الجمعة، 9 سبتمبر 2016

القضاء والقدر

الجمعة 9 سبتمبر 2016م
                                        
خاطرة الجمعة /٤٨
(القضاء والقدر)

قال لي وهو يكاد يبكي: "أعلم أن حظي سيء، ليس لي بخت، مكتوبٌ عليّ التعب والشقاء"، قلت محاولاً تخفيف ما يشعر به من مرارة: "اصبر وما صبرك إلا بالله"، رد قائلاً: "صبرت حتى ضقت ومللت من الصبر"، قلت له: "هذا قول الضعيف، أما القوي فيقول: سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري، سأصبر حتى ينظر الرحمن في أمري، سأصبر حتى يعلم الصبر أني صبرت على شيء أَمَر من الصبر .. هكذا قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه"، اكتفى بالقول: "لا فائدة؛ إنه قدري"، قلت فاتحاً له باب الأمل: "ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت، وكنت أظنها لا تفرج".
تركني وانصرف، بعد أن خفف قليلاً من همومه بالتنفيس عنها، وزاد كثيراً في همومي أنا؛ فعبارته الأخيرة "لا فائدة؛ إنه قدري" ظلت تدق مسامعي وتؤرقني؛ ليلح علي سؤالٌ مهم: هل نستطيع أن نغير من أقدارنا؟
ما برح هذا السؤال يدور في رأسي باحثاً عن إجابة إلى أن تذكرت أنه سبق لي أن قرأت شيئاً حول موضوع (القضاء والقدر) وهل يمكن للدعاء أن يغير ما قدره الله سبحانه وتعالى لنا وكتبه علينا؟ .. رجعت إلى دفترٍ أكتب فيه بعض ما أقرأ فوجدت ضالتي في فقرةٍ للإمام الغزالي قال فيها رحمه الله: {فإن قيل: ما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سببُ رد البلاء ووجود الرحمة، كما أن البذر سببٌ لخروج النبات من الأرض، وكما أن الترس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء}، هكذا إذن صار الأمر واضحاً جلياً، بالدعاء يتغير (القضاء والقدر)، وبحياء وكرم الله سبحانه وتعالى تتم الاستجابة للدعاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً]، والدعاء يغير بإذن الله أموراً في الحاضر وأموراً في المستقبل؛ قال عليه الصلاة والسلام: [ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجَّل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما يصرف عنه من السوء مثلها].
علينا إذن بالدعاء لنغير (القضاء والقدر)؛ يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: [الله عز وجل يمحو بالدعاء ما شاء من القدر]، ويقول صلى الله عليه وسلم: [الدعاء ينفع ممَّا نزل وممَّا لم ينزل، وإن البلاءَ لينزل فيتلقَّاهُ الدُّعاء فيعْتَلِجَانِ إلى يوم القيامة]، <ومعنى يعتلجان: يصطرعان>؛ فالدعاء يرد القضاء لأنه من قضاء الله وقدره. ورد في الأثر {أن طالباً سأل شيخَهُ فقال: هل تتغيّر الأقدار يا شيخي؟ فردَّ الشيخ: أوَ ما بَلغَك أن الدُّعاء يُصارع الأقدار، وأنّ ثَمّة دعاءً من قوته وكثرة إلحاح صاحِبه وشدّة توسله يغلب أقداراً تنزَّلت وشارفت على الوقوع؟ وأنّ ثمّة من يُتقنون الدّعاء بكثافة حتى تتنادى لدموعِهم ملائكة السماء؟ يا بُنيّ .. إنّ الدعاء بعضٌ من إرادة الله، فتعلّم كيف تفر من قدرٍ يُرهقك إلى قدرٍ خيرٍ منه، وذلك فقط إذا علَّمت رُكبتيك كيف تجثو في الأسحار. يا بُنيّ .. إن كلماتك في السُّجود تشتدّ كل ليلة كَسِياجٍ حتى يتطاول لك البُنيان، وفي لحظة اكتمال، سيبدو لك جليّاً أين كانت تذهب تلك الأنّات وتلك الدعوات. يا ولدي .. ثق أنَّ الدُّعاء يعيدُ ترتيب المشهد}.ولنا عبرة في قول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾، إذ يتبين لنا أن الاستجابة تمت بعد الاستغاثة بالدعاء، فقد أمرنا المولى عز وجل بالدعاء: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي﴾، ووعدنا بالإجابة ﴿أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، إنه وعدٌ ممن لا يخلف وعده ﴿وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾.

أحبتي في الله ..  نحن عندما ندعو الله إنما نفر من قدر الله إلى قدر الله، فلو لم يُعنَّا الله تبارك وتعالى ويوفقنا للدعاء ما كنا دعونا، وإذا شاء الله وأراد أن يغير قدرنا بالدعاء أعاننا عليه، فبالدعاء يتغير(القضاء والقدر) عندما ندعو ونحن موقنون بالإجابة؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ].

أحبتي .. القدر هو ما قدّره الله وقضاه من المقادير، فلا يقع شيء في الكون إلا وقد علمه الله في علمه الأزلي، وقضى أن يكون؛ قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾، وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾، وقال عز وجل: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾. كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾؛ فلنطمع في رحمة الله في محو ما يشاء من أقدارنا؛ فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو يطوف بالبيت: {اللهمّ إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أمّ الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة}.
فلنغير (القضاء والقدر) بإذن الله تعالى بالإخلاص في الدعاء والإلحاح فيه والأخذ بشروط الاستجابة له خاصةً منها طيب المطعم؛ كما قال الحبيب المصطفى لسعد بن أبي وقاص: [أَطِبْ مَطْعَمَكَ؛ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَة].
السؤال الآن، هل يوجد في غير الدعاء ما تتغير به أقدارنا؟ الإجابة، نعم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ أحبَّ أن يُبسطَ له في رِزقه، ويُنسأ له في أَثَرِه فلْيَصِلْ رحِمه]، ويقول: [لا يزيد في العمر إلا البر]؛ كما يقول: [الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار]، ورُوي عنه قوله: [إن صدقة السر تطفئ غضب الله وتدفع ميتة السوء]، إنه الدعاء عندما يقترن بالعمل؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.
إذن (القضاء والقدر) يتغيران بالدعاء وصلة الرحم وأعمال البر والصدقات، وبتغيير ما بأنفسنا ليكون كلٌ منا قرآناً يمشي على الأرض على منهج الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/wjxwrO

الجمعة، 2 سبتمبر 2016

البغض في الله

الجمعة 2 سبتمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٤٧
(البغض في الله)

صديقان رغم ما بينهما من خلاف فكري إلا أنهما يحرصان على ألا تنقطع شعرة الصداقة التي لا تزال تربطهما. في جولة من جولات حوارهما الساخن دائماً، قال أحدهما: "أنا أحب فلاناً" وسَمَّى شخصاً يعرفه كلٌ منهما، فاجأه صديقه بقوله: "أما أنا فلا أحبه أبداً، أنا أبغضه في الله!"، اندهش الأول لما سمع التعبير الأخير وبدت علامات التعجب ظاهرةً على وجهه، فانتهز الثاني هذه الفرصة وأكمل حديثه: "لا تتعجب، فكما تقول لشخصٍ ما إني أحبك في الله، يجوز أن تقول لآخر إني أبغضك في الله، على أن يكون معيار المحبة في الله أو (البغض في الله) هو مدى اقتراب أو ابتعاد ذلك الشخص من منهج الله، بعيداً عن أية أهواء شخصية أو حسابات دنيوية"، سأله صديقه: "سمعت كثيراً عن الحب في الله، أما تعبير (البغض في الله) فلم أسمعه من قبل، هل لديك دليل شرعي عليه؟"، أخرج هاتفه الشخصي، دخل على شبكة الإنترنت، كتب في موقع البحث عدة كلمات، وقال له: "استمع عزيزي إلى هذه الأدلة: قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: [أوثق عُرَىَ الإيمان: الحب في الله والبغض في الله]، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: [من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان].  وجاء عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً جاء إليه فقال: {يا عبد الله إني أحبك في الله}، قال: {أما أنا فأكرهك في الله، أو أبغضك في الله}، قال: {لِمَ؟}، قال: {لأنك تَلْحَن في أذانك وتأخذ عليه أجراً}".
بدأت علامات التعجب التي ظهرت على وجه الصديق تتلاشى مع كل دليل يستمع إليه، وعاد إلى الموضوع الأصلي فسأل: "ولِمَ تبغضه في الله؟ ألم تسمعه يقول في كل مناسبة أنه يريد الخير، ولا يريد غير الخير؟"، قال: "بلى سمعت ما قال، لكن أفعاله تخالف أقواله، فهل نصدق ما نسمع أم نصدق ما نرى؟ لقد ابتُلينا بكثيرٍ ممن يقولون ما لا يفعلون، كأني بهم لم يستمعوا لقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، أو كأنهم استمعوا ولم يعوا، أو أنهم استمعوا ووعوا ولم يعملوا بما سمعوا؛ فيكونون ممن يتعمدون أن يفعلوا ما هو ممقوت عند الله أشد المقت!"، ثم أخرج هاتفه المحمول وبحث في شبكة الإنترنت عن معنى هاتين الآيتين؛ فقرأ على صديقه ما يلي: {قال الإمام الطبري شيخ المفسرين: لم تقولون القول الذي لا تصدقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة لأقوالكم، "كبر مقتاً.." عَظُم مقتاً وكرهاً عند ربكم قولكم ما لا تفعلون. والمقت شدة الكراهة}. وقرأ أيضاً: {الآية وإن كانت نزلت في قوم قالوا إنهم لو علموا أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملوا بها، فلما علموا ذلك لم يعملوا فوبخهم الله تعالى بهذه الآية، فهي كذلك بعمومها تدل على كل من يَعِد ولم يفِ بوعده، أو يأمر بالمعروف ولا يأتيه، أو ينهى عن المنكر ويأتيه}. قال معلقاً على ما قرأ: "وهذا بالضبط ما أراه من ذلك الشخص موضوع حديثنا، يقول ما لا يفعل، أقسم على أيمانٍ وحنث بها، خان الأمانة، ظَلم، كذب وافترى، وفعل ما هو أسوأ من ذلك، أفتتعجب بعد كل ذلك أن أقول عنه أنني أبغضه في الله؟!". قال صديقه: "ولماذا تنظر إلى الجانب السلبي فقط؟ لماذا لا تنظر إلى الجانب الإيجابي؟ أليس لكلٍ منا سلبياته وإيجابياته؟ قد يكون حَسِن النية، نحن بشر يا صديقي ولسنا ملائكة"، قاطعه قائلاً: "معك حق، نحن بشر قد نخطئ بحسن نية، لكنك حين ترى هذا الشخص يفعل ما يفعل عامداً متعمداً قاصداً مبيتاً النية مكرراً ما يفعل مُصراً عليه لا يتراجع عنه ولا يعتذر ولا يعيد الحقوق لأصحابها فهو لا يعترف في الأساس بأن لهم حقوقاً، فإن نيته هنا تكون ظاهرة جلية لكل من له عقل؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾، أما من اختار لنفسه أن يرى ما يرى ويسمع ما يسمع ثم يُعطل عقله ويُغَلِّب هواه فكأنما ينطبق عليه قول الحق عز وجل: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وحاشى لله أن يكون من بيننا من يرضون لأنفسهم أن يكونوا كالأنعام بل أضل!، وتأمل يا صديقي قوله سبحانه: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾، اللهم لا تجعلنا ممن عميت قلوبهم". قال: "يبدو لي أنك تشددت وأعطيت الأمر أكثر مما يستحق!"، رد صديقه: "وهل نجامل في دين الله وشرعه الذي ارتضاه لنا؟"، رد بسرعة: "حاشانا"، عاد صديقه لإنهاء حديثه قائلاً: "عزيزي .. قال الرسول عليه الصلاة والسلام:[مَن رَأى مِنكُم مُنكَرَاً فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِقَلبِه وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ]. و(البغض في الله) والتصريح بذلك فيه خير لمن ما تزال في قلبه حبة خردل من إيمان؛ فلعله عندما يحس بهذا البغض يفوق من غفلته ويتقي الله"، قال له صاحبه وهو يحاوره: "وهل تعتقد أنه يستمع لنصيحة أو رأي؟"، رد: "إنما أنا ناصح أمين، لسان حالي يقول ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾".

أحبتي في الله .. كثيرون هم البعيدون عن منهج الله، علينا أن ننصحهم بالحسنى ونحبب إليهم سبيل الحق ونأخذ بأيديهم ونشجعهم، علينا أن نصبر عليهم .. لكن فئةً منهم لا يقبلون النصيحة، ولا يتقبلون كلمة حقٍ تُقال لهم، مستكبرين، أخذتهم العزة بالإثم، أفعالهم واضحة الهدف، إنهم يحاربون الدين .. فكيف نتعامل مع هؤلاء؟ أمامنا خياران لا ثالث لهما: إما أن نؤيدهم وندافع عن خطاياهم ونزين لهم ما يفعلون، وإما أن نستنكر عليهم أفعالهم ونصارحهم وننصحهم دون مجاملة في دين الله أو محاباة. الخيار الأول نتيجته معلومة .. فراعين جدد ممن يقولون: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، هؤلاء وأتباعهم تُبين لنا الآية الكريمة أن أعمالهم خاسرة حتى لو كانوا يظنون أنهم يفعلون الصواب: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾. وأما الخيار الثاني فينبت لنا الصالحين من أمثال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين كان بينه وبين رجل كلامٌ في شيء، فقال له الرجل: اتق الله يا أمير المؤمنين، فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله، فقال له عمر: {دعه فليقلها لي نِعْمَ ما قال}. ثم قال قولته الخالدة: {لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم}.

أحبتي .. لا أتحدث عن المقصرين؛ فكلنا مقصرون .. ولا أعني ذوي النوايا الطيبة الغافلين؛ فكم غفلنا ثم انتبهنا من غفوتنا برحمة الله .. وإنما أقصد كل من يتعمد البعد عن منهج الله، سادراً في غيه، لا يقبل نصيحة ولا يأبه لتوجيه ﴿إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ .. هؤلاء يكون إبداء (البغض في الله) لهم واجباً على كل مسلم يبرأ لدينه؛ يقول الإمام أحمد بن حنبل: {من أفضل خصال الإيمان الحب في الله والبغض في الله}. إنها قضية الولاء والبراء، الولاء لكل من اتبع منهج الله سبحانه وتعالى، والبراء من كل من خالف هذا المنهج عامداً متعمداً. ولنا، كما يقول المولى عز وجل، في سيدنا إبراهيم ومن آمنوا معه القدوة والأسوة الحسنة؛ قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾.
‏اللهم أنر بصائرنا .. واهدنا أجمعين .. واجعلنا من القوم الذين قلت فيهم سبحانك أنك تحبهم وأنهم يحبونك: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ فذلك فضلك تؤتيه من تشاء، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/Kmyuvh


الجمعة، 26 أغسطس 2016

فلنغير ما بأنفسنا

الجمعة 26 أغسطس 2016م
خاطرة الجمعة /٤٦

(فلنغير ما بأنفسنا)

دأب الإنسان منذ بدء الخليقة على محاكاة غيره من المخلوقات، فكانت أول محاكاة بشرية سجلها التاريخ تلك التي بدأها قابيل ابن آدم عليه السلام عندما طوعت له نفسه قتل أخيه هابيل، ثم عجز عن مواراة جثة أخيه في التراب فبعث الله سبحانه وتعالى غراباً ليريه كيف يواري سوءة أخيه؛ قال تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾، ولم تنقطع رحلة المحاكاة؛ حاكى الإنسان السمك والحيتان فصنع المراكب والبواخر والسفن والغواصات، وحاكى الدواب والأحصنة فصنع السيارات، وحاكى الطيور فصنع الطائرات، وحاكى العنكبوت فصنع شبكات الصيد وأجهزة غزل المنسوجات، وحاكى الخفاش والدولفين فصنع الرادارات. وبالتوازي حاول الإنسان محاكاة الظواهر الطبيعية؛ فحاكى ظاهرة التبخر بصنع الآلات البخارية، وحاكى هطول المطر بالاستمطار الصناعي، وحاكى برودة الجو والصقيع بصنع مكيفات الهواء والبرادات والمجمدات. ثم بدأت محاكاة أعضاء جسم الإنسان وجوارحه؛ فاخترع الإنسان النظارات والميكروسكوبات والكاميرات والسماعات والأطراف الصناعية وأجهزة غسيل الكلى والقلب الصناعي وأجهزة الحاسوب، في محاكاة مقصودة للعين والأذن والأيدي والأقدام والكلى والقلب والمخ. ولما حاكى مخلوقات الله سبحانه وتعالى في الكون اختار القمر ليحاكيه فصنع الأقمار الصناعية. وكان من آخر ما حاكاه الإنسان أن قلد نفسه وحاكاها في بعض وظائفها فصنع الروبوتات.
إنها محاكاة الهدف منها تغيير حياة البشر وتحسينها وتطويرها، فهل توجد ثمة علاقة بين هذا الأمر وبين ما تتضمنه الآية الكريمة:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾؟ تشير الآية إلى نوعين من التغيير: العام والخاص، واشترطت لحدوث التغيير العام أن يكون البدء بالتغيير الخاص، وهو ذلك الذي يبدأه كل فرد منا برغبته وإرادته.
فكرت في الأمر فإذا بخاطرة وردت على ذهني رأيت أن أعرضها عليكم، وها أنا ذا أفعل.
يولد الإنسان على الفطرة طاهراً نقياً خالياً من الذنوب، ويبدأ رحلة حياته ويتواصل مع الآخرين، وتأتيه الابتلاءات والفتن كثيرة ومتتابعة قدرها له المولى عز وجل، لا تنتهي إلا بنهاية الزمن المقدر له للحياة، وهو أجله المسمى؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. تنتهي حياة الإنسان فيُحاسَب على أفعاله وأقواله في كل ما مر به من ابتلاءات وفتن؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، إنه الابتلاء والاختبار الذي يمر به كل ابن آدم، يقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾، ويقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾.
وقبل يوم الحساب يقوم المؤمن بمحاسبة نفسه وهو يعلم أن [كُلّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ] كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فمن رحمة الله أن شرع لنا التوبة وشرع لنا الاستغفار وشرع لنا من أعمال الخير ما يمحو السيئات؛ قال صلى الله عليه وسلم: [وأتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحسَنَةَ تَمْحُهَا]. فتغيير النفس يكون باتباع منهج الله سبحانه وتعالى والالتزام بأداء عباداته وشعائره.
عندما وصلت إلى هذه النقطة من التفكير مرت على ذهني تشابهات كثيرة في الوظائف بين عباداتنا وشعائرنا وبين بعض عمليات نقوم بها في جهاز الحاسوب، وبدا الأمر لي  كأنه نوع من المحاكاة بينهما، من ذلك على سبيل المثال:
 أن عملية إعادة التهيئة <formatting> التي تمسح جميع الملفات ليعود الجهاز بعدها إلى حالته كما بدأ أول مرة، تبدو وكأنها تحاكي فريضة الحج وهي العبادة التي يرجع بعدها المسلم [كيَوْمِ وَلدَتْهُ أُمُّه] كما في الحديث الشريف. وعملية <factory reset> وهي عملية ضبط المصنع التي ترجع بالجهاز إلى إعداداته الأساسية لكنها تحتفظ بالملفات دون مسحها، فيها محاكاة لشعيرة العمرة حيث يكون التغيير بعدها فارقاً في طريقة تفكيرنا وتنظيم أولوياتنا وأساليب تعاملنا. كما بدت لي عملية <deleting> وهي عملية مسح للملفات غير المرغوب فيها، وكأنها تحاكي الآية القرآنية الكريمة: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِْ﴾ وتمحهن فلا يكون للسيئات أثر بل تحل الحسنات محلهن. وتبدو عملية <restart> وهي إعادة تشغيل الجهاز ليبدأ بداية صحيحة، محاكية لحالتنا عندما تتوقف عقولنا عن العمل ونعجز عن التفكير لمشاكل تمر بنا فنقوم للوضوء والصلاة فنستعيد توازننا ونرجع بأنفسنا إلى حيث يجب أن نكون. أما عملية <updating> وهي عملية يومية مستمرة تضمن أن يكون الجهاز وبرامجه في أعلى مستوى ممكن من الجاهزية وحسن الأداء، كأنها تحاكي فريضة الصلاة التي يتوجب على المسلم أداءها خمس مرات كل يوم على الأقل يقف بين يدي خالقه فتتم عملية أشبه ما تكون بالصيانة الدورية المنتظمة وإعادة الضبط تجعل المسلم يحس بالأمن والأمان والاطمئنان والسكينة والهدوء وراحة النفس، وصدق الرسول الكريم عندما كان يقول عن الصلاة: [أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ].
أرجو ألا أكون قد شططت فيما ذهب إليه ذهني من تشابهات بدت لي كأنها نوع من المحاكاة.

أحبتي في الله .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، وفي هذا توجيه إلهي لنا بأن نبادر إلى إحداث التغيير المطلوب بأنفسنا نحن أولاً نحو الأفضل ونحو الأحسن، ومع إخلاص النية لله نضمن بإذنه سبحانه وتعالى النجاح في الابتلاءات والفتن المقدر لها أن تكون هي مجال اختبارنا في الحياة الدنيا، وإن لم نفعل فلن تتغير أحوالنا ونظل نشكو مما يحيط بنا من سوءٍ وشرٍ ومكرٍ وكدٍ وكَبَدٍ وكربٍ وضُرٍ وضيقٍ وضجرٍ وسأمٍ وإرهاقٍ وتعبٍ ومشقةٍ وعنتٍ وهمٍ وغمٍ وحزنٍ وعِللٍ وسقمٍ ووجعٍ وألمٍ ومرضٍ ومحنٍ وفتنٍ وظلمٍ وعدوان، وغيرها من أشكال البلاء والابتلاء.
وعلى المسلم أن يكون معايشاً لعصره، غير منعزل عن دنياه، وأن يكون تفكيره مرناً وأفقه واسعاً وعقله متفتحاً، يدعو الناس، خاصةً الشباب منهم، إلى تصحيح اتجاهاتهم ونظرتهم إلى الدين والدنيا والأخذ بأياديهم للعودة إلى طريق الحق وانتهاج سبل الخير، بلغةٍ يفهمونها، ومفرداتٍ من واقع حياتهم، فيكون بذلك قد خدم دينه وبلَّغ ولو آية؛ وفاءً لأمر وتوجيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً] وعملاً بسنته؛ فيسعد في الدارين: الدنيا التي هي دار ممر، والآخرة التي هي دار مقر ومستقر.

أحبتي .. فلنشمر سواعد الجد ولننطلق لتجديد حياتنا وتحسين واقعنا والارتقاء بأحوالنا نحو الأفضل، وليكن شعارنا (فلنغير ما بأنفسنا)، فإن كنا غافلين نبدأ بعملية <formatting>  شاملة وجذرية نراجع فيها أنفسنا في جميع المجالات ونتخذ قرارات مصيرية لتصويب مساراتنا وتحديد أولوياتنا، ولو كنا مقصرين نقوم بعملية <factory reset> لإعادة ضبط منظومة القيم ومعايير السلوك لدينا فنرجع لفطرتنا الأصيلة ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾، وإن كنا مسيئين فلنحرص على الاستمرار في عملية <deleting> للسيئات أولاً بأول بالإكثار من الحسنات ما أمكنا ذلك، وإن أردنا الحسنى لأنفسنا داومنا على عملية <updating> بالالتزام بالصلوات على أوقاتها ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾، وبمزيد من أعمال البر والتقوى والخير والإحسان بشكل يومي مستمر لنعزز إيماننا ونضيف جديداً إلى رصيدنا كل يوم؛ لتكتمل بذلك عملية التغيير في أنفسنا، ونثق في وعد الله القائل: ﴿وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ بأن يغير ما بنا ويصلح لنا أحوالنا ويستجيب لدعائنا .. يرحمنا ويرحمكم الله.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/KGpMHk

الجمعة، 19 أغسطس 2016

مسلم بطاقة!

الجمعة 19 أغسطس 2016م
خاطرة الجمعة /٤٥

(مسلم بطاقة!)

أحمد شابٌ عربيٌ مسلمٌ اُبتعث لاستكمال دراسته العليا بالولايات المتحدة الأمريكية، تعرف على كريستين فتاة أمريكية غير مسلمة، أُعجب بها، وهام بها حباً، وبادلته حباً بحب، تمنى أن يتزوجها، لكن كان يؤرقه أنها على غير دينه. تردد كثيراً في هذا الأمر ثم حسمه؛ فاتصل بوالده هاتفياً في بلده البعيد وعرض الأمر عليه وطلب موافقته. فوجئ الأب بما يقوله ابنه ولم يسعه إلا أن يعبر عن رفضه التام بكل طريقة ممكنة قائلاً لابنه أن الأفضل له أن يتزوج فتاةً عربيةً مسلمة. لم يستسلم الابن وكرر الاتصال بوالده مراراً حتى لان أبوه قليلاً فوافق على شرط واحد أخبر ابنه أنه لن يتنازل عنه أبداً ألا وهو أن تُشهر صديقته إسلامها قبل أن يتزوجا فيكون قد ضرب عصفورين بحجر واحد: تزوج الفتاة التي يحبها، وكسب ثواب هدايتها ودخولها في دين الله. وافق أحمد على شرط أبيه على مضض فلم يكن أمامه من سبيل غير ذلك، وأخبر كريستين بما دار بينه وبين أبيه، فلم تمانع وأخبرته بأنها هي الأخرى لها شرط واحد تصر عليه، وهو أن يحضر لها كتباً باللغة الإنجليزية عن الإسلام ثم يمهلها ثلاثة أشهر تقرأ فيها هذه الكتب قبل أن تخبره بموقفها ورأيها النهائي، على ألا يتقابلا أو يتحدث إليها هاتفياً طوال تلك المدة. وجد أحمد نفسه للمرة الثانية مضطراً للخضوع، فلا بديل أمامه غير الموافقة. أحضر أحمد مجموعةً من الكتب تشرح بشكل مبسط الإسلام من جوانبه كافةً عقيدة وسيرة وفقه ومعاملات، سلمها لكريستين وانتظر ثلاثة أشهر. أحس أحمد إنها أطول ثلاثة أشهر مرت به في حياته، مرت كأنها ثلاث سنوات، ولما كانت آخر ليلة من ليالي هذه الشهور الطوال جافاه النوم وظل مستيقظاً حتى الصباح تتقاذفه الأفكار ما بين هواجس الخوف وآمال الرجاء. مع تباشير صباح اليوم الموعود أعد لنفسه كوباً من الشاي وجلس قريباً من الهاتف مترقباً اتصال كريستين لتخبره رأيها وموقفها النهائي، احتسى الشاي سريعاً وظل ينتظر، مرت اللحظات طويلة بطيئة متثاقلة وخيم الصمت على المكان، لم يكن يسمع سوى صوت أفكاره لاهثةً متسارعةً لا تهدأ حتى قطع ذلك الصمت رنين الهاتف، أمسك بالسماعة وهو يدعو الله أن تكون هي المتصلة وأن يسمع منها ما يسره .. يا لها من لحظة .. إنها لحظة فارقة .. آهٍ لو يتحقق حلمه لكان أسعد إنسان على ظهر الأرض .. وضع السماعة على أذنه فإذا هي بالفعل كريستين الفتاة التي يحبها بجنون ويتمنى أن يتزوجها، سألها بلهفة عن أخبارها، أخبرته بصوت هادئ أنها بخير، وأن لديها خبرين له أحدهما حسن والآخر سيء، وسألته أيهما يفضل أن يسمع أولاً، قال أحمد فلنبدأ بالخبر الحسن، قالت كريستين إنها وفت بوعدها معه، وأنهت قراءة كل ما أعطاها من كتب، كما قرأت كتباً أخرى إضافية عرفتها أكثر على الإسلام، وأنها اتخذت قرارها بالفعل .. ثم سكتت لحظة .. كان أحمد يستمع إليها ويكاد قلبه أن يتوقف مع كل كلمة تنطق بها، إنه ينتظر القرار، مرت تلك اللحظة كأنها دهر، أحس أحمد أثناءها أن الزمن قد تجمد، إلى أن أخبرته كريستين بذات الهدوء والثقة أنها اقتنعت بما قرأت .. عادت له روحه وسمع ضربات قلبه تعلو على وقع ما سمع .. أكملت حديثها وقالت له إنها اعتنقت الإسلام بالفعل واختارت لنفسها اسم فاطمة .. لم يتمالك أحمد نفسه من الفرحة فهتف بصوتٍ عالٍ "الله أكبر، ما أروعك يا كريستين .. أقصد يا فاطمة!"، حمد الله كثيراً في نفسه، ومن إحساسٍ بالتوجس والترقب والخوف إلى شعورٍ لم يمر به في حياته من قبل، شعور بسعادة طاغية وفرحة غامرة، الغريب أنه وفي هذه الحالة أيضاً كاد قلبه أن يتوقف، لكن هذه المرة من شدة الفرح .. قال لفاطمة مبتهجاً: "الحمد لله، لم يعد هناك الآن ما يحول بيننا وبين أن نتزوج" .. ثم تدارك الأمر بينه وبين نفسه .. ما هو يا ترى الخبر السيء؟ ..  أحس أحمد بشيء مريب، يتسرب إلى نفسه .. إحساسٌ غامضٌ بدأ يتملكه ويستحوذ على فكره .. إحساسٌ بأن شيئاً ما حدث أو ربما سيحدث لكنه لا يعرف ما هو بالضبط .. عاوده شعوره بالقلق .. وأفاق على صوت فاطمة وهي تقول: "هذا للأسف هو الخبر السيء"، وأخبرته أن قرارها فيما يتعلق بزواجهما هو ألا ترتبط به؛ فهي لا تقبل به زوجاً! .. كادت سماعة الهاتف أن تقع من يد أحمد، دارت به الأرض، والتفت ساقه بالأخرى فهوى جالساً على أقرب أريكة، لم يكن يصدق ما يسمع، ولم يدرِ ما يقول، حاول أن يتكلم خانه لسانه واحتبست الكلمات في حلقه، أحس بلسانه ثقيلاً لا يطاوعه إذا أراد الكلام، وعندما أراد أن ينطق أحس بصوته مبحوحاً لا يكاد يُبين، ففضل الصمت مرغماً .. خطر على باله إنه ربما كان نائماً يحلم .. نظر إلى نفسه أمستيقظٌ هو أم نائم؟ .. وجد نفسه يقظاً .. إنه إذن حُلمٌ من أحلام اليقظة .. قرص نفسه وعندما أحس بوخز القرصة علم أنه لا يحلم .. لكن مستحيل أن يكون ما سمعه من فاطمة صحيح .. ربما أصابته حُمى غَيَّبَته عن وعيه للحظات أو أثرت على سمعه .. أخذ أحمد يكلم نفسه: "لا .. لا .. يبدو الأمر جدياً .. يا إلهي .. أكاد لا أصدق ما سمعته .. اللهم اجعله كابوساً ينتهي فأصحو على فرحة .. آه .. فهمت الآن ما حدث .. إنها تمزح .. نعم فاطمة تحب المزاح .. يا له من مزاح ثقيل .. ألم تجدي يا حبيبتي مجالاً للمزاح غير هذا؟ .. لكني لا ألومك .. فأنت كعهدي بك لطيفة رقيقة مرحة تحبين الحياة وتميلين للمزاح .. كان صوت ضحكاتك لا يفارقني طوال الشهور الثلاثة الماضية .. صورتك وأنت مبتسمة ظلت ترافقني طوال تلك المدة .. لم يخفف عني ألم البُعد لتسعين يوماً سوى ذكرياتي معك .. هذه هي الحديقة التي شهدت أول لقاء لنا .. هنا في هذا المطعم على هذه الطاولة كنا نجلس لنتناول غداءنا .. أتذكرُ كل كلمة .. كل لفتة .. كل ابتسامة .. كل مزحة .. أما مزحتك يا فاطمة الآن وفي هذا الموضوع فهي لا تُحتمل" .. اكتشف أحمد أنه كان يحدث نفسه، أما فاطمة فكانت قد بدأت في توضيح موقفها، قالت له إنها بدأت قراءة الكتب مرغمة، تحس أن ليس لها رغبة في قراءتها، لكنها وبالتدريج بدأت تحس برغبتها في القراءة تتزايد، وانتقل الأمر إلى اهتمام ورغبة في إتمام ما تقرأ، ثم إلى شغف جعلها تقرأ المزيد عن الإسلام في كتب أخرى، لم تعرف في البداية ما الذي كان يشدها على هذا النحو، وما الذي بدل حالها، لكنها كلما قرأت كلما أحست بشيء يتحرك بداخلها، كأنه شعور جديد يولد في أعماقها، لم تشعر بمثل هذا الشعور من قبل، لقد تملكها شعور بالطمأنينة وراحة نفسٍ لم تحس بهما من قبل أبداً، وجدت نفسها مع كل كلمة تقرأها تقترب من شيء كان ضائعاً منها، كانت كأنها تكتشف ذاتها الحقيقية للمرة الأولى .. أكملت فاطمة حديثها مع أحمد عبر الهاتف، بنفس الثبات الذي بدأت به، وقالت له أنها لم تر فيه من الإسلام الذي قرأت عنه وأحبته واعتنقته عن قناعةٍ سوى اسمه، لم تشاهده يوماً يصلي، لم تسمع منه أنه ذهب إلى مسجد، لم تعلم أنه صام يوماً، لم تر معه مصحفاً ولم يحدثها بآية من القرآن الكريم ولا بحديث من أحاديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام، لم تره يتصدق على فقير، لم تلمس بره بوالديه، لم .. ولم .. ولم .. استمرت فاطمة في عرض لائحةٍ كاملةٍ يبدو أنها كانت قد أعدتها سلفاً لهذه المحادثة الهاتفية، حتى وصلت للقول أنها لم تجد فيه الزوج المسلم المناسب لها الذي يأخذ بيدها ليدخلا معاً جنةً عرضها كعرض السموات والأرض أعدها الله سبحانه وتعالى للمتقين. ومع ما فيه أحمد من ذهولٍ ألجم لسانه، حاول أن يرد لكن فاطمة لم تترك له فرصة، أكملت كلامها بشكره على أن أتاح لها فرصة عمرها التي لم تكن تحلم بها أو تتصور أن تحدث معها حين كان سبباً في تعرفها على الإسلام، وأنهت مكالمتها بأنها لن تنسى له هذا الجميل طوال حياتها، وأنها تدعو له الله بالهداية!

أحبتي في الله .. كانت هذه قصة استمعت إليها ملخصةً، لا أعلم إن كانت حقيقية أم لا، سردها الخطيب في صلاة الجمعة الماضية، قمت بإعادة صياغتها وتصوير أحاسيس ومشاعر أطرافها وإضافة رتوش لها، وأحببت أن أعرضها عليكم عسى أن نستلهم منها العبرة؛ فيغير منا من كان مثل أحمد مجرد (مسلم بطاقة) أحواله ليكون مسلماً بحق؛ إيجابياً فاعلاً ومتفاعلاً يعايش واقعه وعصره ويتعامل مع معطياته المتغيرة المتجددة مع حفاظه على هويته الأصلية وثقافة مجتمعه وتمسكه بمرجعيته الإسلامية، ليكون سفيراً للإسلام وعنواناً على دين الله الحق، أسوةً وقدوةً لغيره من الناس .. فعندما يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ فلابد أن يرى الناس في كل مسلمٍ منا أسباب هذه الخيرية التي اختصنا الله بها، يرونها في أقواله وأفعاله ومعاملاته.

أحبتي .. يحكم غير المسلمين على الإسلام من خلال ما يرونه من واقع المسلمين وأحوالهم .. إذن فهي مسئوليتنا نحن، وليست مسئولية غيرنا، أن نقدم للآخرين الصورة الصحيحة عن الإسلام، وأن يكون المسلمون الأولون قدوة لنا حين كانوا خير سفراء لخير دين، فلا يكتفي أيٌ منا بأن يكون (مسلم بطاقة)، بل علينا جميعاً أن نرتقي بواقعنا وأحوالنا لنكون خير مثال لهذا الدين العظيم الذي أكمله الله لنا وأتم به نعمته علينا ورضاه لنا وللبشرية جمعاء ديناً، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/QeBF7u

الجمعة، 12 أغسطس 2016

المستوى الرفيع

الجمعة 12 أغسطس 2016م
خاطرة الجمعة /٤٤

(المستوى الرفيع)

"في أسبوع واحد مرت عائلتنا بموقفين، كلاهما حبس الأنفاس، وكلاهما كان بمثابة نهاية مرحلة وبداية أخرى، كان كلا الموقفين فارقاً ومؤثراً .. الموقف الأول كان وفاة أحد شيوخ العائلة رحمه الله .. وأما الموقف الثاني فكان ظهور نتيجة امتحان الثانوية العامة لأحد شباب العائلة حفظه الله". كانت تلك عبارات صديقٍ لي واصفاً ما حملته الأيام له ولأسرته خلال أسبوع مضى.
استمر هو في حديثه، ووجدت نفسي أعطيه جوارحي كلها مُظهراً اهتماماً بما يزال يقول، أما ذهني فكان قد شرد بعيداً وتوقفت بي أفكاري عند تلك العبارة التي بدأ حديثه بها؛ تأملت كلا الموقفين الذَيْن مرت بهما عائلته، وتساءلت بيني وبين نفسي: هل يا تُرى يوجد ما يجمع بينهما؟ هل هناك أمورٌ يتشابهان فيها؟ أم أنهما مختلفان تمام الاختلاف؟
فكرتُ ملياً فوجدتُ في هذين الموقفين أموراً مشتبهة وأخرى غير متشابهة.
فمن أوجه التشابه: أن كلاً منهما اختبارٌ وابتلاء، يقول الله سبحانه وتعالى عن الموت: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. وكلاهما فيه مفارقةُ معلومٍ إلى مجهول، وانتقالٌ من حالٍ ألفه صاحبه إلى آخر لم يألفه. وفي كلٍ منهما أملٌ ورجاءٌ قد يتحقق وقد لا يتحقق. وفي الحالتين لم ولن ينفع صاحب الموقف إلا عمله هو ولن ينفعه عمل حتى أقرب الناس إليه وأكثرهم حباً له. كما أن في الموقفين انتظاراً وترقباً لشئٍ أهمٍ انتظاراً لتقرير مصير وترقباً لمستقبلٍ لم تتحدد ملامحه النهائية بعد.
أما عن وجوه الاختلافٍ بين كلا الموقفين فمنها: أن امتحان الثانوية العامة اختبارٌ بشريٌ دنيويٌ موضوعه مدى اجتهاد طالبٍ في دراسته في سنواتٍ محددة، أما الوفاة فهي اختبارٌ إلهيٌ أُخرويٌ موضوعه مدى اجتهاد الفرد في جميع مجالات حياته على امتداد عمره كله طال أو قصر. للطالب فرصةٌ أخرى في دورٍ ثانٍ أو إعادة الامتحان، وأما الفرد فقد انتهى الزمن الذي خصصه المولى له للاختبار والابتلاء بغير زيادةٍ ولا نُقصان؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، ودون عودةٍ أو رجعة؛ يقول عز وجل: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا﴾. الطالب يعلم موعد الامتحان مسبقاً ويستعد له ويعمل على تحقيق أفضل نتيجةٍ ممكنة ويحرص على تحسين المجموع بالحصول على درجات (المستوى الرفيع)، أما الفرد فلا يعلم موعد انتهاء أجله وتَغُّرُه الحياة الدنيا بالأماني فيغفل عن الاستعداد للآخرة ويوم الحساب ويُلهه الأمل؛ يقول سبحانه: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الْأَمَل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾. الطالب يقوم على ملاحظته وقت الامتحان وفي مكان أدائه ملاحظٌ أو أكثر يلاحظون الظاهر فقط من أعماله، وأما الفرد منا فيقوم على ملاحظةِ أفعاله ونوايا قلبه وخائنة عينه وما يُخفي صدره وكل قولٍ يلفظه رقيبٌ عتيد وملائكةٌ يحفظونه ويكتبون أقواله وأفعاله في كل مكانٍ وزمان لا يفارقونه حتى ينتهي أجله؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ*مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، ويقول: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ*كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾. كما يلاحظ كلاً منا ويراقبه ويشهد عليه يوم الحساب من لم يكن يتوقع شهادتهم: سمعنا وأبصارنا وجلودنا وألسنتنا وأيدينا وأرجلنا؛ يُنطقهم الله سبحانه وتعالى بالحق؛ يقول المولى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
ومن أعجب أوجه الاختلاف بين الموقفين أن الامتحان أسئلته سريةٌ ومجهولة وإجاباته النموذجية لا يعلمها إلا المصححون، أما الأسئلة التي سوف تُوجه لكل فردٍ منا بعد الموت ووقت الحساب فهي معلنةٌ معلومةٌ سلفاً لنا جميعاً ونموذج إجاباتها مذكورٌ بالتفصيل في القرآن الكريم وتوضحه بجلاء سنة نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام! ليس هذا فحسب بل في تقدير الدرجات يحصل الطالب على درجة معينة لا يتجاوزها مهما كانت صحة إجابته، أما احتساب الحسنات على أعمال الخير والبر فللفرد على كل عمل استوفى شرط الإخلاص لله سبحانه وتعالى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء!
هناك بالتأكيد أوجه تشابهٍ وأوجه اختلافٍ أخرى، لكن المهم في الأمر كيف يتعامل الكثير منا مع كلا الموقفين؟ في امتحان الثانوية العامة نهتم بمجموع الدرجات والنسبة المئوية وهل تؤهل الطالب للالتحاق بالكلية التي يرغبها؟ وما هي الفرص المتاحة له من أجل تحسين المجموع والحصول على درجات (المستوى الرفيع)، أما في حالة الوفاة لا تجد من يسأل هل كان المتوفَىَ صالحاً؟ هل كان تقياً؟ هل كان ملتزماً بفروضه الدينية؟ هل كان يضيف لتلك الفروض نوافل من صلاة وصوم وصدقة يجبر بها ما انكسر من فروضه ويرفع بها درجته؟ هل كان يقرأ القرآن؟ هل كان حافظاً له؟ هل كان يقوم الليل؟ هل كان يسعى في خدمة المحتاجين؟ هل كان يقول الحق لا يخشى لومة لائم؟ هل كان ينتصر للمظلومين؟ هل كان عادلاً؟ هل كان ليناً؟ هل بلَّغ آية؟ هل كان باراً بوالديه؟ هل كان يصل رحمه؟ هل كان أميناً؟ هل كان صادقاً؟ هل .. وهل .. وهل؟ أسئلةٌ كثيرة لا يسألها أحدٌ عن المتوفى .. حياءً، أو خوفاً من معرفة الإجابات عنها، أو رُعباً وهلعاً من طرح هذه الأسئلة على ذواتنا نحن وعلى أنفسنا؛ ونحن أول من يعرف كم نحن مقصرون.
أحبتي في الله .. تمضي بنا الحياة .. وتطول بنا حبال الأمل وهي أوهى من خيوط العنكبوت .. لا يفكر الكثير منا في تحسين المجموع أو الحصول على درجات (المستوى الرفيع) قبل أن تأتي لحظة انتهاء الأجل .. وهي آتيةٌ لا شك فيها ولا رادَ لها؛ يقول العلي القدير: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ .. إنه وقت انتهاء الابتلاء والاختبار بغير فرصةٍ لدورٍ ثانٍ ولا إعادة امتحان ولا تنفعنا وقتئذ إلا أعمالنا .. إنها بداية مرحلة جديدة هي الانتقال لحياة البرزخ؛ يقول عز وجل: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، نبقى فيه بغير رجعةٍ إلى يوم الحساب .. والحسابُ يومئذ هو العدل المطلق الذي لا ظلم فيه؛ يقول المولى عز وجل: ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ .. إنه حساب من نطمع في أن يعاملنا برحمته وغفرانه وبما هو أهلٌ له، وليس بعملنا وما نحن أهلٌ له ..
أحبتي .. الموت حقيقةٌ لا مفر منها، يأتينا في أي زمان ومكان؛ يقول العزيز العليم: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾، فلو أنَّا تعاملنا معه كما نتعامل مع أي اختبار دنيوي، ولله المثل الأعلى، لأحْسَّنا الاستعداد، ولَحَرِصْنا على الحصول على أعلى الدرجات وتحقيق أفضل النتائج، ولكان حرصنا مضاعفاً على تحسين المجموع وكسب درجات (المستوى الرفيع) ما أمكنا ذلك. فلِمَ لا نبدأ الآن؟ ومن هذه اللحظة، دون تأخيرٍ أو إبطاءٍ أو تأجيلٍ أو تسويف، ولتكن بدايتنا بتخصيص وقت محدد في جدول أعمالنا اليومي: خمس دقائق، عشر دقائق، ربع ساعة، ساعة أو أكثر كلٌ حسب ما تسمح به ظروفه، نُسميه وقت (المستوى الرفيع) نشغله بتسبيحٍ وذكرٍ ودعاء، بمحاسبةِ نفس، بصلاةِ نفل، بصدقةٍ، بعيادةِ مريض، ببرِ والدَيْن، بصلةِ رحم، بإماطةِ أذي عن الطريق، بسعيٍ في قضاء حوائج الناس، بشهادةِ حق، بإصلاحٍ بين متخاصمين، بكفالةِ يتيم، برعايةِ أرملة أو فقير أو مسكين، بإغاثةِ ملهوف، بإعانةِ جار، وبأيِ عملٍ من أعمال الخير والبر والتقوى، مهما كان بسيطاً؛ كمسحٍ باليد على شعر يتيم، أو تبسمٍ في وجه الآخرين.
أحبتي .. ما دمتُ أنا، ولله الحمد، ما زلتُ أستطيع أن أكتب .. وما دمتم أنتم، والحمد لله، ما تزالون قادرين على أن تقرأوا فإن فرصة تحسين المجموع والحصول على درجات (المستوى الرفيع) لم تُهدر أو تضيع بعد فلننتهزها، ولننشر هذه الفكرة على أوسع نطاق ممكن بين أفراد أسرنا وأصدقائنا وأحبائنا وجيراننا وزملائنا، ولنستعد لأن نكون من الصالحين قبل أن تأتي لحظة الندم التي تصفها الآية الكريمة: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.
أحبتي .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، اللهم زحزحنا عن النار، واكتب لنا الفوز بالفردوس الأعلى من الجنة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

https://goo.gl/k86tp6

الجمعة، 5 أغسطس 2016

عميلنا العزيز

الجمعة 5 أغسطس 2016م
خاطرة الجمعة /٤٣

(عميلنا العزيز)

بيب .. بيب .. بيب .. "(عميلنا العزيز) تم خصم نقطة واحدة من رصيدكم"، رسالة sms وصلتني على هاتفي المحمول لم أعرف لها سبباً، قابلت جاري صدفةً فسألته عنها، رد على سؤالي بسؤال: "هل فعلت اليوم سيئة؟"، قلت مندهشاً: "وما علاقة ذلك برصيدي حيث أُخطرت بالخصم منه؟!"، سألني مرة أخرى: "ألم يخبرك مصرف الأخلاق بسياسته الجديدة؟"، قلت: "لا"، قال: "راجع رسائل المصرف السابقة، بالتأكيد وصلتك رسالتهم وأهملت قراءتها"، قلت: "ربما، لكن اسمح لي أن أعود لردك الأول، سألتني إن كنت قد فعلت اليوم سيئة، لا أذكر سوى أني كنت أتحدث مع زوجتي عن قريب لنا لا تتذكره فكنت أصفه لها فقلت ذلك الأعرج وو ...بيب .. بيب .. بيب .. "(عميلنا العزيز) تم خصم نقطة واحدة من رصيدكم"، رسالة أخرى وصلتني على الهاتف مقاطعةً حديثي مع جاري وأنا أصف له ما حدث، هكذا الأمر إذن، كلما فعلنا سيئة (غيبة، نميمة، سب، قذف، سوء ظن، ...) يقوم نظام المصرف بالخصم الفوري من رصيدنا لديه. سألت جاري سؤالاً أخيراً: "متى تم تفعيل هذا النظام؟"، رد: "من أول هذا الشهر، انتبه يا عزيزي لكلامك وسلوكك".
فهمت الآن السر وراء ما أشاهده مع بداية هذا الشهر من تحسن في معاملات الناس، ومن ابتساماتهم في وجوه غيرهم، ومن مسارعتهم إلى معاونة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، وإماطتهم الأذى عن الطريق. فهمت الآن لماذا كل تلك الاتصالات الهاتفية من أقاربي وأصدقائي تسأل عني وعن أحوالي وترتب معي لعيادة المرضى من الأقارب والأصدقاء. وفهمت لماذا تحسنت معاملات الموظفين مع المراجعين في المصالح الحكومية والمدارس والمستشفيات وأقسام الشرطة وغيرها من مؤسسات. كما تذكرت ذلك التقرير الغريب الذي شاهدته  في التلفاز عن الانخفاض الملحوظ في معدلات الجريمة كالقتل العمد والسرقة والاغتصاب والتحرش من أول الشهر وحتى اليوم، وتناقص أعداد القضايا في المحاكم وانتهاء معظمها بالصلح والتراضي بين الخصوم. فهمت الآن فقط أن ذلك كله كان بسبب تفعيل آليات  مصرف الأخلاق .. بل وتذكرت الإعلانات التي ملأت شوارع المدينة ووسائل المواصلات العامة وشاهدناها في قنوات التلفاز وفي الصحف والمجلات تطل علينا بخط عريض: "(عميلنا العزيز) انتبه لنقاطك، زدها ولا تنقصها، نعاملك بالعدل فلا تظلم نفسك! مع تحيات مصرف الأخلاق". لم أكن أتصور أنهم سوف يقومون بتطبيق هذه الفكرة الرائعة بالسرعة التي طبقوها بها، حمدت الله بيني وبين نفسي على أن هناك أناساً طيبين جديرين بالاحترام والتقديرررررر بيب .. بيب .. بيب .. "(عميلنا العزيز) تم إضافة عشر نقاط إلى رصيدكم" .. تبسمت حين وصلتني الآن هذه الرسالة؛ وفهمت أن هذه النقاط أضيفت لرصيدي لاحترامي وتقديري لمن فكر وخطط لهذا العمل المفيد!.
فجأة ظهر أمامي قريبنا الذي كنت أصفه لزوجتي، فاجأني بقوله: "شكراً لك لتحويلك نقطتين لي من حسابك اليوم، النقطة الأولى ربما بسبب السهو عن الآليات الجديدة للمصرف، لكن ماذا وراء تحويل النقطة الثانية؟"، قلت مازحاً: "لن أخبرك، لو أخبرتك لصارت النقطتان ثلاثاً"!.

"هيا، استيقظ، ستتأخر عن عملك .. هيا لا تكن كسولاً"، إنه صوت زوجتي .. إنها توقظني .. يا إلهي .. لقد كنت نائماً .. ما هذا الذي كنت أفكر به؟ لابد أنه حُلم .. أسرعت إلى هاتفي المحمول .. أدخلت الرقم السري لفتحه .. ضغطت على أيقونة الرسائل sms .. لم أجد أية رسالة تحوي عبارة (عميلنا العزيز) .. حمدت الله أنه لم يتم خصم نقاط من رصيدي .. ثم انتبهت لنفسي .. أية نقاط؟ وأي رصيد؟ في الأساس لا يوجد مصرف للأخلاق حتى يكون هناك رصيد أو نقاط! ما كان ذاك إلا حُلماً!

قابلت جاري الذي كنت أتحدث معه في الحُلم، أخبرته عن حُلم ليلة أمس، قال لي مداعباً: "غطي نفسك جيداً قبل النوم"!

بعدها بعدة أيام .. كنت في جلسة سمر مع بعض الأصدقاء .. نتجاذب أطراف الأحاديث .. فإذا بي أتذكر ذلك الحُلم .. أخبرتهم به .. ضحكوا جميعاً إلا واحد .. أدهشنا عندما عَقَّب على ما حدثتهم به بقوله: "هذا ليس حُلماً .. إنه رؤية"، قاطعته باستنكار: "رؤية؟! عن أية رؤية تتحدث؟!"، قال: "نعم، إنها رؤية؛ إنها تذكير لك ولنا بأن هذا المصرف موجود بالفعل، لكننا لا نراه، وهل كونه غير مرئي لنا يعني أنه غير موجود؟"، ألجمت الدهشة ألسنتنا فسكتنا، لم يرد أحدٌ منا على سؤاله، فاستكمل حديثه موضحاً: "الواقع أن كثيراً مما لا نراه موجودٌ بالفعل .. فمصرف الأخلاق في رؤياك موجود ولا نراه، وما أسعد من تعامل معه واستفاد منه وزاد رصيده فيه .. إنه كنزٌ لا يقدر بثمن غفلنا عنه"، وتابع وسط اندهاشنا: "اسمعوا معي حديث النبِي عن هذا الكنز العظيم، قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: "إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرَ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ"]"، ثم أنهى حديثه بسؤالي: "أهكذا كان مصرفك؟"، أجبته: "كأنه هو!".

أحبتي في الله .. ما أروع ديننا الحنيف .. وما أرحم الله سبحانه وتعالى بعبيده وإحسانه إليهم وتفضله عليهم .. وما أكرمه في معاملته لنا؛ كرماً يفوق عدله .. فلو أعطانا ما نستحق فهذا عدل .. أما أن يعطينا فوق ما نستحق فهذا كرم وفضل .. وعندما يضاعف لنا العطاء أضعافاً كثيرة فهذه رحمة وإحسان.

أحبتي .. هلا اهتممنا بزيادة أرصدتنا في مصرف الأخلاق الإسلامي الموجود ولا نراه، كما نحرص على زيادة أرصدتنا المالية في المصارف والبنوك؟ .. هلا رتبنا أولويات أعمالنا ترتيباً صحيحاً؟ 
فلتكن أحبتي الأولوية المطلقة لأن نعمل الخير بكل أشكاله وأنواعه وفي جميع مجالاته فتُكتب لنا عشر حسنات عن كل عمل إلى سبعمائة ضعف، يليها أن ننوي عمل الخير ونشرع فيه حتى إذا حال بيننا وبين فعله حائل كُتبت لنا حسنة، يليها أن نمتنع عن عمل سيئة كنا اعتزمنا عملها خشيةً من الله سبحانه وتعالى فتُكتب لنا حسنة، يليها أن نتجنب عمل السيئات قدر الإمكان حتى لا تُكتب علينا سيئات نحن في غنىً عنها، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://goo.gl/1Nc8s5

الجمعة، 29 يوليو 2016

حسن الظن بالله

الجمعة 29 يوليو 2016م
خاطرة الجمعة /٤٢

(حسن الظن بالله)

حدث هذا الموقف قبل سنوات عندما كانت شركات توظيف الأموال منتشرة في مصر .. هو صديق لنا .. أكبر منا في السن .. كنا نرجع له في معظم شئوننا نستشيره ونأخذ بما ينصحنا به في معظم الأحوال. أخبرنا ذات يوم عن وجود شركة تعطي أرباحاً عالية؛ يصل العائد منها إلى ٢٢٪‏، وقال إنه قرر أن يسحب جميع مدخراته من البنوك ويُسَيِّل شهادات استثمار ويبيع ذهب زوجته ليساهم في هذه الشركة. فاجأنا جميعاً بأنه اتخذ قراره ونفذه بالفعل .. وضع كل ما يملك هو وزوجته في هذا المشروع .. وكنا، نحن أصدقاؤه، ما بين مندهش ومذهول وغير مصدق .. لكن كما يقال "سبق السيف العذل".
مرت شهور .. وإذا بموضوع شركات توظيف الأموال يحتل العناوين الأولى في جميع وسائل الإعلام: المكتوبة والمسموعة والمرئية، كانت هذه الشركات قد أفلست وانهارت بعد أن ذهب ضحايا لها مئات الآلاف من المواطنين، وكان صديقنا للأسف واحداً منهم.
اتصل بي وقتها ورتبنا للقاء .. لم يكن هو صديقنا الكبير الخبير الذي نرجع له ليحل لنا مشاكلنا، بل على العكس؛ رأيت أمامي رجلاً منهاراً، دموعه تسابق كلماته، أسمع ما يقول بصعوبة وأحاول أن أتبين كلماته التي تبدو خافتة وسط بحر الدموع الذي ينهمر من عينيه ليغطي خدوده .. استطعت بالكاد أن أفهم كلمات مثل : "هل هذا معقول؟"، "لا يمكن"، "لا أصدق ما حدث"، "هذا لا يرضي الله سبحانه وتعالى" .. وكلمات أخرى مشابهة .. حاولت أن أهدئ من روعه، دون جدوى؛ لم يكن يسمعني، كان كأنه يعيش مع نفسه فقط ويتحاور معها، حتى أنه كان يسأل السؤال ويرد على نفسه.
بدأ بالتدريج الخروج من حالة الذهول التي كانت تتملكه، نظر إلي، وربما أحس بالخجل من أن أراه على الحال التي كان عليها. محاولاً التخفيف عنه قلت: "ليست نهاية الكون"، رد وهو يحاول أن يمسح بقايا الدموع من على وجهه: "في لحظة، ضاع حلم حياتي، راحت تحويشة العمر، لقد انتهيت"، قلت مشجعاً: "ليس هذا أول موقف صعب يمر عليك في حياتك، تماسك، واترك للزمن فرصة إخراجك مما أن أنت فيه"، لم يعجبه ما أقول فرد بجملة تقريرية قاطعة: "أنت لا تحس بما أعانيه".
امتدت جلستنا إلى قرب الفجر، هو يتحدث عن مشكلته وآثارها على نفسيته وعلى علاقاته الاجتماعية خاصة علاقته بزوجته، وكيف أن آماله كلها قد تبخرت في لحظات، ورأى حلم الغنى والثراء يتهاوى أمام عينيه، وأنه لا يتحمل أبداً ذلك، ولا يعرف كيف ستكون حياته بعد كل ما حدث. وأنا من ناحيتي أحاول أن أخفف عنه وأواسيه وأبين له تفهمي لمشاعره وإحساسي بما هو عليه في هذه اللحظات الصعبة.
لاحظت أن لا شئ مما أقول قد أثر فيه قدر تأثره بقولي له "أحسِن الظن بالله"، حيث رد علي بالقول: "يعلم الله أني قد أحسنت الظن به قبل أن أودع أموالي كلها في تلك الشركة"، قلت له: "إحسان الظن يستلزم إحسان العمل، وهذا يتطلب التفكير السليم والتخطيط الجيد ودراسة الأمر من جميع جوانبه قبل اتخاذ القرار، كل ذلك من إحسان العمل. لأوضح الأمر لك أكثر؛ دعني أسألك سؤالاً، أرجو أن يتسع صدرك له ولا تغضب مني"، قال بكلمات لا تخلو من السخرية: "لم تعد لدي أية طاقة لغضب جديد! لقد استنفدت رصيدي من الغضب! إسأل ما شئت ولن أغضب"، سألته: "إذا وقفت أمام قطار منطلق بسرعة، هل تتوقع ألا يدهسك القطار، ثم تقول إن كنت ما زلت حياً، كنت أحسن الظن بالله؟!"، واستطردت: "هذا يا عزيزي ما فعلته أنت بالضبط مع تلك الشركة، أعماك حلم الثراء السريع عن التفكير الصحيح والنظر في العواقب، لقد حثنا ديننا الحنيف على ألا نكتفي بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وإحسان الظن به وإنما يجب علينا أن نُتبع ذلك بالأخذ بالأسباب". وأردفت قائلاً: "على كل حال، عليك أن تعلم أن في بعض المنع نعمة وفي بعض العطاء نقمة؛ قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾، كما أن عليك أن تعلم أن من (حسن الظن بالله) أن المؤمن إذا أصابه ما يكره أحسن الظن بربه وعلم أنه لم يكتب له إلا الخير حتى لو لم تظهر حكمته أو تستبين؛ يكفي المؤمن أن يثق في أن الذي ابتلاه هو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين". قال مُعقباً: "ونعم بالله"، ختمت حديثي معه بالقول: "احمد الله أنك ما زلت بصحتك، غيرك قلبه لم يتحمل الصدمة فتُوفي، وآخرون ما بين مصاب بجلطة أو شلل؛ فاحمد الله حمداً كثيراً. واللهِ لو خيرت بين مالك كله وصحتك لاخترت صحتك"، قال: "صدقت"، قلت: "هذا من فضل الله عليك، وهذا هو رأس مالك حافظ عليه، وبالعمل الجاد و(حسن الظن بالله) والأخذ بالأسباب يفتح الله عليك ويرزقك من حيث لا تحتسب".

أحبتي في الله .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له].
وقال أحد العارفين: "إنه سبحانه لم يرسل إلى المؤمن البلاء إلا ليمتحن إيمانه وصبره ورضاه، وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه واقفاً ببابه، لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعاً الشكوى إليه".
إن معنى (حسن الظن بالله) توقُّع الجميل منه سبحانه، وتوقع الخير في السراء والضراء، والإيمان بأن الله يريد بنا الخير في الحالين. (حسن الظن بالله) هو من العبادات القلبية التي يغفل عنها كثير منا، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ﴾، ويقول في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء}، ويقول: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني}. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حُسن الظن من حسن العبادة]، وقال عليه الصلاة والسلام: [لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ].
لذلك أحبتي علينا أن نستشعر أن الله تعالى هو فارج الهم وكاشف الغم، وأننا متى أحسنا الظن بالله، فتح علينا من بركاته من حيث لا نحتسب.

أحبتي .. إياكم وسوء الظن بالله، فإنه من المهلكات؛ قال تعالى: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، وقال  عن سوء ظن قوم من الكفار: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ﴾، ويقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله}.
قبل أن أختم، أطمئنكم، عاد صاحبنا إلى سابق عهده، مليئاً بالحيوية والنشاط، وكان مرجع ذلك (حسن الظن بالله) الذي جعله راضياً بقضاء الله وقدره، سعيداً بما هو عليه، وهو الآن والحمد لله يعيش مع أسرته حياة مستقرة هادئة، بعيداً عن أحلام الثراء الفاحش والسريع.
جعلنا الله من الفائزين برضاه سبحانه وتعالى، الظانين به الظن الحسن، ظن الخير.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 22 يوليو 2016

شيطانٌ أخرس

الجمعة 22 يوليو 2016م
خاطرة الجمعة /٤١

(شيطانٌ أخرس)

"لا، ليس من الحكمة أن تظل صامتاً"، هذا كان ردي على سؤال صديقٍ لي حدثني عن فسادٍ كبيرٍ يراه في مكان عمله .. حكى لي وهو متأثر عن حكايات فسادٍ شاهد بنفسه بعضها، وعرف بعضها الآخر من زملائه في العمل، بعد أن انتهى من حديثه سألني: "أليس من الحكمة أن أسكت وأغض الطرف عما يحدث؟"، فكان ردي كما أوضحت حاسماً: "لا، ليس من الحكمة أن تظل صامتاً"، واتبعت ذلك بالقول: "عليك عزيزي أن تتكلم؛ لكن من المهم أن تحدد بدقة متى تتكلم، وكيف تتكلم، ومع من تتكلم"، قال: "هلَّا أفصحت وشرحت؟"، قلت: "أما متى تتكلم، فهذا أمر لا يمكن التكهن به مسبقاً، فهو يتوقف على نوعية الفساد وخطورته ومدى انتشاره، ويرتبط بالوقت الذي تكون فيه قد تمكنت من الحصول على أدلة واضحة وقوية لا تقبل الدحض أو التأويل"، قال: "وماذا عن كيفية التكلم؟"، قلت: "هذه لها أساليب مختلفة منها الشكاوى الكتابية، والشكاوى الشفوية، وإن كان الغالب هو الشكاوى الكتابية، حتى وإن سبقها تقديم الشكوى شفاهةً فسُيطلب منك كتابة ما أخبرت به شفوياً"، قال: "ومع من أتكلم؟"، قلت: "ابدأ بالشخص أو الزميل الذي تراه يرتكب ما تعتبره فساداً، ابدأ معه بالنصيحة بينك وبينه، عسى أن يتوقف عن ذلك الفساد"، قال: "وإن لم يستجب لكلامي؟"، قلت: "حاول مرةً تلو أخرى .. اصبر عليه قدر ما ترى أن الصبر سيصل بك إلى مبتغاك، وحاول أن تساعده وتقدم له نصائح عملية تساعده على الخروج مما أوقع نفسه فيه، فإن لم يفلح ذلك، ربما كان من المناسب بعد تجاوز مرحلة النصيحة أن تنتقل إلى مرحلة التهديد بالشكوى ورفع الأمر إلى المسئولين؛ فبعض الناس لا يستجيبون إلا للتهديد إذا أحسوا وأدركوا أن الأمر جاد ولا تراجع عنه"، قال: "لعل آخر مرحلة، إذا لم يستجب للنصيحة، ولا يخاف من التهديد، هو رفع الشكوى بالفعل لجهة الاختصاص مشفوعةً بالمستندات والوثائق"، قلت: "ذلك صحيح"، قال متوجساً: "لكن ذلك سيجلب عليه ضرراً مؤكداً"، قلت: "تركه على ما هو عليه أشد ضرراً من محاولة إصلاحه وتقويمه بكل الطرق الممكنة، واعلم أنك تدافع عن الحق؛ والساكت عن الحق (شيطان أخرس)"، واستطردت قائلاً: "للأمانة يتوجب علي أن أنبهك أخي إلى ثلاثة أمور"، قاطعني قائلاً: "هاتها؛ كلي أذن صاغية"، قلت: "أولها أن تكون نيتك خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى وأن يكون هدفك هو الإصلاح ما استطعت .. ثانيها أن تُشعر زميلك المخطئ بأنك تريد مصلحته، فلا تتعالى عليه، ولا تستفزه، واجعله يحس أنك لا ترفضه لشخصه وإنما ترفض سلوكه .. ثالثها أن تترك له الفرصة ليصلح بنفسه ما أفسده، وأن يكون أسلوبك معه مزيجاً من الحكمة والصبر والتدرج". سكت قليلاً كأنما يراجع نفسه قبل أن يتكلم، ثم قال:
"أصارحك القول، أخشى على نفسي، فقد يطالني أذى"، قلت مُطَمْئِناً: "لو حدث لكان ثوابك عظيماً، ألا تحب أن تكون على حال كليم الله موسى عليه السلام مع فرعون؟ إذ نال موسى ومن تبعه من المؤمنين أذىً كثيراً عندما أراد أن يخلص قومه من فساد فرعون الذي وصفه الله بأنه ﴿كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ وبأنه ﴿كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾، فإذا بفرعون يقلب الحقائق ويزيفها ويخاطب قومه بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ﴾!؛ فكان زعيمُ المفسدين هو من يرفع راياتِ الإصلاح بدعوى أن موسى عليه السلام يريد أن يُظهر في الأرض الفساد! ومن العجب أن يستجيب القوم لهذا الزيف ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾، ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾،﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾، فكانت النتيجة هلاكه وهلاكهم ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾. فلتصبر عزيزي ولتحتسب وثِقْ بوعد الله بنصرك طالما أنك على الحق". سأل بعد أن استمع إلى ما قلته: "هل هناك في ديننا الحنيف ما يرشدنا إلى التعامل مع مثل هذه المواقف؟"، أجبته: "بالطبع؛ فالإسلام دين حياة، وشريعتنا الغراء تنظم لنا جميع شئوننا من أقلها وأصغرها إلى أهمها وأعظمها"، قال: "وماذا عن الفساد تحديداً؟"، قلت له: " اقرأ ما شئت قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ﴾، وقوله: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾، وقوله: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، وقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ*الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾، وقوله: ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وقوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، عزيزي لقد وردت لفظة الفساد ومشتقاتها خمسين مرة في القرآن الكريم لعل خلاصتها في قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾".

أحبتي في الله .. يتحدد واجب كلٍ منا إزاء الفساد في أمرين واضحيين جليين: الأول، أن نكون دائماً من المصلحين وألا نكون من المفسدين أبداً حتى لو بدا لنا أن لنا مصلحة في أن نقترف بعض أفعال الفساد أو في فسادٍ يقترفه الآخرون .. الثاني، ألا نترك الفساد يتمادى وينتشر كالوباء بين الناس؛ بالسكوت عنه أو التستر عليه أو تبرير اقترافه بأية حجة، أو مجاملة من يقوم به خاصةً إذا كان من الأقارب أو المعارف؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، بل علينا جميعاً أن نتصدى له ونحاربه بالحكمة والموعظة الحسنة فإن لم يفلح ذلك فبالقانون؛ حيث يُروى عن عثمان  بن عفان، رضي الله عنه، ويُروى أيضاً عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، القول المشهور: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". 
أحبتي .. البعض في محاربة الفساد يتردد، يفضل الابتعاد ويختار أن يكون سلبياً، ويعتقد أن في ذلك الحكمة وإيثار السلامة .. لكن هذا خطأٌ كبير، وتقاعسٌ عما يجب أن يكون عليه موقف المسلم من هذا الأمر؛ ألا نتدبر قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾؟، [لوى لسانه: أخبر بالكذب]، [أعرض: سكت وكتم الحق، والساكت عن الحق (شيطانٌ أخرس)].

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 15 يوليو 2016

العبادة الصامتة


15 يوليو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٤٠

 (العبادة الصامتة)

ما أجمل لحظات ما بعد الفجر .. لحظات الشروق .. عندما تنظر إلى السماء وتطيل النظر إذا بسواد الليل ينسحب بالتدريج ليحل محله بياض النهار .. تترك الظلمة مكانها بهدوء ليعم ضوء النهار وجه الأرض ويكسوها نوراً .. وما بين السواد والبياض درجاتٌ وألوان .. يشدك اللون الأحمر وهو يتوسط هذين اللونين .. كأنه وسيطٌ بينهما .. يتسلم الأمانة من اللون الأسود ويسلمها إلى اللون الأبيض .. لوحةُ بكورٍ قبل الضحى خلابةٌ ساحرة .. تتكرر كل يوم .. كثيرٌ من الناس يحرمون أنفسهم من رؤيتها ..
وما أروع لحظات ما قبل الغروب .. لحظات الشفق .. وأنت ترى الشمس في الأفق وقد تحول لونها من الأصفر المتوهج إلى الأحمر المشوب بالبياض .. وتأتي لحظات الغسق حيث تلملم الشمس أشعتها وتقل حرارتها ويخفت ضياؤها وتستعد لمغادرة المشهد الذي نراه كل يوم .. يغادر اللون الأبيض رويداً رويداً ليدخل اللون الأسود ويتحول إلى عتمةٍ تغطي سماء الليل شيئاً فشيئاً .. هادئاً صامتاً كأنما يمشي على أطراف أصابعه .. مصحوباً بدرجاتٍ متفاوتةٍ من اللون الفضي الجميل لنورٍ يغزله القمر غزلاً .. ويستمر على هذا الحال إلى وقت السحر حين يستعد الكون كله لاستقبال صباحِ يومٍ جديد.
سبحان الله .. ثم سبحان الله .. ثم سبحان الله .. جمالٌ ما بعده جمال .. ولوحتان إحداهما في الصباح والأخرى في المساء .. ما أروعهما .. لوحتان لا تخلوان من لمساتِ جمالٍ تشبعُ الأنظار وتغذي الوجدان وتريح القلوب وتُبهج النفوس.
إنها معجزةُ النهار والليل، معجزةُ الشمس والقمر، وتتابعهما، معجزةٌ إلهيةٌ لو تَفَكَّرَ فيها الإنسان لاهتدى من تلقاء نفسه إلى أن من خلق الشمس والقمر وأوجد النهار والليل هو الإله الواحد الأحد المستحق للعبادة وحده دون سواه .. أولم يكن هذا ما خطر على قلب أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما نظر إلى السماء متفكراً في ملكوت الله سبحانه وتعالى؟ قال تعالى:  ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾.
الليل والنهار من سنن الله خلقها سبحانه وتعالى وسخرها لخدمة البشر .. لم تتعطل يوماً منذ أن خلق الله الكون .. ولن تتوقف يوماً إلى أن يشاء الله أمراً كان مفعولاً.
انظر يا رعاك الله إلى دقة الوصف القرآني المحكم للغشيان والتجلي: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾، وانظر إلى روعة وصف الشمس والقمر وهما "يَسْبَحان" في هذا الفضاء الهائل وهذا الكون العظيم: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، وانظر إلى هذا النظام الدقيق المبهر: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، وكل ذلك بحساب: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾، ثم انظر إلى إظلام الليل وهو يلحق بالنهار سريعاً: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾.
إنها من آيات الله عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾، قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾، أوجدهما من عدم ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾، وهما رحمة من الله جل وعلا ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ لماذا؟ ﴿لِتَسْكُنُوا فِيه..﴾ أي: في الليل، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ أي: في النهار.
أقسم بهما عز وجل:﴿وَالضُّحَى*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾، وأوضح الحكمة من خلقهما وهي تبَيَّنَ الحق ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، وابتغاء فضل الله، ومعرفة عدد السنين والحساب ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾، وعَرَّفَنا السبيل إلى ذلك ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾.

أحبتي في الله .. إنه التفكر في خلق الله، إنه (العبادة الصامتة)؛ فالتفكر عبادة تتعلق بالقلب ولا يُستعمل فيها اللسان، وإنما هي من أعمال الفؤاد والوجدان، إنها "إِعمال العقل في أسرار ومعاني الآيات الشرعية والكونية عن طريق التأمل والتدبر وملاحظة وجه الكمال والجمال ومشاهدة الدقة وحسن التنظيم والسنن الكونية والتماس الحكمة والعبرة من وراء ذلك".
وقد ورد في التفكر فضلٌ عظيم؛ قال تعالى في مدح المؤمنين: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وقال عز وجل: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
وعن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال بن عمير: "حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فبكت وقالت: "قام ليلةٌ من الليالي فقال: [يا عائشة ذريني أتعبد لربي]، قالت: "قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك"، قالت: "فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بَلَّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: [أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت علي الليلة آياتٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾]". وقال أحد الصالحين: "تَفَّكُرُ ساعةٍ خيرٌ من قيامِ ليلة".
أحبتي .. التَفكرُ والتأمل في ملكوت الله وفي هذا الكون العظيم يزيد من إيمان المسلم ويقوي يقينه؛ فما أروع هذا الكون الواسع الفسيح، وما أحكم اللطيف الخبير، وما أعظم الله أحسن الخالقين، فهو ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾، وهو المتقن لكل ما صنع وخلق وأوجد وأنشأ ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾، وصدق من قال: "الكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق".
ومع فضل (العبادة الصامتة) وعظيم أثرها في زيادة الإيمان واليقين إلا أن كثيراً من الناس غافلون عنها معرضون عن العمل بها لاشتغالهم بالدنيا وقلة علمهم وطول أملهم وغلبة الأماني الكاذبة على نفوسهم، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾. اللهم لا تجعلنا من الغافلين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.