الجمعة، 8 يوليو 2016

حلاوة الإيمان


8 يوليو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٩

(حلاوة الإيمان)

في ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، كان يقف بجانبي في صلاة الوتر، كنا في الصف الثاني خلف الإمام نؤمن على دعائه، فإذا بي أسمع صوت نهنهة مكتومة تبينت أنها صادرة منه، وتتحول النهنهة بالتدريج إلى بكاء، ويرتفع صوت البكاء فيصير نشيجاً ونحيباً، وكلما علا صوت الإمام وازداد تباكيه وهو يدعو بالعتق من النار، كلما ازداد تأثر جاري بما يسمع. بعد انتهاء الصلاة نظرت إليه؛ فإذا هو شاب في الثلاثينات من عمره، لاحظت أن عينيه مغرورقتان بدموع تسيل بقاياها على خديه، أعطيته منديلاً ورقياً ليمسح دموعه، أخذ مني المنديل ومسح به دموعه بصمت. بادرته بالقول: "دعاء الشيخ مؤثر"، أجابني بصوت متهدج: "لا تتصور كيف حرك مشاعري"، قلت مخففاً عنه: "واضح طبعاً!"، ابتسم ابتسامة خفيفة، وسألني: "هل صحيح أن الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة من كل الذنوب؟"، قلت له: "ومَنْ غير الله يقبل توبة عباده؟"، ثم أردفت: "المهم الإخلاص في التوبة والصدق فيها، ورد المظالم إلى أهلها كلما أمكن ذلك"، قال وكأنما يحدث نفسه: "اللهم أنت تشهد على صدق نيتي وإخلاصي في توبتي"، قلت له: "أبشر، فقد قبل الله توبتك"، رد متسائلاً: " وما أدراك أنه قبلها؟"، قلت: "ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾؟"، تغير شكل وجهه وبدا متهللاً، سألني بصوت منخفض: "وماذا لو كانت هذه الذنوب من الكبائر؟"، قلت له: "يقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾"، ظهرت على وجهه علامات السكينة والطمأنينة، وقال: "ما أكرمه سبحانه وتعالى وما أحلمه، آهٍ لو تعلم ما كنت عليه من المعاصي والذنوب. كم زين لي الشيطان سبل الغواية والانحراف ولا أدري كيف كنت مستسلماً له، هل تتصور يا أخي أني لم أكن أصلي، وكان صيامي نوماً طوال النهار حتى موعد الإفطار، لم أفكر يوماً في قيام الليل فقد كنت مدمناً على مشاهدة الأفلام أنتقل من قناة إلى أخرى لأشاهدها طوال الليل وحتى قرب الفجر، ولا تسألني عن نوعها، فالقمر الأوروبي والقنوات المشفرة تعرض تلك الأفلام التي كنت أشاهدها، فإذا حدث وسألت نفسي ولو للحظات هل ما أنا عليه يرضي الله سبحانه وتعالى؟ كان رد الشيطان جاهزاً: <الدين المعاملة، وربك رب قلوب وأنت لا تؤذي أحداً بما تفعل، وإن كان ضميرك يؤنبك لعدم الصلاة ففي العمر متسع، استمتع بوقتك الآن ثم تُب فيما بعد، والله تواب رحيم، أما عن تلك الأفلام التي تشاهدها فأنت لست ملاكاً وكثير من الشباب يفعل مثلك>. هكذا كان الشيطان يزين لي. الأسوأ هم أصدقائي؛ الذين كانوا يسخرون مني لو أردت أن أمتنع عن طريق الحرام"، قلت مقاطعاً: "هذه أمور أصبحت من الماضي، اتركها وراء ظهرك، انظر لحياتك الجديدة كم هي نظيفة طاهرة"، قال مؤكداً: "لم أحس في حياتي كلها براحة وطمأنينة إلا بعد أن مَنَّ الله علي بالهداية"، قلت له: "صدق الله العظيم إذ يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِـحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، فهنيئاً لك الحياة الطيبة، وهنيئاً لك الأجر الرباني العظيم الذي يدخره لك الله سبحانه وتعالى في الآخرة، المهم الثبات، وعدم الانتكاس"، قال بثقة: "لا تخش علي، فقد انشرح صدري وتذوقت (حلاوة الإيمان) وأحسست بلذة لا تعادلها لذة أخرى، لست على استعداد أن أخسر نفسي بعد أن عرفت طريق الحق. أرجوك، لا تحرمني من دعواتك الطيبة"، قلت: "لك ذلك، لكنك لم تكلمني عن السبب المباشر لهدايتك"، قال وهو ينصرف: "فليكن هذا موضوع حديثنا في لقاء قادم إن قدر الله وشاء"، وتركني ومضى دون أن نتبادل أرقام هواتفنا، بل ومن غير أن يعلم أي منا اسم الآخر!.
أحبتي في الله .. ما أروع تلك اللحظة الإيمانية الصافية الصادقة التي تبدل حياة الإنسان تبديلاً كاملاً، وتنتقل به من حال إلى حال، وتجعله فرحاً سعيداً بعد أن كان مكتئباً ذليلاً مما يحمل من أوزار وآثام.
أحبتي .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً]، كما قال: [ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يَكْرَهَ الْعَبْدُ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الإِسْلاَمِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ، وَأَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ الْعَبْدَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ ِللهِ، عَزَّ وَجَلَّ].
و(حلاوة الإيمان) لا يحسها ولا يعايشها أي أحد، إلا من تاب توبة نصوحاً؛ يقول أحدهم من شدة سروره بتلك النعمة: "لو يعلم الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف". وقال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبَّة الله تعالى ومعرفته وذكره". يقول ابن تيمية: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة". وقال أيضاً: "ليس للقلوب سرور ولا لذَّة تامة إلا في محبة الله والتقرُّب إليه بما يحبه، والإعراض عن كلِّ محبوبٍ سواه".
إنها (حلاوة الإيمان)، أدعو إخواننا في الدين، اللاهية قلوبهم عن ذكر الله، أن يبادروا بالعودة إلى طريق الحق ولا يُسَوِّفوا فيطول عليهم الأمد فتقسوا قلوبهم، وليتدبروا الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾. اللهم اكتب لهم (حلاوة الإيمان)، كذلك كنا من قبل فمَنَّ الله علينا، إنها حلاوة لا توصف، وهي لذة في القلب لا تدانيها لذة من لذات الدنيا الحسية.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/h95aX4



الجمعة، 1 يوليو 2016

ليلة القدر


1 يوليو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٨

(ليلة القدر)

جمعتنا مشية رمضانية طيبة، كنا عائدين من صلاة التراويح، وفتح صاحبنا موضوع (ليلة القدر) بالتساؤل: "هل يا ترى هي ليلة ٢٧ من رمضان أم ليلة غيرها؟"، قال الثاني بثقة: "هي بالتأكيد ليلة ٢٧، ألا تحتفل الدولة بشكل رسمي بها في هذه الليلة من كل عام؟ أما ترون المساجد تمتلأ بالمصلين، والأئمة يحرصون على ختم القرآن في هذه الليلة؟"، رد الثالث معترضاً: "مع احترامي، ليس هذا دليلاً على أنها تأتي بالفعل في تلك الليلة"، وافقه الأول فيما قال، وأضاف: "سألتكم عن هذا الموضوع لأني قرأت لأحد الباحثين ما يؤكد أنها ليلة السابع والعشرين؛ وجد الباحث أن كلمة [القدر] تكررت ثلاث مرات في سورة القدر، ووجد أن ترتيب ورود هذه الكلمة في السورة كان على التوالي: ١٢،١٠،٥ وأن مجموع هذه الأعداد هو ٢٧!"، قال الرابع: "هذا يذكرني بمعلومة أخرى وصلتني عن طريق الواتس آب؛ تقول أن سورة القدر تتكون من ثلاثين كلمة، بعدد أيام الشهر الفضيل، وأن كلمة [هي] التي تشير تحديداً إلى (ليلة القدر) هي الكلمة رقم ٢٧ في السورة!"، قال الأول: "وأنا سمعت من صديق أن عبارة (ليلة القدر) تتكون من ٩ حروف وهي قد تكررت في هذه السورة ٣ مرات، فإذا ضربنا ٩ في ٣ كان الناتج ٢٧!"، أضاف الرابع: "للأمانة، أنا اطلعت على دراسة رقمية عن الموضوع تعتمد على أن لكل حرف من حروف اللغة العربية قيمة حسابية محددة عند العرب، وتوصلت الدراسة إلى نتيجة مفادها أن (ليلة القدر) هي ليلة ٢٣، ثم اطلعت على حديث شريف للصحابي عبد الله بن أنيس وآخر لأبي هريرة لتحري (ليلة القدر) ليلة ٢٣"، عاد الحديث للثاني فقال: "أما أنا فقد شاهدت مقطعاً على اليوتيوب يتحدث فيه أحد المهتمين بالأمر عن أنه وضع كاميرات رقمية وأجهزة قياس أشعة وحرارة ورطوبة في أكثر من موضع في أكثر من دولة وانتهى إلى أن (ليلة القدر) هي ليلة ٢٩، وأن أجهزة القياس توصلت إلى ثبات هذا اليوم في الفترة من عام ٢٠٠٤م حتى٢٠١١م!، كما شاهدت مقطعاً آخر عن آية سورة الدخان التي تتحدث عن إنزال القرآن الكريم في ليلة مباركة توصل الباحث من خلالها بطريقة حسابية إلى أن (ليلة القدر) هي ليلة ٢٩"، أمسك الثالث بطرف الحديث فقال: "وأنا قرأت أن أبا سعيد الخدري، الصحابي الجليل، يعتقد أنها ليلة ٢١، ويستند في ذلك إلى حديث للرسول عليه الصلاة والسلام عندما اعتكف العشر الوسطى من رمضان". أراد صاحبنا الذي فتح الموضوع أن ينهيه فقال: "أخشى أننا نتكلم عن ليال وترية قد تكون في الحقيقة زوجية ونحن لا ندري؛ ألا تذكرون أن هناك بلاداً تشترك معنا في جزء من الليل أعلنت بداية شهر رمضان بعدنا بيوم؟ والله أعلم أَنَحْنُ أم هُم على صواب!".
اكتفيت بالاستماع والتزمت الصمت، وأحمد الله أن أحداً منهم لم يسألني عن رأيي في الموضوع؛ فقد كانت تلح علي طوال الوقت فكرة أن (ليلة القدر) من الغيب الذي أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾؛ فإذا كان الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ يريدها أخفى هذه الليلة فلماذا يجتهد بعض الناس في معرفتها؟ ثم ماذا ينتظر هؤلاء؟ هل ينتظرون أن يصلوا بشكل مؤكد ونهائي إلى تحديد ليلة أراد الله سبحانه وتعالى إخفاءها؟ يا لسقم هذا المنطق وسخافته.
استغرقني التفكير في الأمر؛ وتساءلت بيني وبين نفسي: كم من الناس شغلوا أنفسهم بهذا الأمر؟ وكم استغرق منهم ذلك من وقت وجهد؟ وكم من الناس يُضَيِّع أفضل أوقات العبادة وأغلاها وأثمنها فيما لا طائل منه؟ لو أن أحدنا ضيع فقط خمس دقائق من وقته في ليلة من ليالي الوتر في العشر الأواخر من رمضان لمناقشة هذا الأمر والبحث فيه والحديث عنه، لو استمر في ذلك لخمس دقائق فقط، وتصادف أن هذه الليلة كانت (ليلة القدر) بالفعل فمعنى ذلك أنه أضاع على نفسه ما هو خيرٌ من ٣١٢ يوماً كان الأفضل له أن يشغلها بصلاة أو زكاة أو اعتكاف أو تلاوة قرآن أو دعاء أو صدقة أو بر والدين أو صلة رحم وبغير ذلك من أعمال البر والخير؛ فالشيء المؤكد هو قول الحق سبحانه وتعالى عن (ليلة القدر) أنها: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، وهذا بالحساب معناه أنها خير من ٨٣ سنة و٣ شهور، وبتقسيم ذلك على ساعات الليل بالقاهرة هذه الأيام وهي ٨ ساعات تكون الساعة الواحدة فيها خيراً من ١٢٥ شهراً، والدقيقة خيراً من شهرين كاملين، فتكون الدقائق الخمس خيراً من حوالي ١٠ شهور و١٢يوماً! ولا ننس قوله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
أحبتي في الله .. في موضوع مشابه، وهو موضوع الفتية أصحاب الكهف، اختلف الناس في عددهم، فجاءت الآية الكريمة بالتوجيه الرباني: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ إرشاداً لنا بالبعد عن الخوض في تفاصيل معرفتها لن تفيد والجهل بها لن يضر.
أحبتي .. البعض منا يتمنى لو يعلم (ليلة القدر) ليطلب بها شيئاً لدنياه، والأنفع له والأفضل أن يكون همه الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل؛ يقول الله في كتابه الكريم: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾.
أحبتي .. يقول المفسرون: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ معناه: عملٌ صالحٌ في (ليلة القدر) خيرٌ من عمل ألف شهرٍ ليس فيها (ليلة القدر). إنها ليلة يَقْبَلُ الله التوبةَ فيها من كل تائب، وتُفَّتَحُ فيها أبوابُ السماء، وهي من غروب الشمس إلى طلوعها، وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها ليلة مباركة: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾، وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام في حديث عن شهر رمضان: [... لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ]، كما قال: [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه]. وكان النبي عليه الصلاة والسلام كما قالت السيدة عائشة رضيَ الله عنها: [إذا دخل العشر شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله]، كما قالت أنه: [كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره].
فلنضاعف الجهد التماساً لبركة هذه الليلة، وحتى لا نُحرم خيرها، وكي نكون من الفائزين بالمغفرة، فما أعظمها من جائزة، وما أغلاه من فوز.
لا ندري هل نكون ممن يدركون هذه الليلة المباركة هذا العام أم لا؟ وهل نكون من المقبولين؟ ولا ندري هل ما يزال في العمر متسع لندركها في أعوام قابلة أم لا؟؛ فشمروا أحبتي سواعد الجد والاجتهاد، في الليالي العشر الأواخر من رمضان، وضاعفوا الجهد قدر الإمكان في الوتر منها .. ﻻ‌ تفوتوا الفرصة؛ عسى نكون وإياكم من السعداء الذين يدركون هذه الليلة ويفوزون ببركتها.
وأذكر نفسي وأذكركم بأن أفضل دعاء في (ليلة القدر) هو: [اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني].
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.


الجمعة، 24 يونيو 2016

فلنستعد له


24 يونيو‏، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٧

(فلنستعد له)

زارنا خلال الشهور الماضية عدة مرات مَلَكٌ كريم؛ هو ملك الموت .. الذي قبض أرواح أحبة لنا أعزاء علينا كان آخرهم يوم أمس الخميس.
أعلم أن الكثيرين لا يحبون الحديث عن الموت، يتحاشونه ويتجنبونه، ويعمد البعض إلى ترك المجلس إذا ذُكر فيه شيء عن الموت، رغم أن الرسول عليه الصلاة والسلام يوجهنا إلى ذكر الموت؛ قَالَ: [أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ-يعْنِي الْمَوْتَ]، وقال عندما سئل: [ ... فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الأكْيَاسُ]، كما قال: [الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا].
الموت مصير محتوم قَدَّرَه رب العزة يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمىً﴾، ويقول: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً  وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.
إنها مقادير المولى عز وجل التي كتبها على عباده، تماماً كما كتب لهم أرزاقهم، وكما كتب على كلٍ منهم أشقي هو أم سعيد.
الموت مخلوق من مخلوقات الله، قدره الله بعلمه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾، وبين لنا المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ" فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ. ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ [مَرْيَمَ: 39]، وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يُؤَمِّنُونَ»؛ فالدار الآخرة ليس فيها موت، وإنما هي نعيم مقيم، أو عذاب دائم شديد مهين أليم.
إذا كنا سنموت كلنا جميعاً فما الحكمة إذن من الحياة؟ سؤال يتبادر إلى الذهن، تجيب عنه الآية الكريمة: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾؛ إذن هو الابتلاء والاختبار، هو التمحيص والاختيار؛ ليميز الله الخبيث من الطيب.
ومثل الدنيا، كما ورد في الأثر، مهما طال عمرنا فيها، مثل سوق أقيم ثم انفض، ربح فيها من ربح وخسر من خسر. والعاقل من عمل لحياته الحقيقة بعد الموت واستعد لها، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
سؤال آخر: ماذا نريد لأنفسنا في الدار الآخرة؟ أن نكون من أهل الجنة أم من أهل النار؟ الإجابة واضحة: كلنا نريد الجنة، وربنا سبحانه وتعالى برحمته لا يريد لنا إلا الجنة، يقول عز من قائل: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾. وتعبر الآية القرآنية الكريمة عن رغبة كل إنسان، حتى لو كان عاصياً آثماً مذنباً، في دخول الجنة؛ حيث تقول: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾.
سؤال ثالث نسأله لأنفسنا ونحن نعلم إجابته مسبقاً، هل هناك طريق آخر غير الموت يوصل ما بين حياتنا الدنيوية، القصيرة مهما طالت، وبين النعيم الأبدي في جنات الخلد؟ بالتأكيد لا يوجد غير طريق الموت، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾، فإذا كان الأمر كذلك (فلنستعد له).
هذه هي القضية، العمل والاستعداد للموت، هي قضية كل مسلم مؤمن يعلم أننا لم نُخلق إلا لعبادة الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، والكيس الفطن هو من يعيش في الدنيا كأنه عابر سبيل كما أرشدنا لذلك نبينا الكريم حينما قال:[كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ]، فلا نجعل الدنيا أكبر همنا.
عند الحديث عن الموت يتمنى كل منا أن يعيش لأطول فترة ممكنة، إنها رغبة فطرية طبيعية عند كل البشر، يريد أن يعمر في الأرض، يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ﴾، حتى إن البعض ليقدم أعمال الحياة الفانية على أعمال الآخرة الباقية؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. وتصف الآية الكريمة الكافرين والمشركين وتبين مدى حبهم لطول البقاء في الدنيا: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ﴾.
أحبتي في الله .. الطريق واضح وجلي، يقول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام: [كلُّ النَّاس يغدو، فبائع نَفْسَهُ فمعتقُها، أو مُوبِقها]؛ فماذا اخترنا لأنفسنا؟ كلنا يريد الجنة، فهل أعددنا أنفسنا للفوز بها؟ هل عملنا لنكون من أهلها؟ يقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا﴾. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [... أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ].
فلنحذر أن نترك أنفسنا لأمل كاذب وخادع، ونحذر من التمني الذي لا يصاحبه عمل؛ قال الحسن البصري: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً غرتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا: "نحسن الظن بالله" وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل).
وقال أحد العارفين: (إِنَّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ كَكَفَّتَيِ الْمِيزَانِ، بِقَدْرِ مَا تَرْجَحُ إِحْدَاهُمَا تَخِفُّ الأُخْرَى).
أحبتي .. كما يُقال: "عرفت فالزم"؛ الموت حق علينا جميعاً .. لا مهرب منه ولا مفر .. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ .. (فلنستعد له) لنكون، ومن نحب، من أهل الجنة التي يصفها عليه الصلاة والسلام بقوله: [قال الله تعالى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ "، واقرأوا إن شئتم قوله تعالى: ﴿فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بما كانوا يَعْمَلون﴾]. اللهم ارحم أمواتنا واغفر لهم وبدل سيئاتهم حسنات واجعلنا معهم من أهل الجنة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/8UHIij


الجمعة، 17 يونيو 2016

الوزر الجاري!


17 يونيو‏، 2016م
خاطرة الجمعة/ ٣٦

(الوزر الجاري!)

كلنا يعرف معنى الصدقة الجارية، وهي الصدقة التي يستمر ثوابها طوال حياة الإنسان وبعد موته. ولا أظن أن أحداً منا لا يعرف أهميتها ويحرص عليها ويجتهد في زيادتها، فهي رصيده المتجدد في الحياة الحقيقية التي إليها معادنا، حياة الخلود؛ قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، وَعَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: [إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ]، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ]. ومن أنواع الصدقات الجارية: بناء المساجد، وغرس الأشجار، وحفر آبار المياه، وطباعة المصحف وتوزيعه، ونشر العلم النافع بطباعة الكتب والأشرطة وتوزيعها، والوقف الخيري، وغير ذلك. كل هذا معلوم ومفهوم وواضح.
تعالوا نفكر معاً في الحالة العكسية؛ هل هناك يا ترى ما يُسمى (الوزر الجاري)؟
نعم! إنه الوزر الذي يستمر إثمه وجزاؤه طوال حياة الإنسان وبعد موته. ولما كان الإنسان يستفيد من ثواب الصدقة الجارية، فإنه يتضرر من آثام (الوزر الجاري). إنه العدل بعينه. والجزاء من جنس العمل. في حالة الصدقة الجارية أنت تستفيد منها في حياتك، وبعد وفاتك إلى يوم الدين كلما استفاد منها غيرك، تتسع الدائرة، وتتزايد، وتكبر؛ فيثقل ميزان حسناتك، ويستمر هذا الأمر إلى ما شاء الله، ويصل ثواب ذلك لك حتى بعد وفاتك. أما في حالة (الوزر الجاري) فيتحمل صاحب الوزر إثم وذنب كل من يأتي من بعده ويسير على دربه، عرفه أو لم يعرفه، وكلما قلده أحدهم، يستمر عداد الذنوب في العمل؛ فصاحب الوزر يتحمل إلى جانب وزره أوزار كل من قلدوه كاملة حتى بعد موته، إذا مات على هذا الوزر ولم يتب عنه.
أحبتي في الله .. نعلم جميعاً تأثير الشخص القدوة على سلوك الآخرين ممن يقتدون به، من هنا كان من أخطر الأمور أن يكون الآباء قدوةً سيِّئة لأولادهم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾؛ فإذا كان الأب يدخن، أو يتعاطى المسكرات، أو يرتكب الفواحش، أو لا يتورَّع عن كسْب المال الحرام، أو يكذب، أو يغش، أو يغتاب، فكيف يكون حال أولاده الذين يقتدون به ويتربون على ذلك ويألفون تلك الأوزار والمفاسد؟، سيكونون في الغالب كما قال الشاعر:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا            عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
كيف نتصور حال أبناء ألِفُوا من آبائهم ترك الصلاة، وعدم ارتياد المساجد، وهجر القرآن؟ وبنات عشن مع أمهات لا تصلين، متبرجات بزينة أمام الأغراب، كاسيات عاريات؟ لا نتصور حالهم إلا كما تصفه الآية الكريمة: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ﴾.
والأمر ليس قاصراً على الآباء والأمهات فحسب، بل يمتد ليشمل كل من هو قدوة لغيره كالمعلم والصديق. ويزداد تأثير الشخص القدوة بارتفاع مكانته (رجل دين، أستاذ جامعة، إعلامي مشهور، كاتب معروف، رياضي محبوب، ...). الأمر جد خطير فهو يشملنا جميعاً دون استثناء؛ فكلٌ منا في الواقع هو قدوة لغيره دون أن يدري، فعلينا جميعاً أن نضبط سلوكنا وتعاملاتنا وأقوالنا وأفعالنا ولبسنا ومظهرنا وأكلنا وشربنا واغتسالنا وكل أمور حياتنا بما يتمشى مع شرع الله، وعلينا جميعاً أن نحذر من (الوزر الجاري).
أحبتي .. يقول المولى عز وجل: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ  وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ  أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ  وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾. ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: [مَنْ سَنَّ سُنَّةَ ضَلَالٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ...]، كما قال: [ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً]؛ فلنبتعد عن (الوزر الجاري) ونفر منه فرارنا من قَسْوَرة، ولنشرع فوراً في توبة صادقة من كل وزر، لننال المغفرة؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾.
اعلم أخي العزيز أنك مسئول ومحاسب عن أفعالك وأقوالك، كما أنك مسئول ومحاسب عن كل من انتهج نهجك وتأسى بعملك وسار على خطاك، خيراً كان أو شراً. راجع نفسك، اعرض أفعالك وأقوالك على ميزان الشرع، استمر فيما تجده صحيحاً، أما ما تجده لا يتوافق وأحكام الإسلام فامتنع عنه فوراً وبادر بالاتصال بكل من تستطيع أن تبين له الصواب وتدله على طريق الرشد وتبعده عن طريق الغي الذي كنت تسلكه، ابذل ما في وسعك لإزالة كل أثر لوزرك حتى لا يستمر جارياً، وجهدك في هذا المجال مقيد بالممكن. واعلم أن التوبة تجُّب ما قبلها، فإن التائب من الذنب، كمن لا ذنب له.
تقبل الله توبتنا وتوبتكم من كل وزر، ونفعنا من كل عمل خير نقوم به أو يقوم به آخرون تأسياً بنا.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/MBZMIU


الجمعة، 10 يونيو 2016

رؤية هلال رمضان

10 يونيو، 2016م
خاطرة الجمعة/ ٣٥

(رؤية هلال رمضان)

في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، يكون محور الحديث بين معظم المسلمين عن موعد بداية شهر الصوم، شهر رمضان المبارك.
في الأسبوع الماضي جمع بيننا لقاء بعد صلاة العشاء، كنا أربعة، بدأ أولنا الحديث بالأمنية التي يحلم بها كل مسلم قائلاً: "أتمنى أن يتفق المسلمون على بداية موحدة لشهر رمضان؛ وأن نبدأ جميعاً صيامنا هذا العام في يوم واحد".
ما إن انتهى من حديثه حتى بدأ حوار حول مسألة الرؤية الخاصة بتحديد بدايات الشهور الهجرية خاصة (رؤية هلال رمضان):
عرض واحد منا وجهة نظره فقال: "مع تطور العلم الحديث، واختراع أدوات وأجهزة للرصد والرؤية، وتطور الحسابات الفلكية وما تتسم به من دقة متناهية أوصلت البشرية إلى سطح القمر، فلا مجال للاعتماد على العين المجردة لرؤية الهلال وفيها ما فيها من ظن واحتمال وتوهم. توجد الآن النظارات العادية، العدسات المكبرة، المناظير المقربة، المجاهر (الميكروسكوبات)، والتليسكوبات الفضائية، وكلها أدوات لا تنشئ رؤية من عدم وإنما تساعد على تحسين رؤية شيء إذا كان موجوداً بالفعل، تقرب صورته وتكبرها؛ فكيف لا نستخدمها ونعتمدها أساساً للرؤية بدلاً من العين المجردة؟ ثم كيف لا نأخذ بالحسابات الفلكية والمسلمون في شتى بقاع الأرض يعتمدون عليها في معرفة أوقات الصلوات الخمس يومياً ولمدة عام قادم، وهي حسابات ذات دقة متناهية، تحظى باتفاق لا خلاف عليه". واختتم عرض وجهة نظره بقوله: "أنا مع اعتماد الحساب الفلكي؛ فإذا دلت الحسابات الفلكية على وجود القمر بعد غروب الشمس بوضع يسمح برؤيته كهلال؛ فإنه يؤخذ بالحسابات الفلكية، ويكون اليوم التالي هو أول أيام الشهر الهجري دون اشتراط رؤيته بالعين المجردة".
قال آخر: "اسمح لي عزيزي أن أختلف معك في الرأي تماماً؛ فأنا مع الرؤية بالعين المجردة لما ورد بذلك من أمر صريح في القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿‌فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وفي السنة المشرفة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته]، وقال صلى الله عليه وسلم: [إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا]. فهل بعد ذلك نترك الرؤية ونأخذ بالحسابات الفلكية؟ علماً بأن الفلك هو علم من العلوم، ويغلب على معظم العلوم أنها ظنية تتغير بتغير الزمان، فهل نترك المطلق ونأخذ بما يغلب عليه الظن؟ وأخيراً، هل يجوز إذا قال أحدنا قال الله وقال الرسول أن يُقال قال العلم الحديث؟".
قال الثالث: "ولماذا لا نأخذ بالرؤية بالعين، فلا جدال أننا مأمورون بها، لكن مع وجود ضابط نضمن معه صحة الرؤية؛ فإذا أثبتت الحسابات الفلكية أن القمر لن يكون موجوداً في السماء في ذلك الوقت، سواءً لم يولد بعد أو أنه وُلد ولكن تستحيل رؤيته، وقتها لا يمكننا الأخذ برأي شاهد يدعي رؤية الهلال، وعلى القاضي الشرعي أو المفتي رد شهادته"، واستطرد يقول: "لا أرى تصادماً بين الدين والعلم، بل إننا كلما زاد علمنا زاد إيماننا؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾".
سألني ثلاثتهم، "ما رأيك أنت في هذه المسألة؟"، قلت لهم: "أنا أضع نفسي موضع الإنسان المسلم البسيط غير المتخصص؛ واجبٌ عليّ أن أتبع ولي الأمر، وأن ألتزم بما تعلنه السلطات المعنية في بلدي عن ثبوت أو عدم ثبوت الرؤية وما يترتب على ذلك من أحكام فقهية وشرعية"، وأردفت: "ومع ذلك، فأنا أرى أن ما يجمع بين وجهات نظركم رغم ما يبدو بينها من تباين، هو حرصكم على تحقيق مصلحة المسلمين، وإن اختلفت زاوية رؤية كلٍ منكم".
أحبتي في الله .. نتمنى كلنا أن تكون رؤية هلال شهر رمضان الكريم مناسبة لتوحيد الأمة الإسلامية، بدلاً من أن تكون مظهراً من مظاهر تفرقها.
أحبتي .. ما عرضته مختصراً وملخصاً لآراء متباينة فيما يتعلق بموضوع (رؤية هلال رمضان) ليس الهدف منه إحداث فتنة - لا قدر الله - وإنما الهدف هو لفت نظر الجهات المعنية بشئون المسلمين للاتفاق على رأي واحد في هذا الموضوع المهم الذي يشغل بالنا جميعاً مع اقتراب شهر رمضان كل عام.
الحمد لله أن بلغنا رمضان، تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.



الجمعة، 3 يونيو 2016

توبوا إلى الله

3 يونيو، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٤

(توبوا إلى الله)

عقب نشر خاطرة الجمعة السابقة، وكانت بعنوان (التخفف من الذنوب)، وصلني تعقيب من أخ عزيز فضلت نشره كما وصلني، وإليكم هذا التعقيب:
# ‏أخي الفاضل انتهيت للتو من قراءة خاطرة الجمعة التي أواظب على قراءتها دائماً. ولا أدري لماذا استحوذت على ذهني فكرة واحدة بعد أن أنهيت القراءة، أيهما أهم؟ التخفف من الذنوب أم التوبة عنها؟ وأحسست بالميل إلى فكرة أن التوبة تجب التخفف من الذنوب وليس العكس، ففكرت في الكتابة إليك عما دار في خلدي، وها أنا أفعل.
أخي الفاضل يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾، كما يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، ويخاطب كل من أراد التوبة وأحس أن ذنوبه أكثر من أن تُغفر: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ، حقاً إنه هو الغفور الرحيم ﴿لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾. وفي الحديث القدسي: [يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة]. قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: [إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها[، وقال صلى الله عليه وسلم: [التائب من الذنب كمن لا ذنب له].
أمر الله تعالى بالتوبة النصوح قال عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾، قال بعض العارفين: النصوح: "الصادقة الخالصة"، وهي التي "تنصَحُ صاحبها بتَرْك العَود إلى ما تاب عنه"، وهي "أن يُبغِض الذنبَ الذي أحبه، ويستغفر منه إذا ذكره". وهي "الندمُ بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والاطمئنان على ألا يعود".
أخي .. أرجو أن تطلب من قرائك التوبة إلى الله سبحانه وتعالى وعدم الاكتفاء بتخفيف الذنوب، قل لهم (توبوا إلى الله)، وبين لهم أن من شروط التوبة الصادقة، إذا كان الذنب بين العبد وبين الله ولا تتعلق بحق آدمي، أن يقلع العبد عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم ألا يعود إليها أبداً، أما إذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فعليه أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً رده إليه، أو قذفاً طلب منه العفو، أو غيبة استحله منها، ونحو ذلك.
وبين لهم أن الاستغفار والمداومة عليه من موجبات التوبة ومغفرة الذنوب، ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [والله إني لأستغفر اللهَ وأتوب إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرةً]، وقال صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوبُ في اليوم مائة مرةٍ]. "والعدد سبعين أو مائة لبيان كثرة الاستغفار".
أخي الفاضل .. أحببت ونحن على أبواب شهر رمضان المبارك، أن نبدأ مع الله سبحانه وتعالى ومع أنفسنا ومع كل من نعرفهم من أهل وجيران وأصدقاء وزملاء ومعارف صفحة جديدة بعد توبة صادقة مقبولة بإذن الله. والله من وراء القصد #.
أحبتي في الله .. كان هذا واحداً من التعليقات التي وردتني بعد نشر خاطرة الجمعة الماضية، أنشره كما وصلني، مع التأكيد على أهمية الاستفادة من قرب حلول شهر رمضان المبارك لنتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة نصوحاً صادقة لا نعود بعدها إلى المعاصي والسيئات أبداً.
أحبتي .. (توبوا إلى الله)، وأتوه مع بداية شهر رمضان ﴿بِقَلْبٍ سَلِيم﴾ خالٍ من السيئات والمعاصي، نظيفٍ من كل حقد أو غل أو حسد أو كراهية أو ضغينة أو كبر أو غرور، تائبٍ من كل ذنب .. اصدقوا الله نيتكم لتوبة نصوح وتنافسوا في ذلك ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ .. وخذوا بأسباب التوبة بصدق وإخلاص يصدقكم الله وعده؛ إذ يقول سبحانه وتعالى عن جزاء التوبة النصوح: ﴿ ... عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. وهل من جزاء أحب للإنسان من هذا الجزاء؟
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/At2QnG


الجمعة، 27 مايو 2016

التخفف من الذنوب


27 مايو، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٣

(التخفف من الذنوب)

سألته: "ما بك يا عزيزي؟ أراك تحمل هماً، ما الموضوع يا ترى؟"، قال لي متأثراً: "أخ فاضل، أعرفه منذ زمن، متعلم تعليماً راقياً، ومثقف، له أعماله الحرة التي حقق فيها نجاحاً ملحوظاً حتى بات ممن يُستشارون في مجال التخصص، نتواصل معاً بشكل يومي عن طريق الواتس آب، لا أذكر أني التقيته من قبل، نتبادل الاحترام عن بعد، ونحتفظ دائماً بمسافة بيننا، فنحن مختلفان في الاهتمامات والآراء ووجهات النظر، وهذا ظاهر مما أكتب ومما يكتب .. من جانبي أتحاشى أن أرسل له ما قد يضايقه أو لا يحبه أو يتعارض مع ما يعبر عنه من أفكار، أريد أن أحتفظ به أخاً في الله حتى لو اختلفنا في الرأي، أدعو له بالهداية دائماً، وأقول في نفسي ربما يتغير، ربما يفيق من غيبوبته كما أفاق غيره، ربما تنزاح من أمام عينيه غمامة تجعله يرى الحق باطلاً ويرى الباطل حقاً .. أما من جانبه فهو يصر على أن يرسل لي بشكل شبه يومي ما يعبر به عن وجهة نظره التي يعلم تماماً أننا مختلفين فيها"، قلت له: "خفف عن نفسك، الاختلاف بين الناس، وحتى بين الأصدقاء شيء طبيعي، لا تضخم الأمر يا عزيزي، هون عليك"، قال: "لا يزعجني أننا مختلفان في الرأي، ما يزعجني هو الأسلوب والطريقة التي يتبعها، وللأسف يتبعها كثيرون غيره، وهي تسفيه رأي الغير بأساليب غير موضوعية؛ فبدلاً من أن يركز على توضيح صحة موقفه ووجهة نظره بحوار عقلاني هادئ ومقبول، أجده يفضل السب والشتيمة والتطاول والافتراء على ما يعتقد أني أؤمن به أو على من يظن أني أميل إليهم، ويتحفني دوماً، دون ملل، بالجديد مما ينتجه غيره من أكاذيب وادعاءات وافتراءات منها ما هو مكتوب ومنها ما هو مصور، يغلب على صياغتها إسفاف وابتذال إذا صدر عن جاهل ربما عذرته، لكن أن يصدر عن متعلم مثقف ذي مكانة اجتماعية مرموقة فهذا أمر من الصعب تفسيره"، قلت له: "أخبرني بموضوع الخلاف عسى يوفقني الله سبحانه وتعالى إلى حله"، رد علي: "ليس المهم موضوع الخلاف، المهم هو أسلوبه وطريقته في التعامل معي، أحس أنه يريد استفزازي، وهذا لم ولن يحدث بإذن الله، ومع هذا فإن ما يشغلني ويؤرقني حقاً أنه هو وغيره ممن يسيرون على نهجه بدلاً من أن يسعوا إلى (التخفف من الذنوب) يُحَمِّلُون أنفسهم أوزاراً لا داعي لها، كما لو كانوا يجتهدون ما وسعهم الجهد أن تنطبق عليهم الآية الكريمة: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙوَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾. سألته: "ألم تنصحه بما تقوله لي الآن؟"، أجاب: "نصحته لكنه لم يأخذ بنصيحتي". واستطرد: "وصل بي الأمر إلى أن أتساءل بيني وبين نفسي ألا يظن هذا الشخص وأمثاله أنهم محاسبون على كل كلمة ينطقون بها أو يكتبونها إذ يقول المولى سبحانه: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾؟ ألا يعتقدون أنهم سيقفون يوماً للحساب أمام الله سبحانه وتعالى؟ ألم يقرأوا الآية الكريمة: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ*لِيَوْمٍ عَظِيمٍ*يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؟، ألا يعلمون أنهم محاسبون حساباً دقيقاً عادلاً لا يترك مثقال الذرة، خيراً كان أو شراً، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾؟ لماذا يفعل هؤلاء بأنفسهم ما يفعلون؟ ماذا سيجنون من تحميلهم أنفسهم كل هذه الخطايا والذنوب؟ الغريب في الأمر هو أن معظم أولئك يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم، ألا يدركون أن غيرهم لن ينفعهم عند الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى وقت الحساب؛ يقول المولى جل شأنه: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾، ويقول عز من قائل: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾"، قلت له: "تتحدث وكأنك أنت على صواب كامل، وكأنه هو المخطئ على الدوام"، ثم أردفت: "وقد تكونا أنتما الاثنان مخطئين"، رد سريعاً: "لم لا؟، نحن بشر نصيب ونخطئ، وهل منا من يملك الحكمة الكاملة أو الحقيقة المطلقة؟"، قلت: "الآن اطمأننت على أن غضبك لم يذهب بك بعيداً عن موضوعية تعجبني في تفكيرك"، عقب قائلاً: "المشكلة لا تكمن في موضوع الخلاف، ومن منا المصيب ومن الذي جانبه الصواب، المشكلة في الأسلوب والطريقة التي يتعامل بها، لست غاضباً منه، وإنما غاضب له، يتملكني إحساس بالشفقة عليه والرثاء لحاله"، قلت له: "يمكنك ببساطة أن تحذف اسمه من جهات الاتصال، أو تقوم بحظره"، رد علي: "أعلم ذلك، لكن لأنه أخ لي في الإسلام، فإني أحب له ما أحب لنفسي، أحمل همه، وأخاف أن يكون يوم الحساب من المفلسين الذين وصفهم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سأل أصحابه: [هَلْ تَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ]". واستمر قائلاً: "أُشفق عليه وعلى أمثاله وأرثي لحالهم؛ فهم يخسرون أنفسهم، باعوا أنفسهم لشياطين الإنس الذين زينوا لهم الباطل فابتعدوا عن طريق الصواب، خضعوا لأهواء غيرهم، وقبلوا أن يتنازلوا طواعية عن فطرتهم الصادقة وعقولهم الواعية فسلموا عيونهم وأسماعهم وقلوبهم للآخرين، أسكتوا صوت الفطرة السليمة الذي تحرك يوماً في صدورهم؛ فتراهم يجادلون بغير حق، وكأني بالآية الكريمة تنطبق عليهم: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ واصلين مرحلة الخصومة ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾، ترى الجدل لديهم غايته نصرة الباطل ومدافعة الحق عن عمد وقصد، صدق رب العزة في وصفهم: ﴿وَمِـنَ النَّـاسِ مَنْ يُجَـادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْـمٍ وَلا هُـدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾، وصدق عندما قال في شأنهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾"، وختم كلامه: "والله إني أحب له ولأمثاله الخير، وأخشى عليهم سوء العاقبة"، قلت له: "لو التزمنا كلنا بالضوابط الشرعية للحوار والجدال، لارتحنا، وخف توترنا، وقَلَّت مشاكلنا. ولو أن كل فرد منا فعل كما فعلت أنت وأحب لأخيه ما يحبه لنفسه لتغيرت أحوالنا وانصلحت أمورنا".
أحبتي في الله .. لقد حدد لنا ديننا الحنيف أساليب النقاش والحوار التي تستند إلى العقل والمنطق وتبعد عن الإساءة والإسفاف .. وضرب لنا الكثير من الأمثلة في ضرورة التعامل بالحسنى واجتناب الإساءة للغير .. يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ .. ويقول في مواضع كثيرة: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾، ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُواْ﴾، ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ .. كلها دعوات لتنشيط أدوات الفطرة السليمة لتعمل عملها فتتغير القلوب .. وطالبنا شرعنا الحنيف بالبعد عن الجدل بغير الحسنى؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، لأن الجدال بغير الحسنى يكون مدعاة للإثارة، يدفع إلى المشاحنة والسخرية والتهكم، ويغري بالاجتراء على الحقيقة واستباحة طمسها بالحيلة والكذب والافتراء، مما يوقع أطرافه في الكثير من المعاصي والمحظورات، ويحملهم ذنوباً هم في غنى عنها.
أحبتي .. لماذا يبتعد البعض منا عن الروح السمحة لديننا الحنيف؟ لماذا نُحَمِّل أنفسنا أوزاراً فوق أوزارنا ونجتهد في اكتساب الذنوب بدلاً من التخفف من الموجود منها؟ ألا تكفينا سيئات كثيرة ندعو الله ليل نهار أن يغفرها لنا؟
علينا أن نستعد لموتٍ قادمٍ لا محالة، وحسابٍ قائمٍ لا شك فيه، بأن يخفف كل منا من ذنوبه وسيئاته ما استطاع.
اللهم اهدنا، واهدِ قومنا فإنهم لا يعلمون، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وبدل سيئاتنا حسنات؛ إنك أنت الغفور الرحيم ..
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/II5j7C


الجمعة، 20 مايو 2016

إياك وما يُعتذر منه/1

20 مايو، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٢

(إياك وما يُعتذر منه)

تمر على الإنسان في حياته مواقف كثيرة، لكن بعضها لا يُنسَى مهما مر الزمن؛ ربما لأنها مواقف سارة أو مواقف صادمة أو مواقف محرجة، ومن تلك الأخيرة ما حدث لي عام ١٩٧٣م وأنا أعمل بإدارة العلاقات العامة ببنك ناصر الاجتماعي، وكنت مسئولاً وقتها عن إنتاج وبث إعلان تلفزيوني عن البنك وأنشطته، فتعاقدنا مع وكالة الأهرام للإعلان لإنتاج الفيلم، اتفقنا على فكرته، وضعنا له السيناريو المناسب، قمت بصياغة المادة الكلامية المصاحبة للمشاهد، واتفقنا مع المخرج على جميع التفاصيل. بدأ التنفيذ بتصوير المشاهد المختلفة ثم تسجيل الصوت وبعدها تمت عملية المونتاج ثم تركيب الصوت على الصورة. انتهينا من إنتاج الفيلم وصار قابلاً للعرض وكانت مدته دقيقة وعشر ثوانٍ .. حاسبنا الوكالة على تكلفة إنتاج الفيلم، ثم تعاقدنا معها على حملة إعلانية بإذاعة الفيلم في التلفزيون لمدة ثلاثين يوماً متصلة، اخترنا وقت بث الإعلان الذي يحقق أعلى نسبة مشاهدة، وحددنا عدد مرات إذاعته في اليوم الواحد بمرتين اثنتين، واتفقنا على أن ندفع للوكالة مبلغ مائة جنيه مصري مقابل كل دقيقة بث (بأسعار ذلك الزمان!).
بعد انتهاء الحملة الإعلانية، قمت بإعداد مذكرة لإدارة الشئون المالية لتجهيز شيك للوكالة، وحسبت مستحقاتها على الوجه التالي: مدة الفيلم دقيقة وعشر ثوان، سعر عرض الدقيقة الواحدة مائة جنيه، تكون تكلفة العرض لمرة واحدة مائة وعشر جنيهات، تم العرض ستين مرة، يكون المستحق للوكالة مبلغ ستة آلاف وستمائة جنيه مصري فقط لا غير. انتهت السنة المالية، واتصل بي مندوب الوكالة يسألني عن الشيك الخاص بمستحقاتهم عن الحملة، طلبت منه إمهالي بضع دقائق أراجع فيها إدارة الشئون المالية، ولما تأكدت من وجود الشيك جاهزاً للتسليم سارعت إلى الاتصال به وأخبرته بذلك فوعدني بالمرور في اليوم التالي لاستلام الشيك. حضر المندوب وتوجه لإدارة الشئون المالية لاستلام الشيك، إلا أن مفاجأة لم تكن في الحسبان، رفض المندوب استلام الشيك وقال إنه يختلف عن المبلغ المتفق عليه! .. حدثت مشكلة وكان لابد من استدعائي باعتباري المسئول عن إعداد مذكرة صرف المستحقات .. ووسط حشد من زملائنا العاملين بتلك الإدارة قلت للمندوب: "اتفقنا على إذاعة الإعلان لستين مرة"، قال: "صحيح"، استطردت قائلاً: "واتفقنا على مائة جنيه للدقيقة"، قال: "صحيح"، قلت له: "تكون تكلفة المرة الواحدة مائة وعشرة جنيهات"، قال: "غير صحيح، هنا تكمن المشكلة"، قلت له: "كيف؟"، قال: "الثوان العشر أنت حسبتها ١٠٪ من قيمة الدقيقة الواحدة"، قلت له: "صحيح"، قال لي: "الثوان العشر سُدس دقيقة وليست عُشر، وهي تساوي ١٦.٦٦٪ من الدقيقة وليس ١٠٪؛ لأن الدقيقة ٦٠ ثانية وليست ١٠٠ ثانية فتكون تكلفة عرض الإعلان للمرة الواحدة هي ١١٦.٦٦جنيه وليست ١١٠ جنيه، وعليه كنت أتوقع استلام شيك بقيمة ٧٠٠٠ جنيه وليس ٦٦٠٠ جنيه!". أُسقط في يدي، ووجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه، الكل ينظر إلي، تمنيت لو أن الأرض انشقت وبلعتني. لحظات قليلة عدت علي وكأنها دهر، استعدت بعدها زمام الأمور لينتهي الموقف بوعد مني لمندوب الوكالة بتصحيح الأمر بأسرع ما يمكن ومعاودة الاتصال به، فانصرف شاكراً.
كانت هناك مشكلة أخرى في انتظاري، فقد أخبرني مدير إدارة الشئون المالية أننا بدأنا للتو في سنة مالية جديدة، وحسابات السنة المالية التي انتهت قد أغلقت ولا يمكن إجراء أي تعديل فيها، سألته: "ما العمل إذن؟"، أجاب باقتضاب: "لا بديل عن عرض الأمر على رئيس مجلس إدارة البنك فهو الوحيد الذي يملك حق إجراء تعديلات على موازنة انتهت وتم التصديق عليها".
يا إلهي، ماذا لو رفض رئيس مجلس الإدارة أن يصدر قراراً بتعديل الموازنة المغلقة؟ هل أدفع أنا الفرق خصماً من مرتبي؟ وكيف يكون ذلك؟ الفرق٤٠٠ جنيه ومرتبي لم يكن يتجاوز وقتها ٢٠ جنيه (نعم عشرون) فقط؟ إنها كارثة بكل المقاييس .. استرها يا رب ..
عُرض الأمر على رئيس مجلس إدارة البنك (المرحوم بإذن الله الأستاذ/ صلاح عوض) فاستدعاني، وسألني عن الموضوع قلت باختصار: "لقد حسبت ١٠ ثوان على أنها عُشر دقيقة في حين أنها سُدس دقيقة، هذا هو سبب المشكلة"، فوجئت به يهون الأمر علي ويقول لي مبتسماً بحنية أب يطمئن ابنه: "يا ابني أنا لو مكانك كنت فكرت بنفس الطريقة"، أحسست لحظتها بأن جبلاً كان يجثم على صدري قد انزاح.
الحمد لله، انتهى الأمر تماماً، وقامت إدارة الشئون المالية بإصدار شيك جديد بالقيمة المستحقة استلمه مندوب الوكالة الإعلانية، لكن بالنسبة لي كان الأمر محرجاً ومخجلاً، كما كان درساً لي تعلمت منه الكثير.
أحبتي في الله .. لا يخطئ أبداً إلا من لا يعمل .. الخطأ وارد دائماً .. [ كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون] .. لكن علينا أن نتعلم من أخطائنا .. ونستفيد من تجاربنا .. وإلا تكررت الأخطاء، وهذا ما حذرنا منه المصطفى عليه الصلاة والسلام حينما قال: [لا يُلدغ المؤمن من جُحر واحد مرتين].
كما أنه من الواجب علينا أن نحسن العمل الموكول لنا أداؤه ونجيده ونتقنه لقوله صلى الله عليه وسلم: [إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه]، وعلينا أن نضع نصب أعيننا التوجيه النبوي الذي يضمن لنا الكرامة وعزة النفس: [إياك وما يعتذر منه].
أحبتي .. المؤمن عزيز النفس؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، لذلك على المؤمن ألا يضع نفسه في موقف يُضطر فيه إلى الاعتذار .. فلنتقن أعمالنا، ونحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الآخرون، وندقق ونراجع ونتأكد من صحة عملنا خاصةً عندما يتعلق الأمر بحقوق الآخرين .. وبشكل أعم ينبغي ألا نخطئ في علاقاتنا ومعاملاتنا مع الغير، ونتعامل مع الجميع بالحسنى حتى لا نصل إلى ما نضطر للاعتذار منه.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.


الجمعة، 13 مايو 2016

صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي

13 مايو، 2016م
خاطرة الجمعة /٣١

(صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)

شيخ وقور يغلب على صلواته الخشوع، يأتي مبكراً لمسجدنا، يطيل القراءة في صلاة النوافل، كما يطيل السجود فيها، يواظب على صلاة الجماعة يكاد لا يفوته فرض منها، بشوش الوجه، هادئ، ترتاح له حتى لو أنك لا تعرفه .. لم نُصَلِّ أنا وهو متجاورين إلا مرات قليلة، سمعته في إحداها يقول عند الرفع من الركوع (ربنا لك الحمد والشكر) .. فتعمدت مجاورته في مرة تالية لأتأكد من صحة ما سمعت .. ورغم صوته المنخفض إلا أني تأكدت من أنه يقول نفس الكلمات في كل مرة يرفع فيها من ركوع .. ولأن الدين النصيحة .. فقد انتظرته حتى فرغ من صلاته وخرج من المسجد .. استوقفته وحييته بتحية الإسلام، وبعد سؤاله عن صحته وأحواله، قلت له أن عندي ما أود أن أعرضه عليه، فقال مُرَحِّباً: "تفضل"، قلت: "عندما كنت أرفع من الركوع كنت أقول (ربنا لك الحمد والشكر) إلى أن نبهني أحد الأحبة إلى أن كلمة (الشكر) بدعة يجب ألا تُقال"، تساءل مستنكراً: "كلمة (الشكر) بدعة؟! أليست بنفس معنى كلمة (الحمد)؟"، قلت: "صحيح أنه يوجد تقارب في المعنى بين الكلمتين، لكن الأفضل ألا نبدل أو نزيد"، واستطردت: "لماذا لا نقول عند الركوع سبحان ربنا (العزيز) أو (الغفور)، بدلاً من (العظيم) وهي كلها من أسماء الله الحسنى؟ ولماذا لا نزيد فنقول (العظيم الجبار)؟ "، عقب قائلاً: "وما الضرر من زيادة كلمة (والشكر)؟ أليس فيها تأكيد لمعنى الحمد؟ لماذا لا نعتبرها زيادة في العبادة نُؤجر عليها؟"، رديت عليه بسؤال: "كم ركعة تصلي وقت الظهر؟"، أجاب متعجباً: "أربع بالطبع!"، سألته: "لمَ لا تصلي الظهر خمس ركعات أو ست؟ أليس في ذلك زيادة تبدو في ظاهرها أنها مقبولة يمكن أن يُثاب المرء عليها؟"، لم أعطه فرصة الرد واستكملت حديثي: "المسألة يا صديقي أن الصلاة - وغيرها من العبادات- لم ينزل وصفٌ مفصلٌ لها في القرآن الكريم، وأُمرنا أن نأخذ مناسكنا عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك أن نصلي كما كان يصلي"، قال مؤكداً: "لنص الحديث [صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي]"، قلت له: "بالضبط، هذا ما يجب أن نلتزم جميعاً به"، وعُدت به إلى نقطة البداية: "كنت دائماً أقول عند الرفع من الركوع (ربنا لك الحمد والشكر)، هكذا سمعتها من والدي رحمه الله وغفر له وتعلمتها منه، حتى سَخَّر الله سبحانه وتعالى من يسمعها مني ويصححها لي"، سكت لحظة ثم سأل: "وماذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول عند الرفع من الركوع؟"، قلت له: "هذا بالفعل ما شغلني بعد معرفتي بأن (والشكر) زيادة من المستحسن تركها، فبحثت حتى عثرت على كتيب صغير عن صفة صلاة النبي، وجدت فيه ضالتي، تعلمت منه الكثير"، ثم فتحت هاتفي المحمول وقرأت له من نصٍ عن هذا الموضوع ما زلت أحتفظ به في هاتفي: "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول بعد الرفع من الركوع (سمع الله لمن حمده)، وتارةً يقول: (ربنا لك الحمد)، وتارةً يضيف إلى هذين اللفظين قوله: (اللهم). وتارةً يزيد على ذلك: (... ملء السموات وملء الأرض وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد .. أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، وتارةً تكون الزيادة: (... ملء السماء والأرض .. وملء ما شئت من شيء بعد .. اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد .. اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس)، (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)". قلت له: "هذا ما وجدته من أدعية مأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام، اللهم ثبتنا على سنة الحبيب المصطفى"، قال مؤَّمناً على دعائي: "اللهم آمين، جزاك الله خيراً، أستأذنك في أن ترسل لي هذه الأدعية على هاتفي"، وعدته بذلك، ثم قلت مودعاً: "للأمانة .. قال العلماء أن قول (والشكر) في دعاء الرفع من الركوع لا يُبطل الصلاة، لكن الأولى والأفضل تركه لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم".
أحبتي في الله .. قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ..﴾، وقال عز وجل: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾، يقول العلماء أن كلمة (الحكمة) في تلك الآيات يُراد بها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها تدل على أن الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله الكريم شيئين هما: الكتاب والحكمة، فالكتاب هو القرآن الكريم، والحكمة هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أكد عليه الصلاة والسلام هذا المعنى فقال: [أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ].
أحبتي .. الأصل في العبادات أنها توقيفية، فلا يجوز لأحد أن يتعبد لله بشيء لم يشرعه الله إما في كتابه أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومتى شك الإنسان في شيء من الأعمال هل هو عبادة أو لا فالأصل أنه ليس بعبادة حتى يقوم دليلٌ على أنه عبادة، كما يجب أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام القدوة لنا والأسوة الحسنة قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾، وعلينا أن نأخذ بسنته ونعمل بها ونترك ما نهانا عنه أو لم يثبت عنه قولاً أو فعلاً أو إقراراً؛ قال تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.



الجمعة، 6 مايو 2016

مَعِيشَةً ضَنكاً


6 مايو، 2016م
خاطرة الجمعة /٣٠

(مَعِيشَةً ضَنكاً)

سمعته يتحدث بالهاتف إلى شخص لا أعرفه، كان يقول له أن المصائب تتوالى عليه، لا يكاد يخرج من واحدة إلا وتأتي التالية أصعب من سابقتها. استمر في حديثه الذي أسمعه بغير تعمد؛ فأنا قريب منه وهو عالي الصوت يتحدث بغير تحفظ، قال لمن يهاتفه أن الأمر لم يعد كما كان محصوراً في مشاكل العمل فحسب، وإنما امتد ليصل إلى مشكلات بينه وبين زوجته لا يعلم كيف ستنتهي، وأضاف متهكماً، كأنه لا تكفي مشكلات العمل والبيت فقد بدأت سيارته هي الأخرى سلسلة من المشاكل بدأت بتنزيل الماكينة واستمرت مع الإطارات والبطارية ووصلت الآن إلى مكيف السيارة الذي لا يستطيع أن يستغني عنه ونحن على مشارف صيف ساخن.
كان المتحدث أحد راكبي حافلة نقل عام أستقلها عائداً إلى المنزل منتصف هذا الأسبوع، يفصل بيني وبينه مقعدان، ورغم ذلك فقد كان أغلب من بالحافلة -وأنا منهم- يتابعون محادثته الهاتفية رغماً عنهم، ولم يكن هو مهتماً باستماع الآخرين إلى ما يقول .. فمن الواضح أن كثرة مشاكله التي تحدث عن بعضها جعلته في وادٍ آخر غير عابئ بشيء حتى أنه لم يكن يبذل أية محاولة لخفض صوته أو الحديث باختصار دون تفاصيل.
لا أدري لماذا وردت على ذهني وقتها الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾، بالطبع لا أصف المتحدث بأنه قد أعرض عن ذكر الله فهذا أمر بينه وبين الله سبحانه وتعالى، لكني تفكرت في معنى الآية .. إنها آية وعيد .. ويا له من وعيد! .. (مَعِيشَةً ضَنكاً) .. وهل من وعيد أسوأ من معيشة صعبة مؤلمة تتزايد فيها المشاكل ليس بها راحة بل كلها تعب ونكد؟ .. ومَنْ الذي يتوعد؟ إنه الله سبحانه وتعالى .. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾، و﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾، وهو القائل: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ .. إن جسمي يقشعر لمجرد استحضار هذا الوعيد.
لم تغادر هذه الآية الكريمة تفكيري وظلت حاضرة في ذهني طوال الوقت، قلت لابد من مزيد من البحث عن معناها فوجدت الحافظ ابن كثير يقول عنها: " ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ أي: في الدنيا؛ فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره؛ بل صدره ضيِّق حَرَج لضلاله، وإن تَنَعَّمَ ظاهرُه، ولَبِسَ ما شاء وأكلَ ما شاء، وسكنَ حيث شاء؛ فإنَّ قلبه ما لم يَخْلُص إلى اليقين والهُدى فهو في قلق وحيرة وشَكّ، فلا يزال في ريبه يتردَّد، فهذا من ضَنَك المعيشة ". وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أن (مَعِيشَةً ضَنكاً) ليست خاصة بالدنيا فقط وإنما تشمل: دار الدنيا بما يصيب المُعْرِض عن ذِكْرِ رَبِّه من الهموم والغموم والآلام التي هي عذاب مُعَجَّل، ودار البرزخ بين الدنيا والآخرة، والدار الآخرة وقت الحساب، فالمعيشة الضَّنْك لن تكون في الدنيا وحسب.
وعن الضنك في الدنيا كان السلف إذا رأوا من زوجاتهم نفوراً وعصياناً أرجعوا سبب ذلك إلى ذنوبهم حتى قال قائلهم: "إني لأرى أثر معصيتي في خُلق دابتي وزوجتي".
ومع تسليمي بما سبق وإيماني به فإني أرى البعض ممن هم بعيدون عن منهج الله سبحانه وتعالى يعيشون في رغد ظاهر فأين إذن معيشتهم الضنك؟ أراهم يعيشون في راحة منعمين مع إعراضهم عن ذِكر الله فكيف يكون ذلك؟
تأملت أحوال هؤلاء القوم قليلاً فوجدتهم وإن تنعَّموا وضَحِكوا وأكَلوا وشربوا ما شاءوا؛ فهم في قلق وحيرة وشَكّ .. فنحن نرى في الدول غير الإسلامية من أسباب الراحة والترف والتنعم ما يفوق الوصف والخيال، ومع ذلك فإن أهلها أشد الناس قلقاً وحيرة واضطراباً؛ تتفشى فيهم الأمراض النفسية والعصبية، وتزداد معدلات الجريمة والقتل والسرقة والاغتصاب وشرب الخمر والمخدرات، بل وترتفع معدلات الانتحار لديهم لتكون الأعلى من بين جميع دول العالم، فأي أمن وطمأنينة يشعر بها هؤلاء؟ لا شيء .. بل هو غضب من الله عليهم لنسيانهم ما ذُكِّروا به وهو طريق الحق؛ يفتح عليهم جميع أبواب الراحة والترف في الدنيا حتى يفرحوا بها، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾ ثم تكون الخاتمة: ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.
أما الذين يسيرون على منهج الله فإن الله يختصهم بنعمة البركة؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، ويجعل لهم الأمن؛ يقول عز وجل: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾، وييسر أمورهم؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾، ويخرجهم من كل ضيق ويوسع لهم أرزاقهم؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، ويبشرهم بالحياة الطيبة والأجر الحسن؛ يقول المولى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
أحبتي في الله .. لنكن على ثقة تامة بأن البعيدين عن منهج الله مهما وجدوا من أسباب النعيم والترف والسعادة لن يعيشوا في أمن وطمأنينة قط، بل هم في شقاء نفسي وقلق واضطراب لا محالة، تحاصرهم المشاكل من كل حدب وصوب؛ ومصائبهم لا تأتي فرادى، هؤلاء واقعون تحت وعيد الله فإن لهم (مَعِيشَةً ضَنكاً)، وعلى العكس من ذلك، من اتبعوا منهج الله، وأصلحوا ما بينهم وبين الله، وأخلصوا العبادة له سبحانه وتعالى هؤلاء واثقون في وعد الله (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) يستبشرون بالحياة الطيبة .. إن أمرهم كله خير .. يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ] .. لاحظوا أحبتي عبارة "وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ".
أحبتي .. عندما تتزايد مشاكلنا وتحيط بنا من كل جانب، علينا أن نراجع أنفسنا لنعرف ما قصرنا فيه من عبادات، وما أخطأنا فيه من معاملات، وما ارتكبناه من سيئات وذنوب .. ثم يجب أن نبادر إلى إصلاح ما أفسدناه، ونسارع إلى جبر ما كسرناه، ونفر إلى الله .. يصلح لنا أعمالنا .. ويهدي بالنا .. ويكتب لنا سعادة الدارين: الدنيا والآخرة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.