الجمعة، 24 مارس 2017

وصفة للتميز

الجمعة 24 مارس 2017م

خاطرة الجمعة /٧٦
(وصفة للتميز)

كنت قبل عدة شهور أقوم بتجميع مادةٍ لكتابٍ اعتزمنا، أنا وأخٌ عزيزٌ زميل مهنةٍ وصديق عمرٍ، إصداره عن موضوع التفوق الدراسي وكيف يمكن تحقيقه. اطلعت على عددٍ من الكتب والمراجع، وراجعت بعض البحوث التي نُشرت حول هذا الموضوع، واستفدت من الكثير من المناقشات التي دارت حوله في مواقع التواصل الاجتماعي، وبقي لي أن أسمع بشكلٍ مباشرٍ من بعض من تفوقوا دراسياً وأحرزوا مراتب متقدمةً عن أقرانهم عن أهم النصائح التي يمكن أن يقدموها لطلاب اليوم للأخذ بيدهم لإدراك النجاح والتفوق وتحقيق التميز، فقمت بإجراء بعض المقابلات الشخصية المقننة لعددٍ ممن أعلم شخصياً أنهم كانوا من الأوائل طوال فترة دراستهم، وخرجت من هذه المقابلات بعدة نصائح عمليةٍ مفيدةٍ تصلح أن تكون (وصفة للتميز) في أي مادة من المواد الدراسية المقررة، كانت أهم تلك النصائح:
المذاكرة اليومية، وليس قبل الامتحانات فقط، المراجعة كل فترة زمنية معينة لما قاموا بمذاكرته، التركيز أثناء المذاكرة، الجمع بين الاستذكار الجماعي والاستذكار الفردي، شرح المادة للآخرين من الطلاب، التقويم الذاتي قبل التقويم الرسمي، العلاقة الطيبة مع الأستاذ مدرس المادة، قراءة الكتاب الخاص به من أول كلمة في المقدمة إلى آخر كلمة فيه، حفظ الكتاب إن استطعت، أداء جميع التكليفات التي يطلبها أستاذ المادة في وقتها وبشكل متميز، الاهتمام بالمشاركة الشفوية في محاضرات الأستاذ. وكذلك الحرص على وجود علاقة شخصية متميزة مع الأستاذ في حدود علاقة الطالب بأستاذه، كالظهور أمام الأستاذ دائماً في أحسن مظهر، واحترامه والاستماع لتوجيهاته، والتأدب في التعامل معه.
وقد أكد هؤلاء المتميزون المتفوقون أنه قد ثبتت فعالية هذه النصائح واعتبروها بالفعل (وصفة للتميز)؛ اتبعوها فنجحوا وتفوقوا وصار بعضهم أساتذة جامعة مرموقين يُشار إليهم بالبنان.

أحبتي في الله .. لم يكن لنا نصيبٌ في استكمال مشروع الكتاب لأسبابٍ فنية، لكن بقي لي ما بذلته من جهد، استفدت من كل كلمةٍ قرأتها، وكل مرجعٍ اطلعت عليه، وكل دراسةٍ تابعت نتائجها. وما استفدته من المقابلات الشخصية مع الناجحين والمتفوقين كان أعظم. تأملت كثيراً فيما اعتبروه (وصفة للتميز) فإذا بفكري يذهب بعيداً، وإذا بقلبي يوافق فكري، وإذا بروحي تساير كلاً من فكري وقلبي فيما ذهبا إليه! ففي لحظة انكشافٍ روحانيةٍ لمعت الفكرة بخاطري في شكل سؤال: إذا كانت هذه (وصفة للتميز) وتحقيق النجاح في الحياة الدنيا فهل تصلح لضمان الفلاح والقبول لأعمالنا التي نعملها نبتغي بها وجه الله ولتكون رصيداً لنا في الحياة الآخرة؟!
ويا للعجب؛ فإن ما وجدته من تشابهٍ يصل إلى حد التطابق!

المذاكرة اليومية تقابل الاهتمام بالعبادات اليومية كالصلاة المفروضة على وقتها وصلاة الضحى وقيام الليل؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾. ليس قبل الامتحانات فقط تقابل ليس في مواسم الطاعات فقط كالصلاة أيام الجمع أو في شهر رمضان فقط. المراجعة كل فترة زمنية معينة لما قاموا بمذاكرته تقابل جبر كل تقصير في العبادات بالنوافل من صومٍ وصلاةٍ؛ يقول الله تعالى في الحديث القدسي: [ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيءٌ قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوعٍ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك]. التركيز أثناء المذاكرة، تقابل الخشوع في الصلاة والانتباه لروح العبادة والهدف منها؛ قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. الجمع بين الاستذكار الجماعي والاستذكار الفردي، تقابل الجمع بين الصلاة مع الجماعة والصيام مع الجماعة والحج مع الجماعة والعبادات الفردية من صلاةٍ وصومِ تطوعٍ وعُمرة. شرح المادة للآخرين من الطلاب، تقابل القيام بواجب الدعوة والبلاغ للآخرين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بلغوا عني ولو آية... ]. التقويم الذاتي قبل التقويم الرسمي، يقابل محاسبة النفس والشدة عليها وتدارك أي تقصيرٍ وحملها على وجوه الخير مهما كانت محفوفةً بالمكاره؛ يقول جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية}. العلاقة الطيبة مع أستاذ المادة، يقابله علاقة الإنسان المسلم بربه سبحانه وتعالى ثم علاقته بنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾، وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. قراءة الكتاب الخاص به من أول كلمة في المقدمة إلى آخر كلمة فيه، يقابلها الحرص على تلاوة القرآن الكريم؛ قال رسول صلى الله عليه وسلم: [اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه]. حفظ الكتاب إن استطعت، في مقابل حفظ القرآن الكريم أو ما تيسر منه؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة]. أداء جميع التكليفات التي يطلبها أستاذ المادة في وقتها وبشكل متميز، يقابلها أداء جميع العبادات التي أمرنا الله بها على أكمل وجه في الصلاة والصوم والحج والزكاة في أوقاتها المحددة ثم التميز بالنوافل وأعمال الخير والبر؛ ومن ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ [أفضل الصّلاة بعد الفريضة صلاة اللّيل]. الاهتمام بالمشاركة الشفوية في محاضرات الأستاذ، ويقابله الحرص على التواصل مع الله سبحانه وتعالى بالذكر والدعاء؛ يقول عز وجل: ﴿... وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. وكذلك الحرص على وجود علاقة شخصية متميزة مع الأستاذ في حدود علاقة الطالب بأستاذه، يقابلها التسليم بالقضاء والقدر والإيمان بالغيبيات؛ قال الله تعالى عن نفسه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾، وقال الله جل وعلا: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾. الظهور أمام الأستاذ دائماً في أحسن مظهر، يقابلها أخذ زينتنا عند كل مسجد والاهتمام بالطهارة والنظافة بشكل مستمر؛ قال المولى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ*قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾. واحترام الأستاذ والاستماع لتوجيهاته، يقابلها التسليم المطلق لله عز وجل نلتزم أوامره ونبتعد عما نهانا عنه؛ يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. والتأدب في التعامل مع الأستاذ، يقابله الذل لله والعبودية له وحمده وشكره على جميع نعمه وأفضاله؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾، ويقول: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ ، ويقول: ﴿إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾، ويقول: ﴿إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾.

أحبتي .. مر على خاطري هذا المثال، ولله المثل الأعلى، أفلا ترون معي أن ما اعتبره المتميزون (وصفة للتميز) في الحياة الدنيا يمكن اعتمادها (وصفة للتميز) تنفعنا ونحن نعد زادنا للحياة الآخرة؟
وإذا كان الأمر كذلك، فأيهما أهم؟ لو قارنا بين الدارين: الدنيا والآخرة، فلن نجد وجهاً للمقارنة إلا كمن يقارن بين: فانٍ وخالد، بين: مؤقتٍ ودائم، بين: قليلٍ وكثير، بين: رخيصٍ وغالٍ، بين: زائفٍ وحقيقي، بين: مظهرٍ وجوهر.
ليست هذه دعوةً لترك الدنيا، فنحن مأمورون بالعمل والتميز والتفوق والإجادة لكلا الدارين، وإنما هي دعوةٌ لجعل الدنيا مزرعةً للآخرة، نلقي بذور الخير الآن لنحصد في الدار الآخرة كل ما نتمنى من نعيم: جنةٍ عرضها كعرض السموات والأرض، ورؤية وجه الله سبحانه وتعالى، ومصاحبة الرسول الكريم، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
يقول أحد الصالحين: "الدنيا {منزل بالإيجار} مهما ظننت أنك تملكها فأنت واهم، ومهما فَعلت فيها فإنّك ستتركها يوماً ما .. والآخِرة {منزل تمليك} بيدك الآن بناؤه فلتُحسن البناء .. ستمكثون تحت الأرض زمناً لا يعلم مداه إلا الله، لن تتمكنوا فيه من أي عمل تنتفعون به ولو تسبيحة، فخُذوا من حياتكم لموتكم .. هناك أناسٌ بسطاء يعيشون معنا على الأرض، لا مال، ولا جاه، ولا منصب في هذه الدنيا الفانية، ولكن .. أملاكهم في السماء عظيمة، قصورهم تُبنى وبساتينهم تُزرع، فأكثروا من خبايا العمل الصالح".

أحبتي .. عليكم بهذه الوصفة، فهي (وصفة للتميز) في الدارين: الدنيا والآخرة. التزموا بها، وأوصوا بها أزواجكم وأبناءكم وأهليكم وكل من تحبون. جمعنا الله وإياكم في جنات النعيم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/CWB388

الجمعة، 17 مارس 2017

الخير والبركة

الجمعة 17 مارس 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٥
(الخير والبركة)

التقيت به قبل ثلاثين سنة في دارٍ حكوميةٍ للمسنين في منطقة Old Bridge بولاية New Jersey حيث كنت أقوم بزيارة إحدى قريباتنا المسنة وكانت تقيم بهذه الدار. الدار عمارةٌ سكنيةٌ تتكون من خمسة أدوار، تحيط بها الحدائق من كل جانب، مجهزةٌ بجميع الإمكانيات، الدور الأرضي مخصصٌ للاستقبال وبه عدة قاعاتٍ لمشاهدة التلفاز وللقاءات الجماعية والاحتفال بالمناسبات الاجتماعية ومكتبةٌ للقراءة والاطلاع. يتكون مبنى الدار من شققٍ مختلفة المساحات تم تزويد جميع الغرف والمطابخ ودورات المياه بأجهزة إنذارٍ مثبتةٍ في الأسقف تتدلى من كل جهازٍ منها سلسلةٌ رفيعةٌ طويلةٌ تكاد تلامس أرضية الشقة يسهل على المسن شدها في حالة الطوارئ فيأتي له المنقذون يدخلون الشقة بمفتاحٍ رئيسي Master Key خلال دقائق معدودة. توجد بالدار خدمات رعايةٍ صحيةٍ على مدار الساعة. وتقوم إدارة الدار بتنظيم أنشطةٍ اجتماعيةٍ وترفيهيةٍ للمسنين أبرزها حفلات السمر والرحلات الأسبوعية. في هذه الدار تم تخصيص الدور تحت الأرضي لغرف غسيل الملابس ينزل إليها المقيم بالدار وهو يحمل سلة ملابسه فيجد آلةً لبيع الصابون وأخرى لبيع ملطف الأنسجة ويجد الغسالات الآلية كما يجد مقاعد وأرائك وثيرةً للجلوس ورفوفاً بها أحدث المجلات الأسبوعية. ليس على المقيم سوى وضع العملات المعدنية سواءً لشراء الصابون أو الملطف أو تشغيل الغسالة؛ يضع كل شيء في المكان المخصص له، ويختار برنامج التشغيل المناسب لتبدأ الغسالة في العمل. يتناول إحدى المجلات ويجلس على المقعد أو الأريكة في انتظار انتهاء الغسالة من عملها، فإذا تصادف وجود أكثر من مسنٍ في غرفة الغسيل تكون فرصةً لهم لتبادل الأحاديث.
التقيت به مصادفةً في غرفة الغسيل، ورغم أني لا أعرفه ولا هو يعرفني فقد تبادلنا التحية. حينما جلسنا متجاورين في انتظار انتهاء غسالتينا من العمل بدأ يتحدث إلي شاكياً عقوق أبنائه، قال لي أنه في الثمانينات من عمره، زوجته متوفية، وله ثلاثة أولاد متزوجون يقيم كلٌ منهم في ولايةٍ غير التي يقيم فيها أخواه، وهو يعيش في هذه الدار، لا يسأل عنه أبناؤه إلا باتصالٍ هاتفيٍ أيام الأعياد فقط: عيد الشكر رابع يوم خميس في شهر نوفمبر، ويوم عيد الميلاد في الخامس والعشرين من ديسمبر، وقد يتذكرونه باتصالٍ آخر يوم عيد الاستقلال في الرابع من يوليو. يكتفون بمكالمةٍ هاتفيةٍ سريعةٍ لا تطفئ شوقه لهم. يتذكر أن أحدهم زاره في هذه الدار قبل ثلاث سنوات. قال لي وهو يحس بالمرارة أنه لا يعرف شكل أحفاده، وهو بالكاد يعرف أسماءهم. أخبرني أنه يتمنى أن يراهم جميعاً، أبناءه وأحفاده، قبل أن يموت. وما تزال كلماته التي قالها بأسىً ترن في أذني حتى الآن: "لم نقصر في رعايتهم وهم صغار، ثم عندما نكبر ونحتاج إليهم يأتون بنا إلى هذه الدور، يتركونا فيها حتى نموت". كنت أستمع إليه وأنا متأثرٌ مما يقول، لكني أعلم أن ما يحدث معه أمرٌ عاديٌ يحدث لكثيرٍ مثله؛ فحينما أردت أن أختار موضوع رعاية المسنين في الولايات المتحدة الأمريكية ليكون موضوع بحثٍ لي أثناء دراسة الماجستير لم يوافقني المشرف الأكاديمي بالجامعة وقال لي: "هذا جرحٌ في جسد الأمة لا نحتاج إلى وضع مزيدٍ من الملح عليه!". تذكرتُ وقتها تعاملنا في بلادنا العربية والإسلامية مع المسنين عامةً ومع الوالدين على وجه الخصوص، وقارنتُ بين نظرتهم في المجتمعات الغربية وبين نظرتنا نحن إلى كبار السن باعتبارهم (الخير والبركة) نعاملهم بما يستحقونه من تقدير واحترام؛ فحمدت الله كثيراً على نعمةٍ نحن فيها لا نُحس بها إلا عندما نشاهد بأنفسنا ما يعانيه غيرنا ممن فقدوا هذه النعمة.
تذكرتُ تلك الوقائع بعد مرور ثلاثين سنةً عندما سمعت أحد المسئولين يتحدث في التلفاز عن المسنين ويصفهم بأنهم "عبءٌ" ثقيل! يا إلهي! إلى أين نحن ذاهبون؟ هل نحن في طريقنا لاعتماد المنهج الغربي في التعامل مع المسنين في بلادنا الإسلامية؟! وهل هذا المنهج هو الذي يمثل قمة التقدم والرقي والحضارة؟!

أحبتي في الله .. للإجابة عن هذه التساؤلات علينا أن نعود إلى مرجعيتنا الأساسية، التي لا غنى لنا عنها، ولا بديل لأحكامها، نعود إلى شريعتنا الغراء لننظر أين نقف من تعاليم وتوجيهات ديننا الإسلامي الحنيف:
فعن رعاية الإسلام بالمسنين يقول علماؤنا أن الإسلام حرص أشد الحرص على العناية بالفرد داخل المجتمع، من وقت كونه جنيناً، فطفلاً، فشاباً، فرجلاً، بعد أن أعطاه قيمته الإنسانية؛ فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، فالإنسان في جميع مراحله محترمٌ ومكرمٌ لقيمته الإنسانية الذاتية، ويزداد ذلك الاحترام والتكريم بقدر ما يكتسب من الصفات الطيبة، وبقدر ما يعمل من أعمال البر والخير. إن الإسلام حفظ للإنسان كرامته، ووفَّاه حقه، فأمر بإكرامه عند شيبته وحث على القيام بشؤونه، وهو النموذج الذي جسدته ابنتا شعيب عليه السلام اللتان قالتا: ﴿لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾.
ولما كان حال الكبر هو مظنة الإهمال والضجر والغضب خصه سبحانه بالذكر وبمزيدٍ من العناية من بين سائر الحالات التي يمر بها الإنسان في حياته، قال سبحانه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. ووصف الله عز وجل مرحلة الكبر في القرآن الكريم بأنها عودة إلى أرذل العمر في قوله: ﴿واللهُ خَلَقَكُم ثمَّ يَتَوَفَّاكُم ومِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَي لا يَعلَمَ بَعدَ عِلمٍ شَيئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾؛ لذلك كانت الشيخوخة محل عنايةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: [رَغِمَ أنفُ ثم رغم أنفُ، ثم رغم أنفُ]، قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: [من أدرك أبويه عند الكبر - أحدهما أو كليهما - فلم يدخل الجنة]. وقال لرجلٍ استأذنه في الجهاد: [أحَيٌّ والداك؟] قال: نعم، قال: [ففيهما فجاهد].
والأمر لا يقف عند الوالدين إذا بلغا سن الشيخوخة بل يتعدى ذلك إلى كل كبيرٍ مُسّن، فيوجب له الاحترام ويجعل ذلك من الإسلام؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقَّر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينْهَ عن المنكر]. كما يوجب له الرعاية الاجتماعية والخلقية؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم]. ويَعِد الشاب البار الذي استجاب لأمر ربه بالجزاء الأوفى فيقول صلى الله عليه وسلم: [ما أكرم شابٌ شيخاً لسنه - أي في شيخوخته - إلا قيض الله له من يكرمه عند سنّه]. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يُسَلِّم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير]. كما قال: [أمرني جبريل أن أقدم الأكابر].
ومن سماحة الإسلام أنه راعى حق المسن في العبادات أيضاً، وأمر من يؤم الناس أن يراعي حال المسنين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء]. ومن باب التيسير ورفع الحرج جعل الإسلام للمسنين وغيرهم تشريعاتٍ خاصةً بهم، وحطّ عنهم الإثم في ترك ما لا يقدرون عليه؛ قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾. من تلك التشريعات: أجاز للمسن أن يفطر في نهار رمضان ويطعم إذا شق عليه الصيام؛ قال سبحانه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾. ورخص الإسلام للمسن المريض التخلف عن صلاة الجماعة، قال صلى الله عليه وسلم: [من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر]، قالوا: وما العذر؟ قال: [خوفٌ أو مرضٌ - لم تُقبل - منه الصلاة التي صلى]. بل رخّص للمريض - والمسن غالباً ما يصيبه المرض - أن يصلي بالكيفية التي يستطيعها إن تعذر عليه أو شق القيام، فإن لم يستطع أن يصلي قائماً قعد، فإن لم يستطع قاعداً فعلى جنبه؛ قال صلى الله عليه وسلم لمريض: [صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب]. وأوجب الإسلام الحج على المستطيع، فإن بلغ بالمسن العمر فشاخ وهَرِم فلم يستطع الحج لم يجب عليه الحج، لكنه مقصرٌ لأنه أَخَّرَه إلى وقتٍ لا يستطيعه فيه، ما لم يكن أخَّره لعذر، وحين زال العذر بلغ الهرم وخارت قواه ولم يملك مالاً ليُنيب عنه غيره فعندها فقط يسقط عنه الحج.

أحبتي .. أي رقيٍ وأي تحضرٍ وأية إنسانية أكثر من ذلك؟ علينا فقط أن نحافظ على قيمنا الإسلامية السامية، وأن نحسن لوالدينا ولكبار السن من الأهل والجيران وغيرهم فهم (الخير والبركة) وفيهم فلنجاهد. وليعلم كلٌ منا أنه قادمٌ بإذن الله إلى محطة الشيخوخة حين يمضي به قطار الحياة، وعليه من الآن أن يُحْسن لوالدَيه؛ حتى يجد مِن أبنائه مَن يحسن إليه ويرعاه عندما يصل هو يوماً إلى نفس المحطة، وأن يحسن إلى المسنين فيحترمهم ويوقرهم ويقدم لهم كل ما يستطيع أن يقدمه لهم من أشكال الرعاية، فهذا من أعظم أعمال البر والإحسان.
أحبتي .. احكموا بأنفسكم .. ما هو المنهج الأفضل والأرقى: المنهج الغربي أم المنهج الإسلامي في هذا المجال؟
انظروا ماذا يحدث عندما يلتزم المسلمون بمبادئ الإسلام وشريعة الله؛ فمما يُروى أن امرأةً فرنسيةً أخذت ولدها البالغ من العمر (14) عاماً إلى المركز الإسلامي بباريس من أجل أن يدخل في الإسلام، فلما وصلا للمركز دخل الصبي على إمام المركز وقال له: أمي تقول لك ساعدني للدخول في الإسلام. فسأله الإمام: وهل تريد أنت أن تدخل في الإسلام؟ فقال: أنا لم أفكر في هذا الأمر، ولكن أمي هي التي تريد لي ذلك. فاستغرب الإمام من إجابته وقال له: وهل أمك مسلمة؟ رد عليه الصبي: لا، ولا أعرف لماذا تريدني أن أدخل في الإسلام!! سأله الإمام: وأين أمك؟ قال: هي معي الآن تنتظرني خارج المسجد. فقال الإمام: اذهب وأحضرها حتى أتحدث معها. فخرج الصبي ورجع مع أمه. قال لها الإمام: هل صحيحٌ ما سمعته من ابنك بأنك لستِ مسلمةً وتطلبين منه أن يدخل في الإسلام؟ قالت: نعم هذا صحيح. فاستغرب الإمام من إجابتها وسألها: ولماذا؟، قالت: لأني أسكن بعمارةٍ في باريس وفي الشقة التي أمامي تسكن امرأةٌ مسلمةٌ مسنةٌ لها ولدان يدرسان في الجامعة، وفي كل صباحٍ ومساءٍ أشاهد الولدين كلما خرجا من المنزل أو رجعا يقبلان رأس أمهما ويدها، ويعاملانها باحترامٍ شديدٍ وكأنها رئيسة دولة، فأحببت أن يدخل ابني في الإسلام حتى إذا كبرت لا يرميني في دور المسنين وتهتم بي الدولة، وإنما يعاملني مثلما يعامل المسلم أمه!

أحبتي .. لا يسعني أن أنهي الحديث عن المسنين بغير أن أوجه دعوةً مفتوحةً لكل مسئولٍ في جميع جهات العمل للاستفادة من خبرات كبار السن الذين أحيلوا إلى التقاعد؛ شكلوا منهم لجان عملٍ تطوعيٍ في مجالات التخصص المختلفة، يقومون من خلالها بالدراسة وإبداء الرأي وتقديم المقترحات والتوصيات في مختلف المشرعات: الهندسية والصناعية والطبية والتربوية والاجتماعية والزراعية وغيرها من المجالات. إنهم بمثابة بيوت خبرةٍ وطنيةٍ متميزة تعمل بإخلاص تعطيكم رحيق خبراتها بدون تكلفةٍ تُذكر. المسنون هم (الخير والبركة) لأسرهم وللقريبين منهم، وهم مخزونٌ استراتيجيٌ هائلٌ للعلم والمعرفة وخبرات الحياة لمجتمعاتهم وأوطانهم؛ ينبغي الاستفادة منهم بدلاً من إهمالهم. استعينوا بهم في لجانٍ استشارية. إنهم ثروةٌ قوميةٌ لا تقدر بمال، استفيدوا منهم في مجالات التطوير والتحسين كلٌ في مجال اختصاصه؛ فقد كانوا يشغلون وظائف قيادية وإشرافية وأصبحوا الآن خبراء في مجالات تخصصهم يجمعون بين الخبرة والحكمة. لا تضيعوا على المجتمع الكثير من النفع والفائدة إذا أنتم أهدرتم هذه الفرصة. انظروا إليهم على أنهم أنتم أنفسكم عندما تُحالون إلى التقاعد، وعاملوهم كما تحبون أن تُعامَلوا وقتها!
وفروا للمسنين الإطار القانوني اللازم وأماكن العمل ووسائل الانتقال، سيُدهشكم حماسهم وعطاؤهم، وتُبهركم آراؤهم وأفكارهم ومقترحاتهم! وهم لا ينتظرون منكم سوى أن تقدموا لهم التقدير الأدبي بالشكر والعرفان!

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إن أَذِنَ الله وأَمَّدَ في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

                                          http://goo.gl/6RUh6N

الجمعة، 10 مارس 2017

أعجب رد!

الجمعة 10 مارس 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٤
(أعجب رد)!

كنا عدة أشخاص في مجلس علم، فطرح شيخنا سؤالاً؛ قال: "ما (أعجب رد) مر عليكم؟". سكت الجميع برهةً يستجمعون أفكارهم، إلا واحدٌ منا سأل: "في أي مجال يا شيخ؟"، أجابه الشيخ: "في القرآن الكريم".
قال الأول: "(أعجب رد) قرأته يا شيخنا هو رد الكافرين على المولى سبحانه وتعالى وهم يقفون بين يديه يسألهم ويحاسبهم، فإذا بهم يكذبون ثم يحلفون على كذبهم كما كانوا يحلفون لغيرهم من خلق الله في الدنيا! ردٌ عجيبٌ منهم والأعجب أنهم يحسبون أنهم على شيء! قال تعالى في سورة المجادلة: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾".
قال الثاني: "(أعجب رد) قرأته في الكتاب الكريم هو رد جلود الناس عليهم يوم القيامة، حينما تشهد عليهم، فيسألونهم لم شهدتم علينا، فيكون رد الجلود عجيباً؛ أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء! سبحان الله الخالق القادر العليم الخبير؛ قال في سورة فصلت: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾".
أما الثالث فقال: "(أعجب رد) قرأته في كتاب الله هو رد الكفار على الرسل بطلب العذاب بدلاً من طلب الهداية! يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، وفي سورة هود: ﴿قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾، وما يماثلها كثير".
قال الرابع: "(أعجب رد) مر عليّ في القرآن الكريم قول المفسدين في سورة البقرة: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، ومثلها ما قاله فرعون عن موسى عليه السلام، في سورة غافر: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾! وكأن المفسدين في الأرض وفرعون منهم على حق وأنبياء الله وموسى عليه السلام منهم على باطل!".
عندما حان دوري، أردت أن أداعب هذه الصحبة الطيبة قليلاً فألتزم بكلمة {رد} وألتزم بأن يكون الرد في {مجال القرآن الكريم} ولكن بصورة مختلفة عما ذهب إليه الآخرون؛ فقلت لهم: "(أعجب رد) حدث أمامي شاهدته وسمعته وأنا أكاد لا أصدق ما أرى وما أسمع كان عندما صليت بأحد المساجد وأخطأ الإمام في قراءة آية، فإذا بأحد المصلين يرده ويصحح له، كان هذا (أعجب رد) في مجال القرآن الكريم شاهدته في حياتي!"، قال شيخنا: "وما وجه العجب في ذلك؟ هذا واجب على المصلي أن يرد الإمام إذا أخطأ، أليس كذلك؟"، قلت: "بلى، هذا أمر عادي لا غرابة فيه ولا عجب في صلاةٍ جهريةٍ يا شيخنا، لكن وجه العجب أن الرد كان في صلاة الظهر!"، نظر الجميع إليّ وهم مندهشون، فانتظرت لحظةً قصدت منها أن يبلغ اندهاشهم مداه، ثم قلت موضحاً وشارحاً: "كان الإمام يقرأ بصوتٍ خافتٍ لكنه مسموعٌ همساً من خلال المجهر ومكبرات الصوت! فالعادي أن يُرد الإمام في صلوات الفجر أو المغرب أو العشاء أو الجمعة، أما رده في صلاةٍ الظهر وهي صلاة غيرِ جهريةٍ فكان (أعجب رد) رأيته في حياتي!".

أحبتي في الله .. الفتح على الإمام هو تلقينه الآيةَ عند التوقُّف فيها، أما رده فهو تصحيح خطأ للإمام إذا أسقط آيةً أو أكثر أو جزءاً من آية، ولو كانت كلمةً أو حرفاً، أثناء التلاوة. 
وقد وردت بعض الأحاديث تدل على أن الفتح مشروع؛ فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاةً فقرأ فيها فلبس عليه، فلما انصرف قال لأبيّ: [أصليت معنا؟]، قال: "نعم"، قال: [فما منعك؟]" أي: فما منعك أن تفتح علي؟. وعن المسور بن يزيد المالكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فترك آيةً، فقال له رجلٌ: يا رسول الله آية كذا وكذا، قال: [هلا ذكرتنيها]. فالحديثان يدلان على مشروعية الفتح على الإمام، لإصلاح خطأٍ في قراءته. فيشرع للمأموم إذا وقف الإمام في القراءة أو أخطأ فيها أن يفتح عليه ويصلح له. وعن أنس رضي الله عنه قال: "كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وصح عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "إذا استطعمك الإمام فأطعمه".
والفتح على الإمام أو رده قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً؛ فإذا أخطأ الإمام في القراءة الواجبة كقراءته الفاتحة وجب على المأموم أن يفتح عليه لكونها رُكناً من أركان الصلاة لا تتم الصلاة إلا بها، فلا تصح الصلاة حتى يتم رد الإمام أو الفتح عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب]، ومن باب «مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ»، وإذا كان في قراءة غير الفاتحة فإن كان يغير المعنى وجب على المأموم أن يرده، وإن كان لا يغير أو يخل بالمعنى يجوز للمأموم الفتح والرد ولا يجب عليه.
ومما يجب التنبه له ألا يُقدم للإمامة إلا القارئ الحافظ المتقن، ولا ينبغي أن يتقدم غيره عند وجوده. كما ينبغي أن يقف خلف الإمام من هو حافظٌ للقرآن حتى يسهل رد الإمام أو الفتح عليه بسهولة.
ولا تجوز المبادرة بالفتح على الإمام فور سكوته؛ فقد يكون سكت عند آيةِ رحمةٍ ليدعو، أو آية عذابٍ ليدعو؛ لحديث حذيفة قال: "صلَّيت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلتُ: يركعُ عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مسترسلاً، إذا مر بآيةٍ فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤالٍ سأل، وإذا مر بتعوذٍ تعوذ"، (ومعنى مسترسلاً؛ أي: متمهلاً). وكذلك لا ينبغي للمأموم أن يتعجلَ بالفتح إذا سكت الإمام لالتقاط نَفَسه، أو لاستحضار ذهنه أو جفاف حلقه، فالواجب إمهاله، وعدم مبادرته.
 ومن المتفق عليه أن الذي له الحق في الردِّ على الإمام هو الذي يصلي بجواره، أو الذي يليه من خلف ظهره، وأما مَن كان في مكانٍ بعيدٍ عن الإمام، فإنه لا يجوز له الفتح على الإمام. كما لا يجوز أن يتولَّى الردَّ والفتح على الإمام أكثرُ من واحدٍ في وقتٍ واحد؛ لأن هذا يؤدِّي إلى اختلاط الأصوات والتشويش على الإمام والمصلِّين، ويجب أن يتركَ الأقل حفظاً وعلماً الرد والفتح لمَن هو أحفظ منه وأعلم. ولا يجوز للمرأة إذا صلَّت خلف الرجال أن تفتح على الإمام، ولا أن تصحِّح له، وهذا مما لا خلاف فيه؛ ذلك أنها مُنِعت من التسبيح تنبيهاً للإمام لئلاَّ يخرج صوتها في الصلاة، فمن باب أولى تمنع من الفتح عليه. ولا يجوز للمأموم أن يحملَ مصحفاً لمتابعة الإمام والتصحيح له، وذلك أنه في صلاة، وليس في تعليم وتعلم، ثم إن الحركة بحمل المصحف، وفتحه عند القراءة وإغلاقه ينافي عمل الصلاة. كما يجب أن تكون نية مَن يفتح على الإمام أو يصوِّب خطأه أنه يفعلُ ذلك إخلاصاً لله وتعبداً له، وأمَّا إذا كان يفعله رياءً وسُمْعَةً ليرى الناس أنه حافظ، فإنه بهذا يُحبِط أجره، وقد تبطل صلاته تبعاً لذلك.
خلاصة القول في هذا الأمر أنه يُشرع للمأموم إذا أخطأ إمامه أو نسي في قراءته أن يفتح عليه ويُلقِّنه الصواب، ويتأكد الفتح في أربع حالات: الخطأ في الفاتحة، الخطأ الذي يُحيل المعنى ويغيره، الخطأ الذي تنبني عليه أخطاء أخرى كما لو خرج الإمام إلى سورة أخرى، وإذا توقّف الإمام يريد أن يفتح عليه أحد. وأمّا غير ذلك فيُرجع الفتح فيه إلى المصلحة، فإن كانت المصلحة راجحةً فُتح عليه، وإن خُشيت مفسدةٌ من كثرة الأخطاء وذهاب الخشوع فلا يُفتح عليه؛ لأن درء المفاسد مقدّمٌ على جلب المصالح.
أحبتي .. أنقل لكم قصةَ (أعجب رد)، وإن كانت لم تَرِد في القرآن الكريم، ولم يكن الرد لإمامٍ أثناء صلاة!
يُروى أن الأصمعي [وهو من علماء اللغة] كان يتحدث في مجلس فأحب الاستشهاد بآية من القرآن الكريم فقال: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ "والله غفور رحيم"﴾، فسأله أعرابي:  يا أصمعي كلام من هذا؟، فرد الأصمعي: كلام الله، فقال الأعرابي بثقة: هذا ليس كلام الله. انتشر اللغط في المجلس وثار الناس على الأعرابي الذي ينكر آية في القرآن، لكن الأصمعي محتفظاً بهدوئه سأله: يا أعرابي هل أنت من حفظة القرآن؟، قال الأعرابي: لا، قال: حسناً، هل تحفظ سورة المائدة؟ (وهي السورة التي تنتمي إليها هذه الآية)، كرر الأعرابي نفيه: لا، قال: إذن كيف حكمت بأن هذه الآية ليست من كلام الله؟، كرر الأعرابي بثقة: هذه ليست من كلام الله. حسماً للجدال ومع ارتفاع اللغط تم إحضار المصحف فتح الأصمعي المصحف على سورة المائدة وهو يقول بنبرة الفوز هذه هي الآية؛ اسمع: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ .. ﴾ .. لحظة .. لقد أخطأتُ في نهاية الآية ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وليس "غفور رحيم". أُعجب الأصمعي بنباهة الأعرابي الذي فطن إلى الخطأ بدون أن يكون من حفظة القرآن فسأله: يا أعرابي كيف عرفت؟، قال الأعرابي: يا أصمعي عَزَّ فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع!

ختاماً، لديّ كلمتان: الأولى للأئمة "لا غضاضة من إصلاح الخطأ؛ فكل أحدٍ يخطئ أو ينسى، فإن أخطأت أو توقفت وردك أحد المأمومين أو فتح عليك فلا يضيق صدرك بذلك، وتذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتوقفون في القراءة ويطلبون الرد". والثانية للمأمومين "لا تتسرع في الرد أو الفتح إذ قد ينتبه الإمام ويتابع. ولا ترد الإمام أو تفتح عليه إلا إذا كنت حافظاً للقرآن واثقاً من صحة ردك أو فتحك؛ فالرد الخاطئ أو الفتح غير الصحيح ضرره أكبر بكثير من عدم الرد أو الفتح".
إن رد الإمام أو الفتح عليه وإصلاح خطئه، من باب قوله تعالى: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، كما أن الرد والفتح على الإمام، بضوابطه، يضمن صحة صلاة الإمام والمأمومين، وهى غاية عظيمة، وهدف نبيل مشروع.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وتقبل الله منا أعمالنا خالصةً دون رياء.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

                                                   http://goo.gl/b465bF

الجمعة، 3 مارس 2017

تالية

الجمعة 3 مارس 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٣
(تالية)

قلت متلهفاً: "بشرينا"، ردت علي: "خرجت من غرفة الولادة حالاً، وهي والمولودة بخير والحمد لله"، قلت: "اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً، ماذا أسمت مولودتها؟"، قالت: "(تالية)"، قلت: "داليا اسم جميل"، قاطعتني بقولها: "ليس داليا بل (تالية).. يبدو الاسم غريباً، أليس كذلك؟"، قلت مؤكداً: "بلى، فهو اسمٌ غيرُ مألوف، لكن له معنىً جميل؛ تالية للقرآن الكريم بإذن الله"، أتاني ردها مُفرحاً مُبشراً نزل على قلبي برداً وسلاماً: "هذا بالضبط هو سبب التسمية"، قلت لها: "مبروك اسم (تالية)، جعلها الله (تاليةً) لكتابه الكريم حافظةً له ملتزمةً بما فيه، حفظ الله (تالية) وبارك فيها وفي والديها وفيكم".
دار هذا الحوار في محادثة هاتفية الأسبوع الماضي للاطمئنان على أحدث عملية ولادة بعائلتنا.

أحبتي في الله .. أول ما فكرت فيه بعد انتهاء هذه المحادثة، ونحن جميعاً نعرف أن ديننا الحنيف، دين الإسلام، لم يترك لنا شيئاً لنا فيه مصلحة إلا وأوجبه علينا أو حسنه أو حث عليه، وما ترك شيئاً مُضراً لنا إلا وحرمه علينا أو نهانا عنه أو ذمه لنا؛ فهو دين حياة ومنهاجٌ شاملٌ لإصلاح البشر في كل زمانٍ ومكان، فهل يا تُرى توجد في ديننا ضوابط شرعية لتسمية المواليد؟ سؤال دار في خلدي بمناسبة اختيار اسم (تالية) لأحدث مواليد العائلة.
قلت في نفسي: لِمَ لا؟ والإسلام هو دين الفطرة؛ قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهو ينظم أمور حياتنا في جميع مجالاتها المختلفة والمتعددة؛ قال سبحانه: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾. بحثت في الأمر فوجدت أنه حتى لتسمية المولود توجد آدابٌ شرعيةٌ ينبغي على كل مسلم مراعاتها، رغم أن البعض قد ينظر إلى هذا الموضوع على أنه أمر بسيط وهين، ومع ذلك فإن ما علمته من تلك الآداب بالغ الرقي والتحضر يتسق مع الفطرة السليمة ويضمن حقوق الطفل المولود بأكثر مما توفره التشريعات المعاصرة.
يقول أهل العلم والفقهاء أن الاسم مأخوذٌ من الوسم؛ أي العلامة، وقيل من السموِّ والرفعة، أو هو مأخوذٌ من الاثنين معاً، إنه علامةٌ على صاحبه، وهو سموٌ ورفعةٌ له، واختيارَ الاسم قد يكون سُنةً حسنةً وصدقةً جاريةً، يمتدُّ أثرها ونفعها إلى أجيالٍ متعاقبة، وقد يكون سيئةً جاريةً ينتقل أثرها السيئ إلى جيلٍ بعد جيل. إن الاسم عنوان المسمىَ ودليلٌ عليه وضرورةٌ للتفاهم معه، وهو للمسمىَ زينةٌ ووعاءٌ وشعارٌ يُدعى به في الأولى والآخرة، وتنويهٌ بالدين، وإشعارٌ بأنه من أهل هذا الدين، وهو في طبائع الناس له اعتباراته ودلالاته.
وقال العلماء أن الأصل في الأسماء الإباحة والجواز، غير أن هناك بعض المحاذير الشرعية التي ينبغي اجتنابها عند اختيار الأسماء منها:
التعبيد لغير الله عز وجل، سواء لنبيٍ مرسل أو مَلكٍ مقرب، فلا تجوز تسمية المولود بعبد الرسول أو عبد النبي أو عبد الأمير أو عبد الحسين أو ما شابهها، وهذه الأسماء يجب تغييرها لمن تسمى بها؛ قال الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: {كان اسمي عبد عمرو، وفي رواية عبد الكعبة، فلما أسلمت سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن}.
وكذلك التسمي باسمٍ من أسماء الله تبارك وتعالى التي اختص بها نفسه سبحانه، كأن يسمي الخالق أو الرازق أو الرب أو الرحمن ونحوها، أو باسمٍ لا يصدق وصفه لغير الله عز وجل مثل ملك الملوك، أو القاهر ونحوه، وهذا النوع من الأسماء يحرم التسمي به ويجب تغييره؛ قال الله عز وجل: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إن أخنع اسم عند الله رجل تَسمَّى ملك الأملاك].
وأيضاً التسمي بأسماء الكفار الذين يدينون بغير الإسلام، وهي أسماء خاصة بهم، دالة عليهم دون غيرهم. وكل ما سبق من الأسماء لا يجوز التسمي به بل هو حرام، وعلى من تسمى به أو سماه به غيره أن يغيره.
ويُكره التسمي بما تنفر النفوس من معناه من الأسماء، إما لما يحمله من معنىً قبيحٍ أو مثيرٍ للسخرية، كما أن فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بتحسين الأسماء، ومثال ذلك اسم حرب، وغضب، ونحوها من الأسماء التي تحمل معاني قبيحةً وغير حسنة؛ روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وقال: [أنت جميلة]، كما أن قوماً وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعهم يُسمُّون عبد الحجر، فقال له: [ما اسمك؟]، فقال: عبد الحجر، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: [إنما أنت عبد الله]. ويُكره التسمي بأسماء فيها معانٍ رخوة أو شهوانية، ويكثر هذا في تسمية الإناث. كما يُكره التسمي بأسماء فيها معانٍ تدل على الإثم والمعصية، مثل سارق وظالم، أو التسمي بأسماء الفراعنة والعصاة مثل فرعون وهامان وقارون. وتُكره كذلك التسمية بكل اسمٍ مضافٍ إلى الدين والإسلام، مثل نور الدين وشمس الدين ونور الإسلام وشمس الإسلام، لما فيها من إعطاء المسمى فوق حقه. وتُكره الإضافة إلى اسم الله عز وجل غير عبد الله، وذلك مثل حسب الله، ورحمة الله ونحوه. وكذلك الإضافة إلى لفظ الرسول. ويُكره التسمي بأسماء الملائكة، وكذلك بأسماء سور القرآن مثل طه ويس ونحوها، وهذه الأسماء هي من الحروف المقطعة وليست من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
والأسماء المكروهة، إنما يكره التسمي بها ابتداءً، أما من سماه أهله بذلك وقد كبر ويصعب عليه تغييرها فلا يجب عليه التغيير.
إن الاسم السيئ الذي لم تُراعَ في اختياره الضوابطُ الشرعيةُ يؤثِّر سلباً على نفسية المولود، حين يشعر بالخجل من اسمه، ويتوارى ويتحاشى ذكره، مما قد يسبب له الانطواء وغيره من الأمراض النفسية؛ نتيجةً لسخرية الآخرين؛ فالإنسان كائن اجتماعي يتأثر ويؤثر فيمَن حوله. ورد في الأثر أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد وأنّبه على عقوقه لأبيه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: "بلى"، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ فذكر عمر منها أن يحسن اسمه، قال الولد فيما قال: إن أبي سماني جُعلاً (أي خنفساء)، فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: "جئت إلي تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك".
أمَّا الاسم الذي تُراعى فيه الضوابط الشرعية، فهو يُشعِر صاحبَه بالعزَّة والإشباع النفسي، وكذلك والده، لاسيما عند السؤال عن سبب تسميته بذلك الاسم. وللاسم الشرعي مردودٌ اجتماعي حين يكون اقتداءً بأسماء الأنبياء والصالحين؛ فتخلد أسماؤهم، وتستمر ذكراهم وما قدَّموه لأمتهم من خيرٍ ونفعٍ للآخرين؛ فتستمر سلسلة الإصلاح في الأمة.
ويُسن أن يكون الاسم حسناً لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: [إنكم تُدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فحسنوا أسماءكم].
وأما مراتب الأسماء فهي كما يلي: الأولى، اسما عبد الله وعبد الرحمن، وذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ]. الثانية، سائر الأسماء المعبدة لله عز وجل: مثل عبد العزيز وعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الإله وعبد السلام وما شابهها. الثالثة، أسماء الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولا شك أن خيرهم وأفضلهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن أسمائه كذلك أحمد، ثم أولو العزم من الرسل وهم إبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام، ثم سائر الأنبياء والمرسلين عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. الرابعة، أسماء عباد الله الصالحين، وعلى رأسهم صحابة نبينا الكريم، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، فيستحب التسمي بأسمائهم الحسنة اقتداءً بهم وطلباً لرفعة الدرجة. والخامسة، كل اسمٍ حسنٍ ذو معنىً صحيحٍ جميل.
ولو اتبعنا ترتيب أولويات الأسماء للبنات لوجدنا أن خيرها ما كان لأمهات المؤمنين: خديجة وعائشة وزينب وسودة وحفصة وجويرية وصفية وميمونة. ثم ما كان لآل بيت النبي عليه الصلاة والسلام كزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. ثم ما كان لصاحبيات جليلات كأسماء ورفيدة وآمنة وأمامة وغيرهن. كما أنه مما يستحب تسمية البنات به اسم مريم واسم آسيا وهما المرأتان اللتان مدحهما الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حيث قال عز وجل: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ*وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾، ونعلم جميعاً أن السيدة مريم هي المرأة الوحيدة التي تسمت باسمها سورةٌ كاملةٌ من سور القرآن الكريم. وكذلك اسم خولة وهو للصحابية التي استمع إليها الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات وخلد ذكرها كتابُ الله في آيةٍ تتلى إلى يوم القيامة: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾. ثم أي اسمٍ حسنٍ ذو معنىً صحيحٍ جميلٍ مثل وفاء وسارة ورضا وصفا وهدى وهناء و(تالية) وما شابهها.
ويحسن مراعاة بعض الأمور عند تسمية المولود منها: معرفة أن هذا الاسم سيكون ملازماً للمولود طوال حياته وقد يسبب له من الضيق والإحراج ما يجعله يضيق بمن سماه بهذا الاسم. كما أنه عند النظر في الأسماء لاختيار أحدها، ينبغي تقليبه على وجوهٍ عدة، فيُنظر في الاسم في ذاته، ويُنظر إليه من حيث كونه طفلاً صغيراً ثم شاباً يافعاً ثم شيخاً كبيراً وأباً وجداً، ومدى مناسبة الاسم إذا تكنى به، ومدى ملاءمته لاسم أبيه وهكذا.
وتسمية المولود حقٌ مشروعٌ للوالد لأنه هو الذي سيُنسب إليه، لكن يُستحب للوالد أن يشرك الأم في اختيار الاسم ويأخذ برأيها إن كان حسناً إرضاءً لها. ويجب نسبة الولد لأبيه ولو كان متوفياً أو مطلِّقاً أو نحوه، ولو لم يرْعَه ولم يره البتة، ويحرم نسبة الولد لغير أبيه.
وتُسن تسمية المولود يوم ولادته أو تسميته إلى ثلاثة أيام من ولادته أو تسميته يوم سابعه، وهذا اختلافُ تنوعٍ يدل على أن في الأمر سعة.

أحبتي .. هل رأيتم أدق من هذه التفاصيل؟ هل رأيتم أعدل منها؟ هل رأيتم كيف تحرص شريعة الإسلام على حقوق الطفل وهو ما يزال وليداً؟
ما أروع هذا الدين، وصدق الله العظيم حين قال: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾.

أحبتي .. بدأ الحديث باختيار اسم (تالية) لأحدثِ مولودةٍ في عائلتنا، وينتهي الحديث بالتناصح فيما بيننا بثلاثة أمور في مجال تسمية المولود:
الأول، على من علم أن اسمه أو اسم أحد أبنائه محرماً أن يبادر فوراً إلى تغييره.
الثاني، على من علم أن اسمه أو اسم أحد أبنائه مكروهاً أن يوائم ما بين المصلحة والضرر ويتخذ القرار الذي يحقق مصلحة الابن.
الثالث، من هو في انتظار أن يهبه الله ولداً أو بنتاً أن يختار من الآن اسماً جميلاً معبراً متوافقاً مع ضوابط الشرع الحنيف؛ كاسم (تالية) فعسى أن يكون للمولود نصيبٌ من اسمه؛ يقول الشاعر:
وقلَّ إن أبصرَتْ عيناك ذا لقَبٍ  **  إلا ومعناه إن فكَّرتَ في لقبه

حفظ الله أبناءنا وذرياتنا، وجميع أبناء المسلمين وذرياتهم، وبارك فيهم، ونفع بهم الدين والدنيا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/07Py4b

الجمعة، 24 فبراير 2017

جارنا وكلبه

الجمعة 24 فبراير 2017م

خاطرة الجمعة /٧٢
(جارنا وكلبه)

لنا جارٌ يسكن في عمارةٍ قريبةٍ من المسجد يتصادف أن أراه، ونحن في طريقنا للصلاة، ممسكاً في يده بسلسلةٍ طويلةٍ تنتهي بطوقٍ يلتف حول عنقِ كلبٍ أبيضٍ صغير. يسحبُ الكلبُ جارنا سحباً ويشده إلى موضعٍ محددٍ تحت شجرة، عنده يقف الكلب ليقضي حاجته. يتمشى به جارنا بعدها قليلاً قبل أن يعود إلى مسكنه في تلك العمارة.
تصادف أن تكرر هذا المشهد أمامي مرتين في يومٍ واحدٍ وقت الأذان للصلاة! ففكرت في الأمر:
أعلم أن جارنا هذا مسلم، لا أراه ينزل للصلاة في المسجد، إلا لصلاة الجمعة، فأتعجب أينزل لقضاء حاجة الكلب ولا ينزل لسماع الأذان فيصلي مع الجماعة، والمسجد على بعد خطوات؟!
أراه يمشي مزهواً مع كلبه في طريقه لقضاء حاجته، فإذا مشى إلى المسجد لصلاة الجمعة من كل أسبوع مشى عبوساً، وربما اشتكى بعد انتهاء الصلاة من طول الخطبة!
لا أعلم شيئاً عن ظروفه المادية، لكن هل يمتلك جارنا هذا فائضاً مالياً لا يعرف فيما ينفقه فيخصصه للصرف على كلب؟ إني أعجب له؛ يشتري كلباً، ويخصص له جزءاً من مسكنه، ويأتي له بطعامٍ خاص، ويحافظ على نظافته ونظافة مرقده، ويوفر له احتياجاته، كل هذا يكلف مالاً، وجارنا نفسه وأسرته أولى بهذا المال! بل وربما لهذا الجار أقارب أولى بهذا المال من الكلب!
كلما مر أمام ناظري مشهد (جارنا وكلبه)، كلما جاهدت نفسي حتى لا أفكر في الأمر، أقول في نفسي: "دعك يا نفسي منه، لا تنشغلي بأمره إلى هذا الحد واهتمي بأمرك"، وأقول لنفسي:
لو نظرَ الناسُ إلى عيبهم  **  ما عابَ إنسانٌ على الناسِ
ومع ذلك أجد نفسي وقد انشغلت بذات المشهد مرة أخرى: ألا ينزعج جارنا من نُباح كلبه، خاصةً في الليل وقت أن يحتاج الفرد منا إلى الهدوء التام حتى يستطيع أن ينام؟ ألم يفكر في جيرانه، وكم منهم يزعجه ذلك النُباح فيدعو على الكلب وعلى صاحبه؟! ثم، ماذا يفعل بالكلب إذا مرض؟ وهل يوجد أطباء بيطريون قريبون منا؟ أم توجد مستشفى متخصص لعلاج الكلاب؟ وكم يتكلف علاج الكلب ودواؤه يا تُرى؟ ثم، ماذا يفعل جارنا هذا وأسرته إذا أرادوا الخروج من المنزل لنزهةٍ أو للتسوق أو لسفرٍ لعدة أيام؟ هل يتركون الكلب وحده أم يضطرون لأن يبقى أحدهم معه؟ أم يعيرونه لقريب أو صديق؟ ثم، وثم، وثم، ... مرة أخرى ألزم نفسي إلزاماً بالكف عن التفكير في أمرٍ لا يخصني، ليس لي فيه ناقةٌ ولا جمل! وأعود فأقول لنفسي: "يا نفسي: دعي الخلق للخالق، وكم من عيوبٍ فيكِ عليك أن تهتمي بإصلاحها قبل أن تنظري إلى عيوب الآخرين"، وأُذَكْرُها بقول الإمام الشافعي:
وعيناك إن أبدت إليك معايباً  **   فدعها وقلْ يا عينُ للناسِ أعينُ
ورغم ذلك تراني ما زلت أفكر في الموضوع: ربما ظن جارنا أن ما يفعله مع كلبه هو نوعٌ من الإحسان إليه؟! ألم يفكر في أنه لو ترك الخيار للكلب لرأى الكلب أن أفضل إحسانٍ إليه هو تركه يعيش حياته العادية التي خلقه الله لها، فما فائدة كل هذا الاهتمام والنعيم الذي يعيش فيه وهو محرومٌ من كلبةٍ تؤانسه وتشاركه حياته وجراء صغيرةٍ يرعونها؟!

ماذا أفعل؟ كيف أكف عن التفكير والنفس أمارةٌ بالسوء؟ والسوء في حالة (جارنا وكلبه) أن تفكر نفسي في كل هذه التفاصيل فأحسُ كما لو كنت أغتاب جارنا، ليس مع شخصٍ آخر وإنما أغتابه مع نفسي! أصارحكم القول: ما ألجمني، وجعل نفسي ترتدع عن الاستمرار في التفكير في موضوع (جارنا وكلبه) هو تذكري لحديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه: [من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه].

الغريب أنني اكتشفت أخيراً أني لم أكن وحدي في الانشغال بهذا الموضوع، حين سألني صديق من رواد المسجد، بعد أن رأى ذلك المشهد، عن حكم الإسلام في اقتناء الكلاب، وهل يمكن الصلاة في بيت به كلب؟ فوجئت بالسؤال ولم تكن لدي إجابة حاضرة له، ولا أحب بطبعي أن أفتي في أمرٍ بغير علم، فاكتفيت وقتها بالقول: "دعني أبحث لك عن هذا الأمر، ثم أخبرك بما أصل إليه"، شكرني وانصرف.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الإحسان إلى الحيوان مطلوبٌ شرعاً؛ يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: [فِي كُلّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْر]، ففي الْحديث الحث على الإحسان إلى الْحيوان. إن مفهوم الرفق بالحيوان بالنسبة للمسلم يجب أن يكون نابعاً من دين الله تعالى، فهو إحسانٌ وفق ضوابطَ شرعيةٍ وليس كما يهوى الإنسان، والكلب كحيوانٍ يُرفق به في حدود الضوابط الشرعية، ولا يعني هذا أن يصبح فرداً من أفراد العائلة، كما يفعل السفهاء في غير البلاد الإسلامية، فالذي أمر بالرفق هو الذي أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، بل هو الذي أخبر أن من اتخذ كلباً من غير ما يرخص فيه الشرع فهو ينقص من أجره؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةُ تَمَاثِيلَ]. قال العلماء: هؤلاء الملائكة الَّذِين لا يدخلون بيتًا فيه كلب أو صورة فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار، وأما الحفظة فيدخلون في كل بيت، ولا يفارقون بني آدم في كل حال، لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم، وكتابتها. رجح بعض العلماء أن عدم دخول الملائكة عامٌ في كل بيتٍ فيه كلب ولو كان مباحاً اتخاذه. وذهب بعض العلماء إلى أنها لا تدخل بيتاً فيه كلب يحرم اقتناؤه فقط، وهذا ما رجحته اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية بقولها: من اقتنى كلباً لصيدٍ أو حراسةٍ كان ذلك جائزاً له، فلا يمنع الملائكة من دخول البيت.
وفي صحيح البخاري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ]، كلبُ ضاريةٍ هو كلبُ الصيد. وفي صحيح مسلم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ زَرْعٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ صَيْدٍ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ]. والقيراط هنا هو مقدارٌ معلومٌ عند الله تعالى، والمراد نقص جزءٍ من أجر العمل، وكفى بنقص أجر العمل عقوبةً للمسلم. وللجمع بين رواية نقص قيراطٍ ورواية نقص قيراطين؛ يقول العلماء: ينقص من أجره قيراطان إذا كان الكلب أشد أذىً، وينقص قيراط إذا كان دون ذلك. وقال بعضهم: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أولاً بأنه ينقص قيراط، ثم زاد بعد ذلك العقوبة فأخبر بنقص قيراطين زيادةً في التنفير من اقتناء الكلب.
السؤال الآن: هل يجوز اقتناء الكلب لحراسة البيوت؟ الجواب: لم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم اقتناء الكلب إلا ثلاثة فقط، وهي: كلب الصيد، وحراسة الماشية، وحراسة الزرع. فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز اقتناء الكلب لسبب غير هذه الأسباب الثلاثة، وذهب آخرون إلى أنه يجوز أن يُقاس على هذه الثلاثة ما كان مثلها أو أولى؛ فيكون من الصحيح أنه يجوز اقتناء الكلاب لحفظ البيوت، فإذا جاز اقتناء الكلب لتحصيل منفعة كالصيد، فاقتناؤه لدفع مضرةٍ وحفظ النفس من باب أولى.
أما الصلاة في البيت الذي يُربى فيه كلبٌ فصحيحةٌ إن شاء الله تعالى إذا لم يمس بدن المصلي أو ثوبه أو مكان صلاته شيءٌ من لعاب الكلب أو بوله أو عذرته أو عرقه، فإن لمسه شيءٌ من ذلك وصلى به وهو يعلم فإن صلاته باطلةٌ تجب إعادتها.

نقلت ما عرفت إلى صديقي السائل، لكن ما أخذنا نفكر فيه، كيف ننقل ما علمناه حول هذا الأمر لجارنا صاحب الكلب؟ ربما لا يعلم الرجل حُرمة ما يفعل، وكما قال نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام: [لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبَّ لنفسه]؛ فقد استقر رأينا على أن نطلب من إمام المسجد أن يتحدث عن رأي الإسلام في اقتناء الكلاب في خطبة الجمعة القادمة، التي يحرص جارنا على الاستماع إليها، فوعدنا الإمام بأن يشير إلى ذلك بإيجاز في نهاية الخطبة الثانية.

أحبتي .. إذا كنتم ممن يقتنون الكلاب لغير ما أجازه الشرع فقد أصبح الأمر واضحاً تماماً بغير لبس، انتهوا عن هذا يرحمكم الله؛ فالمؤمن وقافٌ عند حدود الله ملتزمٌ بشرعه لا يتجاوزه؛ امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾، وسيبدلكم الله سبحانه وتعالى خيراً مما تركتموه تسليماً بما أمر به شرعه الحكيم.
أما الذين يقتنون الكلاب لغير حاجةٍ شرعيةٍ ويمارون ويجادلون فأخشى أن يكون أولئك ممن أُشربوا في قلوبهم الكلب، الذين ذم الله أمثالهم ممن أُشربوا في قلوبهم العجل فقال عنهم: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾، ثم ختم الآية بقوله: ﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾. أو أنهم عرفوا الحق وابتعدوا عنه ظلماً لأنفسهم وعلواً وكبراً وغروراً، وهؤلاء وصفتهم الآية الكريمة: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾. ندعو لأنفسنا ولأولئك ولهؤلاء بالهداية.
اللهم لا تجعلنا من العاصين، ولا تجعلنا من الجاحدين الظالمين، ويَسِّر لنا السير على صراطك المستقيم، والالتزام بسنة نبيك الكريم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/aepnbn

الجمعة، 17 فبراير 2017

قصة وعبرة


الجمعة 17 فبراير 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧١
(قصة وعبرة)

كان يا ما كان، في قديم العصر والزمان، كان هناك ملك يعيش في أمان، مع ابنته الوحيدة في قصر كبير يحيط به بستان، وكان باله دائماً مشغولاً بابنته فقد كان يحبها حباً شديداً، وعندما وصلت الأميرة سن الزواج، أخذ يفكر الملك كل ليلة: لمن سيزوج ابنته الأميرة الجميلة فيصبح زوجها أميراً وولياً للعهد يجلس علي العرش من بعده؟ كان الملك مشغولاً كثيراً بمستقبل ابنته وبالشاب المناسب لها الذي يسعدها ويحافظ عليها ويكون صهره الوفي العزيز.
وفي ليلة من الليالي نادى الملك أحد وزرائه وطلب منه الذهاب ليلاً إلى المسجد الكبير بالمدينة ليبحث بين المصلين عن شابٍ يصلح لأن يكون زوجاً لابنته، شابٍ فضل الدعاء والمناجاة والتقرب إلي الله عز وجل على النوم، فهذا هو أمير المستقبل الجدير بالزواج من ابنته. خرج الوزير من القصر متجهاً إلى المسجد ليبحث عن شابٍ بهذه المواصفات التي ذكرها له مولاه الملك ليكون زوج المستقبل لابنته الأميرة. في هذه الليلة تحديداً، قرر لصٌ أن يدخل إلى المسجد حتى يتمكن من سرقة المصلين أثناء انشغالهم بالصلاة، فوصل إلى المسجد قبل وصول الوزير وجنوده، لكنه وجد باب المسجد مغلقاً، فتسلق الجدران وقفز داخل المسجد، وبدأ يبحث عن أي شيءٍ ثمينٍ من محتويات المسجد يبيعه ويستفيد بثمنه، وخلال ذلك سمع صوتاً وكأن أحداً يحاول فتح باب المسجد، تحير كثيراً حينها أين يذهب؟ وكيف يتصرف؟ فكر سريعاً وقرر أن يمثل كأنه يصلي. في هذه اللحظة فتح الجنود الباب ووجدوا هذا الشاب يصلي، فقال الوزير في تعجبٍ شديد: "سبحان الله، من شدة شوق هذا الشاب للصلاة ورغبته في المحافظة عليها، دخل المسجد متسلقاً الجدران عندما وجد الباب مقفلاً ليؤدي صلاته!"، وأمر الجنود أن يحضروه بمجرد أن ينتهي من صلاته، كان اللص من شدة خوفه ما إن ينتهي من صلاةٍ حتى يبدأ أخرى كي لا يمسكون به، والجنود ينظرون إليه في تعجب من شدة تقواه وإيمانه وتعبده لله تعالى!، عندما طال انتظارهم أمرهم الوزير أن ينتظروا لانتهائه من صلاته ويمسكوا به بسرعة قبل البدء بصلاة جديدة، وبالفعل هذا ما حصل. أحضر الوزير والجنود اللص إلى قصر الملك، وعندما سمع الملك عن صلواته ومناجاته وعبادته المتواصلة قال له في فخر: "لعلك الشخص الذي أبحث عنه منذ مدة، ولتقواك وإيمانك سأزوجك ابنتي الوحيدة لتصبح أميراً!"، بُهت الشاب ولم يُجب من شدة المفاجأة وهو لا يصدق ما تسمعه أذناه. عندما انتهى الملك من كلامه عن إعجابه به وبإيمانه الشديد وصفاته الرائعة، أنزل اللص رأسه في خجل وهو يقول في نفسه: "إلهي، جعلتني أمیراً وزوجتني ابنة الملك لصلاةٍ مزيفةٍ تصنعتها .. فكيف كانت هديتك لي لو أني عبدتك مؤمناً مخلصاً؟"، ومن لحظتها عاهد الله سبحانه وتعالى على أن يعبده مؤمناً مخلصاً ويؤدي جميع العبادات على أتم وجه، شكراً وعرفاناً، وطمعاً في أن يغفر الله له ذنوبه وسيئاته. وَفَّىَ الشاب التائب بعهده وصار من الصالحين، وتزوج الأميرة الجميلة وعاشوا في سعادة.

هذه قصةٌ من القصص التي تُروى للأطفال قبل النوم، فيها عناصر التشويق المعهودة: ملك، أميرة، وزير، جنود، لص، أمير، ثم انتهاء القصة بزواج الأمير والأميرة. حبكة القصة محببةٌ للأطفال وهم يتصورون بخيالهم البكر هؤلاء الأشخاص الذين تتحدث القصة عنهم، فتراهم يستمعون منصتين كأن على رؤوسهم الطير، يعيشون القصة بتفاصيلها مشدودين إلى وقائعها، وفي ذهن كلٍ منهم ملامح وملابس خاصة بكل شخصٍ من شخوص القصة، ويذهب خيالهم إلى تصور مكان هذه الوقائع والأحداث، ويسعدون بالخاتمة السعيدة للقصة، ويستفيدون مما فيها من عبرة التوبة إلى الله؛ فهي (قصة وعبرة) في ذات الوقت.

أحبتي في الله .. بعد أن انتهيت من حكاية هذه القصة على أحفادي كي يناموا، وأنهيتها كما نُنهي حواديت قبل النوم بالعبارة المشهورة: "وعاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات"، نام الأحفاد سعداء بهذه الخاتمة، أما أنا فقد وجدت نفسي أفكر في تلك القصة من منظورٍ آخر مختلف، منظور الكبار:
فهذا رجلٌ أتاه الله الملك، فاتقى الله وكان صالحاً، لا نزكيه على الله، لكن أن يختار لابنته زوجاً مؤمناً فيشترط أن يكون من عُمَّار المساجد المصلين الورعين، فكأني به وقد التزم بحديث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام [إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ...]، بل إنه لم ينتظر أن يأتي إليه الخاطب فاتبع نهج سيدنا شعيب رضي الله عنه بأن بادر بعرض ابنته للزواج من الشاب الصالح؛ يقول تعالى على لسان نبيه شعيب: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾. كما أن هذا الملك الذي نحسبه صالحاً لم يسعَ لتزويج ابنته كما جرت العادة من ابن ملك آخر أو وزير أو من شخص ذي جاه أو مال وإنما اختار لابنته الشاب ذا الدين، وكأن هذا الملك قد اتخذ من خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدوةً حسنةً عندما كان يعس [يتفقد أحوال الرعية] بالمدينة؛ فإذا به يسمع امرأة تقول لابنتها: "يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه [اخلطيه] بالماء"، قالت: "يا أماه! أَوَ ما علمتِ بما كان من عزمة [أمر] أمير المؤمنين؟"، قالت: "وما كان من عزمته يا بنية؟"، قالت: "إنه أمر مناديه فنادى: لا يُشاب اللبن بالماء"، فقالت لها: "يا بنية قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك بموضعٍ لا يراك عمر ولا منادي عمر"، فقالت الصبية: "والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء". وكان عمر رضي الله عنه يسمع كل ذلك، فقال لمرافقه أسلم: "يا أسلم! عَلِّم الباب، واعرف الموضع"، ثم مضى في عسسه. فلما أصبح قال: "يا أسلم امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها، وهل لهم بعل؟"، فأتى أسلم الموضع فنظر فإذا الجارية أيِّمٌ لا بعل لها، وإذا هاتيك أمها ليس لها رجل، فأتى عمر فأخبره. وكأني بعمر رضي الله عنه يتذكر حينئذ حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ]؛ فها هو قد دعى أبناءه فقال لهم: "هل فيكم من يحتاج إلى امرأة فأزوِّجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحدٌ إلى هذه الجارية". فقال عبد الله: "لي زوجة"، وقال عبد الرحمن: "لي زوجة"، وقال عاصم: "يا أبتاه لا زوجة لي، فزوجني". فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم فأنجبا ليلى.
أتدرون أحبتي مَن هي ليلى؟
إنها أم خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز!
انظروا إلى معيار الاختيار، إنه الدين، إنه ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، انظروا إلى ثمرة هذا الزواج المبارك: عمر بن عبد العزيز، الذي كانت سيرته مثالاً عظيماً، ومضرباً للمثل، في عدله، وزهده، وحُسن خلقه. قالت عنه زوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان: "دخلتُ يوماً عليه وهو جالس في مصلاه واضعاً خدَّه على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمتُ نفسي، فبكيت"!. وقالت: "ما رأيتُ أحداً أكثر صلاة وصياماً منه، ولا أحد أشد فرقاً من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها"!.
وهذا وزيرٌ أمين، لم ينتهز فرصة أمر الملك له للبحث عن شابٍ يصاهره فطمع في تزويج الأميرة بأحد أبنائه أو أقاربه أو معارفه، وإنما كان أميناً والتزم بالمواصفات التي حددها له الملك في صهره؛ وكأني بهذا الوزير يتمثل قول الله فيما يتعلق بالأمانة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، وقوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾.
وهؤلاء جندٌ مخلصون مطيعون لأولي الأمر، ملتزمين بالأمر الرباني: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾، ينفذون أوامر قائدهم فيما لا معصية فيه للخالق سبحانه، منفذين أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: [لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق].
وهذا شابٌ دخل المسجد سارقاً وخرج منه أميراً، قادته فطرته النقية الصادقة إلى التوبة، وجعلته يشكر الله سبحانه وتعالى ويعاهده على الاستقامة. لقد استدرك ما فات في حياته من سيئات وأراد أن تكون توبته عن ذنوبه توبةً نصوحاً فاستجاب له المولى عز وجل، كأني به وقد فعل مثل ما فعل كثيرٌ من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام حينما كانوا قبل الرسالة في جاهليةٍ تجعل ارتكابهم للذنوب والخطايا أمراً عادياً فلما أن هداهم الله للإسلام تابوا عن كل ذنب وأقلعوا عن كل معصية وتحولوا في لحظات صدق مع النفس إلى مصلحين مجاهدين نشروا دين الإسلام في جميع أنحاء الأرض تاركين ملذات الدنيا وراء ظهورهم فنفعوا أنفسهم ودينهم وانتفعنا نحن من سيرهم العطرة وتعلمنا منهم الدروس والعبر.
وهذه ابنةٌ وثقت بأبيها ورضيت بمن اختاره لها زوجاً، وكأنها في ذلك تتمثل سلوك بنات الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. حرصت على طاعة والدها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد]. لقد أنعم الله عليها بالأب الصالح، وصلاح الأب سببٌ للخير لأبنائه كما تخبرنا الآية الكريمة: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾، ولأنها كانت ابنةً طيبةً أطاعت والدها الصالح أنعم الله عليها بزوجٍ طيبٍ يرعى الله فيها؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾.
وهذا مسجدٌ، هو بيتُ الله، مكانُ الخير، يدخله العاصي فيخرج منه تائباً، ويدخله المذنب فيخرج منه وقد غُفرت له ذنوبه. إنه مكانٌ يُبحث فيه عن الناس الصالحين، فهم من يعمرون تلك المساجد، وهم الذين قلوبهم معلقةٌ بها، هم المؤمنون، وهم المتطهرون، فهي أحب الأماكن إلى الله سبحانه وتعالى؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [أحب البقاع إلى الله مساجدها ...]، فهي أول الأماكن التي يبحث فيها أولو الأمر عن الشباب الصالحين ويسعون إلى مصاهرتهم.

أحبتي .. كانت تلك (قصة وعبرة)، العبرة منها أنه لو أن كل بلد من بلادنا الإسلامية وُجد فيها الحاكم الصالح، والوزير الأمين، والجنود المخلصون، والعصاة الذين يبادرون بالتوبة ويتحولون إلى رجالٍ صالحين، والبنات اللاتي يثقن في آبائهن ولا يخالفونهن، والمساجد التي يعمرها ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّه﴾، لصلح الحال، وسعد الناس، حين يسيرون على نور الله وهدي شريعته الغراء، ولأهدوا البشرية جمعاء النموذج الذي يُقتدى به والمثال الذي يُحتذى لدولة الحق والعدل والسلام.
ومن العبر كذلك أحبتي ألا نتسرع في الحكم على العصاة منا؛ بل علينا أن نساعدهم على التوبة ونأخذ بأيديهم، ففي قلب كلٍ منهم بذرة خير، لنبحث عنها معهم ونساعدهم على أن يرْونها بدموع الندم والتوبة الصادقة ويرعونها بإخلاص النية لله سبحانه وتعالى ويتعهدونها بالعمل الصالح لتثمر إيماناً قد يكون في ميزان المولى أفضل من إيماننا نحن، فالله سبحانه وتعالى يفرح بعودة التائب كما أخبرنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: [لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةً عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح]. وما أجمل شعور الإنسان المسلم حينما يوفقه الله سبحانه وتعالى في أن يكون سبباً في هداية عاصٍ؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُـمر النعم]. ثم إن علينا أن نتذكر دائماً الآية الكريمة: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾.
أحبتي .. لم تكن هذه مجرد (قصة وعبرة)، بل كانت قصةً واحدةً وعدة عبر ..
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واهدنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، وتقبل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/8YpYAv

الجمعة، 10 فبراير 2017

الصحة

الجمعة 10 فبراير 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٠
(الصحة)

"أين أنتِ؟ لماذا تأخرتِ؟ أخبريني متى الوصول؟"، كانت هذه أسئلة وجهتها بلهفةٍ إلى (الصحة)!
نعم وجهت هذه الأسئلة إلى (الصحة) التي يبدو إما أنها قد ضلت طريقها إليّ أو أنها تسير ببطء لا أعلم له سبباً؛ لهذا كنت أسألها.
إنها (الصحة) التي كان يسأل عنها كل من يتصل بي خلال الشهر الأخير حيث أُصبت بنزلة بردٍ كانت شديدةً في أعراضها، تركت لدي إحساساً بأن لها رغبةً في أن تكون نزلةَ بردٍ متفردةً مبدعةً حين أصرت على أن تترك بصمةً خاصةً في إنهاك بدني بكل ما تستطيع من حِيَل، ثم أسلمت الراية لسعالٍ  أبىَ إلا أن يرافقني لأسبوعين كاملين مستهزئاً بجميع أنواع الأدوية التي كنت أتناولها للتخفيف من حدته، رغم أنه سلم في النهاية ورفع الراية البيضاء أمام مشروب ورق الجوافة الساخن المُحَلىَ بعسل النحل، مسلماً عهدته إلى نوعٍ من عِرق النَسا والتهابٍ شديدٍ في العضلات ما زال يقاوم حتى الآن جميع الحقن والحبوب التي أوصى بها الطبيب الاستشاري.
طوال هذه الفترة لم أكن أفكر سوى في شيءٍ واحدٍ فقط هو متي يَمُّن الله عليّ بالعافية و(الصحة)، وكان كل من يتصل بي يسألني عن (الصحة)، فكان من الطبيعي أن أحلم بها.
هكذا، وفي غفوةٍ من غفوات الظهيرة كانت بداية الحُلْم، حين سألت (الصحة) تلك الأسئلة: "أين أنتِ؟ لماذا تأخرتِ؟ أخبريني متى الوصول؟!".
ردت (الصحة) قائلةً بخبث: "لم العجلة؟"، قلت: "لو تبادلنا الأدوار لكنتِ أحسستِ بما أحس به الآن، المهم متى تأتين يا عزيزتي؟ أنا وجميع أحبتي في انتظارك"، قالت: "لكل شيء سبب، فهل أخذت بالأسباب؟"، قلت: "نعم"، سألتني: "هل أنت متأكد من إجابتك؟"، قلت بثقة: "نعم، هل لديك شكٌ في ذلك؟"، قالت: "لعلك تركت الأمر في بدايته بغير تداوٍ، ثم لما اشتد عليك المرض سألت أصدقاء لك عن العلاج المناسب ولم تذهب إلى طبيبٍ متخصص"، قلت وأنا مُحْرَج: "هذا بالفعل ما حدث"، تابعت كلامها: "وكلُ واحدٍ منهم أعطاك وصفةً مختلفة"، سكت ولم أعلق، استمرت تقول: "ثم بدأت تأخذ هذا العلاج مرةً وذلك العلاج مرةً ثم تعود فتجمع بين أكثر من علاج"، قلت بصوت منخفض: "صدقتِ"، قالت: "وتريد بعد كل هذا أن أصل إليك؟"، قلت: "أتمنى هذا"، قالت: "لقد اقتربتُ منك قليلاً عندما كنتُ أسمعك تدعو الله سبحانه وتعالى بالشفاء"، قلت مقاطعاً: "تقصدين عندما كنت أقول: {بسم الله} ثلاثاً، و{أعوذ بالله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر} سبع مرّات؟"، قالت: "نعم، ولو أنك كنت قد أخذت مع الدعاء بالأسباب وذهبت من البداية إلى طبيبٍ متخصص لكانت سرعة وصولي إليك أكبر. ألا تعلم أن على المريض أن يبحث عن العلاج لدى أهل الاختصاص؟ انظر ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة عندما سألوه: يا رسول الله، هل علينا جُناحٌ أن لا نتداوى؟ قال: [تداووا عباد الله، فإن الله سبحانه لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً إلا الهرم]، فالمريض عليه أن يأخذ بالأسباب ثم يتوكل على الله لأنه هو وحده الشافي، ولا يجوز للمريض أن يهمل التداوي باسم التوكل، لأن التوكل يعني الأخذ بالأسباب لقوله عليه الصلاة السلام: [اعقلها وتوكل]، والله سبحانه وتعالى يأمر بسؤال أهل الاختصاص في كل علم؛ قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، إن إهمال العلاج أو التداوي حرامٌ شرعاً وخطرُه عظيمٌ على المريض نفسه؛ فقد يؤدي بنفسه إلى الهلاك، والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾". قلت في نفسي لماذا لا أسأل (الصحة) عن الحكمة من المرض؟ قالت كما لو كانت قد قرأت أفكاري: "يبدو لي عزيزي أنك لا تعرف حكمة الله سبحانه وتعالى من مرض الإنسان؛ دعني أوضح لك ذلك؛ الحكمة من ابتلاء الله عباده بالمرض: استخراج عبودية الضراّء وهي الصبر؛ إذا كان المرء مؤمناً حقاً فإن كل أمره خير، كما قال عليه الصلاة والسلام: [عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له]. وتكفير الذنوب والسيئات؛ فالمرض سببٌ في تكفير الخطايا التي يقترفها الإنسان بقلبه وسمعه وبصره ولسانه، وسائر جوارحه. كما أن المرض قد يكون عقوبةً على ذنبٍ وقع من العبد؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ما يصيب المؤمن من وَصبٍ، ولا نصبٍ، ولا سقَمٍ، ولا حزنٍ حتى الهمّ يهمه، إلا كفر الله به من سيئاته]. والصبر على المرض يُكسب العبد الحسنات ويرفع له الدرجات؛ فقد تكون للعبدِ منزلةٌ عظيمةٌ عند الله سبحانه وتعالى، لكن العبد لم يكن له من العمل ما يبلغه إياها، فيبتليه الله بالمرض وبما يكره، حتى يكون أهلاً لتلك المـنزلة ويصل إليها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إن العبد إذا سبقت له من الله منـزلةٌ لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبّره على ذلك، حتى يبلغه المنـزلة التي سبقت له من الله تعالى]. والمرض سببٌ في دخول الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطىَ أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قُرِّضت بالمقاريض]. وهو سببٌ للنجاة من النار؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمريضٍ يعوده: [أبْشر فإن الله عز وجل يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة]. وفي المرض ردٌّ للعبد إلى ربه وتذكيره بمعصيته وإيقاظه من غفلته؛ فمن فوائد المرض أنه يرد العبد الشارد عن ربه إليه، ويذكره بمولاه بعد أن كان غافلاً عنه، ويكفه عن معصيته بعد أن كان منهمكاً فيها. وأخيراً فإن البلاء يشتد بالمؤمنين بحسب إيمانهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط]". قلت: "ومع الأخذ بالأسباب لابد من مواصلة الدعاء"، قالت: "هذا صحيح؛ على المريض أن يتسلح بالدعاء والتوجه إلى الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، وكم من مريضٍ توجه إلى الله ودعاه في أوقاتٍ يُستجاب فيها الدعاء فشفاه الله تعالى، والقَصص في هذا المقام كثيرةٌ، فالله تعالى يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، وهو القائل: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾"، قلت: "لكن الصبر على آلام المرض وأوجاعه صعب، أليس كذلك؟"، قالت: "بلى، لكن الثواب كما تعلم بقدر المشقة، لا بد أن يتحلى المؤمن المبتلىَ بالمرض بالصبر؛ فقد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار امرأةً مريضةً فوجدها تلعن الداء وتسب الحمى فكره منها هذا المسلك وقال لها مواسياً: [إنها - أي الحمى - تُذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد]، فالمؤمن يصبر ويحتسب أجره عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [ما من مسلمٍ يصيبه نصبٌ ولا همٌ حتى الشوكة يشاكها إلا كُتب له بها أجر]. ولو أنك تدبرت قصة أيوب عليه السلام لوجدته يشكو لربه يقول: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ فيستجيب له المولى عز وجل لأنه كان صابراً ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾، وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام قد ابيضت عيناه من الحزن على فقدانه ولده يوسف عليه السلام لكنه كان صابراً ولم يشكُ حاله إلا لله ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾، وهذا يونس عليه السلام يدعو الله وهو في بطن الحوت ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. ثم هذا المصطفى عليه الصلاة والسلام لما تُوفي عمه أبو طالب خرج إلى الطائف ماشياً على قدميه يدعو أهلها إلى الإسلام فلم يجيبوه ولقى الكثير من أذاهم وقد أرسلوا صبيانهم يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه الشريفتان فانصرف فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: [اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك]. هؤلاء يا عزيزي خير البشر قد تعرضوا للمرض وما هو أكثر من المرض فصبروا ودعوا الله فاستجاب لهم"، قلت: "ونعم بالله، لكن دعيني أسأل: هل يكون المرض عذراً لعدم أداء العبادات؟". قالت: "لقد جاءت التشريعات الاسلامية تراعي أحوال المريض في صلاته وصيامه ونحو ذلك؛ فمن مراعاة الشريعة في فريضة الصوم، قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، وفي فريضة الصلاة، بإمكان المريض أن يصلي على الحالة التي يستطيعها لقوله عليه الصلاة والسلام: [صلِ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فصلِ على جنبك، فإن لم تستطع فمستلقياً]، ثم إن على المريض أن يقوم بواجباته الدينية قدر استطاعته، من تلاوة القرآن الكريم والذكر الحكيم، حيث ينشرح الصدر ويطمئن القلب، قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾". قلت منبهراً بما عرضته (الصحة) من معلومات مفيدة وما قدمته من نصائح قيمة: "زادك الله علماً"، ردت دون إبطاء: "إنما أنا أنقل لك ما قاله أهل العلم بارك الله فيهم".
قلت مستعطفاً: "المهم أن تأتي سريعاً، فقد تعبت. لم أعد أحتمل"، قالت: "لن آتي قبل موعدي ولا بعده، فأنا جندي من جنود ربك؛ لا آتي إلا بميعاد، ما عليك صديقي سوى الدعاء والأخذ بالأسباب مع الصبر والشكر"، سألتها راغباً في الاستزادة من علمها: "أأشكر على المرض؟"، قالت مستنكرةً سؤالي: "بالتأكيد! كأنك نسيت ما حدثتك به عن حكمة الله سبحانه وتعالى من ابتلاء العباد بالمرض. ثم إن عليك أن تشكر الله عز وجل أنك لم تُصَب بأكثر مما أُصبتَ به؛ انظر حولك أو قم بزيارة لأية مستشفى تعرف مدى رحمة ربك بك وتدرك كم كان رؤوفاً معك. ثم إنك لو تعلم ما يدخره لك ربك من ثوابٍ على دعائك له وعلى صبرك على ما ابتلاك به لطلبت مني أن أتأخر في الوصول إليك لا أن أسرع!". سكتت (الصحة) لحظة ثم قالت: "أنا عاتبةٌ عليكم معشر البشر، لا تتذكروني وأنا معكم، بل وقليلٌ منكم من يشكر الله سبحانه وتعالى على عدم مفارقتي له، لكن ما أن أغيب لفتراتٍ تقصر أو تطول إذا بكم تتذكروني وتلحون علي في العودة إليكم وتدَّعون أنكم تحبونني ولا تستطيعون الاستغناء عني أو العيش بدوني، هذا أمرٌ غريب. والأغرب منه، أني إذا جئتكم بعد غيابٍ تعودون لنسياني مرةً أخرى! أهكذا تتعاملون مع من تحبون؟!"، قلت وأنا أكاد أذوب خجلاً مما تقول: "معك كل الحق في عتابك، لكن هذه هي طبيعة الإنسان فُطر عليها؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾، ويقول عز وجل: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾، وفي ذات المعنى يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ] وقدم (الصحة) على الفراغ كما تَرَيْن، ثم هل نسيتِ القولة المشهورة: {(الصحة) تاجٌ فوق رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى}".
أردت تغيير مجرى الحديث فسألتها عسى أن أسمع منها ما أتمنى سماعه: "المهم الآن عزيزتي، متى سوف تشرفينني بحضورك؛ فآلام المرض مبرحة؟"، قالت بدلال: "لن آتي إلا بشروطٍٍ ثلاثة"، قلت دون تردد: "موافقٌ عليها سلفاً؛ فلم أعد أطيق الانتظار"، قالت موضحةً شروطها: "أن تكون ثقتك كاملة وبلا أي شكٍ في أن الشفاء هو بيد الله سبحانه وتعالى وحده، وأن تستمر في الدعاء، وأن تأخذ بالأسباب من علاجٍ يصفه لك الطبيب المختص وراحةٍ لابد منها"، قلت: "أوافق على جميع شروطك، فقط دعيني أعود لسؤالي الأول: أخبريني متى الوصول؟"، قالت بتمهل وهي تحس لهفتي: "دعني أراجع مواعيدي وارتباطاتي!"، فتحت حقيبةً كانت في يدها، وأخرجت منها سجلاً، وبدأت تقلب صفحاته .. لحظاتٌ من الصمت مرت متثاقلةً .. ثم تابعَتْ ببطء وكأنها تتعمد حرق أعصابي: "حرف الميم .. حرف الميم .. ها هو حرف الميم .. وها قد وجدت اسمك .. دعني أنظر في خانة تاريخ الوصول"، قلت وقد أوشك صبري على النفاد: "هيا أسرعي، أخبريني، متى تاريخ الوصول؟ أقريبٌ هو أم بعيد؟ أرجوك .. أكاد أُجن"، قالت بأعصابٍ باردة: "طالما تلتزم بالشروط الثلاثة سأصل إليك عزيزي يوم ..."، لم تكمل الجملة الأخيرة، إلا وزوجتي توقظني من غفوتي وتسألني: "كيف هي (الصحة) الآن؟"، أجبتها: "كانت معي منذ لحظات"، نظرت زوجتي إليّ باستغرابٍ سائلةً: "من هي تلك التي كانت معك منذ لحظات؟"، قلت وأنا نصف نائم: "(الصحة)!"، وأضفت: "لو كنتِ تركتيني لثوانٍ لكنتُ عرفت الآن متى تصل وأُشفىَ من مرضي!"، قالت زوجتي وهي تنظر إليّ أريد النزول من سريري ولا أستطيع: "سلامة عقلك! يبدو أن الغطاء قد انكشف عنك وأنت نائم، أو أنك بدأت تعاني من آثار حمى أصابتك!".

أحبتي في الله ..  كان هذا حُلم ليلةٍ من ليالي المرض .. أبعده الله عنا وعنكم وعافانا وعافاكم من كل أشكاله وألوانه .. فقد كنت أحلم ب(الصحة) وأنا مريضٌ كما يحلم الجائع برغيف الخبز!

أحبتي .. فلندعو الله سبحانه وتعالى لأنفسنا وأهلينا وأحبائنا بالشفاء من كل داءٍ نعلمه أو لا نعلمه: "اللهم اذهب البأس ربَ الناس، اشفِ وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً. بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك من عظيم لطفك وكرمك وسترك الجميل أن تشفينا وتمدنا ب(الصحة) والعافية. ربنا لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، إنك على كل شيء قدير".

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/HpxMAk