الجمعة، 22 سبتمبر 2017

اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ

الجمعة 22 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠١
(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)

من أحب الأشياء إلى نفسي الحديث مع أحفادي؛ يفكرون بنقاء، يتحدثون بتلقائية، يجيبون بصدق، ويستجيبون بحماس.
الأسبوع الماضي، وكنا أنا وحفيدي عبد الله في طريقنا لصلاة العصر في مسجد رحمة الله المجاور لمنزلنا، سألته ما هي أحب صفةٍ يحبها في والده، فقال لي أنه يحب أشياء كثيرةً فيه، فطلبت منه تحديد شئٍ واحدٍ أو صفةٍ واحدةٍ هي أكثر ما يحبه فيه. قال دون تردد أن أكثر ما يحبه في أبيه أنه يسمح له بالذهاب للمحلات القريبة من البيت لشراء بعض الأغراض. قلت له: "حسناً" ثم سألته نفس السؤال عن والدته فكانت إجابته كما أخبرني عن والده، بأن هناك صفاتٍ كثيرةً، وأنه محتارٌ أيها يحبه أكثر من غيره، سألته عن أحبها إلى نفسه، ففكر ملياً ثم قال لي: "العدل"!
فوجئت برده، كيف لطفلٍ سنه ثماني سنواتٍ فقط أن يدرك مفهوماً مجرداً كمفهوم العدل؟ ثم ذهب تفكيري إلى اتجاه آخر: حمدت الله أن وفق والدته إلى تطبيق هذا المفهوم مع أبنائها مع وجود عاطفة الأمومة الجياشة لديها تجاههم، فقد تقود العاطفة صاحبها إلى التعامل بالهوى فهو أسهل من التعامل بالعدل الذي يتطلب تغليب العقل والمنطق أكثر من العاطفة والحب! إن الجمع بين عاطفة الأمومة وتعامل الأم بالعدل مع أبنائها للدرجة التي يحسونها ويلمسونها ويدركونها رغم صغر سنهم هي نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى وتوفيقٌ منه، وهي دليل تقوى؛ حيث تقول الآية الكريمة: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ).

أحبتي في الله .. العَدلُ لُغةً هو: التَّوسُّطُ بَين الِإفراطِ والتَّفريط، من غير إجحافٍ ولا تَفضيل. هو الاعتدالِ في الأمور، وهو الإنصاف وإعطاء كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. وهو استِعمال الأُمور في مَواضِعها، وأوقاتِها، ووجوهِها، ومَقاديرها، من غير سَرَفٍ، ولا تقصيرٍ، ولا تقديمٍ، ولا تأخيرٍ. نَقيضُهُ الظُّلم والجوْر.
ولأهمية العدل وأثره في حياة الناس فقد بَيَّنَ الله لنا في كتابه الكريم أن نبينا الكريم مأمورٌ بالعدل؛ قال سبحانه على لسان النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾، وأمرنا المولى عز وجل بما أمر به رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ﴾، كما أمرنا أن نحكم بين الناس بالعدل؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾، ووصف سبحانه من يأمر بالعدل بأنه على صراطٍ مستقيم؛ قال: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وعند اقتتال طائفتين من المسلمين يكون العدل هو عماد المصالحة بينهما؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، وعلى المسلمُ أن يقوم بتطبيق العدل على نفسه أو الوالدين أو الأقربين فيقرَّ بالخطأ ويعتذرَ لمن أساء إليه ويسارع بالإحسان؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾. وأوجب الله سبحانه وتعالى علينا أن إذا حكمنا بين الناس أن نلتزم بقول الحق ونعدل وننصف ولا نجور، ولو كان الذي يتوجب الحق عليه ذا قرابة، ولا تحملنا قرابة قريبٍ أو صداقة صديقٍ أن نقول غير الحق؛ قال سبحانه: ﴿إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ﴾. وفي المعاملات الخاصة فإن العدل مطلوبٌ، ففي حالة تداين الأفراد يكون العدل هو أساس كتابة الديْن؛ قال عز وجل: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾، وهو شَرْطٌ عند تعدد الزوجات إن خفنا ألا نقدر عليه ونلتزم به فزوجةٌ واحدةٌ فقط؛ فقال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾. والبعد عن العدل هو اتباعٌ للهوى وقد نهانا سبحانه عن اتباع الهوى؛ قال عز وجل: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا﴾. ومن صور العدل العظيمة أن يقوم المسلمُ بتبنِّي قيم العدل مع الأعداء، فلا يجورَ عليهم، ولا يبخسَهم حقوقَهم، فهذا الأمر من أسس التقوى في دين الإسلام العظيم؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
ومِن سِمات العَدل في الإسلام أنّهُ لا عاطفةٌ فيه؛ فلا يتأثَّر بمالٍ أو عرقٍ أو نَسَب، ومِن ذلكَ حادِثةُ المرأةِ المخزوميَّةِ التي سَرقَت في عَهدِ رَسولِ اللهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلام في غَزوةِ الفتحِ، فَفَزِع قومُها إلى أسامَةَ بن زيدٍ يَستشفِعونَه، فلمَّا كَلَّمَ أسامةُ رسول الله فيها تَلوَّن وَجهُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وقال: [أتكلِّمُني في حدٍّ من حدودِ اللهِ؟]. قال أسامة: "استغفِرْ لي يا رسولَ اللهِ"، فلمَّا كان العَشيُّ قامَ رسولُ اللهِ خطيباً، فأَثنى على اللهِ بِما هو أهله، ثم قال: [أمَّا بَعدُ، فإنَّما أهلَكَ النَّاس قبلَكم أنَّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهِم الشَّريفُ تركوهُ، وإذا سَرَق فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليهِ الحدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أنَّ فاطِمةَُ بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدَها]. ثم أمَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بتلك المرأةِ فقُطعت يدُها، فَحَسُنت توبتُها بعد ذلك.
وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين حريصين على إقامة العدل بين الناس؛ فهذا ابنٌ لعَمرو بن العاص قد اشترك مع غلامٍ من أقباط مصر في سباقٍ للخيول، فضرب ابن الأمير الغلام القبطي اعتماداً على سلطان أبيه، وكان عَمرو بن العاص رضي الله عنه واليًّاً على مصر في خلافة أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسافر والد الغلام القبطي المضروب صحبة ابنه إلى المدينة المنورة، وأتى أمير المؤمنين عُمر رضي الله عنه، وبَيَّن له ما وقع، فكتب أمير المؤمنين إلى عَمرو بن العاص أن يحضر إلى المدينة المنورة صحبة ابنه، فلما حضر الجميع عند أمير المؤمنين، ناول عُمر الغلام القبطي سوطاً وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عَمرو بن العاص، فضربه حتى رأى أنه قد استوفى حقه. ثم قال له أمير المؤمنين: "لو ضربت عَمرو بن العاص ما منعتك؛ لأن الغلام إنما ضربك لسلطان أبيه"، ثم التفت إلى عَمرو بن العاص قائلاً: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".
ولله در شاعر النيل وهو يقول عن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وراعَ صاحبُ كسرى أن رأى عُمَراً
بين الرعيةِ عُطلاً وهو راعـيها
وعهده بملوكِ الفرسِ أن لـــها
سوراً من الجندِ والأحراسِ يحميها
رآه مستغرقاً في نومِه فــــرأى
فيــه الجلالةَ في أسمى معانيها
فوقَ الثرى تحت ظلِ الدوحِ مشتملاً
بــبردةٍ كاد طولُ العهدِ يبليها
فهان في عينِه ما كان يُكـــبره
مــن الأكاسرِ والدنيا بأيديها
وقال قولةَ حقٍ أصبحت مثلاً
وأصـبح الجيلُ بعد الجيلِ يرويها
أَمِنْتَ لما أقمـــتَ العدلَ بينهمُ
فنمــتَ نومَ قريرِ العينِ هانيها

وفي خلافة أمير المؤمنين عُمر بن عبد العزيز كان قتيبة بن مسلم الباهلي يفتح المدن والقرى ينشر دين الله في الأرض. بدأ قتيبة القتال وافتتح مدينة سمرقند دون أن يدعوَ أهلها للإسلام أو الجزية ودون أن يمهلهم ثلاثة أيام قبل أن يبدأ القتال كعادة المسلمين. فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالفٌ للإسلام كتب كهنتها رسالةً وأرسلوها إلى عُمر بن عبد العزيز فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها "من عبد الله عُمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا"، فذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند فنصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم، قالوا للقاضي: "اجتاحنا قتيبة ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا". فقال القاضي لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة: "أنت ما تقول؟"، قال: "لقد كانت أرضهم خصبةً وواسعةً فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه". قال القاضي: "لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً". ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين من سمرقند على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية؛ فما إن غربت شمس ذلك اليوم إلا وقد رحل الجيش الإسلامي كله عن أرض سمرقند، ثم دعا قائد الجيش أهل سمرقند إلى الإسلام أو الجزية أو القتال. فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالةٍ تنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا: "هذه أمةٌ حُكمُها رحمةٌ ونعمة"، فدخل أغلبهم في دين الله وفُرضت الجزية على الباقين.
يقول العلماء أنه لا شك أن إقامة العدل وأداء الحقوق لأهلها من أسباب بقاء الدول وتفوقها وغلبتها؛ ولهذا يُروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنةً". والمقصود أن الأمم الكافرة إن توفرت على معالم قيام الدول ونهضتها أقامها الله وجازاها بجنس عملها، ولا يظلم ربك أحداً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يظلم مؤمناً حسنةً، يُعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناتِ ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنةٌ يجزى بها]، فالله تعالى يعطيهم في الدنيا، أفراداً ودولاً، ما يستحقونه باعتبار ما عندهم من خيرٍ وما يبذلونه من حق. وهناك جانبٌ آخر لا يصح إغفاله، وهو أن الله تعالى قد ينصر أمةً كافرةً على أمةٍ مسلمةٍ عقوبةً لها على معاصيها، وهذا ما حصل في غزوة أُحد؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾.

أحبتي .. الصغار يتعلمون منا، هذا صحيحٌ، لكن صحيحٌ أيضاً أننا نحن الكبار نتعلم منهم؛ فقبل حديثي مع حفيدي عبد الله كنت أظن أن جميع القيم المجردة سواء، وأنها جميعها صعبةٌ عصيةٌ على إدراك الطفل، لكني تعلمت من عبد الله أن ليست جميع القيم المجردة كذلك؛ فقيمٌ مثل العدل والكرم والأمانة يمكن أن يعايشها الطفل في مواقف عمليةٍ في حياته اليومية هي بلا شك أسهل في إدراكها من قيمٍ مثل الشرف والنبل والكرامة قد لا تتوافر لها مواقف عمليةٌ في حياة الطفل اليومية ليستوعبها.
أحبتي .. عودة إلى موضوع العدل .. الأمر جد خطير .. فالعدل ليس أساساً للملك فقط وإنما هو أساسٌ لمجمل حياة البشر، هو ميزانٌ لو اختل ضاع من حياتنا كل معنىً للحق والخير والجمال .. أحبتي (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) .. فليعدل الوالدان مع أبنائهما، ويعدل المعلمون مع طلابهم، ويعدل الرؤساء مع مرؤوسيهم. ليعدل كلٌ منا في مجاله وفي محيطه وفي جميع معاملاته. ولنبادر إلى رد الحقوق إلى أصحابها ورفع المظالم وإشاعة العدل بين الناس في جميع مجالات الحياة لتستقيم أمورنا ونكون بحق أمةً وصفها المولى عز وجل بقوله: ﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.

ليكن لنا في الغامديَّة أسوةٌ حسنةٌ، وهي امرأةٌ من جهينة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله، إني قد زنيتُ فطهِّرني"، وكانت متزوِّجةً محصنةً، وتعلم أن عقابها هو الرجم حتى الموت، فردَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُقِم عليها الحدَّ، ثم جاءت إليه فيما بعد وقالت: "إني لحُبْلَى من الزنا"، فطلب منها الرسول عليه الصلاة والسلام أن تذهب حتى تلد، فرجعت وبقيت شهوراً، فلما ولدت أتته بالصبي وقالت: "يا رسول الله، هذا ولدي قد ولدتُه"، فطلب منها أن تذهب فتُرضِع الطفل حتى تفطمه، فبقيت تُرضِعه حتى أصبح قادراً على أكل الطعام، فلمَّا فطمته أتته بالصبي في يده كسرةُ خبز، فقالت: "يا نبي الله، هذا ولدي بالزنا فطمتُه، وقد أكل الطعام"، حينذاك لم يبقَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقيم عليها حدَّ الرجم، فأمر فحُفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه بحجرٍ فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه فسبَّها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبَّه إيَّاها، فقال: [مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مكسٍ {المرتكب أشنع المعاصي} لغُفِر له]، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودُفِنت، فقال له عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال: [لقد تابت توبةً لو قُسِّمت بين سبعين من أهل المدينة لوَسِعَتْهم، وهل وجدتَ توبةً أفضلَ من أن جادت بنفسها لله تعالى؟].

هلَّا أقمنا العدل على أنفسنا فتطهرنا كالغامدية؟ هلَّا تطهر من أراق دم مسلم بغير حقٍ، أو سرق أو نهب أو عاث في الأرض فساداً؟ هلَّا تطهر من افترى وقال الزور وأغرق نفسه في مستنقعات الغيبة والنميمة؟ هلَّا تطهر كلٌ منا من ذنوبه صغيرةً كانت أو كبيرةً؟ هلَّا تُبنا من معاصينا قبل أن يوافينا الأجل؟
اللهم أَعِنَّا على أن نقيم العدل، وأَعِنَّا على أن نكون من التوابين ونكون من المتطهرين لنكون ممن تحبهم مصداقاً لقولك سبحانك: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/AeGPir

الجمعة، 8 سبتمبر 2017

إلى متى الغفلة؟

الجمعة 8 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٠
(إلى متى الغفلة؟)

عاد من سفرةٍ قصيرةٍ لم تدم إلا لعدة أيام، بوجهٍ مشرقٍ ونورٍ يشع من محياه. حاولت أن أعرف سبب هذا البهاء الرباني الظاهر عليه. علمت منه أنه أمضى تلك الأيام في منتجعٍ على الساحل الشمالي، في الوقت الذي انشغل فيه معظم الناس بالاستعداد لعيد الأضحى المبارك بتجهيز الأضاحي وشراء مستلزمات العيد. سألته متعجباً: "الساحل الشمالي؟!"، أحس صديقي بحالة الاندهاش التي تعتريني فقال موضحاً: "منذ سنوات وأنا وأسرتي نفضل قضاء أيام العشر من ذي الحجة، خاصةً يوم عرفة، في خُلوةٍ في ذلك المكان الهادئ بعيداً عن مشاغل القاهرة التي لا تنتهي، منقطعين عن العالم من حولنا؛ لا هواتف، ولا تلفاز، ولا صحيفة يومية. متفرغين للعبادة والدعاء ونحن صائمون في هذه الأيام المباركة التي وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها أفضل أيام الدنيا". قلت له وقد غادرت علامات الاندهاش وجهي: "تقبل الله منكم صالح الأعمال"، رد بأدبه الجم وصوته الهادئ الرخيم: "منا ومنكم".
عدت إلى البيت بعدما تركت صديقي العزيز وأنا أفكر في كل كلمةٍ قالها. رحت أفكر في نفسي وكيف قضيت تلك الأيام العشر من ذي الحجة، وكيف كانت خصوصية يوم عرفة من بينها، وكم كنت في غفلةٍ عن كثيرٍ مما ينبغي عمله، وجدت أني أضعت كثيراً مما كان يمكنني عمله في أفضل أيام الدنيا، وقارنت بين ما قمت به وما قام به صديقي العزيز فكاد شعورٌ بالحسد يتسلل إلى قلبي لولا أن تغمدني الله برحمته فتحول هذا الشعور إلى شعورٍ بالغبطة. سألت نفسي (إلى متى الغفلة؟) فأحسست بالندم، لكني سرعان ما تغلبت على إحساسي بالندم، وهو طاقةٌ سلبيةٌ محبطةٌ، بإصرارٍ مفعمٍ بالأمل معاهداً نفسي بألا أسمح لها بعد اليوم بإضاعة مثل تلك الفرص الثمينة والأزمنة الطيبة المباركة؛ فهي منحٌ ربانيةٌ تنتظر من ينتهزها ويستثمرها فيكون من الفائزين، ومكرماتٌ إلهيةٌ لجميع المسلمين لا يُعرض عنها ويهملها إلا الغافلون.

أحبتي في الله .. الغفلة سببٌ لكل خسرانٍ، فهي كما يقول أحد العلماء مِن الأمراض الفتَّاكة التي تَعصِف بالفرد، والتي حذَّرنا منها ربُّنا عزَّ وجل في القرآن الكريم في مواضع متعددة، حتى نأخذ حِذرَنا، ونستيقظ قبل فوات الأوان.
فمن هم الغافلون؟ تجيب الآية الكريمة عن هذا التساؤل؛ قال تعالى عنهم: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾، هذا هو الوصف القرآني للغافلين. فأين نحن من هذا الوصف الواضح الجلي المبين؟ هل قلوبنا تفقه حقاً؟ وهل ظهر أثر ما فقهته قلوبنا في سلوكنا؟ هل عيوننا تبصر ما ينبغي أن نبصره من آيات الله سبحانه وتعالى نشاهدها في الكون وفي الخلق وفي أنفسنا فنكون من الحامدين الشاكرين؟ هل آذاننا تسمع حق السمع ما يجب أن تستمع وتنصت إليه من آيات الله تُتلى وقرآنٍ هو ذكرٌ لنا ونورٌ لأرواحنا؟ هل خشعت قلوبنا لما نستمع إليه؟ وهل زدنا إيماناً مع كل آيةٍ قرآنيةٍ نتلوها؟ هل ظهر أثر ذلك في أخلاقنا ومعاملاتنا؟ أم نحن من العافلين؟ وإذا كنا منهم والعياذ بالله فليسأل كلٌ منا نفسه (إلى متى الغفلة؟).
يقول المولى عز وجل في مُحكم آياته: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ إنه تنبيهٌ لنا لنفيق من سُباتنا، ولننتبه إلى ما نحن فيه. اقترب يوم الحساب لكلٍ منا فماذا أعددنا له؟ يزداد كل إنسانٍ منا كل يومٍ اقتراباً من نهاية الأجل الذي أجله الله لنا، فهل ازددنا كل يومٍ قُرباً من الله عز وجل؟ أم نحن من الغافلين الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم ﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ وهؤلاء يجازيهم الله من جنس عملهم؛ يقول سبحانه: ﴿ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾.
إنها الغفلة وهي التسويف وهي التأجيل وهي الأمل الخادع الذي يسرق منا أوقاتنا وأيامنا وهي أعمارنا، ثم لا نفيق إلا وقت الندم لنعلم حقيقة أن الحياة الدنيا ليست إلا متاع الغرور؛ يقول تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾.
لقد حذرنا الله من الغفلة قبل اقتراب الأجل؛ قال سبحانه: ﴿ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾.

هذه قصة شاب كان في غفلةٍ حتى كاد أن ينتهي أجله لولا رحمة ربه؛ كتب يقول:
أنا شابٌ كان يظن بأن الحياة مالٌ وفيرٌ وفراشٌ وثيرٌ ومركبٌ مريحٌ ومأكلٌ ومشربٌ ولهوٌ ومرح ... كان يوم جمعةٍ، وذهبت للهو واللعب مع الأصدقاء على شاطئ البحر. سمعنا المؤذن في مسجدٍ قريبٍ ينادي للصلاة، لكنا أثناء الأذان كنا نجهز أنا ورفاقي عدة الغوص وأنابيب الهواء استعداداً لرحلة غوصٍ جميلةٍ تحت الماء، وكنت أرتب في عقلي برنامج باقي اليوم الذي لا يخلو لحظةً من المعاصي. نزلت إلى البحر بعدة الغوص، ثم وأنا في بطن البحر حصل مالم أتوقعه، تمزقت القطعة المطاطية التي أطبق عليها بأسناني وشفتاي لتحول دون دخول الماء إلى فمي ولتمدني بالهواء من أنبوب الأكسجين، تمزقت أثناء دخول الهواء إلى رئتي فأغلقت قطرات الماء المالح مجرى التنفس، وبدأت أموت ... بدأت رئتاي تستغيثان وتنتفضان، تريدان الهواء ... بدأت أشهق وبدأ شريط حياتي بالمرور أمام عيناي ... مع أول شهقةٍ عرفت كم أن الإنسان ضعيف، وكم أنا عاجزٌ عن مواجهة قطراتٍ مالحةٍ سلطها الله علي ليريني أنه هو الجبار المتكبر، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه. ومع ثاني شهقةٍ تذكرت صلاة الجمعة التي ضيعتها، ولكن للأسف بعد فوات الأوان، كم ندمت على كل سجدة ضيعتها، وكم تحسرت على كل لحظة قضيتها في معصية الله. ومع ثالث شهقةٍ تذكرت أمي، والحزن الذي يمزق قلبها وأنا أتخيلها تبكي موت وحيدها وحبيبها وكيف سيكون حالها بعدي. ومع رابع شهقةٍ تذكرت ذنوبي وزلاتي وما أكثرها، تذكرت تكبري وغروري. وبدأت أحاول النجاة والظفر بآخر ثانية بقيت لي، حاولت أن أختم حياتي بأن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فبدأت أحاول نطق الشهادتين ... فما أن قلت أشهـ... حتى غُص حلقي وكأن يداً خفيةً تُطبق على حلقي لتمنعني من نطقها، فعدت أحاول وأجاهد: أشهـ .... أشهـ ...، تمنيت وقتها لو مد الله في أجلي ساعةً واحدةً أو بضع دقائق أو حتى ثواني بمقدار ما أنطق الشهادتين، ولكن هيهات. بدأت أفقد الشعور بكل شيءٍ، وأحاطت بي ظلمةٌ غريبةٌ، وفقدت الوعي وأنا أعرف خاتمتي ... ووأسفاه على خاتمةٍ كهذه ... ولكن رحمة ربي وسعت كل شيءٍ: فجأةً، بدأ الهواء يتسرب إلى صدري مرةً أخرى، وانقشعت الظلمة، وفتحت عينيي لأجد مدرب الغوص يُمسك بي مثبتاً خرطوم الهواء في فمي محاولاً إنعاشي ونحن مازلنا في بطن البحر، ورأيت ابتسامةً على محياه فهمت منها أنني بخير. نطق قلبي ولساني وكل خليةٍ في جسدي، وقبلهم روحي بأشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهدُ أن محمداً رسول الله ... الحمد لله... الحمد لله... الحمد لله. وبدأ قلبي يحدثني قائلاً: لقد رحمك ربك فاتعظ. وبالفعل خرجت من الماء شخصاً آخر ... صارت نظرتي للحياة مختلفة تماماً ... وأصبح كل ما أرجوه من الواحد القهار أن يختم لي بأن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لحظة الغرغرة التي بت أعرفها جيداً... أصبحت لا أريد من الدنيا إلا أن أكون ممن ذكرهم الرحمن في كتابه الكريم بقوله: ﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا . جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ﴾. وللعلم: عدت بعد تلك الحادثة بفترةٍ وحدي إلى نفس المكان في بطن البحر وسجدت لله تعالى سجدة شكرٍ وخضوعٍ وولاءٍ وامتنان ... في مكانٍ لا أظن أن إنسياً قبلي قد سجد فيه لله تعالى عسى أن يشهد لي هذا المكان يوم القيامة فيرحمني الله بسجدتي في بطن البحر ويدخلني جنته.
هذه هي الدنيا التي تجعلنا غافلين عن الدار الآخرة، قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:
النَّفْسُ تـَبْكِي عَلَىْ الدُّنْيَا وَقَدْ عَـلِمَتْ
أَنَ السـَّـلامَة فـِيِهَــا تـَرْكُ مَــا فِـيْهَــا
لا دار َللـمَــرْءِ بعْـدَ المَـوْتِ يَسْــكـُنـُهـا
إلا التي كــانَ قـَبْــل ِالمَــوْت يـَبْنيهــا
فـإنْ بنـاها بخـَيْـر ٍطـابَ مَسـْكـَنـُهـا
وإنْ بنـــــاهـا بشـَرٍّ خـــابَ بانيْهـــا
لا تـَرْكـَنـَنَّ إلى الـدُّنيـــــا وما فـيهــا
فـالـمَــوْتُ لا شـَكَّ يُفـْنيْنـا ويُفـْنيْهــا
واعْمَـلْ لـدارٍ غـداً رضوانُ خــادِمُها
والجــارُ أحْـمَـد ُوالـرَّحْـمنُ ناشيْهــا
قصُورُهــا ذهَـــبٌ والمِسْــك ُطـِينتـُها
والزعْــفـرانُ حـَشـيْشٌ نـــابـِتٌ فـِيْها
أنهـارُهــا لبنٌ مُـصَـفـَّى ومِنْ عَســل ٍ
والخمْرُ يجْـرى رحـيْقاً في مَجاريْها
والطيرُ تجْرى على الأغصان ِعاكفة ً
تـُسَبــِّحُ اللهَ جَــهْـرَاً في مَغــانـِيْهــا
مَنْ يشْتري الدارَ في الفِرْدَوس ِيعْمُرها
بـِرَكـْعَــةٍ في ظــــلام ِاللـَّيْـل ِيُحْــيْها
وهو رضي الله عنه القائل: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا". ويعلق على ذلك أحد العارفين بقوله: هذه الدنيا مثل رجلٍ نائمٍ، رأى في منامه شيئاً يكره وشيئاً يحب، فبينما هو كذلك إذ انتبه واستيقظ من نومه. فهذه الدنيا من أولها إلى آخرها إنما هي لحظاتٌ قصيرةٌ زائلةٌ وستصبح يوماً ما ذكرياتٍ وأخباراً يُقال فيها: كان في يومٍ ما عالمٌ يُسمى الدنيا، وكان فيها ناسٌ: منهم من ظنها دائمةً، فبناها، وزينها، وبالغ في الاهتمام بها، ثم تركها ومضى إلى عالمٍ آخر، وندم لما رأى الناس قد أخذوا أماكنهم في الجنة وليس له فيها مكان. ومنهم، وهم قلةٌ، من علم أنها زائلةٌ غير باقيةٍ، وأنه فيها على سفرٍ، والمسافر لا يحمل إلا ماخف وغلى، فاقتصد وتقلل منها وترك ما لا يحتاج، وعمل على تزيين داره في الجنة وبناء قصره فيها بالعمل الصالح، فلما أتاها فإذا هي عامرةٌ، وسكانها من الولدان والحور، ينتظرونه بفارغ الصبر، وقد هُيئت له وتزينت، فحمد الله على الفوز والنجاة.

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه بيَّن لنا أن نعالج الغفلة بالتذكير المستمر بالغاية التي مِن أَجلِها خُلِقَ الإنسان؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.
وأوضح لنا سبيل معالجة الغفلة بالمُسارَعة إلى الخيرات؛ قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه ﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [بادِروا بالأعمال الصالحة؛ فستكون فِتنٌ كَقِطَع الليل المُظلِم، يُصبِح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، ويُمسي مُؤمِنًا ويُصبِح كافرًا، يَبيع دينه بعرَضٍ مِن الدُّنيا].

أحبتي .. (إلى متى الغفلة؟) هل نظل في غفلتنا إلى يوم الحسرة كما نبهنا إلى ذلك المولى عز وجل؟ أليس هو القائل في كتابه الكريم: ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾؟
هل نظل في غفلتنا حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَنا الْمَوْتُ قَالَ: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ فيأتيه الجواب حاسماً: ﴿ كَلَّا ﴾ وتكون الحيثيات: ﴿ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾؟
اللهم لا تجعلنا من الغافلين ... واجعلنا ربنا نحن وأهلنا ومَن نحب مِن ﴿ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ الذين وعدتهم بقولك: ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/Md2oic

الجمعة، 1 سبتمبر 2017

يوم العيد

الجمعة 1 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /٩٩
(يوم العيد)

يُروى أنه قبل أيامٍ من العيد ذهب رب عائلةٍ متوسط الدخل إلى السوق لشراء أضحية العيد، وبعدما اختار كبشاً كبيراً ودفع ثمنه التقى أحد أصدقائه وطلب منه أن يأخذ الكبش إلى منزله لأنه كان مشغولاً، وكان صديقه متوجهاً ناحية بيته. لم يكن الصديق متأكداً من موقع المنزل بالضبط فأخطأ وأخذ الكبش إلى جيران صديقه وأعطاهم إياها قائلاً: "هذه الأضحية لكم" دون أن يذكر مِن مَن. كان الجيران فقراء لا يملكون المال لشراء الأضحية ففرحوا كثيراً ظناً منهم أنها من أحد المحسنين، ومن شدة فرحهم انتبهت لهم زوجة رب الأسرة وتساءلت في نفسها من أين لهم بالمال لشراء هذا الكبش؟ عندما عاد رب الأسرة إلى المنزل توقع أن يجد أولاده فرحين بالكبش لكنه وجد كل شيءٍ عادياً، دخل المنزل وسأل زوجته عن الكبش فردت عليه أن لا أحد أتى به، ثم تذكرت جيرانها فقالت له: "أعتقد أن صديقك أخطأ وأخذ الأضحية لجيراننا فاذهب واستردها منهم"، فرَّد عليها قائلاً: "الله قد كتبها لهم ولا يحق لنا أن نسلب الفرحة من نفوس الأولاد الفقراء في (يوم العيد)". وقرر أن يذهب لشراء أضحيةٍ أخرى، عندما عاد إلى السوق وجد أحد البائعين يحط رحله فذهب إليه، وقال في نفسه سأكون أول المشترين منه عسى أن يخفض لي في الثمن، وعندما وصل للبائع واختار كبشاً ليشتريه منه، قال له البائع أنه قد وقع له في طريقه إلى السوق حادثٌ نجا منه هو وماشيته بأعجوبةٍ فنذر نذراً أنه سيدَع أول زبونٍ يختار أفضل أضحيةٍ ثم يأخذها دون أن يدفع شيئاً! فسبحان الله؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، وقال عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الله سبحانه وتعالى قد شرع الأعياد فرحاً وسروراً للمسلمين بعد مواسم الخيرات وفرائض العبادات؛ فعيد الفطر يأتي بعد أداء فريضة الصوم، وكذا عيد الأضحى يأتي بعد قضاء الركن الأعظم في فريضة الحج وهو الوقوف بعرفة. وقد جعلها الشرع أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ يرفه فيها المسلم عن نفسه وأهله ويوسع عليهم بما شرع الله وأحل من التوسعة الطيبة المباحة؛ فشُرعت التوسعة على الأهل بأنواع الطيبات من المآكل والمشارب في الأعياد، ففي عيد الفطر فرض الله زكاة الفطر ومن عللها أن يجد الفقير ما يوسع به على أهله من المأكل في يوم العيد، وكذا في عيد الأضحى شرع الله تعالى الأضحية ومن عللها أن يجد  الفقير ما يوسع به على أهله من طيب الطعام وليشارك إخوانه من المسلمين بفرحهم ويتشبه الجميع بالحجيج في نسك الذبح.
وها هي أيام عيد الأضحى هلت على الأمة الإسلامية مبشرةً بالفرحة والبهجة والسرور متزامنةً مع شعيرة الحج وزيارة البيت الحرام. وهلَّ (يوم العيد) الذي نضحي فيه اقتداءً بسيدنا إبراهيم عليه السلام عندما أمره الله أن يذبح ابنه اسماعيل فأخذه إلى الصحراء حتى يذبحه ولكن الله فداه بكبشٍ من السماء فأصبحت الأضحية في عيد الأضحى سُنةً لجميع المسلمين؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾. هلت أيام العيد، أيام الفرح وهو مرتبطٌ في الإسلام بالعبادات وبالطاعة، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
يبدأ (يوم العيد) أولاً بتجمع المسلمين في الصباح الباكر مع شروق الشمس لأداء صلاة العيد، وهي من السنن النبوية الشريفة، وهي من أجمل الأمور في العيد، لا يكتمل جماله بدونها، بعدها يذهب المسلمون لذبح الأضاحي؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنَّتنا ...]. ويصف الشاعر نحر الأضحية (يوم العيد) في بيتين:
ويومَ العيدِ صلِّينا
وعُدنا للقرى صُبحا
وقمنا بعد أن عُدنا
ذبحنا كبشنا ذبحا
وسنة النحر لها فضلٌ كبيرٌ؛ قال ‏‏أصحاب رسول اللّهِ ‏صلى اللَّهُ عليه وسلم: ‏‏يا رسول اللَّه ما هذه الأضاحي؟ قال: ‏[سُنَّةُ أَبِيكُمْ ‏‏إِبْرَاهِيمَ]، ‏قالوا: فما لنا فيها يا رسول اللَّهِ؟ قال: [بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ]، قالوا: فالصوف يا رسول اللَّه؟ قال: [بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنْ الصُّوفِ حَسَنَةٌ].

يقول أحد العلماء أن من عظمة التشريع الإلهي أنه جعل العبادات التي يتقرب بها الإنسان لله سبحانه تعالى ويكسب بها رضاه هي ذاتها في كثيرٍ منها مما يفيد منها الناس فيحصل التكافل وتنتشر المودة ويسود العطف بينهم؛ فتوزيع لحم الأضاحي يُدخل السرور والبهجة على قلوب الفقراء.
ومن مظاهر الاحتفال بالعيد الإكثار من التكبير والتهليل فأيامه مباركةٌ نظراً لأن مناسك الحج لا تنتهي إلا في ثالث أيام التشريق وهو رابع أيام عيد الأضحى. ولا شك أن صلة الرحم والإكثار من الزيارات للأهل والأقارب يدخل الفرح والسرور والمودة والرحمة في قلوب الناس، مما يعمل على تقريبهم وتقوية ما بينهم من علاقات وحل ما بينهم من نزاعات أو خلافات.

أحبتي ... هل فكرنا كيف نستثمر وقتنا (يوم العيد) أفضل استثمار ممكن من الناحية الشرعية، بحيث نجعل منه موسماً حقيقياً من مواسم الخيرات يعم فيه النور وتتنزل الرحمات؟ يعرض أحد المجتهدين بعض ما يمكن عمله احتفالاً بالعيد وسعياً لرضا الله سبحانه وتعالى، من ذلك:
بر الوالدين وإدخال السرور عليهما؛ فهما سبب وجودك ولهما عليك غاية الإحسان، وقد وصى الله تعالى بهما في غير موضع من القرآن؛ فقال سبحانه: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾، وقال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ فأحرى بنا أن نسعدهما أيام العيد.
ثم الإحسان إلى الزوجة وإدخال السرور على نفسها، وغمرها بالعطف والمودة الزائدة في هذا اليوم، فكم من بيتٍ يقضي عيده في تعاسةٍ بسبب تفويت الزوج لأسبابٍ بسيطةٍ جداً تُدخل السرور على أهله. وكلنا يعلم وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالنساء وأن خيرنا خيرنا لأهله، وخير الأمة لأهله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلا تأسينا به. ويلحق العناية بالزوجة العناية بالأولاد وإدخال السرور على نفوسهم ولو بضحكةٍ أو قبلةٍ على جبين ولدك فمن لا يَرحم لا يُرحم.
وكذلك صلة الأرحام، وتكون بالتزاور والتواد والتعاطف، وما أجمل أن يزور الأثرياء الفقراء من عائلتهم؛ فكم يُدخل مثل هذا الصنيع الفرح والسرور على الأقارب وأولي الأرحام من الفقراء، حتى لو كانوا مقاطعين لك ولا يصلونك، امتثالاً لما جاء في الحديث الشريف: [ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من وصل من قطعه].
وأيضاً الإحسان إلى الجار في أيام العيد له فضلٌ كبيرٌ؛ فقد أوصانا الله تعالى بالجار فقال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: [ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه]، وقال صلى الله عليه وسلم: [خيرُ الأصحابِ عِندَ الله خيرُهُم لصاحِبه، وخيرُ الجيرانِ عِند الله خيرُهُم لجاره]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحسن إلى جاره]، فما أجمل زيارة الجيران؛ لما في مثل هذا التصرف من إشاعةٍ للمحبة والمودة والإخاء.
يأتي بعد ذلك ود وصلة من تحابوا في الله وتعارفوا فيه فاجتمعوا عليه وتفرقوا عليه. فعلينا الاهتمام بالأخوة في الله بزيارتهم في أيام العيد حتى تكتمل سعادتنا وسعادتهم.

يقول الشاعر:
هــل الـعـيدُ إلا أن تـعـود عـلى الـذي
هـجـرتَ فـتُـبدي الـبِـشرَ بـعـد تـجـهمِ
وعــنـد ذوي الأرحـــامِ تـُظـهـرُ رحـمـةً
وتـبــدو بـوجــهٍ بالـبـشـاشـةِ مــفـعـمِ
هـــل الـعـيـدُ إلا أنْ تــواسـيَ فــاقـداً
وتــرفـعَ ضـيـقـاً عــن فـقـيـرٍ ومـعـدمِ
هــــل الـعـيـد إلا أن تـــزور مــجـاوراً
فـلـلـجـار حــقٌ عــنـد أهــل الـتـقـدمِ

أحبتي ... يختصر أحد العلماء آداب الاحتفال بالعيد بقوله إن العيد عند المسلم الحق الذي يحب الله تعالى ورسوله، ويخشى الله تعالى ويتقيه، هو شكر المولى عز وجل من خلال ملازمة إقامة العبادات والحفاظ عليها في أوقاتها، فالقدم تسير إلى المساجد، واللسان لا يفتر عن الذكر، والمصحف لا يُهجر، والأعمال الصالحات لا تنقطع، وخصوصاً في ذلك اليوم الذي يغفل فيه الكثيرون عن التزام التعبد. والعيد صلة الرحم وزيارة الأقارب لا المقابر وبذل الصدقات لا الإنفاق على المعاصي والمنكرات والمحرمات. العيد أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة في كل محلٍ حللت به. العيد سترٌ لا تبرجٌ وسفور. العيد إحياءٌ للسنن والشعائر وبذلٌ للقربات. والعيد ابتسامةٌ في وجه أخيك، العيد اتصالٌ هاتفيٌ برجلٍ بَعُدَ عهدك به ويرجو وِدَّك ومودتك وهو من المحبين لك ولكنك عن ذلك من الغافلين أو المتغافلين.

أحبتي ... في (يوم العيد) انشروا الفرحة والسرور، فذلك من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى؛ قال عليه الصلاة والسلام: [...وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم ...]. وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى – في عيد الأضحى – تغنيان وتضربان، والنبي متغشٍ بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي عن وجهه وقال: [دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد]. ومع الفرح والسرور لا ننسى من لهم حالات خاصة؛ اصطحبوا أبناءكم لزيارة الأطفال اليتامى في دورهم، وزيارة المرضى في المستشفيات، وتقديم الهدايا البسيطة لهم، علموا أولادكم أن سعادة الإنسان لا تكتمل إلا بإسعاده الآخرين. علموهم أن الإسلام دين الرحمة والتكافل والمودة، دين المحبة والتسامح والصفح والغفران، دينٌ ينظم لنا كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياتنا، إنه منهج حياةٍ متكامل، يحرص على أن يكون المسلم فرحاً سعيداً مسروراً بشوشاً مبتهجاً ودوداً رؤوفا رحيماً حريصاً على سعادة الآخرين، على عكس ما يروج له البعض من أعداء الدين الذين يصورون المسلم الملتزم متجهماً عبوساً كارهاً لغيره.
ختاماً أقول لكم كما قال الشاعر:
تَقَبَّلَ رَبُّنَاْ الطَّاْعَاْتِ مِنْكُمْ
وَجَاْءَ الْعَفْوُ مِنْ رَبٍّ وَدُوْدِ
وَقَاْكُمْ رَبُّنَاْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ
حَبَاْكُمْ مِنْ رِضَاْهُ بِالْمَزِيْدِ
وَفَرَّجَ عَنْكُمُ الْكُرُبَاْتِ رَبِّيْ
وَثَبَّتَكُمْ عَلَى النَّهْجِ الرَّشِيْدِ
وَقَاْنَاْ اللَّهُ مِنْ نَاْرٍ تَلَظَّىْ
وَصَيَّرَنَاْ لِجَنَّاْتِ الْخُلُوْدِ

اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين، الحامدين لك، الشاكرين نعمك، المحافظين على دينك، المقيمين لشعائرك وعباداتك، المتبعين سُـنة رسولك. اللهم تقبل منا واجعلنا من القوم الذين قلت فيهم: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/AtNSEJ



الجمعة، 25 أغسطس 2017

أيام العشر

الجمعة 25 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٨
(أيام العشر)

لسنواتٍ عديدةٍ كنا نجلس يومياً بالمسجد بعد صلاة الفجر في "مجلس علم" نستمع إلى درسٍ قصيرٍ يشرح فيه إمامنا، جزاه الله خيراً، بعض ما ورد بالآيات الكريمة التي صلى بها. بمرور الزمن تحول "مجلس العلم" إلى "موقف علم" حيث نقف خارج المسجد نتدارس ما صلينا به من آياتٍ كريمة. ثم تطور "موقف العلم" فأصبح "ممشى علم" جمعنا فيه بين حُسْنَيَيْن: تحصيل العلم، والحفاظ على الصحة واللياقة بالمشي وبتنفس الهواء النقي الذي لم يتلوث بعد بأنفاس المنافقين!
في أحد "مماشي" العلم هذه، وكانت (أيام العشر) الأولى لشهر ذي الحجة قد اقتربت ونستعد لاستقبالها باعتبارها أفضل أيام الدنيا، عرض كل واحدٍ منا ما يعتزم الالتزام به من أعمال الخير التي يتضاعف ثوابها خلال هذه الأيام المباركة، وتوصلنا إلى نتيجةٍ طيبةٍ ألا وهي إعطاء الأولوية للأعمال التي يستفيد منها غيرنا كما نستفيد نحن منها، فقدمنا الصدقات والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم القرآن وما شابه ذلك، على الصلاة والصوم والذكر وقراءة القرآن، فهذه الأخيرة تعود فائدتها علينا نحن فقط أما تلك فإلى جانب أن لنا فيها ثواباً بإذن الله فإن غيرنا يستفيد منها فنكون قد ضربنا عصفورين، أو ربما عدداً من العصافير، بحجرٍ واحد.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم عن (أيام العشر) أنه من فضل الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسم للطاعات، يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيما يقربهم إلى ربهم، والسعيد من اغتنم تلك المواسم، ولم يجعلها تمر عليه مروراً عابراً. ومن هذه المواسم الفاضلة عشر ذي الحجة، وهي أيامٌ شهد لها الرسول بأنها أفضل أيام الدنيا، وحث على العمل الصالح فيها؛ بل إن الله تعالى أقسم بها، وهذا وحده يكفيها شرفاً وفضلاً. وهذا يستدعي من العبد أن يجتهد فيها، ويكثر من الأعمال الصالحة، وأن يحسن استقبالها واغتنامها.
من فضائل عشر ذي الحجة أنّ الله تعالى أقسم بها؛ فإذا أقسم الله بشيءٍ دلّ هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بعظيم، قال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين من السلف والخلف، وقال ابن كثير في تفسيره: "هو الصحيح". وهي الأيام المعلومات التي شرع الله فيها ذكره؛ قال الله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد لها بأنها أفضل أيام الدنيا؛ فعنه أنه قال: [أفضل أيام الدنيا أيام العشر] ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: [ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجلٌ عفر وجهه بالتراب]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأيَّامِ الْعَشْرِ]، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ].
وفيها يوم عرفة وهو يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صوم هذا اليوم فقال: [صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ]. وفيها يوم النحر وهو أعظم الأيام عند الله سبحانه وتعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرِّ].
وفيها اجتماع أمهات العبادة، وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتّى ذلك في غيرها.

ويقول أهل العلم أن من الأعمال المستحبة في (أيام العشر) أداء مناسك الحج والعمرة؛ وهما أفضل ما يُعمل في عشر ذي الحجة، ومن يسّر الله له حج بيته أو أداء العمرة على الوجه المطلوب فجزاؤه الجنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلاّ الجنة]. ومن الأعمال المستحبة، بل هو من أفضلها، الصيام؛ فقد أضافه الله إلى نفسه لعظم شأنه وعلو قدره، فقال سبحانه في الحديث القدسي: {كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به}. وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد عناية، وبيّن فضل صيامه فقال: [صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده]. وعليه فيُسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة. ومن الأعمال المستحبة الصلاة، وهي من أجَّل الأعمال وأعظمها وأكثرها فضلاً، ولهذا يجب على المسلم المحافظة عليها في أوقاتها مع الجماعة، وعليه أن يكثر من النوافل في هذه الأيام، فإنها من أفضل القربات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه: {وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه}. ومنها التكبير والتحميد والتهليل والذكر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما من أيامٍ أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد]. ويُستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام ويرفع صوته به. ومن الأعمال المستحبة الصدقة؛ حث الله عليها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]. وهناك أعمالٌ أخرى يُستحب الإكثار منها في هذه الأيام منها: تلاوة القرآن وتعلمه، الاستغفار، بر الوالدين، صلة الأرحام والأقارب، إفشاء السلام وإطعام الطعام، الإصلاح بين الناس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حفظ اللسان والفرج، الإحسان إلى الجيران، إكرام الضيف، الإنفاق في سبيل الله، إماطة الأذى عن الطريق، كفالة الأيتام، زيارة المرضى، قضاء حوائج الناس، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الرفق بالضعفاء، الدعاء للآخرين بظهر الغيب، أداء الأمانات والوفاء بالعهد، إغاثة الملهوف، غض البصر، إسباغ الوضوء، الدعاء بين الأذان والإقامة، قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، الذهاب إلى المساجد والمحافظة على صلاة الجماعة، المحافظة على السنن الراتبة، ذكر الله عقب الصلوات، إدخال السرور على المسلمين، والتعاون مع المسلمين في كل ما فيه خير.
ومن لم يستطع أن يعمل شيئاً من هذه الأعمال الصالحة والمستحبة، فعلى الأقل عليه ألا يظلم نفسه بفعل السيئات والمنكرات؛ قال أحد الصالحين: ليتذكر كلٌ منا أن أيام العشر تقع في شهر ذي الحجة، وهو أحد الأشهر الأربعة الحرم؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ]؛ ألا فاحذروا أحبتي أشدَّ الحذر أن تظلموا أنفسكم في هذه الأيام المباركة (أيام العشر) وفي هذا الشهر الحرام بالسيئات والخطايا، والبدع والضلالات، والظلم والعدوان، والغِش والكذب، والغيبة والبهتان والنميمة، والحسد والغِلِّ والحقد، والفجور في الخصومة، والسَّب واللعن والقذف، فهي كلها من ظلم الإنسان لنفسه، وهو ما نهانا عنه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ فإن الظلم محرمٌ في كل وقت وهو أشد تحريماً وأعظم خطيئةً ووزراً في الأشهر الحرم، فما بالنا إن كانت، والعياذ بالله، في أحب أيام الدنيا؟.
قال الشاعر عن (أيام العشر):
ألا يا باغي الخيرات أقْبِل
إلى ذي الحجَّة الشهر الحرام
به العشر الأوائل حين هلت
أحــب الـلـــه خـــيـــراً للأنام
بها النفحات من فيضٍ ونورٍ
وعــــــــــرفاتٍ فَشَمِّرْ للصيام
بها النحر الذي قد قال فيه
إلــــــــــه العرش ذكراً للأنام
بها الميلاد يبدأ من جديدٍ
إذا ما القلب طُهر من سقام
وبالحسنات فرج كل ذنب
إذا شئت الوصول إلى المرام
ألا يا باغيَ الخيرات أقبل
فــــــــإن الشهر شهرٌ للكرام
إذا استهواك شيطانٌ فأدبر
ولا تركنْ إلى الفعل الحرام

أحبتي ... إن لربكم في أيام دهركم نفحات،
و(أيام العشر) من مواسم الخير التي ينبغي على المسلم أن يتعرض فيها لنفحات رحمة الله عز وجل.
إلى من فاتهم أن تُعتق رقابهم من النار في رمضان فعادوا من بعدها تائهين، ومن لذات الطاعات محرومين، ما زالت أمامكم فرصٌ أدركوها؛ فأبواب المغفرة واسعةٌ والأمل في الفوز يتجدد.
فلنحرص على مواسم الخير فإنها سريعة الانقضاء، ولنقدم لأنفسنا عملاً صالحاً نجد ثوابه وقت أن نكون في أشد الحاجة إليه؛
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، التي إن مرت لا ندري هل يمتد أجلنا لنشهدها في أعوامٍ مقبلةٍ أم لا؟
هذه أيام العفو والمغفرة، أيام العتق من النيران، إنها فرصةٌ عظيمةٌ غاليةٌ من ربٍ غفورٍ ودودٍ حليمٍ عظيمٍ، هذه أيام القيام والصيام وذكر الرحمن والصدقات والدعوة إلى الله، والسعيد من اغتنمها.
جعلنا الله وإياكم من المحبين لله عز وجل، ورزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/fzQAk7


الجمعة، 18 أغسطس 2017

أكلٌ مُحَّرَمٌ

الجمعة 18 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٧
(أكلٌ مُحَّرَمٌ)

قال لي وهو منفعل: "لم أعد أطيق ما يفعله بي"، قلت وأنا أعلم من يقصد: "هو أخوك فتحمله وتحمل تصرفاته؛ عسى الله أن يهديه ويهدينا جميعاً"، قال: "لقد وصل به الأمر إلى أن يشوه سمعتي؛ فكتب عني على صفحته على الفيس بوك كلاماً جارحاً"، قلت له: "يهديك من حسناته ما لم تكن تتوقعه!"، هدأ قليلاً ثم قال: "لقد فاض بي الكيل"، قلت له: "أبشر فهذه فرصة قد وصلت إليك دون أن تسعى إليها"، تساءل متعجباً: "أية فرصة تقصد؟"، قلت: "اختبار صبرك، وإثابتك عليه"، وأكملت موضحاً: "كثيرٌ من الناس يصف نفسه بأنه صبورٌ لكنه يكتشف بأنه ليس كذلك في أول موقفٍ عمليٍ يتطلب منه الصبر، أما أنت فأراك والحمد لله صابراً على ما يفعل أخوك، أما عن ثواب الصبر فيكفي قول المولى عز وجل: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فاستمر في صبرك وزد فيه ليصل إلى مرتبة الصبر الجميل وهو الصبر بغير شكوى"، قال: "ونِعمَ بالله، لكن ما يحز في نفسي أنه أخي، ليس لي غيره، وهو الكبير، لم أكن أتوقع منه أن يؤخر عني حقي في الميراث ثم أن يأكل بعض حقي فيه وهو يعلم مدى احتياجي. لقد أوصلني لأن أقول له حسبي الله ونعم الوكيل، وكانت هذه هي اللحظة التي تحول فيها وبدأ يكتب عني بالتصريح مرةً وبالتلميح مرات"، تساءلت متعجباً: "أوما يزال إرثكم عن والدكم، رحمه الله، دون توزيعٍ حتى الآن؟ لقد تُوفي من أكثر من ثلاثين عاماً!"، رد متحسراً: "كلما فتحت معه هذا الموضوع غضب وسألني لِمَ العجلة؟! حتى حان الوقت الذي رآه هو مناسباً فباع عقاراً ورثناه عن أبينا رحمة الله عليه، وما يزال يراوغ في إيفائي حقي من البيع"، خففت عنه بقولي: "لقد قلت حسبي الله ونعم الوكيل، وهذه عبارة معناها أنك قد وكلت أمرك لله سبحانه وتعالى، وهو الذي لا تضيع عنده الحقوق، فالمطلوب منك الآن يا عزيزي هو الصبر".

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الإرث شرعاً هو ما يتركه الشخص لورثته من أموالٍ وحقوق. وقد امتاز نظام الإرث في الإسلام عن غيره من أنظمة التوريث الوضعية القاصرة، فلم يجعل الشارع الحكيم قسمة الميراث إلى مالك المال ليورث من يشاء ويحرم من يشاء، بل لم يجعل ذلك إلى نبيٍ مُرسَلٍ ولا إلى مَلكٍ مقربٍ، وإن الله سبحانه وتعالى هو الذي قسم التركة في آياتٍ قرآنيةٍ تُتلى إلى يوم القيامة. وقد وضع الإسلام للميراث شروطاً وموانع، فإذا توفرت الشروط وانتفت الموانع حصل الإرث وإلا فلا.
وعن توزيع الإرث يقول العلماء أنه ينبغي أن يتم مباشرةً بعد استكمال الإجراءات المطلوبة للقسمة من حصر الورثة والممتلكات وتنفيذ الوصايا النافذة شرعاً، ولا ينبغي تأخيره، وخاصةً إذا طلب بعض الورثة حقه، إلا إذا كان التأخير لمصلحةٍ وبرضى الورثة من الرشداء البالغين فإنه لا حرج فيه. وإذا ترتب على التأخير مردودٌ ماديٌ من إيجارٍ أو غيره فإنه يُوزع على جميع الورثة كلٌ حسب نصيبه المقدر له في كتاب الله تعالى، إلا إذا تنازل أحد الورثة من الرشداء البالغين عن حقه في ذلك.
وفي فتوى صريحةٍ يقول المفتي أن مماطلة أحد الورثة أو تأجيلُه قسمةَ الإرث أو منع تمكين الورثة من نصيبهم بلا عذرٍ أو إذنٍ من الورثة محرَّمٌ شرعاً، وصاحبه آثمٌ مأزورٌ، وعليه التوبة والاستغفار مما اقترفه، ويجب عليه رَد المظالم إلى أهلها؛ بتمكين الورثة من نصيبهم وعدم الحيلولة بينهم وبين ما تملكوه إرثاً، فقد أجمع الفقهاء على أن المال ينتقل بعد الموت من مِلك المُوَرِّث إلى ملك ورثته؛ لأنه ينقطع عن مِلك المُوَرِّث بالموت، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله]، وأن التركة بعد موت المُوَرِّث حقٌ لعموم الورثة على المشاع، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، فيستحق كل وارثٍ نصيبه من التركة بعد أن يُخصم منها نفقة تجهيز الميت وبعد قضاء الديون وإنفاذ الوصايا والكفارات والنذور ونحو ذلك، فلا يجوز لأى أحدٍ من الورثة الحيلولة دون حصول باقي الورثة على حقوقهم المقدَّرة لهم شرعاً بالحرمان أو بالتعطيل، كما لا يجوز استئثار أحدِهم بالتصرف في التركة دون باقي الورثة أو إذنهم، فمنع القسمة أو التأخير فيها بلا عذرٍ أو إذنٍ محرَّمٌ شرعاً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من فَرَّ مِن ميراث وارثِه، قَطَع الله ميراثَه مِن الجنة يوم القيامة]، وفى رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ، قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ]؛ فقطع الميراث عن أحد الورثة حرام؛ لأن الوعيد على الشيء دليلٌ على حرمته، والقطع الوارد فى الحديث يدخل فيه المنع من الإرث مطلقاً، أو تأخيره عن ميعاد استحقاقه دون عذرٍ أو إذن. المنع أو التأخير بلا عذرٍ أو إذنٍ تعدٍّ على حقوق الغير وهضمٌ لحقهم، وذلك من الظلم، والظلم من الكبائر المتوعَّد عليها، قال عليه الصلاة والسلام: [اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة]، وفيه أيضًا أكلٌ لأموال الناس بالباطل الذى نهى الله تعالى عنه فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾.

أحبتي .. حالة تأخير توزيع الميراث على الورثة، مَرَّت عليّ في حياتي أكثر من مرة وبأكثر من صورةٍ، وفي جميع الأحوال كان يترك آثاراً سلبية في علاقات الورثة بعضهم ببعض.
وأسوأ منها حالة حرمان وارثٍ من التركة، وفي ذلك ظلمٌ بينٌ يقع خاصةً على النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة الخاضعين لوصاية غيرهم.
وفيما يتعلق بالنساء على وجه الخصوص هناك من يمنع عنهم أرثهم، ومنهم من يشتري منهم حقهم في الإرث بثمنٍ بخسٍ ويدعي أن ذلك تم برضاهن لكن الحقيقة أنه حقهن اُنتزع منهن بسيف الحياء، ومنهم من يُجبر الوارثة على زواجٍ من لا ترغب فيه من أبناء العم حتى لا يضيع الورث إذا كان أرضاً زراعية فمعظم أهل المجتمعات الريفية يريدون الاحتفاظ بالملكية الزراعية وفى اعتقادهم أن توريث المرأة سيذهب بممتلكات الأسرة إلى عائلةٍ أخرى وهو ما يؤدى إلى تفتيت الممتلكات والحيازات، ومنهم من يتحايل ويستخرج شهاداتٍ طبيةً مزورةً لإثبات أن الوارثة لا تستطيع إدارة شئونها بنفسها فتؤول الوصاية له عليها فيحرمها من حقها في الميراث، ومنهم من يوقع عقودَ بيعٍ صوريةٍ قبل وفاته ليحرم بعض الورثة ويحجب عنهم حقوقهم بعد وفاته، وهناك صورٌ أخرى لظلمٍ لا يرضاه الله سبحانه وتعالى ولا رسوله الكريم، يتعارض مع شريعتنا الإسلامية الغراء؛ فهو أكلٌ لأموال الغير بالباطل، وإذا كان أكل مال الغير من الغرباء بالباطل محرماً، فما يكون أكل مال أقرب الأقارب والأرحام؟ إنه (أكلٌ مُحَّرَمٌ) بلا شك، بل إنه شديد الحُرمة. يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَتَأكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً﴾ أي تأكلون أيها الناس الميراث أكلاً شديداً لا تتركون منه شيئاً، فالأكل اللم (أكلٌ مُحَّرَمٌ) تجد من يستبيحه لنفسه يأكل كل شيءٍ يجده لا يسأل أحلالٌ أم حرام، فيأكل الذي له ولغيره، وذلك كان فعل أهل الجاهلية يظلمون الضعيف ويأكلون ماله، لا يورثون النساء، ولا الصغار، ويأكلون نصيبهم؛ قال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾.

أحبتي .. يقول الخبراء في علم الاجتماع أن ثمة حقيقةً تطالعنا باستمرار هذه الأيام ويُظهرها واقع الناس في تعاملاتهم، تتمثل في ازدياد حالات الغش والاحتيال والتزوير من قبل الإخوة والأزواج ويذهب ضحيتها العديد من النساء ذوات النوايا الحسنة، والنساء الغافلات عن معرفة حقوقهن الدينية؛ حيث يمارس أولياء الأمر بعد وفاة الأب التعنت وحجب الإرث عن أخواتهن بحجة الحفاظ على الأموال، فهم فئةٌ من ضعاف النفوس استمرأت الكسب غير المشروع. وقد أفرزت المدنية الحديثة وتعقيدات الحياة المعاصرة وتشابك المصالح فيها العديد من الظواهر السلبية والسلوكيات الغريبة التي جعلت بعض الناس يتكالبون وبشراهةٍ على الماديات ويظلمون الغير بالاستحواذ على حقوقهم وابتلاع هذه الحقوق دون مخافة الله عز وجل.
ومن القصص التي تُروى عما هو (أكلٌ مُحَّرَمٌ) أن رجلاً غنياً يملك ثروةً كبيرةً جاءته سكرات الموت فلما حضرته الوفاة جاء أولاده واجتمعوا عند رأسه، فأوصاهم بأن يحب بعضهم بعضاً، وألا يجور أخٌ على أخيه، فعاهدوه على ذلك، ثم دخل عليه ملك الموت فقبض روحه. جهز الأبناء جثة أبيهم، فغسَّلوه، وكفنوه، وصلوا عليه، وذهبوا به إلى المقبرة، وبعد أن دفنوه، وخرجوا من قبره، إذا بولدٍ من أولاده يستأذن بقية إخوانه وأقاربه بأن ينزل مرةً أخرى إلى قبر أبيه من أجل أن يطمئن على أنه قد دُفن ووجهه إلى القبلة، فأذنوا له، فنزل إلى قبر أبيه، وتأخر كثيراً، فأصاب إخوانه القلق فنزل واحدٌ منهم لينظر ماذا يصنع أخوه في القبر، وإذا به يجد أخاه قد أُلقى في القبر ميتاً بجوار أبيه! العجيب أنه وجد أخاه قد خلع الكفن عن جسد أبيه وأخرج يد أبيه من الكفن وجعله يبصم بأصبعه على عقد بيع لعمارةٍ كان يملكها قبل وفاته، وهي الآن مِلكٌ لجميع الورثة، فقد نزل الولد إلى قبر أبيه وفي جيبه محبرةٌ وفى الجيب الآخر عقد بيع، نزل وفك الكفن، وأخذ أصبع والده ووضعه في المبصمة على المحبرة ووضع يد والده على العقد، وجعل يبصمه على عقد بيع العمارة، وقبل أن يخرج بالعقد من أجل أن ينتفع به ويستمتع بتلك العمارة جاءه ملك الموت فى القبر فطرحه ميتاً بجوار والده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

أحبتي .. لا يجوز لأحدٍ أن يؤخر توزيع التركة على الوارثين بغير رضاهم، ولا يجوز لأحدٍ أن يحرم غيره من حقه الشرعي في الميراث، ومن يفعل ذلك فهو آثمٌ، ومعطلٌ لحكم الله، ومتعدٍ على كتاب الله وسُنة رسوله، وآكلٌ لأموال اليتامى بالباطل، وقاطعٌ للأرحام بهذه المظالم. وواجب على كل مسلمٍ ألا يقع في هذا الإثم فهذا (أكلٌ مُحَّرَمٌ)، كما أنه واجبٌ علينا جميعاً أن نتصدى لهذه الظاهرة بالتوعية والنصح، فهذا أمرٌ بالمعروف أُمرنا به، ونهيٌ عن منكرٍ سنحاسَب عليه؛ قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾،  وقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، وجعل سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين؛  قال عز وجل: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، فكانت من وصايا لقمان لولده: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
وقال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ].
أما المظلوم الذي ضاعت حقوقه، فليعلم أن الله تعالى سيكون معه إذا صبر على الظلم، وسيبارك الله تعالى له في القليل ليكون كثيراً.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/5dKTwd