الجمعة، 2 يونيو 2017

أهلاً رمضان/1

الجمعة 2 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة/ ٨٦
(أهلاً رمضان)

في آخر جمعةٍ من شعبان، وبعد الصلاة، تجمع عددٌ كبيرٌ من المصلين خارج المسجد، تبادلوا التهاني فيما بينهم بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك للعام الهجري ١٤٣٨هـ.
بعضهم كانت تبدو على وجهه علامات الفرحة والاستبشار، وبعضهم كانت إمارات التجهم ظاهرةً على محياه، وبعضهم كان استقباله لهذا الشهر الكريم محايداً، لا هو فرحٌ مستبشرٌ، ولا هو عابسٌ متجهمٌ.
هكذا حال البشر مع كل حدث أو موقف، ينقسمون غالباً إلى ثلاث فرق: فرقةٌ مع، وفرقةٌ ضد، وفرقةٌ ثالثة لا هي مع ولا هي ضد، تقف في المسافة الفاصلة بين الاثنين!
هل هذه قاعدةً عامة؟ هل هي سنةٌ من سنن الحياة؟ تبدو لي كأنها كذلك؛ فقد حدثنا التاريخ عمن سارعوا بالإيمان عندما سمعوا دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام للإسلام، وحدثنا عمن اتخذوا موقف العداوة والكفر من أول لحظة، كما حدثنا عمن كانوا مترددين يؤمنون تارةً ثم يتراجعون عن إيمانهم تارةً أخرى، وأولئك الذين عادوا الدعوة في بدايتها ثم تفكروا فآمنوا، وأولئك الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا من المنافقين.
لذلك علاقةٌ مباشرةٌ بظاهرة تُسمى الاستقطاب، حيث يكون الانجذاب الشديد لأحد رأيين بينهما اختلافٌ كبيرٌ أو تعارضٌ ظاهرٌ وملموس.
إنها طبيعةٌ في الإنسان تظل خاملةً حتى يُظهرها موقفٌ محفز، وكلما كان الموقف المحفز هاماً ومؤثراً كلما زادت حالة الاستقطاب ما بين من هو مع ومن هو ضد، ما بين موافقٍ ورافض، ما بين مؤيدٍ ومعارض، ما بين مستبشرٍ ومتجهم، وبين كلا الفريقين دوماً يكون المحايد.
الأمر لا يقتصر فقط على المسائل الفقهية الخلافية بل إنه ينسحب على مجالاتٍ أخرى من مجالات الحياة كالرياضة والسياسة والفكر والثقافة وغيرها.
ربما كانت هذه فطرةً فُطر الإنسان عليها؛ تأمل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ثم تأمل قوله تعالى في موضع آخر: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾.

عوداً إلى موضوعنا الخاص باستقبال شهر رمضان، كنت تستطيع أن ترصد بين أولئك الذين كانوا يتبادلون التهاني ويقولون (أهلاً رمضان) وكانت تبدو على وجوههم علامات الفرحة والاستبشار جماعاتٍ ثلاثاً: جماعة تتحدث عن الشعائر الخاصة بالشهر الكريم وأين سيصلي كلٌ منهم التراويح وأين سيصلي التهجد ومن هو الشيخ الذي سيصلون خلفه، وكم يعتزمون أن يحفظوا من أجزاء القرآن الكريم. وجماعة تتحدث عن مسلسلات رمضان التي تتسابق القنوات الفضائية في بثها؛ فيسألون عن أسماء تلك المسلسلات وأبطالها وتكلفة إنتاجها ومواعيد بثها ويتبادلون فيما بينهم ترددات القنوات التي تقوم بالبث. وجماعة تتحدث أحاديث عادية ليس لها علاقة بالشهر الفضيل لا من قريبٍ ولا من بعيد!
كلٌ منهم يقول في نفسه أو لصاحبه (أهلاً رمضان) ولكن بطريقته الخاصة!

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُـونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. يقول عز وجل: "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به"، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه]، ويقول: [إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين]، ويقول: [في الجنّة ثمانية أبواب، فيها باب يُسمى الريّان، لا يدخله إلا الصائمون]، كما يقول: [الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِ، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، فيشفعان]. 
إنه رمضان شهر الخير والبركات، شهر القرآن، نزل فيه القرآن في ليلة القدر قال المولى عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، حل علينا فكيف نستقبله؟ هل نقول بألسنتنا وأفواهنا (أهلاً رمضان)؟ أم نعبر عن ذلك بأعمالنا وأفعالنا؟

أحبتي .. يقول أهل العلم أن من أهم الأعمال الصالحة التي تتأكد في رمضان:
الصوم: لا شك أن الثواب الجزيل للصيام لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل، فإن سابّه أحد فليقل إني امرؤ صائم].
الصلاة: المحافظة على صلاة جميع الفروض في أوقاتها في المسجد مع جماعة المسلمين، والالتزام بالسنن الرواتب، والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالنوافل كلما أمكن ذلك. والحرص على الخشوع في الصلاة.
القيام: يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾. وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً". وصلاة التراويح وصلاة التهجد جماعةً في المسجد هي من صلوات القيام التي يحرص على أدائها المسلمون في شهر رمضان.
الصدقة: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة. قال صلى الله عليه وسلم: [أفضل الصدقة صدقة في رمضان..]. للصدقة في رمضان مزية وخصوصية، ولها صور كثيرة منها: إطعام الطعام؛ قال الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام]، ومنها كذلك تفطير الصائمين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء].
الاجتهاد في قراءة القرآن: ويكون ذلك بكثرة قراءة القرآن؛ شهر رمضان هو شهر القرآن فكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءة القرآن، وأن يبكي أو يتباكى عند تلاوة القرآن، تدبراً وفهماً وتأثراً بكلام الله عز وجل وخشوعاً وخشية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يلج النار من بكى من خشية الله].
الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة]، هذا في كل الأيام فكيف بأيام رمضان والأجر والثواب فيها يتضاعف أضعافاً مضاعفة؟
الاعتكاف: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً. فالاعتكاف من العبادات التي تجمع كثيراً من الطاعات من التلاوة والصلاة والذكر والدعاء وغيرها.
العمرة في رمضان: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [عمرة في رمضان تعدل حجة]، وفي رواية [حجة معي].
تحري ليلة القدر: قال صلى الله عليه وسلم: [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه]. وورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين الاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها، وهي في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الوتر من لياليه الآخرة، وأرجى الليالي ليلة السابع والعشرين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟"، قال: [قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عني].
الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار: أيام وليالي رمضان أزمنةٌ فاضلةٌ علينا أن نغتنمها بالإكثار من الذكر والدعاء خاصةً في أوقات الإجابة ومنها: عند الإفطار فللصائم عند فطره دعوةٌ لا تُرد، وفي ثلث الليل الآخر حين ينزل ربنا تبارك وتعالى ويقول: {هل من سائلٍ فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفر له}، الاستغفار بالأسحار: قال تعالى: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
فلنحرص أحبتي على هذه العبادات وأعمال البر والتقوى ما استطعنا و﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.

هذا هو رمضان الذي قال الشاعر فيه:
يَا بَاغَيَ الخَيْرِ هَذَا شَهْـرُ مَكْرُمَـةٍ
أقْبِلْ بِصِـدْقٍ جَـزَاكَ اللهُ إحْسَانَـا
أقْبِـلْ بجُـودٍ وَلاَ تَبْخَـلْ بِنَافِلـةٍ
واجْعَلْ جَبِينَكَ بِِالسَّجْـدَاتِ عِنْوَانَـا
أعْطِ الفَرَائضَ قدْراً لا تضُـرَّ بِهَـا
واصْدَعْ بِخَيْرٍ ورتِّـلْ فِيـهِ قُرْآنَـا
واحْفَظْ لِسَاناً إذَا مَا قُلتَ عَنْ لَغَـطٍ
لاَ تجْرَحِ الصَّوْمَ بالألْفَـاظِ نِسْيَانَـا

أحبتي .. إن إضاعة الوقت في غير طاعة الله هي الغفلة التي نبهنا إليها ونهانا عنها الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾.
وكم تتألم النفس ويتقطع القلب حسراتٍ على ما نراه من بعض المسلمين الذين امتلأت بهم الأرصفة والمقاهي والملاعب في ليالي رمضان الفاضلة، وكم من حرماتٍ ومعاصٍ يُجاهَر بها في ليالي رمضان المباركة، وكم يضيع من وقت رمضان الثمين في مشاهدة المسلسلات والأفلام والفوازير، فاحذروا أحبتي أن يكون من بيننا مسلمٌ غافلٌ معرضٌ عن ذكر الله عز وجل خاصةً في هذه الأيام الطيبة المباركة؛ فرمضان كسوقٍ قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.
اللهم اجعلنا من الرابحين في شهرك الكريم.
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وجميع أعمال الخير والبر، و(أهلاً رمضان).

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/8oTaJg

الجمعة، 26 مايو 2017

استقيموا يرحمكم الله

الجمعة 26 مايو 2017م

خاطرة الجمعة /٨٥
(استقيموا يرحمكم الله)

أقيمت الصلاة فتقدم إمامُنا ووقف أمامَنا، نظر إلينا كقائدٍ ينظم صفوف جنوده، أشار للبعض من المصلين بالتقدم، وللبعض الآخر بالاقتراب من بعضهم وسد الخُلل، وطلب من الأطفال أن يصلوا في أطراف الصف الأول أو في الصفوف الخلفية، ولما اطمأن إلى انتظام الصفوف قال عبارته المشهورة (استقيموا يرحمكم الله)، ثم أعطانا ظهره وبصوتٍ عالٍ كبر تكبيرة الإحرام: "الله أكبر".
يتكرر هذا الموقف كثيراً في مسجدنا، ويتكرر بصورٍ مشابهةٍ في المساجد الأخرى، وفي بعض المرات عندما أسمع عبارة (استقيموا يرحمكم الله) يتملكني خاطرٌ قويٌ يستحوذ على تفكيري، يضيع عليّ شيئاً من الخشوع في الصلاة؛ فقلت في نفسي: "لو كتبت عن هذا الخاطر لخفت وطأة سيطرته على أفكاري ولو قليلاً"، وها أنا ذا أفعل .. أكتب لكم ما يدور في خاطري ويشغل فكري عندما أسمع عبارة (استقيموا يرحمكم الله).
أتساءل دوماً عن الأمر بالاستقامة في كلمة (استقيموا) هل المقصود منه استقامة الصف أثناء الصلاة فحسب؟ أم يا تُرى يتسع مفهوم هذا الأمر ليشمل الاستقامة في كل مجالات الحياة؟ وأجيب في نفسي عن السؤالين بأن المقصود المباشر لا شك هو استقامة الصفوف في الصلاة، بحيث يكون الكتف بالكتف هو التطبيق العملي لمفهومي: التكاتف، ورص الصفوف.
لكن المعنى الأعم والأوسع والأكثر شمولاً، لا يغيب أبداً عن ذهني كلما سمعت عبارة (استقيموا يرحمكم الله) حيث تستمر التساؤلات في نفسي، تُرى ما هو الأهم: أن نصطف للصلاة داخل المسجد بغير استقامةٍ واستواءٍ؟ أم نستقيم في تعاملنا بعضنا مع بعضٍ بعد انتهاء الصلاة وخارج المسجد؟ لماذا نحرص كل الحرص على الاستقامة للصلاة، ولا نحرص بنفس القدر على أن نكون مستقيمين في تعاملاتنا اليومية ومعاملاتنا وسلوكنا وتصرفاتنا خارج المسجد في غير أوقات الصلاة؟ ويستمر الحوار الداخلي بيني وبين نفسي؛ فأرد على هذين السؤالين بأن ديننا الإسلامي الحنيف لا يقدم أبداً المظهر على الجوهر؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ]، فالجوهر هو الأهم، ومع ذلك فإن الاهتمام بالمظهر مطلوب؛ قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾، وقال: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ﴾. إنها فلسفةٌ بسيطةٌ وواضحة: الجمع بين الحسنيين: الجوهر والمظهر، كلما أمكن ذلك، كلاهما مهم، بل ويكمل أحدهما الآخر. ما إن أصل إلى هذه القناعة حتى أجد سؤالاً آخر ينتظر الإجابة: ماذا لو خُيرنا بين الأمرين: إما الجوهر أو المظهر، أيهما نختار؟ وهل الأمر متروكٌ لهوى كل شخص أم أن هناك قاعدةً فقهيةً يتم الاحتكام إليها؟ أجد نفسي مرةً أخرى أجيب عن تساؤلات نفسي بأن لا شك أن تقديم الجوهر أهم من الالتزام بالمظهر في حالة عدم القدرة على الجمع بين الحسنيين لأمرٍ خارجٍ عن الإرادة.
أعود فأتذكر التوجيه الرباني لنبينا الكريم في قوله تعالى في سورة هود: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ وأظل أتصور كيف تلقى الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، وهل هذا هو سبب حديثه المشهور: [شيَّبَتني هود]؟ ربما، رغم أن ذات الآية ﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ نزلت وبنفس الكلمات في سورة الشورى، لا فرق بين الآيتين إلا في حرفي العطف الفاء والواو.
ثم أجد نفسي وقد بدأت أحسب كم مرةً في اليوم الواحد ندعو الله سبحانه وتعالى في كل ركعةٍ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؟ وهل هذا الصراط الذي ندعو الله أن يهدينا إليه هو الصراط الذي نمر عليه يوم الحساب، أم هو صراطنا وطريقنا في الحياة الدنيا؟
وهكذا ما إن أسمع عبارة (استقيموا يرحمكم الله) إلا وتتوالى هذه الأسئلة والأفكار وغيرها في خاطري تشغلني عن التركيز في الصلاة والخشوع فيها.

أحبتي في الله .. لا شك أن ما عرضته عليكم من أفكارٍ تتزاحم على عقلي عندما أسمع فيها الإمام، وهو يقف أمام المصلين وجهه لهم، يقول عبارته المعهودة (استقيموا يرحمكم الله)، رغم أنها أفكارٌ دينيةٌ وتساؤلاتٌ مشروعةٌ إلا أنها مدخل إبليس اللعين لإفساد صلاتي وحرماني من الخشوع فيها، لأن تلك الأسئلة والإجابات تكون قد استنفدت جزءاً كبيراً من الوقت المخصص للصلاة، فأجد نفسي ربما في الركعة الثانية ولم أدرِ ما قرأت أو قرأ الإمام في الركعة الأولى!
أحذركم أحبتي .. أن تمكنوا إبليس من أن ينجح معكم بهذا الأسلوب الخبيث.
عودةً إلى موضوع الاستقامة .. يقول المولى عز وجل ملقناً رسوله الكريم: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ﴾، ويبين الله سبحانه وتعالى لنا المقصود من الصراط المستقيم؛ فيقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾، ويقول: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾. ويوضح سبحانه وتعالى أن الصراط المستقيم هو هدايةٌ منه لمن اتبعوا سبيله يخرجهم به من الظلمات إلى النور؛ فيقول: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾. ثم يبين عز وجل ثمرة الاستقامة؛ فيقول تعالى: ﴿إن الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾، ويقول كذلك: ﴿إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ويقول عز من قائل: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾. أما من بَعُدَ عن طريق الاستقامة فتكفيه هذه الآية يتأمل معناها: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، ويحذرنا العزيز الحكيم من الفُرقة والبعد عن صراطه المستقيم؛ فيقول: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، ويبين لنا على لسان الشيطان الرجيم أن هدفه هو أن يصدنا عن الصراط المستقيم: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
أما عن الاستقامة في السنة المشرفة فمن ذلك ما ورد عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: "يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك"، وفي رواية "بعدك"، قال صلى الله عليه وسلم: [قل آمنت بالله ثم استقم]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه]. وقال عليه الصلاة والسلام: [استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن]. كما قال: [إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا].
تتناول الاستقامة جميع جوانب الدين وكل مجالات الحياة: الإخلاص، التقوى، التوبة، جهاد النفس، الرِّضا، الصَّبر، التوكل، القناعة، الزُّهد، الخوف، الرَّجاء، التمسك بكتاب الله، اتباع السنة، الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر، التفكر في خلق الله، دوام الشُّكر، فعل الخيرات، عدم المجاهرة بالمعصية، وعدم استصغار المُحقرات من الذنوب، الصِّدق، الحياء، حفظ اللسان، حسنُ الخُلُق، العفو، التواضع، غض البصر، السَّخاء، الرحمة بالعباد، ترك الجدال، النَّصيحة، إدخال السرور على المسلمين، صلة الرَّحِم، الإحسان إلى الجار، الرِّفق في كلِّ شيء، مداراة الناس، قضاء حوائج المسلمين، الأمانة، اتقاء الشُّبهات، محاسبة النَّفس، الاستغناء عن سؤال الناس، اجتناب الآثام وعقوق الوالدين وقول الزُّور والكذب والغش والخيانة والزِّنا وشرب الخمر والسَّرقة واللعن والفحش والظلم والرِّياء والعُجب والكِبر والغضب، وغير ذلك من الأوامر والنواهي التي تنظم حياة البشر.
وعن الآية الكريمة ﴿إنّ الّذين قالوا رَبُّنا اللّهُ ثُمّ استقاموا تَتَنَزّلُ عَليهمُ المَلائِكَةُ أن لا تَخافوا ولا تَحزَنوا وأبشِروا بالجَنَّةِ الّتي كُنتُم توعَدون﴾ يقول أحد الصالحين: مضى المسلمون بشطر هذه الآية؛ حيث قالوا ﴿رَبُّنا اللّهُ﴾ فأقروا بشهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، أما الشطر الثاني فمعظمهم بعيدٌ عنه، لقد وَعَدَهم الله، ووَعْدُ الله حق، إذا ما استقاموا أن ﴿تَتَنَزّلُ عَليهمُ المَلائِكَةُ﴾ وهي تنادي ﴿أن لا تَخافوا ولا تَحزَنوا وأبشِروا بالجَنَّةِ الّتي كُنتُم توعَدون﴾، فالحزن بعيدٌ عمن استقام، والخوف بعيدٌ عنه، وله البشرى، وله الرزق الحسن ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾، وما الطريقة التي تريد الآية الاستقامة عليها سوى الطريقة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو قدوة هذه الأمة مستجيباً لأمر الله تعالى: ﴿فاستَقِم كَما أُمِرتَ﴾ وليس ذلك له وحده، بل وللصحابة والتابعين ومن تبعهم منا بإخلاصٍ إلى يوم الدين؛ قال تعالى، والأمر لنا جميعاً معشر المسلمين: ﴿ومَن تابَ مَعَكَ﴾.
إن الاستقامة بهذا المعنى الواسع تمتد لتشمل كل الدين، لو اتبعناها بصدقٍ وإخلاصٍ لانتظمت لنا كل الدنيا؛ ولظفرنا بسعادة الدارين: الدنيا والآخرة.
ومن أسباب الاستقامة ووسائل الثبات عليها: الإخلاص لله تعالى ومتابعة سُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستغفار والتوبة، ومحاسبة النفس، والمحافظة على الصلوات الخمس مع الجماعة، وطلب العلم، واختيار الصحبة الصالحة، وحفظ الجوارح عن المحرمات، ومعرفة خطوات الشيطان للحذر منها.

أحبتي .. يقول علماؤنا أن الاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم، من غير ميلٍ عنه يُمنةً ولا يُسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها، الظاهرة والباطنة. والاستقامة هي سبيلٌ وسطٌ بين الإفراط والتفريط، بين الغلو والتقصير، وكلاهما منهيٌ عنه شرعاً، فالاستقامة تعبيرٌ واضحٌ عن الوسطية الإسلامية. قال أحد العارفين عن الاستقامة بأنها الزهد في الفانية، والرغبة في الباقية. وقِيل: أعظم الكرامة، لزوم الاستقامة.
ولا تكون الاستقامة إلا بطاعة الله ورسوله، تلك الطاعة التي قال عنها الشاعر:
تعصي الإلهَ وأنت تزعمُ حبَهُ
لعمري إن ذا في القياسِ شنيعُ
لو كان حبُك صادقاً لأطعتَهُ
إن المحبَ لمن يحبُ مُطيعُ
أحبتي .. (استقيموا يرحمكم الله) داخل المساجد وخارجها، والمهم خارجها .. الإسلام مستهدف .. فلا تكونوا الثغرة التي ينفذ منها أعداء الدين .. لا يهتم إعلامهم بمن يسرق المليارات وبمن يخالف القانون ممن يرتدون البدل وأربطة العنق، لكنه يهتم بمن يسرق القليل أو يرتشي أو يخرج عن جادة الصواب إذا كان ملتحياً أو قصير الثوب أو إذا كانت منتقبةً أو محجبة، فتكون فرصتهم للتشهير ليس بالشخص وإنما بدينه، وهو هنا الإسلام بالطبع .. استقيموا في تعاملاتكم كلها تكونوا قدوةً لغيركم وتكونوا خير سفراء لإسلامنا الذين ارتضاه الله ديناً لنا .. إنها أمانةٌ، والأمانة ثقيلة، لكننا لها.
كم هو جميلٌ أن تكون الاستقامة سبيلاً لجَسر الفجوة بين العقيدة والعبادات من ناحية وبين المعاملات من ناحيةٍ أخرى، فلا يحدث ما نراه من فصامٍ بينهما لدى البعض منا؛ فنجد من المسلمين من يصلي ويصوم ثم يقتل أو يزني أو يسرق أو يقبل رشوةً تحت أي مسمى أو يكذب أو ينصب على غيره أو يغش أو يتهاون في خدمة الناس أو حتى يعبس في وجوههم.
وكم هو رائعٌ أن يستقيم الموظف والعامل والمهندس والمزارع والضابط والمحامي والمستشار والتاجر والصحفي والطبيب والمحاسب والطالب وغيرهم؛ فتستقيم حياتنا في جميع المجالات على الوجه الذي يرضاه لنا ربنا سبحانه وتعالى.
فليتذكر كلٌ منا عندما يسمع عبارة (استقيموا يرحمكم الله) أن الاستقامة ليست فقط لرص الصفوف للصلاة وإنما هي أيضاً لتزكية النفوس والارتقاء بمستوى المعاملات بين المسلمين بعضهم وبعض وبينهم وبين غيرهم من البشر إلى أعلى درجة يمكن الوصول إليها، إنها الاستقامة التي أُمرنا باتباعها يا عباد الله لنكون بحق ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.
اللهم اجعلنا من المستقيمين وممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/Pcc5u0


الجمعة، 19 مايو 2017

ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا؟

الجمعة 19 مايو 2017م

خاطرة الجمعة /٨٤
(ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا؟)

مال علي وفي عينيه دموعٌ يغالب نفسه حتى لا تظهر، وقال بصوتٍ خافتٍ مع نبرة انكسارٍ مشوبةٍ بقلق: "لا أحس بالخشوع في صلاتي، ماذا أفعل؟"، قلت له محاولاً التخفيف عنه: "كلنا مثلك، إلا من رحم الله، ادعُ الله عسى أن نكون من الخاشعين"، هدأ قليلاً، ثم أردف قائلاً: "هزني ما قرأته لابن مسعود رضي الله عنه قال عن الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾ إنها نزلت بعد أربع سنوات من إسلامنا، وكانت عتاباً لنا من الله عز وجل بسبب قلة خشوعنا، فكان الرجال يعاتبون بعضهم بعضاً قائلين: "ألم تسمع قول الله تعالي: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾؟"، فيسقط الرجل باكياً لعتاب الله عز وجل .. هذا كان حال سلفنا الصالح فكيف بحالنا الآن؟ وكم منا من يشعر بعتاب الله عز وجل عندما يقرأ هذه الآية؟ .. والله إني لأسأل نفسي:(ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا؟)"، قلت له: "بعض الناس، هدانا وهداهم الله، يؤدون الصلاة باعتبارها عادة ولو أنهم انتبهوا إلى حقيقة أنها عبادة لأحسنوا أداءها وخشعوا فيها"، مؤكداً على ما سمع مني قال: "معك حق، كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول: [أرحنا بها يا بلال]، وبعض الناس هذه الأيام لسان حالهم يقول: أرحنا منها يا بلال، إنها قلة الخشوع في الصلاة". استمر الحديث بيننا عن الخشوع في الصلاة وأهميته وأدلة مشروعيته والأساليب التي تساعدنا على الخشوع في صلاتنا.

أحبتي في الله .. يقول أحد الصالحين لو لم يكن للخشوع في الصلاة إلا فضل الانكسار بين يدي الله، وإظهار الذل والمسكنة له، لكفى بذلك فضلاً، ذلك أن الله جل جلاله إنما خلقنا للعبادة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وأفضل العبادات ما كان فيها الانكسار والذل فهما سرها ولبها، ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع .
جعل الله سبحانه وتعالى الخشوع من صفات أهل الفلاح من المؤمنين فقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. وامتدح الخاشعين في آيات كثيرة: قال تعالى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾. وقال سبحانه: ﴿إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾. وقال: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.
يقول النبي عليه الصّلاة والسّلام: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ] وذكر منهم: [وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ]. ووجه الدلالة من الحديث أن الخاشع في صلاته يغلب على حاله البكاء في الخلوة أكثر من غيرها، فكان بذلك ممن يظلهم الله في ظله يوم القيامة.
يقول عليه الصلاة والسلام: [عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
يقول أهل العلم أن الخُشوع يأتي بمعنى استحضارُ المُصلِّي عظمة اللهِ عزَّ وجلَّ وهيبتُهُ وأنَّهُ لا يُعبد ولا يُلجأ إلى سِواهُ سبحانهُ.
ويكون الخشوعُ في الصلاةِ بالسكون فيها، وعلى المصلِّي أن يُظهر التذلّلُ للهِ عزَّ وجلَّ بقلبهِ وجميع جوارحهِ، وذلك بحضورِ القلبِ وانكسارهِ بين يدي اللهِ تعالى، والجوارحُ سكونها وسكوتها ذليلةً لله سبحانهُ.
أمّا كمالُ الخشوعِ فإنّه يتحقّقُ بتصفيةِ القلبِ من الرياءِ للخلقِ في الصلاةِ.
وعلى المصلي استشعارُ الخضوعِ والتواضعِ للهِ عزَّ وجلَّ عند ركوعهِ وسجودهِ، وأن يمتلئَ قلبهُ بتعظيمِ اللهِ عز وجلّ عند كل جزءٍ من أجزاء الصلاةِ، وأن يبتعد في صلاتهِ عن الأفكارِ والخواطرِ الدنيويّة، ويُعرض عن حديثِ النفسِ ووسوسةِ الشيطانِ.
والخشوع في الصلاةِ يُكثرُ ثوابها بقدر ما يعقل المصلّي من صلاتهِ.

ومن الأسبابِ التي تُساعدُ المسلمَ على الخشوعِ في الصّلاةِ يقول العارفون:
من ذلك تقديمِ السننِ على الفرائضِ؛ فإن النفسَ تأنسُ بالعبادةِ، وتتكيّفُ بالخشوعِ، فيدخلُ في الفريضةِ بحالةٍ أفضل ممّا لو دخلَ الفريضةَ من غير تقديمِ السُنّةِ. ومن ذلك بدء الصلاة بدعاء الاستفتاح، وهي سُنةٌ يهملها أو يجهلها كثيرٌ من الناس، وهي تساعد على تهيئة نفس المصلي للخشوع في صلاته. ومن ذلك غضُّ البصرِ عما يُلهي وعدم الالتفاتِ ورفعُ البصرِ إلى السماءِ، فيُستحَبُّ للمصلي النظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع القدمين، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حجره.
كما أن من أهم أسباب الخشوع في الصلاة تدبر معاني ما يُقرأ من قرآنٍ وما تشتمل عليه الآيات من الوعد والوعيد وأحوال الموت ويوم القيامة وأحوال أهل الجنة والنار وأخبار الأنبياء والرسل وما ابتلوا به من قومهم من الطرد والتنكيل والتعذيب والقتل وأخبار المكذبين بالرسل وما أصابهم من العذاب والنكال، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. ولذلك استنكر الله عز وجل على الغافلين عن التدبر غفلتهم فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، وقال تعالي أيضاً:﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾.
وتعظيم قدر الصلاة إنما يحصل إذا عَظَّم المسلم قدر ربه واستشعر في قلبه وفكره جلال وجهه وعظيم سلطانه، واستحضر إقبال الله عليه وهو في الصلاة، فعلم بذلك أنه واقفٌ بين يدي الله وأن وجه الله منصوبٌ لوجهه، ويا له من مشهدٍ رهيب، حُق للجوارح فيه أن تخشع، وللقلب فيه أن يخضع، وللعين فيه أن تدمع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ].
وهناكَ أفعالٌ تُكرهُ في الصلاةِ لأنها تُذهبُ الخشوعََ، على المصلِّي أن يبتعدَ عنها ويتجنّبها، كالعبثِ باللحيةِ أو الساعةِ، أو فرقعة الأصابعِ، أو ترك الهاتف المحمول مفتوحاً فيرن أثناء الصلاة ويقطع خشوع المصلين. كما يُكرهُ للمصلِّي دخول الصلاةِ وهناك ما يشغلهُ عنها، كاحتباسِ البولِ، أو الغائطِ، أو الريحِ، أو الجوعِ أو العطشِ، أو حضورِ طعامٍ يشتهيهِ؛ لقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. والخشوع الواجب في الصلاة يتضمّن السكينة في جميع أجزاء الصلاة، ولهذا كان الرسول عليه الصّلاة والسّلام يقول في ركوعه: [اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، ولَكَ أسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وعَصَبِي].
فإذا كان الخشوع في الصلاة يُعتَبر عند بعض العلماء واجباً، فمن نقر في صلاته نقر الغراب لم يخشع في صلاته، وكذلك من رفع رأسه من الركوع ولم يستقرّ قبل أن ينخفض لم يسكن بفعله هذا، ولم يخشع في ركوعه، ومن لم يخشع في صلاته يُعتَبر آثماً عاصياً كأنه لم يُصلِ؛ فهذا رجلٌ دَخَلَ الْمَسْجِدَ والنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فيه، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: [ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ] . فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: [ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ] - ثَلاثاً - فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: [إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ معك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً. وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا].

وعن الخشوع في الصلاة يقول الشاعر:
خشوعي لربي لا لسواه
فلست أسيرُ بغيرِ هداه
ويخشعُ غيري لعبدٍ ضعيفٍ
ويعبدُ غيري ضلالاً هواه

أحبتي .. (ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا؟) .. ألا يكفينا كي نخشع في صلاتنا أن نتدبر معاني فاتحة الكتاب ونحن نقرأها في كل ركعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قَاَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾،  قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ].
كما أن استحضار القرب من الله في السجود من أسباب الخشوع والاستكانة والتذلل لله؛ فإن السجود هو أعلى درجات الاستكانة وأظهر حالات الخضوع لله العلي القدير. إذا سجدنا نكون أقرب إلى الله، ومتى استشعرت قلوبنا معنى القرب من خالق ومبدع الكون خضعت وخشعت. تصوروا أحبتي حال أحدنا إذا كان في حضرة ملكٍ من ملوك الدنيا أو أميرٍ أو رئيسٍ أو وزيرٍ، ألا تغشاه الرهبة ويركن إلى السكون فإذا أراد الكلام تلعثم وارتبك، وأحس بقلبه يخفق بشدة، وسمع دقات قلبه كما لو كانت طبولاً، وإذا عيناه زائغتان، وكفاه باردان، ورجلاه تخزلانه لا تكادان تحملانه؟ فكيف والعبد منا في حضرة ربه الخالق العظيم؟ كيف وهو أقرب في حالة سجوده إلى الله مالك الملك والملكوت صاحب العز والجبروت خالق هذا الكون وخالق هؤلاء البشر؟ وكيف به وهو يعلم أن السجود أقرب موضعٍ لإجابة الدعاء، ومغفرة الذنوب ورفع الدرجات؛ قال الله تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: [أقرب ما يكون العبد من ربه هو ساجد، فأكثروا الدعاء فيه]؟

أحبتي .. (ألم يأنِ لنا أن تخشع قلوبنا؟) .. فلنخشع في صلاتنا ونصلي كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة رضي الله عنهم والتابعون يصلون. سُئل أحد الصالحين كيف تخشع فى صلاتك؟ أجاب أنه عندما يقوم فيكبر للصلاة، يتخيل الكعبة من أمامه، والصراط تحت قدميه، والجنة عن يمينه، والنار عن شماله، وملك الموت من ورائه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأمل صلاته، ويظنها ستكون آخر صلاةٍ له، فيكبر الله عز وجل بتعظيم، ويقرأ بتدبرٍ وخشوعٍ وتأنٍ، ويسجد بخضوعٍ، ويجعل صلاته خوفاً من الله ورجاءً في رحمته، ثم يسلم، ولا يدري هل قُبلت صلاته أم لا؟ .. ليتنا نصلي جميعاً مثل صلاته .. جعلنا الله وإياكم من ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.. وتقبل الله منا ومنكم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.
http://goo.gl/LShlaK


الجمعة، 12 مايو 2017

المزارع والملياردير

الجمعة 12 مايو 2017م

خاطرة الجمعة /٨٣
(المزارع والملياردير)

مع بداية شهر رجب الماضي كنا قد بدأنا حملة جديدة لجمع تبرعات لاستكمال إنشاءات وتجهيزات مسجد العنود بنت عبد الرحمن بعزبة الهجانة بالقاهرة. قارئةٌ فاضلةٌ اطلعت على المنشور الخاص بتلك الحملة ثم أرسلت تسألني: "هل يجوز التبرع لهذا المسجد من أموال الزكاة؟".
لم أتسرع في الإجابة عن السؤال، ورجعت إلى أهل العلم فكان رأيهم أن الزكاة لها مصارف معينة قد بينها الله تعالى في كتابه الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، بذلك تكون قد تحددت مصارف الزكاة، في ثمانية:
الأول: الفقراء، وهم أهل الحاجة الذين لا يجدون ما يكفي لسد حاجاتهم الأساسية‏، على ما جرت به العادة والعرف‏.‏ وهم من لا يملكون مالاً ولا كسباً حلالاً. الثاني: المساكين، ‏وهم أهل الحاجة الذين لا يجدون ما يكفي لسد حاجاتهم الأساسية‏، ‏على ما جرت به العادة والعرف‏، وهم يملكون أو يكتسبون من الكسب اللائق ما لا تتم به الكفاية. الثالث: العاملون عليها، وهم كل من يقوم بعملٍ من الأعمال المتصلة بجمع الزكاة وتخزينها وحراستها وتدوينها وتوزيعها. الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم حديثو العهد بالإسلام ليس في إيمانهم قوة، فيعطَوْن من الزكاة ليقوى إيمانهم، فيكونوا دعاةً للإسلام وقدوةً لغيرهم، ومن ذلك تأليف من يُرجى إسلامه‏، والصرف في الكوارث لغير المسلمين إذا كان ذلك يؤدي إلى تحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين‏.‏ الخامس: الرقاب، ليس موجوداً في الوقت الحاضر؛ لذا يُنقل سهمهم إلى بقية مصارف الزكاة حسب رأي جمهور الفقهاء، ويرى البعض أنه ما زال قائماً بالنسبة لأسرى الجنود المسلمين. السادس: الغارمون، وهم المدينون إذا لم يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم، فهؤلاء يُعطَوْن ما يوفون به ديونهم. السابع: في سبيل الله، وهي الأعمال التي يُحتاج إليها لنصرة الدين على منهج القرآن والسنة وبالضوابط الشرعية للجهاد تحت راية ولي الأمر. الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر الذي انقطع به السفر فيعطَى من الزكاة ما يوصله لبلده. 
فلا يجوز صرف الزكاة في غير هذه المصارف كبناء مساجد، وقناطر ومدارس ونحو ذلك، وهذا هو رأي جمهور العلماء. أرسلت للسيدة الفاضلة بهذا الرد، فتفضلت بإرسال تبرعٍ كريمٍ للمساهمة في استكمال بناء المسجد ليس من مال الزكاة وإنما كصدقةٍ جارية.

أحبتي في الله .. شدني موضوع الزكاة فأحببت أن أشارككم بعضاً مما قرأت عنه، يقول العلماء أن الزكاة فريضةٌ من فرائض الإسلام، وهي أحد أركانه وأهمها بعد الشهادتين والصلاة، دل على وجوبها كتاب الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾، وسنة رسوله؛ قال عليه الصلاة والسلام: [بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَان]. 
فالزكاة ركنٌ من أركان الإسلام، ودعامةٌ من دعائم الإيمان، من بخل بها أو انتقص منها شيئاً فهو من الظالمين المستحقين لعقوبة الله؛ قال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
ومن الزكاة ما هو على المال، ومنها ما هو على الذهب والفضة، وما هو على عروض التجارة، وعلى الزروع، وغير ذلك، بشروط ومقادير محددة مشروحة بالتفصيل في كتب الفقه.

 يقول أهل العلم أن الزكاة حارسٌ على الأموال وعلى أصحابها، فإذا شبع الجائع، واكتسى العاري عم الأمن والسلام، إنها تطبع الفرد على حب البذل والسخاء، وتغرس في المجتمع بذور التعاون والإخاء.
والمال مال الله، والغني مُستخلفٌ فيه، والفقراء عيال الله، وأَحَّبُ خلفاء الله إلى الله أَبَّرُهم بعياله؛ قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾. فالزكاة فريضةٌ لازمةٌ يُكفَّر جاحدها، ويفسق مانعها، إنها ليست تبرعاً، يتفضل به غنيٌ على فقير، إنها واجبٌ شرعي.
إن الالتزام بأداء فريضة الزكاة يُغني الأمة ويغني أفرادها؛ رُوي أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث معاذاً بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن أميراً عليها، فبعث معاذ إلى عمر بثلث الزكاة، فأنكر ذلك عمر، وقال له: "لم أبعثك جابياً، ولا آخِذَ جزيةٍ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم"، فقال معاذ: "ما بعثت إليك بشيءٍ وأنا أجد أحداً يأخذه مني". فلما كان العام الثاني بعث إليه بنصف الزكاة فتراجعا بمثل ذلك. فلما كان العام الثالث بعث إليه بالزكاة كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل ذلك، فقال معاذ: "ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئاً".
كما قِيل: "ما مات عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد وُلِّيَ الخلافة ثلاثين شهراً فقط، حتى صار الرجل يأتينا بالمال العظيم فلا نجد من يأخذه".
ولقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخير العميم فقال: [تَصَدَّقُوا فإِنَّهُ يَأتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فأمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لي بِهَا].

ذكرني الحديث عن الزكاة بقصتين: (المزارع والملياردير).
فأما قصة (المزارع) فهي تبين أن الزكاة تحافظ على المال وتنميه؛ فهذه قصةٌ ﻭﻗﻌ بالفعل في إحدى القرى السورية ﺑﺄﻭﺍﺧ ﻋﻬ ﺍﻷﺗك ﻋﻨﻣﺎ ﺳﻠَّ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺍﻟﺠﺍﺩ ﻋﻠﻰ ﺯﺭﻭﻉ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺣﺘﻰ ﻟ ﻳﺒقَ ﻋﺩٌ ﺃﺧﻀٌ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ. ﻓﻘ هجم الجراد على المزارع ﺑﺄﻋﺍﺩٍ ﻛﺒﻴﺓٍﺍً حتى أنه كان يشكل ﺳﺤﺎﺑﺔً ﺗﺤﺠ ﺍﻟﺸﻤ عند ﺍﻧﻪ ﻭﺍﻧﺘﻘﺎﻟﻪ ﻣ ﻣﻜﺎﻥٍ ﻵﺧ. بدﺃ الجراد ﻳﺄﻛﻞ ﺍﻷﺧﻀ ﻭﺍﻟﻴﺎﺑ ﺣﺘﻰ اﻟﺘﻬ ﻟُﺤﺎﺀ ﺍﻟﺸﺠ، وﺣ ﻣﺠﺎﻋﺔٌ ﻛﺒﻴﺓٌ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ. ﺧﻼﻝ ﻫ ﺍﻟﻔﺘ شكى ﺃﺣ ﺍﻟﻤﺍﺭﻋﻴﺍﺭﻋﺎً ﻓﻲ ﺑﻠﺗﻪ وادعى أﻥ ﺑﺤﺯﺗﻪﻋﺎً ﺍﻟﻤﺒﻴﺍﺕ ﺍﻟتي تقضي ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﺍﺩ ﻗﻀﺎﺀً ﻣﺒﻣﺎً ﻭﻟ ﻳﻌِ ﻣﻨﻪ ﺃﺣﺍً، ﺃﻭ ﻳُﻌﻠ ﺍﻟﻭﻟﺔ به ﻟﺘﺄﻣﻴﻨﻪ ﻟﻠﻤﺍﺭﻋﻴ، ﻭﺩﻟﻴﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺫﻟ ﺑﺴﺘﺎنه ﺍﻷﺧﻀ ﻭﺃﺷﺠﺎﺭﻩ ﺍﻟﻤرقة وﺍﺭﻓﺔ ﺍﻟﻼﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﻟ ﻳﻘﺑﻬﺎ ﺍﻟﺠﺍﺩ قط. ﺍﻣﺘ ﻀﺎﺑ الشرطة ﺍﻟﻤﺴﻭﻝ ﺣﺼﺎﻧﻪ ﻭﺗﺒﻌﻪ ﻋ ﺍلجنود للتأكد ﻣ ﺻﺤﺔ الشكوى، ﻭﺍﻧﻠﻘ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺎﻥ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، فرﺃﻯ ﺍﻷﺷﺠﺎﺭ ﺍﻟﺨﻀﺍﺀ ﻭﺍﻷﺛﻤﺎﺭ ﺍﻟﻴﺎﻧﻌﺔ ﺗﻤﺎﻣﺎً ﻛﻤﺎ ﻭُﺻﻔ ﻟﻪ، ﻓ المزارع ﺻﺎﺣ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﻭسأله: "ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺗﻜﺘ ﺍﻟﻭﺍﺀ ﺍﻟﻤﺒﻴ ﻟﻠجراد ﻋ ﺍﻟﻤﺍﺭﻋﻴ؟ ولماذا ﻟ ﺗُﻌﻠ ﺍﻟﻭﻟﺔ به ﻛﻲ ﺗﻣِّﻨﻪ ﻟﻠﻤﺍﺭﻋﻴ؟"، ﻓﺄﺟﺎﺑﻪ ﻗﺎﺋﻼً: "ﺳﻴ، ﺍﻟﻭﺍﺀ ﺍﻟ أﺳﺘﻌﻤﻠﻪ ﻛﻠّﻬ ﻳﻌﻧﻪ ﻭﻻ ﻳﺴﺘﻌﻤﻠﻧﻪ"، سأﻝ الضابط المزارع: "ﻣﺎ ﻫ ﺍﻟﻭﺍﺀ؟"، أﺟﺎﺑﻪ: "ﺍﻟﻛﺎﺓ ﺳﻴ؛ ﺇﻧﻲ ﺃﺗﺼَّﻕ ﺑﻌُﺸْ ﻣﺤﺼﻟﻲ ﺳﻨﻳﺎً ﻃﻮﺍﻝ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻓﺤﻔ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﻲ"، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﻀﺎﺑ: "ﻭﻫﻞ ﻳﻔﻬ ﺍﻟﺠﺍﺩ ﻭﻳﻤﻴِّ ﺑﻴ ﺑﺴﺘﺎﻥ المزكي ﻭبستان غير المزكي؟"، أﺟﺎﺑﻪ المزارع: "ﺟِّﺏ سيدي، ﺃﻟِ ﺍﻟﺠﺍﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺭﻉ وشاهد بنفسك". ترجل ﺍﻟﻀﺎﺑ على ﺻﻬ ﺣﺼﺎﻧﻪ ﻭﺟﻤﻊ ﺑﻜﻠﺘﺎ ﻳﻳﻪ من على الأرض عدداً ﻛﺒﻴﺍً ﺍﻟﺠد ﻭﺃﻟﻘﺎﻩ على ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﻭﺇﺫﺍ ﺑﺎﻟﺠﺍﺩﻄﻢ ﺑﺄﺭﺽ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ ﻭﺯﺭﻋﻪ ﻗﺎﻓاً ﻣﺍً ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﻭﻟ ﺗﺒَﺍﺩﺓٌ ﻭﺍﺣﺓٌ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﺑﻞ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺠﺍﺩﻄﻢ ﻭﻳﻌ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺎﻧﻪ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻘﻀ ﻭﺭﻗﺔً ﻣ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، كرَّﺭ ﺫﻟ ﺛﻼﺙ ﻣﺍﺕ، ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺓٍ ﻳﻌ ﺍﻟﺠﺍﺩ ﺣﻴ ﺃﺗﻰ ﻭﻛﺄﻧﻪ ﺍﺻﻄﺪ ﺑﺠﺍﺭ ﻣﻨﻴﻊ!

أحبتي .. ما نراه الآن من القحط، والجفاف، والأوبئة، وانتشار الفقر، وشحُّ الأمطار، وجفاف الأنهار، وغور مياه الينابيع، وقضاء الصقيع أو الحشرات على الزرع والكلأ، وهبوب الرياح العاتية والأعاصير تقتلع الأشجار وتهدم البيوت، والزلازل والبراكين والسيول والفيضانات، وغيرها من ظواهر مماثلة، هذه كلها من نتائج منع الزكاة.
قلت ذلك لأحد الأصدقاء فقال: "ما دخل الزكاة في ذلك؟! بل هي ظواهر طبيعيةٌ لها أسبابٌ علميةٌ معروفة"، قلت له: "نعم هي ظواهر طبيعيةٌ لها أسبابٌ علمية، لكن مَن الذي أوجد هذه الأسباب؟ إنه المولى عز وجل؛ فهو القائل في كتابه الكريم: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، وهو القائل سبحانه: ﴿وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾. كما أنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ» كالصواعق ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ كالخسف ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ﴾ كالعداوات المستمرٍ والحروبٍ الدائمة ﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾". قلت له: تفكر صديقي في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وفي قوله عز وجل: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾، فالله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب، وهو القادر على أن يحول المطر والريح، وغيرها، من خيرٍ للمؤمنين إلى شرٍ لمن يحارب دينه ويعارض شريعته، ولنا في قوم عادٍ عبرة". قلت له: ألم تقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [ ... وَلاَ مَنَعَ قَوْمٌ اَلْزَكَاةَ إلاَ حَبَسَ اللهُ عَنْهُم الْقَطْرَ]؟"، قال: "صدقت أخي، فالله سبحانه هو ﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، والكوارث الطبيعية هي جندٌ من جنود الله في الأرض؛ قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾"، ثم قال ذكرتني بقصةٍ كنت قد قرأتها عن شخص كأنه هو المقصود بالآيات الكريمة: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾، إنها قصة (الملياردير)، وهي قصةٌ واقعيةٌ عن نهاية ملياردير رفض دفع الزكاة، قَصَّها أحد المسئولين بلجنة الزكاة بالسعودية. قال إن لجنة الزكاة كانت تُحصل الزكاة من كبار الأغنياء وتنفقها كالعادة على الفقراء والمساكين وذوي الاحتياجات، وفوجئت اللجنة بأن مليارديراً كانت تحصل منه مبلغاً بالملايين رفض دفع الزكاة، وقال للجنة أنه لن يدفع، فأرسلنا إليه محذرين بالحكمة والموعظة الحسنة، وقلنا له: "ما الذي جرى لك؟ إن الشيطان ينزغ بينك وبين عملك الصالح فلا تستمع لصوت الشيطان، أنت تؤدي زكواتك على الدوام فزادك الله نعيماً فوق نعيمٍ فلا تُهلك نفسك بنفسك"، فرفض مرةً بعد مرة واستخسر أن يفرط في الملايين التي يدفعها، فزدنا في نصحه ولكنه قال: "لن أدفع ولا يقل لي أحدٌ إن المال سيضيع وسينتهي فأنا معي مالٌ لو أراد الله أن يفقرني فلن يستطيع". وهنا تركوه ولم يتحدثوا معه ثانيةً. وتدور الأيام وبعد شهور قليلةٍ فقط يمرض ذلك الملياردير ويدخل المستشفى مصاباً بسخونةٍ وتوقف درجة حرارته عند 40 درجة، واحتار الأطباء في أمره وحاولوا معه كل الحيل والحرارة لا تنزل أبداً وهو يتوجع، فأحضروا له أطباء من الخارج وأجروا له عملية استئصال قالوا أنه ورمٌ بجانب المرارة، ولم يحدث له أي تقدم، فجاء بآخرين وكان المستشفى يدفع له التكاليف انتظاراً للتحصيل منه في النهاية، وتعطلت أعمال الملياردير وشركاته فاتصلوا بنجله الشاب الذي كان قد تزوج من أمريكية وهاجر معها إلى أمريكا ليحضر مرض أبيه فجاء الشاب ورافق أباه أسبوعين وقام الأب بعمل توكيلٍ عامٍ لابنه لإدارة أعماله، وبعد شهرٍ واحدٍ أصاب الابن الضجر وحضرت زوجته للسعودية بطفليها واتفقا على أن يبيعا جميع ممتلكات الأب ويعودا من حيث أتوا، وبالفعل ظنوا أن مسألة موت الأب مسألة وقت؛ فقام الابن ببيع جميع ممتلكات أبيه من شركات ومصانع واستولى على أرصدته بالبنوك وعاد إلى أمريكا مرةً أخرى، وبمجرد أن حدث ذلك فوجئوا بشفاء الملياردير وكأنه لم يمرض للحظة! وطالبته المستشفى بفاتورة طويلة كان الابن قد سافر دون أن يسددها، وفوجئ الرجل أنه قد أصبح خالي الوفاض من أي مالٍ بل وقد أصبح مديوناً، وباتصاله بنجله قال له نجله: "إنت لسة عايش؟" وأغلق الهاتف في وجهه، وانقطعت العلاقة بينهما، فظل الرجل يبكي بكاءً مريراً وانتبه لحاله وتذكر قولته التي قالها، واتصل بأحد شيوخ اللجنة وبالفعل جاءه في المستشفى وعلم ما حدث له ودعاه للتوبة من كلام الكفر الذي قاله، وقال: "دعك من مالك الذي ضاع وحالك ومحتالك واسجد لله شكراً أن منحك فرصة للتوبة". والمفاجأة أن لجنة الزكاة قد دفعت للملياردير فاتورة المستشفى بعد أن خفضتها إدارة المستشفى لتناسب هذا الذي بدأ تواً رحلته في هذه الحياة المتقلبة من ملياردير إلى عبد فقير!

أحبتي .. الزكاة تطهيرٌ لنفس الغني من البخل والشح، فلن يُفلح فرد أو مجتمع سيطر عليه الشح؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وهي تطهيرٌ لنفس الفقير من الحسد والضغن على الغني الكانز لمال الله، والذي يمنعه عن عباد الله، فمن شأن الإحسان أن يستميل قلب الإنسان، ومن شأن الحرمان أن يملأه بالبغض والحقد.
وهي تطهيرٌ للمجتمع كله من عوامل الهدم، والتفرقة، والصراع، والفتن.
وهي تطهيرٌ للمال من تلوثه بتعلق حق الغير به؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْكَ شَرَّهُ].
 الزكاة بعد ذلك وسيلةٌ من وسائل الضمان الاجتماعي الذي جاء به الإسلام؛ فالإسلام يأبى أن يوجد في مجتمعه، من لا يجد القُوت الذي يكفيه، والثوب الذي يستره، والمسكن الذي يُؤويه.

أحبتي .. أخرجوا زكاة أموالكم، جاهدوا شح أنفسكم، أطيعوا الله ورسوله ولا تمنعوا حق الفقراء والمساكين، لا تطيعوا أهواءكم وما يزينه الشيطان لكم، لا تؤخروا الزكاة عن موعدها، لا تتحايلوا لتقللوا من قيمتها، لا توزعوها إلا على مصارفها، بادروا بإخراج ما فاتكم منها عن أعوامٍ سابقة أهملتم فيها إخراجها، وانتبهوا في حساب الزكاة أن الحول مقصودٌ به العام الهجري وليس العام الميلادي، فمن كان منكم قد أخطأ في الحساب فليصحح خطأه ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾.
اختاروا أحبتي لأنفسكم أن تكونوا واحداً من اثنين: إما (المزارع) أو (الملياردير)، واعلموا أن الملياردير أمهله الله سبحانه وتعالى برحمته وفضله حتى تاب، فهل تضمنون إذا اخترتم لأنفسكم أن تكونوا مثله أن يمهلكم الله حتى تتوبوا؟ ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.



http://goo.gl/itWqxz