الجمعة، 11 أغسطس 2017

لغة الضاد

الجمعة 11 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٦
(لغة الضاد)

بزيه الأزهري الوقور اعتلى منبر مسجد الشيخة سلامة أكبر مساجد مدينة العين بدولة الإمارات العربية المتحدة، كان يوم جمعةٍ، وكانت خِطبته يومئذٍ أول خِطبة له بعد استقدامه من مصر ليكون إماماً وخطيباً لهذا المسجد. شابٌ في بداية الثلاثينات من عمره، قصير القامة، مصري الملامح، عَلِمَ المصريون المقيمون بالمدينة وضواحيها بمقدمه فتوافدوا على المسجد من كل حدبٍ وصوب. كنت واحداً ممن تركوا مساجدهم التي اعتادوا أن يصلوا فيها صلاة الجمعة كل أسبوع، وتوجهوا للترحيب بالوافد الجديد، ابن مصر، وابن الأزهر الشريف. بدأ إمامُنا خِطبته بمقدمةٍ قويةٍ مؤثرة من المقدمات المحفوظة التي يغلب عليها السجع ثم أكملها مرتجلاً، فإذا بنا نُفاجَأ بكارثةٍ كانت في انتظارنا، لم يكن أي واحدٍ منا يتوقع حدوثها، خاصةً من إمامٍ معممٍ يرتدي الزي المميز للأزهريين. كانت كارثةً، خاصةً بالنسبة لي على الأقل وبالنسبة لكل من يحب ويعشق (لغة الضاد)؛ فكلما ابتعد صاحبنا عما يحفظه من استشهاداتٍ بآياتٍ من القرآن الكريم وبأحاديثَ نبويةٍ شريفةٍ وبأبياتِ شعرٍ ذات علاقة بموضوع الخطبة، وقع في أخطاءَ لغويةٍ فادحةٍ. كانت كلماته تؤذي مسامع كل من كانت (لغة الضاد) عزيزةً عليه! بدأ ينصب ما يجب أن يُجر، ويجر ما يجب أن يُرفع، ويحرك ما ينبغي أن يكون ساكناً، يتجاهل خبر كان أو إحدى أخواتها فلا ينصبه، ويرفع اسم إنَّ أو إحدى أخواتها! ومع كل خطأٍ يقع فيه كنت أحس بأن ضغط دمي يرتفع، حتى تمنيت أن يُنهي خطبته قبل أن ينفجر رأسي كمداً أو يتوقف قلبي حزناً وألماً! تملكني وقتها شعورٌ بالندم ممزوجٌ بالأسى، ندمٌ لحرصي على حضور هذه الخِطبة للإمام الجديد، وأسىً على خريجي الأزهر الشريف؛ إذ من المفترض أن يكون هذا واحداً من أفضلهم، اُختير لهذا العمل من بين عشراتٍ أو ربما مئاتٍ تقدموا للحصول عليه! مَرَّ بخاطري أنه قد يحدث مثل هذا الموقف في بلدي فيقبله الناس على مضض، أما أن يصدر ممن يمثل مصر ويكون سفيراً للأزهر في بلدٍ آخر فهذا مما لا يمكن تحمله. تساءلت بيني وبين نفسي: "ألهذه الدرجة وصل مستوي خريجي الجامعات المصرية في اللغة العربية؟"، والأدهى أن يكون هذا مستوى خريجي جامعة الأزهر على ما لها من تاريخٍ عريقٍ واهتمامٍ متميزٍ بلغتنا الجميلة (لغة الضاد). تمنيت ألا يكون جميع الخريجين على هذا المستوى من الضعف في اللغة، وهم بالتأكيد ليسوا كذلك. لم أدَعْ هذا الموقف يمر؛ فبعد انتهاء شعائر صلاة الجمعة، وانتظار عشرات المصريين وغير المصريين الذين توجهوا للإمام للسلام عليه والترحيب بقدومه، توجهت إليه وكنا اثنين لا ثالث لنا، رحبت به، وشكرت له حُسن اختياره لموضوع الخِطبة، وأشدت باستشهاداته المناسبة للموضوع، ثم وبصوتٍ أقرب للهمس صارحته بكثرة ما كان منه مما سميتها له تخفيفاً "هنات"، وأعطيته أمثلةً  على بعضها، وهونت الأمر عليه بقولي: "إن ارتجال خطبة جمعةٍ ليس بالأمر السهل خاصةً من فوق منبرٍ تقف عليه لأول مرة، وفي بلدٍ غير بلدك، وأمام جمعٍ من المصلين لم تتعود على تنوع جنسياتهم إلى هذه الدرجة". وقلت له ناصحاً: "سَكِّنْ تَسْلَمْ، قاعدةٌ تفيد المرتجل في مثل هذه المواقف". للأمانة كان الرجل يصغي لما أقول، وإن كانت علامات التعجب تكاد تقفز من عينيه! وبعد أن انتهيت من حديثي سألني سؤالاً واحداً، قال: "هل حضرتك متخصصٌ في اللغة العربية؟"، قلت: "لا"، فالتفت عني كما لو كان يقول لي: "انتهت المقابلة"!، تركني ولسان حاله يقول: "خسارة ما ضيعته من وقتٍ معه!"، وانصرفت عنه وفي ذهني خاطرٌ أن الخسارة أن يظن البعض أن حب اللغة العربية وإجادتها قاصرٌ فقط على خريجي كليات اللغة العربية!

أحبتي في الله .. حدث هذا الموقف في منتصف ثمانينات القرن الماضي، أي منذ قرابة ثلاثين سنة، لكن ما ذكرني به هذه الأيام واحدٌ ممن يُفترض أنهم من أساطين القانون في مصر، لم يكن يرتجل كلاماً بل كان يقرأه من ورقٍ أظن أنه هو الذي كتبه بنفسه، فإذا بالأخطاء اللغوية الفادحة تترى وتتوالى وكأنها مطارق يهوي بها على رؤوس مستمعيه، أخطاء في نطق كلماتٍ لا يخطئ فيها تلميذٌ بالمرحلة الإعدادية! ثم بلغ الأمر مداه فإذا بسيادة المستشار يَلْحَن في الآيات القرآنية التي استشهد بها! لم تقف المصيبة إذن عند حدود الكلام المرتجل بل تعداه إلى ما هو مكتوب، وتجاوز الأمر الخطأ في كلام البشر ليصل إلى الخطأ في كلام رب البشر وفي آيات كتابه الكريم فتحول الخطأ إلى خطيئة. لم أتحمل الصدمة فأغلقت التلفاز، على أهمية ما كنت حريصاً على متابعته، احتراماً لسمعي وحفاظاً على صحتي وتقديراً لمعشوقتي (لغة الضاد)! 
ألهذا الحد بلغت الاستهانة باللغة العربية، ووصلت إهانتها والاستخفاف بها وهي اللغة التي كرمها الله سبحانه وتعالى فأنزل قرآنه بها؟   
قال تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقال: ﴿حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقال: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْـزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾، وقال: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، وقال: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، وقال: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾. أَبَعْدَ كل هذه الآيات التي شرَّف بها الله سبحانه وتعالى اللغة العربية وخصها دون غيرها من اللغات لتكون وعاءً لكتابه الكريم، أَبَعْدَ كل هذا يمكن لمسلمٍ أن يُضَيِّع هذه اللغة؟ والأغرب أن يكون ذلك المسلم الذي تضيع اللغة العربية على يديه عربياً!
أكاد أجزم أن هذه جريمةٌ كبرى لا يمكن السكوت عنها أو المرور عليها مرور الكرام، إنه أمرٌ جلل؛ فالخطأ في قراءة الآيات القرآنية على نحوٍ صحيحٍ يبطل صلاة المسلم فإذا قرأ فيها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ على هذا النحو: "إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ"، فقد انقلب المعنى تماماً؛ وبدلاً من أن يكون العلماء هم الذين يخشون الله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى الآية، صار المعنى هو أن الله هو الذي يخشى العلماء، وحاشا لله أن يكون كذلك.
نفس الشيء لو أنه قرأ الآية الكريمة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ على هذا النحو: "وإذ ابتلى إبراهيمُ ربَّه بكلمات فأتمهن" فيكون قد عكس معنى الآية؛ فبدلاً من أن يكون الله سبحانه وتعالى هو فاعل الابتلاء، وهذا هو المعنى الصحيح للآية، صار المعنى هو أن إبراهيم هو الذي يبتلي ربه، والقراءة على هذا النحو باطلةٌ ولا تجوز. مثالٌ آخر أكثر وضوحاً، قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ والمعنى: أن الله برئٌ من المشركين، ورسولُه برئٌ منهم. وتُقرأ ﴿وَرَسُولُه﴾ بالضم، على الابتداء، والخبر محذوفٌ، والتقدير: "وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ"، ولا تجوز قراءتها "ورسولِه" بكسر اللام؛ لأنها تُوهِم أن الله بريءٌ من المشركين، وبرئٌ من رسولِه، وهذا باطلٌ محالٌ، والاعتقاد به كفر.

أحبتي .. يقول أهل العلم أنه ما من لغةٍ تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها؛ فهي اللغة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتحمل رسالته النهائية إلى البشر، رسالة الإسلام. من مميزاتها أنها لغة القرآن الكريم، والأحاديث النبويّة الشّريفة.
ساهمت اللّغة العربيّة في نهوض العديد من الحضارات، وخصوصاً الأوروبيّة، الأمر الذي جعل الأوروبيّين حريصين على تعلُّمها للاستفادة من التقدم الذي حققه المسلمون في العديد من فروع العلم حينما كانت الحضارة الإسلامية في أوج انتشارها. سُمّيت اللغة العربية (لغة الضاد) لأنها اللغة الوحيدة في العالم التي تحتوي على حرف الضاد.

يُنسب إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، القول: "تعلموا العربية فإنها من الدين".
وقال ابن تيمية عنها: "معرفتها فرضٌ واجبٌ، فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللغة العربية، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب".
ونظم حافظ إبراهيم قصيدته المشهورة عن اللغة العربية وهي تتحدث عن نفسها فتقول: 
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً
وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ
آلة ٍوتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحرُ في أحشائِه الدرُ كامنٌ
فهل ساءَلوا الغواصَ عن صَدَفاتي
أما الشاعر حمد بن خليفة أبو شهاب فقال عن اللغة العربية:
لغة القرآن يا شمس الهدى
صانك الرحمن من كيد العدى
هل على وجه الثرى من لغةٍ
أحدثت في مسمع الدهر صدى
بين طيّاتك أغلى جوهر
غرّد الشادي بها وانتضدا
نحن علّمنا بك الناس الهدى
وبك اخترنا البيان المفردا
وزرعنا بك مجداً خالداً
يتحدّى الشّامخات الخُلَّدَا
ما اصطفاك الله فينا عبثاً لا
ولا اختارك للدين سُدى
لغةٌ قد أنزل الله بها
بيّناتٍ من لدنه وهدى
وقال مصطفى صادق الرافعي محذراً: "ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ".

وقبل أن أختم، اخترت لكم طرفتين لُغويتين:
‏سأل رجلٌ الحسن البصري‏:‏ ما تقول في رجلٍ ترك أبيه وأخيه؟ فقال الحسن‏:‏ ترك أباه وأخاه‏ !!‏ فقال الرجل‏:‏ فما لأباه وأخاه؟
فقال الحسن‏:‏ فما لأبيه وأخيه !! فقال الرجل للحسن‏:‏ أراني كلما كلمتك خالفتني‏ !!
وهاكم الطرفة الأخرى:
رُوي أن رجلاً قصد سيبويه لينافسه في النحو فخرجت له جارية سيبويه فسألها قائلاً: أين سيدك يا جارية؟ فأجابته بقولها: "فاء إلى الفيء فإن فاء الفيء فاء".
فقال: والله إن كانت هذه الجارية فماذا يكون سيدها؟! ورجع.

أحبتي .. ما أجمل (لغة الضاد)، لغتنا العربية، وما أروعها من لغةٍ، شرَّفها المولى عز وجل لتكون لغة القرآن الكريم، فاتقوا الله فيها، لا تضيعوها .. تعلموها واتقنوا فنونها، وعلموها أبناءكم، واحرصوا على التحدث بها ما وسعكم ذلك، واعتمدوها لغةً لمكاتباتكم .. وهمسةٌ في أذن كل من يعمل في مجال الدعوة إماماً أو خطيباً أو كاتباً أو مستخدماً لمواقع الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي: لا تنطقوا أو تكتبوا أو تنشروا إلا ما كان صحيح اللغة، ولتكن نيتكم في ذلك الحرص على سلامة لغة القرآن الكريم، كلام الله، فتُثابوا بإذن الله على نياتكم وعلى قَدْرِ جهدكم في ضبط ألفاظها ومفرداتها والحفاظ عليها غضةً نضرة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/Hd7JsQ


الجمعة، 4 أغسطس 2017

مخلوقون لزمانٍ غير زماننا

الجمعة 4 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٥
(مخلوقون لزمانٍ غير زماننا)

اقترب مني وهو يمشي على أطراف أصابع قدميه، لمحته بطرف عيني وتظاهرت أني لا أراه، اقترب أكثر حتى لامست شفتاه أذني، فإذا به يهمس بصوتٍ خافتٍ: "أحبك يا جدي"، رغم أني فوجئت بما فعل إلا أنني قررت الاستمرار في اللعبة؛ فقربت شفتاي من أذنه وهمست بصوتٍ خافتٍ كذلك: "وأنا أحبك يا عمر"، ضحك آخر أحفادي، حفظهم الله جميعاً وبارك فيهم، ثم انصرف إلى لعبه وبراءة الأطفال في عينيه. لم يستغرق هذا الموقف سوى ثوانٍ معدودات، لكن أثره في نفسي كان كبيراً؛ فشعوري بالسعادة لهذا التصرف التلقائي من حفيدي العزيز كان أكبر من أن يُوصف، وتذكرت وقتها المقولة الشهيرة: "ما أعز من الولد إلا ولد الولد"، إنهم أحفادنا وهم (مخلوقون لزمانٍ غير زماننا).

أحبتي في الله .. امتنَّ الله تعالى على عباده بنعمة الأبناء والأحفاد؛ قال عز وجل: ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾.      والأطفال هبةٌ من الله سبحانه وتعالى، يتفضل بها على عباده؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ . أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا﴾، فالناس كما أفادت هذه الآية على أحوالٍ أربعة: منهم من يهبهم الله سبحانه وتعالى إناثاً فقط، ومنهم من لا يهبهم إلا ذكوراً، ومنهم من يهبهم إناثاً وذكوراً، ومنهم من يكون عقيماً فلا يهبه الله تعالى ذكراً ولا أنثى. فليس معنى ﴿يُزَوِّجُهُمْ﴾ في الآية هو النكاح كما قد يتوهم البعض بل المعنى هو الجمع والتقارن؛ أي أن يهب الله تعالى لبعض عباده بناتٍ وبنين، فهو يزاوج له في الهبة فيهبه أبناء من كلا الجنسين. يقول المفسرون لهذه الآية أنها نزلت في الأنبياء خصوصاً وإنْ عَمَّ حكمها؛ فيهب لمن يشاء إناثاً يعني لوطاً عليه السلام لم يولد له ذكر وإنما وُلدت له ابنتان، ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم عليه السلام لم تولد له أنثى بل وُلد له ثمانية ذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وُلد له ثلاثة بنين وأربع بنات، ويجعل من يشاء عقيماً يعني عيسى ويحيى عليهما السلام. وأما تقديم الإناث في الآية الكريمة فقد ذكروا له حِكَماً منها: أنه توصيةٌ بالاهتمام بهن ورعايتهن لضعفهن، ومنها: إلغاء الأفكار التي كانت سائدةً عند العرب في الجاهلية عن البنات، ومنها: أنهن قُدمن في الذكر لأنهن أكثر لتكثير النسل، ومنها: أن في ذلك إشارةً إلى ما تقدم في ولادتهن من اليُمْن كما في الأثر "من يُمن المرأة تبكيرها بأنثى".

يُعَرَّف الحفيد على أنّه ابن الولد، أما ابن البنت فيُعرف باسم السِبط، وفيما يتعلّق برسول الله عليه الصلاة والسلام فلم يكن له أي أحفادٍ من أبنائه الذكور، وذلك بسبب موتهم وهم صغار السنّ، إلا أنّ له ثمانية أسباطٍ: خمسة بنين وثلاث بنات. أسباطه من ابنته زينب رضي الله عنها: علي {مات صغيرًا}، وأمامة {التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة}. ومن ابنته فاطمة رضي الله عنها: الحسن، والحسين، ومحسن {مات صغيراً}، وأم كلثوم، وزينب. ومن ابنته رقية رضي الله عنها: عبد الله.
أما ابنته أم كلثوم رضي الله عنها فقد ماتت ولم تنجب.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾، فلننظر كيف كان يتعامل مع أحفاده:
تضافرت الروايات على أنّ الحسن والحسين كانا يركبان على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة؛ فمن رواية عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :  خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ وَهُوَ حَامِلُ حَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ: إِنِّي رَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ فِي سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَيْ الصَّلَاةِ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: [كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ].
وخطبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فأقبلَ الحسنُ والحُسينُ، رضي الله عنهما، عليهما قميصَان أحمران، يعثُران ويقُومان، فنزلَ فأخذَهما، فصعِد بهما المنبَر، ثم قال: [صدقَ الله: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، رأيتُ هذَين فلم أصبِر].
وكذا كان حُبُّه صلى الله عليه وسلم لبقيَّة أحفاده؛ فقد كان يُصَلِّي وهو حامل أُمامة بنت ابنته زينب رضي الله عنها؛  ففي الصحيحين عَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى وَهْوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا.
ويُرْوَى في الصحيحين أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا. فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: [مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ].

عن علاقة الأجداد بالأحفاد الذين هم (مخلوقون لزمانٍ غير زماننا) يقول الخبراء في علم النفس أنَّ "الأب والأم يعيشان الأبوة والأمومة مع أطفالهما في حلوها ومُرّها، لكن الجدَّين يعيشان مع الأحفاد الأبوَّة والأمومة المتأخرة في حلوها فقط، أما الجانب المرّ فيتركانه للأب والأم". ويقول الخبراء في التربية أن "الأجداد يكتسبون دوراً عاطفياً جديداً من خلال تواجدهم مع جيلٍ ثالثٍ يختلف عن جيل الأبناء، ويحاولون تفادي الأخطاء التي وقعوا فيها أثناء تربيتهم لأبنائهم مستعينين بالخبرة التراكمية التي اكتسبوها. ودور الأجداد في حياة الأحفاد مهمٌ حيث يرتكز على التوجيهات البناءة والمعارف التي استقوها في حياتهم، ما يسمح لهم بتقديم النصائح المفيدة لأحفادهم". ويقولون: "على الآباء والأمهات أن يعلموا أن وجود الأجداد في حياة الأحفاد أمرٌ مهم. فهذا يسعد الأجداد ويسعد الأطفال أيضاً، فلا بأس من التنازل عن بعض القواعد الأسرية الصارمة عند زيارة الأجداد حتى يستمتع الأطفال قليلاً". ويضيفون: "بعض الأجداد ينظرون إلى الطريقة التي يربي بها الوالدان الأحفاد بشيء من الاستنكار، وهذا خطأ يسبب الكثير من الخلافات الأسرية. فعلى الأجداد أن يعلموا أن ليس عليهم إعادة التربية أو فرض رؤيتهم لكن دورهم هو الإضافة وتلقين الأجيال الجديدة قواعد الحياة من منطلق الخبرة  والحب والخوف عليهم ولكن من دون أوامر أو نزاعات". 
أما الخبراء في علم الاجتماع فيحذرون الأجداد من التدخل السلبي في تربية الأحفاد فيقولون: "كثيراً ما يكون الأجداد متسامحين مع أحفادهم ويحاولون الدفاع عنهم عند لجوء آبائهم إلى معاقبتهم من حيث تكون هناك ضرورة إلى العقوبة سواءً أكانت عقوبةً ماديةً أم معنويةً، ومن ثم لا يدرك الطفل لماذا يلجأ الأب إلى معاقبته في حين يحاول الجد حمايته. وعملية إدراك الطفل للخطأ الذي قام به أمرٌ مهمٌ جداً في عملية التنشئة الاجتماعية".
وكتب أديبٌ يصف علاقة الجد بالحفيد: "والحَفِيدُ لا يمكن أن يتلقى من زخات الحب أصفى ولا أكرم، ولا أكبر مما يهبه الجَدُّ في حياته، والجَدُّ على الجانب الآخر، بخبرة السنين، ومقارنة العقل، واستحلاب العواطف يجد عُمره في حَفِيده، ويستحضرُ طفولة أبنائه بين يديه من جديد، ويستعيدها بالصورة البطيئة، فيضخ في تلك العلاقة خلاصة ما عرف وجرب وسمع ورأى، ويعوض ما فاته، ويصلح كل الهفوات، التي حدثت في علاقته بأبنائه، ويحاول أن يصنع أنموذجاً متكاملاً مميزاً، يضاهي الكمال".
وهذا شاعرٌ نظم أبياتاً تصف مشاعره في انتظار وصول حفيده:
سبطي، حفيدي بل حبيبي في الطريق
ينبوع نورٍ كم يذوب
وكم يُـذيبُ وكم يريقْ
أحييْتَ فِيَّ مآثرًا
وبعثْتَ في صدري الشروق
أنت الحفيد بل الأنيس بل مهجتي
أنت الرفيق
أوَّاهُ أنت الجدولُ الرقراقُ
بالخير الدَّفـيـقْ
والنسمةُ السَّكـْرى
بأحلام السنين ولا تفيق
أنتَ المُـعَـتـَّـقُ في خوابي النور
والجدوى من الزمن العتيقْ
وكتب شاعرٌ آخر أبياتاً عن حفيدته منها:
حبيبتي حفيدتـــي الصغيـــرَةْ
لولاكِ ما أعطى الشــذى عبيرَهْ
ولا الأريجُ  قـــــــد ندى زهورَهْ
ولا الشعاعُ قد ألــــفتُ نــــورَهْ
يا سُلوتي فــي غربتي المريرة

وفي دراسةٍ أجرتها الجمعية الأميركية للمتقاعدين ثبت أن علاقة الأجداد بأحفادهم هي واحدةٌ من أكثر العلاقات الأسرية قوةً، برغم الاعتقاد السائد في العديد من بلدان العالم بأن روابط الأسرة متعددة الأجيال قد ضعفت في العقود الأخيرة وأن الأسر ستؤول إلى زوال.
وأوضحت الدراسة أن 88٪ من مشهد تواصل الأجيال يكون في صالح الطرفين صحياً ونفسياً، ويزيد من قدرة الجسم على مقاومة الأمراض التي تحتاج لجهاز مناعةٍ قوي. وانتهت الدراسة إلى نظريةٍ مهمةٍ بأنه كلما قويت روابط الصلة والتقارب والحب بين الأجيال المتعاقبة، خاصةً بين الأحفاد والأجداد، كلما وقف الأحفاد مع أجدادهم عند كبرهم وفي أيامهم الأخيرة التي غالباً ما يعانون فيها من أمراضٍ عضال. وكشفت دراسة أُجريت في العاصمة الألمانية برلين، اعتماداً على بيانات جرى جمعها من أكثر من 500 شخص فوق السبعين من عمرهم، أن الأجداد والجدات الذين يساعدون من فترةٍ لأخرى في رعاية الأحفاد، أو يقدمون المساعدة لآخرين في مجتمعهم، يعيشون لفترة أطول من كبار السن الذين لا يهتمون بالآخرين. وأكدت على أن التفرغ لتربية الأحفاد قد يؤثر تأثيراً سلبياً على كبار السن، ولكن المساعدة في التنشئة من آنٍ لآخر يمكن أن يكون مفيداً لهم. وتوصلت الدراسة إلى أن عدم الاتصال بالأحفاد على الإطلاق يؤثر سلبياً على صحة الأجداد والجدات.

أحبتي في الله .. هذا هو نبينا الكريم، نبي الرحمة، يعلمنا كيف نتعامل مع أحفادنا. وهؤلاء خبراؤنا يقدمون إلينا النصائح المفيدة في التعامل مع الأحفاد. وهذا أديبٌ وصف لنا علاقة الجد بالحفيد. وهذه أحدث الدراسات العلمية تؤكد لنا على ضرورة تعزيز العلاقة بين الجدود والأحفاد.
فعلينا أحبتي أن نتعامل مع أحفادنا وهم (مخلوقون لزمانٍ غير زماننا) بالحب والمودة والصبر والرحمة واللين، وعلينا أن نتفهم سماتهم وخصائصهم وطباعهم ونتعامل معهم وفقاً لها وبما يتناسب مع أعمارهم وشخصية كلٍ منهم. وعلينا أن ندرك تماماً معنى ما ورد في الأثر: "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم".
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/77Gtiq

الجمعة، 28 يوليو 2017

خُلُقُه القرآن

الجمعة 28 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٤
(خُلُقُه القرآن)

"بكم تبيع دينك؟"، كان هذا سؤالي وجهته إلى صديقٍ عزيز، تعجب مما قلت فرَّد علي: "أأنت الذي يسأل هذا السؤال يا رجل؟!"، قلت له: "إنه أمرٌ يؤرقني هذه الأيام؛ لا يكاد يمر يومٌ إلا وأطالع في الأخبار من يبيعون دينهم بأبخس الأثمان، ما بين من يقتل أمه لرفضها إعطاءه بعض المال، إلى من يزني بزوجة صديقه لشهوةٍ عابرة، إلى من يغش الناس ويبيع لهم أغذيةً فاسدةً أو أدويةً مغشوشة أو قطع غيارٍ مقلدة، إلى قاضٍ مناطٍ به إقامة العدل بين الناس فإذا به ذراع بطشٍ وظلمٍ يحكم بين الناس بغير الحق، إلى طبيبٍ لم يحترم شرف مهنته فتحول إلى تاجرٍ يبحث عن المال من الفقير قبل الغني، إلى رجل دينٍ يقدم الفتاوى على هوى من يطلبها من أصحاب النفوذ والسلطان ثم تراه أخرس أبكم لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم عندما يرى بأم عينيه المظالم والمفاسد ومخالفة شرع الله والخروج السافر عن الدين، إلى مُعلمٍ مات ضميره فلم يعد يُعَلِّم بالمدرسة ومع ذلك تراه مبدعاً في الدروس الخصوصية والمجموعات وفيما اُشتهر بالسناتر، إلى تاجرٍ تملكه الجشع دون وازعٍ من دينٍ أو أخلاق فاحتكر السلع ورفع الأسعار وشق على الناس، إلى إعلاميٍ ابتعد عن المهنية وبدلاً من توعية الناس بالحقائق أصبح وسيلةً لنشر الأكاذيب وبيع الأوهام وبدلاً من تقديم نقدٍ موضوعيٍ مهذبٍ صار يتبارى مع أمثاله أيهم أكثر دناءةً وبذاءةً وافتراءً وتشويهاً لأصحاب الرأي الآخر، إلى فنانٍ ابتعد بالفن عن رسالته السامية وجعل منه أداةً لنشر الفسق والفجور والرذيلة وتحول إلى قدوةٍ سيئةٍ للشباب. والأمثلة كثيرةٌ عصيةٌ من كثرتها على الحصر. ألا يبيع هؤلاء دينهم بثمنٍ بخسٍ: مالٍ أو شهوةٍ أو شهرةٍ أو منصبٍ أو عرضٍ دنيويٍ زائل؟". سكت صديقي لحظةً ثم قال: "معك حق؛ البعض يصلي ويصوم ويزكي ويحج، ويطيل لحيته ويقصر جلبابه، وتتوقع أن يكون (خُلُقُه القرآن) لكنه لا يتورع عن أن يبيع دينه في تعاملاته مع غيره فيحلف كذباً أو يشهد زوراً أو يغش أو يدلس أو ينافق أو ينصب على غيره مقابل دراهم معدودة، والبعض يعتبر ذلك ذكاءً وشطارة!"، قلت: "قد يعتبر نفسه ذكياً من يبيع آخرته بدنيا يصيبها هو، لكن ماذا تقول فيمن يبيع آخرته بدنيا يصيبها غيره؟! ولله در الشاعر حين قال:
عَجِبْتُ لِمُبْتَاعِ الضَّلالَةِ بالْهُدَى
ولِلْمُشْتَرِي دُنْيَاهُ بِالدِّينِ أَعْجَبُ
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَيْنِ مَنْ بَاعَ دِينَهُ
بِدُنْيَا سِواهُ فَهْوَ مِن ذَيْنِ أَخْيَبُ".

أحبتي إن كل بعدٍ عن تطبيق الدين في حياتنا وتحويل قيمه النبيلة الرائعة إلى سلوكٍ يوميٍ بحيث يكون كلٌ منا (خُلُقُه القرآن) هو بيعٌ للدين من حيث لا ندري ومن حيث لا نقصد؛ خاصةً عندما يكون ذلك وسط أجانب يحكمون على الإسلام من خلال معاملاتنا وسلوكنا؛ انظروا ما حدث قبل عدة سنواتٍ عندما انتقل إمام إحدى المساجد إلى مدينة لندن ببريطانيا وكان يركب الحافلة دائماً من منزله إلى مدينةٍ أخرى، وكان أحياناً كثيرةً يستقل نفس الحافلة بنفس السائق. بعد انتقاله بأسابيع، استقل الحافلة ودفع الأجرة للسائق ثم جلس، فاكتشف أن السائق أعاد له عشرين بنساً زيادةً عن المفترض من الأجرة، فكر الإمام وقال لنفسه أن عليه إرجاع المبلغ الزائد لأنه ليس من حقه، ثم فكر مرةً أخرى وقال في نفسه انس الأمر فالمبلغ زهيدٌ وقليلٌ ولن يهتم به أحد، كما أن شركة الحافلات تحصل على الكثير من المال ولن ينقص عليهم شيءٌ بسبب هذا المبلغ الزهيد، إذن سأحتفظ بالمال وأعتبره هديةً من الله. توقفت الحافلة عند المحطة التي يريدها الإمام ولكنه قبل أن يخرج من الباب توقف لحظةً ومد يده وأعطى السائق العشرين بنساً وقال له: "تفضل، أعطيتني أكثر مما أستحق من المال"، فأخذها السائق وابتسم وسأله: "ألست الإمام الجديد في هذه المنطقة؟ إنني أفكر منذ مدة في الذهاب إلى مسجدكم للتعرف على الإسلام ولقد أعطيتك المبلغ الزائد عمداً لأرى كيف سيكون تصرفك". وعندما نزل الإمام من الحافلة شعر بضعفٍ في ساقيه وكاد أن يقع أرضاً من رهبة الموقف فأمسك بأقرب عامود نور ليستند عليه، ونظر إلى السماء ودعا باكياً: "يا الله! كنت سأبيع الإسلام بعشرين بنساً".
وهذه واقعةٌ أخرى حدثت في فرنسا لها علاقةٌ هذه المرة ليس ببيع الدين فقط بل وشرائه كذلك! امرأةٌ مسلمةٌ تضع النقاب تقوم بالتسوق في سوبر ماركت وبعد الانتهاء من التبضع ذهبت إلى الصندوق لدفع ما عليها من مستحقات، موظفة الصندوق امرأةٌ متبرِّجةٌ كاسيةٌ عاريةٌ واضح أنها من أصولٍ عربية، نظرت إلى المنقبة نظرة استهزاءٍ ثم بدأت تحصي السلع وتقوم بضرب السلع على الطاولة، لكن الأخت المنقبة لم تحرك ساكناً وكانت هادئة جداً مما زاد تلك العربية غضباً فلم تصبر وقالت لها وهي تستفزها: "لدينا في فرنسا عدة مشاكل وأزمات، ونقابك هذا مشكلةٌ من المشاكل؛ فنحن هنا للتجارة وليس لعرض الدين أو التاريخ. إذا كنت تريدين ممارسة الدين أو وضع النقاب فاذهبي إلى وطنك ومارسي الدين كما تشائين". توقفت الأخت المسلمة المنتقبة عن وضع السلع في الأكياس، ونظرت حولها فلم تجد رجلاً في المحل، فتقدَّمت إلى العربيَّة ثم قامت بنَزع النقاب عن وجهِها فإذا هي شقراء زرقاء العينَين، وقالت: "أنا فرنسيّةٌ مسلمةٌ، أبي وأجدادي فرنسيُّون، هذا إسلامي، وهذا وطني، أنتم بعتم دينكم، ونحن اشتريناه!".

قد لا نرى أبداً ردود فعل البشر تجاه تصرفاتنا، فأحياناً ما نكون نحن بتصرفاتنا وسلوكنا القرآن الذي سيقرأه الناس أو الإسلام الذي سيراه غير المسلمين؛ لذا يجب أن يكون كلٌ منا مثلاً وقدوةً للآخرين، ولنكن دائماً صادقين أمناء لأننا قد لا ندرك أبداً من يراقب تصرفاتنا، ويحكم علينا كمسلمين وبالتالي يحكم على الإسلام.

وأخطر الناس في بيعه للدين رجل دينٍ باع دينه خوفاً من قول كلمة حقٍ أو طمعاً في رضا صاحب سلطةٍ أو سلطان، ومثل هذا قال الشاعر فيه:
لحاكمٍ أشبهت خوصاً جشيشا
تــغـص بـهـا دواب الـمـسلمينا
وسـحـنـاتٌ لـكـم مـنـها مـلـلنا
وأقــــوالٌ سـئـمـنـاها سـنـيـنا
وعـند الـجد أُخـرستم فـسحقاً
غـــدوتــم لــعـبـةً لـلـحـاكـمينا
فـبـعـتم ديـنـكـم لـهـمُ بـعـرَضٍ
زهـيـدِ ولـــن تـكـونوا خـالـدينا
بـــذي الـدنـيا ولـبـستم عـلـينا
شريعـتنا العـظـيمة قـاصدينا
فـصبـراً إن مـوعـدنـا قـريـبٌ
أمــام الــحـق ربِ الـعـالـمينا

وهناك مِن الكتاب والصحفيين وممن يعتبرون أنفسهم الصفوة من المثقفين مَن باع دينه فكتب عنه الشاعر يقول:
لن أقول بعد اليوم عذراً
فكلماتكم حقدٌ
وشهدُكم مرٌّ بليد
وأنتم اكتسيتم
عاراً وذلاّ
أقلامكم بيعت
بأسواق النخاسة والعبيد
تكتبون حقداً
يشيب له الوليد
وأنتم بعتم دينكم بدنياكم
خسئتم
يا أحقر خلق الله يا عبيد

أحبتي .. نصيحتي لنفسي أولاً ثم لكم .. حتى لا نكون، والعياذ بالله، ممن يبيعون دينهم، أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، في كل أقوالنا وأفعالنا، وفي أخلاقنا ومعاملاتنا، وسلوكنا وتصرفاتنا، فهو إمامنا وقدوتنا، وهو الذي قال فيه سبحانه وتعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها لما سُئلت عن خُلُقه عليه الصلاة والسلام، قالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"، ومعنى ذلك أنه ما من خُلُقٍ حث عليه القرآن كالصدق والإخلاص والأمانة والوفاء والتواضع والكرم والشجاعة والإيثار ... إلخ إلا كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس تخلقاً به، وما من خُلُقٍ نهى عنه القرآن كالكذب والكبر والعجب والحسد والغدر والخيانة والجبن والبخل والنفاق والرياء .... إلخ إلا كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس اجتناباً له، ولهذا وصفه ربه سبحانه فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وهذا يرشدنا إلى أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام كانت الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهٍ؛ بالتخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها، والبعد عن كل خُلقٍ ذمه القرآن.
وهذا ما يجب أن نكون نحن وكل مسلمٍ عليه، أن نكون جميعاً ممن يُوصف بأن (خُلُقُه القرآن).
قال حكيم: "لا تخبر الناس كم تحفظ من القرآن الكريم، بل دعهم يرون فيك قرآناً يمشي على رجلين: اطعم جائعاً، اكس عارياً، ساعد محتاجاً، عَلِّم جاهلاً، ارحم يتيماً، سامح مسيئاً، بِرّ والديك، ابتسم للجميع. فليس العبرة أين وصلت في حفظ القرآن؟ إنما أين وصل القرآن فيك!

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/mPF833


الجمعة، 21 يوليو 2017

شقائق الرجال

الجمعة 21 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٣
(شقائق الرجال)

سمعته يقول لرفيقه: "لو كنا في عالمٍ بلا نساءٍ لارتحنا". كانا شخصان يسيران أمامي في الطريق، لم أسمع إلا هذه العبارة التي من الواضح أن قائلها كان يشكو لرفيقه من إحداهن. كانت خطواتي أسرع من خطواتهما فتجاوزتهما ومضيت إلى حال سبيلي.
ظلت تلك العبارة تتردد في سمعي، أعلم بالتأكيد أنها تعبر عن تصورٍ افتراضيٍ بحتٍ ليس له أساسٌ من الواقع، وأعلم أن البعض يقولها على سبيل الدعابة لا أكثر، ومع ذلك لا أدري لماذا شغلتني؟
خطر لي أن أكتب عبارة "عالم بلا نساء" في محرك البحث الشهير "جوجل" وأرى ما يعرضه عالم الإنترنت حول هذا الموضوع،
فهالني ما وجدت من نتائج، منها أن  إرنست همنجواى الروائي المشهور له قصة بعنوان "رجال بلا نساء"، ومنها أني وجدت الأمر مطروحاً للنقاش في كثيرٍ من المنتديات؛ على سبيل المثال كتب أحدهم: "تخيل الدنيا بدون نساء إذن: الأسواق هادئة، حالة كساد اقتصادي، الشوارع خالية، محلات الذهب ومحلات العطورات مغلقة، شركات الاتصالات تحقق خسائر كبيرة، المصابون بارتفاع ضغط الدم عددهم في تناقص، كما أن مناهج النحو تصبح أخف لإلغاء كل ما يتعلق بتاء التأنيث وجمع المؤنث السالم ونون النسوة!". ردت عليه إحداهن بقصفٍ مضاد؛ كتبت: "تخيل الدنيا بدون رجال، ماذا ستكون النتيجة؟ أسواقٌ تتميز بأجمل الروائح والعطور، شوارع منظمة، مقاهٍ خالية، بيوتٌ هادئةٌ ليس بها أصواتٌ عالية، شركات السجائر تعلن إفلاسها، العيادات النفسية مغلقة، الألوان زاهيةٌ ومفرحة، النساء متحابة، انتهاء الحروب والنزاعات بين الدول، عالمٌ يسوده الهدوء مليءٌ بالعاطفة والحب والرومانسية!".
ومما وجدت حول الموضوع أيضاً هذا الحوار الذكي بين رجلٍ وامرأة، انظروا كيف بدأ ثم كيف تطور ثم انظروا كيف انتهى:
قال لها: ألا تلاحظين أن الكون ذكر؟
فقالت له: بلى لاحظت أن الكينونة أنثي!
قال لها: ألم تدركي بأن النور ذكر؟
فقالت له: بلى أدركت أن الشمس أنثى!
قال لها: أوليس الكرم ذكراً؟
فقالت له: بلى ولكن الكرامة أنثى!
قال لها: ألا يعجبك أن يكون الشِعر ذكراً؟
فقالت له: وأعجبني أكثر أن المشاعر أنثى!
قال لها: هل تعلمين أن العِلم ذكر؟
فقالت له: إنني أعرف أن المعرفة أنثى!
فأخذ نفساً عميقاً وهو مغمضٌ عينيه، ثم عاد ونظر إليها بصمتٍ للحظات، وبعد ذلك
قال لها: سمعت أحدهم يقول إن الخيانة أنثى!
فقالت له: ورأيت أحدهم يكتب أن الغدر ذكر!
قال لها: ولكنهم يقولون أن الخديعة أنثى!
فقالت له: بل هن يقلن إن الكذب ذكر!
قال لها: هنالك من أكد لي أن الحماقة أنثى!
فقالت له: وهناك من أثبت أن الغباء ذكر!
قال لها: لا شك أن الجريمة أنثى!
فقالت له: أنا أجزم أن الإثم ذكر!
قال لها: أنا تعلمت أن البشاعة أنثى!
فقالت له: وأنا أدركت أن القبح ذكر!
تنحنح ثم أخذ كأس الماء فشربه كله دفعةً واحدةً أما هي فخافـت عند إمساكه بالكأس مما جعله يبتسم فابتسمت ما أن رأته يشرب وعندما رآها تبتسم له
قال لها: يبدو أنك محقةٌ؛ فالطبيعة أنثى!
فقالت له: وأنت قد أصبت؛ فالجمال ذكر!
قال لها: بل السعادة أنثى!
فقالت له: ربما، ولكن الحب ذكر!
قال لها: وأنا أعترف بأن التضحية أنثى!
فقالت له: وأنا أقر بأن الصفح ذكر!
قال لها: ولكنني على ثقةٍ بأن الدنيا أنثى!
فقالت له: وأنا على يقين بأن العالَم ذكر!
وسيبقي الحوار مستمراً طالما أن السؤال ذكر والإجابة أنثى!
ذكرني هذا ببيتي شعرٍ للمتنبي يصف فيهما حبيبته التي فقدها؛ حيث قال:
ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا
لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ عَيبٌ
ولا التّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ

أحبتي في الله .. قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [ .. إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ]. يقول أهل العلم: معنى الشقائق أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهنّ شُققن من الرجال. قال ابن الأثير: "أي نظائرهم وأمثالهم كأنهن شُققن منهم؛ ولأن حواء خُلقت من آدم عليه السلام، وشقيق الرجل أخوه لأبيه ولأمه؛ لأنه شُق نسبه من نسبه". ويُفهم من هذا تبعاً أنهن مستوياتٌ مع الرجال في الكرامة الإنسانية، أما الحقوق والواجبات فموزعةٌ بحسب فطرة الله التي فطر كلاً من الرجال والنساء عليها لتتم عِمارة الكون. لقد اهتم الإسلام بالمرأة اهتماماً بالغاً وعظيماً فأحاطها بكل سبل التربية والرعاية وشرع لها من الحقوق ما يلائم تكوينها وفطرتها ما لم تعهده أمةٌ من الأمم علي مر العصور والدهور، وبهذا الاهتمام العظيم كانت المرأة المسلمة وراء هؤلاء الأفذاذ العظام الذين تحملوا عبء الدعوة الإسلامية ونشروها في كل بقاع الأرض. تُشكل المرأة نصف المجتمع من حيث العدد فإذا وضعنا في اعتبارنا أنها تلد النصف الآخر علمنا أهميتها البالغة ودورها العظيم في بناء المجتمع المسلم.
جعل الإسلام النساء (شقائق الرجال) وساوى بينهما في إخوة النسب البشري؛ قال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. وساوى بينهما في وحدة الوجود الإنساني؛ قال جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾. كما كانت المساواة في العمل وفي الجزاء عليه؛ قال تعالي: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾. وقد ضرب الله تعالى ببعض النساء التقيات العابدات المثل وجعلهن قدواتٍ للرجال والنساء معاً في الصلاح والتقوى؛ قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾.
وعن دعاوى العلمانيين بضرورة مساواة المرأة بالرجل يقول العلماء أن المساواة تعني رفع أحد الطرفين حتى يساوي الآخر، أما العدل فهو إعطاء كل ذي حقٍ حقه، وهناك من يخلط بين هذين المصطلحين ويظن أن معنى المساواة مرادفٌ لمعنى العدل، وهذا ليس صحيحاً إلا في حالة تماثل المتساويين من كل وجه - وهذا لا يكاد يوجد - أما مع وجود الفروق؛ سواءً كانت هذه الفروق دينية أو خِلقية بيولوجية فإن المساواة بينهما تكون ضرباً من ضروب الظلم. ولو نظرنا إلى قضية مساواة المرأة بالرجل لوجدنا أنه من الظلم أن تُساوى بالرجل من كل الجوانب؛ لأن هناك فروقاً واضحةً بين الذكر والأنثى؛ ولذلك يقول الله عز وجل: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، فالإسلام لا يدعو إلى مساواة الرجل والمرأة من كل الجوانب، ومن يدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة ويتجاهل الفروق بينهما في الخِلقة والتكوين ويغض الطرف عنها، يوقع المرأة في ظلمٍ من حيث أراد إنصافها، لأنه بذلك يكلفها بما لا يناسب طبيعتها وخلقتها التي خُلقت عليها. فالعدل أن يكون لكل جنسٍ خصائصه التي تليق به ويُكلَف بما يناسبه، ومن الظلم أن يحمل فوق ما تحتمله خلقته التي خُلق عليها؛ قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، ولهذا نهى الله عز وجل عن مطالب المساواة فقال تعالى: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾، فالسُنة الإلهية ليست المساواة وإنما هي المفاضَلة بين المخلوقات وفقًا لطبيعة الخلق لئلا يُظلم أحدٌ لحساب أحد؛ لأن المساواة في غير مكانها ظلم.

أحبتي .. خلق الله سبحانه وتعالى الجنس البشري من نوعين، يكمل أحدهما الآخر، وكلٌ منهما يتجه في الحياة اتجاهاً يسير جنباً إلى جنبٍ مع اتجاه الجنس المقابل؛ ليؤدي كل واحدٍ منهما الوظيفة التي تؤهله صفاته للقيام بها نحو المجتمع الإنساني، ولا شك أنّ رقي الإنسانية الحقيقي لا يكون إلا بتوزيع الأعمال، وملاءمة كل جنسٍ للوظيفة التي يقوم بتأديتها في هذه الحياة. إن المرأة تماثل الرجل في أمورٍ وتفارقه في أخرى، وأكثر أحكام الشريعة الإسلامية تنطبق على الرجال والنساء سواءً بسواء، وما جاء من التفريق بين الجنسين ينظر إليه المسلم على أنه من رحمة الله وعلمه بخلقه، وينظر إليه الكافر المكابر على أنه ظلمٌ للمرأة!
يقول أحد الخبراء، على لسان الرجال، عن (شقائق الرجال): "أكثر ما يجعلنا لا نستمتع ولا نستثمر هذا الكنز الذي بين أيدينا، هو طريقة تعاملنا مع المرأة، فنحن نتعامل معها تعامل ينقصه الكثير من الدراية والفهم بطبيعتها وخصوصيتها؛ فنحن نتعامل مع المرأة كما نتعامل مع أصدقائنا، وهذا مصدر التصادم في الواقع، فالمرأة من كوكبٍ ونحن من كوكبٍ آخر". والعبارة الأخيرة ذكرتني بالكتاب المشهور لجون جراي الذي تُرجم إلى عدة لغات وبيعت منه ملايين النسخ وعنوانه {الرجال من المريخ، النساء من الزهرة}.

أحبتي فلنكن أكثر فهماً لطبيعة وخصائص الرجال والنساء، وأوسع إدراكاً للحكمة من وراء وجود فروقٍ بينهما، وأعلى قدرةً على توظيف تلك الفروق في إطارٍ من التكامل وليس التصادم. ثم إن علينا نحن الرجال أن نحسن التعامل مع نسائنا؛ وهل هن إلا أمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا وبناتنا، وخالاتنا وعماتنا وجداتنا؟ إنهن بحقٍ (شقائق الرجال) وأرحامهم. على أن يكون تعاملنا معهن، وتعاملهن معنا، خاصةً بين الأزواج، وفق مقتضيات وضوابط ديننا الحنيف، وأن يكون علي أساسٍ متينٍ من المودة والرحمة لقوله عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/bq12Bf

الجمعة، 14 يوليو 2017

زائرة غير مرغوب فيها

الجمعة 14 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٢
(زائرة غير مرغوب فيها)

اتصل بي يسألني: "ما أخبارها؟"، قلت له: "تعرف أني اجتماعي بطبعي، ثم بحكم عملي، أحب استقبال الزوار، ومع ذلك وجدت نفسي في موقفٍ لا أُحسد عليه؛ فقد أُضطررت لطردها، واعتبرتها (زائرة غير مرغوب فيها) تفرض نفسها علي فرضاً، أردت في البداية أن أستقبلها بلطف، لكنها أبت إلا أن تكون شرسة!"، قال مستوضحاً: "وكيف ذلك؟"، قلت: "تحضر دون استئذان، ولا تراعي أن حضورها يكون دائماً في الليل عندما يحتاج الإنسان عادةً إلى الراحة والسكينة والهدوء، تقتحم علي خلوتي في حجرة نومي وأنا نائمٌ على فراشي!  في كل مرةٍ تزورني يبدو لي في بداية الأمر أنها لن تفارقني، فهي لا تترك في جسدي موضعاً إلا وتتشبس به وتترك بصمتها عليه، إلا أنها في النهاية تستسلم وتضعف وتتركني بعد أن تكون قواي كلها قد خارت، لا تتركني إلا وقد نالت مني ما تشتهي، أما أنا فلا أحب مثل هذه اللقاءات الملتهبة والساخنة، لكن لا حول بي ولا قوة في ردها، إنها بالفعل (زائرة غير مرغوب فيها) أبداً"، متعاطفاً معي سألني: "قلبي معك، وكيف أنت الآن؟"، قلت له: "اطمئن، أنا الآن باردٌ والحمد لله".
عن الحُمَّى كنا نتحدث! فقد زارتني مراتٍ عدة خلال الفترة الماضية، عانيت منها ما عانيت، حاولت إخراجها من جسدي الذي احتلته بغير إذنٍ ولا رغبةٍ مني، بكل طريقةٍ ممكنة: بالأدوية تارةً، بالأدعية تارةً، وبكمادات الثلج تلف جسمي كله تارةً أخرى. كل ذلك لم يفلح إلا قليلاً، واكتشفت أن أقوى وسيلةٍ تساعد على إضعاف الحمى والتخلص منها هي تبريد الجسم بالماء.

أحبتي في الله .. كلما ارتفعت درجة حرارة جسمي تذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: [الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ]، فالحمى كما يقول العارفون "أنموذج، ورقيقة اُشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها"، و"فيها تنبيهٌ للنفوس على شدة عذاب النار، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهةٌ بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها"، لذلك قيل في نسبتها إلى جهنم أنه: "حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعةٌ من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك".
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إذَا حُمّ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُشّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ السّحَر]. وقال عليه الصلاة والسلام: [الْحُمَّى مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ]. كما قال عليه الصلاة والسلام: [الحمى كِيرٌ من جهنم، فما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار]،
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عادَ رَجُلاً مِن وَعَكٍ كان به فقال: [أبشر، فإن الله يقول: هي ناري أسَلِّطها على عبدي المذنب لتكون حظه من النار].  قال مجاهد: "الحمى حظ المؤمن من النار، ثم قرأ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾، قال: الحمى في الدنيا الوُرُود، فلا يَرِدُها في الآخرة".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حُمَّ دعا بقربةٍ من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل، وكان في مرضه الذي لقى به ربه مصاباً بالحمى، فكان يضع إلى جواره إناءً من ماءٍ باردٍ ويمسح بها وجهه.
يقول الشاعر:
إذَا وَجَدْتُ لَهِيبَ الْحُبّ فِي كَبِدِي
أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ
فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الْأَحْشَاءِ تَتّقِدُ
إطفاء الحمى بالماء ضروريٌ ومهمٌ وفعالٌ ومفيد، لكنه قد لا يصلح وحده، كما أنه قد لا يصلح في جميع الحالات؛ يقول أحد العلماء في شرحه للموطأ: "والحاصل أنَّ الحمى أنواع: منها ما يصلح له الإبراد بالماء، ومنها ما لا يصلح، والذي يصلح إبراده بالماء يختلف أيضاً، فمنه ما يصلح أن يُرش بين بدن المحموم وجيبه، أو يُقطر على صدره من السقاء فلا يجاوز ذلك، ومنه ما يحتاج إلى صب الماء على رأسه وسائر بدنه، أو إلى انغماسه في النهر الجاري مرةً فأكثر، وذلك باختلاف نوع المرض، وكما يُختلف بذلك يُختلف أيضاً بحسب اختلاف الفصل، والقطر، والمزاج، فلا يُسوى بين الشتاء والصيف، ولا بين مَنْ مزاجه باردٌ رطبٌ وبين من مزاجه حارٌ يابس، ولا بين من به نزلاتٌ وتحدرات وبين غيره، هذا هو المقرر من قواعد الطب".
والحمى من مكفرات الذنوب؛ ففِي حدِيث أبي هريرة قال: ذُكِرَتْ الْحُمّى عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَبّهَا رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: [لَا تَسُبّهَا فَإِنّهَا تَنْفِي الذّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ].
قال أبو هريرة: "مَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُنِي أَحَبّ إلَيّ مِنْ الْحُمّى لِأَنّهَا تَدْخُلُ فِي كُلّ عُضْوٍ مِنّي وَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ يُعْطِي كُلّ عُضْوٍ حَظّهُ مِنْ الْأَجْرِ".

أحبتي .. لما علمت أن الحمى من مكفرات الذنوب فكرت في التراجع عن وصفها بأنها (زائرة غير مرغوب فيها)، لكني لم أجد نفسي مرتاحاً لذلك. والغريب أني وجدت من سبقني إلى هذا الموقف، رغم أن اختياري خالف اختياره، شاعرٌ كان قد وصف الحمى ببيتين قال فيهما:
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ وَوَدّعَت
تَبّاً لَهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّعِ
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمْت عَلَى تَرْحَالِهَا
مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تَرْجِعِي
لكنه بعد أن أمعن النظر ورأى مزايا تكفير الذنوب عدَّل في البيتين فصارا:
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ لِصَبّهَا
أَهْلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّع
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا
مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْت: أَنْ لَا تُقْلِعِي
أما أنا عن نفسي، ليست عندي شجاعة ذلك الشاعر، فلا أستطيع أن أرحب بالحمى مرةً أخرى وأقول لها أهلاً، ولا أستطيع إذا حضرت مرةً أخرى، لا قدر الله، أن أقول لها لا تقلعي! وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يُقَّدر لي طريقةً لتكفير ذنوبي تكون أقل حرارةً، فكفاني ما نابني منها!
عافانا الله وإياكم من المرض، ومتعنا وإياكم بالصحة والعافية والسلامة من كل داء.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/xkdRms