعلنا من المطففين. جزاك الله خيراً".
أحبتي في الله .. أدعو لنفسي ولكم بأن يباعد بيننا وبين أن نكون من المطففين .. اللهم ألهمنا الصواب ليكون ميزاننا في كل شيء ميزان عدل، بلا زيادة ولا نقصان، فالقاعدة العامة [حِبْ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ] إلا أن نزيد في العطاء للآخرين أو نتنازل عن شيء من حقوقنا بطيب خاطر منا تصديقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾.
اللهم اجعلنا من أصحاب الفضل بكرمك يا أكرم الأكرمين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 25 ديسمبر 2015

موعد مهم


25 ديسمبر، 2015م
خاطرة الجمعة / ١١

(موعد مهم)

رأيته يسير مسرعاً متجهاً إلى سيارته يكاد يجري، حسبت أنه قد يحتاج مساعدة، فقلت له: "خير إن شاء الله، تحتاج شيئاً؟"، رد وهو يفتح باب السيارة ويقفز بداخلها ويدير محركها: "أبداً، تأخرت على موعد مهم"، وفتح زجاج سيارته وهي تمرق بجانبي وقال: "شكراً لك"، بنهاية هذه الجملة كان قد وصل إلى منعطف الطريق وانطلق يسابق الزمن.
"موعد مهم" .. استوقفتني هذه العبارة .. فكرت فيها فتذكرت كم مرة شاهدته يقف أمام العمارة يتحدث مع أصدقاء له أحيهم وأنا في طريقي للصلاة بمسجد قريب لا يبعد عنا سوى خطوات قليلة، ثم أحيهم مرة أخرى وأنا راجع من المسجد وهم مازالوا واقفين، أقول في نفسي "ألم يسمعوا الأذان؟ ألم يسمعوا الإقامة؟". أتركهم لشأنهم وأنا أدعو لهم بالهداية. أذكر مرة واحدة قلت لهم: "هيا يا شباب إلى الصلاة"، فرد هو بأدب جم: "اسبقنا حضرتك، سنلحق بك"، ولما لم يلحقوا بي لا في هذه المرة ولا في غيرها توقفت عن دعوتهم لكني لم أنقطع عن الدعاء لهم.
عندما سمعته يقول وهو مسرع "موعد مهم"، قلت في نفسي ربما كان على موعد مع صديق أو قريب .. وتساءلت في نفسي "وهل أهم من موعد مع الله؟"، ثم قلت قد يكون الموعد لمصلحة أو رزق يسعى إليه .. وتساءلت "هل نهتم بالرزق ولا نهتم بالرزاق؟"، وإذا بي أتذكر الآية الكريمة: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾، فالله سبحانه وتعالى ينهانا عن التجارة والبيع وقت ذكر الله ووقت الصلاة رغم ما في البيع والتجارة من مصالح للناس، فما بالنا لا نلبي نداء الصلاة وما يلهينا عنها إلا أعمال لا نفع فيها كمشاهدة مباراة أو فيلم في التلفزيون أو دردشة مع أصدقاء على الهاتف أو من خلال مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي .. ألا نخاف ﴿يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾؟.
ويمر على ذهني خاطر أن "الموعد المهم" قد يكون مع مسئول أو مدير أو وزير فتكون السرعة للحاق بالموعد خشية غضب أحدهم إذا تأخر، فأستحضر الآية الكريمة: ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾، وقوله تعالى: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وقوله عز وجل: ﴿لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ﴾.
اللهم اجعلنا من المؤمنين، ولا تجعلنا ممن لا يفقهون.
أحبتي في الله .. أنا لا أحكم على أحد فيكفيني ما أنا عليه من تقصير، إنما أردت فقط أن أنبه نفسي والغافلين إلى معنى لم يفارقني وأنا أكتب هذه الخاطرة ألا وهو "أنخشى الناس أكثر من خشية الله؟"، "ألا نستحي من أنفسنا؟"، أيهتم أحدنا بأن يربي أبناءه على تجنب "العيب" ولا يهتم بأن يعلمهم اجتناب "الحرام"؟ .. أما آن الأوان لأن نسارع إلى تلبية النداء للصلاة على وقتها مع الجماعة على الأقل كما نسارع إلى اللحاق ب"موعد مهم"؟!
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/G83Mga


الجمعة، 18 ديسمبر 2015

وللأرز فوائد أخرى!


18 ديسمبر، 2015م
خاطرة الجمعة / ١٠

(وللأرز فوائد أخرى!)

انقطعتُ عن التواصل مع كل الأحبة نهاية الأسبوع الماضي لأكثر من يومين .. وتفضل كثيرون منكم بالسؤال عني قلقين من فكرة أنه ربما أصابني مكروه منعني من التواصل اليومي كعادتي كل صباح ومساء، حتى إن خاطرة الجمعة الماضية لم أتمكن من نشرها.
في الواقع كان سبب احتجابي أني مررت بتجربة صعبة لم أكن مستعداً لها -نفسياً على الأقل- بدأت بسقوط هاتفي المحمول في الماء، وانتهت بعد قرابة يومين بعودته إلى الحياة مرة أخرى .. وما بين البداية المفاجئة والنهاية غير المتوقعة تدور خاطرة هذه الجمعة.
لابد أولاً من الإقرار بأني اعتمد على هاتفي المحمول اعتماداً كاملاً؛ فأرسل واستقبل بريدي الإلكتروني منه، وأعد من خلاله حلقات وأعداد ما أقوم بتعميمه من سلاسل دينية واجتماعية وتربوية. لذلك حين سقط في الماء سقط معه قلبي، وأحسست بأن تفكيري قد شُل للحظات، تمالكت نفسي وسارعت بانتشال هاتفي من الماء فإذا بشاشته كما هي لم تتأثر بالماء، تنفست الصُعداء وحمدت الله كثيراً فهاتفي لم يتأثر بالماء. أردت تجفيفه فأغلقته وجئت بمنشفة ومجفف شعر وأعواد تنظيف الأذن وبدأت عملية تجفيف خارجي للهاتف. استغرقت عملية التجفيف دقائق قليلة قمت بعدها بإعادة تشغيل الهاتف لأجد مفاجأة في انتظاري، لقد تحول لون الشاشة إلى اللون الأحمر، سارعت بإغلاقه وفتحه مرة أخرى لعل وعسى يعود إلى رشده فإذا بلون الشاشة يتحول إلى الأزرق، فأغلقت الهاتف وقد تبخر إحساسي بالزهو أن هذا الهاتف صمد وظل يعمل بعد سقوطه في الماء.
ماذا أفعل الآن؟ أسرعت إلى حاسبي، قمت بتشغيله، وقلت في نفسي لن يحل مشكلتي هذه إلا صديقنا المخلص السيد (جوجل)، كتبت في نافذة البحث "وقع هاتفي في الماء" أطلت علي روابط مواقع كثيرة تحدث فيها غيري عن تجربتهم في هذه الحالة، اخترت مقطعاً مصوراً يتحدث فيه أحدهم بالصوت والصورة عن تجربته، فإذا به يصدمني بأن أول خطوة هي إطفاء الهاتف وعدم التفكير في تشغيله نهائياً، وأنا قمت بتشغيله أكثر من مرة!، ثم سمعته يقول إن الخطوة التالية هي أن تتزع بطارية الهاتف، وأنا هاتفي غير قابل للفتح ولا أستطيع نزع بطاريته!، واستمر يقول أن الخطوة الثالثة هي القيام بتجفيف البطارية والأجزاء الداخلية من الهاتف، وأضاف أن الخطوة الرابعة والأخيرة هي وضع الهاتف في كيس بلاستيكي به "أرز" وترك الهاتف مغموراً فيه لمدة ٣٦ ساعة!!! ماذا؟ أرز؟! لابد أنها مزحة منه، يا لها من مزحة ثقيلة. هاتفي يرقد بجواري جثة هامدة، ولا أعرف ماذا أفعل وتخبرني أن "الأرز" هو الذي سيحل المشكلة، يا لك من سخيف.
عدت إلى نتائج بحث صديقنا (جوجل)، وفتحت أكثر من رابط لأجد كثيرين ممن مروا بنفس التجربة قد قاموا بعلاج هاتفهم ب "الأرز"! .. يبدو إذن أن صاحبنا كان محقاً .. ولم يكن سخيفاً (أعتذر له) .. صحيح أنهم أوضحوا أن لل"أرز" خاصية امتصاص الرطوبة، لكني لم أكن لأصدق أن يكون هذا هو الحل.
حسناً، لماذا لا أجرب؟، ماذا سوف أخسر من التجربة؟، وماذا سيصيب هاتفي أكثر مما هو عليه الآن؛ وهو في حالة موت إكلينيكي؟ توكلت على الله، أتيت بكيس نايلون من النوع الذي يقفل بسحاب، ملأته ب"الأرز" ثم وضعت الهاتف بحيث أحاط به "الأرز" من كل الجوانب، أخرجت ما بالكيس من هواء، ثم أحكمت إغلاق السحاب، وتركت الكيس على هذا الوضع لمدة ٣٦ ساعة!
إنها أطول ٣٦ ساعة بالنسبة لي، قاومت خلالها بشدة رغبة متكررة بأن أقوم بفتح الكيس وتشغيل الهاتف قبل انقضاء الوقت المحدد. توقفت حياتي الإلكترونية بالكامل طوال تلك الساعات، واستخدمت الحاسوب كبديل لكنه لم يسعفني كثيراً، وأحسست وقتها بأني وحيد كما لو أنني اُنتزعت من محيطي الاجتماعي ورُمي بي في صحراء مقفرة .. ولا أبالغ إذا قلت لكم أنني كنت في حالة نفسية يُرثى لها!
ومرت الساعات بطيئة متثاقلة، وحانت اللحظة الحاسمة، حان وقت فتح الكيس، مددت يدي وأخرجت هاتفي من وسط "الأرز" المحيط به، وقبل أن أقوم بتشغيل الهاتف قرأت الفاتحة ووجدتني أدعو الله لهاتفي بأن يخرج من هذه العملية سليماً معافى .. كان الأمر أقرب ما يكون لعزيز لديك أُجريت له عملية دقيقة في عينيه وحان وقت فك الشاش من حول عينيه!
وكانت المفاجأة .. ظهرت الشاشة العادية ثم اشتغل الهاتف كأن شيئاً لم يكن!!! ..
ووجدتني أقول في نفسي (كم أنت عظيم أيها "الأرز") ..
أحبتي في الله .. هذه قصة حقيقية أردت أن أكتبها حتى يستفيد منها الآخرون .. كان بطلها في الواقع "الأرز" الذي لا نستخدمه إلا في الأكل فقط، فهل كنتم تعلمون أن ل"الأرز" فوائد أخرى؟!
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.


الجمعة، 4 ديسمبر 2015

أدعو ولا يُستجاب لي


4 ديسمبر، 2015م
خاطرة الجمعة /٩

(أدعو ولا يُستجاب لي)

سألني وعلامات الضيق تبدو على وجهه يحاول جاهداً إخفاءها "لماذا لا يستجيب الله سبحانه وتعالى لدعائي؟"، قلت متجاوزاً الحديث عن شروط وأوقات الاستجابة للدعاء: "ربما في ذلك رحمة من الله عز وجل"، قال متعجباً: "أقول لك أدعو الله كثيراً في أمرٍ ما مهم بالنسبة لي ولا أحس بأية استجابة وتقول لي قد يكون في ذلك رحمة!"، قلت له: "أولم تقرأ حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: [ما من مسلم يدعو، ليس بإثمٍ ولا بقطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها] وفي زيادة [أو يغفر له بها ذنباً قد سلف]"، رد بسرعة: "بلى قرأته، لكني في موقف لا يحتمل التأجيل"، قلت: "صدق الله حين قال: ﴿خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾، ومع لحظة صمت منه أكملت: "وما يدريك أنه لو استجاب الله سبحانه وتعالى لدعائك لكان في ذلك هلاكٌ لك أو شرٌ لم تكن تتوقعه؟ أو ليس هذا ما تشير إليه الآية: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَان بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَان عَجُولًا﴾؟، هذه العجلة تجعل الإنسان يلح في الدعاء لنفسه بشرٍ لا يعلمه كما لو كان يدعو بخير". أطرق قليلاً ثم سألني: "وكيف ذلك؟"، قلت له أروي لك قصة حقيقية حدثت بالفعل في إحدى مدارس العين بدولة الإمارات حيث كنت أعمل، كان لنا زميل معلم تربية رياضية، رشيق القوام، يأتي إلى المدرسة مبكراً يبدل ملابسه في غرفة الرياضة ويلبس بدلة التدريب ويخرج من المدرسة التي تقع في وسط المدينة فيجري حول سور المدرسة عدة مرات ثم يعود مرة أخرى للاستعداد لطابور الصباح، كان مثالاً في كمال الجسم وفي الحيوية والنشاط. اشتكى يوماً من خمول لا يعرف سببه، فذهب للمركز الصحي وأخذ علاجاً لم يأت بنتيجة فكرر العلاج ولم يحدث تحسن، فكتب له الطبيب جرعة أقوى، ولم يحدث تحسن أيضاً؛ فحوله الطبيب العام إلى اختصاصي بالمستشفى العام، أجرى عدة فحوصات اكتشفوا بعدها إصابته بمرض خبيث في الدم. بدأ رحلة علاج تكللت بالنجاح رحمةً من الله سبحانه وتعالى"، قاطعني متسائلاً: "وما علاقة ذلك بموضوعنا؟" قلت له: "الشاهد أنه في رياضته الصباحية اليومية كان يشاهده عدد كبير من سكان العمارات المجاورة للمدرسة، فكم منهم يا ترى كان يدعو الله أن يعطيه صحة كصحة زميلنا، وكم منهم كان يلح في هذا الدعاء ظناً منه أن فيه خيرٌ له، وهو لا يعلم أنه لو استجاب الله لدعواته لكان الآن ممن يعانون من ذلك المرض الخبيث. صدق الله إذ يقول: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾"، رد بتأثر واضح: "صدق الله العظيم، وهو حقاً الرحمن الرحيم .. ومن رحمته أنه لا يستجيب لكل دعواتنا".
قلت له قبل أن أودعه: "ولا تنس يا صديقي أهم شرط للاستجابة للدعاء [أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة]، ولستُ في حاجة إلى تذكيرك بالأوقات التي يُستجاب الدعاء فيها"، التقط مني خيط الحديث وأضاف بلهجة الواثق مما يقول: "ما بين الأذان والإقامة، جوف الليل والثلث الأخير منه، السجود، حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر للخطبة إلى أن تُقضى الصلاة، آخر كل صلاة قبل السلام، وآخر نهار الجمعة من بعد العصر إلى غروب الشمس". ودعته قائلاً: "شكراً لك؛ فواحدٌ من تلك الأوقات لم أكن أتذكره، جزاك الله خيراً".
أحبتي في الله .. نستعجل الاستجابة للدعاء ونحن لا ندري أشرٌ أُريد بنا أم أراد بنا ربنا رشداً .. ماذا لو أخذنا بالأسباب، ثم دعونا الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا الخير أينما كان وحيثما كان .. ماذا لو أحسنا الظن بالله وسلمنا بما كُتب لنا على أنه كله خير، مصداقاً لقول الرسول الكريم: [عَجَبًا لأَمْرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ، ليسَ ذلكَ لأَحَدٍ إلا للمُؤْمنِ؛ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ].
ولأننا لا نعلم ما ينفعنا مما يضرنا فلنسلم بقوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ..
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.

https://goo.gl/hyGwWf

الجمعة، 27 نوفمبر 2015

مطبات جوية


27 نوفمبر، 2015م
خاطرة الجمعة /٨

(مطبات جوية)

ركبت الطائرات كثيراً، وامتدت رحلاتي الجوية لأكثر من أربعين عاماً .. بعض هذه الرحلات لا يمكن أن أنساها .. منها ما كان من يومين، في طريقي من القاهرة إلى الشارقة، تعرضت الطائرة التي تقلني إلى مطبات جوية قوية .. في البداية لم أُعر الأمر اهتماماً، فلما طالت مدتها وزادت شدتها أيقنت أن الأمر مختلف وخطير .. وجدت نفسي أدعو الله سبحانه وتعالى بكل صدق وإخلاص أن يزيل هذه الغمة .. دعوته أن نجتاز منطقة المطبات الهوائية بأمان .. وأن نصل إلى وجهتنا سالمين ..
واستمرت المطبات .. فأخذت بيني وبين نفسي أقرأ ما تيسر من قرآن ..
لكن مع الدعاء ومع قراءة القرآن كان هناك خاطر لا يفارقني .. كلما حاولت الهرب منه لازمني واستحوذ على فكري .. خاطر قد لا يرغب كثير منا أن يفكر فيه .. تملكني شعور قوي بأنها ربما كانت النهاية .. أحسست بأننا نقترب من الموت أو كأنه يقترب منا .. ولمٓ لا وهذه المطبات الجوية ما تزال مستمرة .. تحرك الطائرة بكل من فيها كأنها دمية أو لعبة أطفال ..
مر شريط حياتي سريعاً في مخيلتي .. أتذكر ما أعتقد أنه صالح مما عملت فأحس بالرضا والاطمئنان للحظات .. ثم أتذكر ما قصرت فيه، وأتذكر سيئات أعمالي، وأتذكر أموراً كنت أعتزم القيام بها ثم أجلتها، وأتذكر أخطاء لم يعد في إمكاني تصحيحها .. فيتملكني الرعب ويسيطر علي الهلع .. وأتساءل هل إذا كانت هذه النهاية بالفعل .. هل أكون من الناجين يوم الحساب؟ ..
اكتشفت أن كل ما أفخر به من أعمال اعتقدت أنها صالحة وحسنة وجيدة قليل إذا وضع على كفة الميزان مع أعمالي الأخرى .. فهل ينطبق علي قوله تعالى: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾؟ ..
الأفكار تُشعل رأسي .. يمتد لهيبها إلى قلبي .. والمطبات الجوية ما تزال تلهو بالطائرة وتحركها بعنف ..
آخر ما سيطر على تفكيري .. هل من أمل في النجاة؟ هل لنا فرصة جديدة للاستمرار في الحياة عسى أن نعمل فيها عملاً صالحاً غير الذي كنا نعمل؟
نظرت إلى مَن حولي في الطائرة .. فأدركت أنهم جميعاً يعانون ما أعاني .. وربما يفكرون كما أفكر ..
وأحسست أننا جميعاً ندعو بيننا وبين أنفسنا: "اللهم ارحمنا .. اللهم اكشف ما بنا من ضر .. ونعدك يا ربنا إن استجبت لنا .. فسنصلح أمورنا .. ونصحح أخطاءنا .. ونسارع بالخيرات فلا نؤجلها .. ونبتعد عن كل عمل لا ترضاه" ..
وتوقفت المطبات الجوية .. وتنفسنا الصعداء .. وعادت الدماء تسري في عروقنا .. فماذا نحن يا ترى فاعلون؟ هل نصدق الله ما وعدناه؟ أم نكون ممن تنطبق عليه الآية الكريمة: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾؟
وتذكرت: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، فهل نحن يا ترى من هؤلاء؟
كم منا من اقترب من لحظة موت وقت مرض، أو وقت حادث في بر أو بحر أو جو؟ وكم منا من مر به ضُرٌ أياً كان نوعه؟ وكم منا من حدث المكروه لقريب له أو صديق فدعا الله سبحانه وتعالى ثم نكث وعده وعاد كما كان كأن لم يدع الله؛ فانطبق عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ  كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؟ .. اللهم لا تجعلنا من المسرفين .. ثم، هل يتعلق أمر الموت بمطبات هوائية أو عملية جراحية أو مرض وغرفة إنعاش أو حادث؟ بالطبع لا .. هل لا نبدأ رحلة العودة إلى الله إلا بعد ضر يمسنا أو قريب أو صديق يغيبه الموت؟ هذه هي الغفلة ..
اللهم ارحمنا برحمتك وردنا إلى دينك رداً جميلاً .. خذ بيدنا وساعدنا للاقتراب منك أكثر وأكثر .. وأعنا على ضعف أنفسنا ..
أحبتي في الله .. كل يوم جديد هو فرصة متجددة للاستزادة من الأعمال الصالحة أعمال البر والخير؛ فهي الباقية لن ينفعنا غيرها.. وكل يوم جديد هو فرصة للاقتراب من الله أكثر وأكثر ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾، فهلا استفدنا من هذه الفرص التي لا تعوض؟
هلا بدأت نفوسنا اللوامة في حث نفوسنا الأمارة بالسوء للتحول دون إبطاء لتكون نفوساً مطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية فتدخل في عباد الله وتدخل جنته؟
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 20 نوفمبر 2015

مطلوب زوجة


20 نوفمبر، 2015م
خاطرة الجمعة /٧

(مطلوب زوجة)

شاب من أقاربنا أراد الزواج؛ فطلب من والدته أن تبحث له عن عروس، ووضع قائمة طويلة بالمواصفات التي يتمناها في عروسه. وبدأت رحلة البحث، طويلة وشاقة، مكالمات واتصالات ومواعيد وترتيب لقاءات ومقابلات وزيارات وجلسات تعارف مع أكثر من عروس انتهت كلها نفس النهاية "ليست هذه من أتمناها شريكة لحياتي"، أما الأسباب فتختلف في كل مرة.
كانت القائمة التي وضعها تتضمن مواصفات عروس مثالية .. أما هو نفسه، وكما نراه نحن القريبين منه، فإن بينه وبين المثالية بون شاسع.
جاءني يستشيرني، قلت له: ارجع إلى المصحف ففيه ما تريد .. تعجب وسألني: وما علاقة المصحف بما أنا فيه؟ أجبته بأنه سيجد فيه مواصفات عروسه محددة بشكل قاطع. وحيث رأيته مندهشاً قلت له: اقرأ معي في سورة النور قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ  وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾، إنه مقياس متدرج ما بين أعلى مستوى من "الطيبة" إلى أدنى مستوى من "الخبث"؛ فإذا كنت تريد عروساً "طيبة" فلتكن أنت "طيباً" بذات المستوى. بادرني بالتساؤل: أولست طيباً؟ قلت له أن العدل في تطبيق هذه القاعدة العامة يقتضي أن تكون الطيبة لدى الطرفين بنفس المستوى، وكما قلت لك بين "الطيبة" المطلقة و"الخبث" المطلق درجات متعددة، اختر المستوى الذي ترغب فيه لعروسك، ثم كن أنت على نفس المستوى، إنه اختيارك. وثق أنك ستجد عروساً في نفس مستواك، بلا زيادة أو نقصان. قال لي: لكن الواقع به ما يخالف هذه القاعدة. قلت معقباً: كلامك صحيح؛ فالقاعدة عامة لكن لله سبحانه وتعالى المشيئة المطلقة يستثنى من يشاء من أية قاعدة عامة لحكمة قد نفهمها وقد تغيب عنا ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾.
سألني: وما الحل الآن؟ قلت له أرى أن ترجئ عملية البحث عدة أشهر حتى ترفع مستوى "الطيبة" في نفسك، وهي جماع الصفات الحسنة، حتى تصل إلى أعلى مستوى ممكن منها في مجالات: العبادات والمعاملات والأخلاق، حينها ثق أن الله سبحانه وتعالى سيهيئ لك سبيل التعرف على شريكة حياة بنفس المستوى الذي وصلت إليه. قال: وماذا علي أن أفعل تحديداً؟ قلت له: بداية اعقد النية بينك وبين نفسك أنك تريد من زواجك "العفاف" لتضمن أن يكون الله سبحانه وتعالى في عونك؛ فقد ورد في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام [ثلاثةٌ حقٌّ على اللهِ عونهم] منهم [الناكحُ الذي يُرِيدُ العفافَ]، ثم انظر إلى نفسك، ما هو "طيب" فيك ابقِ عليه وزدْ منه؛ فإن كنت محافظاً على الصلاة مثلاً فهذا عمل "طيب"، والزيادة عليه أن تصلي الصلاة على وقتها فهذا أفضل، ثم أن تصلي مع جماعة المسلمين في المسجد فهذا أفضل وأفضل، أما قيام الليل فهذا هو الفضل الكبير، وهكذا في باقي العبادات والمعاملات والأخلاق. ليكن سعيك نحو المستوى الأعلى دائماً، وليكن هدفك المتجدد الحفاظ على أعلى مستوى ممكن والزيادة عليه ما استطعت، ليس فقط لتتمكن من اختيار شريكة حياتك المثالية بل لتتمكن من أن تكسب نفسك ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
سألني: "هل من علامات تبين لي أني على الطريق الصحيح؟"، قلت: "أول علامة عندما تبدأ في تغيير أولويات لائحة مواصفات العروس فتكون الأولوية بالظفر بذات الدين، ثاني علامة عندما تحس أن الدافع الأهم للزواج ليس مجرد إشباع غريزة فطرية وإنما هو تكوين أسرة مسلمة صالحة، وثالث هذه العلامات هو وصولك لمرحلة الإحساس بلذة الإيمان والثقة المطلقة بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه، عندها ستجد فتاة أحلامك في انتظارك لتشاركك رحلة الحياة وتعينك عليها". شكرني وانصرف.
قبل حوالي شهرين قابلته، معه زوجته وابنه، وتبدو السعادة عليهم جميعاً.
أحبتي في الله هذا هو طريق السلام والانسجام والتوافق، يبدأ بمصالحة مع النفس، وتصويب نظرتنا إلى الحياة، وضبط مسارنا فيها، فنصل بإذن الله إلى سعادة الدارين: الدنيا والآخرة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.

https://goo.gl/iKqei6

الجمعة، 13 نوفمبر 2015

السنن الرواتب


13 نوفمبر، 2015م
خاطرة الجمعة /٦

(السنن الرواتب)

هو صديق لي يصلي معي في نفس المسجد معظم الفروض .. انتظرني ذات يوم خارج المسجد بعد صلاة العصر، وقال لي: تعرف ما بيننا من ودٍ وصداقة، قلت: بالطبع أعرف، خير إن شاء الله. رد علي: خير، لكني محرج منك. شجعته على أن يقول ما يرغب بغير إحراج. قدم لي بالقول: الدين النصيحة. قلت: لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم. قال: أحسبك تقياً، ولا أزكي على الله أحداً، ومع ذلك أراك تصلي معنا الفروض في جماعة ثم تختم الصلاة وتنصرف دون أن تصلي السنن الرواتب، ولا شك أنك تعلم ثوابها.
قلت له: "أخي العزيز، أولاً شكراً لك على حسن ظنك بي، ثانياً أقدر لك نصيحتك وأعلم أنها دليل اهتمامك بي وحرصك على مصلحتي، أما ثالثاً فلماذا لا أصلي السنن الرواتب في المسجد؟ فلتعلم يا صديقي أني كنت من الحريصين على ذلك دوماً". قاطعني متسائلاً: "إذن لماذا لم تستمر على ذلك؟". تبسمت وقلت له: "اصبر، واسمع القصة من أولها، صلِ على النبي"، قال: "عليه الصلاة والسلام"، قلت: "كنت مثلك ولاحظت ما لاحظته أنت فيما يتعلق بعدم صلاة بعض الأحبة السنن الرواتب في المسجد، وكنت أتعجب لنفس ما تعجبت أنت منه، فقلت في نفسي علي أن أبحث في الأمر لعل هناك ما أجهله، وصدق حدسي؛ فعندما بحثت عن موضوع السنن الرواتب وكيف كان يصليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ استوقفني في صحيح البخاري حديث للرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيه: [صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ] ، واتضح لي أن جمهور أهل العلم على أن أفضلية صلاة الرواتب كغيرها من النوافل في البيت. كان صديقي يتابع حديثي باهتمام، فاستطردت قائلاً: ومن يومها يا عزيزي عزمت على أن أصلي جميع السنن الرواتب قبل أو بعد الفريضة في البيت ما استطعت تأسياً بالنبي عليه الصلاة والسلام وعملاً بسنته المشرفة، إلا الركعتين قبل صلاة الفجر فأصليهما في المسجد حتى لا تفوتني الصلاة في الصف الأول، وفي حالة أن أكون بعيداً عن البيت في عمل أو قضاء مصلحة أصلي السنن الرواتب في المسجد". قال صديقي: "أحمد الله سبحانه وتعالى على أن وفقني لسؤالك ووفقك لإجابتي وتوضيح الأمر لي".
انتهى اللقاء وفي ذهني آية قرآنية كريمة تلح علي؛ فهي تصفني في هذا الموقف وفي مواقف أخرى مماثلة، يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾.
إنها منة الله علينا أن هدانا لنتبين طريق الرشد، فلك الحمد ربي حمداً كثيراً طيباً يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/FFdXg2


الجمعة، 6 نوفمبر 2015

رجلٌ بأمةٍ

6 نوفمبر، 2015م
خاطرة الجمعة /٥

(رجلٌ بأمةٍ)

عملت محكماً في جائزة الشارقة للعمل التطوعي لسبعة أعوام متتالية من عام ٢٠٠٤م إلى عام ٢٠١٠م. كنا نحكم الأعمال المقدمة للجائزة من دولة الإمارات والدول العربية ونختار الفائزين وفق شروط ومعايير محددة. أما اختيار الشخصيات العامة للتكريم فكان من اختصاص مجلس أمناء الجائزة. وفي الدورة السادسة للجائزة عام ٢٠٠٩م اختار مجلس الأمناء الدكتور/ عبد الرحمن السميط لتكريمه لما له من إسهامات ملموسة في مجال العمل التطوعي في العالم العربي.
لم أكن أعرف شيئاً عنه، فقمت ببحث سريع لأتعرف على تلك المساهمات التي استحق التكريم من أجلها، وهنا كانت المفاجأة بالنسبة لي، إذا أردتم أن تشاركوني المفاجأة فإليكم بعضاً من إنجازات هذا الرجل في أرقام:
• كفل 15،000 يتيماً
• موّْل دراسة 95،000 طالباً
• قدم أكثر من 200 منحة دراسية للدراسات العليا في الدول الغربية
• بنى 5،700 مسجداً
• أنشأ 204 مركزاً إسلامياً
• أنشأ 200 مركزاً لتدريب النساء
• أنشأ 860 مدرسة
• أنشأ 4 جامعات
• حفر 9،500 بئراً
• بنى 124 مستشفىً ومستوصفاً
• نفذ مشاريع زراعية على مساحة 10 مليون متراً مربعاً
• أفطر 2 مليون صائم في حوالي 40 دولة مختلفة
• نظم 1450 دورة تدريبية للمعلمين وأئمة المساجد
• طبع 6 ملايين نسخة من المصحف ووزعها على المسلمين الجدد
• وزع 51 مليون مصحف على الدول الإفريقية المختلفة
• وزع 160 ألف طن من الأغذية والأدوية والملابس
• طبع ووزع 605 مليون كتيب إسلامي بلغات أفريقية مختلفة
• تكفل بإقامة عدد من المخيمات الطبية ومخيمات العيون للمحتاجين مجاناً ضمن إطار برنامج مكافحة العمى
• أسلم على يديه قرابة 11 مليون شخص في أفريقيا (ما يقرب من 972 مسلماً يومياً في المعدل!).
إنه الدكتور عبد الرحمن حمود السميط، الإنسان الذي كرس حياته لعمل الخير، مؤسس جمعية العون المباشر، وُلد في الكويت 15 أكتوبر 1947م، وكان طبيباً متخصصاً في أمراض الجهاز الهضمي تخرج في جامعة بغداد وحصل على بكالوريوس الطب في الجراحة، ودبلومة في أمراض المناطق المدارية من جامعة ليفربول، ثم أكمل دراساته العليا المتخصصة في الأمراض الباطنية والجهاز الهضمي في جامعة ماكجيل في كندا. زار أفريقيا وعمره 35 عاماً، شعر بحزن عميق من مشاهد الجوع والمرض، فقرر أن يضحي بمهنته ويكرس نفسه لصالح المحتاجين، وللمساهمة في مساعدة ملايين الأطفال في الحصول على التعليم والمأوى والعلاج. قضى ثلاثين عاماً من حياته في القيام بالأعمال الخيرية في أفريقيا، ضحى بوقته، وكل ما يملك من أجل تزويد الناس الأقل حظاً للحصول على حياة كريمة.
نال عدداً من الأوسمة والجوائز والدروع والشهادات التقديرية مكافأة له على جهوده في الأعمال الخيرية ومن أرفع هذه الجوائز جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام والتي تبرع بمكافأتها - 750 ألف ريال سعودي - لتكون نواة للوقف التعليمي لأبناء أفريقيا ومن عائد هذا الوقف تلقت أعداد كبيرة من أبناء أفريقيا تعليمها في الجامعات المختلفة. تعرض في أفريقيا لمحاولات قتل مرات عديدة من قبل المليشيات المسلحة بسبب حضوره الطاغي في أوساط الفقراء والمحتاجين، كما حاصرته أفعى الكوبرا في موزمبيق وكينيا وملاوي غير مرة لكنه نجا، بالإضافة إلى لسع البعوض في تلك القرى وشح الماء وانقطاع الكهرباء.
التقيته شخصياً في منزل أحد شيوخ القواسم بالشارقة لدى زيارته للإمارات لتسلم وسام جائزة الشارقة للعمل التطوعي من صاحب السمو الشيخ الدكتور/ سلطان القاسمي، حاكم الشارقة عضو المجلس الأعلى للاتحاد بدولة الإمارات العربية المتحدة. تحدث الرجل في أمسية رمضانية بمجلس الشيخ/ صقر بن راشد القاسمي ببساطة وتواضع شديدين وحكى لنا بعض المواقف التي واجهته في إفريقيا. دمعت عيناي مما كنت أسمع، وأحسست بقلة وضآلة ما نقدمه لخدمة ديننا ونظن أنه كثير.
يا الله، كم كانت جهودك عظيمة يا عبد الرحمن ..
يا الله، هل كان هذا شخصاً واحداً أم إنه كان أمة؟!
توفي عبد الرحمن السميط يوم 15 أغسطس 2013م، عن عمر يناهز 66 عاماً، بعد حياة حافلة بالإنجازات.
رحمك الله يا عبد الرحمن، وجزاك عن الإسلام وعنا وعن جميع المسلمين كل خير.
أحبتي في الله .. ذكرتني هذه السيرة العطرة بقول الله تعالى في وصفه لخليله إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ ولله المثل الأعلى.
كم نحن مقصرون في حق مثل هؤلاء الأبطال الذين يعملون بصمت وإخلاص؟ أين أجهزة إعلامنا التي صورت لنا الراقصات والممثلات والفنانين والفنانات وكثيراً من الفاسدين نجوماً في المجتمع يتأسى بهم الشباب؟ كم من الناس في مصر أو تونس أو المغرب أو باكستان (وغيرها من الدول) يعرفون اسم هذا الإنسان وإنجازاته؟ أين مناهجنا الدراسية من تعليم أبنائنا سير مثل هذا الإنسان المسلم الفذ؟
أحبتي .. كلما تذكرت هذا الرجل تغلبني دموعي، وتذكرت قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ فأحسبه منهم، ولا أزكي على الله أحداً.
إنه بحق رجلٌ بأمةٍ، أدعو الله أن يكون أسوةً حسنةً لشباب المسلمين وأن يكثر من أمثاله.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 30 أكتوبر 2015

ليس الإيمان بالتمني

30 أكتوبر، 2015م
خاطرة الجمعة /٤

(ليس الإيمان بالتمني)

جار لنا، يأتي يومياً مبكراً إلى المسجد قبل الأذان لصلاة العشاء بعدة دقائق، لكني لا أراه في الصلوات الأخرى، سألته إن كان يصلي باقي الصلوات في مسجد آخر، فأخبرني بأن مواعيد عمله تحول دون ذلك، وشرح لي تفاصيل ذلك. لاحظت أنه يفضل النوم لنصف ساعة إضافية في الصباح عن صلاة الفجر جماعة في المسجد الذي لا يبعد عن منزله سوى دقائق معدودة. امتد حوارنا حول أهمية المحافظة على أداء الصلوات في مواعيدها ومع الجماعة، وكان يؤكد باستمرار عن أن ما يمنعه هو إما: وجوده في العمل، أو عودته مرهقاً منه، أو استعداده له. ولخص ذلك في عبارة "السعي في طلب الرزق عبادة"! إنهاءً لحديثي معه قلت له: "السعي لإرضاء الرازق عبادة أهم".
أحبتي في الله .. هل من المناسب أن ننشغل بالسعي للرزق عن إرضاء الرازق سبحانه وتعالى؟ هل من المنطق أن نجري وراء النتائج دون الأخذ بالأسباب؟ هل من العقل أن ننتظر الحصاد من غير أن نزرع؟
كثير منا للأسف تأخذه الدنيا ويعمل لها كأنه مخلد فيها. وكثير لاهٍ عن أمر الآخرة، رغم أنه لا ينفك يدعو الله بأن يدخله الجنة، بل والفردوس الأعلى منها، وإذا سألته ماذا أعددت لها؟ يقول لك: "الأعمال بالنيات"، ويقول: "ربك رب قلوب"، ويقول: "الدين المعاملة"، ويقول: "ربك عالم بما في القلوب"، ويقول: "نحسن الظن بالله"، ويقول ويقول ويقول ... كلها للأسف أقوالُ حقٍ تقال لتبرير التقصير في حق الله سبحانه وتعالى.
ألم يقرأ قوله عز وجل: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ*مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ*لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ...﴾. ألم يتدبر معنى هذه الآية. ألم يمر عليه حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَني، وَلكِنْ هُوَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ]، و[إنَّ قَوْمًاً غَرَّتْهُمُ الأمَانِي فَخَرَجُوا مِنَ الدُّنيَا وَلا حَسَنَةَ لَهُمْ، قَالُوا نُحْسِنُ الظَنَّ بالله، وكَذَبُوا، لَوْ أحْسَنوا الظنَّ لأحْسَنُوا العَمَلَ].
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللهم ممن نحسن الظن بك ونحسن العمل لك على الوجه الذي يرضيك عنا.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.