الجمعة، 28 أكتوبر 2016

من أركان الإسلام

28 أكتوبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٥
(من أركان الإسلام)

من حوالي شهرين كنت أشاهد برنامجاً دينياً على إحدى القنوات الفضائية يتحدث فيه شيخ وقور عن فريضة الحج .. تحدث وأفاض عن مشروعية الحج وارتباط شعائره بقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام ومحاجاته لأبيه ولقومه، وما فعله بالأصنام، وقصة وضعه في النار وإنقاذ الله سبحانه وتعالى له منها، وإفحامه للنمرود، ثم مفارقته قومه وعشيرته وتركه أهله في صحراء قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، وكيف نبع ماء زمزم لتشرب منه السيدة هاجر وولدها إسماعيل وتتجمع حولهما قبيلة جرهم، ثم عرج على قصة بناء الكعبة برفع سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل القواعد من البيت، وتحدث عن قصة رؤيا سيدنا إبراهيم -ورؤيا الأنبياء حق- أنه يذبح ابنه إسماعيل وامتثاله هو وابنه لأمر الله، وفداء الله سبحانه وتعالى إسماعيل بذبح عظيم في اللحظة التي كان الابن فيها راقداً مستسلماً في انتظار الذبح والسكين في يد أبيه. شدني حديث الشيخ الوقور لسلاسته وربطه بين تلك الأحداث والمواقف وما يحدث في شعيرة الحج كل عام. وكان مما استشهد به الشيخ في هذا المقام قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، بعد أن أتم الشيخ حديثه بدأ في تلقي أسئلة المشاهدين عبر الهاتف، وإذا بإحدى المشاهدات تسأل الشيخ: "لماذا اختص الله سبحانه وتعالى الرجال بهذه العبادة دون النساء، رغم أن الحج هو (من أركان الإسلام) للجميع رجالاً ونساء؟"، في بداية رده استنكر الشيخ ذلك وقال أن الحج فريضة على جميع المسلمين سواءً في ذلك الرجال والنساء .. ثم انتبه لمقصود المشاهدة فسألها: "أتقصدين كلمة *رجالاً* التي وردت بالآية الكريمة؟"، قالت: "نعم، لماذا الرجال فقط؟"، علت ابتسامة على وجه الشيخ كادت أن تخرجه عن وقاره وقال لها: "رجالاً في هذا الموضع لا تعني الذكران من البشر وإنما تعني من يأتون للحج يمشون على أقدامهم؛ فهي ليست جمع رجل وإنما جمع راجل، والمقصود بهم القريبون من البيت الحرام الذين يتوجهون إليه مشياً على أرجلهم، ويبين الجزء الثاني من الآية الشريفة الصنف الآخر من الناس وهم البعيدون عن البيت العتيق الذين يأتونه للحج ركباناً على الرواحل".
وسأل مشاهد آخر عن معنى {السبيل} المذكور في الآية الكريمة: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، أجاب الشيخ بأن السبيل للقريب من البيت الحرام سهل هين، وأما سبيل البعيد فهو كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن السبيل: [الزاد والراحلة]، فقال المشاهد: "أملك ما يكفي من المال لأداء فريضة الحج لكني في حاجة لهذا المال لشراء مسكن، فأيهما أولى؟"، رد الشيخ بذكاء: "هل تضمن لنفسك الحياة بعد أن تنتهي من شراء المسكن، وتضمن أن يتوفر لك مال آخر يكفي للحج؟ إذا كنت تضمن ذلك فلا تذهب للحج واشترِ المسكن"، قال المشاهد: "لا أضمن"، رد الشيخ: "إذن عليك بالحج استكمالاً لدينك ووفاءً لعهدك مع الله سبحانه وتعالى، وهو الرزاق الكريم؛ إذا قبل منك حجك فهنيئاً لك مسكنك الدائم في الجنة، ووفقك الله بإذنه تعالى ويسر لك شراء مسكنك الزائل في الحياة الدنيا".

أحبتي في الله .. استوقفني فيما شاهدته المدى الذي وصل إليه كثير من الناس في فهمهم ووعيهم بأصول دينهم .. فالحلقة كانت مخصصة لعبادة ذكر النبي أنها (من أركان الإسلام) في قوله عليه الصلاة والسلام: [‏بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ ‏ ‏مُحَمَّدًا ‏‏رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ]، أي أن معرفتنا بعبادة الحج وحكمها ومشروعيتها وعلى من تجب هي من الأمور التي ينبغي أن تكون معلومة لنا من الدين بالضرورة .. ومع ذلك فبعض المسلمين معلوماتهم عنها إما خاطئة مغلوطة وإما ضحلة قليلة.
كما استوقفني الحديث عن {السبيل} أو {الاستطاعة}، فكم من شخص مسلم عزيز عليّ من الأقارب والأصدقاء والجيران يفهمون {الاستطاعة} فهماً قاصراً يجعلهم يقدمون الكثير من الأشياء على أداء فريضة الحج! البعض ممن أعرف توفر لديه المال الكافي بالفعل لتأمين الزاد والراحلة لكنه قدم شراء سيارة جديدة أو تملك شاليه على البحر أو السفر في رحلة سياحية إلى أوروبا على أداء فريضة الحج التي هي (من أركان الإسلام) الثابتة والمؤكدة بنص كتاب الله وسنة رسوله والتي لا شك فيها ولا خلاف عليها، حتى إن بعض من أعرف قد تُوفي إلى رحمة الله من غير أن يؤدي هذه الفريضة. وإن تعجب فاعجب لحال من لديهم الاستطاعة بالفعل ولا يفكرون في أمر الحج، حتى تحسب أنهم أسقطوا من حساباتهم تماماً فكرة أداء فريضة الحج وكأنها ليست (من أركان الإسلام)!

أحبتي .. يقول أهل العلم عن الحج  -بفتح الحاء وكسرها- أنه: قَصْدُ بيت الله الحرام؛ إقامةً للنُّسك، وهو فرض عين مرَّة في العمر، ثبتَ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، يجب على كلِّ مسلم حُرٍّ مُكلَّف، سليمٍ، قادرٍ على النفقة، لدَيه ما يكفي أسرتَه ومَن تلزمه نفقتُهم مدَّة الحج، أمَّا المرأة فلا تخرج للحجِّ إلاَّ برفقة زوجها، أو مع مَحْرمٍ لها، أو نسوةٍ ثقات. قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِله﴾، وقال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، وقال كما أسلفنا: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾. وفي الحديث النبوي الشريف عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يا أيُّها الناس قد فرَض الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا]. وقال مبيناً جزاء الحج المبرور: [الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة]، ومبشراً بمحو كل الذنوب والخطايا بقوله صلى الله عليه وسلم: [من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجعَ كما ولدَتْه أمُّه]، فهل من عاقل يضيع على نفسه هذا الجزاء الموعود ويهدر فرصة لا تُعوض لمحو الذنوب والخطايا؟
إلى أحبائي ممن تركوا أداء فريضة الحج وهم مستطيعون أقول: استحضروا وقوفكم بين يدي المولى سبحانه وتعالى للحساب يسألكم عن أركان دينكم، ما أتيتم منها وما تركتم .. لماذا تضيعون على أنفسكم فرصة الحج عاماً بعد عام؟ هل ضمنتم لأنفسكم الحياة حتى تتوفر لديكم إمكانات أخرى؟ وهل إذا أنعم عليكم الله بالحياة والمال هل تضمنون صحة أبدانكم التي تساعدكم على الوفاء بجميع مشاعر الحج وتحمل مشقة السفر والمناسك؟ ثم، هل إذا توافرت لديكم أموال أخرى في المستقبل ألن تحدثكم أنفسكم مرة أخرى بالإنفاق على أغراض أخرى زائلة وإرجاء الحج إلى حين ميسرة قد لا تأتي أبداً؟؛ فالنفس أمارة بالسوء يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، ويقول الرسول الكريم: [مَن أراد الحجَّ فليتعجَّل؛ فإنَّه قد يَمْرض المريض، وتضلُّ الضالَّة، وتَعْرض الحاجة]؛ فعجلوا بالحج أحبتي قبل أن يطرأ ما يَحُول بينكم وبين الحجِّ؛ فتفوت عليكم فرصة أخرى، ويضيع منكم خير كثير. سارعوا إلى أداء فريضة الحج التي هي (من أركان الإسلام)، من قبل أن يأتي يوم يصفه المولى عز وجل في الآية الكريمة: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم


https://goo.gl/S9GYCa

الجمعة، 21 أكتوبر 2016

القدوة الحسنة

الجمعة 21 أكتوبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٤
(القدوة الحسنة)

شكى لنا من ابنه طالباً النصيحة: "لا يصلي، ماذا أفعل معه؟"، سأل أحدنا: "كم عمره؟"، أجاب: "١٣ سنة"، سأل آخر: "وهل كان يصلي من قبل؟"، رد: "ليس دائماً"، واستمرت الأسئلة وتوالت الإجابات، ثم بادر كل شخص من المشاركين في هذا اللقاء بتقديم ما يراه من نصائح ومقترحات تعين صديقنا على إقناع ابنه الصبي الذي تجاوز أو كاد عتبة مرحلة المراهقة بضرورة الانتظام في الصلاة، وركز معظمهم على أهمية (القدوة الحسنة).
أما أنا فلم أبدِ أي رأي منتظراً مناسبة أنفرد بها بهذا الصديق، حيث تربطني به علاقة خاصة، فلما واتتني الفرصة ابتدرته سائلاً عن ابنه وأخباره، قال لي: "ما زلت في حيرة من أمري معه في موضوع الصلاة"، باغتُّه بسؤال لم يتوقعه: "وهل أنت منتظم في أداء صلواتك؟"، تردد قليلاً لكنه أجاب: "تعرف طبيعة عملي واضطراري بعض المرات لعدم الصلاة"، واستدرك: "لكني أحب أن يكون ابني أحسن مني، أليس هذا ما يتمناه كل أب؟"، قلت: "بلى كلنا يتمنى هذا، لكن لا تنس أننا كآباء قدوة لأبنائنا، يتعلمون منا كل شيء، يتعلمون كثيراً مما نعمل، ويتعلمون أكثر مما لا نعمل"، قال مقاطعاً: "لم أفهم عبارتك الأخيرة، أقلت يتعلمون مما لا نعمل؟"، أجبت: "نعم، يتعلمون ألا يفعلوا ما لا نفعل كما يتعلمون أن يفعلوا ما نحرص على فعله. الأطفال ينظرون إلى الأب ليس كقدوة في الأمور الطيبة والصحيحة فقط وإنما في كل الأمور .. إننا بالنسبة لهم (القدوة الحسنة) .. لم تتشكل لديهم بعد منظومة قيم خاصة بهم يستطيعون أن يفرقوا بها بين ما هو طيب وما هو غير طيب .. ولا يمتلكون خبرات تمكنهم من التفرقة بين ما هو صحيح وما هو غير صحيح .. هم فقط يستنسخون أفعال وأقوال آبائهم ويعتبرونها كلها طيبة وصحيحة .. وواضح أنك لم تكن يا صديقي (القدوة الحسنة) بالنسبة لابنك؛ لذلك دعني أقولها لك بصراحة: إنك أنت السبب في عدم تعود ابنك على الصلاة .. هل كنت تأمره بالصلاة وسنه سبع سنوات؟"، قال: "سبع سنوات؟ بالطبع لا، كان ما يزال صغيراً، ماذا يفهم عن الصلاة في هذه السن؟"، قلت له: "لقد أضعت أفضل فرصة للتعليم .. هذه السن التي تراها صغيرة هي السن الذهبية للتعلم واكتساب الخبرات والعادات السلوكية التي يواظب عليها الطفل بسهولة فيما بعد، واسمح لي بسؤال آخر"، قال: "تفضل"، قلت: "هل ضربته في سن العاشرة لعدم الصلاة؟"، رد مستهجناً: "ضربته؟! .. تعلم أني لا أمد يدي على أبنائي أبداً مهما فعلوا؛ فضلاً عن أنه كان ما يزال طفلاً .. يقول فرويد إن ضرب الأطفال في الصغر يكون سبباً في معاناتهم  طوال عمرهم من عقد نفسية .. ألم تقرأ له ما كتبه عن أن العواطف المغروسة منذ الطفولة هي دفة تسيير البشر؟ .. فإذا كنت ضربته في هذه السن لترك الصلاة  لكان كرهها"، قلت مازحاً: "أراك قد تأثرت بدراستك لعلم النفس وما يقوله فرويد"، رد بانفعال: "ألا تعتقد أن فرويد كان على صواب فيما قال؟ وهل ضربت أنت أحد أبنائك في هذه السن لعدم الصلاة؟"، قلت بهدوء: "أجيبك عن السؤال الأخير أولاً: لم أكن بحاجة لضرب أيٍ منهم لأني كنت أشجعهم على الصلاة من سن سبع سنوات، كما كنت لهم (القدوة الحسنة) بالفعل، فعندما وصلوا سن العاشرة كانوا قد اكتسبوا هذه العادة بسهولة، أما بالنسبة لسؤالك الأول، فلتعلم عزيزي أن كثيرين قد عارضوا ما ذهب إليه فرويد وأولهم تلميذه يانج، وسواءً هذا أو ذاك، فإن آراءهم تظل مجرد نظريات قابلة للدحض والتفنيد خاصة مع تطور الفكر البشري"، واستطردت قائلاً: "ولماذا نذهب بعيداً يا عزيزي؟ لماذا نستعين بنظرية فرويد في التحليل النفسي ولدينا من هو أفضل منه؟"، قال: "مَن تقصد بضمير المتكلم في كلمة لدينا؟ هل تقصد أن لدينا كمصريين أو كعرب عالم متميز في هذا المجال؟"، قلت وقد أوصلته لنقطة أردته أن يصل إليها: "كلمة لدينا لم أقصد بها نحن المصريين ولا نحن العرب، وإنما قصدت بها نحن المسلمين، فنحن لدينا كنز عظيم نغفل عنه، لدينا من هو أصدق مِن فرويد ومَن على شاكلته وأصدق ممن في الأرض جميعاً؛ لدينا كتاب الله وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام". ثم فصلت ذلك بالقول: "يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾، جاء التوجيه الرباني بأن نأمر ونصطبر على ذلك بالمتابعة الحثيثة وعدم إهمال الأمر، وجاءت لفظة اصطبر بدلاً من اصبر تأكيدٌ على معنى الصبر؛ فزيادة المبنى تفيد زيادة المعنى كما يقول النحويون وعلماء اللغة، فإن لفظة اصطبر جاءت في الصلاة لأنها مستمرة كل يوم، والصلاة كل يوم في أوقاتها وتأديتها حق أدائها وإتمامها يحتاج إلى صبر كبير، لذا جاءت لفظة اصطبر للدلالة على الزيادة في الصبر"، قال مُعلقاً: "صياغةٌ دقيقةٌ ومعنىً عميق .. سبحان الله"، أكملت حديثي قائلاً: "وأما الرسول الكريم فقد وجهنا إلى ما يجب علينا أن نفعله خاصة في أمر تعويد أبنائنا على الصلاة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ]، هذا هو المنهج، وهذا هو السبيل .. وهذه هي المدرسة الربانية التي تخرج فيها رجال عظماء صنعوا أروع حضارة شهدتها البشرية، ونشروا الإسلام في جميع أنحاء الأرض دون عقد نفسية كتلك التي تكلم عنها فرويد!". سكت قليلاً ثم قال: "أصبت يا صديقي .. حينما قلتَ {قال الله وقال الرسول} فلا مجال أبداً لأن أقول {قال فرويد أو غير فرويد}"، وعقب قائلاً بندم: "أعترف لك بأني بالفعل قد قصَّرت في حق نفسي وقصرت في حق ابني .. أرجو ألا أكون ممن قال الله عز وجل في شأنهم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾"، قلت مخففاً عنه ومودعاً: "لا تحمل هماً يا صديقي؛ فالله سبحانه وتعالى مُطَّلعٌ على القلوب ويعلم النوايا، فقط أخلص النية له سبحانه وتعالى تجد نفسك وقد اهتديت إلى أفضل طريقة لإقناع ابنك بالانتظام في الصلاة، وابدأ بنفسك أمامه؛ كن (القدوة الحسنة) له، لا تفوت فرضاً واحداً إلا وتصليه على وقته مع جماعة المسلمين في المسجد، اجعل ابنك يحس أن الصلاة لها أولوية مطلقة في حياتك عن أي شيء آخر مهما كان، واصبر عليه، وجادله بالتي هي أحسن؛ قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، وفقك الله".

أحبتي في الله .. الإسلام ليس فقط علاقة خاصة بين الإنسان وربه، وإنما هو شريعة شاملة تنظم لنا حياتنا كلها، أكملها الله سبحانه وتعالى لنا، أتم بها نعمته علينا، وارتضاها لنا ديناً؛ قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا﴾، وعندما يصف المولى عز وجل نفسه بالقول: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ هل يبقى لنا نحن البشر قولٌ بعد ذلك؟

أحبتي .. من ينظرون بعيون ضيقة إلى أمر الرسول الكريم بضرب الأبناء إذا لم يلتزموا بالصلاة في سن العاشرة يتناسون أن هذا الأمر تسبقه سنواتٌ ثلاثٌ للتربية الإيجابية القائمة على جذب الأبناء للصلاة وتحبيبهم فيها وتعويدهم عليها، ثلاثُ سنواتٍ كاملة علينا أن نكون فيها (القدوة الحسنة) لهم بانتظامنا في الصلاة، كما يتناسون أن التهديد بالضرب رادعٌ يحول دون فعل ما يستوجب الضرب، ثم إن للضرب في حالة الضرورة ضوابط شرعية معلومة. والله سبحانه وتعالى وهو ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾  وهو القائل: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ﴾ قد أمر بالضرب في مواقف أخرى، كما في حالة نشوز الزوجة مثلاً ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ جاء الضرب بعد مرحلتي الوعظ، والهجر في المضاجع، كما أمر عبده ونبيه أيوب ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ ضرباً خفيفاً حانياً وفاءً بالعهد والنذر، فهل نحن أرحم بأنفسنا وأزواجنا وأولادنا من الله اللطيف الخبير، ومن رسوله الذي وصفه مولاه بالرأفة والرحمة حين قال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾؟
عباد الله أقيموا شرع الله .. واتبعوا أحكام دينه، واتبعوا سنة نبيه تهتدوا وتسعدوا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/4ZUis5

الجمعة، 14 أكتوبر 2016

إنها سُنة!

الجمعة 14 أكتوبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٣
(إنها سُنة!)

قبل حوالي أربعين يوماً، وفي صلاة عيد الأضحى، ما إن التفت الإمام إلى يساره وقال: "السلام عليكم ورحمة الله" مُنهياً بذلك صلاة العيد حتى بادر عدد كبير من المصلين إلى مغادرة المصلى من غير أن يستمعوا إلى خطبة العيد. لفت انتباهي أن أحد هؤلاء ظل واقفاً طوال فترة الخطبة بالقرب من المصلى يتبادل التهاني مع أهله وجيرانه، فتوجهت إليه بعد انتهاء الخطبة، هنأته بالعيد، فرد التهنئة بأحسن منها، ولا أدري كيف تجرأت وسألته عن سبب عدم متابعته للخطبة بعد الصلاة، فكان جوابه ببساطة (إنها سُنة!).
تذكرت هذه الواقعة بعد صلاة الجمعة الماضية في المسجد الكبير القريب من بيتنا، حين لاحظت أن الكثير من المصلين يغادرون المسجد بعد الاستماع لخطبة الجمعة وأداء الصلاة قبل أن يصلوا ركعتي السنة. لم أسأل هذه المرة أحداً ممن سارعوا إلى مغادرة المسجد، لكن الأمر كان محل نقاش بيننا ونحن عائدون من المسجد، فنحن مجموعة من الجيران نذهب إلى صلاة الجمعة فرادى ونعود منها عادةً معاً، حيث اتفق ثلاثتنا على أنه ومع التسليم بأن بعض من لا يصلون السنة في المسجد يصلونها في البيت "وهذا أفضل لتوافقه مع سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام"، إلا أنه ما تزال توجد مشكلة تكمن في أن البعض لا يهتمون بالمحافظة على السنن بصفة عامة، ربما يلتزمون بأداء الفروض أما حين تسأل أحدهم عن سبب عدم أداء سنة الظهر أو المغرب أو العشاء مثلاً تجد الرد جاهزاً؛ (إنها سُنة!)، فإذا أردت أن تبين أهمية السُنة وضرورة الاهتمام بها والمحافظة عليها، قد تجد من يقول لك: "لا تقل لي قال الرسول، قل لي فقط قال الله"!

أحبتي في الله .. السُنة الشريفة هي كل ما أُثر عن النبي عليه الصلاة والسلام من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية. وكلنا يعلم أن السُنن ليست فروضاً، وأن حكمها الشرعي أن يُثاب فاعلها ولا يأثم تاركها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: "هل يمكن لأي مسلم ترك سُنة النبي عليه الصلاة والسلام بالكلية؟"؛ الإجابة بالتأكيد: لا، لا يمكن لأي مسلم ترك السنة النبوية الشريفة كلها؛ وإلا فليدلنا أحدٌ على الآية من القرآن الكريم التي تحدد لنا عدد ركعات كل صلاة من صلواتنا اليومية الخمس، أو كيفية أدائها. وأين هي الآيات الكريمة التي تحدد أنصبة الزكاة، أو تلك التي تبين لنا مناسك الحج؟
إن في السُنة النبوية الشريفة توضيح وشرح وبيان لكثيرٍ مما ورد في القرآن الكريم مجملاً .. السُنة النبوية هي تطبيق وبيان عملي لآيات القرآن الكريم. يصف المولى عز وجل في كتابه الكريم ما ينطق به الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه وحيٌ منه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، ويقول تعالى آمراً المسلمين أمراً صريحاً واضحاً لا لبس فيه بطاعته وطاعة الرسول: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، ويُفَصِّل المولى عز وجل طاعة الرسول بأخذ ما أتانا به والانتهاء عما نهانا عنه؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، ويتوعد العزيز الحكيم مَن لا يأخذ بما آتانا به الرسول وينتهي عما نهانا عنه بالعقاب الشديد فيقول في نفس الآية: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.

أحبتي .. لم تُنقل وتُوصف حياة أحدٍ من البشر على مر التاريخ كما نُقلت ووُصفت حياة وسيرة الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي بُعث هادياً للبشرية جمعاء، ليكون بالنسبة لنا قدوةً حسنة؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾، فلا يجوز لمسلم أن يتحدث عن سنة نبينا الكريم باستخفافٍ أو استهانة أو تقليل شأنٍ بقوله: (إنها سُنة!)، يقولها ولسان حاله يكاد يقول: "إنها *مجرد* سُنة"!
أخشى ما أخشاه أن نجد من بيننا من يدعو إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم وترك ما سواه بحجة أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ القرآن ولم يتكفل بحفظ السنة، فهذا كلامٌ ظاهره حقٌ لكن يُراد به الباطل؛ فمثل هذه الدعوة هي معول هدمٍ للقضاء على شريعة الإسلام، لقد حذرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم من هؤلاء حين قال: [يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ عَنِّي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ].
لا شك أن الأمر بالتمسُّك بالكتاب والسُّنَّة والاعتصام بهما من أساسيات الدِّين؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾، وقال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
وقال النبي المختار صلَّى الله عليه وسلَّمَ: [عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاء المهديِّين الراشِدين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجِذ]، وقال: [خَيْر الحَديثِ كِتابُ الله، وخَير الهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ]، وقال: [ألَا إنِّي أوتيتُ الكِتابَ ومثلَهُ معهُ]، كما قال: [فمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتي، فلَيسَ منِّي].
فليحذر أن يخرج من الملة من يقول: (إنها سُنة!) إذا كان يقصد أنها شيء ثانويٌ أو أمرٌ لا يُعتد به!
هدانا الله وإياكم .. وهدى جميع المسلمين، إلى ما فيه الصواب والسداد.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/HIxSrW

الجمعة، 7 أكتوبر 2016

الآن حصحص الحق

الجمعة 7 أكتوبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٢
(الآن حصحص الحق)

أمسك بالقلم وكتب في دفتر مذكراته: [ انتهى منذ قليل الاحتفال السنوي بعيد ميلادي، كان احتفال هذا العام مميزاً؛ حضره عددٌ كبيرً من أصدقائي المقربين وأفراد أسرتي الغاليين.
أتذكر هذا الوقت من كل عام، وقت انتهاء الحفل ومغادرة الأهل والأصدقاء، كنت أسرع إلى هداياهم لأفض أغلفتها، وكنت أشعر بسعادة غامرة لما يقدمونه لي من هدايا متنوعة.
أما هذا العام فقد حدث أمرٌ مختلف، بعد مغادرة أهلي وأصدقائي لم أسرع لفض أغلفة هداياهم، وإنما تملكني شعورٌ قويٌ وألحت علي رغبةٌ ملحةً في الاختلاء بنفسي؛ توجهت إلى شرفة المنزل، مددت جسمي على أريكة، واضعاً يدي خلف رأسي، ناظراً إلى السماء وقد اكتمل فيها القمر الليلة وكأنه يشاركني احتفالي بعيد ميلادي الأربعين. أخذت نفساً عميقاً، وأغمضت عيني، وأرخيت العنان لأفكاري، وها أنا أكتبها وأسجلها بأمانة كما حدثت قبل أن يطويها النسيان.
أربعون سنة مضت، ماذا حققت فيها؟، وهل سأعيش أربعين أخرى؟، غالباً لن أكمل الأربعين الثانية، إذن فقد تجاوزت نقطة منتصف العمر، وقد تكون هذه النقطة أقرب للنهاية مما أتصور .. أليس من الحكمة أن أقدم لنفسي كشف حساب عن تلك السنوات .. ألم يأنِ لي أن أقف وقفة صادقة مع نفسي أنظر إلى ما مضى من حياتي؟.
ها هو شريط ذكرياتي يمر في مخيلتي كما لو كان فيلماً من أفلام السينما .. تمر أمام عيني الكثير من المواقف .. أتذكر أياماً حلوة وأخرى مرة .. وأتذكر أشخاصاً تركوا بصماتهم على شخصيتي .. تعود إلى مخيلتي صور لأحداث مرت بي أثرت في كما لم يؤثر غيرها.
تذهب أفكاري إلى أيام الطفولة الأولى .. ما أجملها وما أحلاها .. براءة ولهو ولعب وانطلاق بغير حدود .. أسرة سعيدة ووالدان ليس لهما مثيل في الدنيا كلها حباً وحناناً وحكمة .. رحمة الله عليهما .. وأصدقاء الطفولة والصبا .. عالم من المرح .. لا فيها مسئولية ولا أعباء ولا قيود تلك التي بدأت بالتدريج مع أول يوم لي في المدرسة .. وما أدراك ما المدرسة؟ كانت في عيوننا ونحن صغار عالماً آخر، نحبه، ننام كل ليلة نحلم به، نترقب الصباح لنذهب إليه .. آهٍ على ذلك الزمن الجميل .. وككل شئٍ جميل ينتهي سريعاً.
تمضي بنا الأيام مسرعةً نحو مرحلة الصبا تاركة خلفها مرحلة الطفولة بكل ما فيها من براءة وسذاجة .. ها أنا أتذكر أصدقائي الذين تعرفت عليهم في المدرسة الإعدادية وفي المدرسة الثانوية .. كما ما زلت أتذكر أصدقائي من الجيران الذين يسكنون معنا في نفس الحي.
أما أيام الشباب التي لا تُنسى بحق فقد كانت في مرحلة الدراسة الجامعية .. كان أصدقائي فيها هم المميزون بالفعل .. لا أنسى رحلاتنا معاً، وترددنا على المحلات في وسط المدينة، وحرصنا على زيارة المتاحف والمعارض، ومشاركاتنا في الأمسيات الثقافية، وجلساتنا على ضفاف نهر النيل .. لا أنسى نجاحاتنا وإخفاقاتنا في الدراسة .. كما لا أنسى أساتذتنا في الجامعة الذين علمونا الكثير من المهارات وأكسبونا القيم أكثر مما نقلوا إلينا علومهم ومعارفهم .. كانت تلك أجمل أيام حياتي.
وكما أن لكل شيء نهاية، فقد انتهت هذه المرحلة بتخرجنا في الجامعة، ليبدأ مسار جديد من مسارات الحياة، ومشهد جديد من مشاهدها .. أتذكر الآن مشهد التجنيد وخدمة العلم؛ حيث تحتشد في ذاكرتي صور كثيرة لمواقف الوطنية والرجولة  .. أيام مرت سريعة هي الأخرى لكنها كانت ملحمة لا تنسى في التضحية والفداء .. تعلمت منها النظام والالتزام والوفاء والولاء .. وكان أصدقاء هذه المرحلة، على قلتهم، من أوفى الأصدقاء.
وتمضي رحلة الحياة .. ويستمر شريط الذكريات؛ فهذا مقر أول وظيفة عملت بها .. هذه هي الغرفة التي كان بها مكتبي .. أتذكر زملائي في العمل .. ورؤسائي الذين تعلمت منهم الكثير من الخبرات .. وإن أنسى لا أنسى فرحة أول مرتب أتسلمه .. جنيهات معدودة لكن فرحتي بتسلمها لا توصف. وتمر الأيام .. أتنقل من عمل لآخر، ومن وظيفة إلى أخرى، ومن منصب لمنصب أعلى منه.
كنت أحس خلال هذه الفترة بأن العمل هو كل شيء بالنسبة لي .. إلى أن تعرفت على شريكة حياتي .. لتبدأ مرحلة أخرى من مراحل الحياة .. مرحلة النضج والاستقرار .. مرحلة الرجولة الكاملة .. مرحلة تحمل المسئولية الحقيقية في الحياة خاصةً عندما رزقنا الله بالأطفال .. أصبحت مسئولياتي مضاعفة.
بدأت منذ فترة أحس بأنه بات من الضروري أن أعيد صياغة أهدافي في الحياة وترتيب أولوياتي فيها، وها أنا ذا وأنا أحتفل بعيد ميلادي اليوم ما زلت مستمراً في عملي، لي بيتي وأسرتي، وعلاقات مع العديد من الأقارب والزملاء والأصدقاء .. أما المشاكل والمتاعب فهي تحيط بي من كل جانب .. في العمل وفي الأسرة وحتى في السيارة! .. {لكن .. }.. وما أصعب ما يأتي بعد {لكن} .. أما وأني أكتب الآن هذه المذكرات بكامل الصدق مع النفس، فلا يمكن إلا أن أكون صريحاً مع نفسي؛ فماذا عساي أن أكتب بعد {لكن}؟.
آن لي أن أعترف وأسجل اعترافي كتابة، بكامل إرادتي، طواعية بغير إجبار، وأقول لنفسي: (الآن حصحص الحق)؛ فقد عشت حياتي كلها ليس لي من هَمٍّ سوى الجري وراء تحقيق أهدافي المادية في الحياة، من دراسة ووظيفة وزواج، هدف يتلوه هدف، حققت كثيراً مما كنت أسعى إليه، ومع ذلك كنت أحس دائماً بأن هناك شيئاً ما ينقصني، كنت في أغلب الأحيان في منافسة مع الآخرين، أفوز مرات، ويفوزون مرات، لكن حتى في المرات التي أفوز فيها لا أحس بطعم النجاح أو حلاوة الانتصار أو الفرحة بعد الإنجاز .. كان هناك دائماً شيء ينقصني .. يؤرقني .. ينغص علي حياتي .. شيء في داخلي .. إحساس بالذنب والتقصير .. ولعلها حانت الآن لحظة الاعتراف بالحقيقة دون مواربة (الآن حصحص الحق) .. كانت الدنيا هي محور همي، ومدار اهتمامي، وكنت لاهياً عما هو أهم .. كنت بعيداً عن ديني .. عن حياتي الروحية .. كنت مقصراً في هذا المجال .. صحيح أنني مسلم، مؤمن، نشأت في بيئة صالحة، تشبعت من صغري بالقيم النبيلة، أحب الخير للجميع، أساعد كل من أستطيع مساعدته، أحرص على عمل الخير، سمعت كثيراً ورددت كثيراً عبارة {الدين المعاملة}، وربما كانت هذه العبارة، رغم صحة معناها، سبباً في تركيزي عليها كما لو كان اهتمامي بها يمكن أن يغنيني عن أداء ما يتوجب علي أداؤه من العبادات .. اهتممت بالمعاملات، أما العبادات فأعترف بأنها لم تكن تحظى بما يجب من اهتمام في حياتي .. للأمانة أكتب عن الصلاة كمثال .. لم أكن أحرص على أداء الصلاة بانتظام .. كنت أصلي الجمعة في المسجد، وكنت أحرص على صلوات الأعياد، أما باقي الصلوات فقلما صليتها، إلا في شهر رمضان حيث كنت أعطي الصلاة اهتماماً أكبر .. كنت بالفعل مقصراً .. كانت حجتي بيني وبين نفسي أن العمل يستغرق الكثير من وقتي وطاقتي، والانتقال من البيت إلى العمل ومن العمل إلى البيت يستغرق ما بقي من وقت وطاقة .. لم أترك الصلاة  جحوداً بها أو إنكاراً لها، حاشاني، وإنما تركتها مع إيماني الكامل بها واعتقادي وتسليمي بفرضيتها، لكنني تركتها تكاسلاً وتشاغلاً عنها .. وكان الشيطان يزين لي ذلك ويهمس في أذني دائماً: {ربك رب قلوب}، وكان لهذه العبارة في نفسي تأثير كبير، أرددها بيني وبين نفسي حينما أسمع الأذان للصلاة وأتكاسل عنها، كانت هذه العبارة كالمخدر .. تزين لي ما أنا عليه من تهاون وتفريط .. وفي هذه اللحظة الفارقة .. وفي هذا اليوم الفاصل .. يحق لي أن أتساءل هل من الحكمة أن أستمر على ذلك؟ أمن الصواب إهمال الجانب الروحي في حياتي إلى هذه الدرجة؟ وماذا عن ابني الصغير الذي صار مميزاً الآن ويعتبرني مثله الأعلى؟ هل أنا المثال والقدوة له؟ أما آن الأوان لأن أراجع نفسي لأصحح مساري؟ أما حان وقت التفكير في يوم الحساب عندما أُسأل عن نفسي وعملي وأُسأل عمن أعول وأرعى حفظت أم ضيعت؟.
أكتب الآن هذه الأفكار والخواطر في أول أيام سنةٍ جديدة من عمري بدأت للتو، ولا أدري كم بقي لي من أجل .. أسجل بقلمي أنه أول عيد ميلاد لي أشعر بعد انتهاء الاحتفال به بأني أقترب من نهاية أجلي .. فهلا استفدت من خصوصية هذه اللحظة الملهمة، وهذه الصحوة الإيمانية التي إن مرت قد لا تعود أبداً؟
هذا إذن هو الوقت المناسب لأقول لنفسي: (الآن حصحص الحق) .. وها أنا الآن أعاهد الله سبحانه وتعالى بأني من هذه اللحظة سوف ألزم نفسي بالصلاة على الوجه الذي يرضيه عني .. فهي أول ما سوف أحاسَب عليه .. إن قُبلت قُبل سائر عملي .. سوف أصلي صلواتي الخمس اليومية مع جماعة المسلمين في المسجد ما استطعت .. كفاني تأجيلاً وتسويفاً .. كفاني إهمالاً وتكاسلاً .. لقد كنت في غفلة من أمري أحمد الله سبحانه وتعالى أن أخرجني منها.
أترك الآن قلمي ودفتر مذكراتي لأذهب حالاً للوضوء وصلاة ركعتي شكر لله، داعياً الله عز وجل أن يسامحني على ما مضى من تقصير، ويعينني على الانتظام في الصلاة والمحافظة عليها والخشوع فيها، وقضاء ما فاتني منها .. وأن يثبتني ويزيد إيماني ].

أحبتي في الله .. كانت تلك سطور كتبها صديقي في دفتر مذكراته منذ ما يزيد على أربع سنوات، وهو الآن ولله الحمد من الملتزمين بصلاة الجماعة المواظبين عليها، سمح لي بالاطلاع عليها، وطلب مني نقلها لكم قائلاً: "لا يمكن أن تتصور حياتي الآن بعد انتظامي في الصلاة .. راحة نفسية، وطمأنينة، ولذة لم أحس بها من قبل أبداً .. يكفي أني قد تخلصت من الإحساس بالذنب والتقصير تجاه الله سبحانه وتعالى .. لن تصدق كيف تغيرت أحوالي وتعدلت وتبدلت في البيت وفي العمل .. زاد رزقي وبارك الله لي في كل عمل أعمله .. صار نومي في الليل عميقاً هانئاً، لم أعد في حاجة إلى مهدئات .. أنهض من فراشي لصلاة الفجر في المسجد نشيطاً .. لقد أصبحت الآن سعيداً بمعنى الكلمة، حتى مع وجود بعض المشكلات، أحس بأن الله معي بالفعل يلهمني كيف أحلها أو أتكيف معها .. للأمانة لم يكن الأمر في بدايته سهلاً .. كان شئ في نفسي ما يزال يقاوم التغيير، لكني كنت مصراً على عدم إضاعة هذه الفرصة .. كان جهاداً حقيقياً مع النفس .. تغلبت عليه بتوفيق من الله ثم بإرادةٍ قوية وعزيمةٍ لا تلين وإصرارٍ لا يقبل بالهزيمة أو الاستسلام .. إلى أن سكتت وللأبد أصوات مقاومة التغيير بداخلي"، وبلهجة صادقة حانية قال: "اسمح لي أن أطلب منك نشر هذه السطور من دفتر مذكراتي؛ فقد يستفيد منها غيري، ولو استفاد شخص واحد فقط لكان ثلاثتنا: أنا وأنت وهو من الفائزين بإذن الله"، واستطرد يقول: "ما أروعها من جائزة تلك التي أشار إليها المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو يحدث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويقول له: [.. فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ]".

أحبتي .. لا أجد ما أضيفه إلى ما كتبه وقاله صديقي العزيز، سوى الدعاء له بالتثبيت، ولنفسي ولكم ولجميع المسلمين بانتهاز لحظة صدق نخاطب فيها نفسنا الأمارة بالسوء بالقول (الآن حصحص الحق) فتتحول إلى نفسٍ لوامة تُفيقنا من غفلتنا وتوجهنا إلى أن نصحح المسار فنسعد بها وقد تحولت إلى نفسٍ مطمئنة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/l1MESp

الجمعة، 30 سبتمبر 2016

وأن تصدقوا خير لكم

الجمعة 30 سبتمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥١
(وأن تصدقوا خير لكم)

امرأة كبيرة في السن رثة الثياب وقفت ومعها ابنتها في الصف للمحاسبة على مشترياتها من ذلك السوبر ماركت الكبير، قام المحاسب بتسجيل ما تحمله سلتها من أغراض وطلب منها دفع قيمة مشترياتها، أخرجت من حافظةٍ صغيرةٍ تمسك بها في يدها كل ما معها من نقود، لكنها اكتشفت أن ما معها أقل من المطلوب، سألت ابنتها إن كان معها أية نقود، فأخرجت الصغيرة ما معها وأعطته لإمها، ومع ذلك ظل الحساب أكبر من قدرة المرأة على السداد، وفي الوقت الذي بدأت علامات الضجر تظهر فيه على وجه المحاسب أخذت المرأة تعيد بعض الأغراض من سلة المشتريات عَلَّ ما يتبقى منها يكون في حدود ما تملكه من نقود. كان يقف خلف هذه المرأة في الصف شابٌ يرى ويتابع ما يحدث أمامه، أدرك الشاب على الفور أن المرأة لا تملك ما يكفي من مال وأراد أن يساعدها، لكن كيف يقوم بذلك أمام المحاسب والمشترين الآخرين الواقفين في الصف؟ أخذ يفكر في طريقة يستطيع بها أن يساعد هذه المرأة ويحافظ على كرامتها في ذات الوقت .. الوقت يمر .. والمحاسب غير صابر .. والمرأة في قمة الإحراج .. والموقف يتأزم .. حتى وصل الأمر بالبنت الصغيرة أن تقول لوالدتها: "أمي .. أرجعي قطعة الحلوى هذه فلست أشتهيها"! .. وقتها لمعت فكرةٌ في ذهن الشاب نفذها فوراً .. ألقى بأوراق نقدية على الأرض تحت قدمي المرأة وقال لها وهو يشير إلى مكان الأوراق النقدية: "سيدتي.. هذه النقود قد وقعت منك"!، والتفت ينظر في اتجاهٍ آخر متحاشياً النظر إلى عيني المرأة، أما هي فقد التقطت الأوراق النقدية من على الأرض وهي تقول للشاب: "شكراً لك، جزاك الله خيراً"، وقامت بدفع حسابها. عند خروجها من السوبر ماركت نظرت المرأة إلى الشاب من بعيد فقرأ في عينيها شكراً صامتاً وعرفاناً بالجميل، وعندما تحول بنظره إلى الطفلة الصغيرة لمح ابتسامة السعادة على وجهها وهي تمسك في يدها بقطعة الحلوى التي كانت طلبت من أمها إرجاعها.
انتهى الشاب من المحاسبة على مشترياته، وغادر متوجهاً نحو سيارته، وهو يحمد الله سبحانه وتعالى أن ألهمه هذا التصرف السريع الذي قام فيه بتقديم صدقةٍ لأسرةٍ فقيرةٍ محتاجة دون أن يجرح كرامتهم أو يعرضهم لأي إحراج.
كانت هذه قصة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، كتبها الشاب بنفسه عن موقفٍ حقيقيٍ مر به، وقال إنه يكتب ذلك ليستفيد الناس من التصرف الذي ألهمه الله به.
لكن هذه القصة استدعت إلى ذاكرتي على الفور الآية الكريمة (وأن تصدقوا خير لكم).

أحبتي في الله .. ما أعظم الصدقة .. وما أروع العطاء حينما يكون خالصاً لوجه الله .. دون رياء .. وبغير مَنٍّ ولا أذى.
لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالصدقة على الفقراء وبالإنفاق سراً وعلانية .. وما أكثر آيات القرآن الكريم التي تحث المسلم على أن يتصدق بما يستطيع؛ قال الله سبحانه وتعالى آمراً نبيه الكريم: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ﴾، وأمر المؤمنين مباشرةً بقوله: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾، وبقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾، وبقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، وبَيَّنَ أن المنفقين من المفلحين فقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ووعد الذين ينفقون من أحب الأموال إليهم بأن ينالوا البر بقوله: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وأوضح أن هذا الإنفاق يعود بالخير على المنفقين أنفسهم فقال: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ﴾، وبَشَّر المتصدقين بأن ما أنفقوه هو قرضٌ لله سبحانه وتعالى يضاعفه لهم ولهم أجرٌ كريم؛ يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾، ووعد بأن يضاعف هذا القرض أضعافاً كثيرة فقال: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ومدح التصدق في السر والعلن بقوله: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتؤْتُوهَا الفُقَرَاءِ فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ﴾، وبين أن التصدق ليس قاصراً على الأغنياء فقط فمدح المؤثرين على أنفسهم الذين يتصدقون رغم ما بهم من خصاصةٍ على من هم أكثر احتياجاً منهم؛ وذلك حين قال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، وحث الدائنين على التصدق على المدينين المعسرين؛ فقال:﴿وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وبين لنا أن كل مفرّط يندم عند الاحتضار ويتحسر على ما فرّط في وقت الإمكان، ويسأل الرجعة إلى الدنيا ولو لمدة يسيرة ليستدرك ما فاته وما فرّط فيه ويتصدق ويكون من الصالحين؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ في هذا الموقف العصيب، عند انتهاء الأجل، لا يتذكر الإنسان إلا الصدقة يتمنى لو يُمهل دقائق معدودة فقط ليتصدق ويكون من الصالحين.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [إن صدقة السر تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار]، ومبيناً أن التصدق يمكن أن يكون بأقل القليل يقول: [فاتقوا النار، ولو بشق تمرة]، وموضحاً أهمية الصدقة يوم الحساب بقوله: [كل أمرئ في ظل صدقته، حتى يُقضى بين الناس]. وذاكراً رجلاً تصدق من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه]، ومعلماً لنا أن الصدقة دواء وعلاج قال: [داووا مرضاكم بالصدقة]، ومبيناً أن الصدقة تلين القلب بقوله: [إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح على رأس اليتيم]، ومبشراً بأن الله يخلف كل ما ننفقه؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً]، ومؤكداً على أن الصدقة لا تنقص المال يقول: [ما نقصت صدقة من مال]، ومعرفاً لنا أفضل وقت للتصدق قال: [أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحُ، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان كذا]، وموضحاً أن العبرة ليست بقيمة ما نتصدق به وإنما بمدى الإخلاص في النية وبقيمة ما ننفقه إلى ما نملكه؛ يقول المصطفى: [سبق درهم مائة ألف درهم]، ومحدداً لنا أولوية الإنفاق بقوله: [أفضل الصدقة جهد المُقل، وابدأ بمن تعول]، ومبيناً أن الإنفاق على الأهل صدقة يقول: [الرجل إذا أنفق النفقة على أهله يحتسبها كانت له صدقة]، ومعدداً مصارف الصدقات ومحدداً أفضلها بقوله: [أربعة دنانير: دينار أعطيته مسكيناً، ودينار أعطيته في رقبةٍ، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك]، وموضحاً أن ثواب الصدقة يكون مضاعفاً إذا كانت على قريب مسكين قال: [الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة]، ومؤكداً على أن الصدقة الجارية هي مما ينتفع الإنسان به بعد موته يقول: [إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره، أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته]، ومبيناً مجالات مختلفة لصدقاتنا قال: [أفضل الصدقة سقي الماء]، وقال: [تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف]، كما قال: [من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتاً في الجنة]، وقال أيضاً: [من حفر بئر ماء لم يشرب منه كبد حرى من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة، ومن بنى مسجداً كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتاً في الجنة].
وغير ذلك كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة.

أحبتي .. الأصل اللغوي لكلمة "صدقة" هو الفعل "صَدَقَ" الذي لا يتفرع عنه إلا كل ما هو طيب؛ كالصِدق والتصديق والصداقة والصَداق والصدقة.
ولقد عُني السلف الصالح بالصدقات عنايةً فائقة، وفهموا الآية الكريمة (وأن تصدقوا خير لكم) فهماً صحيحاً فكانوا يسارعون إلى التصدق بكل ما يملكون أو بنصفه أو ببعضه .. وكانوا لا يتصدقون إلا بأحب الأموال والممتلكات لديهم تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾، وكانوا يعلمون أن الصدقة تقع في يد الله سبحانه وتعالى قبل أن تصل إلى يد الفقير؛ لقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: [من تصدق بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيباً، كان إنما يضعها في كف الرحمن، ويربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل]، حتى أنه ورد في الأثر عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها كانت تُطَيّب دراهم ودنانير الصدقة بالمسك، وعندما سُئلت رضي الله عنها عن ذلك أجابت: {لأنه يقع في يد الله سبحانه قبل أن يقع في يد الفقير والمسكين والمحتاج}. وأهل العلم يقولون في الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ*لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ أن الصدقة تكون للسائل ولو لم يكن محروماً، وللمحروم ولو لم يكن سائلاً.
اعلموا أحبتي أن حاجة المتصدق لأجر الصدقة أكثر من حاجة من يتصدق عليه! وأن المصرف الوحيد الذي له فروع في الدنيا والآخرة هو مصرف الصدقة تودع فيه في دنياك وتسحب منه في آخرتك!
وكلما زادت الصدقة زاد المال بركةً ونماءً وزاد الرزق؛ فالصدقة تُديم النعم وتدفع النقم، ترفع البلاء وتستنزل الشفاء، تُنجي من الكرب وتطفئ غضب الرب.
يقول ابن القيم: أرخِ يدك بالصدقة؛ تُرخَىَ حبالُ المصائب من حول عنقك!
والصدقة لا يعجز عنها أحد؛ فالكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة.
أحبتي .. مهما تصدقنا فنحن لا نتصدق بمالنا؛ إنما هو مال الله استخلفنا فيه لينظر ماذا نحن فاعلون به، ما أكرمك يا الله ترزقنا المال من غير حول لنا ولا قوة ثم تطلب منا أن نتصدق ببعضه على المحتاجين ثم تجازينا على ذلك ثواباً من عندك، رغم أن المال مالك والخلق خلقك وكلنا عبيدك!
فما أبخل من يستطيع أن يتصدق ولا يفعل، ويا ويل من يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون منها في وجوه الخير؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾، يقول بعض أهل العلم أن اختيار الجباه والجنوب والظهور بهذا الترتيب ربما سببه أن كانز المال إذا رأى الفقير من بعيد أشاح عنه بجبهته، وإذا اقترب منه أدار جنبه عنه، فإذا وصل إليه أعطاه ظهره!

للمتصدقين أحبتي باب من أبواب الجنة يسمى باب الصدقة، لا يدخل منه إلا المتصدقون، اللهم اجعلنا ممن يدخلون الجنة من هذا الباب. وقانا الله شُح أنفسنا، وحبب إلينا التقرب إليه بالصدقات وإنفاق المال في أوجه البر الخير، وهدانا حتى تكون الآية الكريمة (وأن تصدقوا خير لكم) سلوكاً نلتزم به وليس مجرد قولٍ نحفظه ونردده.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


https://goo.gl/SBjuYF

الجمعة، 23 سبتمبر 2016

فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ

الجمعة 23 سبتمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥٠
(فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)

على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في أجمل شواطئ بلدي، في مرسى مطروح .. أجلس بعد صلاة الفجر وقبل الشروق .. أنتظر في لهفةٍ لحظة شروق الشمس في الأفق البعيد .. إنها لحظة ميلاد يومٍ جديد .. البحر هادئ .. صفحة الماء ساكنةٌ لا يحركها إلا نسيم هواء لطيف .. قليلٌ من الناس على الشاطئ ينتظرون موكب الشروق المهيب .. وبعضهم ينتظر ذات اللحظة في شرفات مساكنهم أو شرفات الفنادق التي يقيمون فيها .. أما شارع الكورنيش فبه خليط من الناس: البعض ينهي عمله الليلي وينتظر الشروق كي يحظى بقسطٍ من الراحة بعد عناء العمل، والبعض يستعد ليبدأ فترة عمله الصباحي بجدٍ ونشاط، وبعضٌ آخر يسيرون بخطى منتظمة يرتدون زياً رياضياً يشي بأنهم يمارسون رياضة المشي، يبدو أنهم يجدون متعةً خاصةً للمشي في هذا الوقت بالذات.
السماء من فوق البحر بدأ يتغير لونها من الأسود إلى الرمادي متدرجاً من الغامق إلى الفاتح .. ثم ها هو الرمادي الفاتح يكتسي بصُفرةٍ خفيفة تتحول شيئاً فشيئاً إلى لونٍ برتقالي آسر معلنةً عن بزوغ الشمس وسط طبيعة ساحرة، تأخذ الألوان فيها بالألباب .. (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
ها هي إذن اللحظة التي ينتظرها الجميع، تبدأ الشمس في الظهور بالأفق كملكةٍ متوجة يتجه موكبها من خط الأفق الفاصل بين السماء والأرض، وتعلو وتعلو في طريقها إلى عرشها اليومي في كبد السماء، ومع كل علوٍ يتغير لونها من الأبيض إلى الوردي ثم إلى الأحمر المشبع بأعلى درجات الاحمرار قبل أن يستقر على اللون الذهبي الأخاذ.
أما السُحب، تلك التي كانت من دقائق معدودة تملك ناصية السماء وتحتل صفحتها بلونٍ شديد السواد فقد بدأت هي الأخرى في التحول التدريجي المثير .. بدأت في التخلي عن ذلك السواد لتكتسي بألوانٍ أقل قتامةً فترى اللون الأسود وقد تحول إلى اللون الرصاصي ثم إلى الرمادي ثم إلى اللون الفضي ثم إلى اللون الفضي المطعم ببياض ثم إلى ذلك اللون الأبيض شاهق البياض .. وفي تزامنٍ ملفت يدعو للدهشة .. تُفسح السحب الطريق لموكب ملكة اليوم .. شمس الشموس .. وهي في طريقها إلى حيث عرشها يتوسط السماء .. (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
خلال ساعة أو اثنتين تكون كل هذه التحركات والتغيرات قد استقرت على الوجه الذي يألفه الناس الذين يستيقظون متأخرين من نومهم .. هؤلاء يفوتون على أنفسهم هذا المشهد الجميل الجليل .. مشهد الأفق بكل ما فيه وهو يتغير من حالٍ إلى حال .. فلا يرون سوى نهار يومٍ عادي.
وحين تغيب الشمس وراء بعض الغيوم، وتشتد الريح قليلاً فتحرك معها جبال السحب بسرعة، وحين يتحول لون تلك السحب مرةً أخرى إلى اللون الداكن وتنخفض درجة حرارة الجو؛ حينئذ يكون الكون قد تهيأ لمشهدٍ آخر .. لا يقل جمالاً ولا جلالاً عن مشهد شروق الشمس .. إنه مشهد سقوط المطر .. (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
درجات الحرارة تتغير هي الأخرى، إذا لم يسقط المطر، فتتحول درجة حرارة الجو من البرودة إلى الدفء لتصل إلى ذروة ارتفاعها منتصف النهار مع توسط الشمس صفحة السماء، حينها يحس الناس بالحرارة وقد اشتدت وطأتها فيسارعون إلى حماية أنفسهم منها ومن أشعة الشمس الحارقة بالمظلات الكبيرة يجلسون تحتها يحتمون بظلها وبأغطية رأسٍ تقيهم لهيبها المباشر، إلا من أراد لجسمه لوناً برونزياً متميزاً، فتراه كاشفاً أكبر مساحة ممكنة من بدنه عارضاً إياها لأشعة الشمس المباشرة لا يأبه لآثارها الحارقة.
أما الريح فتلك الهادئة الوديعة لو تغيرت سرعتها وبدأت في التزايد، فقد تتحول خلال لحظات إلى عاصفة قوية تدور حول نفسها، تحرك أمواج البحر وتجعلها تدور هي الأخرى في دوامات تهجم مزمجرة على رمال الشاطئ قويةً عالية تخلع كل ما يقف في طريقها من مظلات ومقاعد ترفعها من أماكنها وترمي بها بغير رحمة في كل اتجاه.

أحبتي في الله .. سبحان الله فيما خلق .. وسبحانه فيما أوجد وأبدع .. حقاً ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾.. ما أجمل الكون من حولنا .. وما أحكم سنن الخالق القدير وتدبيره .. ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ .. هلا فتحنا عيوننا لنرى .. وقلوبنا لندرك عظمة هذا الكون الشاسع الواسع .. فإذا أدركنا عظمة الكون فكيف بعظمة خالقه وموجده المتصرف في أحواله المتحكم في مآله؟ سبحانه هو القائل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، توجيه لنا بأن نذكر الله على كل حال، وأن نتفكر في خلقه السموات والأرض؛ لم يخلقهما باطلاً سبحانه.

أحبتي .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، آمراً لنا بالنظر للتفكر والتدبر فهل من مجيب؟ .. هل من ملزمٍ نفسَه بأداء هذه العبادة السهلة والبسيطةٍ والتي لا تكلف شيئاً؟ .. عبادة فيها استجابة مباشرة لهذا الأمر الإلهي الحكيم. فلنخصص وقتاً محدداً للتفكر في خلق الله، خاصةً خلق السموات والأرض، ولو لدقائق معدودة كل يوم، بعد صلاة الفجر مثلاً، أو قبل الغروب، دقائق معدودة، نتدبر فيها سنن الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، ونقوم فيها بشكر الله الخالق العظيم. دقائق معدودة ولحظاتُ إيمانٍ فيها سكينةٌ وصفاءُ نفسٍ وخشوع يطهر قلوبنا ونفوسنا ويزيدها حباً لله وقرباً منه سبحانه .. دعونا أحبتي نُعَوِّد أنفسنا على هذه العادة الجميلة والعبادة الهادئة فنستمتع بهذه الدقائق القليلة يومياً ونتلذذ بها، ونكتسب أجر التفكر الذي أُمرنا به .. أعاننا الله على ذكره وشكره وحسن عبادته.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/8hI5DV

الجمعة، 16 سبتمبر 2016

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟

الجمعة 16 سبتمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٤٩
(عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟)

قبل أيام، عند احتفالنا بعيد الأضحى المبارك، تذكرت بيت الشعر المشهور للمتنبي:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ                        بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
فقد كانت فرحة هذا العيد ممزوجة بكثير من الآلام والأحزان.
فقد غيب الموت، وهو علينا حق، بعضاً من أحبائنا خلال الفترة القصيرة الماضية، آخرهم قريب لنا، لا نزكيه على الله، لكن نشهد له بالصلاح، كان رجلاً طيباً هادئاً بشوشاً قليل الكلام، لو قابلته لأول مرة فكأنك تعرفه من زمن، يتسرب حبه إلى قلبك دون أن تدري، ابتلاه الله سبحانه وتعالى في آخر أيامه بمرض عُضال، فكان مثالاً للصبر، لم يتوقف لسانه عن حمد الله لحظة حتى وافاه الأجل المحتوم، غاب وغاب قبله آخرون، أحباء لنا، اختارهم المولى عز وجل فصاروا في ذمته، رحمهم الله جميعاً، تركوا في النفس أحزاناً كيف لفرحة العيد أن تخفف منها؟!

(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. وآخرون يعانون من أمراض زادت أشكالها وتنوعت آلامها وأصرت على ألا تأتي فرادى، فتراهم وقد صارت أيامهم تدور في دائرة لا مخرج منها إلا برحمة من الله؛ يترددون على عيادات الأطباء والمستشفيات وأقسام العناية المركزة ومراكز الأشعة والتحاليل، وهم في بحث دائم عن دواء قد اختفى من السوق .. وكأن آلام المرض التي توهن الجسم وترهق النفس لا تكفي، فتأتي آلام العوز والاحتياج لكثيرين لا يجدون ما يسددون به أجور الأطباء العالية وأثمان الأدوية الغالية وتكلفة الأشعات والتحاليل المتزايدة، وغير ذلك من مصاريف العلاج الباهظة .. تراهم أشبه ما يكونون بمن يسيرون في حقل أشواك تحيط بهم من كل اتجاه .. يعيشون أيامهم وكأنها كابوس متصل، فأنى لفرحة العيد أن تخفف من هذه الآلام؟!

(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. عدت وفي نفوسنا حسرة، وفي حلوقنا غصة، من حالة اغتراب نحس بها ونكابدها في وطن عشنا عمرنا كله فيه ثم نجد أنفسنا الآن وكأننا غرباء عنه، أو كأنه غريب عنا! .. اختلف الناس واختلفت طبائعهم وتغيرت قيمهم وتبدلت نفوسهم وانحدرت أذواقهم وانحطت سلوكياتهم، حتى أنك لتتساءل: هل هؤلاء الناس منا؟ وقبل أن تحاول الإجابة يقفز إلى ذهنك السؤال الأشد مرارةً: وهل نحن حقاً منهم؟. ما الذي حدث لنا وسبب كل هذا التغير وحوَّلنا من حالٍ إلى حال نجد أنفسنا فيه محاصرين بكل ما هو محبط ومؤلم ومحير في ذات الوقت؟!

(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. وقد تفنن الناس في أشكال الظلم والكذب والافتراء وخيانة الأمانة والفساد وأكل الأموال بالباطل، وابتكروا ما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين من أساليب النفاق والرياء، وأبدعوا في توظيف الجهل وتسويق الأباطيل وبيع الوهم وتضييع الحقوق .. كأنهم في سباق مع الزمن للسعي طواعيةً إلى كل ما هو باطل، والتخلي عن إنسانيتهم وكرامتهم بإرادتهم الحرة! وكلما أراد شخص أن ينصح لهم اجتمع عليه البعض يريدون تجريده من وطنيته كما لو أنهم هم المقصودون بالآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾!

(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. والناس يبتعدون عن الحياة الكريمة يوماً بعد يوم .. يبتعدون عن كل ما هو طيب .. يبتعدون عن طريق الحق رغم وضوحه .. ويسيرون في طريق الباطل كأنهم مغيبون .. وافقوا وصف حافظ إبراهيم لهم حين قال:
وشعبٌ يفرُّ من الصالحاتِ                             فرارَ السَّليم من الأجربِ
وصُحْفٌ تطنُّ طنينَ الذُّبابِ                            وأخرى تشنُّ على الأقربِ
وهذا يلوذ بقصر الأميرِ                                ويدعو إلى ظِلِّه الأرحبِ
وهذا يلوذ بقصر السَّفيرِ                                ويُطنِب في وِرده الأعذبِ
وهذا يصيحُ مع الصائحينَ                             على غير قصدٍ ولا مأربِ
(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. والعداوة والبغضاء والكراهية والاتهامات الباطلة والأكاذيب والإشاعات يتقاذفها أناس يكذبون كما يتنفسون، يخلطون السم بالعسل، لا تستطيع الهرب منهم فهم يحيطون بك ويحاصرونك ليل نهار، تراهم على شاشات تلفازك وتسمعهم في مذياعك وتقرأ ما يكتبون في الصحف والمجلات وعلى شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ومن عجب أنك ترى من يتابعهم ويترقب مشاهدتهم والاستماع إلى أباطيلهم وقراءة أكاذيبهم وضلالاتهم ثم يتحول بدوره إلى بوق جديد ينعق بما رأى وسمع وقرأ دون إدراك وتمييز بين حق وباطل!

(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟) .. وقد أطبق علينا التخلف بكل أشكاله من جميع الجوانب في جميع المجالات، وأصبحت المسافة بيننا وبين غيرنا من الأمم كالمسافة بين الكواكب والنجوم، تحولنا من العمل إلى الكلام، ومن الإنتاج إلى الاستهلاك، ومن التصدير إلى الاستيراد، ومن الوحدة إلى الفرقة، ومن الحب إلى الكراهية، ومن الأمانة إلى الخيانة، ومن الصدق إلى الكذب، ومن العلم إلى الجهل .. تحول الكثير منا، إلا من رحم الله، من النور إلى الظلام، ومن الحق إلى الضلال، واختاروا البعد عن الطريق الصحيح، طريق الحق الذي اختاره لنا الله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾!

أحبتي في الله .. ليس لنا للخروج مما أوقعنا أنفسنا فيه إلا العودة إلى جادة الصواب والرجوع إلى سبيل الحق ..
ليس من العيب أن يخطئ الإنسان، لكن من العجيب أن يكابر بعد أن يرى بأم عينيه ما وصلنا إليه من أحوال، ويعلم ما قد نصل إليه في قادم الأيام، ويتأكد من خطأ اختياراته، ويوقن بأنه لا مخرج ولا منجى إلا بالعودة لطريق الحق، ومع ذلك يظل مدافعاً عن الباطل مستمسكاً بالسير في طريق الضلال .. أما آن لنا من فواق؟!
طريق الحق واضح جلي، من سلكه فاز ونجا، ومن رغب عنه ورضي لنفسه بالبعد عنه فقد رضي لنفسه بالعمى! ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾، فهل ننتظر مصير ثمود الذين اختاروا الباطل بدلاً من الحق ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أم ننتظر مصير قوم فرعون الذين استخف بهم فرعون ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾!

أحبتي .. لله در أبو الطيب المتنبي حين قال في ذات القصيدة:
أكُلّمَا اغتَالَ عَبدُ السّوْءِ سَيّدَهُ                        أوْ خَانَهُ فَلَهُ في مصرَ تَمْهِيدُ
نَامَتْ نَوَاطِيرُ مِصرٍ عَنْ ثَعَالِبِها                      فَقَدْ بَشِمْنَ وَما تَفنى العَنَاقيدُ
نرجو من الله سبحانه وتعالى ألا نكون ممن ورد وصفهم في قصيدة حافظ إبراهيم التي أشرنا إليها، حيث قال في آخرها:
أمّةً ضاقَ عن وصفها                                     جَنانُ المفوَّهِ والأَخْطَبِ
تضيعُ الحقيقةُ ما بيننا                                ويَصلى البريءُ مع المذنبِ
ويُهضَمُ فينا الإمامُ الحكيمُ                              ويُكْرَم فينا الجهولُ الغَبِي

هدانا الله، وأصلح أحوالنا، وأرانا الحق حقاً ورزقنا اتباعه، وأرانا الباطل باطلاً وأعنا على اجتنابه .. وقتها يمكن أن نحس بفرحة العيد، ولا نعود نتساءل (عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟).

خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم.



https://goo.gl/mG34S7

الجمعة، 9 سبتمبر 2016

القضاء والقدر

الجمعة 9 سبتمبر 2016م
                                        
خاطرة الجمعة /٤٨
(القضاء والقدر)

قال لي وهو يكاد يبكي: "أعلم أن حظي سيء، ليس لي بخت، مكتوبٌ عليّ التعب والشقاء"، قلت محاولاً تخفيف ما يشعر به من مرارة: "اصبر وما صبرك إلا بالله"، رد قائلاً: "صبرت حتى ضقت ومللت من الصبر"، قلت له: "هذا قول الضعيف، أما القوي فيقول: سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري، سأصبر حتى ينظر الرحمن في أمري، سأصبر حتى يعلم الصبر أني صبرت على شيء أَمَر من الصبر .. هكذا قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه"، اكتفى بالقول: "لا فائدة؛ إنه قدري"، قلت فاتحاً له باب الأمل: "ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت، وكنت أظنها لا تفرج".
تركني وانصرف، بعد أن خفف قليلاً من همومه بالتنفيس عنها، وزاد كثيراً في همومي أنا؛ فعبارته الأخيرة "لا فائدة؛ إنه قدري" ظلت تدق مسامعي وتؤرقني؛ ليلح علي سؤالٌ مهم: هل نستطيع أن نغير من أقدارنا؟
ما برح هذا السؤال يدور في رأسي باحثاً عن إجابة إلى أن تذكرت أنه سبق لي أن قرأت شيئاً حول موضوع (القضاء والقدر) وهل يمكن للدعاء أن يغير ما قدره الله سبحانه وتعالى لنا وكتبه علينا؟ .. رجعت إلى دفترٍ أكتب فيه بعض ما أقرأ فوجدت ضالتي في فقرةٍ للإمام الغزالي قال فيها رحمه الله: {فإن قيل: ما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سببُ رد البلاء ووجود الرحمة، كما أن البذر سببٌ لخروج النبات من الأرض، وكما أن الترس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء}، هكذا إذن صار الأمر واضحاً جلياً، بالدعاء يتغير (القضاء والقدر)، وبحياء وكرم الله سبحانه وتعالى تتم الاستجابة للدعاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً]، والدعاء يغير بإذن الله أموراً في الحاضر وأموراً في المستقبل؛ قال عليه الصلاة والسلام: [ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجَّل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما يصرف عنه من السوء مثلها].
علينا إذن بالدعاء لنغير (القضاء والقدر)؛ يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: [الله عز وجل يمحو بالدعاء ما شاء من القدر]، ويقول صلى الله عليه وسلم: [الدعاء ينفع ممَّا نزل وممَّا لم ينزل، وإن البلاءَ لينزل فيتلقَّاهُ الدُّعاء فيعْتَلِجَانِ إلى يوم القيامة]، <ومعنى يعتلجان: يصطرعان>؛ فالدعاء يرد القضاء لأنه من قضاء الله وقدره. ورد في الأثر {أن طالباً سأل شيخَهُ فقال: هل تتغيّر الأقدار يا شيخي؟ فردَّ الشيخ: أوَ ما بَلغَك أن الدُّعاء يُصارع الأقدار، وأنّ ثَمّة دعاءً من قوته وكثرة إلحاح صاحِبه وشدّة توسله يغلب أقداراً تنزَّلت وشارفت على الوقوع؟ وأنّ ثمّة من يُتقنون الدّعاء بكثافة حتى تتنادى لدموعِهم ملائكة السماء؟ يا بُنيّ .. إنّ الدعاء بعضٌ من إرادة الله، فتعلّم كيف تفر من قدرٍ يُرهقك إلى قدرٍ خيرٍ منه، وذلك فقط إذا علَّمت رُكبتيك كيف تجثو في الأسحار. يا بُنيّ .. إن كلماتك في السُّجود تشتدّ كل ليلة كَسِياجٍ حتى يتطاول لك البُنيان، وفي لحظة اكتمال، سيبدو لك جليّاً أين كانت تذهب تلك الأنّات وتلك الدعوات. يا ولدي .. ثق أنَّ الدُّعاء يعيدُ ترتيب المشهد}.ولنا عبرة في قول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾، إذ يتبين لنا أن الاستجابة تمت بعد الاستغاثة بالدعاء، فقد أمرنا المولى عز وجل بالدعاء: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي﴾، ووعدنا بالإجابة ﴿أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، إنه وعدٌ ممن لا يخلف وعده ﴿وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾.

أحبتي في الله ..  نحن عندما ندعو الله إنما نفر من قدر الله إلى قدر الله، فلو لم يُعنَّا الله تبارك وتعالى ويوفقنا للدعاء ما كنا دعونا، وإذا شاء الله وأراد أن يغير قدرنا بالدعاء أعاننا عليه، فبالدعاء يتغير(القضاء والقدر) عندما ندعو ونحن موقنون بالإجابة؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ].

أحبتي .. القدر هو ما قدّره الله وقضاه من المقادير، فلا يقع شيء في الكون إلا وقد علمه الله في علمه الأزلي، وقضى أن يكون؛ قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾، وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾، وقال عز وجل: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾. كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾؛ فلنطمع في رحمة الله في محو ما يشاء من أقدارنا؛ فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو يطوف بالبيت: {اللهمّ إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أمّ الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة}.
فلنغير (القضاء والقدر) بإذن الله تعالى بالإخلاص في الدعاء والإلحاح فيه والأخذ بشروط الاستجابة له خاصةً منها طيب المطعم؛ كما قال الحبيب المصطفى لسعد بن أبي وقاص: [أَطِبْ مَطْعَمَكَ؛ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَة].
السؤال الآن، هل يوجد في غير الدعاء ما تتغير به أقدارنا؟ الإجابة، نعم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ أحبَّ أن يُبسطَ له في رِزقه، ويُنسأ له في أَثَرِه فلْيَصِلْ رحِمه]، ويقول: [لا يزيد في العمر إلا البر]؛ كما يقول: [الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار]، ورُوي عنه قوله: [إن صدقة السر تطفئ غضب الله وتدفع ميتة السوء]، إنه الدعاء عندما يقترن بالعمل؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.
إذن (القضاء والقدر) يتغيران بالدعاء وصلة الرحم وأعمال البر والصدقات، وبتغيير ما بأنفسنا ليكون كلٌ منا قرآناً يمشي على الأرض على منهج الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/wjxwrO

الجمعة، 2 سبتمبر 2016

البغض في الله

الجمعة 2 سبتمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٤٧
(البغض في الله)

صديقان رغم ما بينهما من خلاف فكري إلا أنهما يحرصان على ألا تنقطع شعرة الصداقة التي لا تزال تربطهما. في جولة من جولات حوارهما الساخن دائماً، قال أحدهما: "أنا أحب فلاناً" وسَمَّى شخصاً يعرفه كلٌ منهما، فاجأه صديقه بقوله: "أما أنا فلا أحبه أبداً، أنا أبغضه في الله!"، اندهش الأول لما سمع التعبير الأخير وبدت علامات التعجب ظاهرةً على وجهه، فانتهز الثاني هذه الفرصة وأكمل حديثه: "لا تتعجب، فكما تقول لشخصٍ ما إني أحبك في الله، يجوز أن تقول لآخر إني أبغضك في الله، على أن يكون معيار المحبة في الله أو (البغض في الله) هو مدى اقتراب أو ابتعاد ذلك الشخص من منهج الله، بعيداً عن أية أهواء شخصية أو حسابات دنيوية"، سأله صديقه: "سمعت كثيراً عن الحب في الله، أما تعبير (البغض في الله) فلم أسمعه من قبل، هل لديك دليل شرعي عليه؟"، أخرج هاتفه الشخصي، دخل على شبكة الإنترنت، كتب في موقع البحث عدة كلمات، وقال له: "استمع عزيزي إلى هذه الأدلة: قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: [أوثق عُرَىَ الإيمان: الحب في الله والبغض في الله]، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: [من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان].  وجاء عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً جاء إليه فقال: {يا عبد الله إني أحبك في الله}، قال: {أما أنا فأكرهك في الله، أو أبغضك في الله}، قال: {لِمَ؟}، قال: {لأنك تَلْحَن في أذانك وتأخذ عليه أجراً}".
بدأت علامات التعجب التي ظهرت على وجه الصديق تتلاشى مع كل دليل يستمع إليه، وعاد إلى الموضوع الأصلي فسأل: "ولِمَ تبغضه في الله؟ ألم تسمعه يقول في كل مناسبة أنه يريد الخير، ولا يريد غير الخير؟"، قال: "بلى سمعت ما قال، لكن أفعاله تخالف أقواله، فهل نصدق ما نسمع أم نصدق ما نرى؟ لقد ابتُلينا بكثيرٍ ممن يقولون ما لا يفعلون، كأني بهم لم يستمعوا لقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، أو كأنهم استمعوا ولم يعوا، أو أنهم استمعوا ووعوا ولم يعملوا بما سمعوا؛ فيكونون ممن يتعمدون أن يفعلوا ما هو ممقوت عند الله أشد المقت!"، ثم أخرج هاتفه المحمول وبحث في شبكة الإنترنت عن معنى هاتين الآيتين؛ فقرأ على صديقه ما يلي: {قال الإمام الطبري شيخ المفسرين: لم تقولون القول الذي لا تصدقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة لأقوالكم، "كبر مقتاً.." عَظُم مقتاً وكرهاً عند ربكم قولكم ما لا تفعلون. والمقت شدة الكراهة}. وقرأ أيضاً: {الآية وإن كانت نزلت في قوم قالوا إنهم لو علموا أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملوا بها، فلما علموا ذلك لم يعملوا فوبخهم الله تعالى بهذه الآية، فهي كذلك بعمومها تدل على كل من يَعِد ولم يفِ بوعده، أو يأمر بالمعروف ولا يأتيه، أو ينهى عن المنكر ويأتيه}. قال معلقاً على ما قرأ: "وهذا بالضبط ما أراه من ذلك الشخص موضوع حديثنا، يقول ما لا يفعل، أقسم على أيمانٍ وحنث بها، خان الأمانة، ظَلم، كذب وافترى، وفعل ما هو أسوأ من ذلك، أفتتعجب بعد كل ذلك أن أقول عنه أنني أبغضه في الله؟!". قال صديقه: "ولماذا تنظر إلى الجانب السلبي فقط؟ لماذا لا تنظر إلى الجانب الإيجابي؟ أليس لكلٍ منا سلبياته وإيجابياته؟ قد يكون حَسِن النية، نحن بشر يا صديقي ولسنا ملائكة"، قاطعه قائلاً: "معك حق، نحن بشر قد نخطئ بحسن نية، لكنك حين ترى هذا الشخص يفعل ما يفعل عامداً متعمداً قاصداً مبيتاً النية مكرراً ما يفعل مُصراً عليه لا يتراجع عنه ولا يعتذر ولا يعيد الحقوق لأصحابها فهو لا يعترف في الأساس بأن لهم حقوقاً، فإن نيته هنا تكون ظاهرة جلية لكل من له عقل؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾، أما من اختار لنفسه أن يرى ما يرى ويسمع ما يسمع ثم يُعطل عقله ويُغَلِّب هواه فكأنما ينطبق عليه قول الحق عز وجل: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وحاشى لله أن يكون من بيننا من يرضون لأنفسهم أن يكونوا كالأنعام بل أضل!، وتأمل يا صديقي قوله سبحانه: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾، اللهم لا تجعلنا ممن عميت قلوبهم". قال: "يبدو لي أنك تشددت وأعطيت الأمر أكثر مما يستحق!"، رد صديقه: "وهل نجامل في دين الله وشرعه الذي ارتضاه لنا؟"، رد بسرعة: "حاشانا"، عاد صديقه لإنهاء حديثه قائلاً: "عزيزي .. قال الرسول عليه الصلاة والسلام:[مَن رَأى مِنكُم مُنكَرَاً فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِقَلبِه وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ]. و(البغض في الله) والتصريح بذلك فيه خير لمن ما تزال في قلبه حبة خردل من إيمان؛ فلعله عندما يحس بهذا البغض يفوق من غفلته ويتقي الله"، قال له صاحبه وهو يحاوره: "وهل تعتقد أنه يستمع لنصيحة أو رأي؟"، رد: "إنما أنا ناصح أمين، لسان حالي يقول ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾".

أحبتي في الله .. كثيرون هم البعيدون عن منهج الله، علينا أن ننصحهم بالحسنى ونحبب إليهم سبيل الحق ونأخذ بأيديهم ونشجعهم، علينا أن نصبر عليهم .. لكن فئةً منهم لا يقبلون النصيحة، ولا يتقبلون كلمة حقٍ تُقال لهم، مستكبرين، أخذتهم العزة بالإثم، أفعالهم واضحة الهدف، إنهم يحاربون الدين .. فكيف نتعامل مع هؤلاء؟ أمامنا خياران لا ثالث لهما: إما أن نؤيدهم وندافع عن خطاياهم ونزين لهم ما يفعلون، وإما أن نستنكر عليهم أفعالهم ونصارحهم وننصحهم دون مجاملة في دين الله أو محاباة. الخيار الأول نتيجته معلومة .. فراعين جدد ممن يقولون: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، هؤلاء وأتباعهم تُبين لنا الآية الكريمة أن أعمالهم خاسرة حتى لو كانوا يظنون أنهم يفعلون الصواب: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾. وأما الخيار الثاني فينبت لنا الصالحين من أمثال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين كان بينه وبين رجل كلامٌ في شيء، فقال له الرجل: اتق الله يا أمير المؤمنين، فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله، فقال له عمر: {دعه فليقلها لي نِعْمَ ما قال}. ثم قال قولته الخالدة: {لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم}.

أحبتي .. لا أتحدث عن المقصرين؛ فكلنا مقصرون .. ولا أعني ذوي النوايا الطيبة الغافلين؛ فكم غفلنا ثم انتبهنا من غفوتنا برحمة الله .. وإنما أقصد كل من يتعمد البعد عن منهج الله، سادراً في غيه، لا يقبل نصيحة ولا يأبه لتوجيه ﴿إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ .. هؤلاء يكون إبداء (البغض في الله) لهم واجباً على كل مسلم يبرأ لدينه؛ يقول الإمام أحمد بن حنبل: {من أفضل خصال الإيمان الحب في الله والبغض في الله}. إنها قضية الولاء والبراء، الولاء لكل من اتبع منهج الله سبحانه وتعالى، والبراء من كل من خالف هذا المنهج عامداً متعمداً. ولنا، كما يقول المولى عز وجل، في سيدنا إبراهيم ومن آمنوا معه القدوة والأسوة الحسنة؛ قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾.
‏اللهم أنر بصائرنا .. واهدنا أجمعين .. واجعلنا من القوم الذين قلت فيهم سبحانك أنك تحبهم وأنهم يحبونك: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ فذلك فضلك تؤتيه من تشاء، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/Kmyuvh