الجمعة، 6 أكتوبر 2017

صنائع المعروف

الجمعة 6 أكتوبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٣
(صنائع المعروف)

من أغرب القصص الواقعية التي اطلعت عليها هذه القصة التي وقعت أحداثها في بريطانيا حيث كان حفلٌ أقامته نقابة الأطباء سنة 1920م لتخريج دفعةٍ من أطباء جدد، قد ضمّ رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الحين، وتقدم نقيب الأطباء لإلقاء النصائح الواجبة للخريجين الجدد؛ فقال في كلمته: "طرقَتْ بابي بعد منتصف ليلةٍ عاصفةٍ سيدةٌ عجوزٌ، وقالت: الحقني يا دكتور، طفلي مريضٌ وفي حالةٍ خطيرةٍ جداً أرجوك افعل أي شيء لإنقاذه، فأسرعْتُ غير مبالٍ بالزوابع العاصفة والبرد الشديد والمطر الغزير، حيث كان منزلها في إحدى ضواحي لندن، وبعد رحلةٍ شاقةٍ وصلنا المنزل، فوجدتُها تعيش في غرفةٍ صغيرةٍ هي وابنها، ووجدت الطفل في زاويةٍ من الغرفة وهو يئن ويتألم بشدة". وتابع نقيب الأطباء: "بعد أن أديتُ واجبي نحو الطفل المريض ناولتني الأم كيساً صغيراً فيه نقود، فرفضت أن آخذ الكيس، ورددته إليها بلطفٍ معتذراً، وتعهدت الطفل حتى مَنّ الله عليه بالشفاء". ومضى نقيب الأطباء يقول: "هذه هي مهنة الطب، إنها أقرب المهن إلى الرحمة، بل ومن أقرب المهن إلى الله".
ما كاد نقيب الأطباء ينهي كلمته حتى قفز رئيس الوزراء من مقعده واتجه إلى منصة الخطابة وقال: "اسمح لي سيدي النقيب أن أقبل يدك!  .. منذ عشرين عاماً وأنا أبحث عنك! فأنا ذلك الطفل الذي ذكرته في حديثك الآن، فلتسعد أمي الآن وتهنأ فقد كانت وصيتها الوحيدة لي هي أن أعثر عليك لأكافئك على ما أحسنت به علينا في فقرنا فأنقذت حياتي".
والطفل الفقير الذي أصبح رئيس وزراء إنجلترا كان ديفيد لويد جورج الذي شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا للفترة 1916 - 1922م إبان الحرب العالمية الأولى حيث قاد بلاده إلى النصر على الألمان.

وقصةٌ ثانيةٌ، واقعيةٌ هي الأخرى، حدثت في بريطانيا كذلك، وبالتحديد في اسكتلندا، ولا تقل غرابةً عن القصة الأولى؛ حيث كان يعيش فلاحٌ فقيرٌ يدعى فلمنج، كان يعاني من ضيق ذات اليد والفقر المدقع، لم يكن يشكو أو يتذمر لكنه كان خائفـاً على ابنه، فلذة كبده، فهو قد استطاع تحمل شظف العيش ولكن ماذا عن ابنه؟ وهو مازال صغيراً والحياة ليست سهلةً، إنها محفوفةٌ بالمخاطر، كيف سيكون مستقبله يا ترى؟
ذات يومٍ وبينما كان فلمنج يتجول في أحد المراعي، سمع صوت كلبٍ ينبح نباحاً مستمراً، فذهب بسرعةٍ ناحية الكلب فوجد طفلاً يغوص في بركةٍ من الوحل وعلى محياه الرقيق ترتسم علامات الرعب والفزع، يصرخ بصوتٍ غير مسموعٍ من هول الرعب.
لم يفكر فلمنج، بل قفز بملابسه في بحيرة الوحل، أمسك بالصبي، أخرجه، وأنقذ حياته. في اليوم التالي، جاء رجلٌ تبدو عليه علامات النعمة والثراء في عربةٍ مزركشةٍ تجرها خيولٌ مطهمةٌ ومعه حارسان، اندهش فلمنج من زيارة هذا اللورد الثري له في بيته الحقير، لكنه أدرك إنه والد الصبي الذي أنقذه من الموت. قال اللورد الثري: "لو ظللتُ أشكرك طوال حياتي، فلن أوفي لك حقك، أنا مدينٌ لك بحياة ابني، اطلب ما شئت من أموالٍ أو مجوهراتٍ أو ما يقر عينك"، أجاب فلمنج: "سيدي اللورد، أنا لم أفعل سوى ما يمليه عليّ ضميري، وأي فلاحٍ مثلي كان سيفعل مثلما فعلت، فابنك هذا مثل ابني والموقف الذي تعرض له كان من الممكن أن يتعرض له ابني أيضاً"، أجاب اللورد الثري: "حسنـاً، طالما تعتبر ابني مثل ابنك، فأنا سآخذ ابنك وأتولى مصاريف تعليمه حتى يصير رجلاً متعلماً نافعاً لبلاده وقومه". طار فلمنج من السعادة؛ أخيراً سيتعلم ابنه في مدارس العظماء. وبالفعل تخرج فلمنج الصغير من مدرسة سانت ماري للعلوم الطبية، وأصبح الصبي الصغير رجلاً متعلماً بل عالماً كبيراً .. نعم؛ فذاك الصبي هو نفسه السير ألكسندر فلمنج 1881 ــ 1955م، مكتشف البنسلين في عام 1929م، أول مضادٍ حيويٍ عرفته البشرية على الإطلاق، ويعود له الفضل في القضاء على معظم الأمراض الميكروبية. كما حصل ألكسندر فلمنج على جائزة نوبل في عام 1945م.
لم تنته القصة بعد؛ بل حينما مرض ابن اللورد الثري بالتهابٍ رئويٍ، كان البنسلين هو الذي أنقذ حياته.
لكن من يا تُرى ابن الرجل الثري الذي أنقذ فلمنج الأب حياته مرةً وأنقذ ألكسندر فلمنج الابن حياته مرةً ثانيةً بفضل البنسلين؟ إنه رجلٌ شهيرٌ للغاية؛ فالثري يُدعى اللورد راندولف تشرشل، وابنه يُدعى ونستون تشرشل، أعظم رئيس وزراء بريطاني على مر العصور، الرجل الذي قاد الحرب ضد هتلر النازي أيام الحرب العالمية الثانية 1939 ــ 1945م، ويعود له الفضل في انتصار قوات الحلفاء: انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي على قوات المحور: ألمانيا واليابان.

سبحان الله، كأن التاريخ يعيد نفسه؛ فتقع أحداث القصتين في نفس الدولة،
ويكون طرفاها رئيسي وزراء هذه الدولة، ويكون كلاهما قد تم إنقاذه وهو صغير، ثم يكون لكليهما دور القائد المنتصر في حربٍ، ليست عاديةً، وإنما حربٌ عالمية!

أحبتي في الله .. أهم ما نستفيده من هاتين القصتين أن (صنائع المعروف) لا تضيع أبداً .. إنها عمل الخير بكل أشكاله، صغيراً كان أو كبيراً، مع فقيرٍ أو غني، في وقت شدةٍ أو رخاء، مع من نعرفه أو من لا نعرفه .. هكذا هو عمل الخير الذي نبتغي به وجه الله سبحانه وتعالى، نفعله ولا ننتظر مقابله شيئاً .. إنه نوعٌ من العبادة يغفل عنه الكثير من الناس؛ فكثيرٌ منا يطلق معنى العبادة على ما يتعلق بحقوق الله فحسب، ويغفل عن بابٍ آخر عظيم، وهو حسن المعاملة مع العباد والإحسان إليهم، إنه  (صنائع المعروف).
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾، فقوله ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ أمرٌ يشمل كل خيرٍ. وقال تعالى: ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، وقال سبحانه:﴿وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلمٍ أو تكشف عنه كربةً أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً (في مسجد الرسول بالمدينة المنورة) ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشي مع أخيه في حاجةٍ حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام].
كما قال عليه الصلاة والسلام: [إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه].
وقال صلى الله عليه وسلم: [كل معروفٍ صدقة]، وفي رواية: [كل معروفٍ صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك].
وقال عليه الصلاة والسلام: [إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وإن صلة الرحم تزيد في العمر وتقي الفقر، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنزٌ من كنوز الجنة وإن فيها شفاءٌ من تسعةٍ وتسعين داءً ـ أدناها الهم]، وفي رواية: [صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادةٌ في العمر، وكل معروفٍ صدقةٌ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف].

و(صنائع المعروف) لا تتم إلا بصانعٍ لها، ولله در الشاعر حين وصف صانع المعروف معن ابن زائدة، وكان شديد الكرم، بأبياتٍ بليغةٍ قال فيها:
يقولون معنٌ لا زكاةَ لمالِه
وكيف يُزكي المالَ مَنْ هو باذلُه
إذا حالَ حولٌ لم يكن في ديارِه
من المالِ إلا ذكرُه وجمائلُه
تراه - إذا ما جئتَه - متهللاً
كأنك تُعطيه الذي أنت آملُه
هو البحرُ من أيِ النواحي أتيتَه
فلجتُه المعروفُ والبِرُ ساحلُه
تَعَوَّدَ بسطُ الكفِ حتى لو أنه
أرادَ انقباضاً لم تُطِعُه أناملُه
فلو لم يكن في كفِه غيرُ نفسِه
لجادَ بها فليتقِ اللهَ سائلُه

أحبتي .. فلنكثر من (صنائع المعروف) ما استطعنا، ولا نستصغر منها شيئاً؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا]، وقال صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا النَّارَ وَلوْ بِشقِّ تَمْرةٍ]. فلنكثر من الصدقات وإن صَغُرت فأقل منها الحرمان، ومن بر الوالدين، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، والإحسان إلى الناس، وتقديم العون للمحتاجين، ومساعدة الغير، والتبرع بالمال والوقت والجهد والعلم، وعمل الخير بصفة عامة.
ثم علينا أن نشكر من أسدوا لنا معروفاً ونكافئهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ].
 قال تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. اللهم أعنا على فعل الخير، وقنا شُح أنفسنا، واجعلنا اللهم من عبادك المفلحين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/CUSg74

الجمعة، 29 سبتمبر 2017

تبينوا

الجمعة 29 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٢
(تبينوا)

يُروى أن طبيباً جراحاً دخل إلى المستشفى على عجلٍ بعد أن تم استدعاؤه لإجراء عمليةٍ فوريةٍ لأحد المرضى، وقبل أن يدخل غرفة العمليات واجهه والد المريض وصرخ في وجهه: "لِمَ التأخر؟ إن حياة ابني في خطر، أليس لديك إحساس؟"، فابتسم الطبيب ابتسامةً فاترةً وقال: "أرجو أن تهدأ وتدعني أقوم بعملي"، فرد الأب: "ما أبردك يا أخي! لو كانت حياة ابنك على المحك هل كنت ستهدأ؟ ما أسهل موعظة الآخرين". تركه الطبيب ودخل غرفة العمليات، ثم خرج بعد ساعتين على عجلٍ وقال لوالد المريض: "لقد نجحت العملية، والحمد لله، وابنك بخيرٍ، واعذرني فأنا على موعدٍ آخر" ثم غادر فوراً دون أن يعطي والد المريض فرصةً لأي سؤالٍ أو تعليق. ولما خرجت الممرضة سألها الأب: "ما بال هذا الطبيب المغرور؟" فقالت: "لقد تُوفي ولده في حادث سيارة، ومع ذلك فقد لبى الاستدعاء عندما علم بالحالة الحرجة لولدك، وبعد أن أنقذ حياة ولدك كان عليه أن يُسرع ليحضر دفن ولده".

وهذا شخصٌ مرضت ابنته وعندما ذهب بها إلى المستشفى كتب له الأطباء العديد من الأدوية التي لم يقدر على شرائها لغلاء ثمنها فاتصل بأخيه على الهاتف المحمول وطلب منه أن يحضر له مئتي جنيه في البيت للضرورة، فأجاب الأخ طلبه قائلاً: "أعطني من الوقت ساعةً لأحضر لك المال". وبينما الأب ينتظر اتصل بأخيه ليتأكد من حضوره لكنه وجد هاتفه مغلقاً، حاول أكثر من مرة لكن النتيجة لم تتغير. أخذ يحدث نفسه كيف يخذلني أخي ويتهرب مني، لن أسامحه على فعلته. وبينما هو في قمة الحزن والغضب من موقف أخيه دق جرس الباب، فتح الباب والغضب يسيطر عليه، فوجد أخاه على الباب مقدماً له المال قائلاً: "أعتذر عن تأخري فلم أستطع بيع هاتفي المحمول بالسرعة التي توقعتها".

ويُروى كذلك أن رسّاماً عجوزاً كان يعيش في قريةٍ صغيرةٍ وكان يرسم لوحاتٍ غايةً في الجمال ويبيعها بسعرٍ جيّد، أتاه فقيرٌ من أهل القرية في يومٍ من الأيام وقال له: "أنت تكسب مالاً كثيراً من أعمالك، فلماذا لا تساعد فقراء القرية؟! انظر لجزار القرية الذي لا يملك مالاً كثيراً ومع ذلك يوزّع كل يوم قطعاً من اللحم المجّانية على الفقراء، وانظر إلى خبّاز القرية برغم أنه رجلٌ فقيرٌ ذو عيال إلا أنه يعطي الفقراء خبزاً مجانياً كل يوم". لم يردّ عليه الرسام وابتسم بهدوء،
خرج الفقير منزعجاً من عند الرسّام وأشاع في القرية بأنّ الرسام ثريٌ يكتنز الأموال لكنّه بخيلٌ جداً ولا يساعد الفقراء؛ فنقم عليه أهل القرية وقاطعوه وهجروه. وبعد مدّةٍ مرض الرسّام العجوز ولم يُعره أحدٌ من أبناء القرية اهتماماً، ثم مات وحيداً. مرّت الأيّام ولاحظ أهل القرية بأنّ الجزار لم يعد يرسل للفقراء لحماً مجّانياً، وكذلك الخباز صار لا يمنح الفقراء خبزاً مجانياً، وعندما سألوهما عن سبب توقّفهما، قالا: "كان الرسّام العجوز يعطينا كل شهرٍ مبلغاً من المال لنعطي الفقراء اللحم والخبز، وبعد أن مات توقّف ذلك كله!".

هناك أناسٌ لهم قلوبٌ تتألم ولا تتكلم، وهناك أناسٌ يبادرون إلى فعل الخير لكن ظروفاً قد تمنعهم أو تؤخرهم، وهناك أناسٌ لا يريدون إظهار أعمالهم والمجاهرة بها؛ فلا تتسرعوا في الحكم على غيركم و(تبينوا)، فأنتم لا تعلمون ظروف الناس، ومن منا يعلم الغيب؟!.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الإسلام يدعو إلى عدم التسرع وإلى التبين والتثبت، فهو خلقٌ رفيعٌ من أخلاق الإسلام، أمر به رب العالمين، وحثت عليه سنّة سيد المرسلين؛ ففيه حفظٌ للأرواح، وصيانةٌ للدّماء، وحمايةٌ لحقوق الأفراد والجماعات، وقطعٌ لدابر الفتنة والصراعات، به يُعرف الحق من الباطل فيما يُروج من أخبارٍ وإشاعات؛ فما أحوجنا إلى هذا الخلق الكريم؛ في زمنٍ تُرمى فيه التهم جزافاً، وتُنقل فيه الإشاعات دون تثبتٍ ولا تبين.
والتبين علمٌ يحصل بعد التباسٍ وغموض. يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي: أي تثبّت وتأنّى فيه، ولم يَعجَل.
أما التثبت فهو التحري والتأكد من صحة الخبر قبل قوله أو نقله أو نشره.
فالمراد بالتبيّن والتثبّت هو التأني والتريّث والبحث عن صحة الخبر، وعدم العجلة في نقله أو بناء الحكم عليه قبل تيقن صحته. فالتثبت من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش. ومنهج (تبينوا) فضيلةٌ، بخلاف النقل عن الناس بتسرعٍ ومن غير تثبّتٍ فهو رذيلةٌ تورد صاحبها الندامة.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، في قراءة الجمهور ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، وفي قراءةٍ أخرى: ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾، من التثبّت، وهو الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر. إن في هذه الآية بياناً لمنهج التعامل مع الأخبار، كيف نتلقاها، وكيف نتصرف عند سماعها، وفيها الأمر بالتأني وعدم التسرع بالعمل بمقتضى ما يُتلقى من أخبارٍ­ تأتي من شخصٍ أو جهةٍ ­حتى يتم التأكد من صحتها، وإلا كان الندم للاستعجال في اتخاذ المواقف، وللتسرع في ردود الفعل مما يُضطر معه المرء إلى الاعتذار. وقديماً قالوا: «إياك وما يُعتذر منه». 
قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: [التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ]، التأني من اللّه أي التثبت في الأمور مما يحبه الله ويأمر به لما فيه من وقايةٍ للعبد من الزلل والخطأ. والعجلة من الشيطان أي من إغوائه ووساوسه. قال ابن القيم: "إنما كانت العجلة من الشيطان لأنها خفةٌ وطيشٌ وحِدةٌ في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور وتمنع الخيور".
ولخص أحد علمائنا الأفاضل هذا الأمر بقوله: "تبين الأمر والتثبت منه منهجٌ علميٌ أصيلٌ، ينطق به كتاب ربنا، من شأنه أن يبني العقلية المسلمة المتفحصة الناقدة"، وأضاف أن هذا المنهج "يحمي المرء من تصديق كل ما يُنقل إليه، إنه منهجٌ نما وتطور مع اهتمام المسلمين بالحديث النبوي الشريف، يصلح لأن يعمم على جميع المجالات التي تعتمد في فلسفتها على تلقي الأخبار لإصدار الأحكام والقرارات بناءً عليها".
وقال حكيمٌ للتأكيد على أهمية منهج (تبينوا): "إياك والعجلة، فإنّ العرب كانت تكنّيها أمّ الندامة؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكّر، ويقطع قبل أن يقدّر، ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحدٌ إلّا صحب الندامة، واعتزل السلامة".
والتحري في صحة خبرٍ لا يعني بالضرورة تكذيب من نقله، خاصةً إذا كان من أهل العدالة والديانة، وإنما يعني الاحتياط لما قد يُبنى عليه من مواقف سيئةٍ بجهالةٍ. ولو لم يكن التسرع وعدم التثبت على درجةٍ عظيمةٍ من الخطورة والأهمية في إضعاف روح الموالاة بين المؤمنين لما أكد الباري عز وجل على ذلك في كتابه الكريم وحثت عليه السنة المشرفة.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْۗ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: [كفى بالمرء إثماً، أن يُحدّث بكل ما سمع]. ويُستفاد من الآية الكريمة ومن الحديث الشريف أن للتبين بعداً آخر لا يقل أهميةً عن التأكد من صدق وصحة ما يصلنا من أخبار ، ألا وهو الحرص على التزام الحكمة وتبين هل من المناسب إذاعة أو إشاعة الخبر أم لا حتى لو تأكدنا من صحته وصدقه ودقته، فهي دعوةٌ إذن لوزن الأمور بميزان المصلحة: الخاصة منها والعامة، وتغليب الحكمة فيما يُنقل ويُعمم ويُنشر من الأخبار أو الأقوال.

أحبتي .. أعجبني استنباط أحد علمائنا الأجلاء من آيات سورة النمل، حيث لاحظ أن سليمان عليه السلام قال للهدهد عندما أخبره عن ملكة سبأ: ﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ أي سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت، أو وهمت، لعل في الأمر التباساً أو غموضاً. واستطرد موجهاً نصيحةً قيمةً: يا ليت الناس اتخذوا هذا شعاراً لهم، كلما جاءنا رجلٌ يقول: فلانٌ قال، وفلانٌ فعل، وفلانٌ متهم، وفلانةٌ وقع لها كذا أو وقع منها كذا، لو أجبنا كل واحدٍ يسعى بين الناس بالقيل والقال بهذه الكلمة: سننظر، سنبحث، سنتأكد، لقطعنا الطريق على أصحاب النميمة والوشايات الكاذبة الذين يسعون بين الناس بالفساد والإفساد، ولانتهت أكثر الخصومات والنزاعات بين الناس، لأن معظم النزاعات والخصومات التي تقع بين الناس مبنيةٌ على إشاعاتٍ تتناقلها الألسن دون تثبتٍ ولا تبين، فتَنتُج عنها الكراهية والقطيعة والخصومات.
ومع إضافة البعد الخاص بتبين المصلحة والتزام الحكمة فيما ننقل وننشر ونذيع من حقائق يكون قد اكتمل لدينا منهج (تبينوا)، فهلا انتبهنا لهذا المنهج واهتممنا به دراسةً وتدريساً وتطبيقاً؟ وهلا استفدنا منه وعملنا به في بيوتنا مع أبنائنا وفي مجتمعنا ومع غيرنا؟".
اللهم اجعلنا من الذين هديت ف(تبينوا)
من كل ما يسمعون ويقرأون ويشاهدون ليتأكدوا ويتثبتوا ويكونوا من الموقنين بدلاً من التسرع الذي قد يجعلهم من النادمين. وأنعم علينا بالحكمة لنتبين ما يمكن أن يُقال، ومتى يُقال، ولمن يُقال، وكيف يُقال.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/Gy8RB2

الجمعة، 22 سبتمبر 2017

اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ

الجمعة 22 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠١
(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)

من أحب الأشياء إلى نفسي الحديث مع أحفادي؛ يفكرون بنقاء، يتحدثون بتلقائية، يجيبون بصدق، ويستجيبون بحماس.
الأسبوع الماضي، وكنا أنا وحفيدي عبد الله في طريقنا لصلاة العصر في مسجد رحمة الله المجاور لمنزلنا، سألته ما هي أحب صفةٍ يحبها في والده، فقال لي أنه يحب أشياء كثيرةً فيه، فطلبت منه تحديد شئٍ واحدٍ أو صفةٍ واحدةٍ هي أكثر ما يحبه فيه. قال دون تردد أن أكثر ما يحبه في أبيه أنه يسمح له بالذهاب للمحلات القريبة من البيت لشراء بعض الأغراض. قلت له: "حسناً" ثم سألته نفس السؤال عن والدته فكانت إجابته كما أخبرني عن والده، بأن هناك صفاتٍ كثيرةً، وأنه محتارٌ أيها يحبه أكثر من غيره، سألته عن أحبها إلى نفسه، ففكر ملياً ثم قال لي: "العدل"!
فوجئت برده، كيف لطفلٍ سنه ثماني سنواتٍ فقط أن يدرك مفهوماً مجرداً كمفهوم العدل؟ ثم ذهب تفكيري إلى اتجاه آخر: حمدت الله أن وفق والدته إلى تطبيق هذا المفهوم مع أبنائها مع وجود عاطفة الأمومة الجياشة لديها تجاههم، فقد تقود العاطفة صاحبها إلى التعامل بالهوى فهو أسهل من التعامل بالعدل الذي يتطلب تغليب العقل والمنطق أكثر من العاطفة والحب! إن الجمع بين عاطفة الأمومة وتعامل الأم بالعدل مع أبنائها للدرجة التي يحسونها ويلمسونها ويدركونها رغم صغر سنهم هي نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى وتوفيقٌ منه، وهي دليل تقوى؛ حيث تقول الآية الكريمة: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ).

أحبتي في الله .. العَدلُ لُغةً هو: التَّوسُّطُ بَين الِإفراطِ والتَّفريط، من غير إجحافٍ ولا تَفضيل. هو الاعتدالِ في الأمور، وهو الإنصاف وإعطاء كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. وهو استِعمال الأُمور في مَواضِعها، وأوقاتِها، ووجوهِها، ومَقاديرها، من غير سَرَفٍ، ولا تقصيرٍ، ولا تقديمٍ، ولا تأخيرٍ. نَقيضُهُ الظُّلم والجوْر.
ولأهمية العدل وأثره في حياة الناس فقد بَيَّنَ الله لنا في كتابه الكريم أن نبينا الكريم مأمورٌ بالعدل؛ قال سبحانه على لسان النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾، وأمرنا المولى عز وجل بما أمر به رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ﴾، كما أمرنا أن نحكم بين الناس بالعدل؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾، ووصف سبحانه من يأمر بالعدل بأنه على صراطٍ مستقيم؛ قال: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وعند اقتتال طائفتين من المسلمين يكون العدل هو عماد المصالحة بينهما؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، وعلى المسلمُ أن يقوم بتطبيق العدل على نفسه أو الوالدين أو الأقربين فيقرَّ بالخطأ ويعتذرَ لمن أساء إليه ويسارع بالإحسان؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾. وأوجب الله سبحانه وتعالى علينا أن إذا حكمنا بين الناس أن نلتزم بقول الحق ونعدل وننصف ولا نجور، ولو كان الذي يتوجب الحق عليه ذا قرابة، ولا تحملنا قرابة قريبٍ أو صداقة صديقٍ أن نقول غير الحق؛ قال سبحانه: ﴿إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ﴾. وفي المعاملات الخاصة فإن العدل مطلوبٌ، ففي حالة تداين الأفراد يكون العدل هو أساس كتابة الديْن؛ قال عز وجل: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾، وهو شَرْطٌ عند تعدد الزوجات إن خفنا ألا نقدر عليه ونلتزم به فزوجةٌ واحدةٌ فقط؛ فقال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾. والبعد عن العدل هو اتباعٌ للهوى وقد نهانا سبحانه عن اتباع الهوى؛ قال عز وجل: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا﴾. ومن صور العدل العظيمة أن يقوم المسلمُ بتبنِّي قيم العدل مع الأعداء، فلا يجورَ عليهم، ولا يبخسَهم حقوقَهم، فهذا الأمر من أسس التقوى في دين الإسلام العظيم؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
ومِن سِمات العَدل في الإسلام أنّهُ لا عاطفةٌ فيه؛ فلا يتأثَّر بمالٍ أو عرقٍ أو نَسَب، ومِن ذلكَ حادِثةُ المرأةِ المخزوميَّةِ التي سَرقَت في عَهدِ رَسولِ اللهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلام في غَزوةِ الفتحِ، فَفَزِع قومُها إلى أسامَةَ بن زيدٍ يَستشفِعونَه، فلمَّا كَلَّمَ أسامةُ رسول الله فيها تَلوَّن وَجهُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وقال: [أتكلِّمُني في حدٍّ من حدودِ اللهِ؟]. قال أسامة: "استغفِرْ لي يا رسولَ اللهِ"، فلمَّا كان العَشيُّ قامَ رسولُ اللهِ خطيباً، فأَثنى على اللهِ بِما هو أهله، ثم قال: [أمَّا بَعدُ، فإنَّما أهلَكَ النَّاس قبلَكم أنَّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهِم الشَّريفُ تركوهُ، وإذا سَرَق فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليهِ الحدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أنَّ فاطِمةَُ بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدَها]. ثم أمَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بتلك المرأةِ فقُطعت يدُها، فَحَسُنت توبتُها بعد ذلك.
وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين حريصين على إقامة العدل بين الناس؛ فهذا ابنٌ لعَمرو بن العاص قد اشترك مع غلامٍ من أقباط مصر في سباقٍ للخيول، فضرب ابن الأمير الغلام القبطي اعتماداً على سلطان أبيه، وكان عَمرو بن العاص رضي الله عنه واليًّاً على مصر في خلافة أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسافر والد الغلام القبطي المضروب صحبة ابنه إلى المدينة المنورة، وأتى أمير المؤمنين عُمر رضي الله عنه، وبَيَّن له ما وقع، فكتب أمير المؤمنين إلى عَمرو بن العاص أن يحضر إلى المدينة المنورة صحبة ابنه، فلما حضر الجميع عند أمير المؤمنين، ناول عُمر الغلام القبطي سوطاً وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عَمرو بن العاص، فضربه حتى رأى أنه قد استوفى حقه. ثم قال له أمير المؤمنين: "لو ضربت عَمرو بن العاص ما منعتك؛ لأن الغلام إنما ضربك لسلطان أبيه"، ثم التفت إلى عَمرو بن العاص قائلاً: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".
ولله در شاعر النيل وهو يقول عن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وراعَ صاحبُ كسرى أن رأى عُمَراً
بين الرعيةِ عُطلاً وهو راعـيها
وعهده بملوكِ الفرسِ أن لـــها
سوراً من الجندِ والأحراسِ يحميها
رآه مستغرقاً في نومِه فــــرأى
فيــه الجلالةَ في أسمى معانيها
فوقَ الثرى تحت ظلِ الدوحِ مشتملاً
بــبردةٍ كاد طولُ العهدِ يبليها
فهان في عينِه ما كان يُكـــبره
مــن الأكاسرِ والدنيا بأيديها
وقال قولةَ حقٍ أصبحت مثلاً
وأصـبح الجيلُ بعد الجيلِ يرويها
أَمِنْتَ لما أقمـــتَ العدلَ بينهمُ
فنمــتَ نومَ قريرِ العينِ هانيها

وفي خلافة أمير المؤمنين عُمر بن عبد العزيز كان قتيبة بن مسلم الباهلي يفتح المدن والقرى ينشر دين الله في الأرض. بدأ قتيبة القتال وافتتح مدينة سمرقند دون أن يدعوَ أهلها للإسلام أو الجزية ودون أن يمهلهم ثلاثة أيام قبل أن يبدأ القتال كعادة المسلمين. فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالفٌ للإسلام كتب كهنتها رسالةً وأرسلوها إلى عُمر بن عبد العزيز فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها "من عبد الله عُمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا"، فذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند فنصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم، قالوا للقاضي: "اجتاحنا قتيبة ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا". فقال القاضي لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة: "أنت ما تقول؟"، قال: "لقد كانت أرضهم خصبةً وواسعةً فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه". قال القاضي: "لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً". ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين من سمرقند على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية؛ فما إن غربت شمس ذلك اليوم إلا وقد رحل الجيش الإسلامي كله عن أرض سمرقند، ثم دعا قائد الجيش أهل سمرقند إلى الإسلام أو الجزية أو القتال. فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالةٍ تنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا: "هذه أمةٌ حُكمُها رحمةٌ ونعمة"، فدخل أغلبهم في دين الله وفُرضت الجزية على الباقين.
يقول العلماء أنه لا شك أن إقامة العدل وأداء الحقوق لأهلها من أسباب بقاء الدول وتفوقها وغلبتها؛ ولهذا يُروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنةً". والمقصود أن الأمم الكافرة إن توفرت على معالم قيام الدول ونهضتها أقامها الله وجازاها بجنس عملها، ولا يظلم ربك أحداً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يظلم مؤمناً حسنةً، يُعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناتِ ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنةٌ يجزى بها]، فالله تعالى يعطيهم في الدنيا، أفراداً ودولاً، ما يستحقونه باعتبار ما عندهم من خيرٍ وما يبذلونه من حق. وهناك جانبٌ آخر لا يصح إغفاله، وهو أن الله تعالى قد ينصر أمةً كافرةً على أمةٍ مسلمةٍ عقوبةً لها على معاصيها، وهذا ما حصل في غزوة أُحد؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾.

أحبتي .. الصغار يتعلمون منا، هذا صحيحٌ، لكن صحيحٌ أيضاً أننا نحن الكبار نتعلم منهم؛ فقبل حديثي مع حفيدي عبد الله كنت أظن أن جميع القيم المجردة سواء، وأنها جميعها صعبةٌ عصيةٌ على إدراك الطفل، لكني تعلمت من عبد الله أن ليست جميع القيم المجردة كذلك؛ فقيمٌ مثل العدل والكرم والأمانة يمكن أن يعايشها الطفل في مواقف عمليةٍ في حياته اليومية هي بلا شك أسهل في إدراكها من قيمٍ مثل الشرف والنبل والكرامة قد لا تتوافر لها مواقف عمليةٌ في حياة الطفل اليومية ليستوعبها.
أحبتي .. عودة إلى موضوع العدل .. الأمر جد خطير .. فالعدل ليس أساساً للملك فقط وإنما هو أساسٌ لمجمل حياة البشر، هو ميزانٌ لو اختل ضاع من حياتنا كل معنىً للحق والخير والجمال .. أحبتي (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) .. فليعدل الوالدان مع أبنائهما، ويعدل المعلمون مع طلابهم، ويعدل الرؤساء مع مرؤوسيهم. ليعدل كلٌ منا في مجاله وفي محيطه وفي جميع معاملاته. ولنبادر إلى رد الحقوق إلى أصحابها ورفع المظالم وإشاعة العدل بين الناس في جميع مجالات الحياة لتستقيم أمورنا ونكون بحق أمةً وصفها المولى عز وجل بقوله: ﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.

ليكن لنا في الغامديَّة أسوةٌ حسنةٌ، وهي امرأةٌ من جهينة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله، إني قد زنيتُ فطهِّرني"، وكانت متزوِّجةً محصنةً، وتعلم أن عقابها هو الرجم حتى الموت، فردَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُقِم عليها الحدَّ، ثم جاءت إليه فيما بعد وقالت: "إني لحُبْلَى من الزنا"، فطلب منها الرسول عليه الصلاة والسلام أن تذهب حتى تلد، فرجعت وبقيت شهوراً، فلما ولدت أتته بالصبي وقالت: "يا رسول الله، هذا ولدي قد ولدتُه"، فطلب منها أن تذهب فتُرضِع الطفل حتى تفطمه، فبقيت تُرضِعه حتى أصبح قادراً على أكل الطعام، فلمَّا فطمته أتته بالصبي في يده كسرةُ خبز، فقالت: "يا نبي الله، هذا ولدي بالزنا فطمتُه، وقد أكل الطعام"، حينذاك لم يبقَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقيم عليها حدَّ الرجم، فأمر فحُفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه بحجرٍ فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه فسبَّها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبَّه إيَّاها، فقال: [مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مكسٍ {المرتكب أشنع المعاصي} لغُفِر له]، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودُفِنت، فقال له عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال: [لقد تابت توبةً لو قُسِّمت بين سبعين من أهل المدينة لوَسِعَتْهم، وهل وجدتَ توبةً أفضلَ من أن جادت بنفسها لله تعالى؟].

هلَّا أقمنا العدل على أنفسنا فتطهرنا كالغامدية؟ هلَّا تطهر من أراق دم مسلم بغير حقٍ، أو سرق أو نهب أو عاث في الأرض فساداً؟ هلَّا تطهر من افترى وقال الزور وأغرق نفسه في مستنقعات الغيبة والنميمة؟ هلَّا تطهر كلٌ منا من ذنوبه صغيرةً كانت أو كبيرةً؟ هلَّا تُبنا من معاصينا قبل أن يوافينا الأجل؟
اللهم أَعِنَّا على أن نقيم العدل، وأَعِنَّا على أن نكون من التوابين ونكون من المتطهرين لنكون ممن تحبهم مصداقاً لقولك سبحانك: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/AeGPir

الجمعة، 8 سبتمبر 2017

إلى متى الغفلة؟

الجمعة 8 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٠
(إلى متى الغفلة؟)

عاد من سفرةٍ قصيرةٍ لم تدم إلا لعدة أيام، بوجهٍ مشرقٍ ونورٍ يشع من محياه. حاولت أن أعرف سبب هذا البهاء الرباني الظاهر عليه. علمت منه أنه أمضى تلك الأيام في منتجعٍ على الساحل الشمالي، في الوقت الذي انشغل فيه معظم الناس بالاستعداد لعيد الأضحى المبارك بتجهيز الأضاحي وشراء مستلزمات العيد. سألته متعجباً: "الساحل الشمالي؟!"، أحس صديقي بحالة الاندهاش التي تعتريني فقال موضحاً: "منذ سنوات وأنا وأسرتي نفضل قضاء أيام العشر من ذي الحجة، خاصةً يوم عرفة، في خُلوةٍ في ذلك المكان الهادئ بعيداً عن مشاغل القاهرة التي لا تنتهي، منقطعين عن العالم من حولنا؛ لا هواتف، ولا تلفاز، ولا صحيفة يومية. متفرغين للعبادة والدعاء ونحن صائمون في هذه الأيام المباركة التي وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها أفضل أيام الدنيا". قلت له وقد غادرت علامات الاندهاش وجهي: "تقبل الله منكم صالح الأعمال"، رد بأدبه الجم وصوته الهادئ الرخيم: "منا ومنكم".
عدت إلى البيت بعدما تركت صديقي العزيز وأنا أفكر في كل كلمةٍ قالها. رحت أفكر في نفسي وكيف قضيت تلك الأيام العشر من ذي الحجة، وكيف كانت خصوصية يوم عرفة من بينها، وكم كنت في غفلةٍ عن كثيرٍ مما ينبغي عمله، وجدت أني أضعت كثيراً مما كان يمكنني عمله في أفضل أيام الدنيا، وقارنت بين ما قمت به وما قام به صديقي العزيز فكاد شعورٌ بالحسد يتسلل إلى قلبي لولا أن تغمدني الله برحمته فتحول هذا الشعور إلى شعورٍ بالغبطة. سألت نفسي (إلى متى الغفلة؟) فأحسست بالندم، لكني سرعان ما تغلبت على إحساسي بالندم، وهو طاقةٌ سلبيةٌ محبطةٌ، بإصرارٍ مفعمٍ بالأمل معاهداً نفسي بألا أسمح لها بعد اليوم بإضاعة مثل تلك الفرص الثمينة والأزمنة الطيبة المباركة؛ فهي منحٌ ربانيةٌ تنتظر من ينتهزها ويستثمرها فيكون من الفائزين، ومكرماتٌ إلهيةٌ لجميع المسلمين لا يُعرض عنها ويهملها إلا الغافلون.

أحبتي في الله .. الغفلة سببٌ لكل خسرانٍ، فهي كما يقول أحد العلماء مِن الأمراض الفتَّاكة التي تَعصِف بالفرد، والتي حذَّرنا منها ربُّنا عزَّ وجل في القرآن الكريم في مواضع متعددة، حتى نأخذ حِذرَنا، ونستيقظ قبل فوات الأوان.
فمن هم الغافلون؟ تجيب الآية الكريمة عن هذا التساؤل؛ قال تعالى عنهم: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾، هذا هو الوصف القرآني للغافلين. فأين نحن من هذا الوصف الواضح الجلي المبين؟ هل قلوبنا تفقه حقاً؟ وهل ظهر أثر ما فقهته قلوبنا في سلوكنا؟ هل عيوننا تبصر ما ينبغي أن نبصره من آيات الله سبحانه وتعالى نشاهدها في الكون وفي الخلق وفي أنفسنا فنكون من الحامدين الشاكرين؟ هل آذاننا تسمع حق السمع ما يجب أن تستمع وتنصت إليه من آيات الله تُتلى وقرآنٍ هو ذكرٌ لنا ونورٌ لأرواحنا؟ هل خشعت قلوبنا لما نستمع إليه؟ وهل زدنا إيماناً مع كل آيةٍ قرآنيةٍ نتلوها؟ هل ظهر أثر ذلك في أخلاقنا ومعاملاتنا؟ أم نحن من العافلين؟ وإذا كنا منهم والعياذ بالله فليسأل كلٌ منا نفسه (إلى متى الغفلة؟).
يقول المولى عز وجل في مُحكم آياته: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ إنه تنبيهٌ لنا لنفيق من سُباتنا، ولننتبه إلى ما نحن فيه. اقترب يوم الحساب لكلٍ منا فماذا أعددنا له؟ يزداد كل إنسانٍ منا كل يومٍ اقتراباً من نهاية الأجل الذي أجله الله لنا، فهل ازددنا كل يومٍ قُرباً من الله عز وجل؟ أم نحن من الغافلين الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم ﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ وهؤلاء يجازيهم الله من جنس عملهم؛ يقول سبحانه: ﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾.
إنها الغفلة وهي التسويف وهي التأجيل وهي الأمل الخادع الذي يسرق منا أوقاتنا وأيامنا وهي أعمارنا، ثم لا نفيق إلا وقت الندم لنعلم حقيقة أن الحياة الدنيا ليست إلا متاع الغرور؛ يقول تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾.
لقد حذرنا الله من الغفلة قبل اقتراب الأجل؛ قال سبحانه: ﴿ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾.

هذه قصة شاب كان في غفلةٍ حتى كاد أن ينتهي أجله لولا رحمة ربه؛ كتب يقول:
أنا شابٌ كان يظن بأن الحياة مالٌ وفيرٌ وفراشٌ وثيرٌ ومركبٌ مريحٌ ومأكلٌ ومشربٌ ولهوٌ ومرح ... كان يوم جمعةٍ، وذهبت للهو واللعب مع الأصدقاء على شاطئ البحر. سمعنا المؤذن في مسجدٍ قريبٍ ينادي للصلاة، لكنا أثناء الأذان كنا نجهز أنا ورفاقي عدة الغوص وأنابيب الهواء استعداداً لرحلة غوصٍ جميلةٍ تحت الماء، وكنت أرتب في عقلي برنامج باقي اليوم الذي لا يخلو لحظةً من المعاصي. نزلت إلى البحر بعدة الغوص، ثم وأنا في بطن البحر حصل مالم أتوقعه، تمزقت القطعة المطاطية التي أطبق عليها بأسناني وشفتاي لتحول دون دخول الماء إلى فمي ولتمدني بالهواء من أنبوب الأكسجين، تمزقت أثناء دخول الهواء إلى رئتي فأغلقت قطرات الماء المالح مجرى التنفس، وبدأت أموت ... بدأت رئتاي تستغيثان وتنتفضان، تريدان الهواء ... بدأت أشهق وبدأ شريط حياتي بالمرور أمام عيناي ... مع أول شهقةٍ عرفت كم أن الإنسان ضعيف، وكم أنا عاجزٌ عن مواجهة قطراتٍ مالحةٍ سلطها الله علي ليريني أنه هو الجبار المتكبر، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه. ومع ثاني شهقةٍ تذكرت صلاة الجمعة التي ضيعتها، ولكن للأسف بعد فوات الأوان، كم ندمت على كل سجدة ضيعتها، وكم تحسرت على كل لحظة قضيتها في معصية الله. ومع ثالث شهقةٍ تذكرت أمي، والحزن الذي يمزق قلبها وأنا أتخيلها تبكي موت وحيدها وحبيبها وكيف سيكون حالها بعدي. ومع رابع شهقةٍ تذكرت ذنوبي وزلاتي وما أكثرها، تذكرت تكبري وغروري. وبدأت أحاول النجاة والظفر بآخر ثانية بقيت لي، حاولت أن أختم حياتي بأن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فبدأت أحاول نطق الشهادتين ... فما أن قلت أشهـ... حتى غُص حلقي وكأن يداً خفيةً تُطبق على حلقي لتمنعني من نطقها، فعدت أحاول وأجاهد: أشهـ .... أشهـ ...، تمنيت وقتها لو مد الله في أجلي ساعةً واحدةً أو بضع دقائق أو حتى ثواني بمقدار ما أنطق الشهادتين، ولكن هيهات. بدأت أفقد الشعور بكل شيءٍ، وأحاطت بي ظلمةٌ غريبةٌ، وفقدت الوعي وأنا أعرف خاتمتي ... ووأسفاه على خاتمةٍ كهذه ... ولكن رحمة ربي وسعت كل شيءٍ: فجأةً، بدأ الهواء يتسرب إلى صدري مرةً أخرى، وانقشعت الظلمة، وفتحت عينيي لأجد مدرب الغوص يُمسك بي مثبتاً خرطوم الهواء في فمي محاولاً إنعاشي ونحن مازلنا في بطن البحر، ورأيت ابتسامةً على محياه فهمت منها أنني بخير. نطق قلبي ولساني وكل خليةٍ في جسدي، وقبلهم روحي بأشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهدُ أن محمداً رسول الله ... الحمد لله... الحمد لله... الحمد لله. وبدأ قلبي يحدثني قائلاً: لقد رحمك ربك فاتعظ. وبالفعل خرجت من الماء شخصاً آخر ... صارت نظرتي للحياة مختلفة تماماً ... وأصبح كل ما أرجوه من الواحد القهار أن يختم لي بأن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لحظة الغرغرة التي بت أعرفها جيداً... أصبحت لا أريد من الدنيا إلا أن أكون ممن ذكرهم الرحمن في كتابه الكريم بقوله: ﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا . جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ﴾. وللعلم: عدت بعد تلك الحادثة بفترةٍ وحدي إلى نفس المكان في بطن البحر وسجدت لله تعالى سجدة شكرٍ وخضوعٍ وولاءٍ وامتنان ... في مكانٍ لا أظن أن إنسياً قبلي قد سجد فيه لله تعالى عسى أن يشهد لي هذا المكان يوم القيامة فيرحمني الله بسجدتي في بطن البحر ويدخلني جنته.
هذه هي الدنيا التي تجعلنا غافلين عن الدار الآخرة، قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:
النَّفْسُ تـَبْكِي عَلَىْ الدُّنْيَا وَقَدْ عَـلِمَتْ
أَنَ السـَّـلامَة فـِيِهَــا تـَرْكُ مَــا فِـيْهَــا
لا دار َللـمَــرْءِ بعْـدَ المَـوْتِ يَسْــكـُنـُهـا
إلا التي كــانَ قـَبْــل ِالمَــوْت يـَبْنيهــا
فـإنْ بنـاها بخـَيْـر ٍطـابَ مَسـْكـَنـُهـا
وإنْ بنـــــاهـا بشـَرٍّ خـــابَ بانيْهـــا
لا تـَرْكـَنـَنَّ إلى الـدُّنيـــــا وما فـيهــا
فـالـمَــوْتُ لا شـَكَّ يُفـْنيْنـا ويُفـْنيْهــا
واعْمَـلْ لـدارٍ غـداً رضوانُ خــادِمُها
والجــارُ أحْـمَـد ُوالـرَّحْـمنُ ناشيْهــا
قصُورُهــا ذهَـــبٌ والمِسْــك ُطـِينتـُها
والزعْــفـرانُ حـَشـيْشٌ نـــابـِتٌ فـِيْها
أنهـارُهــا لبنٌ مُـصَـفـَّى ومِنْ عَســل ٍ
والخمْرُ يجْـرى رحـيْقاً في مَجاريْها
والطيرُ تجْرى على الأغصان ِعاكفة ً
تـُسَبــِّحُ اللهَ جَــهْـرَاً في مَغــانـِيْهــا
مَنْ يشْتري الدارَ في الفِرْدَوس ِيعْمُرها
بـِرَكـْعَــةٍ في ظــــلام ِاللـَّيْـل ِيُحْــيْها
وهو رضي الله عنه القائل: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا". ويعلق على ذلك أحد العارفين بقوله: هذه الدنيا مثل رجلٍ نائمٍ، رأى في منامه شيئاً يكره وشيئاً يحب، فبينما هو كذلك إذ انتبه واستيقظ من نومه. فهذه الدنيا من أولها إلى آخرها إنما هي لحظاتٌ قصيرةٌ زائلةٌ وستصبح يوماً ما ذكرياتٍ وأخباراً يُقال فيها: كان في يومٍ ما عالمٌ يُسمى الدنيا، وكان فيها ناسٌ: منهم من ظنها دائمةً، فبناها، وزينها، وبالغ في الاهتمام بها، ثم تركها ومضى إلى عالمٍ آخر، وندم لما رأى الناس قد أخذوا أماكنهم في الجنة وليس له فيها مكان. ومنهم، وهم قلةٌ، من علم أنها زائلةٌ غير باقيةٍ، وأنه فيها على سفرٍ، والمسافر لا يحمل إلا ماخف وغلى، فاقتصد وتقلل منها وترك ما لا يحتاج، وعمل على تزيين داره في الجنة وبناء قصره فيها بالعمل الصالح، فلما أتاها فإذا هي عامرةٌ، وسكانها من الولدان والحور، ينتظرونه بفارغ الصبر، وقد هُيئت له وتزينت، فحمد الله على الفوز والنجاة.

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه بيَّن لنا أن نعالج الغفلة بالتذكير المستمر بالغاية التي مِن أَجلِها خُلِقَ الإنسان؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.
وأوضح لنا سبيل معالجة الغفلة بالمُسارَعة إلى الخيرات؛ قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه ﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [بادِروا بالأعمال الصالحة؛ فستكون فِتنٌ كَقِطَع الليل المُظلِم، يُصبِح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، ويُمسي مُؤمِنًا ويُصبِح كافرًا، يَبيع دينه بعرَضٍ مِن الدُّنيا].

أحبتي .. (إلى متى الغفلة؟) هل نظل في غفلتنا إلى يوم الحسرة كما نبهنا إلى ذلك المولى عز وجل؟ أليس هو القائل في كتابه الكريم: ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾؟
هل نظل في غفلتنا حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَنا الْمَوْتُ قَالَ: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ فيأتيه الجواب حاسماً: ﴿ كَلَّا ﴾ وتكون الحيثيات: ﴿ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾؟
اللهم لا تجعلنا من الغافلين ... واجعلنا ربنا نحن وأهلنا ومَن نحب مِن ﴿ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ الذين وعدتهم بقولك: ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/Md2oic

الجمعة، 1 سبتمبر 2017

يوم العيد

الجمعة 1 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /٩٩
(يوم العيد)

يُروى أنه قبل أيامٍ من العيد ذهب رب عائلةٍ متوسط الدخل إلى السوق لشراء أضحية العيد، وبعدما اختار كبشاً كبيراً ودفع ثمنه التقى أحد أصدقائه وطلب منه أن يأخذ الكبش إلى منزله لأنه كان مشغولاً، وكان صديقه متوجهاً ناحية بيته. لم يكن الصديق متأكداً من موقع المنزل بالضبط فأخطأ وأخذ الكبش إلى جيران صديقه وأعطاهم إياها قائلاً: "هذه الأضحية لكم" دون أن يذكر مِن مَن. كان الجيران فقراء لا يملكون المال لشراء الأضحية ففرحوا كثيراً ظناً منهم أنها من أحد المحسنين، ومن شدة فرحهم انتبهت لهم زوجة رب الأسرة وتساءلت في نفسها من أين لهم بالمال لشراء هذا الكبش؟ عندما عاد رب الأسرة إلى المنزل توقع أن يجد أولاده فرحين بالكبش لكنه وجد كل شيءٍ عادياً، دخل المنزل وسأل زوجته عن الكبش فردت عليه أن لا أحد أتى به، ثم تذكرت جيرانها فقالت له: "أعتقد أن صديقك أخطأ وأخذ الأضحية لجيراننا فاذهب واستردها منهم"، فرَّد عليها قائلاً: "الله قد كتبها لهم ولا يحق لنا أن نسلب الفرحة من نفوس الأولاد الفقراء في (يوم العيد)". وقرر أن يذهب لشراء أضحيةٍ أخرى، عندما عاد إلى السوق وجد أحد البائعين يحط رحله فذهب إليه، وقال في نفسه سأكون أول المشترين منه عسى أن يخفض لي في الثمن، وعندما وصل للبائع واختار كبشاً ليشتريه منه، قال له البائع أنه قد وقع له في طريقه إلى السوق حادثٌ نجا منه هو وماشيته بأعجوبةٍ فنذر نذراً أنه سيدَع أول زبونٍ يختار أفضل أضحيةٍ ثم يأخذها دون أن يدفع شيئاً! فسبحان الله؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، وقال عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الله سبحانه وتعالى قد شرع الأعياد فرحاً وسروراً للمسلمين بعد مواسم الخيرات وفرائض العبادات؛ فعيد الفطر يأتي بعد أداء فريضة الصوم، وكذا عيد الأضحى يأتي بعد قضاء الركن الأعظم في فريضة الحج وهو الوقوف بعرفة. وقد جعلها الشرع أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ يرفه فيها المسلم عن نفسه وأهله ويوسع عليهم بما شرع الله وأحل من التوسعة الطيبة المباحة؛ فشُرعت التوسعة على الأهل بأنواع الطيبات من المآكل والمشارب في الأعياد، ففي عيد الفطر فرض الله زكاة الفطر ومن عللها أن يجد الفقير ما يوسع به على أهله من المأكل في يوم العيد، وكذا في عيد الأضحى شرع الله تعالى الأضحية ومن عللها أن يجد  الفقير ما يوسع به على أهله من طيب الطعام وليشارك إخوانه من المسلمين بفرحهم ويتشبه الجميع بالحجيج في نسك الذبح.
وها هي أيام عيد الأضحى هلت على الأمة الإسلامية مبشرةً بالفرحة والبهجة والسرور متزامنةً مع شعيرة الحج وزيارة البيت الحرام. وهلَّ (يوم العيد) الذي نضحي فيه اقتداءً بسيدنا إبراهيم عليه السلام عندما أمره الله أن يذبح ابنه اسماعيل فأخذه إلى الصحراء حتى يذبحه ولكن الله فداه بكبشٍ من السماء فأصبحت الأضحية في عيد الأضحى سُنةً لجميع المسلمين؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾. هلت أيام العيد، أيام الفرح وهو مرتبطٌ في الإسلام بالعبادات وبالطاعة، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
يبدأ (يوم العيد) أولاً بتجمع المسلمين في الصباح الباكر مع شروق الشمس لأداء صلاة العيد، وهي من السنن النبوية الشريفة، وهي من أجمل الأمور في العيد، لا يكتمل جماله بدونها، بعدها يذهب المسلمون لذبح الأضاحي؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنَّتنا ...]. ويصف الشاعر نحر الأضحية (يوم العيد) في بيتين:
ويومَ العيدِ صلِّينا
وعُدنا للقرى صُبحا
وقمنا بعد أن عُدنا
ذبحنا كبشنا ذبحا
وسنة النحر لها فضلٌ كبيرٌ؛ قال ‏‏أصحاب رسول اللّهِ ‏صلى اللَّهُ عليه وسلم: ‏‏يا رسول اللَّه ما هذه الأضاحي؟ قال: ‏[سُنَّةُ أَبِيكُمْ ‏‏إِبْرَاهِيمَ]، ‏قالوا: فما لنا فيها يا رسول اللَّهِ؟ قال: [بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ]، قالوا: فالصوف يا رسول اللَّه؟ قال: [بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنْ الصُّوفِ حَسَنَةٌ].

يقول أحد العلماء أن من عظمة التشريع الإلهي أنه جعل العبادات التي يتقرب بها الإنسان لله سبحانه تعالى ويكسب بها رضاه هي ذاتها في كثيرٍ منها مما يفيد منها الناس فيحصل التكافل وتنتشر المودة ويسود العطف بينهم؛ فتوزيع لحم الأضاحي يُدخل السرور والبهجة على قلوب الفقراء.
ومن مظاهر الاحتفال بالعيد الإكثار من التكبير والتهليل فأيامه مباركةٌ نظراً لأن مناسك الحج لا تنتهي إلا في ثالث أيام التشريق وهو رابع أيام عيد الأضحى. ولا شك أن صلة الرحم والإكثار من الزيارات للأهل والأقارب يدخل الفرح والسرور والمودة والرحمة في قلوب الناس، مما يعمل على تقريبهم وتقوية ما بينهم من علاقات وحل ما بينهم من نزاعات أو خلافات.

أحبتي ... هل فكرنا كيف نستثمر وقتنا (يوم العيد) أفضل استثمار ممكن من الناحية الشرعية، بحيث نجعل منه موسماً حقيقياً من مواسم الخيرات يعم فيه النور وتتنزل الرحمات؟ يعرض أحد المجتهدين بعض ما يمكن عمله احتفالاً بالعيد وسعياً لرضا الله سبحانه وتعالى، من ذلك:
بر الوالدين وإدخال السرور عليهما؛ فهما سبب وجودك ولهما عليك غاية الإحسان، وقد وصى الله تعالى بهما في غير موضع من القرآن؛ فقال سبحانه: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾، وقال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ فأحرى بنا أن نسعدهما أيام العيد.
ثم الإحسان إلى الزوجة وإدخال السرور على نفسها، وغمرها بالعطف والمودة الزائدة في هذا اليوم، فكم من بيتٍ يقضي عيده في تعاسةٍ بسبب تفويت الزوج لأسبابٍ بسيطةٍ جداً تُدخل السرور على أهله. وكلنا يعلم وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالنساء وأن خيرنا خيرنا لأهله، وخير الأمة لأهله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلا تأسينا به. ويلحق العناية بالزوجة العناية بالأولاد وإدخال السرور على نفوسهم ولو بضحكةٍ أو قبلةٍ على جبين ولدك فمن لا يَرحم لا يُرحم.
وكذلك صلة الأرحام، وتكون بالتزاور والتواد والتعاطف، وما أجمل أن يزور الأثرياء الفقراء من عائلتهم؛ فكم يُدخل مثل هذا الصنيع الفرح والسرور على الأقارب وأولي الأرحام من الفقراء، حتى لو كانوا مقاطعين لك ولا يصلونك، امتثالاً لما جاء في الحديث الشريف: [ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من وصل من قطعه].
وأيضاً الإحسان إلى الجار في أيام العيد له فضلٌ كبيرٌ؛ فقد أوصانا الله تعالى بالجار فقال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: [ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه]، وقال صلى الله عليه وسلم: [خيرُ الأصحابِ عِندَ الله خيرُهُم لصاحِبه، وخيرُ الجيرانِ عِند الله خيرُهُم لجاره]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحسن إلى جاره]، فما أجمل زيارة الجيران؛ لما في مثل هذا التصرف من إشاعةٍ للمحبة والمودة والإخاء.
يأتي بعد ذلك ود وصلة من تحابوا في الله وتعارفوا فيه فاجتمعوا عليه وتفرقوا عليه. فعلينا الاهتمام بالأخوة في الله بزيارتهم في أيام العيد حتى تكتمل سعادتنا وسعادتهم.

يقول الشاعر:
هــل الـعـيدُ إلا أن تـعـود عـلى الـذي
هـجـرتَ فـتُـبدي الـبِـشرَ بـعـد تـجـهمِ
وعــنـد ذوي الأرحـــامِ تـُظـهـرُ رحـمـةً
وتـبــدو بـوجــهٍ بالـبـشـاشـةِ مــفـعـمِ
هـــل الـعـيـدُ إلا أنْ تــواسـيَ فــاقـداً
وتــرفـعَ ضـيـقـاً عــن فـقـيـرٍ ومـعـدمِ
هــــل الـعـيـد إلا أن تـــزور مــجـاوراً
فـلـلـجـار حــقٌ عــنـد أهــل الـتـقـدمِ

أحبتي ... يختصر أحد العلماء آداب الاحتفال بالعيد بقوله إن العيد عند المسلم الحق الذي يحب الله تعالى ورسوله، ويخشى الله تعالى ويتقيه، هو شكر المولى عز وجل من خلال ملازمة إقامة العبادات والحفاظ عليها في أوقاتها، فالقدم تسير إلى المساجد، واللسان لا يفتر عن الذكر، والمصحف لا يُهجر، والأعمال الصالحات لا تنقطع، وخصوصاً في ذلك اليوم الذي يغفل فيه الكثيرون عن التزام التعبد. والعيد صلة الرحم وزيارة الأقارب لا المقابر وبذل الصدقات لا الإنفاق على المعاصي والمنكرات والمحرمات. العيد أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة في كل محلٍ حللت به. العيد سترٌ لا تبرجٌ وسفور. العيد إحياءٌ للسنن والشعائر وبذلٌ للقربات. والعيد ابتسامةٌ في وجه أخيك، العيد اتصالٌ هاتفيٌ برجلٍ بَعُدَ عهدك به ويرجو وِدَّك ومودتك وهو من المحبين لك ولكنك عن ذلك من الغافلين أو المتغافلين.

أحبتي ... في (يوم العيد) انشروا الفرحة والسرور، فذلك من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى؛ قال عليه الصلاة والسلام: [...وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم ...]. وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى – في عيد الأضحى – تغنيان وتضربان، والنبي متغشٍ بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي عن وجهه وقال: [دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد]. ومع الفرح والسرور لا ننسى من لهم حالات خاصة؛ اصطحبوا أبناءكم لزيارة الأطفال اليتامى في دورهم، وزيارة المرضى في المستشفيات، وتقديم الهدايا البسيطة لهم، علموا أولادكم أن سعادة الإنسان لا تكتمل إلا بإسعاده الآخرين. علموهم أن الإسلام دين الرحمة والتكافل والمودة، دين المحبة والتسامح والصفح والغفران، دينٌ ينظم لنا كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياتنا، إنه منهج حياةٍ متكامل، يحرص على أن يكون المسلم فرحاً سعيداً مسروراً بشوشاً مبتهجاً ودوداً رؤوفا رحيماً حريصاً على سعادة الآخرين، على عكس ما يروج له البعض من أعداء الدين الذين يصورون المسلم الملتزم متجهماً عبوساً كارهاً لغيره.
ختاماً أقول لكم كما قال الشاعر:
تَقَبَّلَ رَبُّنَاْ الطَّاْعَاْتِ مِنْكُمْ
وَجَاْءَ الْعَفْوُ مِنْ رَبٍّ وَدُوْدِ
وَقَاْكُمْ رَبُّنَاْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ
حَبَاْكُمْ مِنْ رِضَاْهُ بِالْمَزِيْدِ
وَفَرَّجَ عَنْكُمُ الْكُرُبَاْتِ رَبِّيْ
وَثَبَّتَكُمْ عَلَى النَّهْجِ الرَّشِيْدِ
وَقَاْنَاْ اللَّهُ مِنْ نَاْرٍ تَلَظَّىْ
وَصَيَّرَنَاْ لِجَنَّاْتِ الْخُلُوْدِ

اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين، الحامدين لك، الشاكرين نعمك، المحافظين على دينك، المقيمين لشعائرك وعباداتك، المتبعين سُـنة رسولك. اللهم تقبل منا واجعلنا من القوم الذين قلت فيهم: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/AtNSEJ