الجمعة، 4 مارس 2016

كفى به واعظاً

4 مارس، 2016م
خاطرة الجمعة /٢١

(كفى به واعظاً)

كتب صديقي على الفيس بوك مطلع الأسبوع الحالي يوم أن تُوفيت والدته: "عام الحزن والفراق .. وداعاً مثلث الرحمة والأمان: الأب، ثم الأخ الأكبر، ثم الأم". علقت على ما كتب بقولي: (رحمهم الله جميعاً، وجعل مثواهم الجنة، وصبَّركم على فراقهم، وجعل رحيلهم تنبيهاً لنا جميعاً أن الموت علينا حق وعلينا الاستعداد له بكل ما يمكن أن نقوم به من أعمال صالحة). قبل ذلك تكررت الوفيات لأقارب وأصدقاء، وكان مما لاحظته أن الكثير من الناس يتجنبون الحديث عن الموت، لا أدري لماذا، رغم أن الموت حق علينا جميعاً؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾، وخاطب خير البشر نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾. لماذا إذن يهرب الناس من الحديث عن الموت؟ ولماذا لا يحبون أن يستمعوا إلى ما يذكرهم به؟ هل هو الخوف من قدومه قبل موعده إذا ذكرناه؟! مستحيل؛ فما ﴿كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ و﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، هل هو الفرار من الموت؟! مستحيل أيضاً؛ فكلنا يعلم ﴿إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾، أم هو الخوف من التقصير وعدم الاستعداد لهذا المصير المحتوم؟ أعتقد أن هذا هو السبب الحقيقي وراء نفور الكثيرين من ذِكر الموت، رغم أن لذكر الموت فوائد جلية؛ قال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة)، وفي رواية (ترق القلوب وتدمع العين)، وفي أخرى (فإن لكم فيها عبرة).
حتى نفهم حقيقة الموت علينا أن نفهم حقيقة الحياة. بدايةً لابد من التسليم بأن حياتنا الدنيا ما هي إلا ﴿مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، وهي ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ﴾ وهي ﴿تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ والأولاد﴾، وأن الحياة الحقيقية هي التي يقول عنها سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الدَّار الْآخِرَة لَهِيَ الْحَيَوَان﴾، ويقول:﴿إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾، ويقول: ﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾، فالدار الآخرة إذن هي الحياة الحقيقية، هي الدائمة، وهي الباقية، وهي دار القرار، هي المستقر الذي فيه خيرٌ لنا، يُنادَىَ فيها: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت"، يومها يقول الإنسان: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ لأنها هي بالفعل الحياة الحقيقية للإنسان، وما الموت إلا المعبر الوحيد للوصول إليها. فإذا كان الموت هو مصيرنا جميعاً فلماذا خلقنا الله؟ يقول عز من قائل: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، إذن فحكمة الله سبحانه وتعالى من خلق الموت والحياة تكمن في الابتلاء أي الاختبار، والأساس في ذلك العمل، والمنافسة تكون على من يكون أحسن عملاً، ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾. قال عليه الصلاة والسلام: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ..). يقول أحد الصالحين: (نحن لسنا السكان الأصليين لهذا الكوكب "الأرض"، بل نحن ننتمي إلى "الجنّة"، حيث كان أبونا آدم يسكن في البداية، لكننا نزلنا هنا مؤقتاً لكي نؤدّي اختباراً قصيراً ثم نرجع بسرعة؛ فحاول أن تعمل ما بوسعك للحاق بقافلة الصالحين التي ستعود إلى وطننا الجميل الواسع ولا تُضَيِّع وقتك في هذا الكوكب الصغير)، ويقول آخر: (الخاسر والمحروم حقاً من لا يجد موضع قدم في جنةٍ عرضها السماوات والأرض)، ويقول ثالث: (الدنيا مزرعة الآخرة)؛ ما تزرعه فيها تحصده في الآخرة، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾، فليس من الحكمة أن نركن إلى الهوى والأماني، وإنما الحكمة أن نعمل لآخرتنا ونحسن العمل استعداداً ليوم الرحيل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمحافظة على أداء العبادات، وبالإكثار من النوافل لنضاعف أعمالنا الصالحة. فلنحافظ على: قيام الليل ولو بركعتين يومياً، صلاة الضحى، تلاوة القرآن وتدبر معانيه، ذكر الله كثيراً وحمده وشكره، الصدقات للفقراء والمساكين، صلة الرحم، الإحسان إلى الجار، صوم التطوع، قضاء حوائج الآخرين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إماطة الأذى عن الطريق، إفشاء السلام، وغير ذلك من أشكال البر والعمل الصالح .. هذا هو رصيدنا وزادنا، هذا هو ما ينفعنا ويشفع لنا. ومع عقد النية وبقدر الإخلاص في العمل وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى يكون الثواب .. فلنسارع ولا نُسَّوِف ..
أحبتي في الله .. لنتذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (أولُ ما يُسأل عنه العبدُ يومَ القيامةِ صلاتُه، فإن صَلُحت صَلُح سائرُ عملِه، وإن فَسَدت فَسَد سائرُ عملِه)؛ فلنعطي الصلاة الأهمية المطلقة في حياتنا، ولنحرص على أدائها في أوقاتها مع الجماعة بالمسجد .. ربما يكون الأمر صعباً في البداية لمن لم يتعود على ذلك، لكننا سنشعر بالتأكيد بتيسير الله للأمر وجعله سهلاً عندما تتوفر النية الصادقة في الالتزام، ليتحول الأمر بعدها إلى لذة لا يشعر بها إلا من يجاهد نفسه ولا يتبع هواه.
نفعني الله وإياكم بعظةٍ نتعظها من الموت و(كفى به واعظاً).
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.


الجمعة، 26 فبراير 2016

نقطة مهمة


26 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة /٢٠

(نقطة مهمة)

يستوقفني في شريط الذكريات موقف من تلك التي لا تُنسى في حياة الإنسان ..
كان بيت العائلة في منطقة سراي القبة بالقاهرة، وكنا من أوائل الأسر التي أدخلت خط هاتف أرضي بالمنزل .. وكم كان رائعاً أن تربط الأسلاك بيننا وبين أقربائنا وأحبابنا فنسمع أصواتهم وكلماتهم تنساب عبر تلك الأسلاك كأنهم معنا أو كأننا معهم في مكان واحد رغم بُعد المسافات!
كان رقم هاتفنا، باستئذان وبغير استئذان، منتشراً بين الجيران وجيران الجيران وحتى سابع أو ربما عاشر جار، كرقم هاتف طوارئ لا يُستخدم -عادةً- إلا وقت الضرورة .. في أحد أيام الصيف، وكنت في العاشرة من عمري آنذاك، دق هاتف المنزل، رفعت السماعة فإذا بامرأة تبكي، قالت: "بلغوا الحاج سيد ..... أن جمال ابنه مات"، وأنهت المكالمة على الفور. قمت بإبلاغ والدتي، رحمة الله عليها، فسألتني من التي اتصلت؟ قلت لها: لا أدري، قالت: ومن هو الذي مات جمال أم ابنه؟ قلت: لم تعطني المتصلة فرصة للاستفسار .. أوقعتنا المكالمة الهاتفية في حيرة وأصبحنا في موقف لا نُحسد عليه؛ ماذا نفعل؟ موقف صعب .. لا نستطيع تجاهل إبلاغ الرسالة، وليست لدينا معلومة دقيقة نبلغها لجارنا الحاج سيد .. طلبت مني والدتي أن أذهب إلى منزل أسرة الحاج سيد وأخبرهم بنص الرسالة الهاتفية كما تلقيتها بالضبط .. لا أكثر ولا أقل .. كم كنت أحب هذه المشاوير وأذهب إليها مسرعاً؛ فقد كنت أسعد بامتنان الناس عندما أنقل إليهم رسائل مهمة أو عاجلة وإذا كانت الرسالة سارة ربما أعطوني بعض الحلوى! .. إلا هذه المرة .. تثاقلت قدماي ووددت لو لم أتلق تلك المكالمة أو أُكلف بنقل محتواها .. ذهبت متخوفاً قلقاً لا أدري ما ينتظرني .. ترددت قليلاً قبل أن أضغط بإصبعي المرتعش على جرس الشقة، فتحت لي امرأة كبيرة في السن، لعلها زوجة الحاج سيد، شراعة الباب، فلما عرفتني فتحت الباب مرحبةً بي، قلت لها: "تلقينا منذ قليل مكالمة هاتفية من الإسكندرية، لم تعرفنا المتحدثة بنفسها، وطلبت منا إبلاغ الحاج سيد أن جمال ابنه مات". شهقت وسألتني بانفعال: "من الذي مات؟ جمال أم ابنه؟"، قلت: "لا أعرف، هكذا تلقيت الرسالة" .. لم أكد أدير ظهري لها في طريق عودتي إلى البيت، إلا وأصوات الصراخ والعويل من شدتها أحسست أنها قد ملأت الكون كله خلفي .. كلما علت تلك الأصوات كلما أسرعت العدْو كأنما أسابقها أو أسابق ضربات قلبي المتلاحقة كأنفاسي عائداً للبيت أحتمي به خوفاً وهلعاً ..
لا أتذكر الآن من الذي مات: جمال أم ابن جمال، رحمة الله على الذي مات منهما .. لكني لا أنسى هذا الموقف أبداً ما حييت ..
كلما تذكرت هذا الموقف كلما زاد إعجابي بعبقرية علامات الترقيم وأهميتها في الكلام المكتوب، وتساءلت بيني وبين نفسي ألا توجد علامات ترقيم للكلام المنطوق؟ فازداد قناعة بأنه يلزم أن نتعلم استخدام "نقطة الكلام" [الوقفات والسكتات] في أحاديثنا الشفوية، تماماً كما نستخدم "نقطة الكتابة" للفصل بين جملتين اكتمل معنى الأولى وانتهى، ثم بدأت جملة جديدة بمعنى جديد؛ ضماناً لعدم تداخل المعاني أو سوء الفهم. فلو كانت المتصلة قالت: جمال، ثم سكتت، ثم قالت: ابنه مات؛ لعلمنا أن الذي مات هو ابن جمال. ولو أنها قالت: جمال ابنه، ثم سكتت، ثم قالت: مات؛ لعلمنا أن الذي مات هو جمال.
أحبتي في الله .. "نقطة الكلام" بالوقفات والسكتات في الموضع الصحيح (نقطة مهمة) كأهمية "نقطة الكتابة" تلك التي فصلت بين الموت والحياة كما في الأسطورة حين كتب قاضٍ حكماً بإعدام أحد المتهمين نصه: [الإفراج عنه مستحيل يُنقل إلى السجن ويُعدم]، لم يخطر ببال القاضي أن المتهم عندما أضاف النقطة بعد كلمة "عنه" تغير الحكم وصار [الإفراج عنه. مستحيل يُنقل إلى السجن ويُعدم] فكأن حكم القاضي هو الإفراج عن المتهم، وتأتي الجملة التالية مؤكدةً قرار الإفراج!. هكذا الأمر، لو أجدنا استخدام "نقطة الكلام" أثناء الحديث الشفوي كما نجيد استخدام "نقطة الكتابة" في النص المكتوب، لأصبح للكلام معنىً أكثر وضوحاً.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.


الجمعة، 19 فبراير 2016

فَتَبَيَّنُوا

19 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٩

(فَتَبَيَّنُوا)

سألته: "هل تحب أن يُنسب لك ما لم تقله؟"، رد: "بالتأكيد، لا، هذا كذبٌ عليّ"، سألته: "هل يجوز أن تَنسب لغيرك كلاماً لم ينطق به؟"، رد: "طبعاً لا، فهذا كذبٌ مني على غيري"، وقبل أن أسأله سؤالاً ثالثاً بادرني هو بالسؤال: "ما الأمر يا صديقي؟ هل نسب إليك شخصٌ ما كلاماً ليس لك؟"، قلت: "ليت الأمر كان يتعلق بي، إذن لكان هيناً"، قال مندهشاً: "ما دام الأمر لا يتعلق بك أنت شخصياً فَلِمَ كل هذا الاهتمام؟"، قلت له: "الأمر يتعلق بمن هو أعز علي من نفسي، وهذا ما يؤلمني"، حاول أن يخفف عني فقال: "هون عليك، لم يسبق أن رأيت الغضب بادياً على وجهك كما أراه الآن"، تفهم غضبي عندما قلت له: "ما أغضبني يا عزيزي هو هذا القدر غير المسبوق من الجرأة على حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، واستطردت موضحاً: "تصلني، عن طريق الواتس آب والفيس بوك وغيرها من برامج وتطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، أحاديث تُنسب للحبيب المصطفى، وعندما أبحث عن مدى صحتها يتبين لي أن بعضها مكذوب أو موضوع، وبعضها علامات الكذب واضحة عليه دون بحث؛ كأن تصلك رسالة مع بداية كل شهر هجري تقول لك (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يبارك الناس في هذا الشهر الفضيل يحرم عليه النار)!!! وممن تصلك؟ من أشخاص ذوي مناصب رفيعة وعلى قدر عالٍ من التعليم والثقافة!!! بل يتمادون فيطلبون منك تعميم هذ الكذب الذي أرسلوه ويعدونك بالثواب إن فعلت وإن لم تفعل فشيطانك هو الذي منعك!!!، ألست معي في أن هذا أمر يوجع القلب؟"، رد بسرعة: "بلى والله"، لكنه أردف معقباً: "أغلب الظن أن من يرسلون هذه الأحاديث المكذوبة لا يعلمون أنها موضوعة"، قاطعته قبل أن يُكمل: "لا شك عندي في ذلك؛ أعلم أنهم إنما عمموا نص رسالة وصلتهم فقاموا بنسخها ثم لصقها، لكن عندما بينت لهم أن الحديث مكذوب بادر بعضهم إلى تعميم التصحيح ونشره، وهذا موقف يُحسب لهم؛ فالمؤمن الواعي وقَّافٌ عند الحق مُحبٌ للنصح. لكن البعض ينطبق عليهم قول المولى عز وجل: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾؛ أذكر شخصاً نشر دعاءً لتفريج الهم وكشف الغم وقال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قرأ هذا الدعاء وأخبر الناس به فرج الله همه)، وعندما أوضحت له أن هذا الحديث موضوع جادلني قائلاً إنه مجرد دعاء لا يتعارض مع صحيح الدين في شيء، قلت له يا أخي أنا لا أعترض على الدعاء أنا أعترض على نسبة الكلام الذي يلي الدعاء للنبي عليه الصلاة والسلام وهو لم يقله. وبين من يبادرون إلى التصحيح ومن يجادلون فئة أخرى لا يُحركون ساكناً ولا يُبدون تفاعلاً بعد توضيح الأمر لهم"، قال صديقي: "دعنا نحسن الظن بهذه الفئة الأخيرة، ربما انتبهوا لخطأ لم يقصدوه وعندما بينت الأمر لهم شكروا لك ذلك بينهم وبين أنفسهم ودعوا لك بظاهر الغيب"، قلت له: "لعل وعسى. لكن ما يؤرقني حقاً هو أنني غير متأكد إن كانوا قد قاموا بتصحيح الأمر مع غيرهم ممن عمموا عليهم أم لا؟، فالكلمة أمانة، ونحن محاسبون على كل كلمة نقولها ومسؤولون عنها يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، وقال عز وجل: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾، أفلا نستشعر عظم أمانة الكلمة؟ ثم إن الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام ليس كالكذب على غيره من البشر؛ ألا يعلمون أن نار جهنم هي عقوبة الكذب المتعمد على النبي عليه الصلاة والسلام تصديقاً لقوله: [من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار]؟"، قال صديقي: "الكثيرون منهم لا يتعمدون الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم"، قلت: "نعم، لكن الإهمال في تحري الدقة والتثبت من صحة ما ينقلون قد يصل بهم إلى درجة التعمد. ثم ألم يقرأ أحدهم حديثه عليه الصلاة والسلام: [كفى بالمرء إثماً أن يُحَدث بكل ما يسمع]؟ . إن أحدنا لا يقبل أن يُنسب إليه ما لم يقله ويغضب لذلك، أفلا نغضب للحبيب المصطفى؟ إن أياً منا لا يجرؤ أن يَنسب قولاً لوزير أو مدير قبل أن يتثبت، فهل نتجرأ على خير البشر؟".
أقول لهؤلاء الغافلين أو المقصرين: "ألم تنتبهوا إلى الآية الكريمة: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾؟، ألا تعلمون أنكم بنشركم أحاديث مكذوبة وموضوعة يكون المقصود بالقوم الذين تصيبونهم بجهالة نتيجة عدم تبينكم هو النبي المختار سيد الخلق أجمعين؟ إنها والله لمصيبة".
أحبتي في الله .. دعونا نبدأ من اليوم حملة "فَتَبَيَّنُوا" .. ولنتعاهد ألا ننشر أو نعمم قولاً أو فعلاً أو إقراراً وننسبه للرسول صلى الله عليه وسلم دون أن نتأكد أو نتثبت أو "نتبين"، علينا جميعاً أن نلتزم مسئولية "فَتَبَيَّنُوا" الواردة في الآية الكريمة؛ فهي أمرٌ إلهي واضحٌ لا لبس فيه.
قال عليه الصلاة والسلام: [إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما يُلقي لها بالاً يرفعه اللَّه بها درجات، وإنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ سبعين خريفاً]، اللهم أعذنا من نار جهنم، واجعلنا اللهم في رضوانك، وارفع درجاتنا، واجعلنا اللهم من أهل "فَتَبَيَّنُوا".
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 12 فبراير 2016

الصلاة خير من النوم

12 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٨

(الصلاة خير من النوم)

جارٌ لنا في الحي يصلي معنا في مسجدنا أراه في أغلب الصلوات مبادراً إلى الحضور للمسجد مواظباً على ألا تفوته صلاة الجماعة وفي الصف الأول .. إلا في صلاة الفجر! فيومٌ يأتي وأيامٌ لا نراه .. قلت في نفسي: "ربما لديه عذر" .. إلى أن كان يوماً وجدته يسألني: "كيف تستيقظ لصلاة الفجر؟ هل تضبط المنبه أم تطلب من أحدٍ أن يوقظك؟"، قلت له وقد أحسست بما يعاني منه: "البداية بالنسبة لي كانت صعبة، لكني قطعت الشوط متدرجاً في خطوات: الخطوة الأولى كانت اتخاذ القرار بيني وبين نفسي ألا أتخلف عن صلاة الفجر في المسجد، والخطوة الثانية كانت طلب العون من الله سبحانه وتعالى فصليت ركعتين بنية التوفيق، أما الخطوة الثالثة، وقد كنت متعوداً على السهر إلى وقت متأخر من الليل، فهي ضبط منبه لإيقاظي وقت أذان الفجر، وهنا بدأت المصاعب: فلا أكاد أنام إلا والمنبه قد بدأ في الصياح، فأمد يدي إليه لأوقف صوته وفي نيتي الاستمتاع بدقائق قليلة من النوم أقوم بعدها للصلاة، لكنها لم تكن أبداً قليلة كما ظننت، فكنت إما أصل إلى المسجد متأخراً تفوتني ركعة أو تفوتني الصلاة كلها، أو أستيقظ بعد انتهاء موعد الصلاة"، قال معقباً: "هذا ما يحدث معي بالضبط، فماذا فعلت؟"، قلت له: "هنا كانت الخطوة الرابعة، ألزمت نفسي بالنوم مبكراً، ولم يكن هذا سهلاً لمن تعود السهر، حتى أنني في الأيام الأولى كنت أدخل إلى الفراش مبكراً فلا يأتيني النوم إلا متأخراً، فانتقلت إلى الخطوة الخامسة وكانت إبعاد المنبه عن السرير حتى لا تطوله يدي، فإذا أردت إسكاته لابد من أن أنزل من السرير، وكنت مع ذلك عندما أسمع صوته أتركه مستمراً في تنبيهه، أو أقوم لإسكاته وأعود للنوم مرة أخرى!"، سألني متعجباً: "ماذا فعلت إذن؟"، أجبته: "فكرت في الأمر، وقلت أبحث في (جوجل) عن خطوة سادسة، ربما أجدها في تجارب الآخرين، بالفعل وجدت فكرة أعجبتني بدأت في تنفيذها فجعلتني في غنىً عن منبه يوقظني!"، سألني متعجباً: "وكيف ذلك؟!"، قلت له: "اشرب كمية من الماء قبل النوم تجعلك تستيقظ مضطراً للذهاب إلى الحمام، حدد موعد نومك وكمية الماء الذي تتناوله حتى تضبط هذا المنبه الطبيعي!"، سألني متشوقاً لمعرفة نتيجة هذه التجربة: "وهل نجحت في ذلك؟"، قلت: "استغرق الأمر عدة ليالٍ للتوفيق بين ثلاثة عناصر: موعد النوم، ومدته، وكمية الماء"، قال: "تتحدث كما لو كنت تجري تجربة في مختبر الكيمياء، ذكرتني بأيام المدرسة الثانوية، المهم ماذا بعد ذلك؟"، أكملت دون أن أعقب على ما قال: "هنا أدرك الشيطان أني مُصِّرٌ وأني اقتربت من النجاح، فبدأ لعبته، فكان يوسوس لي خاصة في ليالي الشتاء الباردة: البرد قارص، وفراشك وثير ودافئ، وماء الوضوء في الصنبور كأنه الثلج، ماذا لو صليت في البيت؟ لو صليت في المسجد لتأخرت عن موعد بداية عملك ومازال أمامك مواصلات تستنفد الكثير من وقتك، قم فخذ قسطاً من الراحة يعينك على يوم عمل طويل وشاق، إن الله غفور رحيم"، قلت لشيطاني: "خسئت، والله لأغيظنك ولأذهبن إلى المسجد ليس بعد أذان الفجر كما كنت أعتزم بل قبل الأذان. وكانت هذه هي الخطوة السابعة والأخيرة، أخذت عهداً على نفسي بذلك، وكنت قاسياً مع نفسي فألزمتها بتنفيذ هذه الخطوة فوراً دون إبطاء وبغير تهاون أبداً، إنه جهاد النفس أملاً في هداية الله سبحانه وتعالى كما ورد في الآية: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، من يومها وأنا أستيقظ نشيطاً طيب النفس مع أول تنبيه أسمعه حامداً الله أن أحياني بعد ما أماتني، وعافاني في جسدي ورَدَّ علي روحي وأَذِن لي بذكره، سعيداً بأن مَدَّ الله في عمري يوماً جديداً عسى أعمل فيه صالحاً يرضاه، آملاً في رحمة ربي وفضله وقد أقسم في كتابه الكريم قائلاً: ﴿وَالْفَجْرِ﴾ ولا يقسم إلا بعظيم، وهو القائل: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مٓشْهُودًا﴾ تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، واثقاً في وعد النبي عليه الصلاة والسلام: [من صلى الصبح فهو في ذمة الله]، وفيما بشر به: [من صلى البُردين دخل الجنة]، وفي قوله: [ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها]، وقوله: [لو يعلم الناس ما في صلاة العشاء وصلاة الفجر لأتوهما ولو حبواً]". كان يتابع ما أقول وتعبيرات وجهه تشي باهتمامه، قال منهياً حديثنا: "شكراً لك"، قلت: "بل قل "جزاك الله خيراً"؛ كما أرشدنا إلى ذلك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: [مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ]". قال: "تُدهشني دقتك!"، قلت: "ضبط الإسلام لنا كلامنا، فمتى نضبط به أفعالنا وحياتنا كلها فنسعد بعد شقاء؟"، أجابني بسرعة: "الصبر يا عزيزي، أولم تقرأ قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا. وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾؟"، قلت: "بلى، ونِعمَ بالله".
أحبائي في الله .. لا أعرض هذا الموقف عُجباً أو افتخاراً أو مباهاة، بل -وأنا المقصر- أردت أن أوضح لكم كيف أن ﴿كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ مع إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، والإصرار والعزم، وأخذ النفْس بالشدة حتى ﴿لا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فالشيطان يقول: ﴿لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لكن يأتي الاستدراك ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾، فهو ليس له سلطان على عباد الله مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾. اللهم اجعلنا من عبادك المخلِصين المخلَصين، المواظبين على صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد؛ فهي (خير من النوم).
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.



الجمعة، 5 فبراير 2016

١٠-٢=٨


5 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة/ ١٧

(١٠-٢=٨)

ما نزال مع صاحبنا المغترب الذي تحدثنا عنه من قبل، نعرض لسبب غربته، ونتعرف على دوافعه وأسبابه التي من أجلها غادر وطنه وترك أهله وأحبابه.
كان من المتفوقين في دراسته، حصل على البكالوريوس بتقدير جيد جداً وكان ترتيبه التاسع على دفعته. عَلِم عقب إعلان نتائج البكالوريوس أن كليته طلبت تعيين الأوائل العشر معيدين، وأن الطلب قد أُرسل بالفعل إلى وزارة التعليم العالي وأن الموافقة عليه مسألة روتينية. عاش صاحبنا أسابيع لا تسعه الفرحة وهو يرى حُلم حياته وقد لاح في الأفق وأصبح قاب قوسين أو أدنى .. صارت مسألة وقت ليس إلا .. أيام أو أسابيع قليلة ويصبح معيداً في كليته واضعاً قدمه على أول سلمة من سلالم العمل كأستاذ جامعي في مجال تخصصه .. وفي انتظار صدور قرارات التعيين التي لابد وأن تصدر قبل بداية العام الجامعي الجديد كان يتابع أخبار زملائه؛ يعرف منهم المؤسسات التي عملوا بها، وكانوا يهنئونه على كونه أصبح معيداً بالكلية رغم عدم صدور قرار التعيين بعد. مرت الأيام .. وإذا بموقف جديد يفرض نفسه على أرض الواقع فيغير حساباته ويقلب حياته رأساً على عقب .. كان صاحبنا قد تخرج عام ١٩٧١م وكانت البلاد وقتها في حالة الاستعداد لحرب قادمة .. فرأى القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الدولة أن يلتقي بالمجندين في الجيش ويجري معهم حوارات ويستمع لهم .. فبدأ بالالتقاء بالمعيدين .. وفي حواره معهم طلبوا منه تخفيض فترة تجنيدهم إلى سنة واحدة فقط فعودتهم لأعمالهم كمعيدين هو خدمة للوطن بشكل آخر لا يقل أهمية عن خدمة العَلَم، فاستجاب لطلبهم بشكل فوري وعلني .. ترتب على ذلك عودة اثنين من المعيدين بالكلية التي تخرج فيها إلى عملهم؛ فأصدرت وزارة التعليم العالي في اليوم التالي مباشرة قرارات تعيين المعيدين لعدد ثمانية فقط من دفعة صاحبنا طالما سيعود اثنان من المعيدين المجندين؛ لم لا وعِلْم الحساب يؤكد على أن: ١٠-٢=٨ !
ياللقدر ... ماذا لو تقدمت قرارات التعيين يوماً واحداً؟ أو تأخر لقاء الرئيس ليومٍ واحد؟ يوم واحد فقط! .. وهل النصف في المائة الذي يفصل بين مجموع صاحبنا ومجموع زميله صاحب الترتيب الثامن صار فاصلاً بين الحُلم والواقع؟
ها هو صاحبنا يقف الآن عالقاً في منتصف الطريق .. ليس أمامه مستقبل يستبشر به .. ولا يمكنه العودة إلى الوراء .. وجد نفسه فجأة كالمعلق في الهواء .. أضحى في موقف لا يُحسد عليه .. تبخر فجأة حُلم العمل في سلك التدريس الجامعي .. وما زاد الطين بلة أن جميع المؤسسات المرموقة وجهات العمل المعتبرة قد عينت بالفعل الأعداد التي تحتاجها في تخصصه من زملائه الذين كانوا يهنئونه بالأمس! .. لم يتبق لصاحبنا إلا جهات العمل التي لا يرغب أحدٌ بالعمل فيها أبداً .. ولا يوجد بديل .. كان عليه أن يقبل بفرصة العمل التي ترشحه لها القوى العاملة وإلا سقط حقه في التعيينات الحكومية، وهي على ضعفها وقلة امتيازاتها تبقى أفضل من البقاء دون عمل .. فكان نصيبه العمل خارج القاهرة مدينته العزيزة القريبة إلى قلبه، مما اضطره إلى السكن كمغترب في مدينة بعيدة، ليعود إلى أسرته في نهاية الأسبوع. واكتشف صاحبنا أن مرتبه لا يكفيه؛ وما يتسلمه أول كل شهر كأن له جناحين يطير بهما على الإقامة في فندق رخيص، وعلى الأكل في مطعم متوسط المستوى، وعلى السفر بوسيلة سفر اقتصادية غير مكلفة، واكتشف أنه لو احتاج إلى شراء ملابس جديدة أو علاج أو دواء مثلاً فليس أمامه إلا طلب الإعانة من أسرته على استحياء، رغم أنه قد صار موظفاً وله مرتب شهري! ..
بهذا كان صاحبنا قد جرب الغربة داخل وطنه بغير عائد .. فما يمنعه إذن من الإقدام على غربة أخرى خارج الوطن بعائد يقولون أنه مجزٍ ويستحق أن تُشد إليه الرحال؟
بدأ صاحبنا يتابع الإعلانات التي تُنشر في الصحف وتطلب فيها أية دولة خليجية خريجين من تخصصه للعمل بها، إلى أن اطلع على إعلان خاص بذلك صادر عن سفارة دولة الإمارات بالقاهرة؛ فقدم أوراقه وأجرى المقابلة المطلوبة ونجح فيها وسافر إلى دولة الإمارات ليبدأ رحلة الغربة خارج الوطن.
أحبتي في الله .. كل هذه الأحداث، وأخرى غيرها مماثلة لها أو مختلفة عنها، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى يقدره لعباده كيفما يشاء؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾، ويقول:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، ويقول: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.. ورغم أن الأرزاق مكتوبة ومقدرة فعلينا أن نسعى بكل طريق مشروع من أجل العمل والكسب؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [إن أطيب ما أكلتم من كسبكم].
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/NGCS8o


الجمعة، 29 يناير 2016

لماذا الهجر؟


29 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٦

(لماذا الهجر؟)

صديق لي يذهب إلى النادي الرياضي يومياً ويصلي بالناس إماماً في مسجد النادي صلاتي المغرب والعشاء. يقول صديقي أن أحد المصلين من كبار السن سأله عقب الانتهاء من الصلاة: "هل ما قرأت بعد الفاتحة من القرآن؟!"، تعجب من السؤال لكنه رد باقتضاب: "نعم!"، فعلق صاحب السؤال قائلاً: "أول مرة في حياتي أستمع إلى هذه الآيات!".
ربما انتهى الموقف بالنسبة للسائل ولصديقي، لكنه لم ينته معي؛ تساؤل ظل يلح على ذهني: "هل من المعقول أن يصل مسلم إلى هذا العمر ولم يكن قد قرأ القرآن الكريم كاملاً ولو مرة واحدة في حياته؟"، تبع ذلك تساؤل آخر: "ما هي يا ترى علاقتنا بالقرآن الكريم؟".
فكرت في الأمر ملياً فبدا لي أن علاقة المسلم بالقرآن لا تكون إلا واحدة من ثلاث:
• هجر القرآن، والاكتفاء بما تم تعلمه في الصغر من المدرسة أو الأسرة.
• اهتمام محدود، يظهر في قراءة القرآن خلال شهر رمضان، وفي المناسبات كالامتحانات أو المرض أو عند دفن ميت، مع حفظ بعض قصار السور.
• مواظبة القراءة، بشكل مستمر، سواءً في البيت أو المسجد أو حتى في وسائل المواصلات العامة، والسعي إلى حفظ ما تيسر منه، مع تفاوت في درجة الاجتهاد سواءً في التلاوة أو الحفظ.
ويتبين لي من ملاحظاتي ومشاهداتي الشخصية أن الكثير من المسلمين موزعين على النوعين الأول والثاني، علاقتهم بالقرآن إما هجر كامل أو اهتمام محدود.
بالطبع أغبط الفئة الثالثة المتميزة وأدعو الله لي ولكم أن نكون منهم.
أما هاجرو القرآن ومحدودو الاهتمام به فأتعجب لحالهم؛ ألم يقرأ هؤلاء أو يستمعوا إلى الآية التي تصف إحساس الرسول عليه الصلاة والسلام بالأسى حين يقول: ﴿يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾، فهل نترك أنفسنا لنكون ممن تشير إليهم هذه الآية؟
قراءة القرآن عبادة سهلة وميسرة وغير مكلفة يمكن أداؤها في أماكن كثيرة وأوقات متنوعة، ويحظى المحافظ عليها بثواب كبير، ومع ذلك يغفل الكثيرون عنها أو يتغافلون .. رغم أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بها؛ قال تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ  عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ  وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ  وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾، هل لاحظتم أحبتي تكرار الأمر الإلهي لنا "اقرءوا ما تيسر منه" مرتين في آية واحدة، وهل لاحظتم أن الأمر الأول جاء عاماً وأن الأمر الثاني بيَّن أنه مع علم الله سبحانه وتعالى بأنه سيكون هناك مرضى وسيكون هناك من يسعون طلباً للرزق وسيكون هناك من يقاتل في سبيله فإنه أمره لنا ما يزال قائماً "اقرءوا ما تيسر منه"، وهل من عذر -إن كان ثمة عذر- يُفترض معه ترك قراءة القرآن أكثر من الانشغال بالحرب والجهاد في سبيل الله؟
إذن (لماذا الهجر؟)
• هل لأننا لا ندرك ثواب قراءة القرآن؟
- كيف؟ ونحن نعلم أن القرآن الكريم يكون شفيعاً للإنسان يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: [اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه].
• أم لأننا نخشى أن نخطئ في قراءة القرآن ولم نتعلم أصول التلاوة؟
- كيف؟ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران].
• أم لأنه من الصعب حمل المصحف؟
- كيف؟ وأجهزة الحاسوب والهواتف الزكية توفر لنا فرصة تحميل المصحف للقراءة والاستماع والاطلاع على التفاسير.
• أم لأننا لا نجد الوقت لقراءة القرآن؟
- كيف؟ ونحن نجلس بالساعات يومياً على الحاسوب، نستخدم الإنترنت نتابع أخبار الأصدقاء على الفيس بوك، ونغرد في تويتر، ونتبادل الحوار والنكات والصور ومقاطع الفيديو على الواتس آب، ونشاهد مباريات كرة القدم، وغير ذلك من توافه الأمور، ألا نستحي؟ ألا نخجل من أنفسنا؟!
سألني أخ فاضل: "وهل من السهل علي أن أبدأ الآن بعد كل هذا الهجر؟"
"نعم؛ اعقد العزم وأخلص النية وتوكل على الله راجياً الثواب؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يُقَالُ لِصَاحب الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ وَارْقَ فِي الدَّرَجَاتِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَأَهَا]".
وسأل مرة أخرى: "كيف أبدأ؟ وكيف أستمر؟"
والإجابة: "ابدأ بتخصيص زمن محدد للقراءة في المصحف خمس دقائق أو عشر دقائق، وحدد الوقت المناسب قبل الصلاة أو بعد الصلاة، حدد لنفسك بداية بسيطة كقراءة صفحة واحدة أو صفحتين كل يوم، ثم انتقل لأربع صفحات يومياً، ثم انتقل لقراءة صفحتين عقب كل صلاة، ثم اقرأ صفحتين قبل كل صلاة وصفحتين بعدها، وهكذا قدر ما تستطيع، ثم اجتهد في حفظ ما تيسر من القرآن، وصلِ بما حفظت، تابع القراءة حتى تختم المصحف، استعن بأحد التفاسير المبسطة لفهم ما غمض عليك من الكلمات أو المعاني، استمتع بالجمع بين الاستماع للقرآن وتلاوته في وقت واحد وتعرف على أصول التلاوة الصحيحة. المهم ألا تُسَوِف أو تؤجل، واحذر أن يغلبك الكسل، ابدأ من اليوم، استشعر عظم الثواب، واستحضر همة الشباب، وتذكر أن الله معك".
أحبتي في الله .. أن يأتي أحدنا متأخراً خير له من ألا يأتي أبداً .. فلنبدأ الآن .. يبدأ كلٌ منا في مراجعة علاقته بالقرآن، الهاجر والمقصر يعوض ما فات وعفى الله عما سلف، والمهتم والمجتهد يزيد من اهتمامه واجتهاده ليرتقي بتلاوته وحفظه، حتى نكون جميعاً من أهل السعادة في الدارين: الدنيا والآخرة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 22 يناير 2016

أروع حماة


22 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة / ١٥

(أروع حماة)

قال صديقي المغترب متابعاً ما انقطع من حديث في خاطرة الجمعة قبل الماضية: "لم تسمع الأغرب من ذلك بعد!"، قلت: "وهل أغرب مما سمعت؟!"، قال: "نعم"، وبدأ في رواية ما هو أغرب بالفعل!.
قال لي أنه أنهى المقابلة الشخصية بسفارة دولة الإمارات بالقاهرة، وكانت زوجته التي عقد قرانها من فترة وجيزة قد قدمت طلباً مماثلاً للعمل في نفس الوزارة، وأجرت مقابلة شخصية هي الأخرى، في الوقت الذي كانت لجان المقابلات تفضل استقدام زوجين عن استقدام فردين أعزبين؛ حيث كان العقد ينص على أن للزوجين بدل سكن يعادل ٦٠٪ من مرتب الزوج، ويكون البدل للأعزب ٤٥٪؛ ما يعني أن أعزبين يكلفان جهة التعاقد ٩٠٪ من المرتب، مقابل ٦٠٪ فقط للزوجين!.
واستطرد قائلاً أن نتيجة المقابلات أعلنت بعد أسبوع، وكان هو وزوجته من الناجحين، وعلقت السفارة مع كشوف الناجحين إعلاناً بضرورة استعدادهم للسفر وأنها سوف تعلن في الصحف اليومية متى يمكنهم الحضور لاستلام تذاكر السفر. طار صاحبنا هو وزوجته فرحاً، فها هو حلم حياتهما على بعد خطوة واحدة، وشرعا في السعي للحصول على إجازة بدون مرتب والموافقة على السفر من قبل الجهتين اللتين يعملان بهما.
انتهيا من جميع الإجراءات، وحضرا ما يلزم من أوراق، وجهزا حقيبتين للسفر، ولم يتبق إلا استلام التذاكر من السفارة. وإلى أن تعلن السفارة عن موعد استلام التذاكر اتفقا على أن يبدآ شهر العسل قبل السفر، وبالفعل تم الترتيب لذلك بشكل سريع، استعدا للزفاف بدون حفل، أخبرا أسرتيهما أنهما سوف يسافران من القاهرة إلى الإسكندرية، ولن يُعلما أحداً باسم الفندق الذي سينزلان فيه. وتم ذلك بالفعل، سافرا ونزلا في أحد فنادق عروس البحر الأبيض المتوسط. وفي كل صباح كان يذهب ليشتري الصحف اليومية الثلاث: "الأهرام، الأخبار، والجمهورية" عسى أن يقرأ إعلان السفارة. وبعد عدة أيام، طالع الإعلان المرتقب فإذا به ينص على "التوجه إلى السفارة اليوم قبل الساعة الواحدة ظهراً لاستلام تذاكر الطيران حيث تحدد موعد السفر صباح الغد". كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة صباحاً، كيف يمكن الوصول إلى السفارة خلال ساعتين؟ .. أخبر زوجته، وقاما على عجل بلملمة أغراضهما ومحاسبة الفندق، وركبا سيارة أجرة وتوجها بها مباشرة إلى مقر السفارة بالقاهرة. أخبرا السائق بضرورة الإسراع؛ فكان يسابق الريح ويترك لسيارته العنان فتنهب الطريق نهباً، وهما يدعوان الله أن يصلا في وقت مناسب. يمر الوقت؛ فيزداد القلق، وتتوتر الأعصاب، ويصل توترها مداه متجاوزاً مرحلة الاحتراق. ورغم مهارة السائق وسرعته المتهورة في بعض الأحيان وحرصه على الوصول بأسرع ما يمكن، فها قد حان ما كانا لا يرغبان أن يكون؛ تجاوزا الوقت المحدد في الإعلان، عندها توقف الكلام، وجفت الحلوق، وتجمد الدم في العروق، وزاغت العيون، وأوشك القلب أن يتوقف. وحين اقتربا من مقر السفارة، كانت أنفاسهما تلهث، وعيونهما تكاد تقفز من حدقاتها لترى هل باب السفارة مفتوح أم مغلق؟ ، اليأس يُحكم سيطرته على نفسيهما كلما اقتربا من السفارة لولا جذوة أمل تتلاعب بما تبقى لهما من أعصاب .. وصلت السيارة إلى مقر السفارة بالزمالك، هما الآن أمام باب السفارة، الساعة تشير إلى الثانية ظهراً، باب السفارة مغلق .. نزل من السيارة مسرعاً .. نادى على الحارس وسأله إن كان أحد الموظفين ما زال بالداخل، أجابه بما لم يكن يتمنى أن يسمعه، أجابه بالنفي؛ أحس بجفاف في حلقه، لكنه تابع متسائلاً بانكسار "هل ترك أحد الموظفين معك تذاكر سفر؟"، كانت الإجابة بالنفي كذلك. أُسقط في يده، عندما أخبره الحارس أن عدداً كبيراً من الأشخاص توافدوا في ذلك اليوم لاستلام تذاكر سفرهم، وأن السفر صباح اليوم التالي. ولما أراد أن يعود إلى السيارة أحس بقدميه تخذلانه .. إنه لا يقوى على المشي .. تظاهر بالتماسك؛ استجمع قواه الخائرة ومشى تلك الخطوات إلى السيارة كأنها أميال. دلف إلى السيارة صامتاً .. لم تسأله زوجته عن شيء فما تراه عيناها كان فيه الكفاية .. تبخر حلم السفر وضاعت فرصة العمل بالخارج. طلب من السائق التوجه إلى حيث مسكن أهل زوجته .. طوال الطريق لم ينبس أي منهما ببنت شفة .. صمت مطبق .. وأفكار متلاحقة وأسئلة متسارعة تتسابق دون ترتيب .. هل كان قرار سفرهما إلى الإسكندرية متعجلاً؟ هل يمكن أن يكون موظف السفارة في انتظارهما بالمطار ومعه تذكرتا السفر؟ .. ثم كيف يكون وضعهما الآن؟ حصلا على إجازة من العمل بدون مرتب .. ليس لهما شقة خاصة يقيمان فيها .. لا يملكان مالاً لشراء أثاث .. ماذا يقولان للأقارب والأصدقاء وزملاء العمل؟ .. أحس بأن الدنيا قد أظلمت في عينيه ورأسه توشك أن تنفجر ..
اقتربا من مسكن أهل زوجته، رأيا من بعيد أخاها يمشي أمام باب العمارة جيئة وذهاباً في عصبية لم يعهداها فيه .. توقفت السيارة ونزلا منها .. أعينهم بها دمعات اجتهدا في منعها .. رآهما أخوها فجرى نحوهما بلهفة وقد تحولت عصبيته فجأةً إلى ابتسامة عريضة مُرحباً بهما! .. كان لسان حالهما يقول إنه لا يعرف ماذا حدث .. ثم .. هل هي ثانية أم أكثر أم أقل تلك التي مرت قبل أن ينطق أخوها: "أسرعا .. تسلمنا تذكرتي سفركما" .. ماذا؟ .. ماذا قلت؟ تسلمتم ماذا؟ تذاكر السفر؟ من أين؟ من السفارة؟ هل هذا معقول؟. قال صديقي: قبل أن يجيب أخوها، تصورنا للحظة أن ما سمعناه محض خيال يكمل لنا مشهد الأمل المفقود، وإذا بكلمة واحدة من أخيها تعيدنا إلى الحياة أو كأنها أعادت الحياة إلينا .. قال: "نعم". عادت الروح إلى أوصالنا، وجرى الدم في عروقنا، وانطلقنا نصعد الدرج حتى وصلنا باب الشقة، والسؤال الوحيد الذي يشغلنا "كيف حدث هذا؟". يقول الصديق: صورة لن تُمحى من ذاكرتي ما عشت صورة حماتي واقفةً على باب الشقة ممسكةً بتذكرتي السفر في يدها ووجهها مشرق ضاحك، تقول: ارتاحا من السفر .. ما تزال أمامكما ساعات حتى موعد السفر! جمعتنا جلسة شرب الشاي المعهودة في بيت حماي، لكن شتان بين ما كنا عليه خلال الساعات السابقة وما نشعر به الآن .. يا الله .. كم أنت كريم .. كم أنت لطيف خبير ..
"والآن يا حماتي العزيزة، أخبرينا كيف حدث هذا؟"، يسأل صديقنا، قالت له: "كنت أتابع الصحف اليومية من يوم سفركما إلى الإسكندرية، حتى قرأت الإعلان صباح اليوم، قدَّرت أنكما لن تتمكنا من الوصول إلى السفارة قبل الموعد المحدد، قررت أن أتوجه إلى السفارة لاستلام تذكرتي سفركما بنفسي، أخذت معي كل ما يثبت علاقتي بكما: بطاقتي الشخصية، وصورة عن بطاقة حماك، وتوكيلاً عاماً منه لي وثقه قبل سفره إلى مقر عمله بالسعودية، وصورة عن شهادة ميلاد ابنتي، وعدة صور من حفل عقد القرآن أظهر فيها معكما، توجهت إلى السفارة وقابلت الموظف المختص، وقلت له أنكما مسافران وسوف تصلان في وقت متأخر اليوم وأني أتيت لاستلام تذكرتي السفر، رفض أن يعطيني التذكرتين وقال لي لابد من حضورهما بنفسيهما، طلبت منه مقابلة أحد المسئولين في السفارة، فاتصل من هاتف مكتبه بالقنصل وحكى له ما حدث، ثم طلب مني أن أتبعه حيث مكتب القنصل، استمع لي القنصل باهتمام واطلع على جميع الأوراق التي أحملها، وحينما رأى صور حفل عقد القران تبسم وقال لي: لكن لابد أن تتركي لنا صوراً من هذه الأوراق وتوقعي على إقرار باستلام التذكرتين، ففعلت، وتسلمت تذكرتي السفر، هذا ما حدث معي، أخبراني أنتما ماذا حدث معكما؟" .. نظرتُ إلى زوجتي، ونظرت زوجتي إليّ، وانفجرنا ضاحكين ونحن نقول: "نحن؟ .. لم يحدث معنا أي شيء! .. فقط، كنا أمواتاً فأحيانا الله"!!!.
أحبتي في الله .. هل من حماة أروع من حماة صديقنا هذا؟ اهتمت، وتابعت، وقدرت الموقف تقديراً صحيحاً، وأعدت ما أمكنها من أدلة وبراهين وإثباتات تقليدية وغير تقليدية، واتخذت قراراً صائباً، ونفذته، ولم يثنها رفض طلبها في البداية، وأصرت على مقابلة المسئول، وتمكنت بصدقها وإصرارها من إقناعه، وعادت بعد أن حققت هدفها الذي خططت له .. يا لها من حماة رائعة! ..
اعذروني أن أطلت ..
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 15 يناير 2016

الشريك العاشر

15 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٤

(الشريك العاشر)

تسعة شبان من قرية واحدة من قرى مصر، جمعت بينهم صداقة قوية خلال فترة التجنيد، فاتفقوا عام ١٩٨٢م على أن يبدأوا مشروعاً استثمارياً بقريتهم الصغيرة الهادئة قرية "تفهنا الأشراف" مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، وكان مشروع مزرعة الدواجن من المشروعات الرائجة في تلك الأيام، فقرروا أن يكون هذا هو مشروعهم، وكانوا في حاجة إلى مبلغ ٢٠٠٠ جنيه لتنفيذ المشروع، ساهم كلٌ منهم بمبلغ ٢٠٠ جنيه وظلوا يبحثون عن (الشريك العاشر) لتكتمل ميزانية المشروع، لكنهم لم يجدوا هذا الشريك، إلى أن أخبرهم يوماً المهندس صلاح عطية -وكان صاحب فكرة المشروع- أنه وجد (الشريك العاشر)، تهللت وجوه شركائه الشباب وتساءلوا بلهفة عمن يكون (الشريك العاشر)؟، قال لهم: هو "الله" ندخله معنا شريكاً عاشراً له عُشر الأرباح عسى أن يوفقنا سبحانه وتعالى. وخلال كتابة عقد الشركة قرر الشباب الشركاء التسعة تخصيص نسبة 10% من الربح لإنفاقها في وجوه الخير باسم "سهم الله الأعظم". فإذا بحصيلة الربح في العام الأول كبيرة جدًّا، فزادوا نسبة "سهم الله الأعظم" إلى 20% من الربح، وهكذا كلما زاد الربح زادوا نسبة السهم وزاد المال المخصص لأعمال الخير. وتوسعت أعمالهم: من مزرعة واحدة إلى عشر، ومن مصنع واحد إلى ثلاثة: مصنع لأعلاف الدواجن، وآخر للمركزات، وثالث لأعلاف الماشية، ثم انتقلوا إلى الإتجار في الحاصلات الزراعية فصدروا الموالح والبطاطس والبصل لعدة بلدان خارج مصر. عَمَّ الخير وأصبح حجم الاستثمارات بالملايين. وبعد عامين من بداية المشروع ومع تنامي الأرباح وبمساهمات من أهالي القرية، قام هؤلاء الشباب بإنشاء "مركز إسلامي" بالقرية، بدأ نشاطه بحضانة لتحفيظ الأطفال القرآن الكريم، ثم إنشاء ستة معاهد أزهرية بالقرية بالتتابع: معهد ابتدائي للبنين أعقبه مثله للبنات، معهد إعدادي للبنين أعقبه مثله للبنات، معهد ثانوي للبنين أعقبه مثله للبنات! فهل وقف طموح هؤلاء الشباب عند هذا الحد؟ لا؛ قرروا إنشاء كلية جامعية بالقرية! قدموا طلباً بذلك فرُفض حيث لا توجد بالقرية محطة للقطار، فقاموا بإنشاء محطة قطار بالقرية بالجهود الذاتية، وحصلوا على الموافقة؛ ولأول مرة بتاريخ مصر يتم افتتاح كلية جامعية بقرية صغيرة! ثم أصبحت الكلية الواحدة كليتين، ثم ثلاث، ثم أربع: كلية للشريعة والقانون، تلاها كلية للتجارة بنات ثم كلية لأصول الدين ثم كلية رابعة للتربية. وتوافد على هذه الكليات طلاب من غير أبناء القرية؛ فماذا هم فاعلون؟ قرروا إنشاء مدينتين جامعيتين: واحدة للطلاب المغتربين (تسع ١٠٠٠ طالباً)، وأخرى للطالبات المغتربات (تسع ٦٠٠ طالبة)! وتسبب وجود أربع كليات جامعية بالقرية في حدوث رواج تجاري، وحركة نشيطة للنقل والمواصلات. كما قامت غالبية البيوت ببناء حجرات إضافية لتأجيرها للطلاب.
وفاض الخير، فقام المركز بتجهيز البنات اليتامى عند الزواج، وقام بمساعدة الفقراء والأرامل وغيرهم من الشباب العاطل لعمل مشاريع تغنيهم من بعد فقرهم؛ والنتيجة أنه لم يعد بالقرية عاطل ولا فقير!
وساهمت "لجنة المصالحات" التابعة للمركز الذي يرأس إدارته المهندس صلاح عطية، في حل الخلافات المتنوعة داخل القرية، وكانت نتيجة ذلك أنه لم تصل مشكلة واحدة من القرية إلى مركز الشرطة طوال العشرين عاماً الماضية!
وما كنت لديهم حين اتفق الشركاء على أن يكون المشروع كله لله؛ فتنازلوا عن أرباحهم السنوية وتحولوا من شركاء إلى عمال عند رب العزة يتقاضون أجوراً محددة، مع دعائهم لله سبحانه وتعالى ألا يفقرهم إلا له ولا يحوجهم إلا إليه. الله أكبر، أبصر بهم وأسمع، كأني بهؤلاء الشباب قد انطبق عليهم الوصف القرآني: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.
أحبتي في الله .. أكتب هذه الخاطرة بمناسبة وفاة مؤسس ومدير المشروع المهندس/ صلاح عطية، الذي حول مفهوم التجارة مع الله من عمل فردي إلى عمل مؤسسي متكامل، إنها عبقرية الإبداع، أن يكون الله سبحانه وتعالى هو (الشريك العاشر).
لله درك يا صلاح أنت وصَحْبُك؛ أخلصتم النية لله وأحسنتم العمل فكان الله معكم وأدهشكم بعطائه، كأنكم ممن يشير إليهم قوله تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ  فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، وكأن أهل قريتك الذين شاركوك إخلاص النية وإتقان العمل وصدق التوكل على الله ينطبق عليهم قول المولى عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾، وقوله: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾.
أَمِثْلُكَ يا صلاح يعيش في صمت ويعمل في صمت ولا يُسْمٓع عنه إلا بعد وفاته؟! أين إعلامنا من عرض مثل هذه الإنجازات والتجارب الناجحة؟ لك الله يا صلاح، أراد عز وجل أن يكون لك من اسمك نصيب، اسمك "صلاح" وفي عملك وفعلك "صلاح" لنفسك ولغيرك .. مُتَّ يا صلاح لكن مشروعك مستمرٌ كمثالٍ يُحتذى به، وفكرتك ما تزال متألقة، فكرةٌ طيبةٌ كشجرةٍ طيبةٍ ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾؛ عسى أن تكون إلهاماً لغيرك ليسير على طريق الصلاح والإصلاح.
لقد سار في جنازتك يوم الاثنين الماضي آلاف البشر حباً ووفاءً، أفلا تكون تلك بداية للاهتمام بأمثال هؤلاء الشباب؟ ألا يجب أن يكونوا هم نجوم المجتمع وأن تُعرض قصص نجاحهم في وسائل الإعلام وأن يتم تدريس مثل هذه النماذج لطلبة المدارس؟
هلا فكرنا بإنشاء "جائزة صلاح عطية الإسلامية" على غرار جائزة نوبل، رصداً للتجارب الرائدة في عالمنا الإسلامي وتكريماً لأصحابها وحفزاً لشبابٍ قادرٍ على أن يستلهم من دينه ما يغير به وجه الحياة إلى الأحسن والأفضل والأرقى؟
[وخروجاً عن تقاليد هذه الخواطر الأسبوعية؛ أطلب من كل واحد منكم، رجاءً وليس أمراً، أن ينشر هذه الخاطرة على أوسع نطاق ممكن؛ فقد أصبح قدرنا أن نكون نحن الإعلام البديل. أنشروا وعمموا عسى يفيق الغافلون وينتبه المضللون إلى أن في التمسك بديننا الإسلامي حلاً لجميع مشاكلنا دون استثناء].
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 8 يناير 2016

ويحسبها الجاهل صدفة!

8 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٣

(ويحسبها الجاهل صدفة!)

في سنوات الغربة كان يطيب لنا أن نستمع إلى قصص بعضنا، وكيف جرت مع كلٍ منا المقادير إلى أن وطئت قدماه أرضاً ليست أرضه وبلاداً بعيدة عن بلاده وبات في غربة عن وطنه ودياره وأحبابه.
وكان من أغرب ما سمعت قصة مغترب أمضى معظم عمره في قريته في صعيد مصر، أتم دراسته الجامعية في إحدى المدن القريبة من قريته، وبعد تخرجه عمل بتلك المدينة، وأقسم لنا أنه لم ير القاهرة في حياته إلا يوم سفره من مطارها إلى بلاد الغربة!
لكن كانت هناك قصة أخرى تستحق أن تُروى؛ شاب من سكان القاهرة، قرأ إعلاناً منشوراً في صحيفة لدولة عربية خليجية تطلب عدداً من المتخصصين في مجاله، فأرسل طلبه بالبريد وأرفق به صوراً عن أوراقه الثبوتية .. مرت أيام وأيام ولم يصله شيء حتى ظن أنه لن يحدث إلا كما حدث في مرتين سابقتين في إعلانين مشابهين .. إلى أن قرع قارع جرس بيته صباح أحد أيام شهر أغسطس من عام ١٩٧٤م، فتح الباب فإذا بساعي البريد يحمل في يده برقية لا يريد أن يسلمها له إلا بعد استلام حلاوة التبشير بخبر جيد؛ فهو يعلم يقيناً مصدر البرقية ويستطيع بخبرته أن يخمن مضمونها. تسلم صاحبنا البرقية وأسرع بفضها فوجد أنها مرسلة من سفارة دولة الإمارات بالقاهرة، فتهلل وجهه فرحاً، وبدأ في قراءة محتواها: "نخطركم بقبول طلبكم وتحدد لكم موعد المقابلة الشخصية بمقر السفارة بالزمالك في الساعة الرابعة من عصر يوم ٢٦ أغسطس" .. يا الله ! .. أخيراً اقترب موعد تحقق الحلم، حلم السفر والعمل بالخارج، ما أكرمك يا الله .. لم تبق سوى المقابلة الشخصية .. اللهم يسر أمرها .. متى الموعد؟ عصر يوم ٢٦؟! .. كم تاريخ اليوم؟ .. انتفض يبحث عن النتيجة؛ تجمد في مكانه وهو ينظر إليها .. تاريخ اليوم ٢٧ ! .. فرك عينيه مراراً وأعاد النظر .. ما يزال تاريخ ٢٧ هو ما يراه .. يا إلهي ! هل يعقل هذا؟ .. لا بأس؛ ربما انتزعت والدته صباح اليوم بالخطأ ورقتين من أوراق النتيجة بدلاً من ورقة واحدة، فهي الوحيدة معه في البيت في ذلك الصباح .. وهَمَّ أن يسألها فإذا بها تسأله من غرفة مجاورة: "من كان بالباب؟". روى لها ما حدث، وسألها عما إذا كانت قد نزعت ورقتين من النتيجة صباح اليوم، أجابت بالنفي. أُسقط في يده، وكان واقفاً فانهار على أقرب مقعد ممسكاً بكلتا يديه رأسه كي لا يقع! .. وسؤالٌ لا يريد أن يغادر عقله: "لِمَ يا رب تقربني من الحُلم إلى هذا الحد ثم أفيق على واقع كنت قد سلمت به وتعايشت معه؟".. أحست أمه بما يفكر فيه وأرادت أن تخفف عنه، فقالت له: "اذهب إلى السفارة واحكِ لهم الموقف، ستجد بإذن الله من يتفهم وضعك، وفقك الله وكتب لك الخير يا بني". ضاقت عليه نفسه، وأحس بغصة وشيء من المرارة لم يخفف منها سوى كلمات أمه بصوتها الدافئ الحنون ودعائها له. "كم أنت طيبة يا أمي؛ من ذا الذي يمكن أن يستمع لي في السفارة؟" هذا ما كان يفكر فيه، وكاد أن يرفض اقتراح والدته لكنه تراجع ووافقها، وفي نفسه أن في ذلك براً بها، فهو لم يتعود أن يرفض لها طلباً .. ثم ماذا سوف يخسر؟ .. لا شيء .. فلتكن نزهة يُسَرِّي بها عن نفسه.
توجه إلى السفارة عصراً .. فإذا بعدد كبير من الناس واقفين على بابها .. سأل أحدهم: "هل كل هؤلاء الناس متجمعون لمقابلات اليوم؟!"، رد عليه قائلاً: "هؤلاء لديهم مقابلات اليوم ومعهم من كانت مقابلاتهم بالأمس" .. سأل متلهفاً: "ماذا قلت؟ مقابلات الأمس؟!" رد عليه: "حضرنا أمس للمقابلة لكن الكهرباء كانت مقطوعة عن السفارة فطلبوا منا الحضور اليوم، وهذا هو سبب الازدحام الذي تراه" .. يكاد لا يصدق ما يسمعه! .. سأل مرة أخرى: "هل سجلتم أسماءكم أمس؟ هل سلمتم أوراقكم؟ هل اطلع أحد بالسفارة على برقيات استدعائكم؟" .. وكانت الإجابة هي التي يتمنى أن يسمعها: "لا .. لم يحدث شيء من هذا، فقط قيل لنا تعالوا غداً في نفس الموعد" .. يا الصدفة العجيبة! كاد يطير فرحاً، ولولا الحياء لقبَّل هذا الذي بشره بهذه البشرى .. شكر الله كثيراً، ودعى لأمه كما لم يدعُ لها من قبل، ودخل إلى السفارة بثقة وأجرى المقابلة الشخصية كما لو كان قد حضر بالأمس!
أحبتي في الله .. هل كانت تلك صدفة؟ أم هو قدر الله يسيره كما يشاء؟
لا شك أنها مقادير الله يصرفها كيف شاء يحسبها الجاهل صدفة، اقرأوا إن شئتم قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، واقرأوا: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.
ثم هل يا ترى تتغير مقادير الناس بالدعاء أو ببر الوالدين؟ نعم؛ يمكن تغيير القدر بأمور كالدعاء وبر الوالدين وأعمال البر وصلة الرحم، وأقواها في رد القدر الدعاء كما في الحديث؛ قال عليه صلى الله عليه وسلم: [لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ...].
اللهم اكتب لنا الخير حيثما كان، وقدره لنا، ورضنا به، ويسر لنا سبيل الوصول إليه .. واجعلنا اللهم من البررة بوالديهما أحياءً وأمواتاً ..
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 1 يناير 2016

المطففون


1 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٢

(المطففون)

أخ فاضل تعرفت عليه عندما كنت أعمل بدبي، زميل عمل، ميسور الحال، كريم الخصال، ممن ترتاح إليهم بسرعة، ويدخلون قلبك بسهولة. دعانا لوليمة في بيته يوماً فلبينا الدعوة. لاحظت كثرة تكليفاته لخادم يعمل عنده، بدا لي الأمر كما لو كان زميلنا يتعمد أن يحرم خادمه من أية لحظات للراحة، ومع ذلك كان الخادم ينفذ تكليفات زميلنا بهمة ونشاط، لكن خليطاً من عدم الرضا والإرهاق كان بادياً على قسمات وجهه. في اليوم التالي للوليمة سنحت لي فرصة الانفراد بزميلنا فشكرته على الوليمة وبشكل غير مباشر أشرت إلى تكليفاته الكثيرة لخادمه، فهم قصدي فقال لي: "هو خادم، عليه الطاعة وأداء ما يكلف به"، وأوضح لي أن هذا الخادم يعمل من بعد صلاة الفجر وحتى وقت متأخر من الليل، هو أول من يستيقظ في البيت وآخر من ينام. أخبرني وهو سعيد بهمة ونشاط خادمه، فهو الذي يشتري ما يحتاجه البيت من طعام وشراب، ويساعد في تحضير الطعام وتجهيز المائدة وغسل الصحون، ويكوي ملابس أفراد الأسرة، كما يقوم بتنظيف السيارة، كما أنه ماهر في إصلاح الأعطال البسيطة للأجهزة المنزلية وأعمال السباكة والكهرباء.
سألت زميلنا عما إذا كان يحس بأنه يكلفه فوق طاقته، رد وهو يحاول إقناع نفسه بغير الحقيقة: "لقد تعود على ذلك، ولم يشكُ يوماً من كثرة العمل"، وأردف قائلاً: "لن تصدق إذا قلت لك أنه سعيد بثقتنا فيه واعتمادنا عليه في كل شيء". قلت له: " قال عليه الصلاة والسلام عن حُسن معاملة الخدم: [إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ. ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُمْ]، وفي حديث آخر: [.. وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ (وقيل: أهل السماء)]. فأين أنت أخي من كل ذلك؟"، استجمع أفكاره ليرد عليّ، فلم أترك له فرصة وباغته بالسؤال: "تطلب منه دائماً المزيد من العمل، فهل تزيد له أجره مقابل زيادة العمل؟"، رد باقتضاب: "لا"، قلت له: "أخشى أن تكون ممن وصفهم الله سبحانه وتعالى بالمطففين"، سألني: "ومن هم المطففون؟"، قلت له: هم ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ*وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾، وقد توعدهم الله بقوله: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾، وهم غافلون عن أنهم محاسبون يوم القيامة ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَـئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ*لِيَوْمٍ عَظِيمٍ*يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. قال: "حسبت هذه الآيات قاصرة على الكيل والميزان فقط"، قلت له: "وهل من كيل أو ميزان لأعظم من المعاملات بجميع صورها، والعلاقات بكل أنواعها؟ إنها أهم من شيء تشتريه فيُكال لك أو يُوزن وتمضي في حال سبيلك. واهتمام المولى عز وجل بالوزن والميزان يؤكد هذا المعنى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾، ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾، ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾، ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَان﴾، ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾، ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾، ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾. إنه اهتمام خاص بالوزن والكيل بمعناه الحرفي المعروف، كما أنه اهتمام بالمعنى الأوسع والأشمل لضمان (التوازن) فيما هو لنا وما هو علينا، بين ما هو حق وما هو واجب، بين ما نرضاه لأنفسنا وما نطلبه من غيرنا". رد علي زميلنا وكأنه يستمع إلى هذا المعنى لأول مرة: "إذن إما أن أخفف الأعباء عن خادمي أو أساعده في أدائها"، وأضاف: "وعلينا أن (نوازن) بين حقوقنا وواجباتنا في علاقاتنا الخاصة مع زوجاتنا وأبنائنا وإخواننا، وفي علاقاتنا العامة ومعاملاتنا مع جيراننا وزملائنا في العمل ومرؤوسينا وخدمنا، أليس كذلك؟"، قلت: "بلى، هذا بالضبط ما أردت قوله: (أن تأخذ من غيرك أكثر من حقك فأنت مطفف، وإذا أعطيت غيرك أقل من حقه فأنت مطفف)، اللهم لا تجعلنا من المطففين. جزاك الله خيراً".
أحبتي في الله .. أدعو لنفسي ولكم بأن يباعد بيننا وبين أن نكون من المطففين .. اللهم ألهمنا الصواب ليكون ميزاننا في كل شيء ميزان عدل، بلا زيادة ولا نقصان، فالقاعدة العامة [حِبْ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ] إلا أن نزيد في العطاء للآخرين أو نتنازل عن شيء من حقوقنا بطيب خاطر منا تصديقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾.
اللهم اجعلنا من أصحاب الفضل بكرمك يا أكرم الأكرمين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.

الجمعة، 25 ديسمبر 2015

موعد مهم


25 ديسمبر، 2015م
خاطرة الجمعة / ١١

(موعد مهم)

رأيته يسير مسرعاً متجهاً إلى سيارته يكاد يجري، حسبت أنه قد يحتاج مساعدة، فقلت له: "خير إن شاء الله، تحتاج شيئاً؟"، رد وهو يفتح باب السيارة ويقفز بداخلها ويدير محركها: "أبداً، تأخرت على موعد مهم"، وفتح زجاج سيارته وهي تمرق بجانبي وقال: "شكراً لك"، بنهاية هذه الجملة كان قد وصل إلى منعطف الطريق وانطلق يسابق الزمن.
"موعد مهم" .. استوقفتني هذه العبارة .. فكرت فيها فتذكرت كم مرة شاهدته يقف أمام العمارة يتحدث مع أصدقاء له أحيهم وأنا في طريقي للصلاة بمسجد قريب لا يبعد عنا سوى خطوات قليلة، ثم أحيهم مرة أخرى وأنا راجع من المسجد وهم مازالوا واقفين، أقول في نفسي "ألم يسمعوا الأذان؟ ألم يسمعوا الإقامة؟". أتركهم لشأنهم وأنا أدعو لهم بالهداية. أذكر مرة واحدة قلت لهم: "هيا يا شباب إلى الصلاة"، فرد هو بأدب جم: "اسبقنا حضرتك، سنلحق بك"، ولما لم يلحقوا بي لا في هذه المرة ولا في غيرها توقفت عن دعوتهم لكني لم أنقطع عن الدعاء لهم.
عندما سمعته يقول وهو مسرع "موعد مهم"، قلت في نفسي ربما كان على موعد مع صديق أو قريب .. وتساءلت في نفسي "وهل أهم من موعد مع الله؟"، ثم قلت قد يكون الموعد لمصلحة أو رزق يسعى إليه .. وتساءلت "هل نهتم بالرزق ولا نهتم بالرزاق؟"، وإذا بي أتذكر الآية الكريمة: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾، فالله سبحانه وتعالى ينهانا عن التجارة والبيع وقت ذكر الله ووقت الصلاة رغم ما في البيع والتجارة من مصالح للناس، فما بالنا لا نلبي نداء الصلاة وما يلهينا عنها إلا أعمال لا نفع فيها كمشاهدة مباراة أو فيلم في التلفزيون أو دردشة مع أصدقاء على الهاتف أو من خلال مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي .. ألا نخاف ﴿يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾؟.
ويمر على ذهني خاطر أن "الموعد المهم" قد يكون مع مسئول أو مدير أو وزير فتكون السرعة للحاق بالموعد خشية غضب أحدهم إذا تأخر، فأستحضر الآية الكريمة: ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾، وقوله تعالى: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وقوله عز وجل: ﴿لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ﴾.
اللهم اجعلنا من المؤمنين، ولا تجعلنا ممن لا يفقهون.
أحبتي في الله .. أنا لا أحكم على أحد فيكفيني ما أنا عليه من تقصير، إنما أردت فقط أن أنبه نفسي والغافلين إلى معنى لم يفارقني وأنا أكتب هذه الخاطرة ألا وهو "أنخشى الناس أكثر من خشية الله؟"، "ألا نستحي من أنفسنا؟"، أيهتم أحدنا بأن يربي أبناءه على تجنب "العيب" ولا يهتم بأن يعلمهم اجتناب "الحرام"؟ .. أما آن الأوان لأن نسارع إلى تلبية النداء للصلاة على وقتها مع الجماعة على الأقل كما نسارع إلى اللحاق ب"موعد مهم"؟!
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.
https://goo.gl/G83Mga