الجمعة، 8 أبريل 2016

الحب الحقيقي

8 أبريل، 2016م
خاطرة الجمعة / ٢٦

(الحب الحقيقي)

قال لنا وصوته يشي بالأسى: "حِرتُ في أمر أخي"، سأله أحدنا: "خير، ما الأمر؟"، تنهد وقال: "تعلمون ما تعاهدنا عليه، أن نحاول تعويض ما فات: نبرأ من تقصيرنا، ونقضي ما يمكن لنا قضاؤه، ونعمل ما نستطيع من خير فيما تبقى لنا من عمر صلاةً وصياماً وزكاةً وتصدقاً وبِراً"، قلنا في وقت واحد: "نعلم"؛ فقد كان يذكرنا نحن الخمسة من المتقاعدين أرباب المعاشات بذلك العهد الذي جمع بيننا في صحبة طيبة لا يرجو منها أيٌ منا إلا وجه الله سبحانه وتعالى؛ فكلنا يرتاد نفس المسجد نصلي فيه صلواتنا اليومية بانتظام، وكلٌ منا وَجد في الجماعة عاصماً له من انتكاسةٍ لا شك أن الشيطان يحاول أن يوقعنا فيها فرادى. قال صاحبنا موضحاً بصوت يشعرك بالأسف: "المشكلة في أخي الذي يكبرني بعامين، أراه للأسف غير ملتزم: لا يواظب على الصلاة، وإذا صلى لا يصلي في المسجد رغم أنه على بعد أمتار من منزله، أما عن السنن الرواتب فحدث ولا حرج، ولا تسألوني عن قيامه الليل، معظم وقته ضائع ما بين مشاهدة التلفاز وقراءة الصحف، نادراً ما أراه يقرأ في المصحف، إذا فتحت معه أي موضوع ديني يحاول دائماً أن يغير الحديث. لا أعرف كيف أتصرف معه. إنه أخي وحبي له هو (الحب الحقيقي) الذي يجعلني حريصاً على مصلحته كحرصي على مصلحة نفسي".
وجدت نفسي بعد تلك الكلمات استرجع شريط حياتي؛ فأرى نفسي في موقف شقيق صاحبنا وقت أن كنت غافلاً، وأرى نفسي مرة أخرى في موقف صاحبنا نفسه مع أكثر من شخص عزيز عليّ: صديق أو قريب أو زميل عمل، أراه على مثل هذه الحال وأتمنى له الهداية. تملكني إحساسٌ أن ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظات هو بالضبط ما كان يفكر فيه الآخرون.
وبدأ النقاش: عرض كلٌ منا رأيه، وشرح صاحبنا بالتفصيل الأساليب التي لجأ إليها لإصلاح حال أخيه لكنها لم تفلح، وحكى أحدنا تجربته الشخصية في موقف مماثل.
في النهاية اتفقنا على عدد من النقاط:
* الأخ كبير في السن راشد عاقل، وهو وحده من تقع عليه مسئولية أعماله ويتحمل نتائجها.
* في حياة كل شخص منا جوانب مخفية لا يعلمها حتى أقرب الناس إليه ولعلها أفضل مما نراه في العلن.
* الأمر يحتاج إلى حكمة في التعامل وأي تصرف بعيد عن ذلك يجعل الموقف أكثر سوءاً.
* يبدو الأمر في بعض المرات للآخرين كما لو كنا نتباهى بصلاحنا رغم أنه نعمة من الله سبحانه وتعالى يذكرنا بها قوله في كتابه الكريم: ﴿كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا  إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾.
* استمرار التوجه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بالتثبيت لأنفسنا، وبالهداية لأحبائنا جميعاً.
عدت لنفسي وتذكرت كم قصرنا في حق الله، وكم ظلمنا أنفسنا، وكم ضيعنا من أيامنا وأوقاتنا، وكم قام غيرُنا بنصحنا فأَجَّلْنا وسَوَّفنا حتى ضاعت علينا فرص هداية واحدةً وراء أخرى .. إلى أن حانت لحظة معينة، لحظة إشراق، أو إفاقة من غفوة، أو تأثر بموقف معين، إنها لحظة الهداية، أجمل وأروع لحظة في حياة الإنسان، لا يُحس بها إلا من مر بها، تأتي بلذةِ إيمانٍ من الصعب وصفها، ورغم أنها لحظة فرحة إلا أنها غالباً ما تكون ممزوجة بالندم على ما فات ومضى، لكنها لمن لا يعرف تعيد للإنسان توازنه النفسي فيحس بطمأنينة وسكينة نفسٍ لم يحس بهما من قبل طوال حياته.
أيوجد أعظم من أن يُحس الإنسان بأنه في معية الله سبحانه وتعالى؟
أحبتي في الله .. عندما يتذوق المرء حلاوة الإيمان، يعلم أن لا شئ في الدنيا يعادل هذا الإحساس فيتمنى ألا يُحرم أحباؤه منه، وأن يشاركوه هذه الحلاوة، هذا هو (الحب الحقيقي) للآخرين، فمن كمال الإيمان أن تحب لغيرك ما تحب لنفسك، يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [لا يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسه].
الدنيا زائلة، ونحن راحلون عنها يقيناً، فلنزهد فيها ولا نأخذ منها إلا ما نتقوى به على أعمال الخير والبر لتكون زاداً لنا في الآخرة، يقول المولى عز وجل: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾. ويقول عز من قائل: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. ويقول الخبير العليم: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
فلنقدم لآخرتنا كل ما نستطيع من عمل، ولنحذر الغفلة؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ﴾. البعض منا للأسف تنطبق عليهم الآية الكريمة ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾، والبعض يُلههم الأمل فتنطبق عليهم الآية ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ حتى يصل بهم الأمر والعياذ بالله إلى أن يقولوا:﴿يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾، أو يقول أحدهم: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾.
أحبتي ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾؟
أما آن لنا أن نفيق نحن ومن نحب من غفلتنا؟
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم والذكر الحكيم، وتجاوز عن تقصيرنا وتقبل أعمالنا، وهدانا أجمعين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/MwzTnr


الجمعة، 1 أبريل 2016

جواز سفر

1 أبريل، 2016م
خاطرة الجمعة / ٢٥

(جواز سفر)

أرسل لي الصديق عبد الحميد محمود عبد الحميد، يستأذن في عرض موقف واقعي مر به في المساحة الخاصة بخاطرة الجمعة.
ولما وجدت أن نشر الموقف به فائدة لأحبتي من قراء خاطرة الجمعة ومتابعيها، فقد استجبت لطلبه، وها أنا أنشر خاطرته كما وردتني منه:
حدث هذا الموقف منذ عدة سنوات حيث كنت أقيم وأعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة، كانت أجمل سنوات عمري. لم أصطحب أسرتي معي بالإمارات؛ فقد ظلوا في القاهرة لظروف صحية خاصة بالزوجة تستلزم المتابعة المستمرة لدي الأطباء، ولكون الأبناء يدرسون في مدارس خاصة للغات.
كنت وكثير من الزملاء والأصدقاء ننتظر إجازة الصيف بفارغ الصبر لأنها تعني لنا الكثير فسوف يلتقي كُلٌ منا بالأسرة والأبناء وسنعطي لأنفسنا قسطاً من الراحة بعيداً عن متاعب العمل ومسئولياته.
وكانت إجازتنا تبدأ عقب انتهاء امتحانات الثانوية العامة حيث أن بعض المعلمين تختارهم إدارة التربية والتعليم للإشراف على لجان الامتحانات كمراقبين وملاحظين، وفي ذلك العام كُلفت كمراقب لإحدى لجان الامتحان، وتعرفت على معلم لغة عربية من صعيد مصر عمل معنا باللجنة كان يتميز بحسن الخلق والتعامل الطيب مع الجميع.
بعد الانتهاء من امتحانات شهادة الثانوية العامة بأيام قليلة أسافر إلى مصر التي بها الأحباب والأصدقاء.
في يوم السفر تحدثت إلى سائق سيارة الأجرة الذي اعتدت أن ينقلني بأمتعتي إلي مطار دبي، وكانت رحلتي في فجر أحد الأيام، صعدت مع بقية الزملاء المسافرين إلى الطائرة. حلقت الطائرة في السماء، ومرت ساعة تلو أخرى، ومع اقتراب موعد الوصول إلى مطار القاهرة يدق القلب دقاته السريعة ويزداد الشجن والتفاؤل والأمنيات العديدة بأوقات طيبة سعيدة ولقاء الأحباب والأبناء. بدأت الطائرة في دخول المجال الجوي لمصر، وبدأ نور الصباح في التسلل داخل الطائرة من خلال نوافذها الدائرية أعقبته أشعة الشمس البكر في ذلك الصباح الجميل، واختلط هذا المشهد بالمزيج من الأصوات الفَرِحة المتفائلة. هبطت الطائرة إلى أرض المطار بمهارة تحسب لقائدها. واختلطت الابتسامات والضحكات مع المشاعر الجميلة، فالكل في انتظار أن يلتقي بالأهل والأحباب والأصدقاء بعد دقائق قليلة، وفرق شاسع ما بين مشاعر الوصول إلى أرض الوطن في إجازة وبين مغادرة الوطن. أنهينا الإجراءات الخاصة بإجراءات الوصول وفحص جوازات السفر واستلام الأمتعة والجمارك، وخرجت من المطار بعد أن قام أحد موظفيه بفحص جواز سفري وتسلمته منه ووضعته في جيب سترتي مباشرة، وخرجت من المطار، قابلت زوجتي التي كانت في انتظار وصولي مع بقية الأهالي المستقبلين لذويهم العائدين في إجازاتهم. قمت بالمناداة على سيارة أجرة تابعة لإحدى الشركات التي توفر سيارات الأجرة لغرض توصيل العائدين إلى منازلهم. وقبل أن تغادر السيارة محيط المطار توجد بوابة بها أحد أفراد الشرطة يقوم بتسجيل رقم السيارة ويستوفي بيانات الركاب من واقع جوازات سفرهم، طلب الشرطي جواز سفري لفحصه فأعطيته له، نظر فيه ثم نظر إليّ قائلاً (هذا الجواز ليس لك، أين جواز سفرك؟) يا إلهي، لقد أخذت جواز السفر من الموظف في آخر مرحلة للخروج من المطار ووضعته في جيبي دون النظر إليه، أخذت الجواز من الشرطي واطلعت عليه وكانت الصدمة، إنه ليس جواز سفري، أنه جواز سفر زميلنا معلم اللغة العربية الذي كان ضمن فريق المراقبة لامتحانات الثانوية العامة والذي يسكن في إحدى مدن الصعيد! ما العمل الآن؟ ماذا أفعل؟
وبدأت الهواجس تدور في رأسي أين ذهب الجواز؟ هل أخذه الزميل بدلاً من جوازه؟ وهل جواز سفري لديه؟ إن كان الأمر كذلك فلا مشكلة إنها مسألة وقت لا أكثر. توقعات سيئة كثيرة ظلت تلاحقني؛ ربما جواز سفري مع شخص غير زميلنا فتتسع دائرة البحث، وربما فُقد الجواز؟ ماذا أفعل وجوازي به تأشيرة الإقامة في الإمارات والتي بدونها لا أستطيع العودة إلى بعد انتهاء إجازة الصيف؟ ماذا أفعل ياربي؟، تساؤلات سريعة مرت في ذهني. لم يكن أمامي سوى أن أذهب إلى بلد زميلنا في الصعيد لعلي أجده وأجد جواز سفري معه. ووسط هذه الهواجس والتساؤلات التي أسألها لنفسي، عدت إلى الموظف الذي تسلمت منه جواز السفر وشرحت له الموقف فكان رده (لم يأتِ أي شخص بجواز سفر غير جوازه، وعلى العموم أترك هذا الجواز فربما يبحث عنه صاحبه!!)،
سألته: (ماذا عن جواز سفري أنا أين هو؟ وكيف أحصل عليه؟)، فكان رده (لا أعرف)، لم أعطه جواز السفر الذي بيدي والخاص بزميلنا لأنه هو الوسيلة الوحيدة التي عن طريقها أحصل على جواز سفري إذا كان لديه.
عدت ثانية إلى صالة الوصول بالمطار، وبعد شرح الموضوع للشرطي سمح لي بالدخول، دخلت إلى الصالة لأبحث عن زميلنا دون جدوى، لم أجده ممن ينتظرون الخروج من المطار، وكذلك لم أجده ممن ينتظرون أهاليهم خارج صالة الوصول. يا الله. ما هذه الورطة التي أنا فيها؟
عدت إلى سيارة الأجرة حيث كانت زوجتي تنتظرني ومعها الأمتعة محملة على السيارة، وأخبرتها بما تم، فاقترحت علي أن نذهب إلى منزلنا فربما لاحظ الزميل أن جواز السفر الذي بحوزته ليس جوازه ويرى عنواننا فيصل إلينا لإعطائنا الجواز ويأخذ جواز سفره. وافقتها على اقتراحها، لكني تذكرت أن العنوان المدرج في جواز سفري هو عنواني القديم الخاص بمنزل الوالد رحمه الله، فذهبنا إلى الأهل هناك وكانت مفاجأة لهم، شرحت لهم الموضوع، وكان ردهم (للأسف لم يحضر إلينا أحد!!)، فطلبت منهم إن حضر أحد يسأل عني ومعه جواز سفري فعليكم أن تطمئنوه أن جواز سفره موجود لدي وتأكدوا من وجود جواز سفري معه.
عدت إلى سيارة الأجرة وقلت لزوجتي (سوف أوصلك إلى المنزل ونُنْزل الأمتعة وأذهب بنفس سيارة الأجرة إلى العنوان الموجود في جواز سفر زميلنا)، ولم يكن أمامها إلا أن توافق على ذلك. طلبت من السائق أن يوصلني إلى منزل الزميل، قال لي أن ذلك سوف يستغرق ثلاث ساعات على الأقل مع زيادة الأجرة ولا بد من موافقة الشركة المالكة للسيارة، وافقت على ذلك بالطبع، وفعلاً اتصل بالشركة بجهاز اللاسلكي الموجود بالسيارة فوافقوا له على ذلك.
بدأت الرحلة من القاهرة إلى تلك المدينة البعيدة في صعيد مصر، وكنت طوال الطريق أنظر حولي من نافذة السيارة إلى السيارات التي تمر بجوارنا عسى أن أرى زميلنا، ولكن دون جدوى. في تلك الساعات التي استغرقتها الرحلة كانت الهواجس تنتابني وتلف رأسي مع الخوف الشديد ألا أعثر على هذا الزميل فربما له أقارب ذهب إليهم في بلد آخر، وربما اتسعت دائرة فقد الجواز وأن يكون لديه جواز سفر شخص ثالث، وربما يكون هذا الشخص في بلدة غير هذه البلدة، وقد لا أعثر على العنوان، وقد يكون الزميل قد بدّل مكان إقامته مثلي فكيف أعثر عليه؟ وإن لم أجد الجواز فكيف لي العودة إلى الإمارات والإقامة مدرجة في الجواز الذي أبحث عنه؟ وإن استخرجت جواز سفر جديد فكيف لي أن استخرج إقامة جديدة على الجواز الجديد من القاهرة؟.
أفكار عديدة وهواجس كثيرة مرت على خاطري في تلك اللحظات. وصلنا إلى بلدة الزميل وبحثنا عن العنوان المدرج في جواز سفره، ودلنا أحد الأفراد على المنزل فتوجهنا إليه وسألت رجلاً كان يجلس بالقرب من المنزل إن كان هذا هو منزل زميلنا، فأجاب بقوله: (نعم، ولكنه مسافر وغير موجود حالياً أسرته فقط هم الموجودون)، وقبل أن يكمل عبارته قال لي (انظر، لقد وصل للتو في سيارة الأجرة التي وراءك)، تنفست الصعداء وحمدت الله كثيراً على ذلك، والتفت إلى زميلنا وصافحته وقلت له (حمداً لله على السلامة)، رد علي السلام، لاحظت على وجهه علامات الاستغراب حين قال (أهلاً بك، خير، ما الذي جاء بك إلينا يا ترى؟) وأعتقد أنه كان يعرف أنني من سكان القاهرة، فقلت له بسرعة (من فضلك أرني جواز سفرك)، تعجب الزميل من طلبي ونظر إليّ نظرة فيها شيء من الريبة لكنه أخرج من جيب سترته جواز السفر، أخذته منه بسرعة واطلعت عليه فوجدته جواز سفري .. يا الله، لك الحمد والشكر، مددت يدي في جيبي وأخرجت جواز سفره وقدمته له وقلت له هذا هو جواز سفرك! تعجب الزميل مما رأى وسألني متعجباً (كيف حدث ذلك؟)، فشرحت له الموضوع بالتفصيل من لحظة استلام الجواز من موظف الجوازات إلى أن قابلته في بلده، واتضح أنه أخذ الجواز من موظف المطار ولم يطلع عليه مثلي ووضعه في جيبه مباشرة مثلما فعلت ظاناً أنه جوازه.
كانت لحظة لا أستطيع وصفها من الفرح ومن السعادة أن عثرت على جواز سفري وحمدت الله كثيراً على ذلك. وقد كان الزميل كريماً معنا أنا والسائق فلم يتركنا إلا بعد أن استضافنا، حاولت الاعتذار عن ذلك ولكنه لم يقبل اعتذاري، وكان هذا الحديث كله أمام باب منزله، فأنزل أمتعته من السيارة التي أوصلته من المطار واصطحبنا إلى شقته في الدور الأول وأدخلنا غرفة الجلوس واستأذن منا لكي يسلم على أهله، وطلب منهم تحضير وجبة الغداء التي أصر على أن نتناولها معه، واتصلت من هاتف منزله بأسرتي في القاهرة وطمأنتهم. وبعد ذلك رجعت إلى مسكني في القاهرة، وشتان ما بين حالة الذهاب إلى تلك البلدة والعودة منها.
علمتني هذه التجربة أن أفحص كل ورقة أحصل عليها من أي مكان عام أحتاج فيه إلى تصديق أو تأشيرة أو توقيع.
لك الحمد والشكر يا الله فقد كانت تجربة مثيرة مليئة بالخوف والترقب إلا أن لطف الله كان ملازماً لي والحمد لله كثيراً.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.


الجمعة، 25 مارس 2016

قصة كفاح

25 مارس، 2016م
خاطرة الجمعة /٢٤

(قصة كفاح)

[كنت فقيراً لدرجة أنني عجزت عن الاشتراك في رحلة للمدرسة قيمة المشاركة فيها ريال سعودي واحد رغم بكائي الشديد لأسرتي التي لم تكن تملك الريال. وقبل يوم واحد من الرحلة أجبت إجابة صحيحة فما كان من معلم الفصل إلا أن أعطاني ريالاً مكافأة مع تصفيق الطلبة. حينها لم أفكر وذهبت مسرعاً واشتركت في الرحلة، وتحول بكائي الشديد إلى سعادة غامرة استمرت أشهراً. كبرت وذهبت الأيام وغادرت المدرسة إلى الحياة، وبعد سنوات من العمل وبفضل الله، عرفت العمل الخيري، هنا بدأت أتذكر ذلك المدرس الفلسطيني الذي أعطاني الريال، وبدأت أسأل نفسي هل أعطاني ريال صدقة أم مكافأة فعلاً؟ لم أصل إلى إجابة، لكنني قلت إنه أياً كانت النية فقد حل لي مشكلة كبيرة وقتها ودون أن أشعر أنا أو غيري بشيء. هذا جعلني أعود إلى المدرسة وإلى جهات التعليم بحثاً عن هذا المدرس الفلسطيني، حتى عرفت طريقه، فخططت للقائه والتعرف على أحواله. التقيت هذا المدرس الفاضل ووجدته بحال صعبة بلا عمل ويستعد للرحيل، فلم يكن إلا أن قلت له بعد التعارف: "يا أستاذي الفاضل لك في ذمتي دين كبير جداً منذ سنوات"، قال وبشدة: "لي ديون على أحد؟"، هنا سألته: "هل تذكر طالباً أعطيته ريالاً لأنه أجاب كذا وكذا؟"، بعد تذكر وتأمل قال المدرس ضاحكاً: "نعم...نعم.... وهل أنت تبحث عني لترد لي ريالاً؟"، قلت له: "نعم"، وبعد نقاش أركبته السيارة معي وذهبنا، وقفنا أمام فيلا جميلة، ونزلنا ودخلنا، فقلت له: "يا أستاذي الفاضل هذا هو سداد دينك، مع تلك السيارة، وراتب تطلبه مدى الحياة، وتوظيف ابنك في مؤسستي". ذُهل المدرس وقال: "لكن هذا كثير جداً"، قلت له: "صدقني إن فرحتي بريالك وقتها أكبر بكثير من حصولي الآن على عشر فلل كهذه، ما زلت لا أنسى تلك الفرحة"].
كانت تلك بالنص كلمات الشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي، الملياردير السعودي.
نشأ في أسرة فقيرة، بدأ حياته العملية في العاشرة من عمره بتجارة "الكيروسين" فكان يربح من هذه التجارة قرشاً أو قرشاً ونصف خلال اليومين، وعمل بعد ذلك حمّالاً مقابل نصف قرش في اليوم، ثم انتقل ليعمل طباخاً بإحدى الشركات. وفي عام 1365هـ اختار محلاً صغيراً لتجارة "البقالة"، وكانت ثروته وقتها حوالي 400 ريالاً، وبعد ذلك بخمس سنوات بدأ العمل في مجال الصيرفة، فكان يبيع ويشتري العملات من الحجاج.
يمتلك الآن ويدير "مصرف الراجحي" الذي يُعد من أهم المؤسسات المالية في المملكة العربية السعودية، وأحد أكبر المصارف الإسلامية في العالم، تأسس عام 1957م، وله قرابة 500 فرع، تبلغ أصوله 124 مليار ريال سعودي (33 مليار دولار أمريكي)، ويبلغ رأس ماله 15 مليار ريال سعودي (4 مليارات دولار)، ويعمل فيه أكثر من 8 آلاف موظف. يحتل الشيخ سليمان المرتبة الـ107 عالمياً في قائمة "فوربس" لأثرياء العالم، والمرتبة السابعة عربياً، واستطاع أن يبني إمبراطورية اقتصادية من خلال المشاريع التي طورها وجعلها من أفضل وأنجح المشاريع المتخصصة في نشاطها، ومنها إلى جانب مصرف الراجحي، "الشركة الوطنية للدواجن وإنتاج البيض"، التي تعتبر من أكبر مزارع الدواجن في العالم، و"مشروع تربية الأغنام" في الجوف، ومشروع "شركة الروبيان الوطنية" في الليث، وغيرها من المشروعات الكبرى.
يقول الشيخ سليمان: "إن رأس الإنسان هو كمبيوتر إذا ما استُخدم في التفكير الجاد والعمل الدؤوب، وقنوات العمل مفتوحة أمام الجميع تنتظر دخولها". بهذا المنطق استطاع أن يبني ويدير صروحه الاقتصادية، ورغم أن الرجل لم يكمل تعليمه إلا أنه نجح في إدارة موظفيه، والذين يحمل معظمهم شهادات وخبرات اقتصادية كبيرة، وفعلاً استطاع أن يستعمل نعمة العقل جيداً، وبدأ يطور أمواله وأعماله شيئاً فشيئاً إلى أن أصبح من أغنى أغنياء العرب. كانت ثروته تقدر ب 25 مليار ريال سعودي قبل أن يفاجئ الجميع حوله، كما فعل مع مدرسه الفلسطيني، فيتبرع بثلث ثروته للوقف الخيري ويوزع الباقي علي ورثته، ولا زال حياً أطال الله عمره، تغطي أعماله للبر والخير ميادين كثيرة كالتعليم والصحة والإسكان، ومجالات متنوعة كرعاية الأيتام وتحفيظ القرآن الكريم وإنشاء الجامعات والمكتبات العامة وغيرها.
أحبتي في الله .. عَلِمَ الشيخ سليمان أن ليس للكفن جيوب، وعَلِمَ أن المصرف الوحيد الذي له فروع في الدنيا والآخرة، تُودِع فيه في الدنيا لتسحب منه في الآخرة، هو مصرف الصدقة والإنفاق وعمل الخير، ففعل ما فعل بنفس مطمئنة تحسن الظن بالله سبحانه وتعالى وتثق في وعده ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾. وأحسب أنه عاهد الله وأوفى بعهده مصداقاً لقوله تعالى ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾
أحبتي في الله .. أشرت في خاطرتين سابقتين (رقم 5، ورقم 14) إلى نموذجين فريدين من أهل الخير تضيف إليهما خاطرة اليوم النموذج الثالث. هؤلاء الثلاثة جمع بينهم الإيمان والإخلاص وحب الخير، لكلٍ منهم (قصة كفاح)، كفاح في الحياة، وكفاح مع الذات تمثل في مجاهدة النفس التي فُطرت على الشُح، فسلكوا درب الذين ﴿يُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. كأني بهم وقد فهموا المعنى الصحيح للآية الكريمة ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، لقد فرحوا بفضل الله، وفرحوا برحمته، وكانت فرحتهم خيراً لهم مما يجمعون.
أما أخونا المدرس الفلسطيني فقد نفعه إخلاصه في عمله، وإتقانه له، ومعاملته لتلاميذه وكأنهم أبناؤه، وحفزه وتشجيعه لهم، وهذا كله دليل صلاح وتقوى، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.
هؤلاء جميعاً نماذج شامخة، تعمل في صمت، تعطينا دروساً في الحياة، ويبقى عملها مثالاً يُحتذى به. نفع الله بهم، وأكثر من أمثالهم، وجعلنا وإياكم ممن يكتبون لأنفسهم (قصة كفاح) تنفعهم في دينهم ودنياهم؛ فنكون من المفلحين الفائزين بإذن الله.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/8EAWsT


الجمعة، 18 مارس 2016

فن إدارة الاختلافات


18 مارس، 2016م
خاطرة الجمعة /٢٣

(فن إدارة الاختلافات)

عرفته عن قرب لسنوات طويلة وتعاملت معه كثيراً خلال فترة عملي .. كانت توجيهاته لنا دائماً سديدة .. واستطاع خلال فترة وجيزة أن يثبت أقدام مهنتنا حديثة العهد بالإمارات لتكون مهنة راسخة مطلوبة تتمتع باعتراف مجتمعي واضح، وبجهده وإخلاصه صارت مهنتنا محل تقدير عالٍ يُنظر إلى ممارسيها والعاملين بها باحترام وتقدير.
على المستوى الشخصي تشي عيناه بذكاء نادر، وكانت له القدرة على الاستحواذ على محبة من يعمل معهم، أدار مجموعة متنوعة من العلاقات الوظيفية على كل المستويات بكفاءة واقتدار كفارس يمسك بلجام الخيل يسيرها ولا تسيره .. وكان دؤوباً مثابراً .. تعلمنا منه الكثير والكثير.
وهو إلى كل ما سبق أديب وفنان له إنتاجاته المتميزة وإسهاماته التي يشهد بها الجميع.
ما ربطنا سوياً هو العمل المشترك، لكن علاقات العمل كما يعلم الجميع فيها المد والجزر، فيها الشد والجذب، فيها التوافق والاختلاف .. ولظروف خاصة .. لا أدري سبباً لها كانت نقاط الجزر والشد والاختلاف بيننا أكثر من نقاط المد والجذب والتوافق .. لعلها كيمياء العلاقات كما يُقال حيث لا يَد لنا في تعديلها أو السيطرة عليها.
استمرت العلاقات بيننا على هذا المنوال سنوات، لم أجد منه إلا طيب التعامل رغم الاختلاف .. كان بحكمته وبُعد نظره يضع الاختلاف بيننا في إطاره الصحيح باعتباره اختلاف وجهات نظر حول العمل .. لا أكثر ولا أقل .. كان كريماً في تعامله معي؛ فقد كان يملك أن يؤذيني في عملي الوظيفي لكنه لم يفعل. وكنت أقابل كرمه في تعامله معي وصبره علي بكل ما أملك من كياسة وحسن تصرف دون نفاق أو رياء أو مداهنة؛ فأنا بطبعي لا أفعل إلا ما أقتنع به، ولا أتنازل عما أراه صحيحاً أو أعتقد أنه حق مهما كانت النتائج.
مرت الإيام، ودار الزمن دورته، ووصلت بنا سفينة العمل الوظيفي إلى شاطئ التقاعد، حيث صارت علاقات العمل وما شهدته من عواصف وبرق ورعد مجرد ذكريات .. وانهزمت بما تحمله من مراراتٍ أو نشواتِ نصر مستسلمةً لواقع جديد .. أضحت تلك العلاقات جزءاً من ماضٍ استقالت أيامه وسلمت عهدتها إلى حاضر هادئ لا تشغلنا فيه خلافات أو اختلافات.
ولأن معدنه أصيل، فقد استجاب سريعاً لدعوة تواصل جمعت عدداً من زملاء العمل، لم أكن للأمانة أتصور أن يستجيب لها .. وجمع بيننا لقاء بعد سنوات طوال من البعد وعدم التواصل فإذا بالإنسان فيه لم يتغير .. وإذا برقي أخلاقه ورقة تعامله وحفاوته بي تُظهر لي جانباً رائعاً من شخصيته كان متوارياً في السابق خلف علاقات العمل .. فلما انتهت هذه العلاقات بحُلوها ومُرها ظهرت طبيعته الشخصية الإنسانية كأروع ما تكون .. وغمرتني محبته، وأسرتني مودته، واعتراني شعورٌ بالندم على تأخر ذلك اللقاء.
لقد ارتقت وتسامت العلاقات بيننا، واستمر تواصلنا، يتابعني وأتابعه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي .. لم يَضِّن علي بتوجيه .. ولم يبخل بنصيحة .. بل لَعلي أذيع سراً إذا قلت إني مدين له بفكرة استمرار ما أكتب وأنشر بطريقة منهجية متسلسلة فلا تكون كتاباتي متناثرة متباعدة بغير رابط.
أحبتي في الله .. آية كريمة في كتاب الله كنت أتذكرها دائماً كلما تذكرت علاقتي بهذا الصديق العزيز ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، صحيح أننا لم نصل أبداً إلى درجة العداوة والحمد لله، لكن "الدفع بالتي هي أحسن" طَوَّر هذه العلاقة وهذبها وخلصها من كثير من الشوائب. وتذكرت حديث النبي عليه الصلاة والسلام وهو يوجهنا إلى عدم الاستسلام للغضب والتمادي فيه [... الشَدِيدُ الَّذِي يَملكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ]، وتوجيهه صلى الله عليه وسلم بالبعد عن الفُجر وقت الخصام واعتبار ذلك خصلة من خصال المنافق والعياذ بالله [... وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ]، ثم توجيهه لنا في حالة الهجر [لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلام].
الاختلاف والتنوع وتعدد الآراء سُنة كونية من سنن الخالق، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، تأملوا ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ إنه استمرار مقصود لحكمةٍ يبينها عز وجل بقوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، فهلّا تقبلنا هذه السُنة وتعلمنا (فن إدارة الاختلافات) بيننا فيتقبل كلٌ منا الآخر ولو اختلف معه في الرأي .. لا يلغيه ولا يقصيه ولا يؤذيه .. وإنما يستفيد من وجهات نظره وآرائه وأفكاره؛ فمهما كانت مساحة الاختلاف، تبقى دائماً مساحة للاتفاق والتفاهم والتكامل، وبغير هذا لا يستقيم حالٌ ولا تنهض أمة. لن أستشهد بعبارة فولتير المشهورة (قد أختلف معك في الرأي، لكني على استعداد لأن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك)، وإنما أستشهد بمقولة الإمام الشافعي (قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب)، ومقولة أحمد لطفي السيد (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية).
أحبتي .. (فن إدارة الاختلافات) يتمثل في التزامنا بهذه الآداب الإسلامية الرفيعة وتغليب الحكمة في التعامل والصبر وسعة الصدر والتماس العذر وتقديم حسن الظن والتسامح، فالحياة أقصر من أن نضيعها في تعميق "الخلافات"، وهي أجمل عندما نستثمر كل لحظة منها في الاستفادة من "الاختلافات" التي خلقنا الله عليها.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 11 مارس 2016

فوائد التدخين!

11 مارس، 2016م
خاطرة الجمعة / ٢٢

(فوائد التدخين!)

ذكرياتي في الإمارات لا تنتهي .. ومن ذلك أنه في كل عام دراسي كانت تُشكل لجنة في مدينة العين تضم تربوياً من المنطقة التعليمية وطبيباً من الصحة المدرسية وواعظاً من دائرة الأوقاف، كانت مهمتها عقد لقاءات مع طلاب المدارس الثانوية للبنين لتوعيتهم بأضرار التدخين .. يبدأ الطبيب اللقاء بشرح الأضرار الصحية للتدخين وعلاقته بسرطان الرئة والفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم وأمراض الجهاز التنفسي ويوضح ما تحتوي عليه السيجارة من مواد ضارة، ويعرض إحصائيات عن الوفيات الناتجة عن التدخين. أما الواعظ فيوضح للطلاب رأي الدين ولماذا يعتبر العلماء التدخين محرماً، وكان يربط بين الحكم الشرعي الخاص بالانتحار وبين التدخين باعتباره قراراً يتخذه المدخن بكامل إرادته نتيجته المؤكدة الموت البطيء. وكنت أتحدث عن الجوانب الاجتماعية والنفسية وأبين للطلاب عدم صحة الربط بين التدخين ومفاهيم كالرجولة وحل المشكلات واكتساب الأصدقاء، وكنت أبين أن الإقلاع عن التدخين مؤشر واضح على قوة الإرادة والثقة بالنفس. وقبل إحدى تلك اللقاءات أردت أن أقدم جديداً يشد انتباه الطلاب فبحثت في [جوجل] ربما أجد ضالتي، فوجدت موضوعاً بعنوان (فوائد التدخين) فعرضته في اللقاء التالي حيث فوجئ الطلاب، كما فوجئ كلٌ من الطبيب والواعظ، بأني بدأت حديثي للطلاب بالقول: أني لن أحدثكم عن أضرار التدخين، فهي معلومة لكم جميعاً، سأحدثكم اليوم عن (فوائد التدخين)، وبعد لحظة صمت وسط ترقب من الجميع، أبدأ في توضيح تلك الفوائد:
- لا يصاب المدخن بالشيخوخة، ولا يشيب شعره، ولا تعضه الكلاب، ولا يدخل اللصوص منزله، وإذا ركب وسيلة مواصلات عامة فإنه يجلس ولا يقف، وهو يتعرف دائماً على أشخاص جدد!
وأسكت لحظات وسط دهشة الجميع قبل أن أوضح لهم تفصيل ذلك، فأقول:
- لا يصاب المدخن بالشيخوخة ولا يشيب شعره؛ لأن العمر لا يمتد به حتى يشيب شعره وغالباً ما يُتوفى قبل بلوغه مرحلة الشيخوخة. ولا تعضه الكلاب؛ لأنه يمسك عصاً يتوكأ عليها فإذا رأته الكلاب على هذه الهيئة هابته وابتعدت عنه. أما اللصوص فهم لا يدخلون منزله؛ لأنه لا يملك شيئاً يستحق السرقة فهو ينفق معظم أمواله في شراء السجائر والأدوية والعلاج فلا يتبقى له مال يكون مطمعاً للصوص، كما أنه يسعل طوال الليل فيخشى اللصوص الاقتراب من منزله. ويضمن المدخن الجلوس في وسائل المواصلات العامة ولا يقف على قدميه؛ لأنه إذا رأى أحد الجالسين ضعف بنيته واعتلال صحته رق قلبه لحاله فتنازل له عن مقعده وأجلسه فيه. وهو يتعرف دائماً على أشخاص جدد؛ لأنه كل فترة عند طبيب جديد!
وكنت أقول للطلاب بأن عليهم الاختيار ما بين (فوائد التدخين) التي عرضتها وأضراره التي أوضحها الطبيب والواعظ! وكنت أقول لهم أن الاختيار بين الفوائد والأضرار يكون دائماً لصالح الفوائد إلا في هذه الحالة؛ حيث أن (فوائد التدخين) لا يقل خطرها عن أضراره. وكانت الفقرة التي أنهي بها حديثي وينتهي بها اللقاء: "الاختيار قرار، والقرار لكم، والذكي منكم من يختار ما ينفعه ولا يضره"!
أحبتي في الله .. أردت أن أوضح لكل مدخن ولكل من يفكر في التدخين (فوائد التدخين)؛ عسى أن يبتعد عن هذه العادة الضارة التي لا شك في حرمتها؛ فالتدخين محرم لأنه من الخبائث وقد قال الله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾، وهو محرم لأنه ضار بالصحة وسبب للوفاة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً* وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾، فديننا الحنيف يحرم الخبائث، ويحرم كل ما يضر بصحة الإنسان ويؤدي بنفسه إلى التلف والهلاك، وكذلك يحرم تبذير المال.
أخي المدخن .. لا تكابر .. ساعد نفسك على ترك التدخين فوراً طالما علمت أنه حرام .. لا تقل سأقلع عن التدخين بالتدريج .. اطفئ السيجارة التي بين أصابعك الآن .. ارمِ آخر علبة سجائر معك في أقرب سلة مهملات .. اعلن لجميع من تعرفهم أنك قررت التوقف عن التدخين .. اصمد ولا تتراجع .. تحمل أعراض الانسحاب من التدخين .. وليكن دافعك الأساسي هو رضا الله سبحانه وتعالى وكسب ثواب الانتهاء عن معصيته .. وتمتع بعد ذلك بحياة أفضل من جميع الوجوه ..
لكن إذا كنت عزيزي المدخن ما زلت مُصِرَّاً على أن تضر نفسك في دينك وصحتك، هدانا الله وإياك وعافانا وعافاك، فعلى الأقل لا تضر غيرك في صحتهم بما يُسمى بالتدخين السلبي حيث يُضطر الآخرون إلى استنشاق ما تنفثه من دخان وسموم فيصيبهم الضرر من ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار)، فالشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.


الجمعة، 4 مارس 2016

كفى به واعظاً

4 مارس، 2016م
خاطرة الجمعة /٢١

(كفى به واعظاً)

كتب صديقي على الفيس بوك مطلع الأسبوع الحالي يوم أن تُوفيت والدته: "عام الحزن والفراق .. وداعاً مثلث الرحمة والأمان: الأب، ثم الأخ الأكبر، ثم الأم". علقت على ما كتب بقولي: (رحمهم الله جميعاً، وجعل مثواهم الجنة، وصبَّركم على فراقهم، وجعل رحيلهم تنبيهاً لنا جميعاً أن الموت علينا حق وعلينا الاستعداد له بكل ما يمكن أن نقوم به من أعمال صالحة). قبل ذلك تكررت الوفيات لأقارب وأصدقاء، وكان مما لاحظته أن الكثير من الناس يتجنبون الحديث عن الموت، لا أدري لماذا، رغم أن الموت حق علينا جميعاً؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾، وخاطب خير البشر نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾. لماذا إذن يهرب الناس من الحديث عن الموت؟ ولماذا لا يحبون أن يستمعوا إلى ما يذكرهم به؟ هل هو الخوف من قدومه قبل موعده إذا ذكرناه؟! مستحيل؛ فما ﴿كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ و﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، هل هو الفرار من الموت؟! مستحيل أيضاً؛ فكلنا يعلم ﴿إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾، أم هو الخوف من التقصير وعدم الاستعداد لهذا المصير المحتوم؟ أعتقد أن هذا هو السبب الحقيقي وراء نفور الكثيرين من ذِكر الموت، رغم أن لذكر الموت فوائد جلية؛ قال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة)، وفي رواية (ترق القلوب وتدمع العين)، وفي أخرى (فإن لكم فيها عبرة).
حتى نفهم حقيقة الموت علينا أن نفهم حقيقة الحياة. بدايةً لابد من التسليم بأن حياتنا الدنيا ما هي إلا ﴿مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، وهي ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ﴾ وهي ﴿تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ والأولاد﴾، وأن الحياة الحقيقية هي التي يقول عنها سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الدَّار الْآخِرَة لَهِيَ الْحَيَوَان﴾، ويقول:﴿إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾، ويقول: ﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾، فالدار الآخرة إذن هي الحياة الحقيقية، هي الدائمة، وهي الباقية، وهي دار القرار، هي المستقر الذي فيه خيرٌ لنا، يُنادَىَ فيها: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت"، يومها يقول الإنسان: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ لأنها هي بالفعل الحياة الحقيقية للإنسان، وما الموت إلا المعبر الوحيد للوصول إليها. فإذا كان الموت هو مصيرنا جميعاً فلماذا خلقنا الله؟ يقول عز من قائل: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، إذن فحكمة الله سبحانه وتعالى من خلق الموت والحياة تكمن في الابتلاء أي الاختبار، والأساس في ذلك العمل، والمنافسة تكون على من يكون أحسن عملاً، ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾. قال عليه الصلاة والسلام: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ..). يقول أحد الصالحين: (نحن لسنا السكان الأصليين لهذا الكوكب "الأرض"، بل نحن ننتمي إلى "الجنّة"، حيث كان أبونا آدم يسكن في البداية، لكننا نزلنا هنا مؤقتاً لكي نؤدّي اختباراً قصيراً ثم نرجع بسرعة؛ فحاول أن تعمل ما بوسعك للحاق بقافلة الصالحين التي ستعود إلى وطننا الجميل الواسع ولا تُضَيِّع وقتك في هذا الكوكب الصغير)، ويقول آخر: (الخاسر والمحروم حقاً من لا يجد موضع قدم في جنةٍ عرضها السماوات والأرض)، ويقول ثالث: (الدنيا مزرعة الآخرة)؛ ما تزرعه فيها تحصده في الآخرة، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾، فليس من الحكمة أن نركن إلى الهوى والأماني، وإنما الحكمة أن نعمل لآخرتنا ونحسن العمل استعداداً ليوم الرحيل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمحافظة على أداء العبادات، وبالإكثار من النوافل لنضاعف أعمالنا الصالحة. فلنحافظ على: قيام الليل ولو بركعتين يومياً، صلاة الضحى، تلاوة القرآن وتدبر معانيه، ذكر الله كثيراً وحمده وشكره، الصدقات للفقراء والمساكين، صلة الرحم، الإحسان إلى الجار، صوم التطوع، قضاء حوائج الآخرين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إماطة الأذى عن الطريق، إفشاء السلام، وغير ذلك من أشكال البر والعمل الصالح .. هذا هو رصيدنا وزادنا، هذا هو ما ينفعنا ويشفع لنا. ومع عقد النية وبقدر الإخلاص في العمل وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى يكون الثواب .. فلنسارع ولا نُسَّوِف ..
أحبتي في الله .. لنتذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (أولُ ما يُسأل عنه العبدُ يومَ القيامةِ صلاتُه، فإن صَلُحت صَلُح سائرُ عملِه، وإن فَسَدت فَسَد سائرُ عملِه)؛ فلنعطي الصلاة الأهمية المطلقة في حياتنا، ولنحرص على أدائها في أوقاتها مع الجماعة بالمسجد .. ربما يكون الأمر صعباً في البداية لمن لم يتعود على ذلك، لكننا سنشعر بالتأكيد بتيسير الله للأمر وجعله سهلاً عندما تتوفر النية الصادقة في الالتزام، ليتحول الأمر بعدها إلى لذة لا يشعر بها إلا من يجاهد نفسه ولا يتبع هواه.
نفعني الله وإياكم بعظةٍ نتعظها من الموت و(كفى به واعظاً).
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.


الجمعة، 26 فبراير 2016

نقطة مهمة


26 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة /٢٠

(نقطة مهمة)

يستوقفني في شريط الذكريات موقف من تلك التي لا تُنسى في حياة الإنسان ..
كان بيت العائلة في منطقة سراي القبة بالقاهرة، وكنا من أوائل الأسر التي أدخلت خط هاتف أرضي بالمنزل .. وكم كان رائعاً أن تربط الأسلاك بيننا وبين أقربائنا وأحبابنا فنسمع أصواتهم وكلماتهم تنساب عبر تلك الأسلاك كأنهم معنا أو كأننا معهم في مكان واحد رغم بُعد المسافات!
كان رقم هاتفنا، باستئذان وبغير استئذان، منتشراً بين الجيران وجيران الجيران وحتى سابع أو ربما عاشر جار، كرقم هاتف طوارئ لا يُستخدم -عادةً- إلا وقت الضرورة .. في أحد أيام الصيف، وكنت في العاشرة من عمري آنذاك، دق هاتف المنزل، رفعت السماعة فإذا بامرأة تبكي، قالت: "بلغوا الحاج سيد ..... أن جمال ابنه مات"، وأنهت المكالمة على الفور. قمت بإبلاغ والدتي، رحمة الله عليها، فسألتني من التي اتصلت؟ قلت لها: لا أدري، قالت: ومن هو الذي مات جمال أم ابنه؟ قلت: لم تعطني المتصلة فرصة للاستفسار .. أوقعتنا المكالمة الهاتفية في حيرة وأصبحنا في موقف لا نُحسد عليه؛ ماذا نفعل؟ موقف صعب .. لا نستطيع تجاهل إبلاغ الرسالة، وليست لدينا معلومة دقيقة نبلغها لجارنا الحاج سيد .. طلبت مني والدتي أن أذهب إلى منزل أسرة الحاج سيد وأخبرهم بنص الرسالة الهاتفية كما تلقيتها بالضبط .. لا أكثر ولا أقل .. كم كنت أحب هذه المشاوير وأذهب إليها مسرعاً؛ فقد كنت أسعد بامتنان الناس عندما أنقل إليهم رسائل مهمة أو عاجلة وإذا كانت الرسالة سارة ربما أعطوني بعض الحلوى! .. إلا هذه المرة .. تثاقلت قدماي ووددت لو لم أتلق تلك المكالمة أو أُكلف بنقل محتواها .. ذهبت متخوفاً قلقاً لا أدري ما ينتظرني .. ترددت قليلاً قبل أن أضغط بإصبعي المرتعش على جرس الشقة، فتحت لي امرأة كبيرة في السن، لعلها زوجة الحاج سيد، شراعة الباب، فلما عرفتني فتحت الباب مرحبةً بي، قلت لها: "تلقينا منذ قليل مكالمة هاتفية من الإسكندرية، لم تعرفنا المتحدثة بنفسها، وطلبت منا إبلاغ الحاج سيد أن جمال ابنه مات". شهقت وسألتني بانفعال: "من الذي مات؟ جمال أم ابنه؟"، قلت: "لا أعرف، هكذا تلقيت الرسالة" .. لم أكد أدير ظهري لها في طريق عودتي إلى البيت، إلا وأصوات الصراخ والعويل من شدتها أحسست أنها قد ملأت الكون كله خلفي .. كلما علت تلك الأصوات كلما أسرعت العدْو كأنما أسابقها أو أسابق ضربات قلبي المتلاحقة كأنفاسي عائداً للبيت أحتمي به خوفاً وهلعاً ..
لا أتذكر الآن من الذي مات: جمال أم ابن جمال، رحمة الله على الذي مات منهما .. لكني لا أنسى هذا الموقف أبداً ما حييت ..
كلما تذكرت هذا الموقف كلما زاد إعجابي بعبقرية علامات الترقيم وأهميتها في الكلام المكتوب، وتساءلت بيني وبين نفسي ألا توجد علامات ترقيم للكلام المنطوق؟ فازداد قناعة بأنه يلزم أن نتعلم استخدام "نقطة الكلام" [الوقفات والسكتات] في أحاديثنا الشفوية، تماماً كما نستخدم "نقطة الكتابة" للفصل بين جملتين اكتمل معنى الأولى وانتهى، ثم بدأت جملة جديدة بمعنى جديد؛ ضماناً لعدم تداخل المعاني أو سوء الفهم. فلو كانت المتصلة قالت: جمال، ثم سكتت، ثم قالت: ابنه مات؛ لعلمنا أن الذي مات هو ابن جمال. ولو أنها قالت: جمال ابنه، ثم سكتت، ثم قالت: مات؛ لعلمنا أن الذي مات هو جمال.
أحبتي في الله .. "نقطة الكلام" بالوقفات والسكتات في الموضع الصحيح (نقطة مهمة) كأهمية "نقطة الكتابة" تلك التي فصلت بين الموت والحياة كما في الأسطورة حين كتب قاضٍ حكماً بإعدام أحد المتهمين نصه: [الإفراج عنه مستحيل يُنقل إلى السجن ويُعدم]، لم يخطر ببال القاضي أن المتهم عندما أضاف النقطة بعد كلمة "عنه" تغير الحكم وصار [الإفراج عنه. مستحيل يُنقل إلى السجن ويُعدم] فكأن حكم القاضي هو الإفراج عن المتهم، وتأتي الجملة التالية مؤكدةً قرار الإفراج!. هكذا الأمر، لو أجدنا استخدام "نقطة الكلام" أثناء الحديث الشفوي كما نجيد استخدام "نقطة الكتابة" في النص المكتوب، لأصبح للكلام معنىً أكثر وضوحاً.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.


الجمعة، 19 فبراير 2016

فَتَبَيَّنُوا

19 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٩

(فَتَبَيَّنُوا)

سألته: "هل تحب أن يُنسب لك ما لم تقله؟"، رد: "بالتأكيد، لا، هذا كذبٌ عليّ"، سألته: "هل يجوز أن تَنسب لغيرك كلاماً لم ينطق به؟"، رد: "طبعاً لا، فهذا كذبٌ مني على غيري"، وقبل أن أسأله سؤالاً ثالثاً بادرني هو بالسؤال: "ما الأمر يا صديقي؟ هل نسب إليك شخصٌ ما كلاماً ليس لك؟"، قلت: "ليت الأمر كان يتعلق بي، إذن لكان هيناً"، قال مندهشاً: "ما دام الأمر لا يتعلق بك أنت شخصياً فَلِمَ كل هذا الاهتمام؟"، قلت له: "الأمر يتعلق بمن هو أعز علي من نفسي، وهذا ما يؤلمني"، حاول أن يخفف عني فقال: "هون عليك، لم يسبق أن رأيت الغضب بادياً على وجهك كما أراه الآن"، تفهم غضبي عندما قلت له: "ما أغضبني يا عزيزي هو هذا القدر غير المسبوق من الجرأة على حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، واستطردت موضحاً: "تصلني، عن طريق الواتس آب والفيس بوك وغيرها من برامج وتطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، أحاديث تُنسب للحبيب المصطفى، وعندما أبحث عن مدى صحتها يتبين لي أن بعضها مكذوب أو موضوع، وبعضها علامات الكذب واضحة عليه دون بحث؛ كأن تصلك رسالة مع بداية كل شهر هجري تقول لك (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يبارك الناس في هذا الشهر الفضيل يحرم عليه النار)!!! وممن تصلك؟ من أشخاص ذوي مناصب رفيعة وعلى قدر عالٍ من التعليم والثقافة!!! بل يتمادون فيطلبون منك تعميم هذ الكذب الذي أرسلوه ويعدونك بالثواب إن فعلت وإن لم تفعل فشيطانك هو الذي منعك!!!، ألست معي في أن هذا أمر يوجع القلب؟"، رد بسرعة: "بلى والله"، لكنه أردف معقباً: "أغلب الظن أن من يرسلون هذه الأحاديث المكذوبة لا يعلمون أنها موضوعة"، قاطعته قبل أن يُكمل: "لا شك عندي في ذلك؛ أعلم أنهم إنما عمموا نص رسالة وصلتهم فقاموا بنسخها ثم لصقها، لكن عندما بينت لهم أن الحديث مكذوب بادر بعضهم إلى تعميم التصحيح ونشره، وهذا موقف يُحسب لهم؛ فالمؤمن الواعي وقَّافٌ عند الحق مُحبٌ للنصح. لكن البعض ينطبق عليهم قول المولى عز وجل: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾؛ أذكر شخصاً نشر دعاءً لتفريج الهم وكشف الغم وقال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قرأ هذا الدعاء وأخبر الناس به فرج الله همه)، وعندما أوضحت له أن هذا الحديث موضوع جادلني قائلاً إنه مجرد دعاء لا يتعارض مع صحيح الدين في شيء، قلت له يا أخي أنا لا أعترض على الدعاء أنا أعترض على نسبة الكلام الذي يلي الدعاء للنبي عليه الصلاة والسلام وهو لم يقله. وبين من يبادرون إلى التصحيح ومن يجادلون فئة أخرى لا يُحركون ساكناً ولا يُبدون تفاعلاً بعد توضيح الأمر لهم"، قال صديقي: "دعنا نحسن الظن بهذه الفئة الأخيرة، ربما انتبهوا لخطأ لم يقصدوه وعندما بينت الأمر لهم شكروا لك ذلك بينهم وبين أنفسهم ودعوا لك بظاهر الغيب"، قلت له: "لعل وعسى. لكن ما يؤرقني حقاً هو أنني غير متأكد إن كانوا قد قاموا بتصحيح الأمر مع غيرهم ممن عمموا عليهم أم لا؟، فالكلمة أمانة، ونحن محاسبون على كل كلمة نقولها ومسؤولون عنها يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، وقال عز وجل: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾، أفلا نستشعر عظم أمانة الكلمة؟ ثم إن الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام ليس كالكذب على غيره من البشر؛ ألا يعلمون أن نار جهنم هي عقوبة الكذب المتعمد على النبي عليه الصلاة والسلام تصديقاً لقوله: [من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار]؟"، قال صديقي: "الكثيرون منهم لا يتعمدون الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم"، قلت: "نعم، لكن الإهمال في تحري الدقة والتثبت من صحة ما ينقلون قد يصل بهم إلى درجة التعمد. ثم ألم يقرأ أحدهم حديثه عليه الصلاة والسلام: [كفى بالمرء إثماً أن يُحَدث بكل ما يسمع]؟ . إن أحدنا لا يقبل أن يُنسب إليه ما لم يقله ويغضب لذلك، أفلا نغضب للحبيب المصطفى؟ إن أياً منا لا يجرؤ أن يَنسب قولاً لوزير أو مدير قبل أن يتثبت، فهل نتجرأ على خير البشر؟".
أقول لهؤلاء الغافلين أو المقصرين: "ألم تنتبهوا إلى الآية الكريمة: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾؟، ألا تعلمون أنكم بنشركم أحاديث مكذوبة وموضوعة يكون المقصود بالقوم الذين تصيبونهم بجهالة نتيجة عدم تبينكم هو النبي المختار سيد الخلق أجمعين؟ إنها والله لمصيبة".
أحبتي في الله .. دعونا نبدأ من اليوم حملة "فَتَبَيَّنُوا" .. ولنتعاهد ألا ننشر أو نعمم قولاً أو فعلاً أو إقراراً وننسبه للرسول صلى الله عليه وسلم دون أن نتأكد أو نتثبت أو "نتبين"، علينا جميعاً أن نلتزم مسئولية "فَتَبَيَّنُوا" الواردة في الآية الكريمة؛ فهي أمرٌ إلهي واضحٌ لا لبس فيه.
قال عليه الصلاة والسلام: [إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما يُلقي لها بالاً يرفعه اللَّه بها درجات، وإنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ سبعين خريفاً]، اللهم أعذنا من نار جهنم، واجعلنا اللهم في رضوانك، وارفع درجاتنا، واجعلنا اللهم من أهل "فَتَبَيَّنُوا".
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 12 فبراير 2016

الصلاة خير من النوم

12 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٨

(الصلاة خير من النوم)

جارٌ لنا في الحي يصلي معنا في مسجدنا أراه في أغلب الصلوات مبادراً إلى الحضور للمسجد مواظباً على ألا تفوته صلاة الجماعة وفي الصف الأول .. إلا في صلاة الفجر! فيومٌ يأتي وأيامٌ لا نراه .. قلت في نفسي: "ربما لديه عذر" .. إلى أن كان يوماً وجدته يسألني: "كيف تستيقظ لصلاة الفجر؟ هل تضبط المنبه أم تطلب من أحدٍ أن يوقظك؟"، قلت له وقد أحسست بما يعاني منه: "البداية بالنسبة لي كانت صعبة، لكني قطعت الشوط متدرجاً في خطوات: الخطوة الأولى كانت اتخاذ القرار بيني وبين نفسي ألا أتخلف عن صلاة الفجر في المسجد، والخطوة الثانية كانت طلب العون من الله سبحانه وتعالى فصليت ركعتين بنية التوفيق، أما الخطوة الثالثة، وقد كنت متعوداً على السهر إلى وقت متأخر من الليل، فهي ضبط منبه لإيقاظي وقت أذان الفجر، وهنا بدأت المصاعب: فلا أكاد أنام إلا والمنبه قد بدأ في الصياح، فأمد يدي إليه لأوقف صوته وفي نيتي الاستمتاع بدقائق قليلة من النوم أقوم بعدها للصلاة، لكنها لم تكن أبداً قليلة كما ظننت، فكنت إما أصل إلى المسجد متأخراً تفوتني ركعة أو تفوتني الصلاة كلها، أو أستيقظ بعد انتهاء موعد الصلاة"، قال معقباً: "هذا ما يحدث معي بالضبط، فماذا فعلت؟"، قلت له: "هنا كانت الخطوة الرابعة، ألزمت نفسي بالنوم مبكراً، ولم يكن هذا سهلاً لمن تعود السهر، حتى أنني في الأيام الأولى كنت أدخل إلى الفراش مبكراً فلا يأتيني النوم إلا متأخراً، فانتقلت إلى الخطوة الخامسة وكانت إبعاد المنبه عن السرير حتى لا تطوله يدي، فإذا أردت إسكاته لابد من أن أنزل من السرير، وكنت مع ذلك عندما أسمع صوته أتركه مستمراً في تنبيهه، أو أقوم لإسكاته وأعود للنوم مرة أخرى!"، سألني متعجباً: "ماذا فعلت إذن؟"، أجبته: "فكرت في الأمر، وقلت أبحث في (جوجل) عن خطوة سادسة، ربما أجدها في تجارب الآخرين، بالفعل وجدت فكرة أعجبتني بدأت في تنفيذها فجعلتني في غنىً عن منبه يوقظني!"، سألني متعجباً: "وكيف ذلك؟!"، قلت له: "اشرب كمية من الماء قبل النوم تجعلك تستيقظ مضطراً للذهاب إلى الحمام، حدد موعد نومك وكمية الماء الذي تتناوله حتى تضبط هذا المنبه الطبيعي!"، سألني متشوقاً لمعرفة نتيجة هذه التجربة: "وهل نجحت في ذلك؟"، قلت: "استغرق الأمر عدة ليالٍ للتوفيق بين ثلاثة عناصر: موعد النوم، ومدته، وكمية الماء"، قال: "تتحدث كما لو كنت تجري تجربة في مختبر الكيمياء، ذكرتني بأيام المدرسة الثانوية، المهم ماذا بعد ذلك؟"، أكملت دون أن أعقب على ما قال: "هنا أدرك الشيطان أني مُصِّرٌ وأني اقتربت من النجاح، فبدأ لعبته، فكان يوسوس لي خاصة في ليالي الشتاء الباردة: البرد قارص، وفراشك وثير ودافئ، وماء الوضوء في الصنبور كأنه الثلج، ماذا لو صليت في البيت؟ لو صليت في المسجد لتأخرت عن موعد بداية عملك ومازال أمامك مواصلات تستنفد الكثير من وقتك، قم فخذ قسطاً من الراحة يعينك على يوم عمل طويل وشاق، إن الله غفور رحيم"، قلت لشيطاني: "خسئت، والله لأغيظنك ولأذهبن إلى المسجد ليس بعد أذان الفجر كما كنت أعتزم بل قبل الأذان. وكانت هذه هي الخطوة السابعة والأخيرة، أخذت عهداً على نفسي بذلك، وكنت قاسياً مع نفسي فألزمتها بتنفيذ هذه الخطوة فوراً دون إبطاء وبغير تهاون أبداً، إنه جهاد النفس أملاً في هداية الله سبحانه وتعالى كما ورد في الآية: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، من يومها وأنا أستيقظ نشيطاً طيب النفس مع أول تنبيه أسمعه حامداً الله أن أحياني بعد ما أماتني، وعافاني في جسدي ورَدَّ علي روحي وأَذِن لي بذكره، سعيداً بأن مَدَّ الله في عمري يوماً جديداً عسى أعمل فيه صالحاً يرضاه، آملاً في رحمة ربي وفضله وقد أقسم في كتابه الكريم قائلاً: ﴿وَالْفَجْرِ﴾ ولا يقسم إلا بعظيم، وهو القائل: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مٓشْهُودًا﴾ تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، واثقاً في وعد النبي عليه الصلاة والسلام: [من صلى الصبح فهو في ذمة الله]، وفيما بشر به: [من صلى البُردين دخل الجنة]، وفي قوله: [ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها]، وقوله: [لو يعلم الناس ما في صلاة العشاء وصلاة الفجر لأتوهما ولو حبواً]". كان يتابع ما أقول وتعبيرات وجهه تشي باهتمامه، قال منهياً حديثنا: "شكراً لك"، قلت: "بل قل "جزاك الله خيراً"؛ كما أرشدنا إلى ذلك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: [مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ]". قال: "تُدهشني دقتك!"، قلت: "ضبط الإسلام لنا كلامنا، فمتى نضبط به أفعالنا وحياتنا كلها فنسعد بعد شقاء؟"، أجابني بسرعة: "الصبر يا عزيزي، أولم تقرأ قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا. وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾؟"، قلت: "بلى، ونِعمَ بالله".
أحبائي في الله .. لا أعرض هذا الموقف عُجباً أو افتخاراً أو مباهاة، بل -وأنا المقصر- أردت أن أوضح لكم كيف أن ﴿كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ مع إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، والإصرار والعزم، وأخذ النفْس بالشدة حتى ﴿لا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فالشيطان يقول: ﴿لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لكن يأتي الاستدراك ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾، فهو ليس له سلطان على عباد الله مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾. اللهم اجعلنا من عبادك المخلِصين المخلَصين، المواظبين على صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد؛ فهي (خير من النوم).
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.



الجمعة، 5 فبراير 2016

١٠-٢=٨


5 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة/ ١٧

(١٠-٢=٨)

ما نزال مع صاحبنا المغترب الذي تحدثنا عنه من قبل، نعرض لسبب غربته، ونتعرف على دوافعه وأسبابه التي من أجلها غادر وطنه وترك أهله وأحبابه.
كان من المتفوقين في دراسته، حصل على البكالوريوس بتقدير جيد جداً وكان ترتيبه التاسع على دفعته. عَلِم عقب إعلان نتائج البكالوريوس أن كليته طلبت تعيين الأوائل العشر معيدين، وأن الطلب قد أُرسل بالفعل إلى وزارة التعليم العالي وأن الموافقة عليه مسألة روتينية. عاش صاحبنا أسابيع لا تسعه الفرحة وهو يرى حُلم حياته وقد لاح في الأفق وأصبح قاب قوسين أو أدنى .. صارت مسألة وقت ليس إلا .. أيام أو أسابيع قليلة ويصبح معيداً في كليته واضعاً قدمه على أول سلمة من سلالم العمل كأستاذ جامعي في مجال تخصصه .. وفي انتظار صدور قرارات التعيين التي لابد وأن تصدر قبل بداية العام الجامعي الجديد كان يتابع أخبار زملائه؛ يعرف منهم المؤسسات التي عملوا بها، وكانوا يهنئونه على كونه أصبح معيداً بالكلية رغم عدم صدور قرار التعيين بعد. مرت الأيام .. وإذا بموقف جديد يفرض نفسه على أرض الواقع فيغير حساباته ويقلب حياته رأساً على عقب .. كان صاحبنا قد تخرج عام ١٩٧١م وكانت البلاد وقتها في حالة الاستعداد لحرب قادمة .. فرأى القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الدولة أن يلتقي بالمجندين في الجيش ويجري معهم حوارات ويستمع لهم .. فبدأ بالالتقاء بالمعيدين .. وفي حواره معهم طلبوا منه تخفيض فترة تجنيدهم إلى سنة واحدة فقط فعودتهم لأعمالهم كمعيدين هو خدمة للوطن بشكل آخر لا يقل أهمية عن خدمة العَلَم، فاستجاب لطلبهم بشكل فوري وعلني .. ترتب على ذلك عودة اثنين من المعيدين بالكلية التي تخرج فيها إلى عملهم؛ فأصدرت وزارة التعليم العالي في اليوم التالي مباشرة قرارات تعيين المعيدين لعدد ثمانية فقط من دفعة صاحبنا طالما سيعود اثنان من المعيدين المجندين؛ لم لا وعِلْم الحساب يؤكد على أن: ١٠-٢=٨ !
ياللقدر ... ماذا لو تقدمت قرارات التعيين يوماً واحداً؟ أو تأخر لقاء الرئيس ليومٍ واحد؟ يوم واحد فقط! .. وهل النصف في المائة الذي يفصل بين مجموع صاحبنا ومجموع زميله صاحب الترتيب الثامن صار فاصلاً بين الحُلم والواقع؟
ها هو صاحبنا يقف الآن عالقاً في منتصف الطريق .. ليس أمامه مستقبل يستبشر به .. ولا يمكنه العودة إلى الوراء .. وجد نفسه فجأة كالمعلق في الهواء .. أضحى في موقف لا يُحسد عليه .. تبخر فجأة حُلم العمل في سلك التدريس الجامعي .. وما زاد الطين بلة أن جميع المؤسسات المرموقة وجهات العمل المعتبرة قد عينت بالفعل الأعداد التي تحتاجها في تخصصه من زملائه الذين كانوا يهنئونه بالأمس! .. لم يتبق لصاحبنا إلا جهات العمل التي لا يرغب أحدٌ بالعمل فيها أبداً .. ولا يوجد بديل .. كان عليه أن يقبل بفرصة العمل التي ترشحه لها القوى العاملة وإلا سقط حقه في التعيينات الحكومية، وهي على ضعفها وقلة امتيازاتها تبقى أفضل من البقاء دون عمل .. فكان نصيبه العمل خارج القاهرة مدينته العزيزة القريبة إلى قلبه، مما اضطره إلى السكن كمغترب في مدينة بعيدة، ليعود إلى أسرته في نهاية الأسبوع. واكتشف صاحبنا أن مرتبه لا يكفيه؛ وما يتسلمه أول كل شهر كأن له جناحين يطير بهما على الإقامة في فندق رخيص، وعلى الأكل في مطعم متوسط المستوى، وعلى السفر بوسيلة سفر اقتصادية غير مكلفة، واكتشف أنه لو احتاج إلى شراء ملابس جديدة أو علاج أو دواء مثلاً فليس أمامه إلا طلب الإعانة من أسرته على استحياء، رغم أنه قد صار موظفاً وله مرتب شهري! ..
بهذا كان صاحبنا قد جرب الغربة داخل وطنه بغير عائد .. فما يمنعه إذن من الإقدام على غربة أخرى خارج الوطن بعائد يقولون أنه مجزٍ ويستحق أن تُشد إليه الرحال؟
بدأ صاحبنا يتابع الإعلانات التي تُنشر في الصحف وتطلب فيها أية دولة خليجية خريجين من تخصصه للعمل بها، إلى أن اطلع على إعلان خاص بذلك صادر عن سفارة دولة الإمارات بالقاهرة؛ فقدم أوراقه وأجرى المقابلة المطلوبة ونجح فيها وسافر إلى دولة الإمارات ليبدأ رحلة الغربة خارج الوطن.
أحبتي في الله .. كل هذه الأحداث، وأخرى غيرها مماثلة لها أو مختلفة عنها، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى يقدره لعباده كيفما يشاء؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾، ويقول:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، ويقول: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.. ورغم أن الأرزاق مكتوبة ومقدرة فعلينا أن نسعى بكل طريق مشروع من أجل العمل والكسب؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [إن أطيب ما أكلتم من كسبكم].
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/NGCS8o


الجمعة، 29 يناير 2016

لماذا الهجر؟


29 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٦

(لماذا الهجر؟)

صديق لي يذهب إلى النادي الرياضي يومياً ويصلي بالناس إماماً في مسجد النادي صلاتي المغرب والعشاء. يقول صديقي أن أحد المصلين من كبار السن سأله عقب الانتهاء من الصلاة: "هل ما قرأت بعد الفاتحة من القرآن؟!"، تعجب من السؤال لكنه رد باقتضاب: "نعم!"، فعلق صاحب السؤال قائلاً: "أول مرة في حياتي أستمع إلى هذه الآيات!".
ربما انتهى الموقف بالنسبة للسائل ولصديقي، لكنه لم ينته معي؛ تساؤل ظل يلح على ذهني: "هل من المعقول أن يصل مسلم إلى هذا العمر ولم يكن قد قرأ القرآن الكريم كاملاً ولو مرة واحدة في حياته؟"، تبع ذلك تساؤل آخر: "ما هي يا ترى علاقتنا بالقرآن الكريم؟".
فكرت في الأمر ملياً فبدا لي أن علاقة المسلم بالقرآن لا تكون إلا واحدة من ثلاث:
• هجر القرآن، والاكتفاء بما تم تعلمه في الصغر من المدرسة أو الأسرة.
• اهتمام محدود، يظهر في قراءة القرآن خلال شهر رمضان، وفي المناسبات كالامتحانات أو المرض أو عند دفن ميت، مع حفظ بعض قصار السور.
• مواظبة القراءة، بشكل مستمر، سواءً في البيت أو المسجد أو حتى في وسائل المواصلات العامة، والسعي إلى حفظ ما تيسر منه، مع تفاوت في درجة الاجتهاد سواءً في التلاوة أو الحفظ.
ويتبين لي من ملاحظاتي ومشاهداتي الشخصية أن الكثير من المسلمين موزعين على النوعين الأول والثاني، علاقتهم بالقرآن إما هجر كامل أو اهتمام محدود.
بالطبع أغبط الفئة الثالثة المتميزة وأدعو الله لي ولكم أن نكون منهم.
أما هاجرو القرآن ومحدودو الاهتمام به فأتعجب لحالهم؛ ألم يقرأ هؤلاء أو يستمعوا إلى الآية التي تصف إحساس الرسول عليه الصلاة والسلام بالأسى حين يقول: ﴿يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾، فهل نترك أنفسنا لنكون ممن تشير إليهم هذه الآية؟
قراءة القرآن عبادة سهلة وميسرة وغير مكلفة يمكن أداؤها في أماكن كثيرة وأوقات متنوعة، ويحظى المحافظ عليها بثواب كبير، ومع ذلك يغفل الكثيرون عنها أو يتغافلون .. رغم أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بها؛ قال تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ  عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ  وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ  وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾، هل لاحظتم أحبتي تكرار الأمر الإلهي لنا "اقرءوا ما تيسر منه" مرتين في آية واحدة، وهل لاحظتم أن الأمر الأول جاء عاماً وأن الأمر الثاني بيَّن أنه مع علم الله سبحانه وتعالى بأنه سيكون هناك مرضى وسيكون هناك من يسعون طلباً للرزق وسيكون هناك من يقاتل في سبيله فإنه أمره لنا ما يزال قائماً "اقرءوا ما تيسر منه"، وهل من عذر -إن كان ثمة عذر- يُفترض معه ترك قراءة القرآن أكثر من الانشغال بالحرب والجهاد في سبيل الله؟
إذن (لماذا الهجر؟)
• هل لأننا لا ندرك ثواب قراءة القرآن؟
- كيف؟ ونحن نعلم أن القرآن الكريم يكون شفيعاً للإنسان يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: [اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه].
• أم لأننا نخشى أن نخطئ في قراءة القرآن ولم نتعلم أصول التلاوة؟
- كيف؟ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران].
• أم لأنه من الصعب حمل المصحف؟
- كيف؟ وأجهزة الحاسوب والهواتف الزكية توفر لنا فرصة تحميل المصحف للقراءة والاستماع والاطلاع على التفاسير.
• أم لأننا لا نجد الوقت لقراءة القرآن؟
- كيف؟ ونحن نجلس بالساعات يومياً على الحاسوب، نستخدم الإنترنت نتابع أخبار الأصدقاء على الفيس بوك، ونغرد في تويتر، ونتبادل الحوار والنكات والصور ومقاطع الفيديو على الواتس آب، ونشاهد مباريات كرة القدم، وغير ذلك من توافه الأمور، ألا نستحي؟ ألا نخجل من أنفسنا؟!
سألني أخ فاضل: "وهل من السهل علي أن أبدأ الآن بعد كل هذا الهجر؟"
"نعم؛ اعقد العزم وأخلص النية وتوكل على الله راجياً الثواب؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يُقَالُ لِصَاحب الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ وَارْقَ فِي الدَّرَجَاتِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَأَهَا]".
وسأل مرة أخرى: "كيف أبدأ؟ وكيف أستمر؟"
والإجابة: "ابدأ بتخصيص زمن محدد للقراءة في المصحف خمس دقائق أو عشر دقائق، وحدد الوقت المناسب قبل الصلاة أو بعد الصلاة، حدد لنفسك بداية بسيطة كقراءة صفحة واحدة أو صفحتين كل يوم، ثم انتقل لأربع صفحات يومياً، ثم انتقل لقراءة صفحتين عقب كل صلاة، ثم اقرأ صفحتين قبل كل صلاة وصفحتين بعدها، وهكذا قدر ما تستطيع، ثم اجتهد في حفظ ما تيسر من القرآن، وصلِ بما حفظت، تابع القراءة حتى تختم المصحف، استعن بأحد التفاسير المبسطة لفهم ما غمض عليك من الكلمات أو المعاني، استمتع بالجمع بين الاستماع للقرآن وتلاوته في وقت واحد وتعرف على أصول التلاوة الصحيحة. المهم ألا تُسَوِف أو تؤجل، واحذر أن يغلبك الكسل، ابدأ من اليوم، استشعر عظم الثواب، واستحضر همة الشباب، وتذكر أن الله معك".
أحبتي في الله .. أن يأتي أحدنا متأخراً خير له من ألا يأتي أبداً .. فلنبدأ الآن .. يبدأ كلٌ منا في مراجعة علاقته بالقرآن، الهاجر والمقصر يعوض ما فات وعفى الله عما سلف، والمهتم والمجتهد يزيد من اهتمامه واجتهاده ليرتقي بتلاوته وحفظه، حتى نكون جميعاً من أهل السعادة في الدارين: الدنيا والآخرة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.